موقف أبی العلاء المعری من الدهر
الموجز
یفكر الإنسان دائما فی حاله كما أنه یفكر فی الكون وألغازه وأسراره؛ وعنده أسئلة كثیرة یعقبها عدم الراحة والقلق والخوف وهی: من أین أتى؟ ولماذا؟ وإلى أین یذهب؟ ولیس هذا الخوف إلاّ خوفا من المجهول الغامض الذی یخافه الإنسان مدى الدهر. ویعرف أنه یعیش حیاة قصیرة متغیرة، فیها الشیخوخة والمرض والنهایة المحتومة إلى الفناء، كما أنه یعلم أن البقاء مستحیل وكل حی مصیره الفناء فیصیب بالقلق الوجودی. فی هذا المنطلق، یؤمن بعضهم بأن الدهر هوسبب الهلاك؛ كما أنه سبب اضطرابه الفكری وقلقه الروحی. والدهر غالب وناظر على الأمور كلها، ویضیفون إلیه كل حادثة فیحیلون علیه باللوم والعتاب؛ كأنه مسؤول عن أعمالهم، إذن هم متشائمون. وقلیل منهم الذین یصلون إلى الكمال والنضج العقلی فاستطاعوا أن یعتقدوا بالقضاء والقدر ویؤمنوا أن الدهر لایهلكهم؛ بل الأمور كلها بید الله سبحانه وتعالى، إذن موقفهم إیجابی وهم متفائلون.
هذا اللون الشعری المطوی على ذم الدهر سمی شكوى الدهر أوالدهریات، حیث أصبحت فنا مستقلا فی العصر العباسی الثالث وانصرف كثیر من الشعراء إلی نظمها والإكثار منها. هنا نرید أن نناقش موقف أبی العلاء المعری من الدهر.
الكلمات الرئیسة: الدهریات، شكوى الدهر، ذم الدهر، العصر العباسی الثالث، القلق الوجودی.
المقدمة
إنّ الإنسان فی حیاته خاضع لتقلب الزمن وحدثان الدهر، وهذا صحیح أنّ المرء یستطیع أن یعیش بالشكل الذی یریده ویرضاه. ولكن فی الحیاة، أحوالاً لاتخضع لإرادة الإنسان فهی تارة حلوة وتارة أخرى مرة. وقلیل من الناس یصلون إلى الكمال والنضج العقلی وینظرون الحیاة بمنظار التفاؤل، ولكن أكثرهم یدفعون نحوالتشاؤم فی الحیاة وهم أولئك الذین لایرون فی الحیاة غیر الشقاء والفساد ویشعرون بالخیبة وفلسفتهم فی الحیاة مبنیة على التشاؤم.
بعد أن فسدت الأحوال السیاسیة فی العصر العباسی ولاسیما فی العصر العباسی الثالث لانحلال الدولة العباسیة وأدى ذلك إلى الاضطراب وإلى سوء الحالة الاجتماعیة والحالة الاقتصادیة، انتشرت الفتن فازدادت الأفكار التشاؤمیة. فمن جراء ذلك لجأ كثیر من الناس إلى التشكی فنظموا أبیاتا مستقلة فی شكوى الدهر وذمه واعتادوا ذلك حتى غلب على كلامهم فاستقل هذا الفن الشعری وسمی بالدهریات.
شعر الدهریات شعر وجدانی مرتبط بمكنون النفس وآلامها ومعاناتها وقد رسم لمخاطب صورا جلیّة مثّلَت شرائح المجتمع الإسلامی فی العصر العباسی. وهوشعر صادق لم ینظمه أصحابه رغبة فی منصب أوتزلّفا لحاكم؛ إنما كان نبض فؤاد واضطراب جوانح كشف كثیرا من الدلالات النفسیة والاجتماعیة والسیاسیة وألقى الضوء على الواقع الذی عاشته أمة الإسلام حینا من الدهر.
سار الشعراء فی العصر العباسی على نهج سابقیهم الذین أكثروا الشكایة من الدهر وحوادثه التی أوهنت قواهم ونسبوا للدهر كلّ بلاء وسوء متناسین حكم الشرع فی النهی عن سبِّ الدهر وحسبوه عدوالأحرار وكرام النفوس كما نرى الحال عند المتنبی حیث بلغ من حنقه علیه أن اعتبره غریما حیا یطارده ویعاكسه. كما على رأیه أن الدهر هوالذی یقسم الحظوظ والمواهب على الناس ولكنه مطبوع على الجور.
وأما الأفكار الإیجابیة فقلیلة جداً فی العصر العباسی وقلما تجد شاعراً متفائلاً بالنسبة إلى مسألة الدهر ویمكن أن نعد أباتمام شاعراً مع نظرة إیجابیة للدهر. مع أن حیاته كانت ملئیة بالآلام والمشا كل وأحس قسوة الدهر وشقائه، ولكنه تصبر واعتقد أن الإنسان مادام یرى الأمل فی نفسه علیه أن یجاهد وألا ییأس حتى یصل إلى هدفه.
یمكن أن نقسم تشاؤم الشاعر العباسی بالنسبة لمسألة الدهر والموت إلى قسمین: التشاؤم النفسی والتشاؤم الاجتماعی.
وأما التشاؤم النفسی عند الشعراء العباسیین، فیجعلهم مشغولین بأنفسهم ویعكفون على آلامهم وهذا اللون من شعر المعاناة والألم الذی یهتم الشاعر العباسی ببیان آلامه النفسیة ینبع جمیعاً من أصل واحد وهوالشعور بالفناء وعبثیة الدهر ویتخذ الموقف السلبی ویبدأ بالشكوى عن الدهر ویتبرم به.
ویمكن أن نرجع شكوى بعض الشعراء العباسیین إلى إدراكهم أوشعورهم بنقص فی أجسامهم وضعفهم ویعانون من العقد النفسیة مثل عقدة الشعور بالنقص وعقدة أدیب. مثل مایشعر أبوالعلاء المعری وإبن الرومی بضعفهما الجسمی حیث یجعلان أدبیاتهما مبنیة على التشاؤم لأن الدهر یحرمهما من لذة الحیاة والدنیا.
أما التشاؤم الاجتماعی عند الشاعر العباسی، فینبع من مجتمعه ولا من نفسه وحده. لأن الشاعر العباسی عاش فی عصرشدید الاضطراب سیاسیاً، اجتماعیاً، اقتصادیاً وعقائدیاً. إنّ المصائب أحاطت به، وكان لابد لهذا الاضطراب أن ینعكس فی أشعاره ویترك آثاره فیها. وقد تأثر الشعراء بما أصاب الناس من خراب، تعذیب، إذلال ودمار. ینتشر الترف فی بیوت الخلفاء والأمراء حینما ینتشر الفقر فی عامة الشعب، فیلجأون إلى العزلة ویدق نفسیتهم فی إدرك الواقع.
على سبیل المثال أبوالعلاء، المتنبی، الشریف الرضی وغیرهم من الشعراء لم یكن شعورهم وفقا على خلجات أنفسهم فقط؛ فهم قد شاركوا الشعب فی مصائبهم وسمعوا شكاوى المظلومین والفقراء وعالجوا مشاكل مجتمعهم مع أنهم عانوا بذاتهم، لكنهم لن یغفلوا عن المجتمع الذی عاشوا فیه.
من الشکاوى السائدة فی العصر العباسی هی: الشكوى من السجن والاغتراب، والشكوى من المرض والآفات والشکوی من أمراض الكِبَر وفقد البصر والشكوى من الآفات: آفة الشباب الشیب وآفة الحیاة الموت…وإلخ.
المعری، حیاته وشعره:
أحمد بن عبدالله بن سلیمان بن محمد التنوخی المعروف بالمعری ولد فی المعرة سنة 3٦3 ه. توفی سنة ٤٤٩ ه.
أصابه الجدری وله أربع سنین، فكف بصره وهوطفل، وكان یقول: "لاأعرف من الألوان إلا الأحمر لأنی ألبست فی الجدری ثوباً مصبوغاً بالعصفر".
وجد المعری فی محبسه بالمعرة مالم یجده فی بغداد من الشهرة فراسله العلماء والأدباء والأمراء وقصده طلاب العلم من كل مكان یغترفون من علومه وفنونه.
وشهد هذا العصر صراعات بین تلك الدویلات الصغیرة التی نشأت فی قلب الأمة وتطاحنا شدیداً جعل الأمة من الداخل كما یغلی المرجل بالماء.
عاصر أبوالعلاء المعری من تلك الدویلات البویهین والحمدانیة والمرداسیین والفاطمیین وشاهد التطاول الدامی بینها.
وفی ظل تلك الأوضاع السیاسیة القائمة انعدم العدل والإنصاف وساد الطغیان والظلم، وزالت رحمة الراعی على الرعیة، وحلت محلها الغلظة والخشونة.
أما الحیاة الاقتصادیة فلم تكن بأفضل من الحیاة السیاسیة فإن الضرائب زادت واضطربت تبعا لكثرة الولاة الفاطمیین، وعمل كل منهم على كل مایستطیع من الأموال لنفسه، فكانت تدخل على الضرائب والجنایات زیادات ترهق الشعب إرهاقاً شدیداً وما أحسن ما صور به أبوالعلاء ذلك الظلم الذی یقع على الناس إذ یقول مصوراً حال عصره:
وأرى ملوكاً لا تحوط رعیة
فعلام تؤخذ جزیة ومكرس
والحیاة الاجتماعیة هی الأخرى أصابها الوهن فضعفت الثقة بین الأفراد فانتشر الفساد وعمت الفوضى أرجاء البلاد.
وقد أدت الأوضاع القائمة إلى تحرر فی الدین والفرائض، فأصبح الدین أضعف من أن یسیطر على النفس والضمائر وأصبح الإنسان فی عصر لایفكر إلا فی مصلحته ولوعلى حساب الآخرین.
عاش المعری حیاة طویلة مضطربة فیها قلق وتشاؤم ومرارة وشكوى، وكان لعناصر شخصیته أثر فی توجیه تفكیره، وصبغ آرائه بصبغة خاصة میزت المعری عن غیر من الشعراء والأدباء وخاصة أن قرر المعری لزوم بیته وانصرافه عن كل شیء فی الحیاة إلى النقد والتهكم دون أن یحاول الإصلاح الذی یقترح له سبیلاً بل یرى أن الإصلاح أمر مستحیل، ومن یحاول ذلك فإن مصیره الفشل.
والمعری شدید التشاؤم، شدید الكراهیة للحیاة وملذاتها، وكان لذلك التشاؤم داوفع متعدة أهمها: عماه الباكر، فقده لأبیه، نكباته فی بغداد، فقده لأمه، مزاجه السودای وفساد الحالة السیاسیة فی عصره. وإن كان المعری یتظاهر بالصبر والتجلد، ولكن یخونه تجلده أحیاناً فتراه یصرح بالشكوى من العمى.
وكم اشتكت أشفار عین سهدها
وشفاؤها مما ألم شفار
ولطالما صابرت لیلا عاتما
فمتى یكون الصبح والإسفار
ویقول:
عمی العین یتلده عمى الدین والهوى
فلیتنی القُصرى ثلاث لیال
وكل هذه العوامل المجتمعة أثرت فی نفسیة أبی العلاء فجعلته ینظر إلى الحیاة نظرة قلق والتشاؤم، ودفعته إلى العزلة وحبس نفسه فی بیته، وإلى تنبیه تلك الأفكار التی ضمنها كتبه وأشعاره ومنها لزومیاته التی مملوءة من أفكاره الناضجة، فیه یتساءل عن حقیقة الحیاة وأسرار الوجود ویبحث عن مشكلات الخیر والشر وعناء الحیاة وراحة الموت، والتی صور فیه بصدق حالة العصر الذی عاش فیه، صورة صادقة نابعة عن تجربة مؤلمة فی مجتمع تحكمه المادة، والتعالی على الآخرین، ولذلك اتجه المعری إلی أمر أخر یحقق به ذاته، وهوالتفرغ للعلم والعمل، وتحقق له بذلك ما أراد، ففاق فیه أهل زمانه، فكان حقا موسوعة علمیة غزیرة.
یری المعری أن المصائب سببها الناس وأخلاقهم وأفعالهم السیئة والتی یصرون علیها وقد أطال التفكیر، فلم ینتج له ذلك إلا أن الإنسان شریر بطبعه، وأن الفساد غریزة فیه. وجمیع البشر فی نظره سواء فی الفساد وقبح الطباع لأنهم ثمرة فساد، وهكذا، فكل حی علی الأرض شریر كاذب. فالطبیعة البشریة عند المعری فاسدة من أصل الخلقة، فالفساد غریزة فیه والشر قاسم مشترك بین الناس، إنهم یتفاوتون غنىً وفقراً وجمالاً وقبحاً ولكنهم یتساون عند طبعهم الشریر.
إن مازت الناس أخلاق یعاش بها
فإنهم عند سوء الطبع أسواء
أوكان كل بنی حواء یشبهنی
فبئس ما ولدت فی الدهر حواء
ویرى أن تلك الطبیعة الفاسدة إنما هوقضاء، قضاه الله على بنی آدم وماالناس فی هذه الدنیا إلا كلاباً یتصارعون علیها رغم أنها لاتتعدى أن تكون جیفة نتنة.
رأیت قضاء الله أوجب خلقه
وعاد علیهم فی تعرفه سلباً
وقد غلب الأحیاء فی كل وجهة
هواهم وإن كانوا غطارفة غلباً
كلاب تغاوت أوتعاوت لجیفة
وأحسبنی أصبحت الأمها كلباً
أبینا سوى غش الصدور وإنما
ینال ثواب الله أسلمنا صدراً
وأی بنی الأیام یحمد قائل
ومن جرب الأقوام أوسعهم ثلباً
ومهما حاول الإنسان أن یظهر النفع لأخیه؛ فإنه فی ذلك ماكر ومهما امتدح نفسه فهوكذاب یغتاب الأصل ویدعی التقوى والصوم والوفاء.
إذا أقبل الإنسان فی الدهرصدقت
أ توهمنی بالمكر أنك نافعی
وتأكل لحم الخل مستعذبا له
أحادیثه عن نفسه وهوكاذب
وما أنت إلا فی حبك جاذب
وتزعم للأقوام أنك عاذب
والإنسان فی هذه الحیاة بئس المعاشر لما یتصف به من الغدر وحب السب للآخرین:
بنی آدم بئس المعاشر أنتم
ئ وجدتكم لاتقربون إلى العلى كما
فما فیكم واف لمقت ولاحب
أنكم لاتبعدون عن السب
وما فی هذه الدنیا من صغیر وكبیر إلا أثوم غشوم میال إلى الشر فخور بفعل الخیرات یتبع المن والأذى حیث یقول:
لعمرك ما فی الارض كهل مجرب
ولا ناشىء إلا لإثم مراهق
إذ بض بالشیء القلیل فإنه
سوء السجایا بالتبجّج فاهق
وهذه طبیعة البشر حب الفساد والشر فیا لیتهم لم یولد وكانت ولادتهم شرا وبلاء، یقول:
یا لیت آدم كان طلق أمهم
أوكان حرمها علیه ظهار
ولدتهم فی غیر طهر عاركا
فلذاك تفقد فیهم الأطهار
هكذا ینظر المعری إلى الطبیعة البشریة. إن الإنسان شریر بطبعه والفساد غریزة فیه، ولذلك لم ینتفع إصلاحاً ولم یرج لآلامه شفاء. ولا شك أن ما لاقاه المعری من آلام فی حیاته وشرور فی عصره هی التی قوت فی نفسه هذا الرأی، مما دفعه إلى اعتبار الناس جمیعهم أشرارا وأنّ الخیر معدوم فیهم، ولا فائدة فی إصلاحهم ولا حلّ إلاّ فی اعتزالهم وهجرهم.
لم یكن رأی أبی العلاء المعری فی الدنیا بأفضل من رأیه فی الإنسان، فهوعلیها ناقم ومن خستها اشتق لؤم الإنسان، فلم یزل یذمها ویصفها بصفات القبح حتى إنّه لیعد أكثر الشعراء ذماً للدنیا وبغضا لها وكان یرى الدنیا من خلال الظلام المسیطر على قلبه، فیرى فی كل شیء فسادا وهكذا تلمس فی تشاؤمه ألما مكبوتا وعنفوانا مضغوتا.
وقد ملأ أبوالعلاء كتابه اللزومیات بهذا التشاؤم الواسع من الدنیا ووصف لها بأنّها دار آلام وعذاب یستعرض الحیاة فیها من جمیع جوانبها وینقدها نقدا ساخرا فی جرأة وصراحة.
والدنیا خسیسة أف لها ولأبنائها لیس بها إلا المصائب والبلایا، حیث یقول:
خسئت یا أمنا لها
لنا بنوالخسیسة أوباش أخساء
وقد نطقت بأصناف العظات لنا
وأنت فیما یظن القوم خرساء
یقول طه حسین عن لزومیاته: " إنها إلى أن تكون كتاباً فلسفیاً أقرب منها إلى أن تكون دیواناً شعریاً، وعمد بشعره إلى إثبات النظریات الفلسفیة فی الطبیعة والریاضة والألوهیة والأخلاق".
یقول أبوالعلاء فی ذمّ زمانه وأهل زمانه:
أتروم عن زمن وفاءً مُرضیاً
إن الزمان كأهله غدار
یرى المعری الزمان نعم غدار، ویصرح بأنه لا أمل فی إصلاح الحیاة بل إنّ المحاولة لإصلاحها مستحیل:
فلا تأمل من الدنیا صلاحاً
فذاك هوالذی لایستطاع
ویرى المعری أن الزمن قدیم كالمادة ولاشك أنه كان یرتبط الصلة الوثیقة بالفلسفة الیونانیة فی مبدأ قدم العناصر، وقدم الزمان والمكان، یقول:
قالوا لنا خالق قدیم
قلنا صدقتم كذا نقول
زعمتموه بلا زمان
ولا مكان ألا فقولوا
اعتقد الشاعر بالجبریة، یرى أن الإنسان مجبر یولد مكرها ویهرم مكرها كما یعیش مكرها ویسیر كذلك مكرها؛ یعنی أن الإنسان لا یملك اختیاراً ولاحریة ولا رأیاً وهوأسیر مغلول مقود إلى الشر بأعنة القدر:
ما باختیاری میلادی ولاهرمی
ولا حیاتی، فهل لی بعد تخییر
ولا إقامة إلا عن یدی قدر
ولا مسیر إذا لم یقض تیسییر
كما یرى فی القضاء والقدر:
نبكی ونضحك والقضاء مسلّط
ما الدهر أضحكنا ولا أبكانا
نشكوالزمان وما أتى بجنایة
ولواستطاع تكلماً لشكانا
والدهر لایدری بمن هوكائن
فیه، فكیف یلام فیما كانا
إن النظریة الفلسفیة عند أبی العلاء تقوم على قائدة الشك فی كل شیء إلا فی حقیقتین هما: الله والعقل، فهوحائر فی سبب الموت والوجود والخلق، ففی لزومیاته صیحات ألم وصرخات حزن، كان القارئ یلمس یأسه وقنوطه من خلال أسئلة الدالة على شكه وارتیابه.
یضع المعری بجانب الله سلطة أخرى، هی القدر وهذه السلطة تبدوغاشمة ظالمة متحكمة بشوؤن البشر، قوتها لاتدفع ولاتغلب ولا ترد. یبدوأن المعری مضطرب فی هذه الناحیة أشد الاضطراب. فهوفی بعض الأحیان ینسب الظلم إلى القدر والزمان، كما فی قوله:
وهوالزمان قضى بغیر تناصف
بین الأنام وضاع جهد الجاهد
وإیمان المعری بالقدرناجم عن فلسفته الجبریة، كم من مرة صرح بأنه على هذا المذهب فالإنسان فی رأیه مجبر تحركه الأقدار كالریشة فی مهب الریح لایستطیع إفلاتاً منها، وكل محاولة للنجاة مكتوب لها الإخفاق.
یغدوعلى درعه الزراد یحكمها
وهل یُنجّیه، مما قُدّر الزّردُ
یعترف المعری بأنه یجهل من خلق البشر، ولكنه على ثقة بأن هنالك إلهاً قدیراً وهوالمنعم المفضل على عباده سواء أكانوا أهلاً للفضل أم لم یكونوا، سواء آمنوا به أم كفروا:
تورعوا یا بنی حواء عن كذب
فما لكم عند رب صاغكم خطر
لم تجدبوا لقبیح من فعالكم
ولم یجئكم لحسن التوبة المطر
وكل ما یحرزه المرء فی الحیاة من نجاح وفوز فإنما هوبفضله ومنّه، لا بسعی الإنسان وجهده:
لم تبلغ الآراب شدة ساعد
ما لم یعنها الله بالإسعاد
ویلاحظ أن المعری یقر بوجوده، ویعترف بعظمته، ویشیر إلى فضله.
كما یعترف أبوالعلاء بحریة الوجود، والعقل هوالدلیل؛ لأنّ وجود العقل یقتضی أن الإنسان قادر على البحث والاختیار، ولوكانت الحیاة جبراً تاماً لكان وجوده ضرباً من العبث، ولكان البشر بلاعقول أفضل منهم مزودین بها، بید أن دور العقل أمام دور القدر:
الصمت أولى، وما رجل ممنعة
إلا لها بصروف الدهر تعثیر
والعقل زین، ولكن فوقه قدر
فماله فی ابتغاء الرزق تأثیر
فی هذه المرحلة شعر أن العقل شیء عظیم، ولكن القدر المطبق یلغی دوره، ویعطل تأثیره، ما قیمة عقل لاینفع أولایؤثر؟
وهكذا فیرى أبا العلاء المعری قد بالغ فی ذم الدنیا، والتحقیر من شأنها حتى إنه امتنع من أیة لذة فیها وحذر من الجری وراءها، أوالیسر فی طریقها حتى لصغار السن. یقول:
فلا تطلب الدنیا وإن كنت ناشئاً
فإنی عنها بالأخلاء أرباً
وهی لیست دار قرار إقامة
والرحیل منها أولى من البقاء
ویقول:
لعمرك ما الدنیا بدار إقامة
ولا الحیّ فی حال السلامة آمن
وإنّ ولیداً حلّها لمعذب
جرت لسواه بالسعود الأیامن
فالمعری لا یرى فی الدنیا شیئا من الخیر، وإنّما ملؤها الشرور والآثام لا سبیل إلی دفعها والدنیا فی رأیه أفرغت الشر علی كل ما فیها سواء أكان إنسانا أوحیوانا، فهوساخط علی الدنیا متبرم بها، فطبیعی أن یرحب بالموت یریحه من المتاعب.
حیاتی تعذیب وموتی راحة
وكل إبن أنثى فی التراب سجین
ومن شدة كراهیة للحیاة فإنه یعتبره الموت عیداً، وأی تشاؤم بعد هذا التشاؤم أن یرى الرجل یوم موته عیداً یسعد به وینتظره بفارغ الصبر، خلاف الفطرة البشریة التی جبلت على حب الدنیا وكراهیة الموت، كما یرى أن الإنسان یصنع الشر طبعا والخیر تكلفا. یقول:
أنا صائم طول الحیاة وإنما
فِطری الحمامُ ویوم ذاك أعید
والعاقل المتدبر فی نظر المعری لیست له راحة فی الحیاة التی عدمت منها مكارم الأخلاق إلاّ الموت. یقول:
تعالى رازق الأحیاء جمعاً لقد
وهت المروءة والحیاء
فمالی لاأكون وصی نفسی
ولاتعصی أموری الأوصیاء
والموت أفضل من طول العمر والغنى فی هذه الدنیا؛ لأنه راحة من مصائب الدنیا وشقائها:
موت یَسیرٌ معه رحمةٌ
خیر من الیسر وطول البقاء
وقد بلونا العَیش أطوارهَ
فما وجدنا فیه غیر الشقاء
والمعری لایكره الموت كما یكرهه الناس بل هویتمناه؛ لأن فیه راحة أبدیة مما لاقاه فی هذه الحیاة المصائب والمحن. یقول:
إن یقرب الموت منی
فلست أكره قربه
وذاك أمنع حصن
یصیر القبر دربه
من یلقه لا یراقب
خطباً ولایخشى كربه
وهكذا یری أبوالعلاء تفضیل الموت على الحیاة لنقمته علیها، ولما لاقاه فیها من الإهانة والكوارث، فهویلوذ به وینتظره، خلاصه من كل شر، وشفاؤه من كل داء.
لم یكتف أبوالعلاء المعری بتمنی الموت نفسه، وجعله منقذا له من حبسه فی هذه الدنیا، بل یعتقد بأنّ الإثم كل الإثم؛ إنّما هوإنجاب الأبناء وتعریضهم لجمیع ألوان الشقاء وبالغ حتى تمنى العدم لهذا الوجود وتمنى للولید ألایولد وللحی أن یفنى. یقول:
فلیت ولیداً مات ساعة وضعه
ولم یرتضع من أمه النّفساء
وفی امتناعه عن الزواج والنسل ما یجعل المخاطب یرى جانباً من تشاؤمه الأسود الذی ضرب ظلماته على جمیع أفكاره، ولعل ذلك ماجعله یوصی بأن یكتب على قبره:
هذا جناه أبی علیَّ
وما جنیت على أحد
ویصل أبوالعلاء المعری ذروة التشاؤم فی هذه الدنیا التی أذاقتها أفاویق العذاب أصنافا، فیحرم نفسه من لذة بها عندما تمنى الموت فلم یجده وطال به البقاء حتى مل الحیاة وما فیها، ولذلك بادر إلى حبس نفسه فی بیته واعتزال الناس، وفضل أن یكون نباتیا؛ لأن الاعتداء على الحیوان ظلم وتعسف. لم یكتف فیها الإنسان بظلم أخیه الإنسان بل تعداه إلى ظلم الحیوان والجور علیه، ومن هذا المنطلق فإن المعری یرى ترك هذا الظلم بالعزم على ألا یأكل من إنتاج حیوانی وهویعض أصابع الندم على عمره الفائت الذی كان یشارك فیه الناس ظلمهم للحیوان.
ولما لم یر المعری فی هذه الدنیا سبیلاً لإصلاح ولاطریقا لشفاء مما یعانی منه المجتمع ومما یراه المعری ظلما وعدوانا على هذه الحیاة، ولم ینفع معها الحبس واعتزال الناس ولاترك الشهوات والملذات والاكتفاء بالقلیل من الزاد، بدأ یتبرم بها فإذا هویرى كل ما حوله یبكی وأن الحزن یلتف حول رقبته یكاد أن یقطع علیه، حتى تغارید الطیور یراها نواح وبكاء:
لعمرك ما بی نجعة فأرومها
وإنی على طول الزمان لمجدب
حملت على الأولى الحمام فلم أقل
یغنی ولكن قلت: یبكی ویندب
وذلك أن الحادثات كثیرة
وغالبُهُن الفطّ لا المتجدب
كان للعوامل النفسیة والاجتماعیة أثر كبیر على أدب المعری وأفكاره التشاؤمیة وكان أبوالعلاء المعری قلقاً متشائماً شاكاً فی كل ما حوله، لایثق بأحد، ولا یعتمد على أحد، عزیز النفس كریما، رغم ما لاقاه فی حیاته من نكبات.
قصده من نظم اللزومیات الوعظ والإرشاد، وتضمنت اللزومیات آراء المعری حول عصره والحیاة فیه فكان لها ناقدا صریح النقد، كما قیل. بالغ المعری فی آرائه حول المرأة فلم یجد فیها شیئاً حسناً بل اعتبرها صغیرة أوكبیرة سبیلاً للشرور. توصل أبوالعلاء إلى أنّ الراحة من شرور الدنیا ونكباتها العدم وقطع النسل. والأمل الوحید الذی كان ینتظره المعری هوالموت یریحه من الحیاة.
لذا لم یعد الموت لعنة، بل أصبح قدراً محتوماً لا یمكن أن یفلت منه الغنی ولا الفقیر، لا القوی ولا الضعیف، لا الحاكم ولا المحكوم، لا الطیب ولا الشریر، لا المریض ولا الصحیح. بل لعله حقیقة الوجود الوحیدة، فالحیاة سریعة الانطفاء بحیث لا یمكن الاطمئنان إلیها البتة. لم یعد الموت مخیفاً والتحرر من هذا الخوف جعل إرادته أقوى وسخریته من الدهر أكثر قسوة ومرارة وانصرافه عن حیاته وما أحاط بها ملذاته اختیاراً صائباً وحكیماً، وقدرته على تحمل المشاق أشدّ صلابة ومتانة.
إنّ الشعراء الآخرین یبحثون عن المجد والثروة ناسین أن الحیاة قصیدة وأن الموت لهم بالمرصاد. وللحصول على ما یبتغون لا یترددون فی بیع الضمیر وماء الوجه والتمسح بأعتاب الملوك، أما هوفلا یعنیه شیء من كل هذا؛ لأنه أدرك مبكراً أن الحیاة لا تستحق أن تعاش، وأن التعلق بها لایؤدی بصاحبه فی النهایة إلاّ إلى الضرر وإلى ندامة لیست بالنافعة.
یرى الشاعر بالنسبة لدینه، بأنه لیس هناك دین أفضل من دین آخر وأنّ كل الأدیان لها سماتها الخاصة، فإنه لجأ إلى العقل تماماً. لذا حكم أبوالعلاء المعری عقله فی أغلب الأحداث السیاسیة والدینیة التی عرفها عصره المضطرب.
كثیر من الدراسین یعتقدون أن أبا العلاء تأثّر بالفلسفة الهندیة لاجتنابه عن أكل اللحوم والبیض واللبن وتحریم إیلام الحیوان، كما فی قوله:
فلا تأ كلنْ ما أخرج البحر طالما
ولاتبغ قوتاً من غریض الذبائح
ولابیض أماتٍ أرادت صریحه
لأطفالها دون الغوانی الصرائح
ولاتفجعن الطیر وهی غوافل
بما وضعت فالظلم شرالقبائح
ولكن طه حسین یعتقد بأنه تأثر بفلسفة الیونانیة.
تبدوأن حیاة أبی العلاء أثرت فی اتجاهاته المختلفة وفلسفته فی الحیاة ویمكن أن یقال بأنه كان ینشد عند العوامل النفسیة والاجتماعیة التی كان لها أثر كبیر على أدبه وأفكاره التشاؤمیة. فقد ذكرت آراء كثیرة حول بواعث النفسیة بنسبة تشاؤمه للدهر وأهله ویرجع تشاؤمه إلى فقده البصر، الأم، الأب، الفقر، إساءة الناس إلیه، تحول جسده، قبح منظره ومزاجه السوداوی كان من أهم الأسباب التی جعلته متشائماً من الحیاة فترة طویلة من حیاته.
ومن العوامل الهامة الأخرى فی تشاؤمه، ردود الفعل الناجمة عن رفض أهل العصر لأفكاره الفلسفیة الیونانیة الهندیة وغیرها، وما فیه من ثورة على الأوضاع السائدة وكان هذا الرفض فی إتهام البعض له بالفكر والزندقة وتغیر نفسیات أتباعه وتلامیذه، وهما كان یشعر بالمرارة وعدم الثقة بالناس، وبقسوة والجحود والظلم.
لذا یمكن القول بأنه كان یعانی من عقدة النفس ویشعر بها حین یدرك أن لدیه نقصاً عن الآخرین، فیعتزل عن الناس ویبتعد عن أكل اللحم والزواج. یحتمل أن یقال بأنه یحب الحیاة والدنیا كثیرا ولكن وجود نقائصه هوسبب اعتزاله وتشاؤمه، كما قال طه حسین بأنه تأثر بالفیلسوف الیونانی أبیقور الذی یذكر أن رأی أبیقور الذی انتهى إلى رفض اللذة عملاً؛ لأنه لم یستطع أن یحصلها دون الألم وهذا ما تدل علیه اللزومیات فی مواضع كثیرة منها، قول أبی العلاء:
وقال الفارسون حیفُ زهدٍ
وأخطاءتِ الظُنون بما فَرَسْنه
ولم أعرِض عن اللذات ألاّ
لأن خیارها عنّی خَنَسْنَه
وعندما اشتدت الشعور بهذه النقائص مال إلى عدم الإعتراف بما لدیه من عیوب، غیر أن كل ما یذكر بالنقص یحمله بتلقائیة على الدفاع عن نفسه. ومن سمات الشخص المصاب بعقده النقص: العدوان. كما یكره أبوالعلاء الدهر وأهله. فیحتمل كان یتظاهر المعری بالصبر والتجلد، ولكن أحیانا یرى، یصرح بالشكوى من العمى. من قوله:
وكم اشتكت أسفار عین سهدها
وشفاؤها مما ألم شِفار
ولطالما صابرت لیلا عاتما
فمتى یكون الصبح والإسفار
ویقول أیضاً:
عمى العین یتلوه عمى الدین والهوى
فلیتنى القصرى ثلاث لیال
على هذا، أشعل هذه النقائص ونظریته الفلسفیة التی تقوم على الشك فی كل شیء إلا فی حقیتین: هما الله والعقل، فی نفسه جذوة الیأس والألم، فمُقت الحیاة واعتزل الناس. فإنه یسجن نفسه وروحه فی ثلاثة سجون وهی العجز، العمى وشرور النفس الإنسانیة. یقول:
أرانی فی الثلاثة من سجونی
فلاتسأل عن الخبر النبیث
لفقدی ناظری ولزوم بیتی
وكون النفس فی الجسد الخبیث
بصورة عامة ترى أن الموارد المذكورة سببت إلى حدما أنه یعد الموت طریقا وحیدا للخلاص من هذه الآلام. من ناحیة سایكولوجیة، كان الشاعر قد یعانی عن مرض وفی النهایة نظرته إلى الدهر متشائمة شدیدة التشاؤم وأدبیاته مبنیة علی التشاؤم؛ لأن الدهر فی رأیه غاشم یعبث بالناس ولا یتیح لهم التمتع والانتفاع كما یشتهون فاشتدت علیه ضغینته ونقمته.
وقصارى القول أن أبا العلاء ابتدأ جبریاً وانتهى جبریاً، وعندما حاول أن یفتح باب الحریة وأعمل العقل، وجد أن العقل لایغیر من طبیعة الناس شیئاً ورأى أن الشر شامل بین الناس مشترك أما الخیر فطارئ غیر مشترك وأن اللؤم موثق بالطبع البشری فأسرف الشاعر فی التطیر وامتلأ شعره بأنغام التشاؤم، كما رأى فی الحیاة سلسلة من النوائب والحرمان تصل بین مهده ولحده، لذلك أثر العزلة وعاش ینتظر الموت.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:25|