ابزار وبمستر

البنیویة وما بعد البنیویة
البنیویة وما بعد البنیویة

 

البنیویة Le structuralisme تیار فكری انبثق فی أوربة فی بدایة القرن العشرین، وبلغ أوج ازدهاره فی ستینات القرن العشرین، وشمل العلوم والفنون والآداب واللغة.

وأساس هذا التیار نظریة مفادها، أن العالم لا یتألف من عناصر أو وحدات ذات وجود مستقل أو منفرد، وإنما من وحدات توجد ضمن بنیة أو نسق عام یضبط علاقاتها المتبادلة لتكتسب معنى وقیمة، إضافة إلى خاصیتها الفردیة. وتفقد هذه الوحدات معانیها وأهمیتها خارج إطار هذا النسق أو البنیة. ولا یبحث البنیویون فی خصائص الوحدات والأجزاء أو محتواها، وإنما فی علاقة الأجزاء فیما بینها بقصد الكشف عن وحدة العمل الكلیة أو النسق. وتعتمد هذه النظریة التی طبقت فی جمیع المجالات، وخاصة فی العلوم الإنسانیة والفیزیائیة، على ثلاث مقولات رئیسیة هی: الكلیة والتحول والضبط الذاتی. والكلیة نظام شامل من العلاقات المتبادلة بین جمیع الوحدات التی تنتمی إلیه، وتستمد منه معناها وقیمتها. فاللغة بنیة كلیّة، أو نسق من العلاقات الدلالیة والصرفیة والنحویة، یحدد معانی الكلمات ووظائفها. فكلمة mouse، وهی وحدة فی بنیة اللغة الإنكلیزیة الكلیّة، تعنی «فأراً» فی هذه اللغة وحدها، بمقارنتها بالكلمات التی تنتمی إلى المجموعة الوظیفیة ذاتها، كالكلب والبقرة والقطة؛ فإذا أخرجت من هذه البنیة تفقد هذا المعنى، ما لم یكن لها معنى آخر فی نسق لغوی آخر، إذا كان صوتها یوحی بهذا المعنى؛ وهذا نادر، ولا یكون إلا مصادفة.

أما التحول فهو نظام تتمتع به البنیة، على ثباتها، لیساعد فی إیجاد معانی وتركیبات متجددة دائماً، لكن ضمن قواعدها الثابتة والضبط الذاتی لكل وحدة فیها. فمثلاً إن أی كلمة فی اللغة لها وظیفة ثابتة ضمن البنیة الكلیة، كأن تكون اسماً، أو فعلاً أو نعتاً، ولكن یمكن أن ترد هذه الكلمة فی عدة تشكیلات وتركیبات تحول معناها بشرط أن تحافظ على وظیفتها. فكلمة cat فی الإنكلیزیة وهی اسم، ولا یمكن أن تأتی بوظیفة فعل إلا بخرق القانون العام للبنیة، ولكنها تأتی فی عدة تركیبات. وضمن هذا التحول أیضاً، یمكن لهذه الكلمات أن تكتسب معانی جدیدة حسب تبدل العلاقات بعضها ببعض وحسب التغیرات التی تطرأ على استخدام اللغة فی مجتمعاتها لتكسبها مدلولات جدیدة. وهنا یأتی الضبط الذاتی لیحافظ على وظیفة الوحدات وعلاقتها ببعضها ضمن ضوابط ثابتة داخل النسق العام.

البنیویة فی اللغة

یعد اللغوی السویسری فردیناند دی سوسور[ر] F. de Saussur واضع الأسس العملیة للبنیویة الألسنیة. ففی «محاضرات فی الألسنیة العامة» (1915) Cours de linguistique générale  میز دی سوسور اختلافاً بین ثلاثة مستویات داخل النشاط اللغوی: اللسان Langue وهو المظهر الأوسع للنشاط اللغوی لأنه یشمل المقدرة الإنسانیة على الكلام؛ واللغة Language وهی نظام یستخدمه الناس لتولید المحادثة؛ والكلام Parole وهو الشكل الفردی الخاص فی استعمال اللغة. ویعد تعریف دی سوسور للّغة بأنها «نظام لا یعرف إلا ترتیبه الخاص» أول توصیف للّغة كبنیة. وقد وضع دی سوسور مجموعة من الأدوات المفهومیة أسهمت فی وصف ذاك النظام، وكان لها الأثر الكبیر فی تطویر المنهج البنیوی بوجه عام.

 1ـ التزامن synchronie والتزمّن diachronie: التزامن هو دراسة حال اللغة والعلاقة بین عناصرها فی مرحلة زمنیة محددة من دون الاهتمام بتطورها التاریخی، ویقوم على اعتبار اللغة كلاً متماسكاً إلى حد ما. أما التزمّن فهو دراسة اللغة فی تطورها من خلال التغیرات التی تطرأ علیها. فالحاجة قائمة فی العلوم إذن للتفریق بین محورین: محور أفقی (محور المعیّة) الذی یهتم بالعلاقات القائمة بین عناصر تتواجد فی الوقت نفسه، ومحور شاقولی (محور التعاقب)  الذی یهتم بتغیر العناصر والعلاقات بینها فی أوقات متعاقبة. وقد اهتم دی سوسور بالتزامن لدراسة اللغة، ولیس بالتزمن.

2ـ العلاقات التركیبیة syntagmatique والعلاقة التبادلیة paradigmatique: العلاقات التركیبیة هی تلك التی تقیمها وحدة ألسنیة ما مع الوحدات الأخرى فی المستوى نفسه لتشكل تركیباً (مثل العلاقات التی تقیمها الكلمات لبناء جملة)؛ أما العلاقات التبادلیة فهی تلك التی توجد بین وحدات تقوم بالوظیفة نفسها ویمكن إبدالها فیما بینها.

3 ـ العلامة signe: رأى سوسور أن اللغة نظام «علاماتی» ولیس منتوجاً تاریخیاً، وأعاد تعریف العنصر الرئیس للبنى اللغویة فأطلق علیه تسمیة علامة ثم بیّن أن لهذه العلامة ماهیة مزدوجة، أی أنها كلٌّ مركب یربط بین صورة سمعیة (الدالّ) وتصور ذهنی (المدلول)  ولا یسبب أحدهما وجود الآخر، ولكن یعتمدان  على بعضهما فی تشكیل علامة تعد عنصراً فی بنیة اللغة ككل. أما العلاقة التی تربط بینهما فهی علاقة خطیة واعتباطیة، أی إن اختیار هذه الصورة السمعیة حاملاً لذاك التصور الذهنی هو أمر مفروض على مستخدمی اللغة نفسها فی إطار بنیة اللغة التی تسهم فی حیاة الناس فی مجتمعاتهم.

تطورت البنیویة الألسنیة تطورا كبیرا بعد دی سوسور، وذلك فی ثلاثة مناح أساسیة هی:

 1ـ مدرسة براغ[ر]: تركزت التوجهات الأساسیة لهذه المدرسة حول المظاهر الصوتیة للّغة. وكان من أشهر أقطابها الروسیان نیكولای تروبتسكوی[ر] N.Trubetskoï ومن أشهر كتبه «مبادئ التصویتیة»، ورومان یاكوبسون[ر] R.Jakobson الذی اشتهر إلى جانب دراساته فی الألسنیة بدراساته فی الشعریة La poétique التی شرح فیها نظریته حول العلاقات الدیالكتیكیة فی اللغة وفی اللسان، وعرضها بشكل محدد فی دراسته المشتركة مع كلود لیفی شتراوس[ر] C.Levi-Strauss حول قصیدة «الهررة» لبودلیر[ر]، وكذلك فی كتابه «مسائل فی الشعریة» (1973) Questions de poétique وقد كان لشتراوس كبیر الأثر فی إرساء قواعد التحلیل اللغوی.

 2ـ المدرسة الوظیفیة الفرنسیة: وأهم ممثلیها أندریه مارتینیه A.Martinet الذی ركز دراساته على التصویتیة فی «اقتصاد التغیرات التصویتیة» (1955) ، و«مبحث فی التصویتیة التزمنیة» (1955) وعلى مفهوم «التمفصل المزدوج». وإیمیل بنفینست[ر] Benveniste فی كتابه «مسائل فی الألسنیة العامة» (1966) Problèmes de linguistique générale.

3ـ  مدرسة كوبنهاغن: وأهم أعلامها لویس یلمسلیف  (1899 - 1965) L.Hjelmslev  الذی طوّر مفاهیم دی سوسور وسعى إلى تأسیس علم للدلالة sémiotique قائم على وجود تشابه فی بنیة الشكل والمضمون.

البنیویة فی الأدب

تطورت مناهج التحلیل البنیوی فی الأدب انطلاقاً من النظرة إلى النص الأدبی كمظهر من مظاهر اللغة، ما یجعل بالإمكان دراسته بوساطة الشبكات أو البنى المستعملة فی دراسة اللغة: بنى نحویة، خطابیة، صوتیة، لیصبح بذلك نسق اللغة نموذجاً للنقد. وقد طبق البنیویون التحلیل البنیوی على الأجناس والأشكال والأسالیب الأدبیة لمعرفة كیف تعمل وكیف تركب ضمن نسق لغوی ذی نظام ثابت ومتغیر فی الوقت نفسه ضابط النصوص الأدبیة، وطبق هذا النظام على بنیة  الروایة، ولم یكن التطبیق على المعنى الذی یقدمه النص الأدبی بل على البنیة التی یخضع لها النص لیولد المعنى. وذهب البنیویون إلى إظهار العمل الأدبی نموذجاً أو منتجاً یمثل هذه البنیة. وكان لدراسة لیفی شتراوس للأسطورة وبنیتها أكبر الأثر فی تطویر نظریة النقد البنیوی فی الأدب، إذ سلط الضوء على أسطورة أودیب مثلاً، بأن تناولها وقسّمها إلى أحداث صغیرة épisodes mythèmes تتكرر، ویعاد تركیبها وتشكیلها ضمن شبكة ذات بعدین متضادین لیستخرج منها التقابلات المهمة ذات الدلالة التی یُفترض أن الأسطورة تدور حولها، لیس حسب التسلسل الزمنی أو التراكم الحدثی وإنما الدلالی البنیوی لها. فأحداث الأسطورة مهما كان عددها تُصنف حسب البنیة التی تحكمها إلى أعمدة أربعة تبعاً للمعاییر التالیة: الإفراط فی تقدیر صلات القرابة (أودیب یتزوج یوكاستا)، الحط من قدر صلات القرابة (أودیب یقتل أباه)، قتل الوحوش (أودیب یقتل الهولة)، صعوبة الوقوف بانتصاب (لایوس أعسر، لابداكوس أعرج). وهكذا فجمیع الأساطیر تتبع نظاماً بنیویاً واحداً ولكن تظهر فی أشكال متعددة ومتكررة.

وهكذا یوظف النص الأدبی نموذجاً یوضح البُنى والمعاییر التی تحكمه، ویعتمد فی هذا على مبدأ القطبیة الثنائیة أو الثنائیات الضدیة binary oppositions التی یُبنى على أساسها الإطار الذی یولد المعنى ویُحصر ضمنه مثل: الطبیعة/ الحضارة، الذكر/ الأنثى، الحیاة/ الموت، المفتوح/ المغلق، الخیر/ الشر.

وقد أسهم یاكوبسون أیضاً فی دراسته للنص الأدبی واللغة المستخدمة للكتابة باكتشاف قوانین جدیدة تحكم النص، فعارض النظرة السائدة حول معاییر الروایة الأدبیة التی تقول بأن الروایة الأدبیة تتقدم زمنیاً من خلال تطور الأحداث فیها، وبأنها لاتخضع لقانون التزامن وإنما التزمن فقط؛ وقدم طرحاً جدیداً بأن اللغة الأدبیة موجودة فی فضاء محدد ترتبط فیه عناصرها ببعضها أفقیاً، كما العلاقة بین المركبات والكلمات التی تؤلف جملة؛ وشاقولیاً بعلاقة تبادلیة تسمح للكلمات التی تنتمی إلى الفئة الوظیفیة نفسها بأن تحل محل بعضها فی الجملة. فهناك إذاً محور شاقولی یختار فیه الأدیب الكلمات ثم یركبها حسب المحور الأفقی فی فضاء بنیوی یولد النص الأدبی الروائی الذی تضبطه معاییر وقوانین بنیة هذا الفضاء. وفقاً لهذا یظهر النص تبعاً لنظامه اللغوی ولیس لإرادة المؤلف، وعلى الباحث أن یسبح فی فضاء النص لیكشف البنیة الحقیقیة عن طریق التناص[ر] intertextualité، وما یضعه المؤلف هو نصوص مكتوبة سلفاً لنظام أو نسق للكتابة مسبق الصنع.

  ولقد أجریت أولى المقاربات البنیویة للأدب فی روسیة. فهناك من جهة دراسة فلادیمیر بروب  (1895-1970) V.Propp عن الحكایات الشعبیة فی روسیة: «مورفولوجیة الحكایات الشعبیة» (1928) Morphology of the Folktale، وفیها یعالج مئة حكایة من الحكایات الشعبیة ویدرس كل حكایة على حدة بصفتها بنیة متفردة، لیستنتج أن شخصیات الحكایات متغیرة لكن وظائفها «أی ما تفعله الشخصیة من وجهة نظر أهمیتها فی مجرى الحدث» تبقى ثابتة ومحدودة، ونجد من جهة أخرى الدراسات التی كتبت فی المدة الممتدة بین 1915 و1930 ولم تعرف فی أوربة إلا فی الستینات تحت اسم الشكلانیة Formalisme الروسیة. ومن بین واضعی هذه الدراسات تتمیز أسماء توماشفسكی (1890-1957) B.V.Tomasjevski، وآیخنبوم (1886-1959) B.M.Eichenbaum ، وشكلوفسكی (1893ـ) V.V.Chklovski، وتینیانوف (1894-1943) V.V.Tynyanov، وفینوغرادوف (1895-1969) V.V.Vinogradov، كما تدخل فی سیاق هذه المقاربات كتابات الناقد میخائیل باختین[ر] M.Bakhtin «فرانسوا رابلیه[ر] والثقافة الشعبیة إبان النهضة» (1965) ، و«شعریة دستویفسكی» (1929)، و«علم جمال الروایة ونظریتها» (1965)، و«جمالیة الإبداع اللغوی» (1979)، و«الماركسیة وفلسفة اللغة» (1929). وقد وجدت دراسات بروب ورثة لها فی النقد البنیوی الفرنسی لدى كل من الجیرداس جولیان غریماس (1917- 1986) A.J.Greimas وكلود بریمون (1929-) Cl.Bremond  وتزفیتان تودوروف  (1939-) T.Todorov.

 اهتم الناقد اللیتوانی الأصل غریماس، بوجه خاص، بعلم الدلالة فی مؤلفاته «علم الدلالة البنیوی» (1966) و«أبحاث فی علم الدلالة» (1970)، و«علم الدلالة والعلوم الاجتماعیة» (1976)  فوضع مجموعة من المفاهیم التی تسمح باستشفاف البنیة الأساسیة للمعنى. وقد نظم هذه المفاهیم فی مخطط نمطی قابل للتطبیق على أی نص سردی. وتابع بریمون فی «منطق الحكایة» (1973)  الارتباط المنطقی للوظائف التی تتضمنها كل حكایة لیحدد الإمكانات البنیویة لترابط السرد تبعا لمنظومة ارتقاء وانحطاط، مما یسمح له بوضع تصنیف للمقاطع السردیة. أما تودوروف فقد استخلص من دراساته للأدب العجائبی فی «مدخل إلى الأدب العجائبی» (1970) Introductionla littérature fantastique الهیكلیة البدئیة العمیقة التی تُبنى علیها نصوص هذا الجنس الأدبی.

إلى جانب هذه التصدیات البنیویة لقضایا عامة فی الأدب هناك مقاربات ترد على ما أخذه نقاد البنیویة على منهجیتها من عدم صلاحیتها لقراءة النصوص الفردیة. ومن أهم ما أنتج فی هذا المضمار أعمال رولان بارت[ر] R.Barthes مثل دراسته «اس/ زد» (1970) S.Z التی یقدم فیها قراءة نقدیة عملیة لقصة «العربی» لبلزاك[ر]، ودراسة تزفیتان تودوروف «قواعد دیكامیرون» (1969) Grammaire du Décaméron عن كتاب بوكاتشو[ر]، وجیرار جینیت (1930ـ) G.Genette فی الجزء الثالث من كتاب «أشكال 3» (1972) Figures III الذی یقدم فیه دراسة منهجیة لروایة «البحث عن الزمن المفقود»A la recherche du temps perdu لمارسیل بروست[ر]، ویعد هذا الكتاب المرجع الأساسی للدراسات السردیة. وبهذه المقاربات وصلت البنیویة إلى مرحلة ما بعد البنیویة.

البنیویة فی العلوم الإنسانیة

سبق نجاح البنیویة فی مجالات العلوم الإنسانیة نجاحها فی مجالی الأدب واللغة وخاصة فی علم الإناسة Anthropology، إذ بیّن الإناسی الفرنسی كلود لیفی ـ شتراوس أن الرفع التفصیلی للممارسات الاجتماعیة یسمح باستخلاص البنى الخفیة التی تحدد هذه الممارسات، وهذا ما أثبته فی عدید من كتبه مثل «علم الإناسة البنیوی» (1955) Anthropologie Structurale، «النیئ والمطبوخ» (1964) Le cru et le cuit، «من العسل إلى الرماد» (1966) Du miel aux cendres. ومن المحطات المهمة فی مقاربة البنیویة للعلوم الإنسانیة أعمال لوی آلتوسیر (1918-1990) L.Althusser الذی ینطلق فی كتابیه «من أجل ماركس» و«قراءة رأس المال» الصادرین عام 1965 من البنى الاقتصادیة والاجتماعیة التی یدرسها ماركس فی «رأس المال» لیصل إلى نظریته فی التطبیق العملی «البراكسیس» Praxis سیرورةً للتحولات المستقلة، وأعمال میشیل فوكو (1926 - 1984) M.Foucault «الكلمات والأشیاء» (1966) Les mots et les choses و«أحفوریات المعرفة» (1969) L’Archéologie du savoir وفیها یرى أنه لتطور العلوم الإنسانیة یجب التخلی عن تراكمات الأنظمة الإنسانیة التی تدل على انحطاط الإنسان أكثر من رقیه، وعلى جهله أكثر من وعیه، وتدمر هذا الإنسان وما حوله، بسبب الإیدیولوجیات التی هی مجرد أوهام وأباطیل یخلقها فتقیده.

ما بعد البنیویة

بدأت البنیویة فی الانهیار فی أوائل السبعینات من القرن العشرین، وظهر مكانها فی فرنسة ما اصطلح على تسمیته «ما بعد البنیویة» Post-structuralisme. وكان رولان بارت وجاك دیریدا Jacques Derrida أهم فلاسفتها. وكان بارت قد تحول عن البنیویة إلى ما بعد البنیویة، وانتقل فی دراسته من أهمیة الكاتب فی تركیب النص الأدبی باعتماد معاییر وبنى جاهزة الصنع إلى دور قارئ النص فی تولید معانی جدیدة لا نهایة لها. وجاء هذا فی مقالته «موت كاتب» (1968) La mort d’un auteur التی أعلن فیها استقلالیة النص وحصانته ضد أی تقیید له بمعاییر أو بحدود مضمونة أو بحدود ما قصده الكاتب منه، فیصبح القارئ بهذا هو المنتج للنص ولمعان متجددة فیه. یؤكد بارت فی كتابه «متعة النص» (1975) Le plaisir du texte أنه فی غیاب الكاتب تصبح عملیة إیجاد تأویلات للنص عملیة عبثیة لا نهایة لها، لكنها ممتعة، وتأتی المتعة من امتلاك النص  لإمكانات «اللعب» بالمعانی. ولكن هذا لا یعنی تخلیاً فوضویاً عن كل القیود، وإنما تفكیكاً déconstruction وهدماً منظمین لإنتاج معان أخرى، وكأن القارئ یعید كتابة النص، فیصبح منتجاً له ولیس مستهلكاً، وهذا أساس المذهب التفكیكی، الذی طوره دیریدا، وهو أساس «مابعد البنیویة».

كان لمقالة دیریدا الشهیرة «البنیة والدال واللعب فی خطاب العلوم الإنسانیة» (1966)  أكبر الأثر فی الخطاب ما بعد البنیوی، إذ شكك فیها بأسس البنیویة بقوله: «لكی لا تنهار یجب أن یكون لها مركز خارج هذه البنى»، ووجود هذا المركز یدحض فكرة البنیویة ویظهر تناقضها من الداخل. وهو یرى أن هذا المركز غیر ثابت، فمثلاً إذا نظرنا إلى المتضادات الثنائیة على أنها الأحجار التی تشكل البنى، نرى أنها تعمل بصورة نسقیة هرمیة Hiérarchique إذ تسیطر واحدة على الأخرى وتتمایز عنها (مثل ثنائیة ذكر/ انثى)، ولكن إذا قلبت علامة التمایز هذه یتولد منطق تفكیكی یهدم البنیة ویهز استقرارها لیعید خلق معان جدیدة دائمة التغیر.

وإضافة إلى دیریدا كان فوكو[ر] Foucault ولاكان Lacan، فی مجال التحلیل النفسی، ناشطَین فی حركة مابعد البنیویة على الرغم من أنهما كانا فی البدایة بنیویین، إذ طرح فوكو فی كتاباته نظریته بأن أی نظام علاماتی لا یمكن أن یعمل بمعزل عن علاقات السیطرة التی تربط المفاهیم ببعضها L’inconscient، وطرح لاكان أن اللاوعی ولید اللغة ولیس العكس.

وفی حین یرى البنیویون أن الإنسان لا یملك وسیلة للوصول إلى الحقیقة إلا عبر اللغة وبنیتها ولیس العكس، فإن ما بعد البنیویین یرون أنه من المستحیل الوصول إلى الحقیقة، حتى عبر اللغة، فكل شیء تابع «لمیتافیزیقیة الوجود» والدال الكلامی مائع یسبح دائماً بعیداً ومتحرراً عن المدلول. وبهذا تصبح اللغة مائعة قابلة «للانزلاق» و«للانسكاب»، والعلامات تتركب عشوائیاً، لأنها تملك دینامیكیة لا تظهر إلا فی النص المكتوب، حیث تعید تشكیل وخلق معان جدیدة ضد المعنى الظاهر، ولاسیما أن النص یبقى بعد موت الكاتب، فیعمل النص ضد ذاته. وهكذا لا یمكن لمعانی الكلمات أن تكون ثابتة، فالكلمات مشوبة بعكوساتها، مثلاً: لا یمكن إدراك «اللیل» إلا بالرجوع لمفهوم «النهار». وقلب العلامة بین المتضادات یؤدی إلى عدم استقرار اللغة الذی هو أساس فلسفة «ما بعد البنیویة» التی تركز على قراءة النص ضد نفسه، والبحث عن «لاوحدته» بدل وحدته، وعما كتب فیه فی «اللاوعی» بدل الظاهر السطحی.

وقد تأثر ما بعد البنیویین بفلسفة نیتشه[ر] وهایدغر[ر] فروید[ر] الذین رأوا فقدان «المركز» فی عالمنا الفكری، بالمقارنة مع عصر النهضة Renaissance الذی كان الإنسان فیه هو المركز به یقاس كل شیء؛ فإنسان القرن العشرین فقد هذا «المركز» فی عملیة عدم تمركز Décentralisation، بسبب الأحداث السیاسیة مثل الحرب العالمیة التی كانت نهایة الوهم  بأن أوربة هی مركز الحضارات والثقافات، أو بسبب ثورة الاكتشافات العلمیة مثل التوصل إلى نظریة النسبیة[ر] Relativité التی قضت على مفهوم أن الوقت والزمان مطلقان مركزیان، أوبسبب الثورة الفكریة والفنیة مثل حركة الحداثة[ر] فی الفن والأدب التی رفضت الانسجام فی الموسیقى والسرد الزمنی ووحدة النص فی الروایة. ففی العالم ما بعد البنیوی لا یوجد مركزیة ثابتة للأشیاء ولا نقاط ثابتة مطلقة، فالكون الذی نعیش فیه لا تمركزی ونسبی فی طبیعته، وهذا یعطی حریة «اللعب» بخلق مراكز جدیدة متغیرة باستمرار إلى مالا نهایة. وهكذا لا توجد حقائق أكیدة، وإنما تفسیرات وتأویلات، لا یمكن لأی منها أن یدعی الصحة  أو السیطرة أو الثبات. ولا یزال هناك جدل كبیر حول إذا ما كانت «ما بعد البنیویة» امتداداً للبنیویة أم ثورة علیها، ومع أن ما بعد البنیویة سیطرت وتفوقت على البنیویة إلا أنها یمكن أن تُعد مجرد مراجعة وصیاغة جدیدة لها.

 

حسان عباس، ریما حكیم

 

مراجع للاستزادة:

 

ـ جان ماری أوزیاس وآخرون، البنیویة، ترجمة میخائیل مخول (وزارة الثقافة، دمشق 1972) .

ـ جون ستروك، «البنیویة وما بعدها ـ من لیفی شتراوس إلى دیریدا»، ترجمة محمد عصفور، عالم المعرفة 206 (الكویت 1996).

ـ روبیرت شولز، البنیویة فی الأدب، ترجمة حنا عبود (اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1984).

ـ لیونارد جاكسون، بؤس البنیویة ـ الأدب والنظریة البنیویة، ترجمة ثائر دیب (وزارة الثقافة، دمشق 2001).

ـ ولیم رای، المعنى الأدبی ـ من الظاهراتیة إلى التفكیكیة، ترجمة یوئیل یوسف عزیز (دار المأمون، بغداد 1987).

- JEAN PIAGET, Le Structuralisme, PUF (Paris 1968).

- JEAN-MARIE AUZIAS, Clefs pour le structuralisme, Seghers ( Paris 1971).

- OSWALD DUCROT et autres, Qu‘ est-ce que le structuralisme, Seuil ( Paris1968).
- TERENCE HAWKES, Structuralism and Semiotics ( London, 199
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 16:48|