ابزار وبمستر

حجاجیة التّكرار فی صنع الخطاب السّیاسی فی أشعار أحمد مطر

حجاجیة التّكرار فی صنع الخطاب السّیاسی فی أشعار أحمد مطر


یعود مصطلح تحلیل الخطاب إلى عدّة مفاهیم، تشمل مجالات واسعة ومتباینة، بالإضافة إلى أنّه حاز على اهتمام العدید من النّقاد، وصار"محور التقاء دراسات مختلفة، مثل اللّسانیات الاجتماعیة، واللّسانیات النّفسیة، واللّسانیات الفلسفیة واللّسانیات الإحصائیة"[1]، كما یوضح محمود عكاشة.
یؤكد خلیفة بوجادی أن تحلیل الخطاب له استعمالات عدیدة، تغطی مجالات مختلفة من الأنشطة الإنسانیة، وهذه الأنشطة هی نقاط تماس بین علم اللّغة الاجتماعی الذی یهتم ببیئة التفاعل الاجتماعی، وعلم اللّغة النّفسی الذی یركز على قضایا اللّغة والإدراك، وعلم اللّغة الفلسفی الذی یهتم بالعلاقات الدّلالیة القائمة بین وحدات الكلام، وعلم اللّغة الإحصائی[2] الذی یبحث فی الجانب اللّغوی عن طریق عملیات إحصائیة بغیة الوصول إلى جوانب عدیدة فی المعنى.

یختلف تحلیل الخطاب الأدبی عن الخطاب السیاسی الذی یكتسی حلّة أخرى، بحیث یعبر عن مقصدیة موجهة إلى متلقی معین وهذا للتأثیر فیه "وإقناعه بمضمون الخطاب ویتضمن المضمون أفكارا سیاسیة، أو یكون موضوع هذا الخطاب سیاسیا، یهتم بالأفكار أو المضامین، ولهذا نجد المادة اللّفظیة قلیلة فی حین یتسع المعنى الدّلالی لتلك الألفاظ، فالمرسل یعتنی بالفكرة التی هی مقصده أكثر من عنایته بالألفاظ فالفكرة فی الخطاب السیاسی هی الأساس"، كما یشرح محمود عكاشة[3].

یشترك فی تلقی الخطاب المرسل الذی هو الأداة الأولى فی العملیة الخطابیة، والتی لها دور فعّال فی عملیة التأثیر، وتؤثر ثقافته ووسائله الإقناعیة على المرسل إلیه أو المتلقی الذی هو المستمع أو المقصود المباشر، وتعتبر هذه الوسائل الرّكیزة الأساسیة فی العملیة كلّها وهی بمثابة عملیة حجاجیة للمتلقی.

الوسائل الإقناعیة:

یرى محمود عكاشة أن الوسائل الإقناعیة هی بمثابة الوسیط بین المرسل والمرسل إلیه وتتمثل فی "الأدلة والبراهین والأسالیب التی یستعین بها المرسل لإقناع جمهور المتلقین. وتنقسم إلى نوعین: أدلة خارجیة (خارج الخطاب والعالم الخارجی)، وأدلة داخل الخطاب (اللّغة والأسلوب وترتیب الأفكار، وإجراء الخطاب)"[4].

وأحاول أدناه تذلیل ذلك عبر مثال تطبیقی من أشعار أحمد مطر، وهو قصیدة یقول فیها:

غلاف دیوان أحمد مطر زارَ الرّئیسُ المؤتَمَـنْ

بعضَ ولایاتِ الوَطـنْ

وحینَ زارَ حَیَّنا

قالَ لنا :

هاتوا شكاواكـم بصِـدقٍ فی العَلَـنْ

ولا تَخافـوا أَحَـداً..

فقَـدْ مضى ذاكَ الزّمَـنْ.

فقالَ صاحِـبی (حَسَـن):

یا سیّـدی

أینَ الرّغیفُ والَلّبَـنْ؟

وأینَ تأمینُ السّكَـنْ؟

وأیـنَ توفیرُ المِهَـنْ؟

وأینَ مَـنْ

یُوفّـرُ الدّواءَ للفقیرِ دونمـا ثَمَـنْ؟

یا سـیّدی

لـمْ نَـرَ مِن ذلكَ شیئاً أبداً.

قالَ الرئیسُ فی حَـزَنْ :

أحْـرَقَ ربّـی جَسَـدی

أَكُـلُّ هذا حاصِـلٌ فی بَلَـدی؟!

شُكراً على صِـدْقِكَ فی تنبیهِنا یا وَلَـدی

سـوفَ ترى الخیرَ غَـداً.

**

وَبَعـْـدَ عـامٍ زارَنـا

ومَـرّةً ثانیَـةً قالَ لنا :

هاتـوا شكاواكُـمْ بِصـدْقٍ فی العَلَـنْ

ولا تَخافـوا أحَـداً

فقـد مَضى ذاكَ الزّمَـنْ.

لم یَشتكِ النّاسُ!

فقُمتُ مُعْلِنـاً:

أینَ الرّغیفُ واللّبَـنْ؟

وأینَ تأمینُ السّكَـنْ؟

وأینَ توفیـرُ المِهَـنْ؟

وأینَ مَـنْ

یوفِّـر الدّواءَ للفقیرِ دونمَا ثمَنْ؟

مَعْـذِرَةً یا سیّـدی

.. وَأیـنَ صاحـبی (حَسَـنْ )؟![5]

الأدلة الخارجیة

منطقة التنومة العراقیة كانت میلاد للشّاعر أحمد مطر، الشاعر الإعلامی السّیاسی العربی، الذی شكلت له السّلطة هاجسا فی كل أشعاره، فصورها فی سیاسة الحاكم المراوغ الذی یكون هدفه الأساسی التوجیه الإقناعی للمتلقی ووضع سلوكه الاجتماعی فی سلة السلطة. والقصیدة التی بین أیدینا مقطوعة من نص "مفقودات" من الدیوان الثانی فی سلسلة "لافتات أحمد مطر" (ص 18، 19، 20، 21).

نجد فی هذه القصیدة تفاعل لغة الخطاب مع العالم الخارجی، وذلك باستخدام محددات زمنیة تربط زمن الخطاب بزمن خارجی معین نجد منها (زار، مضى، بعد عام). وكأن الشاعر یرید أن یعد تقریرا حول زیارة هذا الرّئیس الذی یمثل السّلطة الحاكمة.

الأدلة الدّاخلیة:

الشاعر أحمد مطراستعان أحمد مطر بوسائل لغویة حجاجیة لتدعیم خطابه السیاسی وللتأكید أیضا على رسالته للشّعب والحاكم، استخدم لغة یهضمها الشعب. وقد أكدّ محمود عكاشة على ضرورة "وضوح الرّسالة لأن الوظیفة التی ستقوم بها هی إبلاغیة إفهامیة، وأن اللّغة المشتركة بین المتلقی والمرسل لابد أن تكون بسیطة"[6]، وقد استخدم المرسل، أحمد مطر، فی قصیدته لغة مفهومة لا تحتاج معجما، ولا تشكل غموضا على المتلقی.

وعمد الشاعر فی القصیدة إلى التكرار فی اللّفظ والذی غطى كل القصیدة خاصة فی تكرر الفعل زار ثلاث مرات، كما تكررت جمل الحاكم وتمثلت فی هاتوا شكاویكم بصدق فی العلن، ولا تخافوا أحدا فقد مضى ذاك الزّمن مرتین، والأسئلة التی جاءت على لسان بعض المتلقین وتمثلت فی "أین الرّغیف واللّبن؟" مرتین، و"أین تأمین السّكن؟" مرتین، و"أین توفیر المهن؟" مرتین، و"أین من یوفر الدّواء للفقیر دونما ثمن؟" مرتین، وتكرار اسم العلم حسن مرتین، وما یمكن ملاحظته أن استعمال النّمط الحجاجی الذی سجل فی عملیة تكرار الاستفهام التقریری قد سیطر على القصیدة.

و قد عرف ابن منظور الاستفهام بقوله "الفهم: معرفتك الشیء بالقلب. وفهمت الشیء: عقلته وعرفته، وفهمت فلانا وأفهمته. وتفهم الكلام: فهمه شیئا بعد شیء. واستفهمته: سألته ان یفهمه، واستفهمنی الشیء، فأفهمته وفهمته تفهیما"[7]، فالاستفهام من الأسالیب الإنشائیة الطلبیة وله عدة وظائف منها الوظیفة الحجاجیة.

والاستفهام نوعان وهو ما جاء على لسان ابن فارس حین یقول "الأول قائم على الأصل اللّغوی، وهو الاستفهام الحقیقی والذی یكون ظاهره موافقا لباطنه كسؤالنا عما لا نعلمه فنقول ما عندك؟ ومن رأیت؟ والثانی هو المجازی، وأشار إلى خروجه عن الأصل اللّغوی إلى معانی مجازیة"[8].

و ما یمكن ملاحظته أن التّكرار المسجل فی القصیدة جاء لتقریر خطاب سیاسی مقنع تحت لواء الألفاظ یریده الشاعر أحمد مطر ویهدف إلى إیصاله.

ونجد الشّاعر قد عمد إلى التكرار المعجمی نفسه تأكیدا على حجم المصیبة، فكما یشرح لأنّه محمود عكاشة، فإن التكرار "من أكثّر الأدوات البلاغیة استخداما فی الخطاب العربی على الإطلاق لما له من تأثیر على مشاعر المتلقی العربی الذی یتذوق المعنى ویتفاعل مع المرسل من خلال الأسالیب التی استخدمها فی الخطاب فی التواصل معه وقدرته على استخدامها، وقد لاحظت باربا جونستن أنّ الخطاب الإقناعی العربی تكراری، وتوصلت من خلال البحث إلى أن التّكرار فی العربیة الآلیة الأشیع والأقوى فی الإقناع سواء أكان تكرارا بنائیا أم تكرار مستویات"[9]. ویرى مازن الوعر أیضا "أن صفة التّكرار على مستوى الشّكل اللّغوی وعلى مستوى الدّلالة اللّغویة تجعل الخطاب أكثر دینامیكیة وحیویة وتفاعلا"[10].

كما عرف ابن منظور التكرار على النحو التالی:

الكر: الرجوع. یقال كره وكر بنفسه.

والكر مصدر كر علیه یكر وكرورا.

وتكرارا: عطف علیه وكر عنه: رجع.

وكرر الشیء وكركره: إعادة مرة أخرى [11].

وقال ابن أثیر: "اعلم أن هذا النوع من مقاتل علم البیان وهو دقیق المآخذ وحدّه: هو دلالة اللّفظ على المعنى مرددّا وربما اشتبه على أكثر الناس بالإطناب مرة وبالتطویل أخرى"[12].

وتحدث الجاحظ هو الآخر مبیّنًا الفائدة منه قائلا: "إن الناس لو استغنوا عن التكریر ( التكرار) وكفوا مئونة البحث والتنقیر لقلّ اعتبارهم. ومن قلّ اعتباره قلّ علمه، ومن قلّ علمه قلّ فضله، ومن قلّ فضله كثُر نقصه، ومن قلّ علمه وفضله وكثُر نقصه لم یُحمد على خیر أتاه، ولم یُذمّ على شرّ جناه، ولم یجد طعم العزّ، ولا سرور الظفر، ولا روح الرجاء، ولا برد الیقین ولا راحة الأمن [13].

كما روى صاحب التاج فی مادة كرر: "كَرَّ علیه یَكُرّ كَراًّ وكُروراً كقُعود وتَكْراراً بالفتح: عَطَفَ. وكَرَّ عنه: رَجَعَ فهو كَرَّارٌ ومِكَرٌّ بكسر المیم یُقال فی الرَّجل والفرَس. وكَرَّرَه تَكْرِیراً وتَكْرَاراً. قال أبو سعید الضَّریر: قلتُ لأبی عمرو: ما بین تَفْعَال وتِفْعال؟ فقال : تِفْعال اسمٌ وتَفْعَالٌ بالفتح مَصْدَر وتَكِرَّةً كتَحِلَّةٍ وتَسِرَّة وتَضِرَّة وتَدِرَّة قاله ابن بُزُرْج. وَكَرْكَرَه: أعاده مرَّةً بعد أخرى. قال شیخُنا: معنى كرَّرَ الشیءَ أی كرَّرَه فِعْلاً كان أو قولاً. وتفسیرُه فی كتبِ المَعانی بذِكْر الشیءِ مرَّةً بعد أُخرى اصطِلاحٌ منهم لا لُغة قاله عصامٌ فی شرحِ القصارى انتهى. قلتُ: وقال السُّیوطیُّ فی بعضِ أَجْوِبته: إنَّ التَّكْرار هو التَّجْدیدُ للَّفْظِ الأوَّل ویُفید ضَرْبَاً من التأكید [14].

ویبرز الزّمخشری القیمة الفنیّة والمعنویة فی ظاهرة التّكرار "بأنها استدعاء مهم لتجدید الاستبصار عند كل خطاب وارد، وطریقة الإنصات لكل حكم نازل، وتحریك منهم لئلا یفتروا أو یغفلوا عن تأملهم وما أخذوا به"[15]. وأما فی الاصطلاح، فالمقصود به: تكرار كلمة أو لفظ أكثر من مرة فی سیاق واحد لنكتة ما، وذلك إما للتوكید، أو لزیادة التنبیه أو للتهویل، أو للتعظیم [16]، وتبقى صیغة التكرار ضربا من التأكید حتى أننا نجد أن "دوران الأفلاك وظهور النجوم والكواكب واختفائها"[17] لآیة وحجة یقینیة للبشر.

كثف أحمد مطر التّكرار فی القصیدة التی بین أیدینا الممزوج بالاستفهام فی عملیة الإقناع للتأثیر على المتلقی، ولبعث الحركة وإزالة الرتابة.

إذن سیاسة هذا الحاكم هی المراوغة والتی هی طریقة لسبر آراء الشّعب واستدراجه لفض مكبوتاته وتهیئة طریق الأمان له، ونجد ذلك فی قوله (هاتوا شكاویكم بصدق فی العلن، ولا تخافوا أحدا فقد مضى ذاك الزّمن)، والنّتیجة أن الشّخص الذی كانت له الجرأة للكلام هو حسن، ویقصد من وراء ذلك الشاعر أحمد مطر، ما حسنت أخلاقه وأفعاله والذی كان أحسن ممن تجمعوا وقد سیطر علیهم الصمت، كان مصیره الموت، وكان بمثابة رسالة لهذا الشّعب وكبش محرقة لمن تسول له نفسه تكرار السّؤال أین، وهو من الأسالیب الطلبیة الإنشائیة التی یستخدمها المرسل لغرض إقناعی حجاجی. وقد عمد إلیه للتأكید على الحالة المزریة التی یعیشها هذا الشعب تحت واقع مرٍّ تغیب فیه أدنى ضروریات الحیاة.

نسق أحمد مطر باستخدامه صیغة التكرار فی عملیة طرح قضیة الشّعب التی تلخصت فی قمع وجبروت الحاكم، فقد بدأ الخطاب بمقدمة فتح بها فكرته التی تلخصت فی تلاعب هذا الحاكم المؤتمن وجسه لنبض الشّعب واستدراجهم للكلام، وهنا نعود إلى مقولة وزیر الدّعایة والإعلام فی عهد هتلر أنّه كلّما شعر بوجود مثقف تحسس مسدسه، فحسن الذی تكلم فی الشّطر الأوّل هو مفقود فی الشّطر الثانی. كما استخدم أحمد مطر رابط الوصل المكرر فی عملیة الاستفهام وهذا لتأكید القضیة وسرد كیف كان هذا الحاكم یتلاعب ویتراوغ مع أفراد مجتمعه ویستدرجهم للكلام.

هی عملیة حجاجیة بتوظیف التكرار استخدمها الشاعر للوصول إلى ما یریده وخاصة إذا طبقنا نظریة الحجاج لدى بیرلمان والتی حددها فی خمسة ملامح رئیسیة: (1) أن یتوجه إلى مستمع. (2) أن یعبّر عنه بلغة طبیعیَّة. (3) مسلماته لا تعدو وأن تكون احتمالیة. (4) لا یفتقر تقدمه تنامیه إلى ضرورة منطقیة بمعنى الكلمة. (5) لیست نتائجه ملزمة.

أشعار الإعلامی أحمد مطر لم تكن إلا سبرا لآراء بعض الشّعوب العربیة، فبدلا من أخذها بعین الاعتبار، قام الحكام بملاحقة فرد أوصل الرّسالة، جاء بما سمعه وعاینه، ونجده یتحدث عن ذلك قائلا فی قصیدته التّهمة:
كنتُ أسیرُ مفـرداً

أحمِـلُ أفكـاری معـی

وَمَنطِقی وَمَسْمعی

فازدَحَمـتْ

مِن حَوْلیَ الوجـوه

قالَ لَهمْ زَعیمُهم: خُـذوه

سألتُهُـمْ: ما تُهمتی؟

فَقیلَ لی:

تَجَمُّعٌ مشبــوه"[18]

یستخدم أحمد مطر فی هذه المقطوعة الشّعریة لغة حواریة یفترضها المرسل، بحیث نجده یسأل ویجیب وكان ذلك بعد الاستغراق فی الوصف والتصویر على أساس تهیئة السامع وتشویقه واستحضار الأشیاء أمامه، كما وظف لتوثیق الأحداث ولتحقیق التّأثیر المباشر والتّفاعل المستمر مع المتلقی الفعل المضارع (أسیرُ، أحملُ)، وهی أفعال ذات حركة مستمرة ودائمة.

یبقى الحصار الإعلامی دائما یحیط بالمثقف، فبدلا من استنزافه لصالح الدّول، لأنه بمثابة الكاهن الذی یتوقع أمور السیاسة، ویمثل وعی الشعب وكوابته وما یقوله ما هو إلاّ أكبر اقتصاد لغوی لسبر آراء أفراد المجتمع، إلا أنّنا فی واقع الأمر نجد الرّقابة فی مقابل ذلك تشدد علیه الحصار.

وخیر ما یمكن أن نستجیر به فی هذا المقام هو الشاعر البصری العراقی أحمد مطر، الذی كان الكاهن الإعلامی لعدد من المستجدات التی تحدث فی المجتمعات العربیة التی سمیت "الرّبیع العربی"، وهی غیمة سوداء لا بد لها أن تنجلی، لأن العالم العربی الآن كما یقول المثل الشعبی فی الجزائر أراد أن یهرب من الذئب فوقع فی جحره.

وما یجری فی الوقت الرّاهن توقعه شاعرنا. وقد جسده فی وصفه لنهایة الحكام بطریقة بشعة حین قال:
أقــولْ:

الشمسُ لا تـزولْ

بلْ تنحَـنی

لِمحْـوِ لیلٍ آخَـرٍ

.. فی سـاعةِ الأُفـولْ

أقــولْ:

یُبالِـغُ القَیْـظُ بِنفـخِ نـارِهِ

وَتصطَلـی المیـاهُ فی أُوارِهِ

وتكشفُ الهمـومُ عن غیومِها

وتبـدأُ الأمطـارُ بالهُطـولْ

.. فتولـدُ الحقـولْ!

أقــولْ

تُعلِـنُ عن فَراغِهـا

دَمـدَمـةُ الطّبـولْ

والصّمـتُ إذْ یطـولْ

یُنذِرُ بالعواصِفِ الهوجاءِ

والمُحــولْ: رسـولْ

یحمِـلُ وعـدَاً صـادِقاً

بثـورةِ ا لسّیولْ"[19]!

یستعین أحمد مطر بالحجج والبراهین للوصول إلى مستوى الإقناع المنطقی، وذلك قصد التأثیر فی المتلقی، والتی من خلالها یخلق جوا من الإطناب باستخدام تراكیب متوالیة ومتصلة بعضها ببعض حتى یفصل فی شرح فكرته. كما استخدم الشاعر الفعل المضارع بصفة مستمرة وهذا ما یؤكد اهتمامه بعنصر الحدث والزمن والحركة، حیث یؤكد محمد العید أن استخدام الفعل المضارع، هو أقوى تأثیرا، ویقوم باستحضار الأشیاء، ویقنع المتلقی بها، لأنه یمنحها قوة فی حقل عاطفة المستمع ویستبقها فیه، ویجعلها أوثق عرى بمكانها وزمانها[20].

كما استخدم أحمد مطر الرّابط الحجاجی الذی ظهر جلیا فی تكرار رابط الوصل الواو، الذی نجده فی هذه المقطوعة یجمع بین الجمل ویفید اشتراك معانی متعدد فی حكم یرید الوصول إلیه.

أحمد مطر توقع ما یجری ولم یكن یحرض لأنه یمثل الشعب ونتیجة لجرأته "ضرب علیه الحصار بدءا من العراق إلى الكویت إلى منفاه، وثانی هذه الأسباب موقفه البائن، والعلنی المعارض لبعض الأنظمة العربیة المنبطحة التی صار حكامها مجرد سفراء لأمریكا من أوطانها العربیة الشیء"، كم یقول محفوظ كحوال[21].

تحسس أحمد مطر نهایة الحكام العربیة وظهر ذلك فی عدة محطات من أشعاره حین قال:
غیرَ أنّـا مُنـذُ أن نُولَـدَ

نأتـی نَركُضُ

وإلى المَدْفَـنِ نبقى نَركُضُ

وخُطـى الشُّرطَـةِ

مِـنْ خَلْفِ خُطانا تَركُضُ

یُعْـدَمُ المُنتَفِضُ

یُعـدمُ المُعتَرِضُ

یُعـدمُ المُمتَعِضُ

یُعـدَمُ الكاتِبُ والقارئُ

والنّاطِـقُ والسّامِـعُ

والواعظُ والمُتَّعِظُ

حسَناً یا أیُّها الحُكّامُ

لا تَمتعِضـوا

حَسَناً.. أنتُـم ضحایانا.

وَنحـنُ المُجْـرِمُ المُفتَرَضُ!

قد دَعَوْنـا ربَّنـا أنْ تَمرُضـوا

فَتشا فیتُمْ

ومِـنْ رؤیاكُـم اعتـلَّ وماتَ المَرضُ

ودعَونـا أن تموتوا

فإذا بالموتِ من رؤیتِكم مَیْـتٌ

وحتّى قابِضُ الأرواحِ

مِنْ أرواحِكُـمْ مُنقَبِضُ

وهَرَبْنا نحـوَ بیتِ اللهِ منكُمْ

فإذا فی البیتِ.. بیتٌ أبیضُ

وإذا آخِـرُ دعوانـا..سِلاحٌ أبیضُ

هَـدّنا الیأسُ،

وفاتَ الغَرَضُ

لمْ یَعُـدْ مِن أمَـلٍ یُرجى سِواكُـمْ!

أیُّهـا الحُكـامُ باللهِ علیكُـمْ

أقرِضـوا اللهَ لوجـهِ اللهِ

قرضـاً حسَناً

.. وانقَرِضـوا [22]

ظهر التكرار مرة أخرى لتأكید الفاجعة التی تحیط بالشعب، ویؤكد السّیوطی فی حدیثه عن التأكید أن التكرار من الأسالیب المعروفة عند العرب، وأنه من محاسن الفصاحة؛ خلافا لمن غلط.[23]

وفی الختام، وكما یشرح صلاح فضل أصبح "الحِجاج فی رحاب هذا التحوّل مطلباً أساسیاً فی كلِّ عملیّة اتّصالیة تستدعی الإفهام والإقناع. وانطلاقاً من الدور البالغ الذی أصبحت نظریّة الحِجاج تلعبه، أو من المفروض أن تلعبه"[24]، ومن خلاله استطاع أحمد مطر أن یبنی خطابه السیاسی المكبوت تحت لواء الألفاظ.

= = = = =

الهوامش
[1] محمود عكاشة، لغة الخطاب السیاسی، دراسة لغویة تطبیقیة فی ضوء نظریة الاتصال، دار النشر للجامعات، مصر، ط1، 2005، ص 34.

[2] ینظر خلیفة بوجادی، محاضرات فی علم الدلالة مع نصوص وتطبیقات، بیت الحكمة للنشر والتوزیع، ط1 2009، ص 104.

[3] محمود عكاشة، لغة الخطاب السیاسی، دراسة لغویة تطبیقیة فی ضوء نظریة الاتصال، ص 45-46.

[4] المرجع نفسه، ص 109.

[5] محفوظ كحوال، أروع قصائد أحمد مطر، نومیدیا للطباعة والنشر والتوزیع، 2007، ص 11.

[6] محمود عكاشة، لغة الخطاب السیاسی، دراسة لغویة تطبیقیة فی ضوء نظریة الاتصال، ص46.

[7] ابن منظور، لسان العرب، مادة فهم.

[8] أحمد بن فارس، الصاحبی وسنن العرب فی كلامها، تحقیق محمد الشومی، دط، بیروت، 1964، مؤسسة بدران للطباعة والنشر، ص 289.

[9] محمود عكاشة، لغة الخطاب السیاسی، دراسة لغویة تطبیقیة فی ضوء نظریة الاتصال، ص 111.

[10] المرجع نفسه، ص 112، نقلا عن اللّسانیات وتحلیل الخطاب السیاسی، المجلة العربیة للعلوم الإنسانیة، 1997، ص 234.

[11] ابن منظور، لسان العرب، دار المعارف، مجلد 5،حرف الكاف، ص 3851.

[12] ابن أثیر المثل السائر فی أدب الكاتب والشاعر قدمه وعلق علیه احمد الحوفی وبدوی طبانة دار النهضة مصر للنشر والتوزیع الفجالة القاهرة، قسم 4، ص4.

[13] أبو عثمان الجاحظ، رسائل الجاحظ، 3/181.

[14] الجوهری، تاج اللغة وصحاح العربیة، مادة (كرر)، وقاموس المحیط، للفیروزآبادی (مادة كرر).

[15] عز الدین علی السید، الحدیث النبوی من الوجهة البلاغیة، دار الطباعة المحمدیة، الأزهر، القاهرة 1973، ص 265.

[16] ابن معصوم، أنوار الربیع فی أنواع البدیع، 5/34-35.

[17] كتاب سیبویه (تحقیق عبد السلام هارون، عالم الكتب، بیروت)، ص. 83-84.

[18] محفوظ كحوال، أروع قصائد أحمد مطر، ص 23.

[19] المرجع نفسه، ص 286.

[20] محمد العید، بحوث فی الخطاب الإقناعی، توزیع دار الفكر العربی، القاهرة، ط1، 1419، ص 69.

[21] محفوظ كحوال، أروع قصائد أحمد مطر، المرجع نفسه، ص5.

[22] المرجع نفسه ص 284.

[23] جلال الدین السیوطی، الإتقان فی علوم القرآن، دار الكتب العلمیة، بیروت (د. ت) 3/224.

[24] بلاغة الخطاب وعلم النص، صلاح فضل، منشورات عالم المعرفة، الكویت، 1992، ص 67.

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ آذر ۱۳۹۴و ساعت 11:33|