الوصف فی شعر
المتنبی
علاءعبدالخالق المندلاوی
كانت
شخصیة المتنبی وأوجه شعره المختلفة من أهم عوامل شهرته . قد اتسعت الحركة
المتنبئیة اتساعاً عظیماً فشملت العهد العباسی و عهد الانحطاط و عهد النهضة
، وذلك فی الشرق و فی الغرب ،توفر المتنبی على وصف الأخلاق ، وقد انصرف
إلى وصف بعض المشاهد الطبیعیة و الحیوانات ، وأكثر من وصف المعارك ، وكان
یحرص فی وصفه على التأثیر القوی . وحربیاته حافلة بالقوة تنطلق من كل بیت و
لفظة و قافیة ،یقول الناقد أنیس مقدسی . إن المتنبی برغم بعض سقطاته شاعر
عظیم. نعم إنه لم ینصرف خاصة إلى الوصف، ولكن شعره عموما وصف بلیغ لعواطفه
ولمناقب ممدوحیه وأحوالهم. وهو یمتاز بدقة التعبیر عن الحركات
والنزعات،الوصف نوعان حسی وخیالی - تقف إلى نهر فی واد كبیر وترى تدفق
المیاه بین تلك الشواهق العظیمة فتأخذك روعة المنظر وتستفز فیك المیل إن
كنت شاعرًا إلى وصف ما تراه من جمال وجلال. فإذا أنت تصف أسناد الوادی وما
علیها من الأشجار والكروم. وتصف تلك الصخور القائمة وانقضاض الماء من
بینها، وقد ترسم ما یتراءى لك فی ذلك الوادی من ألوان تلقیها علیه ظلال
المساء أو أشعة الفجر. وربما تعدیت ذلك إلى ما تراه من حیوان هناك - قطعان
البقر أو الغنم ترعى فی المروج أو الحقول - ولعلك ترى الفلاح یحرث الحقل،
أو تنظر إلى السماء فترى قطع الغمام یسوقها راعی الریح، أو قوافل الضباب
تنیخ فوق قمم الهضاب. یؤثر كل ذلك فیك فترسمه بألوان خلابة تستفز فی القارئ
عواطف الطرب، وتحبب إلیه رؤیة تلك المشاهد، وهو ما نسمیه الوصف الحسی وهو
أن تصور لسواك ما استفز فیك عوامل الاستحسان من المحسوسات على اختلاف
أشكالها وألوانها ،أما الوصف الخیالی فنظر فنی إلى ما وراء المحسوسات، فإذا
كان الشاعر واسع الخیال لا یقف عندما یقع تحت حسه فقط، بل یتعداه إلى
مناطق یفتتحها أمامه الخیال، فیجعل المرئیات أساسا لغیر المرئیات، ویولد من
المحسوسات صورا مجردة یرسمها للبشر تأملات وذكریات. یقف مثلا فی قلب
الوادی فیسمع فیه نبضات الحیاة ویمر أمامه على صفحات الماء حوادث التاریخ
فیذكر الأمم الغابرة والوقائع الماضیة، ویستخلص من ذلك عبر الأیام وعلاقتها
بازدهار المدنیات واندثارها وما إلى ذلك مما یستخدم فیه الحس توصلا إلى
صور الخیال البعیدة ،وإذا تأملت شعر المتنبی وجدته - كأكثر الشعر العربی -
معنیا بالوصف الحسی دون الخیالی. ویتناول المناقب البشریة والمشاهد
الطبیعیة والعمرانیة ووقائع الحرب والفروسیة ،المتنبی عبقری نادر ، برع فی
رسم الصورة الخاطفة ، الجانبیة ، وتجافى عن التفصیل كما فعل ابن الرومی ،
ودارت صوره فی فلك ذاته ، ومطامحه ، وإیثاره وحقده ، وأروع لوحاته تلك التی
رسم فیها جریان الدم ، ورنین السیوف ، ولمعان الأسنّة ، وضبح الخیل ، ورهج
الغبار ، فی جو من المبالغة یفوق جو الأسطورة الیونانیة فی معظم
الأحوال،وهو عادة دقیق جید الدیباجة یثیر العاطفة ویبهجها. ولنر بعض من
رسومه الشعریة: 1- المناقب البشریة، ویدخل فیها المدیح والغزل والفخر. أما
المدیح (مدح الحی أو رثاء المیت) فمذهبه فی أكثر قصائده ولا یخرج فیه عما
ذهب إلیه سواه من وصف مكارم الممدوح وذكر أعماله وصفاته، سداه ولحمته
الإطناب والمبالغة، فالممدوح هو المثال الأعلى فی الشجاعة أو الكرم أو علو
الهمة والإقدام على العظائم. ویصدق ذلك أیضا على وصفه الغزلی. فإن القطع
الغزلیة التی یصوغها مقدمات لقصائده تدور على وصفه لشدة الوجد وأثره فی
المحب من سقم وسهاد وعناء وألم. وله فی ذلك ما یعد فنیا من الطبقة الأولى ،
كقوله فی نظرة المحبوب : یا نظرة نفت الرقاد
وغادرت فی حد قلبی ما حییت فلولاعلاءعبدالخالق المندلاوی
كانت من الكحلاء سؤلی إنما
أجلی تمثل فی فؤادی سولا (3)
ومن بدیع فنه أیضا :
بأبی الشموس الجانحات غواربا
اللابسات من الحریر جلاببا
المنهبات عقولنا وقلوبنا
وجناتهن الناهبات الناهبا
حاولن تفدیتی وخفن مراقبًا
فوضعن أیدیهن فوق ترائبا
وبسمن عن برد خشیت أذیبه
من حر أنفاسی فكنت الذائبا
وفی فخره وصف دقیق لعواطف نفسه ولتأثیر البیئة فیه، وقلما تجد شاعرًا ترتسم خوالجه فی شعره ارتسامها فی شعر المتنبی. وما دیوانه ولا سیما الفخر والحكم فیه إلا مرآة تعكس لنا نفسیة ذلك الشاعر الكبیر ویبرزها فی أجمل الألوان وأشدها تأثیرا فی النفس. ولا یدانیه فی ذلك إلا أبو تمام، ولكن المتنبی یفوقه فی جمال التعبیر وجلال المطلب ودقة النظر فی الحیاة. المشاهد الطبیعیة والعمرانیة، لیس للمتنبی فی هذا الباب ما لسواه من الوصافین. والغریب أنه اختبر حیاة البادیة والحضر فجاب السهول والجبال وتقلب فی شتى الأمصار، ومع ذلك لا نرى أن مناظر الطبیعة والعمران من أنهار وبحار وجبال وقفار وریاض وقصور وآثار قد أثارت قریحته ودفعته إلى التمتع بوصفها. فها هو مثلا یمر بلبنان ویرى ما فیه من شواهق ووهاد، وما وهبته الطبیعة من جمال یخلب الألباب فلا یذكره إلا عرضا إذ یقول للممدوح بینی وبین أبی على مثله
شم الجبال ومثلهن رجاء
وعقاب لبنان وكیف بقطعها
وهو الشتاء وصیفهن شتاء
لبس الثلوج بها على مسالكی
فكأنها ببیاضها سوداء
والوصف هنا جمیل ولكنه غیر كاف للدلالة على میل خاص فی الشاعر إلى وصف الطبیعة وقد رأى العاصی والأردن وأقام على ضفافهما، وهبط مصروجاور النیل والأهرام، وعرف دجلة والفرات واتحادهما بشط العرب العظیم، ورأى إلى كل ذلك كثیرا من المناظر الخلابة، والمشاهد المثیرة للشعور، ولیس له مع كل ما عرف ورأى وصف یذكر إلا بضعة أبیات فی شعب بوان نظمها فی وصف طریقه إلى شیراز فقال منها . غدونا تنفض الأغصان فیها
على أعرافها مثل الجمان
فسرت وقد حجبن الحر عنی
وجئن من الضیاء بما كفانی
وألقى الشرق منها فی ثیابی
دنانیرا تفر من البنــــــــان
لها ثمر تشیر إلیك منه
بأشربة وقفن بلا أوان
وأمواه تصل بها حصاها
صلیل الحلی فی أیدی الغوانی
3 - وقائع الحرب والفروسیة وهنا یبلغ شعره الوصفی أعلاه. فالمتنبی فارس، خاض غمرات الحروب وعرف وقائعها، فإذا وصف الكتائب وعراك الأبطال ساق الكلام على سجیته وجاء بالنظم الفائق. وهو یمتاز بتصویر الحركات وما یثیرها من نزعات، فإذا وصف معركة لم یكتف بذكر عظمة الجیوش ومعداتها الحربیة بل نظر نظرًا دقیقًا إلى حركات الفرسان ومضاء خیولهم ، كقوله :
تبارى نجوم القذف فی كل لیلة
نجوم له منهن ورد وأدهم
یطأن من الأبطال من لا حملنه
ومن قصد المران ما لا یقوم
فهن مع السیدان فی البر عسل
وهم مع النینان فی البحر عوم
وهن مع الغزلان فی الواد كمن
وهن مع العقبان فی النیق حوم ویجری مجرى الوقائع الحربیة أعمال البأس فی الإنسان والحیوان. وفیها أیضا یظهر میل المتنبی إلى وصف الحركة والنزعات الداخلیة، وأهم ماله فی ذلك تصویر الأسد فی قصیدته لابن عمار وقد أصاب ابن الأثیر إذ فضله فی ذلك على البحتری فقال : ” إن معانی أبی الطیب أكثر عددا وأسد مقصدًا” وأساس هذا التفضیل أن المتنبی تفنن فی ذكر الأسد فوصف صورته وهیئته ووصف أحواله فی انفراده وفی هیئة مشیه واختیاله، ووصف خلقه (من بخل وشجاعة) وشبه الممدوح به فی الشجاعة وفضله علیه بالسخاء، ثم أنه عطف على ذكر الأنفة والحمیة التی بعثت
الأسد على قتل نفسه بلقاء الممدوح، وأخرج ذلك فی أحسن مخرج وأبرزه فی أشرف معنى،وإذا تأملت كلام ابن الأثیر فی المتنبی رأیته محمولا على ما ذكرناه لشاعرنا من وصف الحركات والأحوال والنفوذ إلى النزعات النفسیة العمیقة. فانظر كیف ینتقل من وصف هیبة الأسد ولونه وبأسه وعینیه ووحدته فی الغاب إلى وصف حركاته فیقول :
یطأ الثرى مترفقًا من تیهه
فكأنه آس یجس علیلا
ویرد عفرته إلى یافوخه
حتى تكون لرأسه إكلیلا
اما وصف المرأة فی شعر أبی الطیب : أعتقد جازما بأن (المتنبی ) كان شغوفا بالمرأة، متیما فی هواها، یدل على ذلك مفتتح قصائده ومطالعها، التی ینشدها ساعة الاستقرار، فیها الصور الكثیرة فی الغزل بها والتشبیب بصفاتها، غیر أن حیاته التی اختارها ان تكون فی بلاط أبی العشائر، أو سیف الدولة أو كافور، أو غیرهم من الأمراء وعلیة القوم ، تكتم علیه أن یكتم حبه وأن یلزم حیاة المجد لیصل إلى الهدفیقول الدكتور “سعد شلبی “. فان المتنفس الذی یفصح عن حبه المكتوم هو مطالع بعض قصائده ، ومن نماذج هذا الغزل الذی كان فیه ذ كر المحبوبة لأول مرة . وهی “جمل ” قوله فی قصیدة مدح فیها “شجاع بن محمد الطائی “:
جرى حبها مجرى دمی فی مفاصلی
فأصبح لی عن كل شغل به شغل
ومن جسدی لحم یترك السقم شعرة
فما فوقه الا وفیها له فعــــــل
اذا عذلـــوا فیهــا أجبت بـــأنه
حبیبتا قلبا فؤادا هیا جمـل
كأن رقیبا منك سدى مسامعی
عن العذل حتى لیس یدخلها العذل
كأن سهاد اللیل یعشق مقلتی
فبینهما فی كل هجر لنا وصل
أحب التی فی البدر منها مشابه
وأشكو الى من لا یصاب له شكل
فهذا المطلع ینبض ببأساء الحب ، وشجن المحب المتهالك الذی أصبح عبرة للمحبین ، فقد أحب حتى ذهب عقله ، وجرى الحب فی عروقه ، فأذهله عن كل شیء ، وأصاب من جسمه كل شیء ، فلا مجال لرجعة عن حبه ، فلا یملك الا الأنین باسمها وصفاتها، وكأن جمالها قد صرفه عن كل عذل ، ذلك الجمال الذی أسهره لیله فلا یكاد ینام . ومطالع (أبی الطیب ) الغزلیة كثیرة ومتعددة. فله فی كل البیئات المكانیة التی قضى بها صفوة حیاته حب ، فالحب لم یفارقه ولم یتعد سنین عمره ، فقصائده التی كتبها فی الشام أو لسیف الدولة أو لكافور، أو التی صاغها وهو فی بغداد أو شیراز أو خراسان كلها تنبض بالحب والإحساس به ، فانظر وصفه للمرأة، فی مطلع قصیدته المدحیة لـ”علی بن منصور” التی یقول فیها :
بأبی الشموس الجانحات غواربا
اللابسات من الحریر جلاببا
المنهبـــات قلوبنــا وعقولنــا
وجناتهن الناهبات الناهبـــا
الناعمات القاتلات الممیتـات
المبدیات من الدلال غرائبــا
حاولن تفدیتی وخفن مراقبا
فوضعن أیدیهن فوق ترائبا
وبسمن عن برد خشیت أذیبه
من حر أنفاسی فكنت الذائبا (1)
فهذه الأبیات تمتلىء بمعانی الحب ومعرفة الغوانی وطبائعهن ، وما یحدثن من تأثیر. وظاهر تصویر المتنبی للمرأة :سوف أركز هنا على المظاهر الحسیة، والمظاهر الرمزیة لتصویر “المتنبی ” للمرأة مستلهما مطالع القصائد التی جاءت حاملة هذا الاطار .أولا : المظاهر الحسیة :حدد “المتنبی ” المظاهر الحسیة لصورة المرأة التی رسمها فی خیاله ، فطفق تغزلا بها واصفا وجهها ولونها، وشعرها، وقوامها، وعیونها، وغیر ذلك من الصفات . فهی فی لونها بیضاء مشرقة كأنها الدرر فی لمعانه : “لها بشر الدر الذی قلدت به أما وجهها فوصفه بأنه منیر، ساطع ، محیا، یزیل الظلمة فیعید النهار وسط دیاجیر الظلمة ، یقول المتنبی : ولدار بدر قبلها قلد الشهباء ووجه یعید الصبح واللیل مظلم
كما أنها كالشمس فی سطوعها، وجمال محیاها، وهی تنثر أشعتها، وضاءة، مشرقة :
كأنها الشمس یعیی كف قاصبة
شعاعها ویراه الطرف مقتربا
وشعرها طویل ، فاحم السواد، وهو جعد، فیه رائحة العنبر ممزوجة بماء الورد یصفه بقوله :
حالك كالغداف ، جثل فحوجی
أثیب جعد بلا تجعید
ذات فرع كأنما ضرب العنبر
فیه بماء ورد وعود
أما عینیها فقد أخذت النصیب الوافر من وصفه ، فقدم فیها أروع فنه الوصفی لأنها المعبرة عن خلجات نفسه الحبیبة، التی تزكیها صفات الجمال الحكلمی ، فاحتلت لذلك مساحة واسعة من غزله . ففی رأیه هناك ثلاثة أنواع من العیون ، أولها ، عیون قاتلة” تمثلها المتنبی فی وجه البدویات الحسان التی تنعم بالبساطة، ولا تعرف المكر والخداع ولكنها ترمی قلوب المحبین دون قصد ولا إدارة بلحاظها القاتلة :
الرامیات لنا ومن توافر
والخاتلات لنا وهن غوافل
واذ ا جئنا للأوصاف الأخرى الحسیة نجدها تتمثل فی وصف قوام حبیبته فكما یصورها، فهی طویلة” رشیقة، ضامرة البطن ، دقیقة الخصر، ثقیلة الأرداف ، یتمثلها البیت التالی من قوله : وقابلنی رمانتا غصن بانه یمیل به بدر ویمسكه حقف اما الظواهر الفنیة فی وصف المتنبی للمرأة : لعل أهم ما سنركز علیه من ظواهر فنیة فی وصف المتنبی للمرأة، هو عنصر اللغة، وما نجم عنها من استخدامات كثیرة تفرد بها وأصبحت تشكل ظواهر فنیة، فی شعره خاصة، ومن هذه الظواهر استخدام المحسنات البدیعیة أو ظاهرة ا لأضداد . ولقد شاعت تلك الظاهرة فنیا فی العصر العباسی كما وصفه “شوقی ضیف ” فی كتابه “الفن ومذاهبه إلا إن المتنبی ” ألح علیه إلحاحا كبیرا، وأصبحت نتیجة ذلك ملفتة للنظر، فهو یعقبها، ویرصدها، ویحاول أن یمزجها فی مجموعة من الألوان التی یؤثرها فی وصفه . فهو عندما یعثر على البیاض فی إشراق وجه الحبیبة، والسواد فی شعرها الفاحم ، یفیض علیهما من حسه ما یجعلهما أكثر تعقیدا، وأعظم إثارة للنفس.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 16:53|