عبد الجواد موسوي
في نهايات عقد الثمانينات من القرن العشرين وضعت الحرب العراقية الإيرانية أوزارها، وقد كانت بلا مراء من أهم الأحداث في تاريخ إيران خلال القرن الأخير. بطبيعة الحال ترك هذا الحدث تأثيراً كبيراً على الشعر الإيراني المعاصر، إذ لم يكن يُسمع خلال فترة الحرب، سوى صوت واحد تقريباً غلب على الشعر الإيراني المعاصر وراح يتغنى ببطولات الجنود الذين خاضوا غمار الحرب في الجبهات دفاعاًعن أرضهم.
كما ترك انتهاء الحرب الذي تمّ بقبول مؤسس الجمهورية الإسلامية قرار منظمة الأمم المتحدة رقم 598 تأثيراً كبيراً على حركة الشعر في ايران. فقد كان الشعراء كغيرهم من أبناء الشعب الايراني مصدومين بسبب هذا الحدث طوال سنة، أو سنتين بعد الحرب، حتى أعوزتهم المواقف الصريحة والواضحة.
بعد عام من انتهاء الحرب، رحل مؤسس الجمهورية الإسلامية الذي كان قائداً روحياً ودينياً للشعب الايراني أكثر من كونه قائداً سياسياً لإيران. وكان هذا الحدث أيضاً من جملة الأحداث التي أثارت ردود فعل الشعراء، حيث كانت تقام المهرجانات والأمسيات الشعرية لسنوات بعد وفاته احتفاءً بذكراه ودوره.
وبعد رحيل الإمام الخميني، تولت زمام الأمور في إيران حكومة أطلق عليها عنوان "حكومة البناء". كانت هذه الحكومة تجعل التنمية الاقتصادية على رأس أولولياتها وشعاراتها، كانت تدعي أنها تروم جعل ايران عن طريق النمو الاقتصادي في عداد البلدان المتقدمة.
ثمانية أعوام من جهود حكومة البناء أفضت إلى بروز قيم جديدة، ومن مظاهر هذه الفترة يمكن الإشارة الى نمو الطبقة المتوسطة، وبناء السدود، والطرق السريعة والمطارات، وتدفق الآلات والمكائن الأجنبية، والدعاية للبضائع الاستهلاكية، وازدهار الصحافة و... ومن الطبيعي بالنسبة للشعراء الذين امتدحوا قيماً نظير الشهادة، والبطولة والتضحية والثورة، وهم يرون حلول قيم جديدة محل تلك القيم السابقة، أن يتخذوا مواقف دفاعية بدرجات متفاوتة.
فكان الصوت السائد على الشعر الايراني مطلع التسعينات هو ما يمكن تسميته بـ " شعرالاعتراض". الاعتراض على تناقص صبغة قيم الدفاع المقدس والابتعاد عن مبادئ الثورة، وشيوع النزعة الاستهلاكية التي تقف على الضد من الشعارات الأولى للثورة من قبيل بساطة العيش والحرب بين الفقر والغنى. كان عقد التسعينات قد تجاوز نصفه حين حلّت حكومة رفعت شعار التنمية السياسية. وقد خيمت ظلال السياسية على كافة الشؤون الفردية والاجتماعية في ايران إلى درجة قلّما سمع معها صوت الشعراء.
ومع أن الشعراء كانوا يواصلون طريقهم بشكل أو بآخر، إلاّ أن جبهةً محددةً لم تظهر في قبيلة الشعراء ولم يستطع أي من التيارات الشعرية القائمة فرض نفسه بوصفه الصوت الغالب على المجتمع الأدبي آنذاك. طبعاً ربما كانت هذه التعددية والتبعثر سمة ذاتية في مجتمع متعدد الأصوات.
شعر الأغاني [ أو ما يسمى فارسياً بـ " ترانه " ] والذي كان قد غار في أعماق النسيان لسنوات طوال، راح يستعيد دوره تدريجياً، وأبدى الكثير من الشعراء النشيطين ميولهم للإنتاج في إطار هذا الأسلوب. وفي هذا الصدد، ينبغي أن لا ننسى دور الموسيقى، إذ عادت موسيقى البوب لتسمع مرةً أخرى من وسائل الاعلام الرسمية الأمر الذي ساعد كثيراً على ازدهار شعر " ترانه " . مضافاً الى الوقائع السياسية، وما استتبعها من وقائع ثقافية، فقد حدثت وقائع أخرى تركت بصماتها على مسارات الشعر الايراني المعاصر. وكما أشرنا إلى أن الصحافة الإيرانية شهدت تطوراً كمياً ملحوظاً في مطلع عقد التسعينات، فقد صدرت الكثير من النشرات الثقافية - الأدبية، وكان القاسم المشترك بين جميع هذه النشرات صفحاتها المخصصة للشعر الايراني والعالمي. فقد احتوت الكثير من الصحف اليومية على صفحات شعرية، وربما خصصت عمود أو صفحة للإجابة عن رسائل الشعراء الشباب الناشئين، فجرى الاهتمام بالنقد الأدبي عن طريق هذه النشرات، وبادر النقاد الى تعريف العديد من الشعراء للأوساط الأدبية.
وتبلورت تدريجياً النزاعات والاصطفافات الأدبية التي ساهمت – بغض النظر عن القيمة الأدبية – في ترويج الشعر بين أوساط المجتمع. ترجمة الشعر هي الأخرى أضحت من الموضوعات الملفتة للنظر على صفحات الجرائد والمجلات، حيث تم عن طريق التعريف بالعديد من الشعراء المجيدين في العالم للمجتمع الأدبي الإيراني، وكان السهم الأوفى من هذه التراجم يعود للشعراء العرب مقارنة بشعراء المناطق الأخرى من العالم.
في تلك الفترة أبصرت النور مجلة " شعر"، وكانت نشرة تحاول الاسهام في تنمية الشعر ورفع مكانته في المجتمع الايراني بعيداً عن التقسيمات والاصطفافت الأدبية والسياسية الدارجة. المهرجانات والمؤتمرات الأدبية التي كانت تخصص سابقاً بموضوعات معينة ومحدودة، خرجت بحلّة جديدة لتمارس دورها في ازدهار المشهد الأدبي بقيود أقل واندفاع أكبر. وسرت هذه الحيوية والنشاط الى أوساط أصغر، فأسس رضا براهني الشخصية الأدبية المعروفة ورشة " شعرية " في منزله، وأقامت الكثير من المراكز الثقافية الحكومية ملتقيات وندوات نقدية للشعر ودراسته باتجاهات متنوعة. فأي حدث في مضمار الثقافة، كان يترك تداعياته على أرواح الشعراء وعوالمهم.
في تلك الأعوام أصدر بابك أحمدي الكاتب والمترجم والخبير بشؤون الفلسفة، كتابه الذي حمل عنوان " بنية النص وتأويله " الذي ترك تأثيراته في الأروقة التنويرية في ايران. ولم يبق الشعراء بمعزل عن تلك التأثيرات والتأثرات، فقد أدى التعرف على التنظيرات المتنوعة والمبتكرة للمفكرين الغربيين الى أن يخوض شعراء ايران غمار عوالم جديدة، وربما أمكن القول إن جيلاً من الشعراء الحداثيين مدنيين لأعمال وكتب من هذا القبيل.
حركة الشعراء ونشاطهم لم يفض الى شعر حداثي غير إيديولوجي وحسب، فإلى جانب كل التيارات المتنوعة لم يتخلف " الشعر الديني" عن مسيرة التطور والتحرك نحو مزيد من الرقي والازدهار. فقد زاوجت طائفة من الشعراء المسلمين بين معتقداتهم الدينية والأساليب الأدبية الجديدة من أجل توسيع دائرة جمهورهم. شعر التسعينات بكل ميوله واتجاهاته المختلفة، والمتناقضة في المضمون أحياناً، كان ذا قاسم مشترك واحد ألا وهو تحاشي التسرع والنزعة الشعاراتية، وهكذا غاب عن الشعر الايراني المعاصر تدريجياً ما كان في الثمانينات الطابع السائد عليه. ولا يفوتنا القول إنه الى جانب هذه التيارات الشعرية التي انطلقت وسارت في العاصمة طهران على الأغلب، فقد ظهرت تيارات رصينة في المدن الايرانية الأخرى، ويمكن هنا الاشارة الى شعراء مدن إيلام، وخوزستان وأصفهان و ... ، وقد تطورت ونمت هذه التيارات في بعض المحافظات إلى درجة تركت آثارها على الشعراء في العاصمة.
ونأمل أن نستطيع في فرصة أخرى، استعراض هذه التيارات وشخصياتها المؤثرة بشئ من التفصيل. خلاصة القول إن عقد التسعينات كان من أكثر فترات التاريخ الايراني تفاعلاً وحركةً، وبطبيعة الحال فإن الشعر كما يعتبر في الواقع مرآة التاريخ والزمن شهد منعطفات عديدة في ذلك العقد. إدراج كل تلك الأحداث في مقال واحد ليس بالعملية اليسيرة، لكننا سنبذل قصارى جهدنا للإشارة الى الأحداث المهمة والمؤثرة في الشعر الايراني خلال عقد التسعينات والتعريف بالشعراء المشهورين والمؤثرين في ذلك العقد، عسى أن نستطيع بذلك الاقتراب من الصورة الحقيقية لشعر التسعينات.
منوجهر آتشي (1931- 2005م)
كان منوجهر آتشي من الشعراء المجددين القلائل المصنفين على عقدي الستينات والسبعينات ومن الذين استطاع العبور بتجربته إلى عقد التسعينات. فقد كان مثابراً دؤوباً، لكن الشئ الغريب هو أنه بادر لمجازفة خطيرة في خواتيم عقد الستينات وبداية العقد التالي. آتشي الذي كان ينظم قصائده بلغة فخمة راح فجأة يدافع عن الشعر الحديث في ايران وانتهج أسلوب الشباب الذين لم تكن له معهم مواطن شبه تذكر.
هذا الانقلاب، أو ربما أمكن التعبير عنه بالاستحالة واجه ردود أفعال مختلفة في الأوساط الأدبية. البعض ممن كان يستمرئ منجزه الشعري السابق اعتبر هذا التحول ضرباً من الانفعال حيال الجيل الصاعد وتجاربه غير المسبوقة، والبعض الآخر أثنى على جرأته في تغيير أساليبه.
سجّل آتشي لنفسه في مشواره الشعري وجهاً معارضاً ساخطاً على الدوام. التهجم على مظاهر الحياة الجديدة والأنين من هموم الاغتراب من الخصال المزمنة في نتاجه الشعري، سواء حينما كان ينظم بتلك اللغة " الخراسانية " الفخمة، أو عندما اختار لغة الشعراء الحداثيين.
حبذا أن أكون غريب الوطن وأغني بحزن على هذه الأغصان المحترقة
أي كنارٍ مورّد الحنجرة سيجيب استغاثات هذا الطائر التائه
في غابة من الجذوع الكبريتية
الطائر الذي فقس بيضته في أحضان السوسن والنرجس
ما يدريه، هل أن هذه الاستغاثات الجريحة من حنجرة بلبل، أم من حلقوم بومٍ جريح؟
وما عساها أن تغني هذه الحنجرة المبضعة بألحان السموم الزعاف
بين بيادر النسرين والراسقي
حتى لا تفسد هدوء البستان ؟
حبذا لو أكون غريب الوطن واُنشد باكياً
على هذا اليباب فقط !
علي معلم دامغاني (1951 - )
يُعدُّ علي معلم دامغاني من أكثر الشعراء المعاصرين تقليدية، وقد تولى في أواسط عقد التسعينات رئاسة قسم الموسيقى في الاذاعة والتلفزيون. أسلوبه في نظم " المثنوي" استقطب الكثير من الاتباع والمقلدين، فكل من أراد سرد مضمون ملحمي بأسلوب "المثنوي" انتهل من ينبوع معلم.
ونذكر على وجه الخصوص الشعراء الأفغان المقيمين في ايران، حيث أبدوا نزوعاً نحو هذا التقليد أكثر من سواهم. بعد أن تولى هذا الشاعر مسؤولية قسم الموسيقى في الإذاعة والتلفزيون جنح – خلافاً لتوقعات الكثيرين – نحو موسيقى البوب ونظم الكثير من قصائد الأغاني " ترانه " للعديد من المغنين نال بعضها إقبالاً وشهرة.
أسلوب " ترانه " الذي لم يكن في السابق مطروحاً بنحو جاد أخذ رويداً رويداً يحتل مكانته كنوع أدبي له فرسانه، وكان نصيب علي معلم في هذا الميدان أوفر من غيره. كان جمهوره في السابق محدوداً جداً بل اعتبره البعض شاعر الشعراء وليس شاعر الناس، لكنه استقطب بعد ذلك جمهوراً عريضاً مما يعدّ توفيقاً غير قليل له.
لم أكن في عرسكِ لأعلم ما كان
يقولون وهم لا يكذبون أن الضجة استمرت ثلاثة أيام
دارٌ ملأى بالحور والملائكة في مدينة بني البشر
كنتِ حورية الحوريات، والدار حوض الحوريات
في الزقاق أميرٌ شابٌ خطفت الحورية قلبه وبصره
سجلت الحورية اسمه .. كانت طيبة القلب جداً
والحورية الآن كسيرة .. تجلس خلف النافذة
شعرها صار كالقمر .. بعدما كان أسود كالمساء
عمران صلاحي (1946 – 2006م)
ينبغي اعتبار عمران صلاحي أكثر الشعراء الساخرين جدية في ايران. ركّز صلاحي موقعه في السبعينات كشاعر متطلع مجدد بإصداره مجموعتين شعريتين هما : " محطة وسط الطريق " و " البكاء في الماء " . مع أنه تعاون في تلك الأعوام مع النشرات الساخرة، إلاّ أنه قلما اشتهر كشاعر ساخر. بعد انتصار الثورة الاسلامية، تطورت كتابته الساخرة وذاع صيته كأحد الساخرين المحترفين في الصحافة الايرانية.
كان من أول الذين طرحوا الشعر الساخر كنوع أدبي مميز وجاد. ومع أن قصائده غالباً ما جاءت متشائمة مريرة لكنها حملت حلاوة العمل الفكاهي وبهجته. الفهم السليم الذي توفر عليه صلاحي للأدب الكلاسيكي مضافاً الى معرفته مدى استيعاب الأدب الساخر أكسب أعماله صبغة ونكهة مختلفتين تماماً عن سائر النتاجات الساخرة، وجعلها محطَّ أنظار واهتمام قطاع واسع من نخبة الجمهور الشعري.
القضايا الاجتماعية والسياسية لها مساحتها الوافرة في القصائد الساخرة لعمران صلاحي، مما يدل على أنه لم يرم ِمن السخرية الى مجرد إثارة الضحك.
مشهد الصباح:
كيسٌ مرزوم
خلف الباب
ينتظر سيارة البلدية
انسان مرزوم
خلف الباب
ينتظر سيارة الدائرة
تأتي سيارة البلدية
تحمل الانسان المرزوم
وتنطلق ...
حسن حسيني (1356 – 2004 م)
حسن حسيني وصديقه القديم قيصر أمين بور من أشهر رواد شعر الثورة. منذ بدايات مشواره الشعري لم يغفل حسيني عن الشعر الديني فضلاً عن اهتمامه الجاد بمضامين المقاومة الاسلامية وقيم الثورة.
كان ممن جربوا قرائحهم في الشعر الكلاسيكي الى جانب نزعته للشعر الحر النيمائي وأتباعه ونظمه القصائد بهذا الاسلوب الحديث محاولاً التعبير عن معتقداته الدينية بلغة حديثة ليخلد معتقداته عبر ذلك.
صدرت مجموعته الشعرية " العصفور وجبرئيل" في مطلع عقد التسعينات وكانت ثمرة هذه الجهود الشعرية. معرفته بالأدب العربي المعاصر وتمكنه من الأدبين الكلاسيكي والحديث جعل من " العصفور وجبرئيل " حدثاً أدبياً يشار إليه بالبنان. حظت هذه المجموعة المخصصة من أقصاها الى أقصاها لملحمة ثورة الطف وبطولات الحسين بن علي-ع- وصحبه الأوفياء بإقبال واسع من قبل الأوساط الأدبية في ايران. طبعاً، كانت هناك قبل حسيني محاولات على هذا الصعيد يمكن الإلماح من بينها الى أعمال علي موسوي كرمارودي، وطاهرة صفار زاده، ولكن ربما أمكن اعتبار " العصفور وجبرئيل" أكمل عمل ديني حداثي.
جبل الفاجعة الصبور كان يعلم
أن ذلك الصهيل الغريب
تفوحُ منه رائحة زلزال مهيب
جبل الفاجعة الصبور
حينما ظهر على أعتاب الخيمة
تناثرت جدائل عبرته الطويلة
في الضجيج الضجيج
أخبار جديدة حملتها عيونُ فرسه (ذو الجناح).
***
واحزني عليك يافؤادي
واحزني عليك!
ذلك الصهيل الغريب
كانت تفوح منه رائحة الزلازل أصلاً ...
علي صالحي (1955 - )
من بين كل التيارات التي حاولت الظهور كحركة جدية في شعر التسعينات، كان شعر " الحوار " التيار الوحيد الذي حقق نجاحاً نسبياً وحظى باستحسان النخبة من جمهور الأدب. كان علي صالحي من منظري هذا التيار الشعري، قال هو نفسه مراراً: "لست مبتكر شعر " الحوار " بل شارحه ومنظره، وإلاّ فجذوره الأولى تعود لأناشيد أفستا.
مع ذلك لو أردنا التأشير باختصار على الخصائص البارزة لشعر الحوار، تعين القول إنه يمتاز باستخدامه اللغة العامية، ومحورية المتلقي، والسقف المرتفع للمشاعر والعواطف، والإكثار من التعابير الانشائية.
لقد سجل علي صالحي إسمه بوصفه شاعراً مكثراً وباحثاً بإصداره مجاميع شعرية عديدة خلال عقد التسعينات. ولأشعار صالحي متلقون كثيرون، ولا يزال أولئك المخاطبون ينزعون الى إشعاره حتى اليوم. يعد صالحي من بين أولئك الشعراء الذين حاولوا دوماً أن يتخذوا مواقف حيال التيارات الاجتماعية والسياسية في المجتمع.
تعلمتُ البساطةَ
من استتار الكوكب
ربما كان قبل البزوغ برعماً
على ذكرى ما بعد ظهر قديم
ترنمتُ بالأغنيات
الى أن صارت كل حمائم العالم شواعر
تعلمتُ البساطةَ
من إغفاءة طائر
في ظل طائر آخر
الرياح كانت تتضوع برائحة الزيارة
وكنتُ أرى تاريخ حياتي قبل أن أولد.
ملائكُ باهرةٌ
تحملني نحو السماء
خليةٌ خضراء
تبكي في حلقات أقدارها
ومن هناك ...
كان الانسان يجرِّب العزلة العظيمة
ولات حين مناص
لستُ قلقاً إلا على غريزة التبسم
تعلمتُ البساطةَ
من هذه الغرائز
أحمد عزيزي (1958 - )
كان من الشعراء الذين ظهروا بعد الثورة الإسلامية، لكنه لم ينل شهرته حتى الأعوام الأخيرة من الثمانينات. بإصداره مثنوياته ذات الأوزان القصيرة تحول عزيزي فجأة الى شاعر ذائع الصيت. الخيال المذهل الغريب واللغة البسيطة الجزلة لمثنوياته عوامل اجتذبت العديد من الشباب الى تجريب قرائحهم في إطار أسلوبه. كما أن نظرته العرفانية للقضايا الاجتماعية والايدولوجية كان لها دورا في إقبال عامة الناس على شعره. ومع أن هذه النظرة لم يكن لها خلال فترة الحرب جمهورها الملحوظ بسبب الوضع الخاص الذي ساد البلاد آنذاك، لكنها ازدهرت بعد نهاية الحرب وسجلت إقبالاً واسعاً عليها.
قصائد عزيزي رغم مضامينها العرفانية، إلاّ أنها على درجة كبيرة من البساطة بحيث لا يستدعي فهمها مستوىً ثقافياً وعلمياً عالٍ. طبعاً لم يحقق نجم الإقبال على عزيزي وشعره تألقاً دائماً، ففي الأعوام الأخيرة من عقد التسعينات قلما شدّت أعماله أحداً إليها، ومع ذلك لا يمكن التحدث عن شعر التسعينات من دون ذكر أحمد عزيزي.
الموت لا يظهر في المرايا
الموت يزحف خفياً في الصدور
الموت البسيط لا زينة له
الموت التعبان تحت الظلال
الموت يعني زلّة أقدام الحياة
الموت يعني العيش في الذكريات
الموت ساعة لمراجعة الحياة
الموت جسر لعبور الحياة
الحياة دفترنا ذو المائة ورقة
صفحاتنا الأخيرة هي موتنا
يوسف علي ميرشكاك (1959 - )
ينبغي تصنيف ميرشكاك على فئة الشعراء الذين لا يأبهون إطلاقاً بتيارات الشعر السائدة. ومع أنه ينتمي لجيل شعراء الثورة، لكنه ينظم قصائد الحب حتى في فترة انتشار حوار الشعر الثوري. جرّب قريحته في جميع الأغراض والأساليب تقريباً ابتداءً من أكثر الأطر الشعرية تقليديةً والى قوالب الشعر الحديث.
وربما كان هذا التبعثر في شكليات أعماله هو ما جعل النقاد يظنون بتسليط الأضواء على منجزه الشعري. مع ذلك شقّ هذا الشاعر طريقه غير مكترث بالنقاد والشعراء، وأنشد في التسعينات أفضل قصائده.
تعدّ المتانة اللغوية والبنية المتجانسة من أبرز خصائص أعماله. وكانت غزلياته الكلاسيكية المحدثة من النماذج الموفقة لشعر التسعينات. كما كان له إسهامه في النقد الأدبي أيضاً. مقالاته التأويلية في مجلة " شعر" والتي خصصها لنقد الشعراء المعاصرين، كانت من بواعث ازدهار الشعر والحيوية الشعرية في عقد التسعينات. رغم معارضيها ومؤيديها الكثر.
عن لسان القرية:
أيتها الريح
عن أية واقعةٍ تبحثين
في هذا الرواق الآيل للسقوط
لم يبق رجل سواي
أنا حارس حقيقة الأشباح
أقدامي طافحة بالطيور والأطفال
وصدري زاخر بأصوات الفتيات اللاتي لقين حتفهن في عهد الشباب
في يديّ ينساب رقص البلابل
على قبور الشباب الراحلين
وفي ضحكتي آلاف الورود التي لم تكتمل
محمد تقي شمس لنكرودي (1950 - )
ابتدأ لنكرودي عمله الأدبي الجاد في السنين الأخيرة من عقد السبعينات. ومع أنه أصدر حتى عقد التسعينات عدة مجاميع شعرية لكن الأوساط الأدبية في ايران عرفته واعترفت به في بداية التسعينات شاعراً ناضج التجربة.
مجموعته الشعرية الخامسة التي حملت عنوان " قصيدة الابتسامة المبضعة " صدرت في نهاية الثمانينات ولفتت إليها الأدباء والنقاد ورفعته الى مصاف غيره من الشعراء الكبار. الأخيلة الرقيقة والصور البديعة المصاغة بلغة متجانسة وجزلة من الخصائص الممتازة في هذه المجموعة. يجب اعتبار شمس لنكرودي من الشعراء الحداثيين القلائل الذين خاضوا غمار البحث الأدبي وتعرف على المدارس الأدبية العالمية وتعمّق في تيار الشعر الحديث في ايران مضافاً الى تعاطيه مع الأعمال الكلاسيكية الايرانية.
يمكن اعتبار أشعار شمس لنكرودي استمرارً للسياق الطبيعي لتيار الشعر الحديث في ايران. الشعر الذي لم يجنح الى الشكلية المحضة وحافظ على صلاته بجذوره.
يأتون به
بلا حذاء ولا قبعة
مطر بارد
خريف مُجزَّر
وأناس محدبو الظهور يشيخون في المطر
طفولته تقف على صخرة شفافة
وتتملاّه ...
الأزقة والشوارع تنظر لبعضها بدهشة
ولا تتذكر اسمه ...
الدكاكين الناعسة ملفعة برطوبة الدموع
ومخابز نسيت ثغراً الى الأبد
يعيدونه
جسداً نسي ذكرياته
الآمال الضائعة تبحث عن ملاذ لها في حصيات النهر
والأرض المحروثة
تتأوّه تحت المطر
علي رضا قزوة (1963 - )
لو أردنا تسمية شاعر متخصص في الاعتراض والسخط بمنحى ثوري لكان هذا الشاعر دون شك علي رضا قزوة. كان قزوة من أوائل الشعراء الذين نظموا الشعر النقدي بعد انتهاء الحرب العراقية الايرانية مباشرة ورفع صوت عتابه على قلة، أو عدم الاهتمام بالقيم التي أفرزها عهد الثورة والدفاع المقدس. لغته الناقدة الصرحية سرعان ما استقطبت متلقين غير قليل خصوصاً من بين الطلبة الجامعيين. ومع أن هذا الاسلوب الإنشادي له سابقته في أعمال كيومرث منشي زاده وطاهرة صفار زاده، بيد أن نكهة ايديولوجيا الثورة الاسلامية جعلته متميزاً بدرجة كبيرة.
خلال عقد التسعينات، حذا الكثير من الشعراء حذو علي رضا قزوة في نظم أشعار معترضة ناقدة، ولكن حيث أن أغلب تلك الأشعار كانت تفتقر للخيال واللغة والعاطفة وسائر العناصر الشعرية فإنها سرعان ما علتها أغبرة النسيان. ويبدو أن مثل هذه القصائد أشبه بالخطب والبيانات السياسية منها بالأعمال الشعرية.
وبطبيعة الحال، فإن قزوة نفسه لم يبق وفياً لهذا الاسلوب، بل فضّل بدل الاعتراض على الارباكات السياسية والاجتماعية، اللجوء بشكل من الأشكال الى العرفان الذي شاع في أعوام ما بعد الحرب، حيث أنه عرفان بعيد جداً عن التراث العرفاني الايراني – الاسلامي، رغم كل مواطن الشبه الظاهرية معه، وهو الى ذلك عرفان يتحرى إضفاء طابع ونكهة معنويين على حياة الانسان العصري أكثر من اهتمامه ببلوغ الحقيقة.
تأثر علي رضا قزوة تأثراً شديداً بترجمات الشعر العربي، حيث تلاحظ على أعماله بكل وضوح بصمات شعراء نظير محمود درويش، محمد الماغوط، سميح القاسم ومفهوم المقاومة في تجاربهم.
*****
ظهر على مسرح الحياة الأدبية الايرانية في مطلع التسعينات عدد من الشباب المتحمس الذين حملوا أفكاراً وطموحات قشيبة وكبيرة. البحث عن الجديد ونزعة التفكيك وتحطيم القوالب السائدة كان من الملامح البارزة لهؤلاء الشباب الذين أرادوا تأسيس ظاهرة جديدة في الشعر الايراني. كانوا شباباً جريئين اعتبروا حتى أنصار"نيما" من الكلاسيكيين والتقليديين.
الأشعار التي نشروها لم تكن منضوية في أطر أيٍّ من الأساليب الدارجة، إنما كان لها قواعدها الخاصة. وقد عمد بعضهم إلى نحت قواعد وضوابط لهذه النتاجات الجديدة، بل هبَّ بعض الرواد والقدماء لمساعدة هؤلاء الشبيبة ليرفدوا منجزاتهم بركائز تنظيرية.
مهرداد فلاح وعلي عبدالرضائي وأبو الفضل باشا وبهزاد خواجات ورزا جمالي هم من أبرز وجوه هذا التيار الذي قد يسمى بـ " شعر التسعينات " .
ولعل من أبرز مواصفات أشعارهم اجتناب التعابير الكلية العامة، والبعد عن الايديولوجيا، والقابلية للتأويل، والميل للفكاهة ( في البنية والمعنى ).
فيما يلي قصيدة من قصائد حافظ موسوي الذي يعدّ من الوجوه الشعرية المعتدلة في عقد التسعينات.
التفاحة التي تدور في نظراتكِ
تثير الوساوس لدى الانسان
تعالي نهرب من هذا الجحيم
لا مسافة بيننا سوى هذين السطرين
حينما نبتعد عن مرمى نظرات هذه الملائكة
لن أشير لكِ على الجنة
بل على مسطبةٍ
تثير الوساوس
كمعصية جديدة
يجب أن نسرع
لكن عليك أن تحاذري على شعركِ أيضاً
أغصان هذه الأشجار المرصوفة على جانبي الطريق
تختطف القراصات من شعور الفتيات
وحتى لو لم تكن الريح
لكان ثمة ألف سبب
لاضطراب هذه المدينة
مؤسف أن نموت قبل أن نقطف التفاحة.
كما ألمحنا في بداية المقال، فقد شهد المجتمع الايراني بعد انتصار نهضة عام 79 تطورات جذرية تركت آثارها على جميع الشؤون الفردية والاجتماعية للايرانيين. والشعر باعتباره – كما يرى الكثير من أصحاب الرأي – المرآة الصافية التي تعكس أوضاع وأحوال هوية الشعب واكب تطورات المجتمع الايراني ليفتتح آفاقاً جديدة وبديعة.
وقد اكتسبت هذه التجارب أشكالاً متباينة ومتوعة بفعل تنوع الميول والأذواق. كما ترجع هذه التلاوين والتنوع أيضاً الى تأثير أحداث كبرى كالثورة والحرب المفروضة. لذلك يلاحظ على الكثير من الأعمال الشعرية بعد الثورة ضرب من الوحدة والترابط الموضوعي.
ولكن بانتهاء الحرب وتقادم الأعوام على أيام الثورة الملتهبة، استطاع الشعر الايراني تقديم تجليات أكثر. ولو أردنا عقد مقارنة بين عقدي الثمانينات والتسعينات لتعين القول إن شعر التسعينات صورة متكاملة لشعر الثمانينات، سواء في البنية، أو المعنى. طبعاً كانت الى جانب هذا التكامل، تجارب جديدة تماماً ربما كان تقييمها سابقاً لأوانه بعض الشئ.
تتمنى مجلة شيراز بعد هذا التعريف الاجمالي لشعر التسعينات أن تواتيها فرصة أوسع لنقدٍ ودراسةٍ أدق تتناول الشعراء والتيارات الشعرية الجادة في عقد التسعينات وما بعده.