ابزار وبمستر

محمود درویش وأبو فراس: تشابه التجربة
محمود درویش وأبو فراس: تشابه التجربة



كتب محمود درویش قصیدة عنوانها (من رومیات أبی فراس) ظهرت فی دیوان (لماذا تركت الحصات وحیدا) (1995). لیست هذه هی المرة الأولى التی یستلهم فیها درویش تجربة شاعر عربی قدیم، لیعارضها، كما فعل مع شخصیة امرئ القیس، وهی أول شخصیة تراثیة خصص لها قصیدة، هی قصیدة (امرؤ القیس)، وقد ظهرت فی دیوانه (یومیات جرح فلسطینی) (1969)، وتخلى عنها إذ لم یدرجها فی أعماله الشعریة الكاملة، أو لیتماثل معها، كما فعل مع شخصیة المتنبی فی قصیدته (رحلة المتنبی إلى مص) التی كتبها فی العام 1980، وظهرت فی مجموعته (حصار لمدائح البحر) (1984) وثبتها فی أعماله الكاملة، ولم یتنصل منها. وما بین قصیدة (امرؤ القیس) وقصیدة (رحلة المتنبی إلى مصر) أفاد درویش من قراءته للشعر العربی القدیم، كما أفاد منها فی مرحلة متأخرة أیضاً بشكل لافت، حتى یمكن القول إن استحضار الشاعر للشعراء العرب القدامى والجدد أیضاً، مثل السیاب ودنقل، أخذ یبرز بروزاً لافتاً فی أشعاره الأخیرة التی كتبها بعد العام 1992، تاریخ صدور دیوانه (أحد عشر كوكبا على آخر المشهد الأندلسی). ففی دیوانه (لماذا تركت الحصان وحیدا؟) استحضر شخصیة أبی فراس، وشخصیة امرئ القیس ثانیة، وخصص لكل واحد منهما قصیدة، وفی دیوانه (سریر الغریبة) (1999) استحضر شخصیة جمیل بثینة وقیس بن الملوح، وفی (جداریة) (2000) استحضر المعری، وفی (لا تعتذر عما فعلت) (2003) استحضر أبا تمام والمتنبی والمعری، وفی (كزهر اللوز أو أبعد ) (2005) استحضر الأعشى وآخرین. وفی (أثر الفراشة) استحضر سطر تمیم بن مقبل الذی كان استحضره من قبل فی (حصار لمدائح البحر) وفی (أحبك أو لا أحبك) (1971).

زمن الاستحضار:

ربما یثیر المرء، وهو یدرس قصیدة (من رومیات أبی فراس) أسئلة عدیدة أبرزها: لماذا استحضر درویش شخصیة الحمدانی؟ هل استحضرها لیعارضها، كما فعل مع امرئ القیس، أم استحضرها لیعبر من خلالها عن تجربته هو، لأنه یتماثل معها، كما فعل مع المتنبی ومع أبی تمام أیضاً، وإن كان استحضارها للأخیر لا یعود إلى تشابه التجربة، بل تشابه درویش، فی فترة من حیاته، مع بیتی شعر أبی تمام، بخاصة مع الثانی:

    نقل فؤادك حیث شئت من الهوى
    كم منزل فی الأرض یألفه الفتى
    ما الحب إلا للحبیب الأول
    وحنینه، أبداً، لأول منزل

وإذا كانت تجربة درویش تتماثل، فی فترة ما، جزئیاً، مع تجربة الحمدانی، فهل كان استحضاره لها فی العام 1995 موفقاً؟ أم كان یجدر به أن یستحضرها فی زمن آخر، فتجربة درویش والحمدانی تتشابه حین كان درویش یقیم فی حیفا، لا بعد أن غادرها فی العام 1970، ولا یوم كتب القصیدة فی العام 1995. قبل الاستطراد فی إثارة الأسئلة والإجابة عنها وإضاءة ما لم یُضأ یجدر تبیان مواطن التشابه بین الشاعرین فی تجربتهما.

أسر أبو فراس فی فترة من حیاته وأنفق سنوات من شبابه فی زنازین الروم الذین حاربهم، وهناك كتب قصائد عدیدة وجهها إلى سیف الدولة یخاطبه فیها أن یفتدیه وأن یخلصه من الأسر، ولم یسرع سیف الدولة فی تلبیة الطلب، بل تباطأ، ما أثر على أبی فراس وجعله یعبر عن حزنه وآلامه وأشجانه فی قصائد جمیلة خاطب فیها أمه وغیرها، وأتى فیها على حیاته فی الزنزانة وبعده عن الأهل وشوقه إلى بلده.

وسجن محمود درویش فی أثناء إقامته فی حیفا، وكتب وهو فی السجن قصائد عن تجربته، أبرزها قصیدته التی وجهها إلى أمه، فذاعت وانتشرت. ولم تختلف رؤى درویش وتطلعاته، وهو تحت الاحتلال، إلى الخلاص، آملاً أن یساعد العرب فی الخارج عرب فلسطین تحت الحكم الإسرائیلی بهذا – أی الخلاص.

ثمة تشابه إذن بین التجربتین، تجربة السجن من عدو أجنبی، والأمل بالتحرر وطلب المساعدة من أبناء جلدتهما – أی العرب، وثمة شعور بالخیبة. ولعل خطاب الأم وكتابة القصائد لها، وهما فی السجن، من أبرز الأشیاء المشتركة.

كما ذكرت استحضر درویش شخصیة امرئ القیس لیعارضها، فقد كان درویش ابن اسرة فقیرة، خلافاً لامرئ القیس ابن الملك، وكان درویش لا یبحث عن ملك، كما فعل امرؤ القیس، وكان فهمه للشاعر ودوره مختلفاً عن فهم امرئ القیس. ثمة تعارض مواقف لاختلاف المواقع، وثمة زمنان أیضاً مختلفان.

وكما ذكرت أیضاً فقد استحضر درویش شخصیة المتنبی لیعبر من خلالها عن تجربته، فقد تشابهت التجربتان فی مرحلة من مراحل حیاة درویش، وكان المتنبی قناعاً له. وكتب درویش قصیدته فی اللحظة التی مر بها بالتجربة المشابهة لتجربة المتنبی، ولم یكن هناك هوة تفصل الزمن الكتابی عن الزمن الشعری الواقعی المعیش. وهذا ما لم یتم حین كتب درویش قصیدته (من رومیات أبی فراس)، فزمنها الشعری مسترجع، وثمة فترة سبعة وعشرین عاماً ما بین الأسر / الزمن الشعری وزمن الكتابة – الزمن الكتابی. وإذا ما ذهبنا إلى أن درویش فی (لماذا تركت الحصان وحیدا؟) یكتب سیرته شعراً، وقد ذهب هذا المذهب نقاد عدیدون، أدركنا أن كل مجموعة من القصائد التی أدرجت تحت عنوان تعود إلى فترة زمنیة من حیاة درویش. فالدیوان یتألف من ستة عناوین رئیسة، كل عنوان یمثل مرحلة من مراحل حیاة الشاعر: مرحلة الطفولة والهجرة، فمرحلة المراهقة، فمرحلة الشباب، فمرحلة النضج الشعری والعیش فی العالم العربی، فمرحلة مدرید وأوسلو. وسیعود محمود درویش فی كتابه (فی حضرة الغیاب)(2006) لیكتب نثراً، بالأسلوب نفسه الذی اتبعه فی الدیوان، سیرة حیاته، فكل فصل من (فی حضرة الغیاب) استرجاع لمرحلة زمنیة معینة من حیاته، وقد أبرزت هذا فی مقال عنوانه: سؤال الزمن.

فی العام 1995 إذن، عام كتابة (من رومیات أبی فراس) یستحضر درویش واقعة سجنه وهو فی حیفا قبل العام 1970. ولا یكتب هذا بأسلوب مباشر، بل إنه یعبر عن تلك التجربة من خلال قناع. وإذا كانت أنا المتكلم فی (رحلة المتنبی إلى مصر) هی أنا أنا المتنبی، وأنا درویش معاً، فهی كذلك فی (من رومیات أبی فراس)، ولكنها لیست واحدة – أی أنا متطابقة – فی قصیدة (امرؤ القیس).

استلهام، شخصیة أبی فراس من قبل:

ثمة دراسات عدیدة أنجزت تناول اصحابها فیها، بشكل عام، استدعاء الشخصیات التراثیة فی الشعر العربی المعاصر، أبرزها كتاب علی عشری زاید (استدعاء الشخصیات التراثیة فی الشعر العربی المعاصر) ( 1977 ط1، 1997 ط2 ) وكتاب خالد الكركی(الرموز التراثیة العربیة فی الشعر العربی الحدیث) (1989 ط1) وكتاب إبراهیم نمر موسى (آفاق الرؤیة الشعریة). (دراسات فی أنواع التناص فی الشعر الفلسطینی المعاصر) (2005) وكتاب (التناص فی الشعر العربی الحدیث: السیاب ودنقل ودرویش نموذجاً) (2006) لعبد الباسط مراشدة، ولم یقف أصحابها، فیما یلحظ، أمام شعراء استلهموا شخصیة أبی فراس، ما یعنی أنه إذا ما قورن بشاعر معاصر له، هو أبو الطیب المتنبی، بدا غیر تأثیر على الشعراء الذین لحقوه، وحین یعرف أن الدكتور الكركی خصص كتاباً كاملاً لدراسة حضور أبی الطیب المتنبی فی الشعر العربی المعاصر، هو كتاب (الصائح المحكی: صورة المتنبی فی الشعر العربی الحدیث) (1999)، أدركنا أن أبا فراس لم یلفت نظر شعرائنا المعاصرین كما لفت نظرهم معاصره أبو الطیب المتنبی. هل محمود درویش، إذن، هو أول شاعر عربی فی ق20 یستلهم شخصیة أبی فراس؟ لا. فقد استلهمه، من قبل، الشاعر العراقی عبد الوهاب البیاتی فی دیوانه " الموت فی الحیاة "(1968)، فی قصیدة عنوانها (رومیات أبی فراس)، وتوقف أمامها سامح الرواشدة فی كتابه شعر عبد الوهاب البیاتی والتراث (1996).

تجربة الحب لدى الشاعرین:

شاعت قصیدة أبی فراس (أراك عصی الدمع) شیوعاً لافتاً فی ق 20، وما ساعد على ذلك، غیر إدراجها فی المناهج المدرسیة فی بعض البلدان العربیة، ومنها الأردن، حین درسناها فی المدارس، ما ساعد على شیوعها قیام سیدة الغناء العربی أم كلثوم بغنائها بصوتها، ما جعل أبا فراس معروفاً للدارسین ولغیر الدارسین. فإذا كان الدارسون، بخاصة دارسو الأدب العربی، درسوا أشعاره حین درسوا العصر العباسی، أو الحیاة الأدبیة فی حلب فی عصر سیف الدولة، أو الرومیات، فی مساق الرومیات، فإن غیر الدارسین ممن یستمعون إلى الغناء استمعوا إلى أراك عصی الدمع وطربوا لمعانیها، وربما حفظوا بعض أبیاتها،.

طبعاً نحن نعرف أن درویش، قبل أن یكون مستمعاً إلى أم كلثوم، كان قارئاً فاحصاً ومدققاً للشعر العربی القدیم. ولا نحتاج إلى دلیل یخبرنا عن سماعه أم كلثوم، فقد خصص لها فی كتابه (أثر الفراشة)(2008) قصیدة.

فی (أراك عصی الدمع) یعبر أبو فراس عن تجربة حب مرّ بها، ویبدو أنه لم یكن موفقاً فیها، فالمحبوبة كان لها غیر عشیق: (أیهم فهم كث)". لیس هذا هو المهم هنا، فالمهم هو ما یكمن فی السؤال التالی: هل كان لأبی فراس تجربة حب مع امرأة رومیة، حین كان أسیراً فی بلاد الروم؟

فی مسلسل عن أبی فراس عرضته القنوات العربیة فی السنوات الأخیرة، ما یشیر إلى أنه كان على صلة مع امرأة رومیة، وما یدعم هذا قوله:

    وشادن من بنی كسری شغفت به
    لو كان أنصفنی فی الحب ما جـارا
    إن زار قصّر لیلی فی زیارتــه
    وإن جفانـی أطـال اللیل أعـمارا
    كأنما الشمس به فی القوس نازلة
    إن لم یزرنی وفی الجوزاء إن زارا

والشادن هو ولد الظبیة، فهل كان أنثى أم ذكرا؟

أحب محمود درویش أیضاً عربیات ویهودیات، وقد عبّر، فی غیر مقابلة أجریت معه، عن علاقته بالفتیات الیهودیات، وقد أتیت على هذا، فی دراسة عنوانها " بین ریتا وعیونی بندقیة "، وهی دراسة مفصلة، وذكرت فیها دراسات سابقة عالجت الموضوع. وفی أشعار درویش غیر قصیدة یتغزل فیها بریتا وشولمیت.

ما الذی أرمی إلیه مما سبق؟

فی قصیدة (من رومیات أبی فراس) یبوح أنا المتكلم بحبه، ویفصح عن علاقته بالفتاة التی أحبها، تماماً كما أفصح أبو فراس عن حبه لشادن من بنی كسرى. یقول أنا المتكلم فی قصیدة درویش:

    وزنزانتی اتسعت، فی الصدى، شرفة
    كثوب الفتاة التی رافقتنی سدى
    إلى شرفات القطار، وقالت: أبی
    لا یحبك. أمی تحبك. فاحذر سدوم غدا
    ولا تنتظرنی، صباح الخمیس، أنا لا
    أحب الكثافة حین تخبّئ فی سجنها
    حركات المعانی، وتتركنی جسدا
    یتذكر غاباته وحده ..

وفی المقابلات التی أجریت مع درویش ما یوضح الأسطر السابقة. فی المقابلة التی أجراها معه عباس بیضون ونشرت فی مجلة " مشارف : الحیفاویة، ( عدد3، تشرین الأول 1995 ) یرد ما یلی:

(أحببت مرة فتاة لأب بولندی وأم روسیة. قبلتنی الأم ورفضنی الأب. لم یكن الرفض لمجرد كونی عربیاً. ذلك الحین لم أشعر كثیراً بالعنصریة والكره الغریزی. لكن حرب 1967 غیرت الأمور. دخلت الحرب بین الجسدین بالمعنى المجازی وأیقظت حساسیة بین الطرفین لم تكن واعیة من قبل).

ما سبق یعزز أن أوجه التشابه بین تجربة الشاعرین فی فترة من حیاتهما كانت متشابهة لدرجة التطابق، وقارئ القصیدة، لولا شكلها الشعری الذی ینتمی إلى عصرنا، بالإضافة إلى استخدام مفردات لم تكن موجودة زمن أبی فراس، مثل القطار، یمكن أن یوحد بین درویش وأبی فراس، وقد یذهب، إذا قرأ القصیدة دون وضع اسم درویش علیها، إلى أنها بالفعل من رومیات أبی فراس.

ذكر الحمامة:

من قصائد أبی فراس المشهورة التی رددها قراؤه وتناولها دارسو الأدب العربی بالشرح والتحلیل قصیدة (أقول وقد ناحت بقربی حمامة)، وهی قصیدة یقول ظاهرها إن الشاعر، وهو فی الأسر، خاطب حمامة كانت تنوح. وبدت المفارقة لأبی فراس فی أنه هو الأسیر یضحك، فیم هی الطلیقة تبكی، ولیس فی هذا إنصاف من الدهر، إذ ماذا كانت الحمامة ستفعل لو كانت أسیرة مثل الشاعر وتعانی مما منه یعانی: الأسر والبعد عن الأهل والغربة؟ هل یجوز لنا أن نقول إن ثمة بُعداً رمزیاً فی القصیدة؟ هل الحمامة الطلیقة حمامة بالفعل أم أنها دال ذو مدلول رمزی، وبالتالی فإن المقصود بها – أی مدلولها – هو المرأة؟ هل یجوز أن نربط بین هذه القصیدة وقصیدة الشاعر آنفة الذكر: وشادن من بنی كسرى، وبالتالی بین أبی فراس والمرأة الرومیة التی أظهر مسلسله أنه كان على علاقة بها؟ هذه تساؤلات لیست أكثر. الشادن إن زار الشاعر قصیر لیله، وإن لم یزره طال لیل الشاعر، مثله مثل لیل عمر بن أبی ربیعة ولیل المتنبی الذی یطول لفراقه الأحبة.

سواء أكانت الحمامة حقیقیة أم رمزاً، فإن ما یهمنا هنا أنها كانت ذات حضور فی قصیدة درویش: (من رومیات أبی فراس)، وفی قصائد أخرى. یرد فی (من رومیات أبی فراس):

    وثمة ملح یهب من البحر،
    ثمة بحر یهب من الملح. زنزانتی
    اتسعت سنتمتراً لصوت الحمامة: طیری
    إلى حلب، یا حمامة، طیری برومیتی
    واحملی لابن عمّی سلامی!

كأننا هنا نُصغی إلى أبی فراس حقا. كأن المتكلم حقاً هو أبو فراس. لیس التشابه فقط فی مكان الزنزانة ووقوعها على الساحل – كلا الزنزانتین كانتا تقعان على ساحل البحر، وثمة ما هو مشترك هنا - هناك تشابه آخر: كلا الشاعرین ینتظر الخلاص من ابن لغته وأقربائه خارج حدود الزنزانة (السجن). وكثیرة هی قصائد أبی فراس التی یخاطب فیها ابن عمه حتى یفك أسره، بل إنه یعتب علیه لتلكئه فی ذلك. من ذلك قصیدة (أسیف الهدى) التی یقول فیها:

    ألست وإیاك من أسـرة
    وبینی وبینك فـوق النســب
     
    فـلا تعدلـنّ، فـداك ابن عـمـك،
    لا بل غلامك، عـما یجـب
    
    وأنصف فتاك، فإنصافه
    من الفضل والشرف المكتسب

الأم:

یكتب درویش، وهو یستحضر أبا فراس، یكتب على لسان الأخیر:

    ثمة أهل یزوروننا
    غدا فی خمیس الزیارات. ثمة ظل
    لنا فی الممر. وشمس لنا فی سلال
    الفواكه. ثمة أم تعاتب سجاننا:
    لماذا أرقْت على العشب قهوتنا یا
    شقی ؟

ولا أدری إن كانت أم أبی فراس زارته، وهو فی السجن فی بلاد الروم. غیر أن مما لا شك فیه أن أهل محمود درویش، وأمه منهم، قد زاروه فی السجن، وحملوا له معهم فی أثناءء الزیارة البرتقال (شمس فی سلال الفواكه). ومعروف أن درویش كتب قصائد إلى أمه أبرزها قصیدته (أحن إلى خبز أمی..) وقصائد محمود درویش لأمه تذكرنا بقصائد أبی فراس لأمه، وهی من عیون شعره، ومن أجمل قصائد الأبناء للأمهات فی الشعر العربی، فما من دارس لأبی فراس أو قارئ لقصائده إلا ترنم یقصیدته (یا أم الأسیر) التی منها:

    أیا أم الأسیر، سقاك غیث
    أیا أم الأسیر، لمن تُربّى
    إذا ابنك سار فی بر وبحر
    بكره منك ما لقی الأسیر
    ، وقد مت، الذوائب والشعور
    فمن یدعو لـه أو یســتجیر

وكما یعثر المرء فی دیوان أبی فراس على قصائد أخرى توجه فیها بالخطاب إلى أمه، فإن درویش فی (لماذا تركت الحصان وحیدا؟) یكتب قصیدة ثانیة لأمه هی (تعالیم حوریة) أتى فیها على علاقته بها ونصائحها له. هل كان دیوان أبی فراس، فی أثناء كتابة درویش دیوانه المذكور، واحداً من الكتب التی قرأها؟ أكاد أجزم بهذا.

المصیر الذی لا مفر منه:

فی قصیدته یكتب درویش:

    فلأكن ما ترید لی الخیل فی الغزوات:
    فإما أمیرا
    وإما أسیرا
    وإما الردى

نحن هنا نصغی إلى الشاعر المحارب، إلى أبی فراس. كأنه هو الذی ینطق. ألم یقل فی (أراك عصی الدمع):

    أسرت وما صحبی بعزل لدى الوغى
    ولكن إذا حُمّ القضاء على امرئ
    وقال أصیحابی: الفرار أو الردى
    ولكننی أمضی لما لا یعیبنی
    یقولون لی: بعت السلامة بالردى
    وهل یتجافى عنی الموت ســـاعةً
    ولا فرسی مهر، ولا ربّه غمر
    فلیس له بر یقیه ولا بحر
    فقلت: هما أمران أحلاهما مر
    وحسبك من أمرین خیرهما الأسر
    فقلت: أما والله، ما نالنی خسر
    إذا ما تجافى عنی الأسـر والضر؟
    …
    ونحن أناس لا توسط عندنا
    لنا الصدر دون العالمین أو القبـر

وإذا كان أبو فراس فارساً شجاعاً حارب وأسر، فإن وجود درویش فی بیروت فی العام 1982، وفی رام الله فی العام 2002، ما یقول لنا إنه كان شجاعاً، حتى لو لم یحمل السلاح ویقاتل. إن من یصمد فی أرض المعركة، فی بیروت أو فی رام الله، یملك من الشجاعة أیضاً الكثیر. إنه أسیر حتى لو لم یؤسر، فقد یموت فی أیة لحظة.

عزة أبی فراس فی قوله فی البیت الأخیر یصوغها درویش فی قصیدته فی الأسطر التالیة:

    وزنزانتی اتسعت شارعاً شارعین. وهذا الصدى
    صدى، بارحا سائحا، سوف أخرج من حائطی
    كما یخرج الشبح الحر من نفسه سیدا
    وأمشی إلى حلب. یا حمامة طیری
    برومیتی، واحملی لابن عمّی
    سلام الندى

وهل الرومیة غیر الرسالة (القصیدة لابن عمه)؟

(من رومیات أبی فراس) مثل (رحلة المتنبی إلى مصر) قصیدة یكتب فیها درویش عن تجربة مر بها تشابهت مع تجربة شاعر عربی، وهی مثل شعر أبی فراس قصیدة وجدانیة یبث فیها الشاعر أشواقه وأحزانه وآماله وآلامه، ویفصح عن ثقة بالمستقبل یتحلى بها.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:28|