قصه الفراشه و النار »
نصرالله بورجوادي
تعريب عبدالرحمن العلوي
قصه الفراشه و الشمعه، مضمون تكرر استخدامه من قبل شعراء الفارسيه لاسيما منذ ايام سعدي فما بعد، و يعود ظهور هذا التمثيل في الشعر الفارسي الي القرن الرابع الهجري و ان لم يكن شائعاً حتي منتصف القرن الخامس و السبب في ذلك يعود الي ان فهم هؤلاء الشعراء لقصه الفراشه و النار لم يكن فهماً عرفانياً كما هو الحال عند الحلاج و لا فهماً غرامياً هو الحال عند احمد الغزالي
لاشك ان النقاط التي اشار اليها احمد الغزالي تكاد تكون نفس ما اورده الحلاج في «طاسين الفهم»، لكن من الانصاف القول ان لغه تعبير الاول اجمل و ذات ايقاع شعري اقوي من لغه الثاني فضلاً عن محتواها الاضخم. و ما يؤكد علي وجود صله واضحه بين افكار الاثنين و تصوراتهما، هي عباره الغزالي التي اوردها ضمن قصه الفراشه: «أفنيت عمرك في عباره الباطن فأين الفناء في التوحيد؟». و هذه العباره مأخوذه بالنص من الحلاج، و قد قالها في حوار مع ابراهيم الخواص (ت 291هـ) و الفناء في التوحيد عند احمد قد عبّرت عنه الفراشه اروع تعبير من خلال احتراقها بالنار. و حديث الغزالي عن طواف الفراشه حول النار و احتراقها و تحولها الي رماد، رغم انه مقتبس عن قصه الحلاج، غير ان هناك بعض الاختلاف في السردين، و منها انه لم يشر الي الفراشات الاخري التي دعاها الحلاج بـ «الاشكال» و التي كانت بانتظار الفراشه البطله او الرائده. و لم نجد في القصه التي صاغها احمد سوي بطلبين هما الفراشه و النار، احدهما المحب او العاشق و الثاني الحبيب او المعشوق. كما انه لم يستخدم فيها الاصطلاحات التي استخدمها الحلاج مثل العلم، و علم الحقيقه، و لا الحقيقه، و حقيقه الحقيقه، و حق الحقيقه، و استخدم بدلاً منها مفردات ادبيه مجبه الي النفس مثل رائده الاشراق، و هوي الطلب، و طيران العشق، مما اعانه علي أنْ يخلق لقصته مناخاً غرامياً دافئاً اضفي عليها جاذبيه و حلاوه. الاختلاف بين القصتين التي اوردهما الحلاج و احمد الغزالي لا يقتصر علي الاختلاف في التعابير و المفردات، بل هناك اختلاف ايضاً في النمط الفكري لدي كل منهما، و ما هذا التفاوت التعبيري الا ترجمه لما لدي كل منهما من رؤيه فكريه و عرفانيه. فالحلاج و احمد كلاهما صوفيان، غير ان تصوف الغزالي ينضح بالحب و يضرب باوتاده في ارض الحب و الغرام. و لهذا تلمح عين القاريء و منذ الوهله الاولي حديث الغرام في قصه الغزالي التي تتحدث عن الفراشه كعاشقه للنار و هائمه في حبها. و هذا لا يعني ان التصوف الحلاجي لا يعير اهميه لمفهوم الحب، لكن لا يمكن اعتبار تصوفه مذهباً من مذاهبه، في حين يعد التصوف الغزالي تصوفاً او عرفاناً غرامياً. ان الفكره التي سعي الحلاج لبلورتها من خلال قصه الفراشه و النار هي ان الفراشه تعيش في غمار الظلام و الجهل خلال وجودها في العالم المحسوس، اي انها تجهل الحقيقه و لا تملك تصوراً واضحاً عنها نظراً لبعدها عنا لسراج و الضوء. كما ان الضوء الذي يرمز الي العلم ليس سوي المرحله الاولي او الخطوه الاولي في علاقه الانسان بالله تعالي، حيث يلي ذلك النظر الذي هو حقيقه، ثم يعقبه حق الحقيقه. و هذه المراحل التي تحدث عنها الحلاج بلغه عرفانيه، استعرضها احمد الغزالي عن طريق قصه الفراشه بلغه عرفانيه ادبيه تمثيليه، كما اشار اليها ايضاً عبر قصه الجواهر او الدرر المغموره في اعماق الكون، و هي قصه ادبيه عرفانيه اخري. جوهر الحب يؤكد الغزالي دائماً علي ان حقيقه الحب تكمن في ماوراء العلم، و ليس بامكان العقل ان يدركها مادام في البيداء، الا انه يبدأ بالعمل و الاستيعاب حينما يكون عند ساحل البحر. و هذا يعني ان كل ما موجود في صحراء العالم المحسوس لا يخرج عن اطار الوهم و الخيال. و من هذا نفهم لماذا يعتبر الغزالي العلم فراشه الحب، و لماذا يعتبر الفراشه الشعاع الخارجي للنار و الذي عبر عنها في مواضع اخري بالاشراق او طليعه الاشراق. و لو اردنا ان نطبق الادراك علي تمثيل البحر و الغواص او الفراشه و النار، فلابد ان نقول بان الموضع الذي كانت فيه الفرشات التي تحدث عنها الحلاج قبل رؤيتها للنار هو ما يساوي «صحراء الوهم» عند الغزالي. في حين يرمز ضوء النار او الاشراق الي العلم، بينما يرمز اقتراب الفراش من النار و مشاهده السن النيران الي «الحصول» او «الادراك» في حين يمثل السقوط في النار و الاحتراق مرتبه «الوصول» و «الفناء». اليقين يعبر العزالي عن مراحل سير الغواص من ساحل العلم الي اعمال البحر بـ «اليقين» اعتماداً علي مفهوم قرآني، فاليقين عنده بمنزله العلم، اي حينما يقف علي الساحل ناظراً البحر. لكنه عندما ينطلق الي اعماق البحر يتحول ذلك «اليقين» الي «ظن». و هذا الظن هو في الحقيقه نوع من اليقين، كما ورد في الايه الكريمه «انني ظننت اين ملاق حسابيه». و هذا يعني ان الغواص حينما ينطلق من الساحل الي الاعماق، انما ينتقل من يقين الي يقين آخر، و حينما يصل الي الدر، انما ينتقل الي يقين ثالث. و هذا معناه ان هناك ثلاث مراحل من اليقين لها اسماء مقتبسه من القرآن الكريم و هي: علم اليقين، عين القين، حق القين. و هذه المراتب او الدرجات الثلاث من اليقين، نري الميبدي يعتبرها في «كشف الاسرار» مراتب الحقيقه. فيعتر «علم الحقيقه» هو المرحله الاولي، تعلوها مرحله «عين الحقيقه»، و ماوراءها مرحله «حق الحقيقه»: «و علم القحيقه ما انت له عند الحق، عين الحقيقه ما انت به من الحق، حق الحقيقه اضمحلالك في الحق»، و ما بين كل مرحله و مرحله الف وادٍ لابد من قطعه (كشف الاسرار، ج 7، ص 196). و يبدها هنا بوضوح تأثير راي الحلاج علي الميبدي، غير ان هناك اختلافاً بين الاثنين هو ان الثاني قد استخدام مصطلح «عين الحقيقه» بدلا من مصطلح «حقيقه الحقيقه». من الخيال الي الوصال علم اليقين، و عين اليقين، و حق اليقين، هذه الدرجات الثلاث التي تنطبق مع الاشراق، و رؤيه عين النار، و الاحتراق بالنار، تلتقي عند احمد الغزالي مع ثلاث مراتب نفسيه يمر بها العارف المحب، و يمثل الخيال المرتبه الاولي من هذه المراتب و لا يتعدي الافق الخيالي – عنده – الغشاء الخارجي للقلب. و يشاهد المحب في غشاء الخيال اعضاء بدن الحبيب مثل الخد و الخال و العين و الحاجب الزلف، و كل ما كان يتحدث عنه الشعراء العارفون في شعرهم المحبب الي النفوس. و ياتي الادراك بعد الخيال و دائرته الغشاء الداخلي للقلب، و لا يكاد يعلم المجب او المتيم بما لديه من حاله ادارك، غير انه يشعر ان حبيبه موجود في داخل قلبه. اما المرتبه الثالثه و الاخيره في تلك التي يستعد فيها المحب للتضحيه بنفسه من اجل الحبيب، اي انه ينطلق الي ماوراء صورته و يتحد معه. و هي المرحله التي تفذف فيها الفراشه نفسها في النار، فيصبح جسمها عين النار، و هي مرحله الوصال و الاتحاد او الفناء في التوحيد. الشعراء و الفراشه قصه الفراشه و الشمعه مضمون تكرر استخدامه من قبل شعراء الفارسيه لاسيما منذ ايام سعدي فما بعد، و يعود ظهور هذا التمثيل في الشعر الفارسي الي القرن الرابع الهجري و ان لم يكن شائعاً حتي منتصف القرن الخامس و السبب في ذلك يعود الي ان فهم هؤلاء الشعراء لقصه الفراشه و النار لم يكن فهماً عرفانياً كما هو الحال عند الحلاج و لا فهماً غراميا كما هو الحال عند احمد الغزالي. و هناك بشكل عام فهمان اخلاقي و عرفاني غرامي لقصه الفراشه و الشمعه، و قد انعكس هذان الفهمان علي الشعر الفارسي ايضاً. و الفهم او النموذج الغرامي في الادب الفارسي، قدمه احمد الغزالي لاول مره علي اساس طواسين الحلاج. و له رباعي انشده وفق فكره التصوف العجين بالحب، و مما ورد فيه: اذا كان زلفك سلسله، فانا مجنون و اذا كان حبك نار، فانا فراشه و اورد احمد الغزالي هذا الرباعي في السوانح دون ان ينسبه لاحد. و هناك رباعي آخر يبدو انه لشاعر آخر تحدث فيه عن قصه الفراشه و النار: الحب ينبع من اللقاء من سقوط العين علي العين ما اكثر الطيور الساقطه في شباك الطمع و الفراشه سقطت في النار طمعاً في النور و النقطه التي اراد الشاعر ان يكشف عنها في هذا الرباعي هي طريقه ظهور الحب: الحب يبدأ منذ لحظه رؤيه وجه الحبيب، و لهذا الفراشه تطمع بنور اكبر حينما تلمح النور، غير انها تسقط آخر المطاف في مصدر النور – الذي هو النار – و تحترق. و يبدو ان سقوط الفراشه في هذا الرباعي عاقبه وخيمه لم تتنبأ بها الفراشه، مثلما هو الحال بالنسبه للطيور التي قادها طمع رؤيه الحبيب نحو السقوط في الفخ. و لاشك ان هذا المعني ينطبق مع النموذج الاخلاقي الذي يعدّ سقوط الفراشه في النار حدثاً مرزياً يقف وراءه الجشع و الجهل. و السؤال الذي يبدو طرحه مهماً هنا علي صعيد تحويل المعاني و المفاهيم في الشعر الفارسي هو: هل ان الشعر الفارسي الذي سبق احمد الغزالي قد اتخذ من التصوير الخيالي للفراشه و احتراقها في النار مثلاً اعلي للسواك الغرامي الذي يستحق الاشاده. و اسفرت الدراسات علي هذا الصعيد عن: 1-لم يستخدم مثال الفراشه و النار في الشعر الفارسي الا نادراً حتي اواخر القرن الخامس الهجري. 2-الابيات القليله التي نظمت خلال هذه الفتره، كانت علي اساس التفسير غير العرفاني و غير الغرامي. و لم ينظر منها الي عمل الفراشه كسلوك ايجابي يحظي بالتقدير، و ان شبه البعض الحب بالنار، مثل الشاعر عنصري (ت431) في بعض ابياته، لكنه لم يشر الي احتراق الفراشه في النار كعمل يستحق التقدير او يكمن وراءه الحب و التضحيه. شعراء ما قبل احمد اقدم النماذج الشعريه التي اشارت الي قصه الفراشه و النار، بيت شاعر من القرن الهجري الرابع يدعي ابا شكور البلخي: إتغظ كي لا يكون يومك اسود و لا تحرق نفسك كالفراشه و لا يحمل هذا البيت – كما نري – اي معني عرفاني، و يفسر احتراق الفراشه بالنار تفسيرا ينم عن الاستهجان و التقريع. و للشاعر منوجهر الدامغاني (ت432ه) قصيده تحمل عنوان «لغز الشمع» انشدها في مدح الشاعر عنصري و اشار فيها الي الشمع و وصفه بالعاشق الذي حبيبه الطست، غير انه لم يتحدث فيها عن حب الفراشه للشمع لانه لا يعتبرها عاشقه و لا يعدً عملها عملاَ يعبر عن حب و تفان. كما ان النار من وجهه نظره ليست بالشيء الذي يستحق الحب، و انما عنصر مهلك ما حق. و الفراشه ليست سوي كائن ابله و يدلل علي هذا البله اقترابها من النار و احتراقها فيها. و يتفق معه في موقفه من الفراشه، الشاعر الفارسي الاخر مسعود سعد سلمان (ت515ه)، حيث يقول: لا تتصور انني عدو لنفسي كالفراشه و هذه النظره السلبيه الي عمل الفراشه و هذه النظره السلبيه الي عمل الفراشه و وصفها بالحمق و البلاهه و الجشع، ربما هي التي دفعت بالشعراء الاوائل الي قله التحدث عنها، لكن ما ان طرحت النظره الصوفيه العرفانيه التي بلورها احمد الغزالي و التي رأت في عمل الفراشه عملاَ تضحوياَ و انها ليست كائناَ جشعاَ او ابلهاَ بل مظهر للحب و الوفاء، حتي تغير الوضع تماماَ، فانطلق الشعراء نحو الفراشه للاطراء عليها و الاشاده بها و اعتبارها نموذجاَ للمحب المتكامل. الشعر اللااصيل و المعيار اعلاه يكمن ان يساعدنا في اكتشاف ذلك الشعر الذي حمل الرؤيه العرفانيه الغراميه، الا انه نسب الي بعض الشعراء المتقدمين، مثل ذلك الرباعيات و الابيات التي التقطها سعيد النفسي من شعر ابي سعيد ابي الخير مثل البيت التالي: رغم اني لا اخشي الاحتراق لكن اين الفراشه و اين نار الطور و ينطبق هذا الامر ايضاً علي الشعر الذي حملته رساله «محبت نامه» المنتسبه للخواجه عبدالله الانصاري (ت 814 هـ) التي تحدثت عن النار و الحب و الشمع، و فسرت احتراق الفراشه بالوصال. فهذه الرساله و كذلك الرسائل الفارسيه المشابهه المنتسبه اليه، ليست له علي التحقيق، انما هي آثار موضوعه تعود للقرن الثامن و ليست للقرن الخامس. و نسبه شعر الشعراء المتأخرين الي الشعراء المتقدمين، يعد من القضايا التي خلقت الكثير من المشاكل لمؤرخي الادب الفارسي، و لا يقتصر هذا الامر علي الشعر العرفاني و انما يشمل اغلب الاغراض الشعريه. فلم تحل اصاله رباعيات الخيام حتي اليوم معزي (ت 520 هـ) – و هو شاعر غير عرفاني – شعر اشار الي الفراشه ككائن عاشق: لي عين اصبحت مكيالاً للحب من الدمع لي روح اصبحت فراشه للحب من الاحتراق و البيت اعلاه يشير بشكل صريح الي قصه الفراشه و النار من المنظار العرفاني، لاسيما الحلاج و الغزالي، و لهذا من المستبعد ان يكون لامير معزي. و الشكوك التي ابديناها حول اصاله بعض القصائد او الرباعيات. ربما ليس لدينا مثلها حول الابيات المشابهه التي ضمها ديوان الحكيم سنائي (ت 525هـ) المعاصر لاحمد الغزالي. ففي ديوانه عده ابيات حول الفراشه و النار، يتحدث فيها من الفراشه ككائن عاشق ذي تضحيه و ايثار، و ينادي بان تكون اسوه لمن يدّعي الحب: الشمعه المتوهجه حبيبه فكن فراشه عدوه للنفس و أمه للشمعه المتوهجه الفراشه تحرق نفسها حول الشمعه فلا تكن اقل من الفراشه