ابزار وبمستر

الطبیعة فی شعر ابن خفاجة
الطبیعة فی شعر ابن خفاجة

بسم الله الرحمن الرحیم

المقدمة :

وهب الله الأندلس طبیعة ساحرة ووافرة جمالاً.. جبالها الخضراء وسهولها الجمیلة، وتغرید طیورها على أفنان أشجارها... كل ذلك له أثره فی جمال الأندلس التی شغفت بها القلوب وهامت بها النفوس.
ومن هنا نجد تَعَلُّق الأندلسیین بها، یسرحون النظر فی خمائلها، وأخذ الشعراء والكتاب ینظمون درراً فی وصف ریاضها ومباهج جنانها.
یقول ابن خفاجة :
یا أهل الأندلس لله دركم ماء وظل وأنهار وأشجار
ماجنة الخلد إلا فی دیاركم ولو تخیرت هذا كنت اختار

ولم یكن جمال الطبیعة فی الأندلس هو وحده الذی ساعد على ازدهار شعر الطبیعة هذا، بل أن حیاة المجتمع الأندلسی أثرت أیضاً فی هذا الشعر، الذی یمثل تعلق الشعراء الأندلسیین ببیئتهم وتفضیلها على غیرها من البیئات، ولكون الشعر عندهم یصف طبیعة الأندلس سواء الطبیعیة أو الصناعیة، فهم یصورونها عن طریق الطبیعة كما أبدعها الله فی الحقول والریاض والأنهار والجبال والسماء والنجوم، ویصفونها كما صورها الفن لدیهم فی القصور والمساجد والبرك والأحواض وغیرها .

فابن خفاجة شاعر الطبیعة ومصوّرها، وقد امتلأت نفسه وعینه من جمال الحیاة وجال الطبیعة، فراح یبرز هذا الجمال المعنوی فی صور مختلفة من الجمال اللفظی، فانتقى الأسالیب الصافیة والألوان الزاهیة، ودّبجها بزخرف البدیع، ووشّاها بكثیر من المجاز والتشبیه ... .

فأُطلق علیه لقب شاعر الطبیعة، وذلك لكثرة ما كُتب ضمن قصائده عن الطبیعة وجمالها فی الأندلس، فوُصف ابن خفاجة المدّاح أقل وزناً وشأناً من ابن خفاجة الوصاف والغزّال، ووصفه متعدد الألوان والإیقاعات وغزله رقیق، صادق المشاعر، وخاصة عندما یصف الطبیعة فی ضوء مفاتن المرأة .

ومن هنا فجاء بحثی على فصلین، الفصل الأول قسمتهُ إلى مبحثین، فالمبحث الأول خصصته للحدیث عن وصف الطبیعة فی شعرهِ، أما المبحث الثانی فخصصته للحدیث عن الطبیعة فی شعر ابن خفاجة المدحیّ، أما الفص الثانی والذی قسمته كذلك الأمر إلى مبحثین، الأول خصصته للحدیث عن مظاهر الطبیعة فی شعره، أما المبحث الثانی والأخیر فتناولتُ فیه خصائص شعره عامةً وبالطبیعة خاصةً .

تمهید

تنعم البیئة الأندلسیة بجمال ثر وروعة آسرة، وتصطبغ بظلال وارفة وألوان ساحرة، تتنفس بجو عبق عطر یضاعف من روعته وبهائه ما یتخلل جنباتها من مواطن السحر ومظاهر الفتنة التی تبعث الانبهار والدهشة فی النفوس([1])، وقد انعكس ذلك فی شعر الأندلسیین بشكل عام، حیث ازدحم بصور متنوعة ملونة تمثل البیئة الطبیعیة فی هذه الرقعة المسماة بالأندلس.

ومن هنا تشكلت صورة الأندلس فی الأذهان متقاربة فی أوصافها وألوانها وقسماتها... هذه الصورة على العموم تأخذ عطرها وعبقها وملامحها وألوانها من الطبیعة، فهی أقرب إلى لوحة فنیة ناطقة، إنها بستان زاهٍ أو حدیقة غناء أو واحة خضراء.

وقد شاع هذا الفن لدى الأندلسیین وتوسعوا فیه فأصبح العامل الكیمیائی المساعد كما یقول د. إحسان عباس - یدخل فی تركیب جمیع فنونهم الشعریة الأخرى وفی شتى الأغراض حتى تلك المجالات التی لا تسمح طبیعتها لمثل هذه الصور والألوان الشعریة مثل الرثاء وغیر ذلك.

وقد بلغ ولعهم بالطبیعة والاستعانة بها فی أغراضهم الشعریة حداً یصعب معه على القارئ أن یدری إذا كان الشعراء یتحدثون عن الطبیعة أم كانت الطبیعة تتحدث عنهم لفرط ما تغلغلت فی نفوسهم ولكثرة ما وصفوا من مناظرها([2])".

ودفعهم ولعهم هذا إلى تألیف كتب ورسائل خاصة فی هذا الباب من ذلك مثلاً كتاب "الحدائق" لابن فرج الجیانی (ت366هـ) وكتاب "البدیع فی وصف الربیع" لأبی الولید اسماعیل الحمیری (ت440هـ) وحدیقة الارتیاح فی صفة حقیقة الراح لأبی عامر بن مسلمة وزمان الربیع لأبی بكر الخشنی الجیانی وغیرها.

ولسنا نرید أن نتوسع فی الحدیث عن شعر الطبیعة... ولكن ینبغی أن نحدد مفهوم شعر الطبیعة وحدّه وتعریفه، ثم بعد ذلك نقف عند شعر ابن خفاجة لمعرفة مدى تحقق ذلك المفهوم فی شعرهِ .

یقول الدكتور جودت الركابی إن شعر الطبیعة هو الشعر الذی یمثل الطبیعة وبعض ما اشتملت علیه فی جو طبیعی یزیده جمالاً خیال الشاعر، وتتمثل فیه نفسه المرهفة وحبه لها واستغراقه بمفاتنها([3]).

ویقرر الركابی أن (شعر الطبیعة) تعبیر جدید فی أدبنا جاءنا من الآداب الغربیة... وكان من أهم مظاهر الحركة الإبداعیة الرومانسیة فی أواخر القرن الثامن عشر.. والطبیعة كما یفهمها الرومانسیون صدیقة وفیّة یحبونها لما تمنحه من جمال لحسّهم وهدوء لنفوسهم، فیستسلمون إلیها ویشاطرونها المناجاة ویبوحون إلیها بعواطفهم وآلامهم([4]).

الفصل الأول : الطبیعة فی شعرهِ

ولنعرف إن كان حقاً شاعر طبیعة أم أنه یستعین بالطبیعة فی زیادة الزهو والجمالیة فی نتاجه إن ابن خفاجة بحكم النقاد ومؤرخی الأدب العربی ُیعتبر من شعراء الطبیعة .

فكان یتفاعل مع الطبیعة الأندلسیة ویتأثر بها فیشاطرها همومه وأشجانه ویقاسمها مشاعره التی تفیض حباً وحناناً، فاستعان بصورها وقاموسها وألفاظها فی شتئ أغراضه الشعریة .

إنّ ذلك التفاعل الحاصل بین الشاعر وبین المشهد الطبیعی یزید من حیویة الفن وقدرته على التأثیر؛ لأنه یكون أكثر صدقاً فی الإثارة وفی البناء والصیاغة، فلم یتخذ ابن خفاجة الطبیعة لذاتها مكتفیاً بوصفها ونقل محسوساتها الخارجیة، ولیس ذلك بمعجز له أو صعب علیه، وهو الشاعر القدیر على النظم والصیاغة، ولكنه اتخذ من الطبیعة بجزیئاتها ومظاهرها ومفاتنها عنصراً مكملاً ومتداخلاً مع أشیاء أخرى... فلم یتخذها مسرحاً أو مكاناً للحدث وإنما جعلها جزءاً منه... فأنطقها وطبع علیها صفات إنسانیة ومنحها حواساً بشریة فهی ترى وتسمع وتشم.! وهی تضحك وتبكی وتفرح وتتألم .

إنّ اسقاط الحواس على الطبیعة وبالصیغة التی عرفتها بعض قصائد ابن خفاجة وبالطریقة التی تعامل معها شاعرنا لم تكن معروفة لدى شعراء أندلسیین آخرین... كانوا یتباهون ویتبارون بمقدار نجاحهم فی إیجاد صورة جمیلة لزهرة أو بستان أو نهر أو تشبیه أو استعارة أو غیر ذلك لمظهر من مظاهر الطبیعة التی تحیط بهم وتضم لیالی أنسهم أو مجالس سمرهم .

ولكن ابن خفاجة كان یشترك مع شعراء عصره فی الاستعانة بألفاظ الطبیعة ودیباجتها وجمالها فی أغراضهم الشعریة المختلفة... تتسلل إلى قصائدهم لغة أو صورة أو تشبیها أو كنایة أو استعارة، فكان معجم الطبیعة طاغیاً على الشعر الأندلسی عموماً بُعید القرن الرابع الهجری، فكان الإغراق فی استخدام عناصر الطبیعة ومفرداتها سبباً فی اتصاف الشعر الأندلسی وأهل الأندلس بعشق الطبیعة والهیام بمفاتنها والتعلق بها... ولا نرید أن نسترسل فی هذا الموضوع فنتحدث عن ولع الأندلسیین بالبیئة وألوانها ومناظرها وصورها ولكننا نرید أن نقف عند حالة فریدة وجدیدة كان لها أثر كبیر فی الدراسات اللاحقة، لأنها تشكل تحولاً كبیراً فی الشعر العربی، ألا وهی شعر ابن خفاجة فی الطبیعة .

المبحث الأول : وصف الطبیعة فی شعرهِ

یعد ابن خفاجة أشهر شُعراء الأندلس فی موضوع وصف الطبیعة، ولعل شعره یفیض بالمزایا التی تجعله فی مقدمة شعراء العرب القُدامى فی هذا الفرض فقد أكثر من وصف الطبیعة الأندلسیة، ووصل بین الطبیعة وبین معظم أغراض الشعر الأُخرى، وجعل مفردات الطبیعة على اختلاف أنواعها معجماً لُغویاً وفنیاً یرجع إلیه فی صناعته الشعریة؛ وربط بین الطبیعة وبین رؤیته الخاصة للحیاة بما فیها من عظاتٍ وعِبر([5]) .

فالطبیعة هی المعنى التی تتفجر منه شاعریته وفی أرجائه یطوّف خیاله، إنها كائن حیّ یحبّها وتحبّه، یناجیها وتناجیه، بصحبتها تطیب الساعات، وبأفیائها تخلو رقائق العیش، وربما كانت صرخة ابن خفاجة أصدق تعبیر عن هیام الأندلسیین ببقعة لا یعدلون بها جنّة الخلد كما ذكرنا سابقاً .

ومهما تعددت أغراض الشاعر فی شعرهِ، فإن الطبیعة تظلّ بارزة، فإذا فرح شاركته حبورها، فهو مفرم بأسالیب البیان یستقومها من الطبیعة كموضوع وحی لا ینضب : فالطیور قیان، وشدوها غناء، ورجعها موسیقى، والندى درر، والنور عقد والورق عطاء .

وتأكیداً على ذلك، یقول ابن خفاجة فی وصف الحدیقة([6]) :

وصقـیلة الأنوارِ تلـوی عِطـفَها ریحٌ تلفّ فروعـها معـطار([7])

عاطـى بها الصهباءَ أحوى أحورٌ سَحّابُ أذیال السّـُرى سحّار([8])

والنَّورُ عِقدٌ والغصـونُ سـوالفٌ والجذعُ زَندٌ والخـلیج سوار

بحدیـقة مثـل اللَّمـى ظِلـاَّ بـها وتطـلعت شَنَبا بها الأنـوار([9])

رقص القضیبُ بها وقد شرِبَ الثرى وشـدا الحمامُ وصَفَّق التیار([10])

غَنّاء ألحَـفَ عِطفَـها الوَرَقُ النّدی والتـفّ فی جَنباتها النـوّارُ

فَتطـلّعت فی كل مَـوِقع لحـظةٍ من كل غُصـنٍ صَفحةٌ وعِذارُ

نلاحظ فی الأبیات السابقة بأن فنّ النوریات قد أزدهر بشكل واسع فی بیئة الأندلس ومن أهم العّوامل التی ساعدت على انتشاره : وفرة الأزهار، الرخاء الاجتماعی، شغف الملوك بالنواویر وشروح حیاة اللهو، وقد سحر الشعراء بمفاتن الأنوار فتباهوا فی وصغ ألوانها وأشكالها ولعهم بمباهج الزهر، فإن بقیت صوره مطبوعة على صفحات خیالیه، یتمثل ذلك فی وصف ابن خفاجة حدیقة اللمى .

فی البیت الأول : تبدو النوار فی القصیدة وكأنها امرأة فلها من صفاتها، تحنو هذه الأخیرة بعطفها على الرجل لترویه عطفها وحنانها، وهنا تلوی النوار عطفها على الأرض لتحضنها بین أحضانها فتصبح بذلك كرجل یتنعم بعاطفة محبوبة، لقد شخّص الشاعر النوار بامرأة ؛ لأنها تتمیز بعطرها الأخّاذ فتبدو وكأنها سرقت عطرها من الزهرة البیضاء .

فی البیت الثانی : كما یحاول الشاعر دمج الطبیعة بالإنسان عامّة، بالمرأة خاصةً فی جو عابق بالسعادة والراحة، فرآها تتعاطى الخمر بین أزهار النّوار، وتبدو تلك الجاریة الأخّاذة ذات العینین السوداویین، ترتدی ثوباً طویلاً ملامساً الأرض .

إذاً، فی البیت الثانی یظهر المثلث الذی لا یتفرّق عند شاعرنا والذی یتأسس على موضوع الطبیعة والمرأة والكأس .

فی البیت الثالث : ثم توحّدت نفس الشاعر مع نفس الطبیعة توحّداً ثابتاً، وجعلت من صورها أشخاصاً حیّة، تتمتع بمیزات إنسانیة، وهذا الاندماج الموحّد یظهر بصورة واضحة عندما یربط بین الطبیعة والمرأة، فقد جعل النور عقداً كی تزیّن المرأة عنقها لإبراز جمالها، كما رأى فی الغصون المتفرعة شعر المرأة المتدلی، واستخدم الجزع للزند كمصدر قوّة وأمان، كما أن التفاف الزهر فی الحدیقة یبدو وكأنه سوار، إذاً نستنتج أنّ السوار والزند والسوالف كلها عناصر أساسیة خاصة بالمرأة .

فی البیت الرابع : ویمثل بین المرأة والحدیقة أصدق تمثیل فلو حذفنا كلمة حدیقة لكان البیت یتحدث عن المرأة باللمى والأسنان البیضاء والأنوار والعیون، فالحدیقة لیست زهوراًُ وأنواراً تعصف بها الریاح فبقى على أوراق الأشجار، وتعزف فی جناتها العصافیر، إنما هی امرأة مشتاه یلمّتها وفمها وقدّها وعطفها وزندها فبتنا تشوبنا الحیرة، أنحن فی حضرة امرأة الشاعر أم فی حدیقته .

فی البیت الخامس : كما تبدو الطبیعة وكأنها فی حفل، فنرى القضیب فی حالة سكر وقد بدأ بالرقص بعد شربه الخمر، الذی یرمی فی النفس الفرح والمتعة وفی الفكر نسیان الواقع المزعج، وهنا نسی القضیب واقع الجماد بعد شربه الثرى، ثم یضیف الحمام جوّ الفرح إلى الطبیعة بغنائه الجمیل، وكل حفل ینتهی بالتصفیق، وقد صفقت أوراق الأشجار عربون تهنئة، وفی هذا الحقل أو العرس تتسابق المرأة والطبیعة على إبراز نشوتها، یلاحظ هنا، أن الشاعر قد صوّر لنا واقع حفلاته فی ذلك العصر فكان للاستعارات دلالات حضاریة وكأن الشاعر ضرب عصفورین بحجر واحد، قد أهدى صفات تتعلّق بالروح لمن لا روح له وذلك لإحیاء جمال الطبیعة فی عیوننا وللتأثیر من جهة لیصف لیالی أنسه فی ذلك العصر من خلال الطبیعة، وكأن الحنین یعود بالذكرى إلى أیّام شبابه ومجونه .

فی البیت السادس والسابع : والسكون عاد إلى الطبیعة بعد الحفل، فقد حان وقت الاستراحة أو النوم، لذا استعارت الحدیقة الورق الندی غطاءً لها والتحفت به، والتفّت فی كل جنباتها الأزهار البیضاء، التی تحضر عند انتهاء كل حفل لتكوّن عربون فرح وتكریم، وأصبحت الطبیعة وكأنها جنّة فی كل موقع منها ذكریات لا تنسى ورؤیا مبدعة، إذاً نلاحظ فی البیتین الأخریین الوصف لما تبقّى من عدّة الطبیعة ( الورق، الندى، النوار، وكیف التفّ فی جنباتها ) حتى بتنا نشهد كأنها ذكرت فی القرآن الكریم، حین تحدّث عن جنّة عدن .

ونخلص مما سبق بأن معظم الصور مستمدّة من واقع البیئة، وبخاصّة صورة القضیب الذی یرقص بعد شربه الثرى أو صورة الجاریة التی تحمل الخمر، مما شاع فی ذلك العصر تأثیر شرب الخمر فی لیالی الأنس .

ونلاحظ أنّ الشاعر مزج حالته النفسیة بالمظاهر الطبیعیة، أی عكس نفسه على الطبیعة كما زیّنها بالتشخیص الممیّز، لقد تخیّل الحیاة فی ما لا حیاة فیه ومزج الجماد أو المظاهر الطبیعیة صفات إنسانیة من خلال التشبیه ( النور عقد، والغصون سوالف، الجزع زند، والخلیج سوار ) والاستعارات ( رقص القضیب، شرب الندى، صفق التیار ) والكنایة ( سحّاب أذیال الصبی ) والجناس العرفی ( أحوى، أحور ) .

هذه القصیدة وإن كانت بظاهرها موضوعاً بسیطاً، غیر أنها بباطنّیتها قصیدة تتحدّث عن جمال الطبیعة الأندلسیّة، ورقتها، وانعكاسها على المشاعر، وكأن الشاعر ألبسها حلّته النفسیّة فأتت مشخّة هادفة .

ویقول ابن خفاجة :

یا بانـة، تهتز فینـانةً وروضة، تنفخ، معـطاراً

لله أعطافك من خـوطةٍ وحبّــذا نـورك نـوّار

نلاحظ فی هذین البیتین، أن شغف ابن خفاجة بذكر الجنان والریاض جعله یحمل لقب الجنّان، فإذا وصف المرأة نابت نضارة الطبیعة عنها رامزة إلیها، فشبّه أعطاف المرأة بالغصن وسرق نورها من النوار، وعطرها من عطر الأزهار البیضاء .

ویعد معظم شعراء الأندلس من شعراء الطبیعة، فكل منهم أدلى بدلوه فی هذا المجال إما متغنیاً بجمال طبیعة الأندلس أو واصفاً لمجالس الأنس والطرب المنعقدة فیها، أو واصفاً القصور والحدائق التی شُیدت بین أحضان الطبیعة، ولذلك كان كل شعراء الأندلس ممن وصفوا الطبیعة، ویُعدُّ الشاعر ابن خفاجة الأندلسی المقدَّم بین هؤلاء الشعراء إذ وقف نفسه وشعره على التغنی بالطبیعة لا یتجاوزها وجعل أغراض شعره الأخرى تدور حولها .

وفی شعر الطبیعة عند ابن خفاجة اتّصالٌ بین تلك الموصوفات وبین نفس الشاعر، وعاطفته، وتمازجٌ بین كثیر منها وبین رؤیته فی الكون، وموقفه من الحیاة .

فالشاعر یتعاطف مع ما یصف، وكثیراً ما ینقل إلى القارئ أحاسیسه بجزئیاتها ووقائعها، ویجعل بعض معطیات الطبیعة سبیلاً إلى مشاركة وجدانه، وتصوّر ذاته ومن ذلك قصیدته التی اشتهرت بعنوان وصف الجبل، وقصیدته فی صفة القمر([11])، فقد قال فی قصیدته الأولى :

أَصَختُ إلیه وهو أخرسُ صامتٌ فحدّثنی لیلَ السّـُرى بالعجائبِ

وقال ألا كم كنـتُ ملجأ فاتـكِ ومـوطنَ أواهٍ تبـتّل تائــب

وكم مرّ بی من مولـجٍ ومُؤَدِّبٍ وقالَ بظلّی من مطیٍّ وراكبِ ...

ویقول فی الثانیة :

لقد أصختُ إلى نجواك من قمرِ وبتّ أُدلُج بـین الوعـی والنّظرِ

لا أَجتلی لُمحَاً حتى أعی مُلحاً عدلاً من الحكم بین السمع والبّصرِ

فقد وَجد الشاعر فی الجبل إنساناً ذا تجارب یتحدّث بما جرى له، وكان معه من أَحداث الزمان، فهذه القصیدة تمنحنا نفحة جدیدة للشعر الأندلسی هی هذه المشاركة فی العواطف التی یشعر بها المتأمل لسحر الطبیعة وما یعتریه من رهبة أو طرب وإعجاب .
ففی هذه القصیدة قد استطاع ابن خفاجة أن یناجی الطبیعة على نسق جدید لم یعهده الشعر العربی القدیم، فأشرك النفس الإنسانیة بسر الطبیعة ودرك ما یسمى عن الفرنجة بحس الطبیعة([12]) .

ووَجد فی القمر عِبَراً كثیرةً إن لم ینطق بها بلسان المقال فقد عرضها على الواعین من الناس بلسان الحال .

إذاً فقد وصف الشاعر الطبیعة بجمیع مظاهرها ومباهجها فوصف الطبیعة الصامتة بریاضها وأشجارها وأزهارها وأنهارها وجبالها ومفاوزها وسمائها ونجومها وما یتصل بذلك كله من نسیم وریاح وأمطار، وكان الشعور الغالب على هذا الوصف المرح والبشر إلا ما كان من أمر وصفه للجبل إذ ساده التأمل والنظرة الحزینة([13]).

كما أنه وصف الطبیعة أیضاً الحیة كالفرس والذئب وبعض الطیور، وهكذا فقد كانت الطبیعة عند ابن خفاجة مستولیة على حواسه، ولم یستطع أن ینساها حتى فی أغراضه الأخرى .

فتوثقت الصلة بینه وبینها فأخذ یشعر بالبشر یحیط به عندما یحل فی مغانیها وإذا بها ذات جمال ودلال وبهاء، فلنسمعه یصفها وقد اختالت زینة وبهجة وبدت تشارك الغادة الفاتنة فی جمالها .

ویقول فی ذلك([14]) :

وكِمـامةِ حَـدَر الصـباحُ قناعَها عن صفحةٍ تَندَى من الأزهارِ

فی أبطحٍ رَضعَت ثـغورُ أقـاحه أخـلافَ كلِّ غمـامة مِدرار

نَثَرت بحِجر الأرض قیه یدُ الصَّبا دُرَرَ النَّدى ودراهـمَ النّـوَّار

وقد ارتدى غصـنُ النقا وتقـلَّدَت حَلی الحَبـاب سوالفُ الأنهار

فالشاعر ینظر إلى الطبیعة نظرة محب والأبیات السابقة تمثل نفسیته المحبة التی یتوزعها جمال الطبیعة وجمال الإنسان .

المبحث الثانی : الطبیعة فی شعر ابن خفاجة المدحیّ

یُعتبر ابن خفاجة شاعرُ الطبیعة بامتیاز حتى فی شعرهِ المدحی، فهو استعان بعناصر الطبیعة لمدح ممدوحه وذلك خلافاً للتقلید المعروف، فجاءت أبیات قصائده مزیجاً من البناء على الممدوح والثناء، ففی قصیدة ( فصل الربیع ورنّة المُكاء ) التی مدح فیها قاضی القضاة، شبهه بالطبیعة الضاحكة فجعله كالنسیم([15]) :

یا نَشرَ عَرفِ الرَّوضةِ الغنّاءِ ونسـیمِ ظِلِّ السّـَرحَةِ العیـناءِ([16])

ثم ذهب تعظیمه إلى جعله نبع المجد بحیث إن المجد یأخذ مجده منه وواصل على تمجیده وتعظیمه حتى أوصله إلى أقصى درجات الرفعة فلامس السماء والنجوم والكواكب :

فی حَیثُ جرّ المجدُ فَصلَ إذادِهِ ومشى الهُوینا مِشیةَ الخُیلاءِ

لو شِئتُ طُلتُ بهِ الثُـریّا قاعداً ونَثَرتُ عِقدَ كواكِبِ الجَوزاءِِ

وله قصیدة بعنوان ( سیف الملك ) یقارن فیها الشاعر بین الطبیعة الضاحكة ومخلوقاتها وبین الممدوح :

ولا الرّوض غِبَّ القطَر فضّضه النّدى ورجّـَعَ فیه طائـرٌ فتـكلَّما

بأطیـبَ أفیـاءً وأنضـرَ صفــحةً وأعطرَ أخلاقاً وأحلى ترنُّما([17])

وله قصیدة أخرى بعنوان ( الملك الحسیب ) التی مدح فیه أبا إسحاق ابن أمیر المسلمین فجعل فیها الصباح یضحك عند رؤیته وكذلك یلحمه كالضـوء الذی یقوده :

لقد ضَحـِكَ الصّباحُ بمُجتلاهُ وراءَ اللیلِ عن ثَـغرٍ شنیبِ

إذاً، نرى أن ابن خفاجة لم یتخیلَّ فی أیّة قصیدة من قصائده عن ذكر الطبیعة وعناصرها، فهو یستمد ألفاظه منها ویعطیها للممدوح كالشمس والقمر والنجوم والكواكب والریاح والمطر والغیم والنسیم والمراعی ..... والشواهد الشعریة كثیرة على ذلك، فهو لم یذكر صفة مدحیة إلا وكانت متعلقة أو مشبهة بالطبیعة كأنه یدور فی حلقة مغلقة .

فصبغ ابن خفاجة قصائده بلونه الخاص النابع من الطبیعة الأندلسیة، فهو متصل بالطبیعة وهی التی كانت تنظم القصیدة فی خیال الشاعر صوراً فینقلها كتابة الألفاظ والتعابیر والكلمات بشرط الحفاظ على المستوى نفسه بین الصور والتعبیر، فمن هنا یخلق الإبداع عند ابن خفاجة .

أتت الألفاظ فی قصائده المدحیة بلیغة التأثیر، شدیدة التصویر، وتمیّزت اللغة بالرقة محاطة بالاستعارات والصور لتعزیز فإذا بابن خفاجة یلقّب ( بصنوبریّ الأندلس ) .

الفصل الثانی : الغزل والطبیعة

المبحث الأول : مظاهر الطبیعة فی شعرهِ

تشغل الطبیعة شعر ابن خفاجة بجمیع ما تعرض له من تهاویل حسنها ونضارتها، وزینتها وحلاها، وأصباغها وألوانها([18]) .

أ ـ الماء :

أبرز ما أخذ من عناصر الطبیعة فی غزله كان الماء، فشعر ابن خفاجة على الإجمال كثیر الماویة رطب، فیصف الحبیبة، متغزلاً بها وبجمالها فیقول :

فكرعتُ مـن ماءِ الصباحِ غلالةً تندى ومن شـفق السماء نقابُ

فی حدیث للـریح الرخاء تنفسٌ أرجٌ وللمـاء الفـرات عبـابُ

ولربّ غضّ الجسم مدّ بخوضهِ شبحاً كما شـقّ السماءَ شهابُ

وإذا وصف لوعته وشوقه للحبیب كان للماء دوراً مهماً فی إیضاح الصورة وتجسیدها، فیقول فی قصیدة یصف فیها نفسه، قبل قدوم الحبیب إلیه وقد انهمرت دموعه شوقاً :

إزددتُ من لوعتـی حبالاً فحـثّ من غلّتی شرابا

وبیـن جفنی بحـرُ شوقٍ یعـبّ فی وجنتی عبابا

ویقول :

فكاد یشــرب نفـسی وكـدتُ أشـرب خـدّه([19])

فالماء هنا هی الذات الغایة والشرب كنایة عن امتلاك هذه الغایة بإشباع اللّذة والتمتع بالحبّ، فالماء هنا تطفئ النار المتأججة فی القلوب لتصبح هی ماء الحیاة هی الحبیب بذاته :

ألـم یسقّیـنی سـلافة ریـقه وطـوراً یُحیّینی بآسِ عِذارِ

فنلت مـرتد النفس من اقحوانةٍ شـممتُ علیها نغمةً لعـرارِ

والطبیعة تشارك ابن خفاجة فی حزنه وفرحه، فتؤخذ الطبیعة بكافة عناصرها مع الموصوف لتصبح الحبیبة هی الطبیعة جمالاً وحسناً وأنوثةً، فیقول :

وسال قطر الدمع فی خدِّهِ فرف روض السنِ ممطورا

ویقول :

حیث الحبابـة ودمــعةٌ تجری بوجنةِ كاس خمرك([20])

وتهزُّ منـكِ فَتَنَتـــنی بقضـیب قدِّك ریحُ سكرِك

وتعبّ من رجراجِ ردِفك موجـةٌ فی شـطّ خصرِك

ب ـ الخضرة والأزاهیر :

ومن یتصفّح دیوان ابن خفاجة تفوح منه رائحة الأزاهیر ویغرق فی غمرة الألوان ویطیر فی فضاء من الخضرة والأشجار والروض والغدیر، فالنرجس، والأقحوان، والطیب وغیرها عطّرت جوّ الغزل والوصف أیضاً، فیقول :

غازلنا جفنٌ هناك كنرجسٍ ومبتـسمٌ للأقحوان شــنیبُ

وإذا وصف المرأة كأنه یصف الطبیعة :

فتـق الشـبابُ بوجنـتیها وردةً فی فـرعِ أسلحةٍ تمید شبابا

وضحت سوالف جیدها سوسانةً وتـورّدت أطـرافها عنّـابا

وأفضل ما قاله فی الطبیعة :

وجنیتُ روضاً فی قناعك أزهرا وقضیب بانٍ فی وشاحك أثمرا

ثم انثنیتُ وقد لبستُ مصــندلاً وطویتُ من خلع الظلام معنبرا

والصبح محطوط النقاب قد احتبى فـی شـملةٍ ورسـیةٍ فتـأزّرا([21])

ج ـ الریح :

یقول فی قصیدةٍ یكاد المزج أن یكون تاماً بین وصف الطبیعة ووصف الحبیب، وتتداخل هنا المحسوس مع المعنوی فی خدمة الوصف والتعبیر الوجدانی، فیقول فی ذلك :

ولهـوتُ فیـه بــدُرَّةٍ مكنـونةٍ فی حُقّ خِدرك

تنـدى شقـائقُ وجنتیكِ به وتـنفحُ ریحُ نـشرك

وقـد استـدار بصفحتی سوسانِ جیـدكِ طلُّ دُرّك

حیـثُ الحَـبابةُ دمـعةٌ تجری بوجنةِ كأس خمرك

وتهـزّ منـكَ فتنــثنی بقضیبِ قدِّك ریحُ سُكـرك

هذه الریح غالباً ما تحملُ عاطفة صادقة ممزوجة بالدموع واللوم والأسى والعتاب ومحفوفة بألوان الطبیعة وأزاهیرها، ومهما فصلت المسافات بین الأحباء، فإن الهواء لدیه قدرة یتفرّد بها .

یجمع شمل أنفاس الأحبة فلم تعد البحور عائقاً ولا الجبال سدّاً ولا الیابسة حاجزاً على النسیم العشقی الذی یصل من حیث لا ندری محملاً رائحة الحبیب، یدخل خلسة عن الآخرین لعبق فی أنفاس تنتظر وترقب مجیئه([22]) .

د ـ اللیل والصبح :

بعیداً عن عیون المبغضین والحاسدین والكاشحین والأعداء فالغزل الخفاجی مسرحه اللیل حیث اللهو والخمر المجون، وإن كان هذا لیس موضوع بحثنا ولكن نطرقه من باب ذكره للطبیعة فی كل غرض([23]) .

وكما ذكرنا سابقاً بأن ابن خفاجة له مثلثه الخاص وهو : الطبیعة ، الخمرة ، المرأة، فیقول فی ذلك :

نادمـتها لیلاً وقد طلـعت به شمساً وقد رقّ الشراب سرابا

وترنّمت حتى سمـعت حمامةً حتى إذا خـسرت زجرت غرابا

والحبیب من ظلمة اللیل كنور الشمس ساطع :

یقـرأ واللـــیل مدلـهمّ لنـور إجـلائه كتــابا([24])

وربّ لیـلةٍ سهـرتُ فیـه أزجـرُ من جنحهِ نِـكابا

حتـى إذا اللیل مال سـكراً وشـقّ سـرباله وجـابا

وحام من سُـدفه عــرابُ طالـت بهِ سنّه فشــابا

واللیل زینته عینا الحبیبة وخدّاها فهو كالثغر فی وجه اللیل، ویصف ابن خفاجة غلاماً قام یقدم له الخمر فی الدجى وقد بهر بجماله :

واللـیلُ ستـرٌ دوننا مرسلٌ قد طـرّزنهُ أنجمٌ حمرُ[25]

أبكی ویشجینی ففی وجنـتی مـاءٌ وجـنته جــمرُ

وبات یسقیـنی تحت الدجى مشـمولةً یمزُجُها القطرُ

واتسـمت عن وجـهة لیلةٌ كأنـه فی وجـهها ثـغرُ

فصورة اللیل تتكرر فی معظم قصائده الغزلیة ونكاد جمیعها تتشابه وتقترن بصورة الصباح فلا نفرّق بین الأسود والأبیض إلا حسیاً والنور والظلمة وذلك ن ابن خفاجة كان فی غزله وصفیاً بعیداً عن الخیال الجامح قریباً من الفطره مّیالاً إلى المحسوس المعاش والمألوف .

هـ ـ القمر :

قال، وقد طلع علیه القمر فی بعض لیالی أسفاره، فجَعَل یُطرِقُ فی معنى كُسوفِهِ وإقمارهِ، وعِلَّةِ إهلالِهِ تارّةً وسِرارهِ، ولزومه لمركزه مع انتقامه فی مَدارِهِ، مُعتَبِراً بحَسبِ فَهمِهِ واستطاعته، ومُعتقداً أنَّ ذلكَ معدودٌ فی عبادة الله وطاعته، لقـوله تعالى : ﴿ إنَّ فی خَلقِ السَّمواتِ والأرضِ وَاختلافِ اللّیلِ والنَّهارِ لآیاتٍ لأُولی الألبابِ ﴾ [ آل عمران 3/190 ] .

فیقول([26]) :

لَقَد أصَـختُ إلى نجواكَ مِن قَـمَرِ وَبتُّ أُدلجُ بَینَ الوَعـیِ والنَّـظَرِ([27])

لا أجتَلِی لُمَـحاً حَتَّى أعِی مُلـَحاً عَدلاً مِنَ الحُكمِ بَینَ السَّمعِ والبَصَرِ([28])

وَقد مَلأتَ سَوادَ العینِ مِن وَضحٍ فَقَرِّطِ السَّمعَ قُرطَ الأُنسِ مِن سَمَرِ([29])

فَلَو جَمَعتَ إلى حُسنِ مُــحاوَرَةً حُزتَ الجَمالینِ مِن خُبرٍ وَمِن خَبَرِ

وإن صَمَتَّ فَفی مَرآك لی عِـظةٌ قَد أفصَحت لِیَ عَنها ألسُـنُ العِبَرِ

تَمُـرُّ مِن ناقِصٍ حَوراً ومُكـتملِ كَوراً وَمِن مُرتقٍ طَـوراً ومُنحَدِرِ([30])

والنَّاسُ مِن مُعرضٍ یَلهَى ومُلتِفتٍ یَرعَـى ومِن ذاهِلِ یَنسـَى وَمُدَّكِرِ

تَلهُو بسـاحاتِ أقـوامٍ تُـحدِّثُنا وَقد مَضَوا فَقَضـَوا أنَّا عَلى الأثـرِ

فَإن بَكَیتُ وَقَد یَبكی الجَلیدُ فَـعَن شَـجوٍ یُفَجِّرُ عَینَ الماءِ فی الحَجـَرِ([31])

فعناصر الطبیعة لا تنتهی فی شعر ابن خفاجة، فهناك الطیور والبرق والجو والشمس والبدر وغیرها، وقد كثرت فی الأندلس الریاض والبساتین وصدحت فی جنباتها الطیور وتوزعت فی أنحائها الجداول، وباتت حواضر الأندلس تؤلف عقداً من الحدائق وهذا ما أوجد لدى شعراء الوصف میلاً إلى وصف الأزهار فتركوا قصائد تدخل فی باب شعر النوریات وبلغ ولعهم بمباهج الزهر إن بقیت صوره مطبوعة على صفحات خیالهم([32]) .

و ـ السماء :

نلاحظ فی هذا المظهر الطبیعی الوصف الوجدانی كما تظهر النزعة النفسیة نتیجةً لذلك، إذ یفیض الشاعر على الأشیاء، حتى تطالعنا بأحداق وملامح إنسانیة تضحك وتبكی تطرب وتشقى، تعانی وطأة الوجود وتغتبط به، فكأنها إنسان متكامل سویَ، أو كأن الشاعر یصف ذاته من خلال الأشیاء .

ومن هنا قول ابن خفاجة واصفاً حسد السماء([33]) :

ألا یا حـبذا ضحك الحمیّا بحانـتها وقد عبس المـساء([34])

وأدهم من جیـاد الماء مهر تنـازع جـلّه ریـح رخـاء([35])

إذا بدت الكواكب فیه غرقى رأیت الأرض تحسدها السماء

نظر الشاعر إلى السماء فتأثر برؤیتها وانثنى لوصفها، فهو لم یعبّر خلاله عما رآه وحسب بل عبّر مما رآه إلى ما شعر به، ولعلّ الوجدانیة، خلال تلك الأبیات، تظهر منذ البیت الأول حیث تراءت الخمرة كأنّها تضحك أمام عبس السماء، فالضحك والعبس هما من ذات الشاعر، والحسد اندمج فی نفس السماء التی تحسد الأرض .

وتشغل ید الطبیعة شعر ابن خفاجة بجمیع ما تعرض له من حسن نضارة وزینة وحلی وأصباغ وألوان وعاطفة حتى بدت لغته تمتاز بالنعومة والانسجام، یحلّی معانیه استعاجات وتشابیه وضروب جمیلة أحیاناً غموض الرمز وغلالة الإیحاء، فیبدو علیها اجتلاب التكلف .

المبحث الثانی : خصائص شعره فی وصف الطبیعة .

1 ـ جعل وصف الطبیعة، حركة أدبیة شاملة، لا غرضاً مستقلاً وحسب .

2 ـ تفنن فی الموضوعات وتنوّع : البیئة المترفة، القصور والبرك، الفن والبحر .

3 ـ مزج قوی بین جمال المرأة وجمال الطبیعة « إنه إذا تغزل فصاغ من الورود خدوداً ومن النرجس عیوناً » .

4 ـ انصراف إلى تصویر الجانب الضاحك من الطبیعة .

5 ـ اهتمام بالأوصاف الحسیّة والمظاهر الخارجیّة، على العنایة بالجزئیات كالزهرة والنسمة .

6 ـ تجاوب نفسی ومشاركة عند الكثیرین وتشخیص .

7 ـ لقلة الغوص على الفكرة، واعتناء بلطف الإخراج على غزارة فی الصور والألوان .

8 ـ تعلّق الشاعر الأندلسی ببیئته الطبیعیة وهیامه بها هیاماً مبالغاً بلغ حدّ الحلولیّة، إذ إن الطبیعة شكّلت حضوراً فی معظم إبداعاته الفنیّة حتى تشظّى معجمها فی مختلف الأغراض من غزل ومدح ورثاء ووصف، وبلغ هذا التمازح بین الشاعر والطبیعة مرتبة التشخیص والأنسنة .

9 ـ كانت المرأة صورة من محاسن الطبیعة، والطبیعة تجد فی المرأة ظلها وجمالها، ولذا كانت الحبیبة عند ابن خفاجة روضاً وجنةً وشمساً، وهكذا كانت العلاقة شدیدة بین جمال المرأة وبین الطبیعة فلا تُذكر المرأة إلا وتُذكر الطبیعة .

10 ـ شعره كما ذكرنا سابقاً أنه كان یُعنى بتشخیص الطبیعة وتصویرها على نحوٍ إِنسانی تملؤه الحركة والنشاط .

11 ـ الطبیعة عن ابن خفاجة ضاحكة طروب، هی مسرح للهو ومقصف للشراب، ولذا فقد هتف ابن خفاجة بالخمر فی جو الطبیعة كما بینا ذلك فی متن البحث .

12 ـ یمثل ابن خفاجة نهضة شعر الطبیعة فی الأندلس، وقد استطاع أن یصور طبیعتها الجمیلة والحیاة اللاهیة فی أحضانها، وكان فی وصفهِ مصوِّراً بارعاً یعتمد على دقة ملاحظته إلى جانب قوة خیاله .

13 ـ الامتزاج الكلی بها، وهذا ظهر فی بعض قصائده ولا سیما قصیدته فی وصف الجبل، والتی أشرتُ إلیها فی ثنایا البحث .

المصادر والمراجع

الخاتمة

خاتمةً لا بد لنا من التذكیر أن الأندلس، فی إطار ما عرفت من ضروب شعریة وغنائیة فنیة وأدبیّة، كانت مقتبسة أو مستوحاة بمجملها عن الواقع الذی عاشه العربی فی الشرق قبل فتح الأندلس، الأرض الخضراء، التی طّورت فی شعره كل ما وجدت قابلاً للحیاة، بتأثیر نضرة أراضیها، وخصوبة ریاضها، وفسیح جناتها، وأنطبع غناها فی نفس العربی حباً للعیش، والعبث، واللهو، والمجون، والتبذیر، ومجالس اللهو والغناء .

إن العربی الذی لم یكن یعرف من الصحراء سوى النیاق والقیظ، والذی وجد فی طبیعة الأندلس الساحرة ملاذاً یهرب إلیه من وهج حیاته القدیمة، وهكذا شاعرنا ابن خفاجة الذی جعل الطبیعة معلماً من معالم الشعر .

وأنا ، فی بحثی هذا ، أَشهدُ أنّنی لم أَدّخر وُسعًا فی إعطاء المعلومة الصحیحة ، وبذل الجهودِ المضینه للوصول إلى الحقیقة ، غیر حاسبٍ لصحَّتی ووقتی حسابًا ومُردّدًا قول ابن الأثیر فی المثَل السّائر " لیس الفاضِلُ مَن لا یَغلطُ ، بل الفاضِلُ من یُعَدُّ غَلَطه " .

وبهذا ....

أتمنى أن أكون قد وفقت فی تقدیم بحثی هذا ، وإن كنت قصّرت عن ذلك، فلأن النقص من طبائع البشر .





1 ـ الطبیعة فی الشعر الأندلسی ، د.جودت الركابی ، مطبعة الشرقی بدمشق ، ط2 1970م .

2 ـ الإنسان والطبیعة فی شعریة ابن خفاجة والرومانسیین الفرنسیین ، د. زهر العنانی ، دار المتنبی للنشر والتوزیع ، الأردن ، ط1 2002م .

3 ـ دفاتر أندلسیة فی الشعر والنثر والنقد والحضارة والأعلام ، د. یوسف عید ، المؤسسة الحدیثة للكتاب ، طرابلس ، ط1 2006م .

4 ـ ابن خفاجة ، د. محمد رضوان الدایة ، دار قتیبة ، ط1 1972 .

5 ـ دیوان ابن خفاجة ، شرح وتحقیق : یوسف شكری فرحات ، دار الجیل ، بیروت .

6 ـ موسوعة الحضارة العربیة العصر الأندلس ، د. یوسف عید ، ط1، ج6 .

7 ـ معجم الحضارة الأندلسیة ، د. یوسف عید و د. یوسف فرحات ، دار الفكر العربی ، بیروت .

8 ـ الشعر الأندلسی فی عصر الموحدین ، د. فوزی سعد عیسى ، دار المعرفة الجامعیة ، الاسكندریة ، 1996م .

9 ـ ملامح الشعر الأندلسی ، د. عمر الدقاق ، دار الشرق العربی ، بیروت .

10 ـ فی الأدب الأندلسی ، د. محمد رضوان الدایة ، دار الفكر ، بیروت ، 2000م

(1) :ـ د. محمد مجید السعید، الشعر فی عهد المرابطین والموحدین، ط2، بیروت الدار العربیة للموسوعات، 1985 ص 116.

(2) :ـ د. سعد إسماعیل شلبی، البیئة الأندلسیة وأثرها فی الشعر، عصر ملوك الطوائف، دار نهضة مصر، القاهرة، 1978 ص100.

(1) :ـ د.جودت الركابی، فی الأدب الأندلسی ، ط2 دار المعارف بمصر 1960، ص126.

(2) :ـ المصدر السابق ، ص124.

(1) :ـ د. محمد رضوان الدایة ، فی الأدب الأندلسی، ط1 دار الفكر المعاصر بلبنان 2000م ، ص121 .

(1) :ـ د. یوسف عید ، دفاتر أندلسیة فی الشعر والنثر والنقد والحضارة والأعلام ، المؤسسة الحدیثة للكتاب بالبنان 2006 ، ص844 ـ 846.

(2) :ـ عطفها : العمود الفقری .

(3) :ـ عاطى بها : یشرب ، أحوى : البیاض فی العین .

(4) :ـ اللمى : قلب الشفة ، شنب : الأسنان البیضاء .

(5) :ـ التیار : الهواء .

(1) :ـ انظر القصیدتین فی ترجمة ابن خفاجة فی كتاب فی الأدب الأندلس ، د. محمد الدایة ، ص 337 _ 339 .

(2) :ـ د. جودت الركابی ، الطبیعة فی الشعر الأندلسی ، ط2 مكتبة أطلس بدمشق 1970م ، ص 53 .

(2) :ـ د . جودت الركابی ، الطبیعة فی الشعر الأندلسی ، ط2 مكتبة أطلس بدمشق 1970م ، ص 50 _ 52 ، وأنظر أیضاً :

د. زهر العنانی ، الإنسان والطبیعة فی شعریة ابن خفاجة والرومانسیین الفرنسیین ، دار الكتاب للنشر والتوزیع ، 2002م .

(1) :ـ المصدر السابق ، ص 51 .

( 2) :ـ دیوان ابن خفاجة ، تحقیق د. یوسف شكری فرحات، دار الجیل، بیروت، وتحقیق د. سید غازی، ط2، منشأة المعارف، الاسكندریة، مطبعة دار صادر بیروت ، ص 158 ، وأنظر أیضاً : د. یوسف عید ، دفاتر أندلسیة فی الشعر والنثر ..... .

(3) :ـ العیناء : الخضراء .

(1) :ـ المصدر السابق ، ص 283 .

(1) :ـ د. یوسف عید ، دفاتر أندلسیة فی الشعر والنثر والنقد والحضارة والأعلام ، ص 671 .

(2) :ـ ابن خفاجة ، الدیوان ، تحقیق : یوسف فرحات ، ص 348 .

(1) :ـ المصدر السابق ، ص 360 .

(2) :ـ المصدر السابق ، ص 362 .

(1) :ـ المصدر السابق ، ص 358 .

(2) :ـ د. یوسف عید ، دفاتر أندلسیة ، ص 676 .

(1) :ـ المصدر السابق ، ص 341 .

(2) :ـ المصدر السابق ، ص 353 .

(1) :ـ ابن خفاجة ، الدیوان ، ص 281 .

(2) :ـ أصختُ : استمعتُ ، أُدلِجُ : أُسیرُ مِن أوَّل اللیل .

(3) :ـ أجتلی : أنظر .

(4) :ـ الوَضَحُ : بَیاضُ الضَّوءِ .

(5) :ـ الحورُ : النَّقص ، الكور : الزِّیادة .

(6) :ـ الجلید : الصَّبور على المكروه، والقویّ : الشّجوُ : الهَمُّ والحَزَنُ .

(7) :ـ د. یوسف عید، موسوعة الحضارة العربیة، العصر الأندلسی، ج6 ، ص 1028 .

(1) :ـ د. یوسف عید ، دفاتر أندلسیة ..... ، ص 837 .

(2) :ـ الحمیّا : الخمرة ؛ ضحك الحمیَا : كنایة عن لمعانها .

(3) :ـ أدهم : لیل شدید الظلمة ، مهر : ناشط بالمطر ، ریح رخاء : ریح لینة غیر عاصفة .

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:10|