شاعر الجلال عباس محمود العقاد
یعتبر العقاد ظاهرة أدبیة
وفكریة خارقة فی دنیا الفكر والأدب فهو كالجاحظ أدیب موسوعی لم یقصر نشاطه
على حقل من حقول المعرفة وإنما سعى إلى الثقافة ككل ونظر إلیها على أنها كل
لا یتجزأ.
والذی یبهر فی هذا الكاتب عصامیته فهو إن اكتفى فی تعلمه النظامی بنیل الشهادة الإبتدائیة فقد كدح فی سبیل المعرفة كدحا وأخلص فی طلبها مضحیا بالزوجة والولد ومتاع الدنیا مكتفیا بما یسد الرمق ویحفظ ماء الوجه.
وأما الصفة الثانیة الباهرة فیه فهی حبه للحریة وإیمانه بأنها أساس الصلاح فی الفرد وتعلقه بالحریة دفعه إلى الذود عن كرامته والاعتزازبنفسه حتى لكأنه أحد آلهة الإغریق. ولقد كان لویس عوض على حق حین قال :" صورة العقاد عندی لا تختلف عن صورة هرقل الجبار الذی یسحق بهراوته الأفاعی والتنانین والمردة وكل قوى الشر فی العالم" مارس العقاد النقد والتراجم والمقال وأخرج كتبا آیة فی تحری الدقة العلمیة والحقیقة مستعینا بقلمه السیال وبثقافته الجبارة فی شتى شؤون المعرفة. فلقد عرف العقاد بالعبقریات وبقصة سارة وبالدیوان فی الأدب والنقد وبسیرته الذاتیة "أنا" وبهذه المؤلفات شاع بین الباحثین والأساتذة والطلبة. غیر أن الثابت أن الذی كان یحز فی نفس الأستاذ العقاد- رحمه الله- أنه لم یشع كشاعر وأن شهرة حافظ وشوقی كانت تؤلمه أعمق الألم ، ولاغرو فی ذلك فالعقاد یرى أن الشعر مقتبس من نفس الرحمن وأن الشاعر الفذ بین الناس رحمن أولیس هو القائل
والشعر من نفس الرحمن مقتبس
والشاعر الفذ بین الناس رحمن
بلى فالشاعر تفضی إلیه ألسنة الدنیا بأسرارها فهو روح الوجود وضمیره والشاعر أعلى درجة من غیره ومن وصل إلى هذه المرتبة فقد حقق أعظم مأرب فی الحیاة.
ولقد أخرج العقاد عدة دواوین شعریة وأعطاها عناوین تتماشى وسنی عمره " یقظة الصباح" "وهج الظهیرة" " أعاصیرمغرب" " أشجان اللیل" ودیوان آخر رصد فیه وقائع الحیاة الیومیة على عادة شعراء الغرب أسماه " عابر سبیل". ویجدر بنا قبل التطرق إلى شعر العقاد أن نعرف موقفه من الشعر فلقد عرف الكاتب الشاعر بخصومته العنیفة لأنصار شعر التفعلیة ولما كان عضوا بالمجلس الأعلى للآداب والفنون ومقررا للجنة الشعر كان یحیل قصائد التفعلیة على لجنة النثر للاختصاص فلقد حارب هذا النوع من الشعر وكان یسمیه الشعر السائب . فهو من المحافظین على عمود الشعر دون الخروج على الأوزان الخلیلیة فالوزن والقافیة هما حدا الشعر وما یمیزه عن النثر، والشاعر الفذ هو الذی یعبر عن أفكاره وأحاسیسه محافظا على الوزن والقافیة دون أن یحد الوزن من قدرته التعبیریة ، إن الشعر عند العقاد فن محكوم بالقیود وهو مناورة بها یتمیز الشاعر عن الشویعر والشعرور.
ولم یقف العقاد عائقا أمام سنة التطور فالتجدید فی الشعر ضرورة من ضرورات العصر وقد مارسه أجدادنا فأبدعوا الموشحات والأزجال والمجزوء ومخلع البسیط ونوعوا القوافی حتى تتأتى المرونة فی التعبیر وتتحقق المتعة الفنیة ویتحاشى السأم من الرتابة المملة فی الوحدة، وهكذا مارس العقاد التجدید فی الشعر بتنویع القافیة واستعمال المجزوء والاستعانة بالأوزان الخفیفة فی الرمل والخفیف والمتقارب والمدید ، وأضاف الى ذلك قصر الشعر على الوجدان وقد كان شعار مدرسة الدیوان :
ألا یا طائر الفردو
س إن الشعر وجدان
وتحاشى المدیح الزائف والریاء الكاذب والمبالغة الحمقاء وفی دیوان " عابر سبیل" قصر الشعر على هموم الحیاة الیومیة كقصیدة الكواء، لیلة العید وفی هذا الدیوان بالذات قصیدة عن طفل صغیر شرب على وجه الخطأ (الجعة) البیرة فاستمرأها واستحلاها فیقول العقاد على لسان الطفل - وهو إمعان فی الواقعیة الشعریة والصدق الفنی- (البیلا البیلا ) عوض البیرة البیرة لأن كثیرا من الصغار ینطقون الراء لاما .
وهكذا فقارئ شعر العقاد یقف أمام عمارة نحتت أحجارها بإزمیل وأحجارها من جرانیت أسوان لا یبهرك الجمال فی تلك العمارة بقدر مایبهرك الجلال فالعقاد كما یرى تلمیذه زكی نجیب محمود شاعر الجلال ، ولنا فی تفسیر نزوع الشاعر هذا المنزع رأی مستمد من التركیبة النفسیة للعقاد المنبهرة بالبطولة الممجدة للأبطال ولعل قامته الهرقلیة وعصامیته الأسطوریة زادتا فی تقدیره لنفسه ومواهبه ومن ثمة إعجابه بشخصه وهو موقف یؤدی بصاحبه إلى العزلة فی جبل الأولمب مع آلهة الإغریق ویصبح الجلیل والعظیم هو ما ینزع إلیه ذلك الشخص ولسنا ننفی صفة الجمال الفنی فی شعره ففی بعض قصائده لمحات فنیة جمیلة إقرا شعره فی وصف الشاعر واكتناه أغوار نفسه واستمتع بكلماتها الفنیة الجمیلة:
یجنی المودة مما لاحیــــــاة لــــــــه
إذا جفاه من الأحیـــــاء خـــوان
ویحسب النجم ألحاظا تساهـــــــــره
والودق یبكیه دمع منـــه هتــان
إذا تجهم وجه الناس ضاحكــــــــــه
ثغرالورود ومال السرو والبان
تفضی له ألسن الدنیا بما علمــــــت
كأنما هو فی الدنیا سلیمــــــان
والشعر ألسنة تفضی الحیاة بهـــــــا
إلى الحیاة بما یطویه كـتــمــان
لولا القریض لكانت وهی فاتنـــــــة
خرساء لیس لها بالقول تبــیــان
مادام فی الكون ركن فی الحیاة یرى
ففی صحائفه للشعر دیـــــــوان
وفی قصیدة " العقاب الهرم " وهی قصیدة موحیة بمعانی العظمة المقهورة بالزمن، إنها قصة عقاب هرم فعجز عن الصید وصارت فرائسه تمرح أمامه نظرا لعجزة، وینسحب هذا المعنى على الأشخاص العظماء والدول الكبرى إنه الجلال عندما یشیخ، یقول الشاعر عن العقاب:
یهم ویعییه النـــهــــوض فیجثــــــــم
ویعزم إلا ریشه لیس یعــزم
لقد رنق الصرصور وهو على الثرى
مكب وصاح القطا وهو أبكم
یلملم حدبـــاء الــقــدامــــــى كـــأنـــها
أضالع فی أرماسها تتهشــــم
ویثقله حمل الجـنـاحیـــــن بعــدمـــــــا
أقلاه وهو الكاسر الـمتقــحــم
إذا أدفأته الشمـس أغفـــــى وربمــــــا
توهمها صیدا له وهو هیثــــم
لعینیك یا شیخ الطــیـور مـهــــابـــــــة
یفر بغاث الطیر عنها ویهـزم
وما عجزت عنك الــــغـــداة وإنـمـــــا
لكل شباب هیـــبة لا تهـــــرم
وفی قصیدته عن "أسوان" وقصرها الفرعونی العتیق الذی زاره الشاعر هنا نقف أمام الجلالین جلال المعمار الهندسی وجلال التعبیر الفنی عند الشاعر یقول العقاد:
رعى الله من أسوان دارا سحیــــقة
وخلد فی أرجائهــا ذلك الـقـصـــــرا
أقام مقام الطود فیهـا وحـــــولـــــه
جبال على الشــطـیـن شــامخة كبـرا
ولیلة زرنا القصر یعـلـــو وقــــاره
وقار الدجى الساجی وقد أطلع البدرا
قضى نحبه فیه الزمـان الذی مضى
فكان له رسمـا وكان لـــــه قــبـــــرا
فیاوجه "أوزیریس" هــلا أضــأتـها
وأنت تضئ السهل والجبل الـوعرا
فما رفـعـــت إلا إلــــیــك تــجــلـــة
ولا رفعت إلا إلى عرشك الشـكـــرا
ولست ضنینا بالضــیــــاء وإنــمـــا
لكل إله ظلمة تحجــــــب الفــكـــــرا
واحص مفردات العظمة والجلال فی هذا المقطع من مثل : الطود، شامخة ،كبرا، وقاره، قضى نحبه فیه الزمان، تجلة، رفعت إله ……إلخ أما ناقدنا الكبیر الدكتور شوقی ضیف فیری أن العقاد أقحم الفكر والمنطق فی الشعر فجاءت قصائده دلائل منطقیة ومسائل عقلیة لغلبة الفكر والحجاج على الكاتب الشاعر العقاد وأنت واجد مثل هذا فی شعره. إقرأ هذا المقطع معی لتقع على صحة هذا الرأی :
وهذا إلى قید المحبة شاخـــــص
وفی الحب قید الجامح المتوثـــــب
ینادی أنلنی القید یا من تصوغه
ففی القید من سجن الطلاقة مهربی
أدره على لبی وروحی ومهجتی
وطوق به كفی وجیدی ومنـكـبــــی
ورب عقیم حطم العقــــم قیــــده
یحن إلى القید الـثـقیل عــلـى الأب
فهذه فلسفة عمیقة تؤكد أن لا حیاة بلا ضرورة وأن القیود مهماز القریحة والإرادة الانسانیة . أما هذا المقطع فهو زبدة التأمل والتفكیر لا یتأتى إلا لأولی الفكر والحجاج:
والعقل من نسل الحیاة وإنما
قد شاب وهی صغیرة تتزین
والطفل تصحبه الحیاة وماله
لب یصاحب نفسه ویلقــــــن
إن العواطف كالزمام یقودنا
منها دلیل لا تراه الأعیـــــن
على أن فی بعض قصائد العقاد غنائیة شجیة استلها من مكنون ضمیره وسلخها من تباریح وجدانه وآهات نفسه وقل فی الشعر العربی من بلغ هذه الغنائیة الحزینة حتى المتنبی الذی یقول :
یا ساقیی أخمر فی كؤوسكما
أم فی كؤوسكما هم وتسهید؟
إن طلبت كمیت اللون صافیة
وجدتها وحبیب النفس مفقود
یقول العقاد
ظمآن لا صوب الغمـــــــــــــام ولا
عذب المدام ولا الأنداء تروینی
حیران حیران لا نجم السمــــاء ولا
معالم الأرض فی الغماء تهدینی
یقظان یقظان لا طیب الرقاد یـــــدا
نینی ولا سحر السمار یلهینــــی
غصان غصان لا الأوجاع تـبـلینی
ولا الكوارث والأشجان تبكـینی
سأمان سأمان لا صفو الحیـــاة ولا
عجائب القدر المكنون تعنینــــی
أصاحب الدهر لا قلب فیسعدنـــــی
على الزمان ولا خل فیأسونــــی
یدیك فامح ضنى یا موت فی كبدی
فلست تمحوه إلا حین تمحونـــی
وبعد فهل العقاد شاعر ؟
وجو ابنا نعم إنه شاعر ولئن طغت شهرته كناقد وقصصی و كاتب مقالات و باحث فی سیر العظماء فلن نبخسه حقه فی إلحاقه بمملكة الشعر ، ونزعم أن له فی وادی عبقر الهاتف الذی یزین له زخرف القول وفی تقدیرنا أن الشعر الحدیث الذی جدد بهاءه وأحیا مواته البارودی وحافظ وشوقی ، ونفخت فیه روح الحیاة جماعة "أبولو" بروما نسیتها الحزینة والرابطة القلمیة بانطلاقتها الوثابة، إن هذا الشعر بحاجة إلى دواوین العقاد وإن موقفه من الشعر صحیح سلیم ولو أنه یفهمه كما فهمه كبار شعراء الإنجلیز ودیوان " عابر سبیل"یعتبر فتحا فی الشعر العربی بعد أن عفر جبینه أحقابا أمام قصور الخلفاء فالشعر صورة من الحیاة ونسل مبارك من رحمها وفی الحیاة أطیاف ومشاعر و طرائق قدد یتسع لها الشعر جمیعا بما فیها الفكر وثمار العقل وهذه هی أهمیة العقاد كشاعر.
ولعل نقیصته الوحیدة تحامله الشدید على شوقی لسبب نفسی أكثر منه فنی ثم حملته الشعواء على شعر التفعیلة الذی توطدت دعائمه وبذخت صروحه وكان فتحا جدیدا فی حیاتنا الأدبیة.
والذی یبهر فی هذا الكاتب عصامیته فهو إن اكتفى فی تعلمه النظامی بنیل الشهادة الإبتدائیة فقد كدح فی سبیل المعرفة كدحا وأخلص فی طلبها مضحیا بالزوجة والولد ومتاع الدنیا مكتفیا بما یسد الرمق ویحفظ ماء الوجه.
وأما الصفة الثانیة الباهرة فیه فهی حبه للحریة وإیمانه بأنها أساس الصلاح فی الفرد وتعلقه بالحریة دفعه إلى الذود عن كرامته والاعتزازبنفسه حتى لكأنه أحد آلهة الإغریق. ولقد كان لویس عوض على حق حین قال :" صورة العقاد عندی لا تختلف عن صورة هرقل الجبار الذی یسحق بهراوته الأفاعی والتنانین والمردة وكل قوى الشر فی العالم" مارس العقاد النقد والتراجم والمقال وأخرج كتبا آیة فی تحری الدقة العلمیة والحقیقة مستعینا بقلمه السیال وبثقافته الجبارة فی شتى شؤون المعرفة. فلقد عرف العقاد بالعبقریات وبقصة سارة وبالدیوان فی الأدب والنقد وبسیرته الذاتیة "أنا" وبهذه المؤلفات شاع بین الباحثین والأساتذة والطلبة. غیر أن الثابت أن الذی كان یحز فی نفس الأستاذ العقاد- رحمه الله- أنه لم یشع كشاعر وأن شهرة حافظ وشوقی كانت تؤلمه أعمق الألم ، ولاغرو فی ذلك فالعقاد یرى أن الشعر مقتبس من نفس الرحمن وأن الشاعر الفذ بین الناس رحمن أولیس هو القائل
والشعر من نفس الرحمن مقتبس
والشاعر الفذ بین الناس رحمن
بلى فالشاعر تفضی إلیه ألسنة الدنیا بأسرارها فهو روح الوجود وضمیره والشاعر أعلى درجة من غیره ومن وصل إلى هذه المرتبة فقد حقق أعظم مأرب فی الحیاة.
ولقد أخرج العقاد عدة دواوین شعریة وأعطاها عناوین تتماشى وسنی عمره " یقظة الصباح" "وهج الظهیرة" " أعاصیرمغرب" " أشجان اللیل" ودیوان آخر رصد فیه وقائع الحیاة الیومیة على عادة شعراء الغرب أسماه " عابر سبیل". ویجدر بنا قبل التطرق إلى شعر العقاد أن نعرف موقفه من الشعر فلقد عرف الكاتب الشاعر بخصومته العنیفة لأنصار شعر التفعلیة ولما كان عضوا بالمجلس الأعلى للآداب والفنون ومقررا للجنة الشعر كان یحیل قصائد التفعلیة على لجنة النثر للاختصاص فلقد حارب هذا النوع من الشعر وكان یسمیه الشعر السائب . فهو من المحافظین على عمود الشعر دون الخروج على الأوزان الخلیلیة فالوزن والقافیة هما حدا الشعر وما یمیزه عن النثر، والشاعر الفذ هو الذی یعبر عن أفكاره وأحاسیسه محافظا على الوزن والقافیة دون أن یحد الوزن من قدرته التعبیریة ، إن الشعر عند العقاد فن محكوم بالقیود وهو مناورة بها یتمیز الشاعر عن الشویعر والشعرور.
ولم یقف العقاد عائقا أمام سنة التطور فالتجدید فی الشعر ضرورة من ضرورات العصر وقد مارسه أجدادنا فأبدعوا الموشحات والأزجال والمجزوء ومخلع البسیط ونوعوا القوافی حتى تتأتى المرونة فی التعبیر وتتحقق المتعة الفنیة ویتحاشى السأم من الرتابة المملة فی الوحدة، وهكذا مارس العقاد التجدید فی الشعر بتنویع القافیة واستعمال المجزوء والاستعانة بالأوزان الخفیفة فی الرمل والخفیف والمتقارب والمدید ، وأضاف الى ذلك قصر الشعر على الوجدان وقد كان شعار مدرسة الدیوان :
ألا یا طائر الفردو
س إن الشعر وجدان
وتحاشى المدیح الزائف والریاء الكاذب والمبالغة الحمقاء وفی دیوان " عابر سبیل" قصر الشعر على هموم الحیاة الیومیة كقصیدة الكواء، لیلة العید وفی هذا الدیوان بالذات قصیدة عن طفل صغیر شرب على وجه الخطأ (الجعة) البیرة فاستمرأها واستحلاها فیقول العقاد على لسان الطفل - وهو إمعان فی الواقعیة الشعریة والصدق الفنی- (البیلا البیلا ) عوض البیرة البیرة لأن كثیرا من الصغار ینطقون الراء لاما .
وهكذا فقارئ شعر العقاد یقف أمام عمارة نحتت أحجارها بإزمیل وأحجارها من جرانیت أسوان لا یبهرك الجمال فی تلك العمارة بقدر مایبهرك الجلال فالعقاد كما یرى تلمیذه زكی نجیب محمود شاعر الجلال ، ولنا فی تفسیر نزوع الشاعر هذا المنزع رأی مستمد من التركیبة النفسیة للعقاد المنبهرة بالبطولة الممجدة للأبطال ولعل قامته الهرقلیة وعصامیته الأسطوریة زادتا فی تقدیره لنفسه ومواهبه ومن ثمة إعجابه بشخصه وهو موقف یؤدی بصاحبه إلى العزلة فی جبل الأولمب مع آلهة الإغریق ویصبح الجلیل والعظیم هو ما ینزع إلیه ذلك الشخص ولسنا ننفی صفة الجمال الفنی فی شعره ففی بعض قصائده لمحات فنیة جمیلة إقرا شعره فی وصف الشاعر واكتناه أغوار نفسه واستمتع بكلماتها الفنیة الجمیلة:
یجنی المودة مما لاحیــــــاة لــــــــه
إذا جفاه من الأحیـــــاء خـــوان
ویحسب النجم ألحاظا تساهـــــــــره
والودق یبكیه دمع منـــه هتــان
إذا تجهم وجه الناس ضاحكــــــــــه
ثغرالورود ومال السرو والبان
تفضی له ألسن الدنیا بما علمــــــت
كأنما هو فی الدنیا سلیمــــــان
والشعر ألسنة تفضی الحیاة بهـــــــا
إلى الحیاة بما یطویه كـتــمــان
لولا القریض لكانت وهی فاتنـــــــة
خرساء لیس لها بالقول تبــیــان
مادام فی الكون ركن فی الحیاة یرى
ففی صحائفه للشعر دیـــــــوان
وفی قصیدة " العقاب الهرم " وهی قصیدة موحیة بمعانی العظمة المقهورة بالزمن، إنها قصة عقاب هرم فعجز عن الصید وصارت فرائسه تمرح أمامه نظرا لعجزة، وینسحب هذا المعنى على الأشخاص العظماء والدول الكبرى إنه الجلال عندما یشیخ، یقول الشاعر عن العقاب:
یهم ویعییه النـــهــــوض فیجثــــــــم
ویعزم إلا ریشه لیس یعــزم
لقد رنق الصرصور وهو على الثرى
مكب وصاح القطا وهو أبكم
یلملم حدبـــاء الــقــدامــــــى كـــأنـــها
أضالع فی أرماسها تتهشــــم
ویثقله حمل الجـنـاحیـــــن بعــدمـــــــا
أقلاه وهو الكاسر الـمتقــحــم
إذا أدفأته الشمـس أغفـــــى وربمــــــا
توهمها صیدا له وهو هیثــــم
لعینیك یا شیخ الطــیـور مـهــــابـــــــة
یفر بغاث الطیر عنها ویهـزم
وما عجزت عنك الــــغـــداة وإنـمـــــا
لكل شباب هیـــبة لا تهـــــرم
وفی قصیدته عن "أسوان" وقصرها الفرعونی العتیق الذی زاره الشاعر هنا نقف أمام الجلالین جلال المعمار الهندسی وجلال التعبیر الفنی عند الشاعر یقول العقاد:
رعى الله من أسوان دارا سحیــــقة
وخلد فی أرجائهــا ذلك الـقـصـــــرا
أقام مقام الطود فیهـا وحـــــولـــــه
جبال على الشــطـیـن شــامخة كبـرا
ولیلة زرنا القصر یعـلـــو وقــــاره
وقار الدجى الساجی وقد أطلع البدرا
قضى نحبه فیه الزمـان الذی مضى
فكان له رسمـا وكان لـــــه قــبـــــرا
فیاوجه "أوزیریس" هــلا أضــأتـها
وأنت تضئ السهل والجبل الـوعرا
فما رفـعـــت إلا إلــــیــك تــجــلـــة
ولا رفعت إلا إلى عرشك الشـكـــرا
ولست ضنینا بالضــیــــاء وإنــمـــا
لكل إله ظلمة تحجــــــب الفــكـــــرا
واحص مفردات العظمة والجلال فی هذا المقطع من مثل : الطود، شامخة ،كبرا، وقاره، قضى نحبه فیه الزمان، تجلة، رفعت إله ……إلخ أما ناقدنا الكبیر الدكتور شوقی ضیف فیری أن العقاد أقحم الفكر والمنطق فی الشعر فجاءت قصائده دلائل منطقیة ومسائل عقلیة لغلبة الفكر والحجاج على الكاتب الشاعر العقاد وأنت واجد مثل هذا فی شعره. إقرأ هذا المقطع معی لتقع على صحة هذا الرأی :
وهذا إلى قید المحبة شاخـــــص
وفی الحب قید الجامح المتوثـــــب
ینادی أنلنی القید یا من تصوغه
ففی القید من سجن الطلاقة مهربی
أدره على لبی وروحی ومهجتی
وطوق به كفی وجیدی ومنـكـبــــی
ورب عقیم حطم العقــــم قیــــده
یحن إلى القید الـثـقیل عــلـى الأب
فهذه فلسفة عمیقة تؤكد أن لا حیاة بلا ضرورة وأن القیود مهماز القریحة والإرادة الانسانیة . أما هذا المقطع فهو زبدة التأمل والتفكیر لا یتأتى إلا لأولی الفكر والحجاج:
والعقل من نسل الحیاة وإنما
قد شاب وهی صغیرة تتزین
والطفل تصحبه الحیاة وماله
لب یصاحب نفسه ویلقــــــن
إن العواطف كالزمام یقودنا
منها دلیل لا تراه الأعیـــــن
على أن فی بعض قصائد العقاد غنائیة شجیة استلها من مكنون ضمیره وسلخها من تباریح وجدانه وآهات نفسه وقل فی الشعر العربی من بلغ هذه الغنائیة الحزینة حتى المتنبی الذی یقول :
یا ساقیی أخمر فی كؤوسكما
أم فی كؤوسكما هم وتسهید؟
إن طلبت كمیت اللون صافیة
وجدتها وحبیب النفس مفقود
یقول العقاد
ظمآن لا صوب الغمـــــــــــــام ولا
عذب المدام ولا الأنداء تروینی
حیران حیران لا نجم السمــــاء ولا
معالم الأرض فی الغماء تهدینی
یقظان یقظان لا طیب الرقاد یـــــدا
نینی ولا سحر السمار یلهینــــی
غصان غصان لا الأوجاع تـبـلینی
ولا الكوارث والأشجان تبكـینی
سأمان سأمان لا صفو الحیـــاة ولا
عجائب القدر المكنون تعنینــــی
أصاحب الدهر لا قلب فیسعدنـــــی
على الزمان ولا خل فیأسونــــی
یدیك فامح ضنى یا موت فی كبدی
فلست تمحوه إلا حین تمحونـــی
وبعد فهل العقاد شاعر ؟
وجو ابنا نعم إنه شاعر ولئن طغت شهرته كناقد وقصصی و كاتب مقالات و باحث فی سیر العظماء فلن نبخسه حقه فی إلحاقه بمملكة الشعر ، ونزعم أن له فی وادی عبقر الهاتف الذی یزین له زخرف القول وفی تقدیرنا أن الشعر الحدیث الذی جدد بهاءه وأحیا مواته البارودی وحافظ وشوقی ، ونفخت فیه روح الحیاة جماعة "أبولو" بروما نسیتها الحزینة والرابطة القلمیة بانطلاقتها الوثابة، إن هذا الشعر بحاجة إلى دواوین العقاد وإن موقفه من الشعر صحیح سلیم ولو أنه یفهمه كما فهمه كبار شعراء الإنجلیز ودیوان " عابر سبیل"یعتبر فتحا فی الشعر العربی بعد أن عفر جبینه أحقابا أمام قصور الخلفاء فالشعر صورة من الحیاة ونسل مبارك من رحمها وفی الحیاة أطیاف ومشاعر و طرائق قدد یتسع لها الشعر جمیعا بما فیها الفكر وثمار العقل وهذه هی أهمیة العقاد كشاعر.
ولعل نقیصته الوحیدة تحامله الشدید على شوقی لسبب نفسی أكثر منه فنی ثم حملته الشعواء على شعر التفعیلة الذی توطدت دعائمه وبذخت صروحه وكان فتحا جدیدا فی حیاتنا الأدبیة.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:57|