مع بدایة الخمسینات من القرن الماضی
بدأتْ حركة التحرر العربیة تـشق طریقها بخطواتٍ متسارعة محققةً الانتصار
تلوى الآخر ، ترافق ذلك مع تغیرات كبیرة فی مجمل الوعی العام العربی و
الإیدیولوجیات السائدة تمثلتْ فی الدرجة الأولى بوعی ضرورة التغییر ، ... و
هنا برزتْ عدة إشكالیات على الساحة السیاسیة العربیة تمحورتْ حولها مشاریع
التغییر الاجتماعی كإشكالیة فك الارتباط من التبعیة الاستعماریة – تحقیق
الوحدة العربیة – إشكالیة النهضة – العدالة الاجتماعیة و غیرها ...
و فی خِضم هذه المشاریع المتـنوعة احتلّتْ قضیة المرأة موقعاً مهماً ، من حیث إعادة النظر فی دورها فی المجتمع و المساحة المتاحة لها للتعبیر عن نفسها و علاقتها بالرجل ، فأخذتْ مختلف أطراف الطیف السیاسی و الفكری تدلو بدلوها فیما یتعلق بتصورها لحل قضیة المرأة .
و فی ظل كل هذه الإرهاصات التی شهدها الوطن العربی انطلـقتْ الإنتلجنسیا العربیة لتكون بمثابة الناطق الرسمی بمجمل المشاریع النهضویة على اختلاف تلاوینها و مشاربها ، و لتتصدّر الحِراك المجتمعی ، .... و الفن بما هو لون من ألوان التعبیر عن الواقع الاجتماعی بكل تغیراته بدأت تظهر فیه طروحات التغییر و النهضة خاصةً أن المذاهب الفنیة و الأدبیة ارتبطتْ بالاتجاهات السیاسیة إلى حدٍّ بعید ، ... و على اعتبار أن الشعر هو من أعرق الفنون عند العرب فقد شكّل ساحةً لصراع الأفكار و الاحتمالات التی برزتْ على المسرح السیاسی العربی ، و بدأتْ المرأة فی هذه المرحلة الشعریة تدخل بحلّة جدیدة مختلفة عن الصورة التقلیدیة التی أخذتها فی الشعر العربی ، كان العنوان العریض لهذه الصورة : (( حریة المرأة )) ، فهل كان المضمون مماثلاً للعنوان ؟! .
لعلّ الشاعر نزار قبانی یمثِّـل أول من كسر الطوق المفروض على المرأة و حالة الحصار المجتمعی على رغبات الإنسان العربی و مشاعره من خلال دیوانه قالت لی السمراء ، هذا الدیوان كان الخطوة الأولى فی مشوار قبانی الطویل فی دروب المرأة ، قدّم الشاعر فی قصائده إدانة لذكوریة المجتمع العربی و دفاعاً عن حق المرأة فی التعبیر عن مشاعرها و حاجاتها ، لكنّ الإشكالیة تكمن فی أن نزاراً كان یدعو لهدم الحواجز بین المرأة و الرجل من الناحیة الجنسیة بالدرجة الأولى ، أما التأسیس لعلاقة متكافئة بین الرجل و المرأة فقد كان غائباً عن شعره ، فمعظم صوره التی قدمها عن المرأة كانتْ مقتصرة على المرأة اللعوب ، أو المراهقة العذراء مقابل الرجل المجرِّب ، فإذا خرج عن هذه الأُطر نجده یغیب فی لوثة جنسیة تستغرق منه قصائد كاملة أما العلاقة الصحیة بین الرجل و المرأة بكل أبعادها الجسدیة و النفسیة و العاطفیة فهی مفتقدة فی مجمل طرح نزار الشعری ، حتّى لأنه یمكن لنا أن نقول مع عبد الله الغذامی أن نزاراً كان یعید إنتاج خطاب عمر بن أبی ربیعة ، و فیما یلی نورِد مقطعاً شعریاً لتلمیذة نزار قبانی سعاد الصباح یقدم صورة المرأة المراهقة البریئة مقابل صورة الرجل المجرِّب ، هذه الصورة تـتفق إلى حد بعید مع خطاب نزار الشعری إلى حدٍّ بعید :
(( لا تـنتقد خجلی الشدیدْ
فإننی بسیطةٌ جداً .. و أنت خبیرُ
خذنی بكل بساطتی و طفولتی
أنا لم أزلْ أخطو و أنت قدیرُ
من أین تأتی بالفصاحة كُلّها
و أنا یتوهُ على فمی التعبیرُ
أنا فی الهوى لا حَوْل لی أو قوةً
إن المحبَّ بطبعه مكسورُ
یا هادئ الأعصابِ إنك ثابتٌ
و أنا على ذاتی أدورُ
فرقٌ كبیرُ بیننا یا سیدی
فأنا محافظةٌ و أنت جسورُ
و أنا مجهولةٌ جداً و أنتَ شهیرُ
و أنا مقیدةٌ و أنت تطیرُ
یا سید الكلمات هَبْنی فرصةً
حتى یُذاكِرَ درسه العصفورُ ))
شاعر آخر مصنّف فی خانة الیسار القومی نتـناوله هنا كمثال على التعاطی مع المرأة شعریاً هو الشاعر الكبیر أمل دنقل الذی انخرط فی مسیرة الحداثة الشعریة العربیة فی ظل تلازم واضح بین الهم السیاسی و الهم الإبداعی لتغدو الكثیر من قصائده علامات فارقة فی الحداثة الشعریة ، و على الرغم من الوعی الحاد الذی تمیّزتْ به قصائده فی تـناول مجمل ما یحیط به من صراعات اجتماعیة و سیاسیة و فهمه الواعی لطبیعة الصراع مع العدو الصهیونی فهو لم یتمكن من الارتقاء فی تعامله شعریاً مع المرأة إلى ذات المستوى من الوعی ، فهو لم یتمكن من التحرر من موروثه الریفی الذی ینظر إلى المرأة كمصدر للغوایة مقابل صورة أخرى طُهرانیة للحبیبة المقدسة ، هذه الثـنائیة التی تمثـل عقدة الرجل الشرقی كما تذكر الدكتورة نوال السعداوی لازمتْ معظم أشعار أمل دنقل :
(( یهتز قرطها الطویل
یراقص ارتعاش ظله
على تلفتات العنق الجمیل
و عندما تلفظ بذر الفاكهة
و تطفئ التبغة فی المنفضة العتیقة الطراز
تقول عیناها : استرحْ
و الشفتان شوكتان ))
و لا یغیب عن بالنا أن نقف قلیلاً مع شعر الأرض المحتلة الذی بدأ یحتل موقعاً مهماً فی الخارطة الشعریة العربیة من حیث تجدیده شكلاً و مضموناً للشعر العربی و لعل ذلك یعود إلى موقع المقاومة كرافعة للوضع السیاسی العربی المتردّی .
تقتصر صورة المرأة فی قصائد شعراء المقاومة على صورة أم الشهید أو أخت الشهید أو فی الصورة المثالیة التی استخدمها شعراء المقاومة كثیراً و هی صورة المرأة / الوطن ، و على الرغم مما حفِلتْ به هذه الاستخدامات من جمالیات لا متـناهیة لكن ذلك لا یمنعنا من انتقاد شعراء المقاومة فی عزوفهم عن تـناول المرأة كمرأة بصرف النظر عن أی اعتبار آخر ككائن له مقوماته الإنسانیة و خصوصیته الأنثویة ، و كأن ردّ الاعتبار إلى المرأة و منحها موقعها الصحیح یتطلّب الانتظار ریثما تُحرَّر الأرض المحتلة :
(( شاءها الله شهیة !
شاءها الله .. فكانتْ .. كبلادی العربیه !
شعرها لیلة صیفٍ بین كثبان تُهامهْ
مقلتاها ... من مُهاةٍ یمنیه
فمها ... من رطب الواحة فی البید العصیّه
عنقها زوبعة بین رمالی االذهبیه
صدرها نجد السلامه
یحمل البشرى إلى نوحٍ ،
فعودی یا حمامه !
و لدى خاصرتیها بعض شطآنی القصیه
شاءها الله كبلادی العربیة !
نكهة الغوطة و الموصل فیها .
و من الأوراس .. عنف و وسامهْ
و أبوها شاءها أحلى صبیهْ
شاءها اسماً و شكلا
فدعاها الوالد المُعجَبُ لیلى
و إلیكم أیها الإخوان ... لیلى العدنیه ! ))
((سمیح القاسم : قصیدة لیلى العدنیة))
و على الرغم مما ذكرناه آنفاً فلا یفوتـنا أن نشیر إلى شاعرنا الكبیر محمود درویش الذی استطاع أن یفلت – ربما لعوامل ذاتیة تعود لطبیعة الأحداث التی تعرض لها و مشاهداته الكثیرة و زخم تجربته الحیاتیة – من إسار الهدف النضالی بمعناه المفروض فرضاً على القصیدة و بمعناه الإیدیولوجی لتصبح قصیدته قصیدة الإنسان بالدرجة الأولى ، و لنجد أن صورة المرأة تطورتْ تدریجیاً لدى درویش منذ بدایاته التی كان تناوله فیها للمرأة لا یختلف كثیراً مع النمط السائد ، ثم بدأ هذا التناول یظهر بشكل متمیز تدریجیاً لا سیما من خلال ریتا التی كانتْ أشبه بلعنة ملازمة للشاعر ، صحیح أن هناك تداخلات سیاسیة عدیدة فی رسمه لریتا لكنها تأتی فی سیاق العلاقة المنطقی و محیطها الاجتماعی و شروطها ، حتى وصل الشاعر أخیراً إلى تقدیم دیوان كامل عن علاقته بالجنس الآخر من خلال عمله الشعری (( سریر الغریبة )) الذی هو محاولة لاكتـشاف عوالم المرأة و أسرارها كمرآة لذاته كرجل ، و محاولة لاختراق المساحة الفاصلة بینه و بین نصفه الآخر :
(( ریتا تحتسی شای الصباحٍ
و تقشّر التفاحة الأولى بعشر زنابقٍ،
و تقول لی :
لا تقرأ الآن الجریدة ، فالطبول هی الطبولُ
و الحرب لیستْ مهنتی . و أنا أنا . هل أنتَ أنتَ ؟
أنا هوَ،
هو من رآك غزالةً ترمی لآلئها علیه
هو من رأى شهواته تجری وراءك كالغدیر
هو من رآنا تائهین توحّدا فی السریر
و تباعدا كتحیة الغرباء فی المیناء ، یأخذنا الرحیلُ
فی ریحه ورقاً و یرمینا أمام فنادق الغرباءِ
مثل رسائلٍ قُرِئتْ على عجلٍ ،
أتأخذنی معكْ ؟
فأكون خاتم قلبك الحافی ، أتأخذنی معكْ
فأكون ثوبك فی بلادٍ أنجبتكَ ... لتصرعكْ
و أكون تابوتاً من النعناع یحملُ مصرعكْ
و تكون لی حیاً و میتاً ،
ضاع یا ریتا الدلیلُ
و الحبُّ مثل الموت وعْدٌ لا یُردُّ ... و لا یزولُ ))
(( محمود درویش : قصیدة شتاء ریتا ))
ونظراً لغیاب الشروط الصحیة لقیام علاقة إنسانیة بین الرجل و المرأة أساسها الوجدان النقی و التواصل الخلّاق بعیداً عن الابتذال و الذكوریة ، فقد تحوّلت الحبیبة فی معظم الأحیان إلى حلم من خلال الأسْطَرَة التی تعكس محاولة الشاعر رسم تصور معین لأنثاه مفتقد فی الواقع ، فالشعراء فی معظم الأحیان كانوا یتـنفسون من خلال قراءاتهم فی تصویر علاقتهم بالمرأة بسبب افتقادهم إلى علاقات حقیقیة مع الأنثى كونهم جزءً من مجتمع شرقی بائس ، و أیّاً كانتْ جمالیات الأسْطَرَة فإن ذلك لا یمنعنا من القول من وجهة نظر خاصة أن هذا التقدیم الأسطوری للمرأة یعبر عن عدم قدرة الشاعر على تصوّر المرأة ككائن واقعی مكافئ له ، له حق مماثل فی الحیاة و التعبیر عن كوامن روحه و طاقاته :
(( عیناك غابتا نخیلٍ ساعة السَحَرْ
أو شرفتان راح ینأى عنهما القمرْ
عیناكِ حین تبسِمانِ تورقُ كالأقمار فی نَهَرْ
و ترقص الأضواء وهناً ساعة السَّحرْ
كأنما تنبض فی غوریهما النجومْ ))
(( بدر شاكر السیّاب : أنشودة المطر ))
و تحوّلتْ المرأة لدى الكثیر من المثـقفین إلى شیء من أشیائهم یحملونه من مكان إلى آخر كما یحملون أمتعتهم ، فالمرأة ترد لدى مظفر النواب فی الغالب كلحظة شبقیة تـنسیه متاعب طریق النضال الوعر أو إلى جانب الكأس، والسیكارة، والأرض، والوطن، والرحیل ... ، إنها عدّة الشغل كما یقول یحیى الجباعی .
و كثیراً ما كان مظفر یقدم من خلال صورة المرأة المومس صورة مصغرة للمجتمع ( مثل قصیدة فی الحانة القدیمة ) ، أو یبدأ قصائده بوصف جنسی شبقی قبل الدخول إلى غرض القصیدة الأساسی تماماً كما كان یبدأ شعراء الجاهلیة بالوقوف على الأطلال .
و أخیراً نورد مقطعاً شعریاً لسعاد الصباح وُفِّقتْ فیه إلى حدٍّ كبیر فی تقدیم صورة أخرى لعلاقة المرأة و الرجل بعیدة عن التـناول النمطی و الثـنائیة التقلیدیة ( المرأة الحبیبة / المرأة الأخت – الأم ) ، و على الرغم من الخلل الذی تعانیه اللغة الشعریة و هبوطها إلى مصاف اللغة النمطیة النثریة لكن ذلك لا یمنعنا من الإشادة بالمضمون كمثال یمكن أن یحتذیه الشعراء :
(( كم جمیلٌ لو بقینا أصدقاء
كم جمیلٌ .. أن كل امرأةٍ تحتاج إلى كف صدیق
كُنْ صدیقی .. كُنْ صدیقی
لماذا تهتمُّ بشكلی و لا تدركُ عقلی
كُنْ صدیقی .. كُنْ صدیقی
أنا محتاجةٌ لمیناء سلامْ
و أنا متعبةٌ من قصص العشق و أخبار الغرامْ
فتكلّمْ .. تكلّمْ
لماذا تـنسى حین تلقانی نصف الكلامْ
كُنْ صدیقی .. كُنْ صدیقی
لیس فی الأمر انتقاصٌ للرجولة
غیر أن الشرقیَّ لا یرضى بدورٍ غیر أدوار البطولة ))
و على كلٍّ یبدو أن الحداثة الشعریة التی عمّتْ الشكل الشعری فی تقدیمها للمرأة لم تستطع سوى تلمیع صورة المرأة و إعادة تقدیمها بصیغ جدیدة و لكنها لم تحقق قَطْعاً مع الصورة التقلیدیة ، فالحداثة ظلتْ نتوءاتٍ نافرة فی وعی النخبة المثـقفة و عموم الوعی الاجتماعی العام ، لتبقى بذلك حریة المرأة فی الشعر كما فی معظم میادین الحیاة السیاسیة و الاجتماعیة العربیة عنواناً لم یجد سبیله إلى الواقع .
عمار عكاش – طالب فی قسم علم الاجتماع – جامعة حلب – marsel81@maktoob.com
المراجع :
• یحیى الجباعی : المثـقفون والموقف من المرأة وحقوقها. مقال مأخوذ عن شبكة الإنترنت .
و فی خِضم هذه المشاریع المتـنوعة احتلّتْ قضیة المرأة موقعاً مهماً ، من حیث إعادة النظر فی دورها فی المجتمع و المساحة المتاحة لها للتعبیر عن نفسها و علاقتها بالرجل ، فأخذتْ مختلف أطراف الطیف السیاسی و الفكری تدلو بدلوها فیما یتعلق بتصورها لحل قضیة المرأة .
و فی ظل كل هذه الإرهاصات التی شهدها الوطن العربی انطلـقتْ الإنتلجنسیا العربیة لتكون بمثابة الناطق الرسمی بمجمل المشاریع النهضویة على اختلاف تلاوینها و مشاربها ، و لتتصدّر الحِراك المجتمعی ، .... و الفن بما هو لون من ألوان التعبیر عن الواقع الاجتماعی بكل تغیراته بدأت تظهر فیه طروحات التغییر و النهضة خاصةً أن المذاهب الفنیة و الأدبیة ارتبطتْ بالاتجاهات السیاسیة إلى حدٍّ بعید ، ... و على اعتبار أن الشعر هو من أعرق الفنون عند العرب فقد شكّل ساحةً لصراع الأفكار و الاحتمالات التی برزتْ على المسرح السیاسی العربی ، و بدأتْ المرأة فی هذه المرحلة الشعریة تدخل بحلّة جدیدة مختلفة عن الصورة التقلیدیة التی أخذتها فی الشعر العربی ، كان العنوان العریض لهذه الصورة : (( حریة المرأة )) ، فهل كان المضمون مماثلاً للعنوان ؟! .
لعلّ الشاعر نزار قبانی یمثِّـل أول من كسر الطوق المفروض على المرأة و حالة الحصار المجتمعی على رغبات الإنسان العربی و مشاعره من خلال دیوانه قالت لی السمراء ، هذا الدیوان كان الخطوة الأولى فی مشوار قبانی الطویل فی دروب المرأة ، قدّم الشاعر فی قصائده إدانة لذكوریة المجتمع العربی و دفاعاً عن حق المرأة فی التعبیر عن مشاعرها و حاجاتها ، لكنّ الإشكالیة تكمن فی أن نزاراً كان یدعو لهدم الحواجز بین المرأة و الرجل من الناحیة الجنسیة بالدرجة الأولى ، أما التأسیس لعلاقة متكافئة بین الرجل و المرأة فقد كان غائباً عن شعره ، فمعظم صوره التی قدمها عن المرأة كانتْ مقتصرة على المرأة اللعوب ، أو المراهقة العذراء مقابل الرجل المجرِّب ، فإذا خرج عن هذه الأُطر نجده یغیب فی لوثة جنسیة تستغرق منه قصائد كاملة أما العلاقة الصحیة بین الرجل و المرأة بكل أبعادها الجسدیة و النفسیة و العاطفیة فهی مفتقدة فی مجمل طرح نزار الشعری ، حتّى لأنه یمكن لنا أن نقول مع عبد الله الغذامی أن نزاراً كان یعید إنتاج خطاب عمر بن أبی ربیعة ، و فیما یلی نورِد مقطعاً شعریاً لتلمیذة نزار قبانی سعاد الصباح یقدم صورة المرأة المراهقة البریئة مقابل صورة الرجل المجرِّب ، هذه الصورة تـتفق إلى حد بعید مع خطاب نزار الشعری إلى حدٍّ بعید :
(( لا تـنتقد خجلی الشدیدْ
فإننی بسیطةٌ جداً .. و أنت خبیرُ
خذنی بكل بساطتی و طفولتی
أنا لم أزلْ أخطو و أنت قدیرُ
من أین تأتی بالفصاحة كُلّها
و أنا یتوهُ على فمی التعبیرُ
أنا فی الهوى لا حَوْل لی أو قوةً
إن المحبَّ بطبعه مكسورُ
یا هادئ الأعصابِ إنك ثابتٌ
و أنا على ذاتی أدورُ
فرقٌ كبیرُ بیننا یا سیدی
فأنا محافظةٌ و أنت جسورُ
و أنا مجهولةٌ جداً و أنتَ شهیرُ
و أنا مقیدةٌ و أنت تطیرُ
یا سید الكلمات هَبْنی فرصةً
حتى یُذاكِرَ درسه العصفورُ ))
شاعر آخر مصنّف فی خانة الیسار القومی نتـناوله هنا كمثال على التعاطی مع المرأة شعریاً هو الشاعر الكبیر أمل دنقل الذی انخرط فی مسیرة الحداثة الشعریة العربیة فی ظل تلازم واضح بین الهم السیاسی و الهم الإبداعی لتغدو الكثیر من قصائده علامات فارقة فی الحداثة الشعریة ، و على الرغم من الوعی الحاد الذی تمیّزتْ به قصائده فی تـناول مجمل ما یحیط به من صراعات اجتماعیة و سیاسیة و فهمه الواعی لطبیعة الصراع مع العدو الصهیونی فهو لم یتمكن من الارتقاء فی تعامله شعریاً مع المرأة إلى ذات المستوى من الوعی ، فهو لم یتمكن من التحرر من موروثه الریفی الذی ینظر إلى المرأة كمصدر للغوایة مقابل صورة أخرى طُهرانیة للحبیبة المقدسة ، هذه الثـنائیة التی تمثـل عقدة الرجل الشرقی كما تذكر الدكتورة نوال السعداوی لازمتْ معظم أشعار أمل دنقل :
(( یهتز قرطها الطویل
یراقص ارتعاش ظله
على تلفتات العنق الجمیل
و عندما تلفظ بذر الفاكهة
و تطفئ التبغة فی المنفضة العتیقة الطراز
تقول عیناها : استرحْ
و الشفتان شوكتان ))
و لا یغیب عن بالنا أن نقف قلیلاً مع شعر الأرض المحتلة الذی بدأ یحتل موقعاً مهماً فی الخارطة الشعریة العربیة من حیث تجدیده شكلاً و مضموناً للشعر العربی و لعل ذلك یعود إلى موقع المقاومة كرافعة للوضع السیاسی العربی المتردّی .
تقتصر صورة المرأة فی قصائد شعراء المقاومة على صورة أم الشهید أو أخت الشهید أو فی الصورة المثالیة التی استخدمها شعراء المقاومة كثیراً و هی صورة المرأة / الوطن ، و على الرغم مما حفِلتْ به هذه الاستخدامات من جمالیات لا متـناهیة لكن ذلك لا یمنعنا من انتقاد شعراء المقاومة فی عزوفهم عن تـناول المرأة كمرأة بصرف النظر عن أی اعتبار آخر ككائن له مقوماته الإنسانیة و خصوصیته الأنثویة ، و كأن ردّ الاعتبار إلى المرأة و منحها موقعها الصحیح یتطلّب الانتظار ریثما تُحرَّر الأرض المحتلة :
(( شاءها الله شهیة !
شاءها الله .. فكانتْ .. كبلادی العربیه !
شعرها لیلة صیفٍ بین كثبان تُهامهْ
مقلتاها ... من مُهاةٍ یمنیه
فمها ... من رطب الواحة فی البید العصیّه
عنقها زوبعة بین رمالی االذهبیه
صدرها نجد السلامه
یحمل البشرى إلى نوحٍ ،
فعودی یا حمامه !
و لدى خاصرتیها بعض شطآنی القصیه
شاءها الله كبلادی العربیة !
نكهة الغوطة و الموصل فیها .
و من الأوراس .. عنف و وسامهْ
و أبوها شاءها أحلى صبیهْ
شاءها اسماً و شكلا
فدعاها الوالد المُعجَبُ لیلى
و إلیكم أیها الإخوان ... لیلى العدنیه ! ))
((سمیح القاسم : قصیدة لیلى العدنیة))
و على الرغم مما ذكرناه آنفاً فلا یفوتـنا أن نشیر إلى شاعرنا الكبیر محمود درویش الذی استطاع أن یفلت – ربما لعوامل ذاتیة تعود لطبیعة الأحداث التی تعرض لها و مشاهداته الكثیرة و زخم تجربته الحیاتیة – من إسار الهدف النضالی بمعناه المفروض فرضاً على القصیدة و بمعناه الإیدیولوجی لتصبح قصیدته قصیدة الإنسان بالدرجة الأولى ، و لنجد أن صورة المرأة تطورتْ تدریجیاً لدى درویش منذ بدایاته التی كان تناوله فیها للمرأة لا یختلف كثیراً مع النمط السائد ، ثم بدأ هذا التناول یظهر بشكل متمیز تدریجیاً لا سیما من خلال ریتا التی كانتْ أشبه بلعنة ملازمة للشاعر ، صحیح أن هناك تداخلات سیاسیة عدیدة فی رسمه لریتا لكنها تأتی فی سیاق العلاقة المنطقی و محیطها الاجتماعی و شروطها ، حتى وصل الشاعر أخیراً إلى تقدیم دیوان كامل عن علاقته بالجنس الآخر من خلال عمله الشعری (( سریر الغریبة )) الذی هو محاولة لاكتـشاف عوالم المرأة و أسرارها كمرآة لذاته كرجل ، و محاولة لاختراق المساحة الفاصلة بینه و بین نصفه الآخر :
(( ریتا تحتسی شای الصباحٍ
و تقشّر التفاحة الأولى بعشر زنابقٍ،
و تقول لی :
لا تقرأ الآن الجریدة ، فالطبول هی الطبولُ
و الحرب لیستْ مهنتی . و أنا أنا . هل أنتَ أنتَ ؟
أنا هوَ،
هو من رآك غزالةً ترمی لآلئها علیه
هو من رأى شهواته تجری وراءك كالغدیر
هو من رآنا تائهین توحّدا فی السریر
و تباعدا كتحیة الغرباء فی المیناء ، یأخذنا الرحیلُ
فی ریحه ورقاً و یرمینا أمام فنادق الغرباءِ
مثل رسائلٍ قُرِئتْ على عجلٍ ،
أتأخذنی معكْ ؟
فأكون خاتم قلبك الحافی ، أتأخذنی معكْ
فأكون ثوبك فی بلادٍ أنجبتكَ ... لتصرعكْ
و أكون تابوتاً من النعناع یحملُ مصرعكْ
و تكون لی حیاً و میتاً ،
ضاع یا ریتا الدلیلُ
و الحبُّ مثل الموت وعْدٌ لا یُردُّ ... و لا یزولُ ))
(( محمود درویش : قصیدة شتاء ریتا ))
ونظراً لغیاب الشروط الصحیة لقیام علاقة إنسانیة بین الرجل و المرأة أساسها الوجدان النقی و التواصل الخلّاق بعیداً عن الابتذال و الذكوریة ، فقد تحوّلت الحبیبة فی معظم الأحیان إلى حلم من خلال الأسْطَرَة التی تعكس محاولة الشاعر رسم تصور معین لأنثاه مفتقد فی الواقع ، فالشعراء فی معظم الأحیان كانوا یتـنفسون من خلال قراءاتهم فی تصویر علاقتهم بالمرأة بسبب افتقادهم إلى علاقات حقیقیة مع الأنثى كونهم جزءً من مجتمع شرقی بائس ، و أیّاً كانتْ جمالیات الأسْطَرَة فإن ذلك لا یمنعنا من القول من وجهة نظر خاصة أن هذا التقدیم الأسطوری للمرأة یعبر عن عدم قدرة الشاعر على تصوّر المرأة ككائن واقعی مكافئ له ، له حق مماثل فی الحیاة و التعبیر عن كوامن روحه و طاقاته :
(( عیناك غابتا نخیلٍ ساعة السَحَرْ
أو شرفتان راح ینأى عنهما القمرْ
عیناكِ حین تبسِمانِ تورقُ كالأقمار فی نَهَرْ
و ترقص الأضواء وهناً ساعة السَّحرْ
كأنما تنبض فی غوریهما النجومْ ))
(( بدر شاكر السیّاب : أنشودة المطر ))
و تحوّلتْ المرأة لدى الكثیر من المثـقفین إلى شیء من أشیائهم یحملونه من مكان إلى آخر كما یحملون أمتعتهم ، فالمرأة ترد لدى مظفر النواب فی الغالب كلحظة شبقیة تـنسیه متاعب طریق النضال الوعر أو إلى جانب الكأس، والسیكارة، والأرض، والوطن، والرحیل ... ، إنها عدّة الشغل كما یقول یحیى الجباعی .
و كثیراً ما كان مظفر یقدم من خلال صورة المرأة المومس صورة مصغرة للمجتمع ( مثل قصیدة فی الحانة القدیمة ) ، أو یبدأ قصائده بوصف جنسی شبقی قبل الدخول إلى غرض القصیدة الأساسی تماماً كما كان یبدأ شعراء الجاهلیة بالوقوف على الأطلال .
و أخیراً نورد مقطعاً شعریاً لسعاد الصباح وُفِّقتْ فیه إلى حدٍّ كبیر فی تقدیم صورة أخرى لعلاقة المرأة و الرجل بعیدة عن التـناول النمطی و الثـنائیة التقلیدیة ( المرأة الحبیبة / المرأة الأخت – الأم ) ، و على الرغم من الخلل الذی تعانیه اللغة الشعریة و هبوطها إلى مصاف اللغة النمطیة النثریة لكن ذلك لا یمنعنا من الإشادة بالمضمون كمثال یمكن أن یحتذیه الشعراء :
(( كم جمیلٌ لو بقینا أصدقاء
كم جمیلٌ .. أن كل امرأةٍ تحتاج إلى كف صدیق
كُنْ صدیقی .. كُنْ صدیقی
لماذا تهتمُّ بشكلی و لا تدركُ عقلی
كُنْ صدیقی .. كُنْ صدیقی
أنا محتاجةٌ لمیناء سلامْ
و أنا متعبةٌ من قصص العشق و أخبار الغرامْ
فتكلّمْ .. تكلّمْ
لماذا تـنسى حین تلقانی نصف الكلامْ
كُنْ صدیقی .. كُنْ صدیقی
لیس فی الأمر انتقاصٌ للرجولة
غیر أن الشرقیَّ لا یرضى بدورٍ غیر أدوار البطولة ))
و على كلٍّ یبدو أن الحداثة الشعریة التی عمّتْ الشكل الشعری فی تقدیمها للمرأة لم تستطع سوى تلمیع صورة المرأة و إعادة تقدیمها بصیغ جدیدة و لكنها لم تحقق قَطْعاً مع الصورة التقلیدیة ، فالحداثة ظلتْ نتوءاتٍ نافرة فی وعی النخبة المثـقفة و عموم الوعی الاجتماعی العام ، لتبقى بذلك حریة المرأة فی الشعر كما فی معظم میادین الحیاة السیاسیة و الاجتماعیة العربیة عنواناً لم یجد سبیله إلى الواقع .
عمار عكاش – طالب فی قسم علم الاجتماع – جامعة حلب – marsel81@maktoob.com
المراجع :
• یحیى الجباعی : المثـقفون والموقف من المرأة وحقوقها. مقال مأخوذ عن شبكة الإنترنت .
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:24|