ابزار وبمستر

نائیة الموت والحیاة فی شعر أبی فراس الحمدانی 320 ـ 375هـ ـ 932 ـ 968م ـــ د.أحمد فوزی الهیب
ثنائیة الموت والحیاة فی شعر أبی فراس الحمدانی 320 ـ 375هـ ـ 932 ـ 968م ـــ د.أحمد فوزی الهیب

الموت نهایة كل حی مهما طال به البقاء، ولعله الحقیقة الوحیدة التی اتفق علیها الناس جمیعاً رغم اختلاف عقائدهم ومذاهبهم، ورغم اختلافهم على ما بعد الحیاة الدنیا من حیاة أخرویة أو عدم. لذلك نجد الناس جمیعاً یفكرون بالموت بشكل ما، وإن اختلفت نظراتهم إلیه، واختلفت حیواتهم بناء على ذلك، لأنه ـ كما یقول الدكتور بیتر شتاینكرون ـ غریزة كامنة فی أعماق النفس الإنسانیة، كغریزة الحیاة سواء بسواء، فكل واحد منا لدی فی فطرته الغریزتان، وإن كانت غریزة الحیاة واضحة ظاهرة الأثر فی حركاتنا وسكناتنا، بینما الغریزة الأخرى، غریزة الموت، لا تظهر واضحة جلیة إلا لمن أمعن النظر، ولم تخدعه ظواهر الأمور([1">).

وكأن الغریزتین المتضادتین جوادان، أحدهما أبیض ناصع البیاض، والآخر أسود حالك السواد، یتنازعان المرء شداً وجذباً، ولكن الجواد الأبیض یظل فی الغالب فیاض الحیویة، له الكلمة العلیا إلى أن یُغلب على أمره، فینطفئ سراج الحیاة، وتكون الكلمة للجواد الأسود، ولكن یحدث أحیاناً أن تنعكس تلك الآیة تحت ضغط بعض الظروف، فإذا الجواد الأسود هو الغالب منذ البدایة، فینتشر على وجه الحیاة ظل الموت ویندفع المرء فی تیاره([2">).

وعلماء النفس الیوم یعترفون بهذا الازدواج، وإن كان الإنسان العادی یجهل ذلك الوجود المزدوج لغریزتی الموت والحیاة، فهذا فروید یقول بصراحة ووضوح: غایة الحیاة هی الموت. ثم نراه یقرر أیضاً: أن كل إنسان لدیه دافع إلى إعدام نفسه، ولكن هذا الدافع یختلف فی مقداره وقوته باختلاف الأشخاص([3">). وهذا أیضاً تلمیذه وصدیقه (هانز ساخس) یقول أیضاً: إن جمیع مظاهر الحیاة هی نتیجة ذلك التجاذب الذی لا نهایة له بین غریزة الحیاة بانتصاراتها الظاهرة وغریزة الموت بقوتها الساكنة الخفیة التی لا تقهر([4">).

وقوة البقاء التی تلازمنا منذ ولادتنا، غالباً ما تكون من السطوة، بحیث تشل حركة الغریزة المضادة لها، فتبقیها نائمة معطلة. ولكن یحدث فی بعض الأحیان أن تكون قوة الهلاك أشد فی الشخص من قوة البقاء، فینجم عن ذلك ما یمكن أن نسمیه مغامرة أو تهوراً أو مخاطرة أو غیر ذلك، ونصف صاحبها بأنه مغامر أو متهور أو مخاطر، بینما یسمی ذلك فروید غریزة الفناء([5">).

ولعلنا نستطیع اعتماداً على هذه النظریّة أن نفهم بصورة أوضح تحریم الله تعالى للانتحار تحریماً شدیداً على الرغم من إباحته للشهادة بل تشجیعه علیها، لأنها فی سبیل مثل أعلى كالدفاع عن الوطن والأهل وغیر ذلك.

ولعل هذه النظریة تنطبق بشكل ما على أبی فراس الحمدانی([6">)، أو لعله یمثلها خیر تمثیل، إذ نجده والموت رفیقین صدیقین حمیمین، تصاحبا قبل الولادة، وبُعیدها، وبعدها، وظلاّ معاً إلى أن تمكن الحصان الأسود فی داخله أن یسبق الحصان الأبیض، وأن یسدل الستار على مأساة حیاته.

عرف أبو فراس الموت قبل ولادته، إذ ورثه فی صبغیاته (كروموزوناته) من قبیلة تغلب ذات الأمجاد الخالدة التی تمتد جذورها إلى الجاهلیة، حتى قیل: لو أبطأ الإسلام لأكلت بنو تغلب الناس([7">). ومن منا لم یسمع بحرب البسوس بینها وبین بكر، التی استمرت أربعین سنة تأكل الأخضر والیابس وتحصد الرجال([8">)، ومن لم یسمع بأبطالها وشعرائها مثل المهلهل وكلیب وعمرو بن كلثوم وأبیه([9">). وعلى الرغم من خفوت صوت تغلب فی بدایة الإسلام، فقد استرجعته زمن الأمویین، إذ نجده مدویاً لدى كعب بن جعیل والأخطل وأشعارهما([10">). كما نجده أیضاً فی صلیل سیوف الحروب الضاریة بین تغلب وقیس([11">).

وفی زمن الدولة العباسیة ازداد صوت تغلب علواً، لأنه صار یمثل التیار العربی الصافی بین أمواج السیول الأعجمیة الهادرة فی القرن الرابع الهجری، وقد استطاع بنو حمدان التغلبیون أن یبلوا بلاء حسناً فی مساندتهم للخلافة العباسیة حتى تدافع عن نفسها وعن العرب والإسلام ضد الثورات والمؤامرات الداخلیة، وضد الروم وغیرهم من الخارج، وكان فی مقدمتهم سیف الدولة وأخوه ناصر الدولة وأبو فراس([12">).

رأى الحمدانیون أنهم یمثلون العنصر العربی، وأن السبیل لبقائهم هو المجد والبأس والجود وغیرها من المثل العربیة العلیا، ولقد عبر عن ذلك أبو فراس بقوله([13">):

لئن خُلق الأنام لحسْوِ كأسٍ               ومزمار وطنبور وعودِ

فلم یُخلق بنو حمدانَ إلا                              لمجد أو لباس أو لجودِ

هذا ما یخص قبیلة أبی فراس تغلب وبنی حمدان، أما هو نفسه والموت، فقد كانا صدیقین حمیمین منذ البدایة حتى النهایة، لم یفترقا أبداً. فقد شاء القدر أن یسمیه أبوه (الحارثَ)، وأن یُكَنِّیه (بأبی فراس)([14">)، والاسم اسم الأسد([15">)، والكنیة كنیته([16">)، ولكل من اسمه نصیب عامة، لذلك أثر كل من الاسم والكنیة فی حیاته، ولو بصورة غیر مباشرة، تأثیراً كبیراً شجاعة وبسالة وإباء.

كما شاء القدر أیضاً أن یُقتل أبوه، وهو صغیر فی الثالثة من عمره. ومقتل أبیه مأساة مركبة معقدة،لأن قاتله هو ابن أخیه ناصر الدولة، والذی هو فی الوقت نفسه ابن عم أبی فراس، وأخ لولیه ومربیه وولی نعمته وزوج أخته سیف الدولة([17">). إن مقتل أبیه شوكة فی خاصرته ظلت تؤلمه حتى نهایة عمره، إنه لم یستطع نزعها بأن یأخذ بثأره، ولم یستطع أن یشكو أو یتأوه، بل لم یكن یملك إلا أن یقدم آیات الطاعة والتبجیل لقاتل أبیه عندما كانا یجتمعان فی بلاط سیف الدولة بحلب، یدفعه إلى ذلك ولاؤه لولی نعمته سیف الدولة، وولاؤه لأهله الحمدانیین. وهذه المعاناة تركت فی نفسه جراحاً لا یستطیع لها برءاً، وتمزقاً لا یمكن رتقه، وداء لا شفاء منه حتى الموت.

نشأ أبو فراس على الفروسیة فی بلاط سیف الدولة بحلب، بعدما انتقل إلیه من الموصل إثر مقتل أبیه، وتعلم فنون القتال والعلم والأدب وغیر ذلك من صفات الإمارة والفروسیة فیه، ثم ولاه سیف الدولة إمارة منبج عام 336هـ([18">)، وكانت آنذاك ثغراً عربیاً یقف سداً منیعاً فی وجه غارات الروم وأطماعهم من جهة، وثورات الأعراب مثل بنی كلیب وكلاب وقشیر وكعب من جهة ثانیة، واستمر على هذه الحال إلى أن أُسر عام 351هـ أو غیره، وقد اختلف المؤرخون فی ذلك، ولتحقیقه مجال آخر([19">).

استطاع أبو فراس أن یقوم بما تفرضه علیه واجبات الإمارة خیر قیام، فكان دائماً على أهبة الاستعداد لتلبیة ما یطلبه منه سیف الدولة من مهمات لقتال الروم أو الإعراب، ولم یكتف فی حروبه هذه بأن یبلی البلاء الحسن، وإنما نجد غریزة الموت أو غلّوه فی الشجاعة یدفعه إلى أن یتجاوز مرات كثیرة حدود ما تطلبه منه واجبات الإمارة من مواقف، فیخاطر بنفسه، ویعرضَها للهلاك المرة تلو المرة، الأمر الذی أدى إلى وقوعه أسیراً بید الروم، ویؤكد هذا كلام سیف الدولة لأم أبی فراس عندما طلبت منه افتداءه من الأسر، وهو: ولدك ابن عم، وخال أولادی، ولكنی عجزت وأنا أنصحه ألا یترك بنفسه إلى المیدان عند وقوع الحرب، لأنه أمیر سردار (قائد)، ولیس للسردار شجاعة إلا بثباته تحت علمه، وقد فدیته قبل هذا مرتین([20">).

استمر أبو فراس فی الأسر، حتى افتداه سیف الدولة عام 355هـ، وفی فترة أسره لم یبتعد عن الموت، إنما كان یشعر به،  ویتغنى بذكره كل یوم تغنی الحبیب بحبیبه من أول أیام أسره حتى آخرها، فقال فی بدایة أسره([21">):

من كان مثلی لم یبتْ           إلا أسیراً أو أمیرا

لیست تحلُّ سراتُنا               إلا الصدور أو القبورا

وقال أیضاً مخاطباً سیف الدولة بصورة غیر مباشرة([22">):

معللتی بالوصل والموتُ دونَهُ              إذا متُّ ظمآناً فلا نزل القطرُ

فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى                  قتیلك قالت أیهم فهمُ كثر

ویا ربَّ دار لم تخفنی منیعةٍ                طلعتُ علیها بالردى أنا والفجر

وهل یتجافى عنّیَ الموت ساعة             إذا ما تجافى عنّیَ الأسر والضر

هو الموت فاختر ما علا لك ذكره                  فلم یمت الإنسان ما حیی الذكر

وإن متُّ فالإنسان لا بد میّتٌ             وإن طالت الأیام وانفسح العمر

ونحْن أناس لا توسط بیننا                 لنا الصدور دون العالمین أو القبر

إن اللافت للنظر مما تقدم أنه لم یخل بیت من ذكره للموت مرةً أو أكثر، وكأنه فرس جموح كامن فی اللاشعور لدیه، فهل یؤكد ذلك صحة الفرضیة التی ذهبنا إلیها، لأن من أحب شیئاً أكثر من ذكره، وهذه حقیقة لا جدال فیها فی علم النفس. كما قال أیضاً فی رثائه لأمه عندما أتاه خبر موتها وهو فی الأسر([23">):

نُسلَّى عنك أنّا عن قلیل                   إلى ما صرت فی الأخرى نصیرُ

ولم یجعله الأسر یغیر من منهج حیاته بعدما افتداه سیف الدولة، وعیّنه أمیراً على حمص وأعمالها، وأنّى له ذلك!!.. لقد استمر فی اندفاعه نحو الموت كأن شیئاً لم یكن، تدفعه إلیه تلك القوة الغاشمة الخفیة الكامنة فی لا شعوره، والتی كانت تدفعه إلیه قبل أسره، لذلك نجده بعد موت سیف الدولة عام 356هـ([24">)، واستلام ابنه الیافع أبی المعالی سعد الدولة لإمارة حلب([25">)، نجده یتابع سیره فی طریقه الآنفة الذكر بخطى حثیثة، وقد ساعده فی ذلك أن سعد الدولة لم یستطع أن یملأ الفراغ الذی خلّفه والد سیف الدولة بموته([26">)، والذی كان من الممكن أن یملأه أبو فراس، فتوجه سعد الدولة إلیه فی حمص بعد خلاف بینهما، أشعل ناره (قرغویه) غلام سیف الدولة خوفاً من أبی فراس ورغبة منه فی أن یكون الرجل الأول فی حلب، فانحاز أبو فراس إلى بلدة (صدد)([27">)، ونزل سعد الدولة بسلمیة([28">)، وأرسل إلیه قائده قرغویه مع غلمان أبیه وجمعٍ من بن كلاب، فخرج إلیهم أبو فراس، وكان قتال انتهى بمقتله یوم الأربعاء الثامن من جمادى الأولى سنة سبع وخمسین وثلاثمئة، فنزل قرغویه فاحتز رأسه، وحمله إلى سعد الدولة، فشُقَّ علیه لأنه لم یرد ذلك، وبقیت جثة أبی فراس مطروحة بالبریة، حتى كفنه أعرابی ودفنه([29">).

إن هذه النهایة المأساویة المفجعة، تبدو وكأنه كان یتوقعها، ویراها نصب عینیه، ویندفع إلیها اندفاعاً غریزیاً قاهراً لا یملك له رداً، لذلك نجده من قبلُ قد نعى نفسه إلى ابنته، وأوصاها بالصبر، وأن تلتزم بسترها وحجابها عندما تنوح علیه، وان تندبه بأنه لم یُمتّع بالشباب مع أنه زین الشباب، وذلك فی قوله([30">):

أبنیّتی لا تجزعی                  كلُّ الأنام إلى ذهابِ

أبنیّتی صبراً جمیـ               لاً للجلیل من المصاب

نوحی علیّ بحسرة               من خلف سترك الحجاب

قولی إذا نادیتنی                  ووعیتُ عن رد الجواب

زین الشباب أبو فرا             س لم یُمتّع بالشباب

وإذا كان الموت واحداً مهما تعددت أسبابه، فإن أبا فراس قد نظر إلیه من زوایا متعددة، وتحدث عنه أحادیث اتفقت مع هذه الزوایا، ولا غرو فی ذلك، فهو من بنی حمدان الذین رآهم لم یُخلقوا كغیرهم، وإنما خُلقوا للمجد والبأس والجود كما مرّ آنفاً، وهذه الغایات التی خلقوا لها، لیس لها سوى الموت طریقاً، الموت لأعدائهم مكللاً بالذل والعار، والموت لهم مكللاً فی الأول والآخر بالمكرمات والعز، قال([31">):

لنا أولٌ فی المكرمات وآخرُ                وباطنُ مجدٍ تغلبیٍّ وظاهرُ

وهم لا یرضون إلا بواحد من اثنین، لا ثالث لهما، الصدر أو القبر، قال([32">):

ونحْن أناس لا توسط بیننا                 لنا الصدر دون العالمین أو القبرُ

وأن نفوسهم قد هانت فی طلب المعالی، كما قال([33">):

تهون علینا فی المعالی نفوسنا               ومن خطب الحسناء لم یُغْلها المهرُ

إنهم لا یهابون الموت، بل یرحبون به، ویستضیفونه ضیفاً عزیزاً لدیهم، قال([34">):

وفتیانُ صدقٍ من غطاریف وائلٍ           إذا قیل: ركب الموت، قالوا لـه: انزلِ

ودأبهم أیضاً أمران أو دمان اثنان، لا ثالث لهما، دم الرجال للأعداء، ودم الجمال للضیفان، قال([35">)

لِلِقا العد بیضُ السیو            فِ وللندى حمرُ النَّعمْ

هذا وهذا دأبُنا                  یُودى دمٌ، ویُراق دمْ

وقال أیضاً مفتخراً بوالده وأعمامه([36">):

أولئك أعمامی ووالدیَ الذی              حمى جنباتِ المُلك والمُلك شاغرُ

له بِسُلَیمٍ وقفة جاهلیة                      تقرُّ بها فَیْدٌ وتشهد حاجرُ

فلم ترَ إلا فالقاً هام فیلق                  وبحراً لـه تحت العجاجة ماخِرُ

وافتخر أیضاً بعمه الحسین بن حمدان الذی قتل الوزیر العباس بن المعتضدی وفاتكاً([37">)، قال:

وعمِّیْ الذی أردى الوزیر وفاتكاً          وما الفارس الفتاك إلا المجاهرُ

أذاقهما كاس الحمام مُشیَّعٌ                مشاورُ غارات الزمان مُساور

وافتخر أیضاً بعم آخر له هو سلیمان بن حمدان الملقب بالحرون لعظمته بالحرب، فقال([38">):

وعمی الحرون عند كل كتیبة             تخفُّ جبال وهْو للموت صابرُ

واللافت للنظر فی فخره خاصة، وفی شعره عامة، ذلك الإلحاح الشدید على الموت، وما یؤدی إلیه. ولعل هذا یدل ـ فیما یدل ـ على قوة غریزة الموت الكامنة فی لا شعوره وأعماقه وطغیانها. وربَّ معترض یقول: إن كثیراً من الشعراء ذكروا الموت. فنقول: المقصود هو كثرة ذكر الموت، لا ذكره فقط، تلك الكثرة التی زادت عن الخمسین مرة فی دیوانه الذی لا یعد كبیراً إذا ما قیس بغیره من دواوین أمثاله، هی التی مازت الشاعر عن سواه. وإذا وجدنا ـ ولا بد أننا واجدون ـ شعراء آخرین أكثروا من ذكر الموت، فما الذی یمنع من أن یكونوا كأبی فراس فی طغیان غریزة الموت لدیهم وعنفوانها، وأن یسبق حصانها الأسود حصان الحیاة الأبیض عندهم، كما سبقها لدى أبی فراس.

كل ذلك دفعه إلى أن یموت میتة الرجال الكاملی الرجولة الأبطال، فقال([39">):

فإنْ عشنا ذخرناها لأُخرى                وإن متنا فموتات الرجال

ولا بد من أن نتوقف عند هذا البیت ملیاً، وبخاصة عند شطره الأول الذی یؤكد ما ذهبنا إلیه من أن غایته قد كانت الموت، ولیست النجاة التی لا تعدو أن تكون ذخراً ووسیلة توصله إلى موت قادم قریب وسریع.

ولم یناقض فعلُ أبی فراس قولَه، فقد خاض الحروب بشجاعة نادرة، بلا ترس ولا درع، لیس معه سوى سیفه ویده وقلبه، قال([40">):

حملتُ على ورود الموت نفسی            وقلت لعصبتی موتوا كراما

وعذْتُ بصارم وید وقلب                 حمانی أن أُلام وأن أُضاما

ولم أبذل لخوفهمُ مِجّناً                     ولم ألبس حذار الموت لاما

كما وجد أیضاً فی بذل النفس جوداً یفوق الجود بالمال، وشتان ما بینهما، قال([41">):

وندعو كریماً من یجود بماله                ومن یبذل النفس الكریمة أكرمُ

لذلك اتخذ الحرب طعاماً له وشراباً باع فی سبیلها صباه، قال([42">):

فلا تصفنَّ الحرب عندی فإنها              طعامیَ مذْ بعت الصبا وشرابی

ولم یجد فی الموت شراباً فقط، وإنما وجده شراباً عذباً سائغاً لذة للشاربین([43">):

قد عذب الموت بأفواهنا                   والموت خیر من مقام الذلیلِ

كما كان یرى الموت یملأ ما بین المشرقین أمامه، ویرى المعایب خلفه، وهی أصعب عنده من الموت، لذلك خاضه غیر هیّاب ولا وجل، قال([44">):

أرى ملء عینیَّ الردى فأخوضه            إذا الموت قدامی وخلفی المعایبُ

ولم یكتف أبو فراس بذلك، بل نجده قد حل فی السیف، أو حل السیف فیه، وأصبحا معاً كیاناً واحداً، یذكرنا، لولا صرامته وشدته، بنظریة الحلول عند المتصوفة، ولا شك فی أن لهذا دلالاته فیما ذهبنا إلیه، قال([45">):

یا ضاربَ الجیش بی فی وسْط مفرقه                لقد ضربت بعین الصارم العَضُبِ

كما نجده قد توحد أیضاً مع الترس فضلاً عن توحده مع السیف ومع قومه، قال([46">):

وإن حاربوا كنتُ المجنَّ أمامهم            وإن ضاربوا كنت المهند والیدا

وإنه لم یكن یرضى بهزیمة أعدائه، وإنما أوجب على نفسه أن یجعلهم بین قتیل أو أسیر، قال([47">):

فبین قتیل بالدماء مضّرجٍ                  وبین أسیر فی الحدید مكّبلِ

هذه الشجاعة الباسلة والاندفاع الشدید نحو الموت المرةَ تلو المرة جعلت قومه یلومونه على ذلك، ولكنه لم یسمع كلامهم، قال([48">):

أُلامُ على التعرّض للمنایا                  ولی سمعٌ أصمُّ عن الملام

ولعل الذی شجع أبا فراس على ذلك أنه أدرك أن الموت ذو سطوة لا تُرد، ومیعاد لا یُخلف، لا ینفع معه حرص ولا حیلة، فإذا جاء أجلهم لا یستأخرون ساعة ولا یستقدمون، كما قال الله تعالى، قال([49">)::

وإذا المنیة أقبلت لم یثْنها                  حرص الحریص وحیلةُ المحتالِ([50">)

وأنه نهایة كل حی، یتساوى لدیه الأحیاء جمیعاً، قال([51">):

بنو الدنیا إذا ماتوا سواءٌ                  ولو عَمَرَ المعَّمرُ ألف عام

كما أنه (أی الموت) أیضاً لا یفارق الإنسان أبداً، قال([52">):

فمؤجَّلٌ یلقى الردى فی أهله               ومعجَّلٌ یلقى الردى فی نفسهِ

إن أبا فراس كان یرى الموت قتلاً النهایة الحتمیة الوحیدة التی لا مفر منها له ولجمیع الكرام الصید أمثاله، قال([53">):

ولئن قُتلتُ فإنما                  موت الكرام الصید قتلا

وأنّ له أجلاً مسمى لا یتقدم ولا یتأخر، قال([54">):

فإنْ أهلَكْ فعنْ أجلٍ مسمّى                سیأتینی ولو ما بینكنّهْ

ویعتقد أن الإنسان إذا لم یستطع الخلود جسداً، فإنه یستطیعه ذكراً خالداً یخلده بعد موته إلى أبد الآبدین بطولة وكرماً ومروءة ونبلاً ومثلاً، قال([55">):

هو الموت فاختر ما علا لك ذكرهُ                  فلم یمت الإنسان ما حیی الذكرُ

ولا بد فی قوله هذا أن یستوقفنا أسلوب القصر فی أوله (هو الموت) وما فیه من إیحاءات، منها أنه لا یوجد أمام الإنسان مهما طال به العمر أو تعددت به السبل أو طاب له العیش أو غیر ذلك، نقول: لا یوجد أمامه سوى الموت یرقبه وینتظره، كما قال طرفة بن العبد من قبل([56">):

لعمرك إنَّ الموت ما أخطأ الفتى            لكالطِّوَلِ المُرْخى وثِنْیاهُ بالیدِ

إن أبا فراس فی بطولاته وتحدیه للموت أراد أن یضع نفسه الموضع اللائق بها، فالإنسان حیث یجعل نفسه عزاً أو ذلاً، قال([57">):

وما المرء إلا حیث یجعل نفسه             وإنی لها فوق السماكین جاعلُ

ولقد أكد ذلك مرة أخرى لسیف الدولة حیث قال([58">):

ولا أعود برمحی غیر منحطم               ولا أروح بسیفی غیر مختضبِ

حتى تقول لك الأعداء راغمة              أضحى ابن عمك هذا فارسَ العربِ

هكذا كان موقف الشاعر من الموت موقف شجاع راكض إلى حتفه ركضاً لاهثاً سریعاً متكرراً لا یعرف راحة أو بطئاً. ورب قائل یقول: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا كان فی أسره یطل بالفداء ویلح فیه؟. إنه طلب فداءه وألح فی ذلك لا خوفاً ولا جبناً، وإنما كان یأنف أن یموت أسیراً كما یموت الجبناء، ولأنه أراد أن یهرب من موت لا عَناء ولا عزة فیه إلى موت عزیز فی ظلال السیوف كما یموت الأبطال المیامین، ونجد ذلك فی قوله لسیف الدولة([59">):

أنادیكَ لا أنی أخاف من الردى           ولا أرتجی تأخیر یومٍ إلى غدِ

ولكن أنفتُ الموت فی دار غربة            بأیدی النصارى الغُلْفِ میتة أكمدِ

ویرید بالنصارى هنا الروم. ولأنه أیضاً كان یرید العود إلى أمه العجوز لیبرها ویدفع عنها الضیم، قال([60">):

لولا العجوز بمنبجٍ               ما خفتُ أسباب المنیهْ

ولكان لی عما سألـ            ـتُ من الفدا نفس أبیّه

لكن أردتُ مرادها               ولو انجذبتُ على الدنیّه

وأرى محاماتی علیـ             ـها أن تُضامَ من الحمیّه

أمست بمنبجَ حُرةٌ                بالحزن من بعدی حَرِیّه

ورب قائل أیضاً یقول: لماذا اختار أبو فراس الأسر على الموت؟. فنجده قد أجابه أبو فراس على تساؤله هذا من قبل، وهو أنه القدر الذی لا یُرد، فی قوله([61">):

أُسرتُ وما صحبی بعزْل لدى الوغى                ولا فرسی مُهرٌ ولا ربُّهُ غَمْرُ

ولكنْ إذا حُمَّ القضاء على امرئ                      فلیس لـه برٌّ یقیه ولا بحر

ولا شك فی أنه كان یرى الفرار أمام الأعداء أشد من الموت وعاراً كبیراً لا یمكن قبوله، ونجد ذلك فی قوله([62">):

ولما لم أجد إلا فراراً             أشدَّ من المنیة أو حِماما

حملتُ على ورود الموت نفسی            وقلت لعصبتی موتوا كراما

وعذْتُ بصارم وید وقلب                 حمانی أن أُلام وأن أُضاما

وهكذا ظفر أبو فراس بالموت، عانقه عناق الحبیب لحبیبه، بعدما ظل یطلبه طوال عمره، ومنذ یفاعته، طلباً حثیثاً، تدفعه إلیه قوة كامنة عمیقة كاسرة لا تقهر، ولا تعرف كللاً ولا مللاً، حتى ظفر بالموت ظفراً مشرفاً شجاعاً ـ كما كان یرید ـ بضربة سیف أعجمی جبان غادر، بید أن هذه القوة الهادرة القاهرة التی كانت تكمن فی صبغیاته، وتندفع من قلبه الشجاع وروحه الأبیة كالحصان الأدهم الجموح فی صبغیاته، قد لقیت التشجیع كله من قناعته التی لم تعرف التردد، وإرادته التی لم تعرف إلا القوة، فاجتمع ذلك كله، ودفعه بشجاعة نادرة إلى حیاض الموت وعشق المثل الأعلى وخلود الذكر وسیرورة الاسم والأخبار والأشعار عبر القرون، تتناقلها الأجیال العربیة سیرة خالدة ومثالاً یُحتذى جیلاً إثر جیل.

المصادر والمراجع

ـ إعلام النبلاء بتاریخ حلب الشهباء، محمد راغب الطباخ، تصحیح محمد كمال، دار القلم، حلب 1988.

ـ دیوان أبی فارس الحمدانی، دار صادر، بیروت 1990.

ـ دیوان الهذلیین، الدار القومیة للطباعة والنشر، القاهرة 1965.

ـ زبدة الحلب، ابن العدیم، ت: سهیل زكار، دار الكتاب العربی، دمشق 1997.

ـ شرح القصائد السبع الطوال الجاهلیات، ابن الأنباری، ت عبد السلام هارون، القاهرة 1963.

ـ العصر الإسلامی، شوقی ضیف، دار المعارف، القاهرة 1963.

ـ العصر الجاهلی، شوقی ضیف، دار المعارف، القاهرة 1965.

ـ عصر الدول والإمارات (مصر والشام)، شوقی ضیف، دار المعارف، القاهرة 1984.

ـ لا تقتل نفسك، بیتر شتاینكرون، ت: نظمی راشد، دار الهلال، القاهرة، بلا تاریخ.

ـ وفیات الأعیان، ابن خلكان، ت: إحسان عباس، دار صادر، بیروت 1969.

________________________________________

([1">)  لا تقتل نفسك ص 7.

([2">)  المرجع نفسه.

([3">)  المرجع نفسه ص 10.

([4">)  المرجع نفسه ص 7 ـ 8.

([5">)  المرجع نفسه ص 16.

([6">)  هو الحارث بن سعید بن حمدان (320 ـ 357هـ = 932 ـ 968م) أمیر شاعر فارس، ابن عم سیف الدولة الحمدانی أمیر حلب، له دیوان شعر، أشهره الرومیات، وهی قصائد ممیزة، قالها وهو أسیر لدى الروم. (وفیات الأعیان 2/58).

([7">)  شرح القصائد السبع الطوال الجاهلیات ص 369.

([8">)  العصر الأهلی ص 66.

([9">)  شرح القصائد السبع الطوال الجاهلیات ص 371، العصر الجاهلی 65 ـ 66.

([10">)  العصر الإسلامی من 258 وما بعدها.

([11">)  المرجع نفسه ص 261 ـ 262.

([12">)  عصر الدول والإمارات، مصر والشام ص 505 وما بعدها.

([13">)  دیوان أبی فراس ص 97.

([14">)  وفیات الأعیان 2/58.

([15">)  القاموس المحیط باب الثاء فصل الحاء.

([16">)  المصدر نفسه، باب السین فصل الفاء.

([17">)  وفیات الأعیان 2/61.

([18">)  زبدة الحلب 1/119.

([19">)  انظر على سبیل المثال وفیات الأعیان 2/59 وإعلام النبلاء 4/48.

([20">)  أخبار الدول للقرمانی ص 265.

([21">)  دیوان أبی فراس ص 156.

([22">)  المصدر نفسه ص 157 ـ 161.

([23">)  المصدر نفسه ص 163.

([24">)  زبدة الحلب 2/144.

([25">)  المصدر نفسه

([26">)  المصدر نفسه 1/149 وما بعدها.

([27">)  تقع جنوب شرق حمص،وتبعد عنها ستین كیلو متراً تقریباً.

([28">)  بلدة شهیرة قرب حمص أیضاً.

([29">)  وفیات الأعیان 2/61.

([30">)  دیوان أبی فراس ص 55.

([31">)  المصدر نفسه ص 107.

([32">)  المصدر نفسه ص 161.

([33">)  المصدر نفسه.

([34">)  المصدر نفسه ص 212.

([35">)  المصدر نفسه ص 254.

([36">)  المصدر نفسه ص 111.

([37">)  المصدر نفسه ص 108.

([38">)  المصدر نفسه ص 110.

([39">)  المصدر نفسه ص 210.

([40">)  المصدر نفسه ص 266.

([41">)  المصدر نفسه ص 281.

([42">)  المصدر نفسه ص 33.

([43">)  المصدر نفسه ص 246.

([44">)  المصدر نفسه ص 36.

([45">)  المصدر نفسه ص 52.

([46">)  المصدر نفسه ص 90.

([47">)  المصدر نفسه ص 213.

([48">)  المصدر نفسه ص 276.

([49">)  المصدر نفسه ص 223.

([50">)  قوله هذا یذكر بقول أبی ذؤیب الهذلی:

وإذا المنیة أنشبت أظفارها                 ألفیت كل تمیمة لا تنفعُ

(دیوان الهذلیین 3)

([51">)  دیوان أبی فراس 276.

([52">)  المصدر نفسه ص 175.

([53">)  المصدر نفسه 240.

([54">)  المصدر نفسه ص 292.

([55">)  المصدر نفسه ص 160.

([56">)  شرح القصائد السبع الجاهلیات 201.

([57">)  دیوان أبی فراس ص 219.

([58">)   المصدر نفسه ص 52.

([59">)  المصدر نفسه ص83.

([60">)  المصدر نفسه ص 317.

([61">)  المصدر نفسه ص 160.

([62">)  المصدر نفسه ص 266.

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 16:51|