ابزار وبمستر

الشعر وقضاياه...العروض والتجديد
الشعر وقضاياه...العروض والتجديد (الحلقة الأولى)
اللغة :

اللغة هي أهم صلات الترابط واستمرارية التواصل ,ولا تعنياللغة بهذا المفهوم أنّها رباط مصلحي للتعبير عن حاجاتنا ومصالحنا فقط , بل هيكياننا ووجودنا ..حاضرنا العتيد وماضينا المجيد,وإن لكلّ مفردة إيحاءات تمتد الى عصور ٍ مختلفة , وتشغل حيزاً في عقولنا تعجز عشرات الصفحات عن توضيح مدلولها وتفسير رمزها ...فكلمة (فرس ) لا تعني هذا الحيوان الماثل أمام أعيننا بأذنيه وعينيه وذيله وأقدامه الأربعة ...كلا ّّوألف كلاّ فهو يشخص لنا عنفوان الفرسان , وسنابك الخيول , وقرقعة السلاح ...إنتصارات الأمم وحروبها , فتوحاتها وإنتكاساتها ..وتترآى لنا من خلاله حارات دمشق وحواريها , وأزقة بغداد وسقّائيها ..مواكب الخلفاء , وقوافل الحجيج , فروسية عنترة وإصرار طارق وفتح عمورية , والسيف أصدق أنباء ً من الكتب ...!!

فحبّنا للغتنا الجميلة , وعشقنا للذاذة شعرنا الرائع ليس بدافع العبث وقتل الفراغ - كما هو الحال للآخرين وحبّهم للغاتهم - بل تمنحنا اللغة عمر الأمة كلّه على امتداد التاريخ , وتاريخ الأمم ,بكينونة ومض عمرنا الشخصي الضئيل العابر كلمح البصر , وبعبارة أدق : إنَّ اللغة أداة تكثيف الزمان والمكان وما يضمان ,فحقّ لها آن نشمخ بها .

وإنَّ الشعرّ منبعهُ عمودي : الشعر والشاعر والحداثة :

ومن اللغةالشعر - بشكله ومضمونه , لأنّ لا مضمون بدون تشكيل ..ولا تشكيل بدون لغة - وشرعنا بكتابة الشعر العمودي لانّه هو الأساس الذي يجب أنْ يُبنى عليه الشعر العربي , والاّ سيكون الشعرهش البناء , عديم الذوقوالطعم , لا يمتّ ُبصلةٍ الى الأصالة والنفس القومي الموروث عن تراث الأمّة ووجدانها , ويفتقد الشاعر لأهم المقومات الأساسية للموهبة الشعرية الصادقة , ويبقى إنتاجه مجرد إرهاصات نثرية عقيمة لا تقوم لها قائمة ,سيبتلعها الزمن مع عصرها . ولا أعني بطبيعة الحال الشعر الحر الموزون ( شعر التفعيلة ) الذي جُدّد على أيدي الروّاد , فالشعر ليس بمفرداته ومضمونه ومعناه وصوره فقط ,بل بموسيقاه وانسيابه وأشجانه وألحانه , تقرأه بنغماته الشجيه الصادرة من أعماق قلوبٍ متأججة شاعرة لتطربإليه , وتتغنى به , فهو ليس مجموعة لحبات ٍمن العنب متكتلة متراكمة بترتيبٍ معين , وتنظيم دقيق لتمنحك صوراً جميلة , وتشكيلاتٍ بديعة لمعان ٍعميقة على أحسن الأحوال ..وإنما هو تحول نوعي تام من حالٍ الى حال , ليصبح في صيرورة جديدة ..كأس مُدامةٍ وكرعة راح ٍ " وإنَ في الخمر معنى ليس في العنب ِ" . يقول أبو العباس الناشىء الأكبر عن شعره :

يتحيرُ الشعراءُ إنْ سمعوا بهِ في حُسن ِ صنعتهِ وفي تأليفــهِ شجرٌ بدا للعين ِحُســـنُ نباتهِ ونأى عن الأيدي جنى مقطوفهِ

وللشعر ركنان أساسيان لابدَّ منهما في كلّ شعر ٍ, وهماالنظم الجيد ونعني به الشكل والوزن أولاً (ويخضع كما هو معلوم لعلوم النحو والصرف والبلاغة والعروض ) , ثم المحتوى الجميل أو المضمون الذي ينفذ الى أعماق وجدانك , وتنتشي به نفسك دون أن تعرف سره , وتفقه كنهه , فهو الشعاع الغامض المنبعث من النفس الشاعرة .

الشاعر:

وتسأل عن الناس ,فالناس أجناس , فمنهم - كما تصنف نازك الملائكة بما معناه , وكما هو معروف - مَنْ يتذوق الشعر ولا يستطيع أنْ يدرك الموزون من المختل , وينطبق هذا على أكثر الناس , ومن الأقلية مَنْ تجده يستطيع أنينظم الشعر بشكل ٍمتقن ٍ , ولكن لا تحسُّ بشعره نبض الحياة ونشوة الإبداع , وهذا هوالناظم , أمّا الشاعر فهو الذي يجيد النظم إجادة تامة , وتتأجج جذوته ليحترق , ويمنحك سرّ الإبداع , ولذاذة الشعر , تتحسّس بجماله , ولا تدرك أسراره - كما أسلفنا - والشاعر الحساس يرتكز لحظة إبداعه الإلهامية على مظاهر التأثيرات الوراثية التي تسمى بعلم النفس ( الهو ) , وما يختزنه في وعيه واللاوعي من معلومات وتجارب وعقد , ولك أن تقول ما في عقليه الباطن والظاهر (الأنا العليا ), ومن البديهي أن ثقافةالمبدع بكل أبعادها الإيحائية واللغوية والمعرفية والسلوكية والفلسفية والتجريبية - والعلمية الى حد ما - تؤثر على القصيدة أو النص الأدبي.

ومِنْ الشعراء المتميزين مَنْ يتمرد على التراث الشعري القديم , وهؤلاء من عباقرته الذين يمتلكون حقّ التجديد والتحديث , ومن الناس من يرفض القديم بحجة المعاصرة والتقليد , وهؤلاء يلجون عالم الشعر , وهم ليسوا بأهل ٍله , لأن ّ ما لا يكون لا يمكن أن يكون ! فالقدرة على الصياغة النغمية تكمن مع صيرورتها - وبدرجات مختلفة - الإنفعال الشديد , والإحساسالمرهف , والخيال الخصب , والإلهام الفطري , وهذه بذور الإبداع متكاملة مندمجة بماهية واحدة , وبدونها لا تنبت النبتة الصالحة لتعطي ثمارها و أُكلها .

ولفذلكة الأقوال نقول : نعم للتشكيل اللغوي المحكم , والتصوير الفني البديع , والتنظيم الواعي الدقيق دور كبير في بناء القصيدة , ولكنهدور مكمل يحتاج الى قدرات عقلية كبيرة , وثقافة موسوعية عالية ورفيعة ( على قدرأهل العزم تأتي العزائم ُ ) , ولكن - مرّة أخرى - الأعتماد على العقل وحده دون الغريزة الفنية و القدرة الموروثة إصالة أو طفرة (1), لتتفاعل هذه كلـّها حيوياً لحظة الإبداع وصناعة القصيدة , وبكلمة أدق ولادتها ( وخلها حرّة تأتي بما تلدُ ) , كما يقول الجواهري . لهذا يبدو لي ان (نور ثروب فراي)لا يميل الى قول العرب قديما ( جرير يغرف من بحر , والفرزدق ينحت بالصخر), ويذهب الى ما ذهب اليه الجواهري , فكلّّ عباقرة الشعر يغرفون من بحر وتولد القصائد عندهم ولادة ,ثم يجرون بعض التعديلات اللازمة عليها , فمن المفيد أن أنقل إليك - أيّها القارىء الكريم - هذه الفقرة من كتابه ( الماهية والخرافة ) ( 2 ) " القصائد كالشعراء , تولد ولا تصنع , ومهمة الشاعر هي أن يجعلها تولد وهي أقرب ما يكون إلى السلامة , وإّذا كانت القصيدة حية فأنها تكون تواقة مثله الى التخلص منه وتصرخ ملء صوتها بغية التحرر من ذكرياته الخاصة , تداعياته ,رغبته في التعبير عن الذات وكلك تتخلص من حبال سرته وأنابيب التغذية المتعلقة بذاته جميعا .

يتولى الناقد العمل حيث يتوقف الشاعر , ولا يستطيع النقدالعمل دون نوع من علم النقس الأدبي الذي يربط الشاعر بالقصيدة . وقد يكون جزءا منذلك العلم دراسة نفسية الشاعر مع أن هذه الدراسة مفيدة بشكل رئيسي في تحليل الاخفاقات في تعبيره ..." وانا مع الناقد نور ثروب في هذا التحليل , وأشرت الى ذلك في هذه المقالة الموجزة من قبل , فالعقل وحده دون الغريزة الفنية لا يمكن أنيوّلد شاعرا كبيرا , ولا عبقرياً عظيماً في مجال الشعر, بل والفنون , والحديثشجون , ولله في خلقه شؤون !

التمرد والتجديد قديماً :

وذكرت التمرد...وذكرت الرفض , وانا بطبيعة الحال مع تمردعباقرة الشعر , لأنّ التمرد ولود وهو ثورة في عالم الشعر , ولستُ مع الرفض لأنّ الرفض عقيم عاجز لا ينفذ الى طريق ٍ مفتوح .

وأول من تمرد على بحور الخليل - حسب علمي -هو أبو العتاهية , لقد سُئل " هل تعرف العروض ؟"

, فأجاب : "انا أكبر من العروض " (3 ) , وجاء بوزن ٍشعري لميكن معروفاً من قبل , وذلك عندما قال يهجو أحد القضاة :

همّ ُ القاضي بيتٌي طرب ْ قال القاضي لما عوتبْ ما في الدنيا الاّمذنــــــبْ هذا عذر القاضي وأقلبْ

وسمّي هذا الوزن من بعد ( دق الناقوس ) (4) , و الحقيقة أن الفراهيدي نفسه فاته هذا البحر , وأستدركه من بعده تلميذه الأخفش , وسمّاه ( المتدارك) (فعلن فعلن فعلن فعلن ), و (فعلن ) هو زحاف طرأ على ( فاعلن ) كما هومعرؤف .

وإنّ عبد الله بن هارون السّميدع , وهو تلميذ الفراهيدي أيضا "كان يقول أوزاناً من العروض غريبه في شعره , ثم أخذ ذلك عنه , ونحا نحوه فيهرزين العروضي , فأتى فيه ببدائع جمّة " , كما يقول الأصفهاني صاحب الأغاني , وهيأوزان مهملة لم تشع على ألسنة العباسيين , فأوجدها المولدون عقبى امتزاج الحضارات ثم انقرضت , كعكس تفعيلات (الطويل) مثلاً الذي يسمى بـ ( المستطيل ), فتفعيلات الطويل (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن ) مرتين , كقول امرىء القيس :

قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزل ِ بسقطِ اللوى بين الدخول فحومل ِ

أمّا المستطيل فتفعيلاته ( مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن ) مرتين , كقول القائل :

لقدْ هاجَ اشتياقي غرير ُ الطرف أحورْ أُدِيرَالصدغُمنه على مسكٍ وعنبرْ

وهكذا تفعيلات ( الممتدّ ) عكس (المديد) , وأجزاء ( المتئد) مقلوب ( المجتث) ,و(المتوافر ) محرّف ( الرمل ) , وللمضارع (مفاعيلن فاعلاتن) مرتين مثل :

ألا منْ يبيعُ نوماً لمنْ قط ُّ لاينامُ (5)

أقول للمضارع مقلوبان وهما ( المنسرد) وتفعيلاته (مفاعيلن مفاعيلن فاعلاتن ) مرتين , و (المُطرد ) وتفعيلاته (فاعلاتن مفاعيلن مفاعيلن ) مرتين ,وإليك من الأخير :

ما على مستهام ٍ ريع بالصدِّ فاشتكى ثمّ أبكاني من الوجدِ

والله المستعان , لما في الوجدان , والى لقاءٍ جديد لتكملة مشوار التجديد . ــــــــــــــــــــــــ (1)هنالك دراسات وبحوث تشير الى أن بعض خصائص العبقرية ومظاهرها تنتقل وراثيا من الأباء الى الابناء خصوصا على مستوى الفنون ومنها الشعر , وخصوصا اذا صقلت فيما بعد, ولكن ربما تحدث طفرة وراثية في الطور الاستوائي للانقسامالاختزالي في المراحل الجنينية للفرد ,تؤدي في أحيان نادرة الى صالحه ,وتؤدي الى عبقريته . (2)( الماهية و الخرافة دراسات في الميثولوجيا الشعرية ) ترجمة هيفاء هاشم / دمشق1992ص 19 (3) لقد نظم أبو العتاهية على أوزان لا توافق ما استنبطه الخليل , ويقال إنّه جلس يوماً عند قصّار, فسمع صوت المدق , فحكى وزنه في شعره قائلا : للمنون ِ دائرا تٌ يُدرنَ صرفها فتراها تنتقينا واحداً فواحـــدا فلمّا أنتقد في هذا قال : انا أكبر من العروض ....وهذه رواية أخرى . (4) يسمي بعضهم (المتدارك ) الخبب أو ( ركض الخيل ) , لأنّه يحاكي وقع حافر الفرس , أويحاكي (دق الناقوس) , يذكر السيد أحمد الهاشمي في (ميزان الذهب )/ طبعة دار الكتب العلمية / بيروت 1990م ص97 مايلي:" وليس أدل ّعلىتعليل ذلك إلا ّقول سيدنا علي في تأويل "دقّة الناقوس" حين مرّبراهب وهو يضربه فقال لجابر بن عبد الله أتدري ما يقول هذا الناقوس ؟فقال الله ورسوله أعلم قال : هويقول : حقاً حقاً حقّاً حقّاً صدقاً صدقاً صدقاً صدقاً ....." ينقل المؤلف أربعة أبيات , كلها من البحر المتدارك (دق الناقوس ) , ولم يذكر الهاشمي أي سند أو مصدر للرواية ,فأن ْ صدقت الرواية فهذا يعني ان البحر كان معروفاً منذ عهد الامام علي(ع)(ت 40 هجرية ) , على حينالفراهيدي (ت 174هجرية) , بينما تلميذه الأخفش الأوسط الذي استدركه عليه (ت 211هجرية ), وانا لم أتحقق من صحة الرواية , ولكن على اغلب الظن الفراهيدي يعرفه وأهمله . (5)كما لا يخفى جاءت التفعيلة الأولى لكل من الصدروالعجز ( مفاعيل ) , وهي من جوازات (مفاعيلن ) للبحر المضارع.

الشعرو قضاياه ... العروض و التجديد الحلقةالثانية

الإيقاع ظاهرة طبيعية تعني التسلسلالمنتظم لمجموعة من العناصر , فنبضات القلب , ودقات الساعة , وشعر الشعراء ,وضربات الصفارين ,ورقص الراقصين , والرسوم المتناظرة للرسامين والمهندسين , حتى الروائحالشمية , والمناظر العينية , والإحساسات اللمسية ,والمذيبات الذوقية , كلـّّهاإيقاعات , إنْ جاءت متسلسلة زمنياً بإنتظام ,أما اذا تدخل العقل والفكر والإبداعبين ثناياها ,فعندها تكون الإيقاعات غير تامة الإنتظام,ولهذا يرى عالم الجمال (هوجارت ) : إن القاعدة الثابتة في الفن هي تحاشي الإنتظام , ويقصد التام .(1)

نقول في هذه الحالات ترتقي الإيقاعات الى درجة أرفع , وهيئة أعقد , فتكونمتباينة بتناسق بديع , لتشكل الفنون الجميلة المختلفة , ومن هذه الفنون الشعر, وعلىالشعر بنى العروضيون عروضهم , وبسط (ابن فارس ) هذه العلاقة بقوله إنّ " أهل العروض يجمعون على أنه لا فرق بين صناعة العروض وصناعة الإيقاع , الا أنّ صناعة الإيقاع تقسم الزمان بالنغم , وصناعة العروض تقسم الزمان بالحروف المسموعة " (2) , ونحاالسيوطي نحوه في هذا المجال .

فإذن الإيقاع الشعري الموسيقي العربي ( الكمي ) هو الأصل والفصل قبل العروض وميزانه , والترقيم وأفنانه , قد تماشى معه الغناءوالحدو متناغمين , ومن ثم الرقص مرادفا , قال حسان بن ثابت ذات يوم :

تغنَّب الشعر إمّا كنت قائله إنّ الغناءَ لهذا الشعر مضمارُ

فالشعر الشعر هوالإبداع , والشاعر الشاعر هو المبدع , والموهبة تكاد تكون مكتملة , وعلى ركن هذاوأساس ذاك , وضع العرضيون عروضهم , وقاسوا بميزانهما أوزانهم , وغرفوا من بحرهما بحورهم, والعروض علم يعتمد على عقول علمائه وتقنيناتها , فعندما يتمرد عباقرة الشعرعلى أوزانه , يجب أن يسايرهم جهابذة العروض على جديدهم الجميل الرائع , لأن دائرةالخيال الفني , وموهبته الإيقاعية أوسع من دائرة الأدراك الحسي العقلي وتفعيلاته العروضية العربية , ومقاطعه الأفرنجية , وهذا ليس تنازلاً لأصحاب النص النثري , فانا قد رضيت بالتمرد العبقري لأنه ولود , ونوهت بأبي العتاهية رائدهم الأول , ورفضت الرفض لأنه عقيم , والحقيقة أن الفراهيدي نفسه , وبكلمة أدق عصره لم يستوعبحالات التمرد أو الشذوذ في شعر من سبقه ومن لحقه ,ويشير الدكتور جوادعلي في (مفصله ) الى خروج بعض الشعراء الجاهليين عن قواعد العروض والنحو , ويستشهد برواياتتاريخية عن إمرىء القيس , وقصيدة " عبيد الله بن الأبرص" : أقفرمن أهله ملح وبف القطيبات فالذنوبُ

فهي من مخلع البسيط, قلما يخلو بيت منها من حذف في بعضتفاعيله أو زيادة . وفي قصيدة المرقش الأكبر :

هل بالديار أن تصيب لو كانرسمٌ ناطقا كلـّم

فهي من السريع , وقد خرجت شطور أبياتها على هذا الوزن , كالشطر الثاني من هذا البيت :

ما ذنبنا في أن غزا ملكٌ من آل جفنة حازم ٌمرغم

فأنه من الكامل , ورووا اضطرابا وقع في شعر عدي بن زيد العبادي علىالنحو المذكور , خرج فيه من السريع الى وزن المديد ,وفي شعر غيره كذلك مثل نونية " سلمى بن ربيعة " : إنّ شواء و نشوة وخبب البازل الأمون , فهي خارجة عن عروض الخليل (3) ,ويواصل الدكتور استشهاده , ويتوصل الى قوله : " وتستحق هذه الأمور وأمثالها أنتكون موضع دراسة خاصة , لما لها من أهمية في تكوين رأي علمي دقيق عن تطور العروض في الجاهلية , ..." (4)

ربما يعود تغافل الفراهيدي لصرامة عصره ,وميول مسامع أهله للبحور السائدة والشائعة والسالفة , لكل زمان دولة وشوؤن , وذوق وفنون , ولكلجيل من الأجيال نغماته المحببة ,وموسيقاه المطربة ,و ألحانه الشجية , وبحوره الطرية ,ففي العصر الجاهلي ساد (الطويل ) لجلاله وفخامته, ومن روائعه معلقات طرفة ولبيد وامرىء القيس , وظلت سيطرته حتى القرن الثالث الهجري . ثم تراجع عن مكانته , وفيعصرنا صعب مراسه ,لازدواج تفعيلاته , فابتعد عنه أنصار الشعر الحر ( التفعيلة ) , ومثله في هذه الخصائص المهيبة (البسيط ) , ولكن أقل شيوعا منه في جاهليتهما , وعدهما حازم القرطاجني في (منهاجه ) أعلى درجة البحور في الافتتان (5) , وترافقا في مسيرتهما حتى الإحيائيين , وفاقت صياغة الأخير على الأول لدى الرومانسيين في الربع الأول من القرن العشرين , ومن بعدهما يأتي عند العرب القدماء في ذيوعه ( الوافر ),وهبطت منزلته في القرن الثاني الهجري , وعاد الى صدارته عند شعراء الرومانسية ,ولم يتأثر به شعراء التفعيلة كسابقيه المهابين , ولكن الرجز وإن كان من أقدم البحور العربية المعروفة ,لارتباطه بحركة أقدام الأبل وحدو البدوي على إيقاعها , لميذع بين الجاهليين , وازداد رواجه في العصر الأموي ,واستخدمت صياغته في الشعرالتعليمي ( الأرجوزة ) , وأطربت تفعيلته المتكررة (مستفعلن )السياب العبقري , فتوجبها أروع قصائده ( إنشودة المطر) :

عيناكِ غابتا نخيل ٍ ساعة َ السحرْ أو شرفتان راح ينأى عنهما القمرْ
عيناكِ حينَ تبسمان تورق ُ الكروم
وترقص الأضواءُ..كالأقمار في نهرْ

أكرر البيتين , وانا أعرف معرفتك لهما ,والأدرى بأنني طرقت مسامعك من قبل بهما , لروعة الجمال , وحسن الأفتتان , ونتقرب الان الى ( المتقارب )الذي شغل نسبة عالية في العصر الجاهلي , ثم تراجع طوال العهود الاسلامية حتى تلاقفنته الفترة الرومانسية العربية الحديثة ,ويتقدم ليصبح أكثر البحور دورانا في محيط رواد الشعر الحر , و( المتدارك )الذي بالكاد ولد في أحضان الأخفش وأهمله الشعراء لسرعة حركاته الإيقاعية الراقصة ,تناؤب عليه الزجال ونفي زجلهم , ونظم على بحره الحصري القيرواني قصيدته الشهيرة ( يا ليلُ الصبُّّّّّ متى غدهُ أقيام ُ الساعة ِموعدهُ ) ,ونظم أحمد شوقي على هذاالمنوال معارضا (مضناك جفاه مرقده ), زادالاهتمام به في العصر الحديث , ثم ازداد جدا في منظومات شعرالتفعيلة , و( الرمل) كان شائعا في الجاهلية ,وأصبح شعبيا في العصر العباسي الأول , يلجأ إليه أبو العتاهية في زهدياته , وأبو نؤاس في خمرياته , وتلاقفه الأندلسيون ليشدوا من خلاله موشحاتهم, وأخيرا نظم الإيحائيون بعض عقودهم منه ,وزاودهم عليه الرومانسيون , وركن إليه رواد القصيدة التفعيلية المعاصرون , واستأنسوا بلطف نغماته , وإن سألت عن ( الهزج ) ,ندر لدى الجاهليين , زاد في عصور الغناء العباسي , وعادليمثل المسرحيات الحديثة بلسان شخوصها , وعن (الخفيف ) , فقد صار البحر الأول عندإسلامي الحجاز , وزاد عند شعراء الرومانسية ,واذا طلبت المزيد , فعليك بالدكتور سيدالبحراوي و (عروضه ) (6) , وهذه النظرة العاجلة تفي بالغرض المراد بأن لكل عصر ذوقهالشعري المتميز , بل ولكل بيئة اجتماعية أوتشكيلة مناطقية أو جماعة ثقافية خصوصيتهاالشعرية وميولها الإيقاعية ,فالإيقاع الشعري ليس له قيمة ثابتة ,و نغمة محددة , ورتابة واحدة في كل الأمصار والعصور , فالأيام تسير ,والناس شتى , والليالي يلدن كلّ عجيب ,وللأذن ذوق رقيب , وللموروث جذر عريب !

( العروض ) , وما استجد عن ( الإيقاع) الشعري :

الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي البصري (ولد في عمان 100هجرية /718م - توفي في البصرة 174هجرية \ 790م) (7) , واضع علم- ولك أن تقولصناعة لحاجته للتمرن - (العروض ) على أغلب الظن , أومجدده على رواية ابن فارس (8) التي بخست الخليل حقه ,لان المعلومات وان كانت متوفره قبله , لم تصل الى درجة العلم المنهجي , والدراسة الواعية ,والقواعد الراكزة , والأستقراءات الرائعة , والصناعةالماهرة , فالعصر المنفتح على مختلف الثقافات , وأجناس الناس , تفجر عن مدارسالقياس في الفقه والنحو والعروض ..لغربلة الشاذ والملحون , وصد هجمات الدخيل والهجين ,ومهما يكن سبب تسمية الأخير بالعروض ,إمّا كي يعرض الشعر عليه ليعرف صحيح وزنه من مكسوره , أو نسبة لمكان بين الطائف ومكة وضع فيه خليلنا علمه المعلوم , وقياسه المشهور , ولكن كيف ؟!

يقال إنّ الرجل مرّ ذات يوم بسوق الصفارين , فطرقت مسامعه مطارقهم على الطست , (تن , تتن , تتتن...) فرجع الى بيته, وراجع تدويناته وتقنيناته ,وقايس ومارس , ووقع اصابعه , وحركها ولملمها ,ولاريب انه كانذا ذهن رياضي تحليلي تركيبي , وأذن موسيقيه ,وحس مرهف , وحافظة قوية , وربما قال معنفسه :الشعر لفظ موزون مقفى ذومعنى , واللفظ صوت مسموع في الشعر , لا حرف مرسوم , والحروف بحركات وسكون , تتوالى بانتظام الى حد ما , لتشكل الأنغام ,وشبه بيت الشعِرببيت الشعَر ( الخيمة ) , بأسبابها وأوتادها ,وفواصلها , ومصراعيها ..., وكما تعلمأن العرب لا تبدأ بساكن , فوضع أركان علم العروض أوزانه وتفاعيله ,وسار على نهجه القدماء ,رغم الإضافات والتعديلات الطفيفة , كالأخفش والجوهري والزمخشري والشيباني والمعري وابن جني وحازم القرطاجني وغيرهم , فتتركب أوزانه من شيئين , أحدهما مركبمن حرفين ( السبب ) : إما متحرك وساكن , وهو ( السبب الخفيف) مثل لنْ ( /ه ),وإمامتحركين , وهو( السبب الثقيل ) مثل لكَ ( //) , والثاني مركب من ثلاثة أحرف ( الوتد ) : إما متحركين يتوسطهما ساكن , وهو ( الوتد المفروق) مثل لات ( /ه/ ) , وإمامتحركين يعقبهما ساكن , وهو ( الوتد المجموع) مثل نعم ( //ه) (9) , فإذن أساس الإيقاع العربي - الذي يسمى مجازا الوزن - هما ( السبب والوتد ) , واذا أمعنت قليلا, سترى الوتد هو الأصل الذي أشتق منه السبب بشقيه , وما ثلاثة أسباب الا وتدين , وتتردد هذه بما لها من كم ٍّ إيقاعي بفترات زمنية منتظمة ذات مقدار , ويخضع كمُّها للزحافات والعلل التي ترضاها أذن السامع المرهف, وتطرق الأغريق من قبل الى مثل هذه الحالة الى ما اسموه (الرتيم )(10), وتبعهم الأوربيون المعاصرون حاليا مستخدمين المصطلح نفسه , وسبق للزمخشري أن نوّه بذلك عند تعريفه للشعر العربي - إذا أستثنيا اللفظ - فالأشياء الثلاثة الأخرى , ويعني الوزن والقافية والمعنى " الأمر فيها على التساوي بين الأمم قاطبة " (11) ,وسنواصل المسيرة الموجزة للحالات المتجددة , والله الموفق .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) د . علي يونس : نظرة جديدة في موسيقى الشعر العربي ص 39 - الهيئة المصرية للكتاب 1993 .
(2) ابن فارس : الصاحبي في فقه اللغة ,تحقيق د صطفى الشويمي , مؤسسة بدران - بيروت 1963- ص (274- 275) ,وراجع السيوطي : المزهر في علوم اللغة وأنواعها , تحقيق وضبط محمد أحمد جاد المولى , دار أحياء الكتب العربية - القاهرة- بلا - ج2 ص 470 -
(3) د جواد علي :المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام , الموسوعةالشاملة ( 1/5617 ).
(4 ) المصدر نفسه (1/5618)
(5)ابو الحسن حازمالقرطاجني : منهاج البلغاء ومسي,رة الأدباء ص 168.
(6) .د سيدالبحراوي : العروض وإيقاع الشعر العربي الهيئة المصرية العامة للكتاب 1993من ص 39 -53.
(7)الخليل بن أحمد الفراهيدي (الفرهودي )الأزدي أبو عبد الرحمن: سيدأهلالأدب قاطبة في علمه وزهده , كان من تلامذة عيسى بن عمرو وأبي عمرو ابن العلاء , وأخذعنه سيبويه والنضر بن شميل والكسائي الكوفي , وهو أول من استخرج علم العروضوضبطاللغة , وأملى كتاب (العين ),(8) يرى ( أحمد بن فارس )في كتابه ( الصاحبي في فقهاللغة ) مؤسسة بدران - بيروت - 1964 ص 38 " إن أبا الأسود ليس أول من وضع العربية ,ولا الخليل أول من تكلم في العروض , وإنما هذان العلمان كانا معروفين قديما ,وتجددا على أيديهما . (9) الزمخشري : القسطاس في علم العروض ص 4.
(11) المصدر نفسه ص 2.

الشعر وقضاياه... العروض و التجديد الحلقة الثالثة

تكلمنا في الحلقة السابقة , وقلنا إن السبب والوتد بشقيهما تعتبر وحدات الوزن العروضي الخليلي الكمي .والكم هو صوت لغوي أقله حرفان آخره ساكن عند الأخفش (1) , والأخفش نفسه استطاع أن يحدد مقياس مشكـّلات الوحدة الكمية للوزن الإيقاعي بقوله "فأقل الأصوات في تأليفها الحركة , وأطول منها الحرف الساكن , لأن الحركة لا تكون الاّ في حرف , ولا تكون حرفاً , والمتحرك أطول من الساكن لأنه حرف وحركة " (2) , ولكنه اعتبر حروف المد كالحروف الساكنة في قيمتها , ولم يتطرق الى النبرة والتردد ,وهذه مصطلاحات معاصرة كما سنأتي عليها فيما بعد وتركنا بعضها للهامش (3), على كل حال , إذا اجتمعت بعض هذه الوحدات الكمية تشكل الفواصل , فاقتران السببين , الثقيل أولا ثم يليه الخفيف يسمى الفاصلة الصغرى مثل (متفا ///ه ), اما اقتران السبب الثقيل بداية مع الوتد المجموع ,فيشكلان الفاصلة الكبرى (فعلتن////ه) (4)," ولا يتوالى في الشعر أكثر من أربعة أحرف متحركات .ولا يجتمع فيه ساكنان الا في قواف مخصوصة " (5) , فإذن أصبح لدينا الآن : سبب خفيف (لمْ)+ سبب ثقيل (أرَ)+ وتد مجموع (على)+ وتد مفروق (ظهْر ِ) + فاصلة صغرى (جَبَلِنْ) + فاصلة كبرى (سِمكتنْ) , فجمعت هذه الوحدات بالجملة الآتية - الكتابة عروضية - : لَمْ أرَ عَلَى ظَهْر ِجِبَلِنْ سَمَكَتـَنْ (6) ,و الحقيقة أهمل الفراهيدي وحدة صوتية لإلتقاء ساكنيين فيها (/ه ه), ولكن ثبتها حازم القرطاجني ووسمها بـ ( السبب المتوالي ) (7) , المهم بما أنه من الممكن تشكيل آلاف الوحدات الوزنية المحتمله كأسباب وأوتاد وفواصل من الحروف العربية ,لجأ عبقريـنا الفراهيدي الى حروف عشرة جمعت في جملة (لمعت سيوفنا ) , لتركيب وحدات وزنية قياسية نظامية, مشتقة من الفعل ( فعل ), سماها ( التفاعيل العشرة ) , إثنان خماسيان وهما : فعولنْ (//ه/ه) - فاعلن (/ه//ه) , وست سباعية وهي : مفاعيلنْ ( //ه/ه/ه) - مفاعلتنْ (//ه///ه) - فاعلاتنْ (/ه//ه/ه) - مسْتفْعلنْ (/ه/ه//ه) - متفاعلنْ (///ه//ه) - مفْعولاتُ (/ه/ه//ه) (8), إضافة للتفعيلتين المشتبهتين : فاع لاتنْ (/ه/ /ه/ه) - مسْتفْع لنْ (/ه /ه/ /ه) , وكما ترى مدققاً أن الاشتباه يقع في عدم إعتراف المحدثين بالوتد المفروق كالزمخشري والخطيب التبريزي والقرطاجني , وابن رشيق في (عمدته) عدّ استحسان العشرة أجزاء حكما, والثمانية لفظاَ , وحتى باللفظ نستطيع أن نكملها الى العشرة , إذا قبلنا بمفهوم ( الوقفة اللطيفة ) آخر الوتد المفروق للتمييز, وهناك من يوسمها بـ( السكتة والنبرة)(9) .

ومن هذه التفعيلات الوزنية القياسية , شكل الخليل خمس دوائر عروضية , وكل دائرة تتضمن عددا من الأبحر المتشابه في التفعيلات والموسيقى , ولكن تختلف عن أبحر الدوائر الأخرى في إيقاعاتها ونغماتها , وركز الخليل على خمسة عشر بحرأ , وترك الباب مفتوحاً, فأضاف تلميذه الأخفش الأوسط ( سعيد بن مسعدة ) متداركها كما أسلفنا , ولكن سار ابن جني ( أبو الفتح عثمان ت 392هـ) على نهج خليله الفراهيدي في أعداد تفعيلاته وأبحره (10) , أما الجوهري ( ت393هـ ) فجعل الأبحر بمتداركها أثني عشر بحرا (11) . وربما يطرأ على هذه الأبحر وتفعيلاتها تغيرات , فقد تتقلص التفعيلات المشكلة لبحر ما من ثمان ٍالى ست فيقال للبحر مجزوء , وإذا تقلصت الى النصف ( أربع تفعيلات ), فيصبح البحر مشطوراً ,وإذا أنهك البحر , ولم تبق منه الا تفعيلتان , فالبحر يغدو منهوكاَ, والمنهوك لا يحدث الا في البحر السداسي التفاعيل وهذه التغيرات بالنسبة للدائرة تسمى تغيرات خارجية , وأرتبطت هذه التغيرات في العصريين الأموي والعباسي بمتطلبات الحياة اللاهية من غناء ورقص, وما استجدّ من فنون أندلسية مغربية كالموشحات والزجل والمسمطات , وبقت حتى إطلالة القرن العشرين ولجوء رواد شعر التفعيلة , ومن سار في فلكهم من قبل ومن بعد , إليها لضرورة متطلبات النفس القصير , والزمن المثير .

أما التغيرات التي تلحق بالتفعيلات نفسها - التغيرات الداخلية بالنسبة للدائرة - فهي الزحافات والعلل ,والمتابع العادي لهذا العلم الجميل يعرف أن الزحافات تأتي على ثواني الأسباب , فلا تدخل على أوائله لأنها متحركة وجوباَ , ولا على الأوتاد التي تعتبر أركان أساسية لا يجوز الاخلال بكياناتها(12) , والسبب واهٍ من الممكن تطوعيه بسهولة , إما أن تسكن متحركه في الثقيل ,فتجعله خفيفا (// ==> /ه) , أوتحذف الحرف المتحرك أساسا (// ==> /) ,أو تحذف الحرف الساكن من السبب الخفيف (/ه ==> /) ,أما تحريك الساكن فلا يجوز , وإذا دخل زحاف واحد على أي من التفعيلات ,فالزحاف مفرد , ولكل تفعيلة زحافها المختص بها , و بأي سبب منها يقع , وإذا حدث , فيلحق إما بالحرف الثاني أو الرابع أو الخامس أوالسابع من التفعيلة حكماَ , و لكل اسمه الخاص , وهو على ثمانية أشكال , وقد يلحق زحافان بالتفعيلة عينها وفي الوقت نفسه , وهذا هو الزحاف المركب, وهو على أربعة أشكال ,والزحافات ترد في الحشو وآحياناً في العروض والضرب , وإذا حدثت في بيت ما من القصيدة , لا تلزم أبياتها الاخرى .

أما العلل فهي - قاعدياَ - تغيرات لا تصيب الأسباب أوالأوتاد الا بالعروض والضرب ( نادرا ما تصيب التفعيلة الأولى ) , وتؤدي الى الزيادة أو النقص , فهي تزيد حرفاَ ساكناَ أو سبباَ خفيفاَ , أو تحذف الساكن وتسكن ما قبله , أو تحذف السبب الخفيف ,أو الوتد المجموع (13), وإذا جاءت في بيت واحد , لزمت جميع أبيات القصيدة أن تأتي بمثلها , وشعر التفعيلة متحرر من هذا الشرط , وقد عدّ (الصاحب ) للشعر العربي أربعاً وثلاثين عروضاً , وثلاثة وستين ضرباً (14), وبيت الشعر العمودي له مصراعان , الشطر الأول يسمى (صدرا) , والشطر الثاني ( عجزا) , وآخر جزء من الصدر هي ( العروض ) , وآخر جزء من العجز هو ( الضرب), وما عداهما ( الحشو ), والبيت الوحيد ( يتيم ) , والبيتان (نتفة ),ومن الثلاثة أبيات حتى الستة (قطعة ) , وما فوق ذلك فهي (قصيدة ) , والبيت الكامل الأجزاء هو ( تام) , وإذا أصيب بزحاف أو علة سمي ( وافياَ) , والذي تعتري عروضه زيادة أو نقصان للإلحاق بضربه فهو ( مصرع ) , وكل بيت ساوت عروضه ضربه (مقفى ) ,وإذا خالفته في الروي ( مصمت ) و ( المدور) ما اشترك شطراه بكلمة واحدة ,وقد يلجأ الشاعر أحيانا الى ضرورات مقبولة جمعت في بيتين من الشعر , نسبا للزمخشري (15) :

ضرورةالشعرعشرٌعُدَّ جملتها وصلٌ وقطعٌ وتخفيفٌ وتشديدُ مدٌّ وقصرٌ وإسكانٌ وتحركةٌ ومنعُ صرفٍ بصرفٍ ثم تعديدُ

وما هذه الا تذكرة للعالمين , ومعلومات للدارسين, ربما سنحتاجها من بعد مع المحتاجين .

و على العموم , لما كان الفراهيدي بعبقريته الفذة , وكذلك من جاء بعده , قد بنوا عروضهم ووحداتهم الوزنية بأسبابها وأوتادها وفواصلها على أساس المتحرك والساكن , وتتبعوا كيفية تتابع هذه الوحدات بشكل منظم ومنسق من أجل تشكيل أنغام محددة , تمثلها بحور الشعر بجوازاتها ومجزوءاتها , ولك أنْ تعلم أنّ الأذن العربية لا تستسيغ أنْ يكون عدد الحروف الساكنة أكثر من ثلث حروف المجموع (16), فالنسبة المثالية بين الحروف المتحركة والساكنة (1:2), فالتوازن والتناسب والتناوب خصائص مطلوبة في الشعر , ولكن ما حصره القدماء من تفاعيل وتكوينات , تُعدُّ قليلة في مداها لما تقبله الأذن العربية طرباً , والذوق الفني نغماً , وليس لفسيولوجيا السمع , ولا للتوارث الجيني , ثمة دخل لقبول بعضها , ورفض الأخرى , ما دام لها النصيب نفسه من الإيقاعات الكمية ,هذا ما يقوله العقل ومنطقه ,ويقرّه العلم ومنهجه , وإنما يمكن القول , قد رسخ الموروث البيئي , والتدرب السمعي ,والتعود النغمي , والميل النفسي , هذه التكوينات الشعرية في الوعي واللاوعي, ربما منذ تكوين البويضة الملقحة !

المهم سعى القدماء للولوج الى المضمور والمغمور وغير المشهورفي عالم التكوينات والتفعيلات المشروعة .بغية التجديد , ولكل جديد لذة , فسارع القرطاجني الى إدخال وزنه (الدخيل ), بعد ظهور التفعيلة المستجدة ( مستفعلاتن /ه/ه//ه/ه), وظهر معها وزن جديد شطره ( مستفعلن فاعلن فاعلن ) (17) , ومن قبل وضع ابو العتاهية بحراَ , شطره (فاعلن متفعلن فاعلن متفعلن) , ثم طفحت الموشحات بصيغ وتكوينات جديدة , وما زالت الأبواب مفتوحة لإبداعات سديدة.

وحاول (الزمخشري) أن يبين قواعد التزواج بين تفاعيل الشطر الواحد , ثم نبه (زكي عبد الملك ) الى دور التكرار في بناء التكوينات الوزنية, فإمّا أن يكون التكرار خالصاً كما في (المتقارب والمتدارك ), أو مفصولا كما في (الخفيف ) , أو مذيلاً , ونعني به تفعيلتين متشابهتين وذيلهما تفعيلة مخالفة , كما في السريع ( مستفعلن مستفعلن مفعولات ) , والقرطاجني عنده أفضل التركيبات الوزنية , ما جاءت عقبى اقتران التفعيلات المتماثلة وهذه معروفة , أو المتضارعة أي المتشابهة جزئياً في الحركات والسكنات , مثل ( فعولن مفاعيلن //ه/ه - //ه/ه /ه ) في الطويل , أو ( مسـتفعلن فاعلن /ه /ه//ه - /ه//ه) في البسيط , ولكن لا يجوز من الناحية الجمالية تقديم وتأخير مواقع التفعيلتين في المثالين السالفين , وذلك بسبب انفصال الأجزاء المتشابهة كما يرى ( حازمنا )!, وهنالك أمثلة أخرى ,وعنده أيضاً أن التفعيلتين (مفاعلتن )و (متفاعلن)متضادتان , لا يمكن منهما أن تتركب أوزان مناسبة , مع العلم أن التضارع موجود - حسب شرحه - في كل مرفوض من قبله (18) , ونحن نرى أن الأذن ستقبل مطربة بالتدريج ,كل ما رفض بالتعريج , ما دام للإيقاع الكمي تخريج ! ونخرج نحن من هذه الحلقة بالتسليم , لنواصل مسيرة المقاطع والترقيم . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1)يقول الأخفش في (كتاب العروض )- ت سيد البحراوي -الهيئة المصرية للكتاب -1986-ص 143 "وإنما ذكرنا هذا لاجراء الشعر وتأليفه ,لأنه لا يكون جزء أقل من حرفين , الآخر منها ساكن.." (2)الأخفش : المصدر نفسه , وراجع: سيد البحراوي : العروض وإيقاع الشعر العربي - الهيئة المصرية للكتاب - 1993 - ص 18 . (3)يمكن اطلاق ( الإيقاع الكيفي ) على إيقاع نبرات شعر بعض اللغات الأجنبية - كالأنكليزية والفرنسية - التي تحتل النبرة فيها صائتاً موسيقياً مميزاً , وأتحفظ على النثر عموما . أما الموسيقا الداخلية (أو الموسيقا النثرية) , فتعني جناس المفردات وطباقها , ومحسناتهااللفظية ,وصورها التخيلية , وجرس كلماتها , ولا يمكن أن يطلق عليها بالإيقاع الداخلي ,لأنها غير منتظمة في الحركة والزمن. (4)"ومنهم من سُمي الأولى فاصلة ,والثانية فاضلة بالضاد المعجمة " الزمخشري : القسطاس ص 4. (5) الخطيب التبريزي : الكافي في علم العروض والقوافي ت الحساني حسن مكتبة الخانجي- القاهرة - ط 3- 1994 ص 18 . كل حرف مشدد في التقطيع يعد حرفين , الأول منهما ساكن والثاني متحرك. والحرف المنون يحتسب ايضا بحرفين, أولهما متحرك والثاني ساكن . (6)راجع الزمخشري :المصدر نفسه, السيد أحمد الهاشمي :ميزان الذهب - دار الكتب العلمية 1990 ص 6. وانظر التبريزي ص 18 الهامش . (7 )راجع ..حازم القرطاجني :منهاج البلغاء وسراج الأدباء .ت محمد الحبيب بن خوجة - دار الكتب الشرقية -تونس -1966 - ص236). (8)والجوهري والقرطاجني لم يعترفا بالتفعيلة الأخيرة (مفعولاتُ) , لأنهما يعتبرانها غير أصلية , أو بسبب وتدها المفروق في آخرها. (9) البحراوي :ص 27 .وراجع أحمد محمد عبد العزيز كشك :الزحافات والعلل في عروض الشعر العربي دراسة وتقويم .رسالة دكتوراه بدار العلوم - القاهرة- 1998- ص 255 (10) ابن جني : كتاب العروض . ت :أحمد فوزي الهيب ط2 الكويت 1989 ص 18- 19 . (11) ابن عبد ربه الأندلسي : العقد الفريد ت : أحمد أمين ..مطبعة لجنة التأليف - القاهرة 1365هـ ص 135-136 راجع أيضا حول مفعولاتُ (12) الزحافات قد تصيب الوتد المجموع ,إذاكان آخر جزء من التفعيلة كما في البسيط والرجز , أوخزله كالكامل , أو خبنه كالرمل والخبب والخفيف . راجع البحراوي ص 67. (13)الزحافات المفردة الخبن ) حذف الثاني الساكن , (الإضمار) تسكين الثاني المتحرك , (الوقص) حذف الثاني المتحرك , (الطي) حذف الرابع الساكن , (القبض) حذف الخامس الساكن , (العصب ) تسكين الخامس المتحرك ,(العقل) حذف الخامس المتحرك , ( الكف ) حذف السابع الساكن . الزحافات المركبة : ( الخبل ) مركب الطي والخبن , ( الخزل ) الإضمار والطي ,(الشكل ) الخبن والكف , (النقص) العصب والكف . علل الزيادة : ( الترفيل ) زيادة سبب خفيف على ما آخره وتد مجموع ,(التذييل ) زيادة حرف ساكن على ما آخره وتد مجموع , (التسبيغ ) زيادة حرف ساكن على ما آخره سبب خفيف . علل النقص ( الحذف ) هو إسقاط السبب الخفيف من آخر التفعيلة , ( القطف ) هو أسقاط السبب الخفيف وإسكان ما قبله , (القصر ) هو أسقاط ساكن السبب الخفيف , وإسكان متحركه ,(القطع ) حذف ساكن الوتد المجموع , وإسكان ما قبله , ( التشعيث ) حذف أول أو ثاني الوتد المجموع , (الحذذ ) حذف الوتد المجموع , ( الصلم ) حذف الوتد المفروق من آخر التفعيلة ,( الكسف ) حذف السابع المتحرك منامفعولاتُ, ( الوقف ) تسكين السابع المتحرك السالف ,( البتر ) اجتماع الحذف والقطع معاَ , ( الخرم ) حذف أول الوتدلوتد المفروق في : المجموع من أول تفعيلة في أول بيت . (14 )الصاحب بن عباد :الإقناع في العروض وتخريج القوافي ص 4 - تحقيق محمد حسين آل ياسين - منشورات المكتبة العلمية - بغداد - 1960م (15) راجع,محمد سعيد أمير وبلال جنيدي :المعجم الشامل في علوم اللغة العربية ومصطلحاتها ص 574 , في (كتاب العروض ) :لأبن جني ص22 , يذكر و (تحريكٌ) ,ولكن ارى الوزن لا يستقيم . (16) البحراوي : ص 24 , (17)القرطاجني :المصدر السابق, ص 238 -241 . (18) راجع القرطاجني : ص 247 وما بعدها , د علي يونس :ص 95 وما بعدها

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در سه شنبه ۷ تیر ۱۳۹۰و ساعت 9:44|