التكرار فی الشعر الحر:
لم تكن ظاهرة التكرار حكرا على الشعر الحر، فقد وجدت هذه الظاهرة فی الشعر العربی القدیم ، ولعل أوضح الأمثلة على ذلك قصیدة الحارث بن عباد " قربا مربط النعامة منی ..." التی قالها بعد مقتل ولده()، وقصیدة عمر بن كلثوم فی قوله:" بأی مشیئة عمرو بن هند ..."()،ووجد التكرار كذلك فی القرآن الكریم ، فی سورة الرحمن() ، وسورة الشعراء ، وسورة المرسلات ، وغیرها ، وتستحق ظاهرة التكرار فی النص القرآنی وقفة متأنیة لبیان وجوه الإعجاز فیها ، والدلالات التی تؤدیها.
وجاء الشعر الحر لیبعث فی ظاهرة التكرار بعدا جدیداً، إذ لم تكن هذه الظاهرة مجرد تردید لمجموعة من الألفاظ والجمل الخالیة من المعانی ، وقد تحدثت نازك الملائكة فی كتابها" قضایا الشعر المعاصر" عن هذه الظاهرة ، وعرضت أنواعا من التكرار، ومن ذلك : تكرار اللفظ ، وتكرار الجملة ، أو بیت شعر ، أو مقطع ، وتكرار الحرف ، وقد جمعت كل أنواع التكرار السابقة فی ثلاثة أقسام حسب الوظیفة التی تؤدیها فی السیاق الشعری، وهذه الأقسام هی:
1. التكرار البیانی : وهو التكرار الذی یلجا إلى التأكید على الكلمة المكررة أو العبارة().
2. تكرار التقسیم: وهو تكرار كلمة أو عبارة فی ختام كل مقطوعة من القصیدة(.
3. التكرار اللاشعوری: وتعرف نازك الملائكة هذا النوع من التكرار بقولها:" التكرار الذی یجیء فی سیاق شعری كثیف یبلغ أحیانا درجة المأساة ، ومن ثّمّ فإن العبارة المكررة تؤدی إلى رفع مستوى الشعور فی القصیدة إلى درجة غیر عادیة.
وتضیف الشاعرة لتوضیح هذا النوع " ویغلب أن تكون العبارة مقتطفة من كلام سمعه الشاعر فوجد فیه تعلیقا مریرا على حالة حاضرة تؤلمه أو إشارة إلى حادث مثیر یصحّی حزنا قدیما أو ندما نائما أو سخریة موجعة"(
وتبین الشاعرة أن التكرار یحكمه قانونان لا بد من مراعاتهما معا عند توظیفه فی النص الشعری، وهما:
1. التكرار إلحاح على جهة مهمة فی العبارة یعنى بها الشاعر أكثر من غیرها وبالتالی فإن التكرار یأخذ بعدا نفسیا ، له علاقة بنفسیة الكاتب
2. إن التكرار یخضع للقوانین الخفیة التی تتحكم فی العبارة ، وهو قانون التوازن ، ففی كل عبارة طبیعیة نوع من التوازن الدقیق الخفی الذی ینبغی أن یحافظ علیه الشاعر فی الحالات كلها(.
وتوضح نازك الملائكة فی ختام دراستها لظاهرة التكرار فی الشعر " إنما هو كسائر الأسالیب فی كونه یحتاج إلى أن یجیء فی مكانه من القصیدة، وإن تلمسه ید الشاعر تلك اللمسة السحریة التی تبعث الحیاة فی الكلمات".
وأشیر فیما یلی إلى بعض مواطن التكرار فی شعر الشعراء الحداثیین ، من ذلك قصیدة " حوار " للشاعر صلاح عبد الصبور ، فقد كرر " أأنت من سكان هذه المدینة!" فی قصیدته هذه ست مرات ،مكتفیا فی مرتین منها بتكرار مفتتح السؤال "أأنت..." مع وضع إشارة الحذف(. وقد وظف نزار قیانی التكرار فی قصائده، ومن هذه القصائد قصیدة" الحزن" ، حیث جعل جملة " علمنی حبك" مفتَتحا لكل مقطع(، أما الشاعر بدر شاكر السیاب فقد اعتمد فنیا ومعنویا على التكرار فی قصیدته " مطر" ، فقد تكررت كلمة مطر بتراتبیة( معینة ، تخدم السیاق والمعنى ، وقد بلغ عدد المكررة فیها كلمة مطر(26) مرة.
ومن الظواهر اللافتة للنظر فی شعر محمود درویش التكرار ، فقد وظفه فی كل مستویاته ، بدءا من تكرار الحرف ، وانتهاء بتكرار الجملة ، ویمكن أن یقدم المرء مثالا لظاهرة التكرار فی شعره قصیدته"أنا آت إلى ظل عینیك آت"، فقد كرر الجملة الافتتاحیة " أنا آت إلى ظل عینیك آت" ست مرات فی تضاعیف القصیدة ، ولیس هذا وحسب ، بل إن فی القصیدة نوعا من تكرار الضمائر (أنتِ) والضمیر (أنا) ولفظ (آتٍ) ،فی القصیدة فی مواضع غیر الجملة الافتتاحیة، وكرر كذلك الأفعال ، وتكرار جــملة " مــا الــذی" مع الفعل المضارع ، وكرر كذلك الفعل الماضی " فروا" ، والفعل الماضی " باع".
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ آذر ۱۳۹۴و ساعت 11:32|