ابزار وبمستر

استلهام قصة یوسف فی الشعر العربی / داود سلمان الشویلی

استلهام قصة یوسف فی الشعر العربی / داود سلمان الشویلی

"عادة ننطلق
من العقل
أما باتجاه الجنون
أو باتجاه الأسطورة
أی تعدد المعانی
لهذا السبب
نحتاج لأن نتذكر
أنما یتجدد
الوضوح".
فی هذه القصیدة یحتفی الشاعر هاشم معتوق بدور العقل الذی یتجه باتجاهین لا ثالث لهما، عندما یرید أن یعمل، اما باتجاه الجنون، حیث یفقد اتصاله بالواقع المعاش، ویفتح أمامنا باب اللامعقول، أو أن یأخذ طریقا آخر، وهو طریق المخیلة التی تصور له الأسطورة بناء سویا له معان عدیدة یجب اتخاذ احدهما اسلوبا وطریقا فی الحیاة، وهو كذلك یفتح طریق اللامعقول أیضا، ونحن هنا فی هذه السطور سنفحص هذا العقل فی اتجاهه نحو الاسطورة.
وتستدعی هذه السطور الى ذاكرة المتلقی العراقی والعربی أیضا، أحوال شعب العراق "والشعب العربی" والمآسی التی وقعت علیه منذ الحصار الظالم عام 1991 وحتى یوم كتابة كل قصیدة من هذه القصائد بعد عام 2003 - تستدعی - قصة/ اسطورة یوسف "التوراتیة والقرآنیة"، وما حدث لیوسف جراء موقف اخوته منه كأساس لمواقف أخرى.
والذاكرة الانسانیة هی الأخرى تستدعی هذه القصة/ الاسطورة فی تجلیاتها العدیدة التی صیغت بها، عندما تحدث امور غیر صحیحة بین الأخوة والأشقاء، وحتى الأصدقاء، لیس فقط العلاقة العدائیة، وانما یستدعیها الحسد الواقع بینهما، ویستدعیها كذلك وصول هذا الابن الى درجات علیا من الرقی، فیما اخوته ینزلون الى الحضیض، وتستدعیها الخیانة الزوجیة، والوقوع فی عشق الآخر، والتآمر علیه.
هذه الموضوعات التی ناقشتها فی كتابی "تجلیات الاسطورة - قصة یوسف بین النص الاسطوری والنص الدینی"، ما زالت عامرة بین الناس، تدور بینهم حیث توجد علاقات اجتماعیة تربطهم، مهما كان نوعها، تفضی فی الكثیر من الاحیان الى مثل هذه الأمور.
هنا معادلة غیر سویة فی أحد طرفیها شخص قد انصفته القصة/ الأسطورة، وفی الطرف الثانی هناك الساعون وراء الحظوة والمجد الزائف، یحوكون المؤامرات الواحدة تلو الأخرى، أن كانوا أفرادا أو جماعات، علهم یستطیعون الایقاع به.
فی هذا الجزء "الجزء الثالث" من دراستی عن تأثیر قصة/ اسطورة یوسف فی الشعر الحدیث، سندرس بعض القصائد التی تأثرت ، أو اعتمدت، أو حاكت، أو تناصت تناصا سیاقیا أو مرجعیا، مع هذه القصة/ الأسطورة، لنقف على مدى استفادة الشعر من موروثنا الدینی والاجتماعی والثقافی بتجلیاته العدیدة، ان كانت على شكل قصة، أو أسطورة، وحتى الشعر.
فی قصیدة "أنا یوسف یا أبی للشاعر محمود درویش، یشكو فیها اخوته أمام أبیه، لأنهم لا یریدونه، وهم یعتدون علیه، وفوق ذلك یحاولون قتله لكی یمدحونه كذبا بعد أن یموت.
"أَنا یُوسفٌ یَا أَبِی .
یَا أَبِی إِخْوَتِی لاَ یُحِبُّونَنی , لاَ یُرِیدُونَنی بَیْنَهُم یَا أَبِی .
یَعْتَدُونَ عَلَیَّ وَیَرْمُونَنی بِالحَصَى وَالكَلاَمِ .
یُرِدُونَنی أَنْ أَمُوت لِكَیْ یمْدَحُونِی .
وَهُمْ أَوْصَدُوا بَاب َبَیْتِكَ دُونِی .
وَهُمْ طَرَدُونِی مِنَ الَحَقْلِ.
هُمْ سَمَّمُوا عِنَبِی یَا أَبِی .
وَهُمْ حَطَّمُوا لُعَبِی یَا أَبِی .
حَینَ مَرَّ النَّسیِمُ وَلاَعَبَ شَعْرِیَ غَارُوا وَثَارُوا عَلَیَّ وَثَارُوا عَلَیْكَ .
فَمَاذَا صَنَعْتُ لَهُمْ یَا أَبِی؟
الفَرَاشَاتُ حَطَّتْ عَلَى كَتْفَیَّ, وَمَالَتْ عَلَیَّ السَّنَابِلُ, وَ الطَّیْرُ حَطَّتْ على راحتیَّ .
فَمَاذَا فَعَلْتُ أَنَا یَا أَبِی؟
وَلِمَاذَا أَنَا ؟
أَنْتْ سَمَّیْتَِنی یُوسُفاً , وَهُوُ أَوْقَعُونِیَ فِی الجُبِّ , وَاتَّهَمُوا الذِّئْبَ ؛ وَ الذِّئْبُ أَرْحَمُ مِنْ إِخْوَتِی ...
أَبَتِ !
هَلْ جَنَیْتُ عَلَى أَحَدٍ عِنْدَمَا قُلْتُ إِنِّی :
رَأَیْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً , والشَّمْس والقَمَرَ ,
رَأّیْتُهُم لِی سَاجِدِینْ"؟
والشاعر فی قصیدته هذه یشكو العرب عامة لموقفهم المخزی الجبان تجاه فلسطین أولا، واتجاه القضایا العربیة المصیریة، إذ انهم عملوا كل شیء فی سبیل موته ،موت القضیة الفلسطینیة، والقضایا العربیة المصیریة ، حیث رموه فی الجب، واتهموا الذئب بدمه كذبا، وهو یعرف - كما نحن - ان الذئب أرحم من هؤلاء الاخوة ،لانهم یعرفون جیدا ان ما رآه یوسف فی الحلم سیكون واقعا، الا انهم رموه فی الجب واتهموا الذئب واقفلوا القضیة، لكی لا یصل یوسف الى ما حلم به.
"هَلْ جَنَیْتُ عَلَى أَحَدٍ عِنْدَمَا قُلْتُ إِنِّی :
رَأَیْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً , والشَّمْس والقَمَرَ ,
رَأّیْتُهُم لِی سَاجِدِینْ"؟
فی قصیدة الشاعر بلال المصری "لبنانی الجنسیة"، صاحب دیوان "تصاعد الیاسمین كالرصاص"، "لست یوسف یا أبی" یقول فیها :"لست یوسف یا أبی
لا أخوة لی
أنا وحید ..
لا أحد یدفعنی للجب
لا ذئب لیأكلنی
كل الوقت أسجد لمن أحبهم
عاریاً فماذا تقد الجمیلة لأتعفف؟
لست یوسف یا أبی
أنا قبیح ..
لا أعرف شیئاً عن الأحلام
لست یوسف
لا أخوة لی".
وعبر تناص خفی مع قصة یوسف، ینكر بطل القصیدة أن یكون هو یوسف نفسه، أو أن یكون له اخوة كما كان یوسف، وینكر كل ما عمله الأخوة بیوسف، وذلك لإبعاده عن المؤامرات التی حیكت ضده، والانكار هذا هو اثبات وجود من نوع خاص، لأنه ورد بسبب الخوف من الاخر الذی یدبر له المؤامرات.
وفی نص "عدنان طعمة" الذی یقول فیه:
"أینما یممت وجهی ثمة "إخوة یوسف"
ما جدوى أن ترى اللسان حدائق والرؤوس رصاصا
تسورت قبب الخطیئة فی الدماء كالمبغى
الآن نزل القتلى من أبط سماحته
والثواب مزورا
أنفاسك هناك.. هناك
متى تأتی لتحرسنی .......".
لا نلتقی بالقصة/ الأسطورة، وانما نجد ثیمة الأخوة فی البیت الأول، حیث اختفى الشاعر وراءها وراح یحرك النص بعیدا عنها الا انه قریب منها ، بل هو فی داخل الثیمة، وهی - أی ثیمة اخوة یوسف - ترمز الى الكذب الذی توارت وراءه تفاصیل ذلك.
وعندما نقص على اطفالنا حكایات عن الغول، ونخیفهم بها، فهذا لیس معناه اننا نریدهم ان یخافوا ویناموا، بل هناك ما هو أكبر من ذلك، اننا نریدهم أن یخافوا من شیء مجهول، لكی نمرر علیهم صفقة كبیرة، هی بیع العراق.
فی قصیدة زینب الكنانی "لأنك ... وحدك وطنی" تخبرنا عن ذلك فتقول:
"لكنهم..
صاروا إخوة یوسف
وباعوهُ… لبئر الظلام..
وقصوا… لأطفالهم..
حكایات..عن غول
العراق…
الذی أشبع… .جوعهم…
ألا لعنة الله على الظالمین…".
وهكذا قص الأهل حكایة الغول كی تمر علیهم حكایة یوسف واخوته مرور الكرام، فیما هم باعوا كل شیء، حتى العراق.
واخوة یوسف اسم شاع استعماله هذه الایام بین الناس، ان كان ذلك على برامج التواصل الاجتماعی "الفیس بوك"، أو بین الناس فی الحدیث الیومی العادی .
ودموع اخوة یوسف عندما عادوا لأبیهم وفی یدهم قمیص یوسف الملطخ بدم كذب، هذه الدموع أصبحت مثلا تلوكه الألسن، انها كدموع اخوة یوسف ، دموع كذب كدموع التماسیح، وهذا ما یشیر الیه الشاعر "أمل دنقل" فی قصیدته "مقتل القمر" التی یحكی حكایة قتل الأب/ القمر، التی یجمع فیها بخفاء اسطورة اودیب واسطورة یوسف، فیقول:
"یا أبناء قریتنا أبوكم مات
قد قتلته أبناء المدینة
ذرفوا علیه دموع أخوة یوسف
وتفرَّقوا
تركوه فوق شوارع الإسفلت والدم والضغینة
یا أخوتی: هذا أبوكم مات"!
كیف یتیه یوسف القصة أو الاسطورة وقد وجد ضالته فاصبح كبیر الشأن بعد أن أراد اخوته أن یقتلوه؟
الشاعر ناجح خلیل یخاطب یوسف فی قصیدة "التائه یوسف" التی نقرأ فیها تاریخ یوسف منذ صباه، بأن علیه:
"وإصعد یا یوسف
حاول أن تصعد
فالجبُ عمیق
وجدارُ اللحظة
أملسْ".
اذ علیه ان یصنع من كل المؤامرات التی حیكت ضدة حبلا لصعوده من البئر الذی رماه فیه اخوته لكی یظلّ نسیا منسیا.
"اصنع من هذا یا یوسف
انسج من لحمك
من نفسك أنت
حبلا لصعودك".
القصیدة صرخة تحث یوسف " = الشعب العربی "، على نسیان مأساته، والانبعاث كطائر العنقاء من جدید والخروج من محنته " = البئر ) التی اسقطه فیها اخوته .
فی قصیدة "أغنیة فی بئر" ینقلنا الشاعر سلمان داود محمد الى عالم الحب الجمیل، حیث البراءة التی تتجلى من الطرف الثانی للعلاقة، طرف الفتاة، فتصف القصیدة هذه البراءة كبراءة الذئب فی قصة یوسف، أما هو، الطرف الاول فی تلك العلاقة ، فما زال متهما من قبل الاخرین بحبه هذا:
"أنتِ بریئة
مثل ذئب یسكن فی المصاحف
والبرهان إمضاء دمعتكِ الكحلیة
على بیاض قمیصی ذات وداع ...
غیر أنی كلما أرى وجهی فی مرآتك
یتهمنی أخوتی والغرباء
وحرّاس زلیخة الباحثة بلا كسل
عن مواطن حزین إسمه
یوسف ....".
كانت هذه الدراسة استقصاء لبعض الشعر العربی الحدیث الذی استخدم قصة/ اسطورة یوسف القرآنیة/ التوراتیة، حیث تعرفنا عن قرب على كیفیة الاستخدام من حیث كذب الادعاء من تهمة افتراس الذئب لیوسف فاصبح عند ذلك مثلا سار بین الناس، ومن حیث اخوة یوسف الذین اكلهم الحسد منه، فتآمروا علیه لیتخلصوا منه ،ومن حیث القمیص الذی جاؤوا به لابیه وهو ملطخ بدم كذب، ومن حیث زلیخة وعشقها له وهیامها به.

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در یکشنبه ۲۸ تیر ۱۳۹۴و ساعت 9:20|