أ.د. محمد نور الدین عبدالمنعم
إن شعب إیران من الشعوب التى تكثر من الإحتفال بالمناسبات والأعیاد الدینیة والقومیة وغیرها، وإذا إطلعنا على أحد التقاویم التى تصدرها إیران وجدنا عددا كبیرا من هذه المناسبات والأعیاد سواء كانت أعیادا قدیمة ترجع إلى ما قبل دخول الإسلام فى إیران، أو ترتبط إرتباطا وثیقا بإعتناق الإسلام كعیدى الفطر والأضحى وذكرى میلاد أئمة الشیعة وإستشهادهم أو وفاتهم.
أما الأعیاد القومیة القدیمة التى یتم الإحتفال بها فهى كثیرة أیضا ویأتى فى مقدمتها عیدا النوروز والمهرجان، وهما عیدان مشهوران قدیمان تناولهما كثیر من الباحثین بالبحث والدراسة، وذكرهما كثیر من شعراء الفرس والعرب فى أشعارهم. ونحن هنا نتناول بالدراسة عیدا من الأعیاد القدیمة المتوارثة عند الإیرانیین وفیه یحتفل بلیلة من لیالى السنة وهى التى تسمى فى الفارسیة "شب یلدا" أو "لیلة المیلاد".
یجمع الباحثون على أن لیلة المیلاد أو "شب یلدا" أو "شب چله بزرگ" (لیلة الأربعین الكبرى) واللیلة الأخیرة من فصل الخریف وشهر آذر، هى أطول لیلة فى السنة، وفیها تتحول الشمس من برج القوس إلى برج الجدى. ویظن البعض أن الإحتفال بهذه اللیلة كان من أجل إبعاد نحس أطول لیلة فى السنة، إلا أن الأبحاث الحدیثة أكدت أنه لا توجد فى المعتقدات الإیرانیة القدیمة أى یوم أو لیلة یتصف بالنحس أو بالشؤم، وما هو إلا إحتفال له جذور تاریخیة وعقائدیة قدیمة عند الإیرانیین، ومن هنا یحتفل به الإیرانیون فى معظم أنحاء إیران.
وكلمة "یلدا" كلمة سریانیة بمعنى "المیلاد"، والمقصود بها هنا میلاد الشمس "مهر" أو "میترا"، وكان القدماء یعتقدون بأنه فى هذه اللیلة وهى الأولى من شهر دى (الشهر العاشر من السنة الشمسیة الإیرانیة من 22 دیسمبر إلى 20 ینایر) یوقن أهریمن إله الشر أن الظلمة ستهزم فى یوم من الأیام وأن النور سینتصر، وكان لمیلاد الشمس وبدایة هذا الشهر عادات وتقالید وآداب كثیرة عند شعوب كثیرة، ویعتبر یوم تفاؤل عندهم نظرا لتخلص الشمس من قبضة الشیاطین، وعیدا مقدسا عند عبدة الشمس (مهر پرستان).
وفى القرن الرابع المیلادى ونتیجة للخطأ الذى وقع فى حسابات الأعوام الكبیسة، عُرف یوم 25 دیسمبر (بدلا من 21 دیسمبر) على أنه هو یوم میلاد "میترا"، وجعلوا میلاد المسیح عیسى علیه السلام أیضا فى هذا الوقت. وقد أشار الشاعر سنائى الغزنوى إلى هذا التطابق فقال:
به صاحب دولتى پیوند، اگر نامى همى جویى كه پیوند باعیسى چنان معروف شد یلدا
ومعناه: إذا كنت تبحث عن الشهرة وذیوع الصیت، فإرتبط بصاحب المال والإقتدار, فإن الإرتباط بعیسى هو الذى جعل لیلة "یلدا" مشهورة.
ویضم شهر "دى" أو "دیماه" فى إیران القدیمة أربعة أعیاد هى: أول یوم من دى، وهو موضوع هذا البحث، والیوم الثامن والخامس عشر والثالث والعشرون، وهى الأیام الثلاثة التى یتفق فیها إسم الشهر مع إسم الیوم. ویعتبر الإحتفال بلیلة "یلدا" من الإحتفالات الآریة القدیمة، وكان أتباع میترا أو المیترائیین یحتفلون به فى إیران منذ آلاف السنین، ومنذ أن عرفوا تحدید فصول السنة. وكان النور وضوء الشمس رمزا للخالق عندهم، كما كان اللیل والظلمة والبرد رموزا للشیاطین وإله الشر "آهریمن"، وقد إعتقدوا بأن التغیرات المستمرة فى اللیل والنهار والنور والظلمة إنما هى عبارة عن حرب دائمة بینهما، وأن الأیام الأطول هى دلیل على إنتصار النور والأیام الأقصر دلیل على تغلب الظلمة. وكان الإیرانیون القدماء یظنون أن "یلدا" هى لیلة میلاد الإله "میترا"، ولهذا إحتفلوا بها، وكانوا یلتفون حول النیران ویرقصون فى فرح وسرور ویمدون الموائد، ویقدمون ما یسمى بـ "میزد" وهو نوع من النذور أو الولائم تضم اللحوم والخبز والحلوى. وكان الإعتقاد السائد بین الناس قدیما بأنه فى لیلة یلدا هذه یأتى "قارون" وهو یرتدى ملابس بالیه كملابس الحطابین ویدق أبوابهم ویقدم لهم الحطب، وفى الصباح یتحول هذا الحطب إلى سبائك من الذهب، ومن هنا كانوا یقضون لیلة یلدا مستیقظین حتى الصباح فى إنتظار هذا الحطاب الذى یهدیهم الذهب والهدایا.
ویعتبر "مهر" أو إله الشمس هو إله النور وحامى العهود والمواثیق، وكان الإیرانیون القدماء یعبدون "مهر" و "ناهید" (میترا واناهیتا = الشمس والزهرة) كإلهین قریبین من الخالق ویقدسونهما، ونظرا لقربهما هذا فإنه فى یوم الحساب یجلس "مهر" بالقرب من الخالق ویستقبل "اناهیتا" الصالحین الذین یعبرون جسر "چینوت" أو الصراط. وطبقا للأساطیر القدیمة فإن "مهر" إله النور ولد فى لیلة "یلدا" فى أحد كهوف جبل البرز، ومن هنا كان أتباع "مهر" یتعبدون فى الكهوف والمغارات وتسمى عندهم "مهرا به". وقد ولد "مهر" أو الشمس فى كهف من بین برعمة نیلوفر تشبه الصنوبر، وكان عبدة "مهر" یعبدونها ویشعلون الشموع فى الكهوف لظلمتها، وفى الأماكن التى لا تتوفر فیها الكهوف كانوا ینتقون حجرا كبیرا ویؤدون طقوسهم بجانبه، وأصبحت هذه الحجارة مقدسة بمرور الزمن. وتسمى "یلدا" أیضا بـ "شب چله بزرگ", أى لیلة الأربعین الكبرى، ویقصد بذلك لیلة الأربعین یوما الأولى من فصل الشتاء، وهى التى تمتد من بدایة شهر "دى" وحتى العاشر من شهر "بهمن". وهناك أیضا "چله كوچك" (الأربعون الصغرى) وهى التى تمتد من العاشر من "بهمن" وحتى العشرین من شهر "اسپنـد".
ویرى المستشرق "كریستنسن" أن "میترا" هو رب المیثاق، وهو فى الوقت نفسه رب النور. وأن عبادة "میترا" مختلفة تماما عن الدیانة المزدیة، ومتأثرة كثیرا بعلم النجوم الكلدانى الذى ترعرع عند مجوس آسیا الصغرى، وهى العبادة التى تعتبر "میترا" إله الشمس، وقد إنتشرت فى الإمبراطوریة الرومانیة. كما یرى بأن دین الآریین القدیم بنى على عبادة قوى الطبیعة والعناصر والأجرام السمـاویة، وأضیف إلى كل ذلك آلهة تمثل قوى أخلاقیة أو آراء معنویة. وفى الوقت الذى دخل فیه الإیرانیون العصر التاریخى كان "مزدا" أو "اهورا مزدا" الإله الأعلى للقبائل المستقرة والمتمدنة فى الشرق والغرب. والمزدیة أقدم عهدا من الزردشتیة، ولیس "مزدا" إلها لقبیلة أو لشعب بل هو إله العالم والناس جمیعـا. (كریستنسن ص 19، 21، 22).
كما یرى أیضا أن "میترا" هو إله العقد ونور الصباح الذى عرفه البابلیون بشَمَـس، إله الشمس، والذى جعل منه المیترائیون "الشمس التى لا تقهر"، والإله "مهر" إله قادر، وهو إبن الإله وهو مساعد یقظ للآلهة السبعة. وفى نقش "اردشیر الثانى" فى"طاق بستان" وقف "میترا"، وقد عرف بإكلیله الذى یشع منه النور خلف الملك الذى كان یتسلم ولایة الملك من ید "اهورا مزدا". (كریستنسن ص 133، 114).
وكان أصحاب الدیانة المهریة یعتقدون أن "مهر" أو "میترا" یراقب كل عقد أو إتفاق یعقد بین الناس، وكان ینتقم من كل من ینقض العهد أو المیثاق، وكانوا یتبادلون الحلقات كتذكار للعهود والمواثیق بینهم، وهى الحلقة التى تحولت بعد ذلك إلى حلقة العهد والمیثاق بین الزوجین. كما رأى أهل هذه الدیانة أن مهر كان یذبح بقرة السنوات العجاف (وهى رمز لاهریمن)، یأتى بها من السماء راكبا إیاها وینزل بها إلى الأرض، ویغرس سكینا فى نحرها، فتنزل ثلاث قطرات دم منها، ینبت من الأولى القمح ومن الثانیة العنب ومن الثالثة الأعشاب والنباتات الدوائیة الشافیة، وبهذا تصبح الأرض خصبة ومنتجة للمحاصیل.
وتوجد فى دیانة "مهر" سبع مراحل للوصول إلى نور الحقیقة، وعندما ینتقلون من المرحلة الرابعة إلى الخامسة وتسمى "چله" كانوا یعتكفون أربعین یوما على الأقل حتى تصفو النفس وتسمو فى الصمت والسكون. وكان لهذا الإعتكاف الأربعینى "چله نشینى" علامة خاصة هى إطالة الشارب الذى یغطى الشفاه ویكون كخاتم الصمت على الفم. وفى نهایة المرحلة السابعة یعتبر الشخص "شیخا" أو "أبا مقدسا"، وتكون الحقیقة قد إتضحت له وإمتلأ كیانه بالإیمان والنور، ویعد خلیفة "مهر" على الأرض.
وللعدد أربعین فى الثقافة الإیرانیة قدسیة خاصة، ولعل ذلك یرجع إلى أنهم قسموا تقویمهم القدیم على أساس أربعین یوما، وعبارة "چله نشستن" و "چل چلى"، وفى طبرستان "پیرا چله" و "گرما چله" دلیل على أهمیة هذا العدد فى الثقافة الإیرانیة. لقد قسم الإیرانیون الشهور قدیما إلى أربعین یوما وكانت السنة عندهم تسعة أشهر، ثم عادوا بعد ذلك وغیروا الشهور إلى ثلاثین یوما. وظل التقویم الشمسى سائدا فى إیران، ثم إستخدم الإیرانیون بعد ذلك التقویم القمرى العربى بعد دخولهم فى الإسلام، إلى أن أعید التقویم الإیرانى الشمسى بعد ذلك وتم إحیاء القومیة الإیرانیة. و كان الإیرانیون القدماء یزینون شجرة سرو بشریطین من الذهب والفضة فى لیلة "یلدا"، كما یقال إن مهر ولد من إمرأة عذراء تسمى اناهیتا داخل كهف. والمعروف أن عبادة الشمس قد تجاوزت حدود إیران ووصلت إلى بلاد الروم، وإعتنقها ملوكها وأصبحت الدیانة الرسمیة عندهم، وقد شجع "یولیانوس" أو "جولیان" أحد ملوك الروم إعتناق دیانة "مهر" والدخول فیها، وما زالت أدعیة هذا الملك لمهر موجودة، وهو یسمى فیها الله بالأب. وقد إحتفل الروم لسنوات عدیدة بمیلاد "مهر" و "شب چله" وإعتبروها بدایة العام، وإعتبر رجال الدین بعد ذلك هذه اللیلة هى لیلة میلاد عیسى، وإحتفلوا بها فى یوم 25 دیسمبر حتى یفرقوا بینها وبین لیلة یلدا أو لیلة میلاد مهر.
ویتحدث البیرونى عن عید یلدا فیقول : "وفى اللیلة التى یتقدمها الخامس والعشرون من هذا الشهر (كانون الأول) وهو لیلته على مذهب الروم عید یلدا وهو میلاد المسیح وكانت وقتئذ لیلة الخمیس، فأكثر الناس یذهبون إلى أن هذا الخمیس كان الخامس والعشرین" (الآثار الباقیة ص 292). ویذكر صاحب "برهان قاطع" أن البعض ذكروا أن لیلة "یلدا" هى فى الحادى عشر من جدى، كما ذكروا أیضا أن "یلدا" هو إسم أحد حواریى عیسى علیه السلام.
ویذكر "محمد معین" فى حواشیه على "برهان قاطع" أن الإحتفال بعید میلاد المسیح الذى یسمى "نوبل" NOEL والمحدد له یوم 25 دیسمبر هو فى الأصل الإحتفال بمیلاد میترا (مهر)، وهو الذى جعله المسیحیون فى القرن الرابع یوم میلاد المسیح.
وهناك أساطیر إیرانیة حول مولد العشق الذى یتكرر كل عام فى عید "خرم روز"، ومن ذلك قولهم بأن القمر كان عاشقا للشمس ومغرما بها، وقد قسما العمل بینهما بحیث یكون عمل القمر فى اللیل وعمل الشمس فى النهار، وقد عمد القمر إلى لقاء الشمس عند السحر، إلا أنه غالبا ما كان ینام ویطلع النهار. وأخیرا فكر القمر فى إستئجار نجمة توقظه عند منتصف اللیل وتخبره بإقتراب الشمس، فیذهب القمر لإستقبالها ویطارحها الغرام ویمنعها من الذهاب، وعندئذ ینسى القمر والشمس عملهما الأساسى وتتأخر الشمس فى الظهور وتسمى هذه اللیلة بلیلة "یلدا". ومنذ ذلك الوقت والقمر والشمس یلتقیان لیلة واحدة فقط، وتكون هذه اللیلة طویلة وحالكة الظلمة، وهى نفسها لیلة "یلدا". ومن هنا كان الحدیث فى الأساطیر الإیرانیة عن لیلة "یلدا" هو حدیث عن مولد العشق الذى یتكرر كل عام فى عید "خرم روز". وفى زمن أبى الریحان البیرونى كانوا یسمون شهر دى أیضا بـ "خورماه" أى شهر الشمس، وكان أول یوم فیه یسمى "خرم روز" وهو الیوم الذى یتجاوز أطول لیلة فى السنة، وتبدأ الطبیعة فى الإزدهار من جدید، وتكتسى بمظاهر الحیاة ویعم الدنیا السرور والبهجة.
وفى الأزمنة القدیمة شید الإیرانیون مبان لرصد الشمس وعمل التقویم، ومن أهمها "چار تاق نیاسر" فى مدینة كاشان، وهو المبنى الوحید الذى بقى سلیما على أرض إیران. وتدل كلمة "چار تاق" أو "چهار طاق" على بناء مسقوف ومفتوح من كل الجوانب وبدون أبواب، ومن خلاله یمكن تحدید الإنقلاب الشتوى وبدایة السنة الجدیدة المیترائیة بدقة. وقد تم الإحتفال بمشاهدة میلاد الشمس فى عام 1384 ش = 2005 م فى "چار تاق" مدینة نیاسر بمساعدة بلدیة المدینة ومركز التراث الثقافى هناك.
ونظرا لقدم هذا العید عند الإیرانیین، فإننا نجد كلمة "یلدا" تتردد فى أشعار شعراء الإیرانیین القدامى بعد الإسلام, فنجد العنصرى (توفى 431هـ) یقول:
چون حلقه ربایند به نیزه تو به نیزه خال از رخ زنگى بربایى شب یلدا
أى: عندما یخطف (اللاعبون) الحلقة برماحهم، تخطف أنت الخال من على وجنة الزنجى برمحك فى اللیلة الظلماء وتزیله.
ویقول منوچهرى (متوفى 432هـ):
نور رایش تیره شب را روز نورانى كند دود خشمش روز روشن را شب یلدا كند
أى:
إن نور رأیه یحیل اللیلة الحالكة الظلمة إلى نهار منیر،
ودخان غضبه یحیل النهار المضئ إلى لیلة ظلماء كلیلة یلدا.
ویقول مسعود سعد سلمان (متوفى 515هـ):
كرده خورشید صبح مملكت تو روز همه دشمنان شب یلدا
أى:
لقد جعلت الشمس مملكتك صبحا مضیئاً، وصار نهار كل أعدائك مظلما كلیلة یلدا.
ویقول سعدى الشیرازى (توفى 691 هـ):
نظر به روى تو هر بامداد نوروزیست شب فراق تو هرگه كه هست یلدا ییست
أى: إن النظر إلى محیاك كل صباح هو عید نوروز،
ولیل فراقك حیثما یكون هو لیلة یلدا.
وهكذا نجد الشعراء الفرس قد إستخدموا هذه الكلمة للتعبیر عن اللیل الحالك الظلمة الذى یعانى منه أعداء الممدوح أحیانا، أو الذى یعانى منه العاشق الموله من فراق محبوبته له أحیانا أخرى، أو فى معان أخرى كثیرة تتضمنها الأشعار الفارسیة التى ذكرنا أمثلة لها.
ویعتبر عید "یلدا" أو الإحتفال بلیلة "یلدا" من المناسبات التاریخیة التى یجتمع فیها الإیرانیون حتى یومنا هذا. وغالبا ما یكون هذا التجمع أسریا، حیث یجلس أفراد العائلة وأقاربهم وأصدقائهم المقربین حول المدفأة التى تسمى بـ "الكرسى"، ویتناولون الأطعمة والفاكهة والنُقل، ویأخذون الفأل من دیوان "حافظ الشیرازى". ولا شك أن إستخدام أجهزة التدفئة قد منع إستخدام الكرسى فى كثیر من مناطق إیران حیث كان یستخدم كثیرا فى الأزمنة القدیمة. وعادة ما یتناول الإیرانیون فى هذه المناسبة فاكهة معینة كالبطیخ والرمان وغیر ذلك من فاكهة فصل الصیـف، والفاكهة التى تمر علیها لیلة "یلدا" لا تؤكل. ویتضمن النُقل الحمص المحمص ولب البطیخ والقرع، واللوز والفستق والبندق والزبیب والتین والتوت المجفف. وتذهب بعض الأسر للسهر فى لیلة "یلدا" إلى منزل الأقارب الأكبر سناً وذلك بعد تناول العشاء.
والحقیقة أنه لا یوجد مكان داخل إیران لا یؤكل فیه البطیخ فى هذه اللیلة، وهو الفاكهة التى لا یمكن الإستغناء عنها، وذلك لإعتقادهم بأن أكله فى ذلك الوقت بالذات یقیهم من أمراض البرد وأعراضه خلال الأربعین یوما الكبرى والصغـرى، وموائدهم فى هذه المناسبة لا تتشابه مع مائدة النوروز والتى تسمى "هفت سین", أى الموجود علیها سبعة أشیاء تبدأ بحرف السین، بل یضعون على موائدهم مرآة وصورة لسیدنا على رضى الله عنه. وفى آذربایجان یأكل الناس فى هذه المناسبة ما یسمونه بـ "هندوانه چله" أو "چیله قارپوزى" (بطیخة الأربعین) ویعتقدون بأن الرعشة والحمى لن تصیب أجسامهم نتیجة لهذا. وفى جیلان یتناولون البطیخ أیضا ویعتقدون بأن أكله یحمیهم من الإحساس بالعطش فى فصل الصیف والبرد فى فصل الشتاء.
ویحتفل الزرادشتیون فى إیران بهذه اللیلة أیضا ویرددون دعاء معینا فیها یسمى "نى ید" وهو دعاء للشكر على النعم، أما الأطعمة التى یتناولونها فى هذا العید فهى اللحم وسبعة أنواع من الفاكهة المجففة. كما یشارك الآشوریون الإیرانیون أیضا فى الإحتفال بعید "یلدا" مع سائر الطوائف الإیرانیة، حیث أنهم یؤمنون بأن الإحتفال بیلدا تقلید آشورى قدیم، ویشیع عندهم أیضا التفاؤل بدیوان حافظ.
ولا تقتصر الإحتفالات بلیلة یلدا على إیران فقط، بل تتعداه إلى روسیا رغم أنه عید إیرانى أصلا، والروس یحتفلون به منذ زمن بعید وقبل دخول المسیحیة هنـاك، ویقال إنه ما زال قائما حتى الآن بین أهل الریف هناك. ومن طقوسهم فى هذا الإحتفال إعداد الحلوى وتزیینها بأشكال مختلفة، وممارسة الألعاب المحلیة المتنوعة، ونثر القمح فى أفنیة المنازل، والغناء والرقص وذبح الذبائح، وأخذ الفأل والنبوءات. ویتشابه هذا كثیرا مع ما یجرى فى إیران من عادات وتقالید فى هذا العید.
وإذا تصفحنا أى تقویم إیرانى وجدنا هذه المناسبة وقد سجلت فى یوم 30 آذر، وفى العام الماضى (2007م) جاءت لیلة "یلدا" فى یوم الجمعة الموافق 21 دیسمبر 2007 الموافق 30 آذر 1386 ش (10 ذى الحجة 1428)، وهو فى نفس الوقت یوم من أیام عید الأضحى المبارك (الیوم الثانى فى مصر). وهذا إن دل على شئ فإنما یدل على تمسك الإیرانیین بالإحتفال بأعیادهم القومیة القدیمة بجانب الأعیاد والمناسبات الإسلامیة، وهم من الشعوب التى یكثر عندهم الإحتفال بكثیر من المناسبات والأعیاد كما ذكرنا.
ویتندر كبار السن فى إیران على أن هذه اللیلة كانت قدیما ذریعة لكى یرى الخطیب خطیبته، خاصة وأن منازل العروسین كانت عادة قریبة من بعضها البعض، ولم تكن هناك وسائل إتصال متوفرة كما هو الحال الیوم. فكانت أسرة العریس تضع الفاكهة الخاصة بهذه المناسبة من بطیخ ورمان یجرى الدم فیهما، وأنواع النُقل والحلوى المختلفة، بالإضافة إلى قطعة قماش فى طبق مزین ویرسلونه مع العریس حتى یتمكن من لقاء عروسه فى منزل أهلها وقضاء بعض الوقت معها. ومع تغیر الظروف والأحوال فى عصرنا الحدیث لم یعد أحد یحمل طبق الهدایا، وإستبدل ذلك بعلبة بها قطعة من المشغولات الذهبیة. بل إن الهدایا تقدم الآن دون مناسبة ولا یعرف الأهل شیئا عنها.
ومع التقدم الحضارى وإرتفاع مستوى المعیشة لم تعد الولائم بنفس شكلها القدبم، بل تغیرت إلى ولائم أكثر فخامة، كما یستمع المحتفلون بهذه المناسبة الآن إلى الموسیقى الكلاسیكیة من خلال أجهزة حدیثة، ویأخذون فألهم من دیوان حافظ المطبوع الآن على ورق مصقول خلاف الطبعات القدیمة، ویعزف بعض الشباب على آلات موسیقیة حدیثة كالجیتار وغیر ذلك وهم یرتدون ملابس السهرة. ویتصل المضیف بأقاربه وأصدقائه الآن بالتلیفون المحمول لیدعوهم للإحتفال، ویحتفل الشباب عادة فى أیامنا هذه بأسلوبهم الخاص الذى لا ینتمى كثیرا لإحتفالات لیلة یلدا ولا تقالیدها وطقوسها القدیمة، غیر أن الإحتفال بهذه المناسبة ما زال قائما فى إیران بشكل أو بآخر. وقلما نجد الآن منزلا وضع فى وسطه "الكرسى" وبجانبه "السماور" والماء یغلى فیه، وكان القدماء یشعلون النیران بجانب المصابیح لمزید من الضوء، وكانوا یتفاءلون بذلك. ولم تكن الأسرة قدیما تحتفل فى غیاب الجد والجدة، إلا أن كثیرا من هذه الأعیاد تمر الآن بدون حضورهما أو مشاركتهما.
وإذا كانت تقالید وطقوس یلدا تعد من التراث الإیرانى الذى یرجع إلى عدة آلاف من السنین، إلا أنه قد أضیف إلیها فى القرون الأخیرة تقلید جدید هو أخذ الفأل من دیوان حافظ الشیرازى كما ذكرنا، وهو تقلید متبع فى أعیاد أخرى كذلك، ولأخذ الفأل لابد من الإخلاص فى النیة أولاً، وقراءة سورة الفاتحة مرة وسورة الإخلاص ثلاث مرات، والصلاة على النبى ثلاث مرات، وبعد ذلك یطلب الإنسان الفأل، ویفتح الدیوان على إحدى غزلیات حافظ، وفیها تكون الإجابة عما یرغب فى التنبؤ له. وقد یقرأ المجتمعون أحیانا فى شاهنامة الشاعر الفردوسى لتمضیة الوقت، وعادة ما یقوم أكبر الموجودین سنا وأكثرهم إجادة لقراءة أشعار حافظ أو الفردوسى بهذه المهمة.
هذه فكرة موجزة عن عید من أعیاد الإیرانیین القومیة كانوا یحتفلون به قدیما، ومازال الناس یحتفلون به حتى یومنا هذا كنوع من الإرتباط بالماضى، وتعلق بالقومیة الإیرانیة وبالتراث الشعبى الذى ورثوه عن أسلافهم.
المراجع:
- الآثار الباقیة عن القرون الخالیة - ابو الریحان البیرونى - طبعة زاخائو.
- إیران فى عهد الساسانیین - آرثر كریستنسن - ترجمة یحیى الخشاب - القاهرة 1957م.
- برهان قاطع - محمد حسین بن خلف تبریزى - باهتمام دكتر محمد معیـن - تهران 1342.
- فرهنگ فارسى - دكتر محمد معین - تهران 1992 م.
لغت نامه دهخدا.
WWW.DADASHREZA.MIHANBLOG.COM
WWW.FARHANGSARA.COM
WWW.VCN.BC.CA/OSHIHAN
- محاضرتان للدكتور فریدون جنیدى والدكتور میر جلال الدین كزازى حول "شب یلدا".