ابزار وبمستر

الشُّعَراءُ وَالنَّحْویّونَ
الشُّعَراءُ وَالنَّحْویّونَ


الخلاف بین الشعراء والنحویین (علماء النحو) قدیم مستمر: یُخَطِّئُ النحویون أقوال الشعراء، ویُسَفِّهُ الشعراء أحلام النحویین، والغاوون مذبذبون بین هؤلاء وهؤلاء!

ولا یعرف الشوق إلا من یكابده!

وقد كابدت بحیاتی طلب الشعر والنحو، وطلب علمی الشعر والنحو ؛ فلا أحكم هنا إلا بما عانیت، فی مسألة مطروحة دائما وكأن طرحها فرض كفایة على مثقفی كل زمان ومكان ؛ وهل أشرف مما نقوم جمیعا فیه الآن من زمان ومكان! ولقد خطرت لی فی هذه المسألة، أفكار أربع، یمكننی بها أنا وأنتم أن نتجاذب أطرافها ؛ عسى أن نركن من فهمها إلى ركن وثیق:

    • الشِّعْرُ وَالنَّحْوُ:
    - حقیقةُ وجود كل منهما فی الكلام، وما یجتمعان علیه، وما یفترقان فیه.
    • عِلْمُ الشِّعْرِ وَعِلْمُ النَّحْوِ:
    - منهجُ البحث عن حقیقة كل منهما، المفضی إلى نظریات ضابطة.
    • الشّاعِرُ وَالْفَصیحُ:
    - حقیقةُ وجود كل منهما فی المتكلمین، وما یجتمعان علیه، وما یفترقان فیه.
    • عالِمُ الشِّعْرِ وَعالِمُ النَّحْوِ:
    - حقیقةُ وجود كل منهما فی الباحثین، وما یجتمعان علیه، وما یفترقان فیه.
    إننا إذا تأملنا كل فكرة من هذه الأفكار حق تأملها، واتفقنا فی نقدها على قول فصل - وضعنا علاقةَ بَیْنِ الشعراء والنحویین (علماء النحو)، فی موضعها الصحیح ؛ فعَرَفَ كلٌّ حَدَّه، فَوَقَفَ عِنْدَه!

1 حدثنا أبو تمیم عبد الحمید بسیونی وكان مستشار جابر الصباح أمیر الكویت الأسبق، أنه شهد مجلس أستاذنا محمود محمد شاكر، وقد أقبل محمود حسن إسماعیل - وكلهم معاصرون ماتوا فی أثناء هذا القرن الهجری الخامس عشر ؛ رحمهم الله جمیعا رحمة واسعة، ولم یَفْتنّا بعدهم، ولم یحرمنا أجرهم! - ینشد من شعره المجلسَ الجلیل، وفیه الحسّانی حسن عبد الله - عفا الله عنه! - یَتَسَقَّطُ له، حتى لَقَطَ شیئا صاح به علیه ؛ فغضب محمود حسن إسماعیل. قال أبو تمیم: فلما كان المجلس التالی، بَدَرَ إسماعیلُ بقصیدته من الشعر الحر " الوَهَجُ وَالدّیدانُ "، یقول:

    " تَفْعیلَتانْ
    ثَلاثُ تَفْعیلاتْ
    وَسَبْعُ تَفْعیلاتْ

    وَأَحْرُفٌ تُعانِقُ الْأَلْحانَ بِالْأَحْضانِ وَالرّاحاتْ
    تُدَفِّقُ النّورَ عَلى حَفائِرِ الْأَمْواتْ
    شَلّالَ موسیقا بِلا قَواعِدٍ مَرْسومَةِ الرَّنّاتْ
    مَعْصومَةِ الْإیقاعِ دونَ حاسِبٍ مُزَیَّفِ الْمیقاتْ
    یَعُدُّها مِنْ قَبْلِ أَنْ تَجیءَ بِالْأَسْبابِ وَالْأَوْتادِ وَالشَّطْراتْ
    تَشُقُّ بابَ الرّوحِ لا تَسْتَأْذِنُ الْإِصْغاءَ وَالْإِنْصاتْ
    وَلَیْسَ فی إِعْصارِها سَبّابَةٌ تُعَذِّبُ الْهالاتْ
    وَلا فُضولُ الْمَوْتِ وَهْوَ یَسْأَلُ الْحَیاةَ عَنْ تَوَهُّجِ السّاحاتْ
    وَلا فُضولُ اللَّیْلِ وَهْوَ یَسْأَلُ الْفَجْرَ لِماذا تَنْسَخُ الرُّفاتْ
    ضَجَّ الْبِلى مِنْ صَیْحَةِ الْإِشْراقِ فی تَشَبُّثِ الْمَواتْ
    وَانْتَفَضَتْ هَیاكِلٌ مَرْصوفَةُ الطُّقوسِ مِنْ تَناسُقِ الْأَشْتاتْ
    وَكُلُّ ما فیها قَرابینُ تُقَدِّسُ الرِّمامَ فی كُلِّ حَصادٍ ماتْ
    مَصْلوبَةُ الْجُمودِ وَالرُّكودِ وَالْهُمودِ وَالسُّباتْ
    عَلى مَطایا زَمَنٍ مُهَرَّأِ الْأَكْفاتْ
    تَحَرَّكَتْ فی غَبَشِ الْكُهوفْ
    جَنائِزًا فی لَحْدِها تَطوفْ
    مَشْلولَةَ الْمَسیرِ وَالْحِراكِ وَالْوُقوفْ
    كَأَنَّها لِتُرَّهاتِ أَمْسِها رُفوفْ
    أَوْ أَنَّها لِكُلِّ نورٍ شَعَّ فی زَمانِها حُتوفْ
    تُریدُ شَلَّ الْوَهَجِ الْعَصوفْ
    بِأَعْیُنٍ ضِیاؤُها مَكْفوفْ
    وَأَلْسُنٍ نِداؤُها مَعْقوفْ
    تَهاتَرَتْ مَخْدورَةً مِنْ سَمْتَةِ الْعُكوفْ
    وَراعَها تَمَزُّقُ السُّجوفْ
    وَخَیْبَةُ التَّكْرارِ وَالدُّوارِ فی الْقیعانْ
    فَأَنْشَبَتْ هُذاءَها فی الْقَشِّ وَالْعیدانْ
    وَالْحَبُّ عَنْ عَمائِها مُغَلَّفٌ نَشْوانْ
    وَوَعْیُها مِنْ غَشْیَةٍ غَفْلانْ
    وَطَرْفُها مِنْ عَشْیَةٍ ظَمْآنْ
    لِكُلِّ ما لَمْ یَبْقَ فیهِ قَبَسٌ لِخُطْوَةِ الْإِنْسانْ
    سُبْحانَ رَبِّ النّورِ مِنْ تَحَرُّكِ الْأَكْفانْ
    سُبْحانَهُ سُبْحانْ
    مَنْ أَیْقَظَ الدّیدانْ
    أَنْغامُ هذا الطَّیْرِ ما لَقَّنَها بُسْتانْ
    وَلا حَداها حارِسٌ یَقْظانْ
    وَلا بِغَیْرِ ما تَجیشُ نارُها تَحَرَّكَتْ بَنانْ
    مِنْ ذاتِها وَوَحْیِها رَحیقُها الصَّدْیانْ
    الرّافِضُ الْإیماءَ لِلْوَراءِ یَمْتَصُّ خُطا الرُّكْبانْ
    الرّافِضُ الْقِیاسَ فی الصَّدى وَفی الْمَدى وَفی اللِّسانْ
    وَفی هَوى التَّنْغیمِ وَالتَّفْخیمِ وَالتَّرْنیمِ وَالْإِرْنانْ
    تَدَفَّقَتْ لا تَعْرِفُ التَّطْریزَ فی تَوَهُّجِ الْأَلْحانْ
    وَلا خِداعَ السَّمْعِ فی تَبَرُّجِ الْحُروفِ لِلْآذانْ
    وَلا لِخَطْوِ اللَّحْنِ قَبْلَ سَكْبِهِ مِنْ نایِها میزانْ
    أَسْكَرَها خالِقُها قَبْلَ انْبِثاقِ اللَّحْنِ بِالْأَوْزانْ
    تَحَرَّرَتْ فَما بِها لِلْقالَبِ الْمَصْبوبِ قَبْلَ كَأْسِها إِذْعانْ
    زَخارِفٌ مَطارِفٌ مَتاحِفٌ لِقِشْرَةِ الْأَكْوانْ
    قَواقِعٌ بَراقِعٌ بَدائِعٌ زَیّافَةُ الْأَلْوانْ
    جَلَّ عَزیفُ النّایِ أَنْ یَقودَهُ إِنْسانْ
    وَجَلَّ روحُ الْفَنِّ عَنْ تَناسُخِ الْأَبْدانْ
    فَالشِّعْرُ شَیْءٌ فَوْقَ ما یَصْطَرِعُ الْجیلانْ
    روحٌ تَرُجُّ الرّوحَ كَالْإِعْصارِ فی الْبُسْتانْ
    بِزَفِّها وَحَرْفِها وَنورِها الْمُمَوْسَقِ النَّشْوانْ
    وَخَمْرِها الْمَعْصورَةِ الرَّحیقِ مِنْ تَهادُلِ الْأَزْمانْ
    لِكُلِّ جیلٍ كَأْسُه لا تَفْرِضُوا الدِّنانْ
    مَلَّ النَّدامى حَوْلَكُمْ عِبادَةَ الْأَكْفانْ
    فَجَدِّدوا أَرْواحَكُمْ لا تَظْلِمُوا الْمیزانْ
    فَالشِّعْرُ لَحْنٌ مِنْ یَدِ الرَّحْمنْ
    سُبْحانَهُ سُبْحانْ

مُلْهِی النُّسورِ عَنْ خُطَا الدّیدانْ ". (دیوانه) ومن تأمل هذه التعبیرات حق تأملها: " حاسِبٍ مُزَیَّفِ الْمیقاتْ "، " سَبّابَةٌ تُعَذِّبُ الْهالاتْ "، " فُضولُ الْمَوْتِ "، " فُضولُ اللَّیْلِ "، " تَشَبُّثُ الْمَواتْ "، " تَناسُقِ الْأَشْتاتْ "، " تَحَرُّكِ الْأَكْفانْ "، " تَناسُخِ الْأَبْدانْ "، " عِبادَةَ الْأَكْفانْ "، " خُطا الدّیدانْ " - رأى كیف عَرّاهُ للملأ، ثم سَلَحَ علیه! بل كیف زَلْزَلَه، وأَضَلَّه عن نفسه، ثم تركه فی بَیْداء! فأَیَّةُ مَذَمَّةٍ لم یَصُبَّها علیه! وأَیَّةُ مَحْمَدَةٍ لم یَسْلُبْها منه! فتُرى كیف اختلفا اختلافا شدیدا وكان ینبغی أن یأتلفا، حتى إذا أخطأ إسماعیل خَطَأً انْتَهَزَه الحَسّانیُّ نُهْزَةً باردةً؟ وماذا كان ذلك الخطأ ولا مَصْلَحَةَ فی التَّشْنیعِ به، حتى أَكْمَدَه علیه هذا الكَمَدَ، واستعداه هذه العَداوة؟

قال المظفر العلوی المتوفى سنة 656 الهجریة: " یَنْبَغی لِلشّاعِرِ أَلّا یُعادِیَ أَهْلَ الْعِلْمِ، وَلا یَتَّخِذَهُمْ خُصومًا ؛ فَإِنَّهُمْ قادِرونَ عَلى أَنْ یَجْعَلوا إِحْسانَه إِساءَةً، وَبَلاغَتَه عیًّا، وَفَصاحَتَه حَصَرًا، وَیُحیلوا مَعْناهُ، وَیَنْتَقِضوا ما بَناهُ! فَكَمْ مِنْ أَدیبٍ أَسْقَطَ أَهْلُ الْعِلْمِ حُكْمَ أَدَبِه، وَأَخْمَلوا مِنْ ذِكْرِه ما تَنَبَّلَ بِه! وَلَوْ عَدَدْناهُمْ لَأَفْرَدْنا لَهُمْ كِتابًا! وَلِلّهِ عَمّارٌ الْكَلْبیُّ حَیْثُ یَقولُ:

ماذا لَقیتُ مِنَ الْمُسْتَعْرِبینَ وَمِنْ قِیاسِ نَحْوِهِم هذَا الَّذِی ابْتَدَعوا إِنْ قُلْتُ قافِیَةً بِكْرًا یَكونُ بها بَیْتٌ خِلافَ الَّذی قاسوهُ أَوْ ذَرَعوا قالوا لَحَنْتَ وَهذا لَیْسَ مُنتَصِبًا وَذاكَ خَفْضٌ وَهذا لَیْسَ یَرْتَفِع وَحَرَّضوا بَیْنَ عَبْدِ اللّهِ مِنْ حُمُقٍ وَبَیْنَ زَیْدٍ فَطالَ الضَّرْبُ وَالْوَجَعُ كَمْ بیْنَ قَوْمٍ قَدِ احْتالوا لِمَنْطقِهِمْ وَبَیْنَ قَوْمٍ عَلى إِعْرابِهِمْ طُبِعوا ما كُلُّ قَوْلِیَ مَشْروحًا لَكُمْ فَخُذوا ما تَعْرِفونَ وَما لَمْ تَعْرِفوا فَدَعوا لِأَنَّ أَرْضِیَ أَرْضٌ لا تُشَبُّ بِها نارُ الْمَجوسِ وَلا تُبْنى بِهَا الْبِیَع

وَلَعَلَّ أَهْلَ الْعِلْمِ یَأْتونَ إِلَى الْمَعانِی الْمُسْتَحیلَةِ وَالْأَلْفاظِ الْمُخْتلَّةِ، فَیُقَوِّمونَ أَوَدَها بِعِلَلِهِمْ، وَیُصْلِحونَ فاسِدَها بِمَعْرِفَتِهِمْ ؛ وَمَنْ هذِه سَبیلُه فَما یَحْسُنُ أَنْ یُغْضَبَ وَلا یُقْشَبَ ؛ فَرُبَّ داهِیَةٍ وَقَعَ عَلى مَنْ هُوَ أَدْهى مِنْهُ ". (نضرة الإغریض)

ولو قد حضر المظفر العلوی مجلس أستاذنا ذاك، لعرف كیف یَقْدِرُ الشعراء من النَّحْویّین (علماء النحو) على أكثر من ذلك، ولَعَطَفَهُمْ علیهم بإغرائهم بخِدْمَتِهِمْ لهم كما فعل أخیرًا ببعض كلامه، لا بتَهْدیدِهم وهم المُمْتَلِئون بأنفسهم، بأن یَهْتِكَ النَّحْویّونَ أستارَهم ظُلْمًا وعُدْوانًا ویَفْضَحوا أسرارَهم بَغْیًا وبُهْتانًا! ثم العجبُ له یستشهد بشعر عمارٍ ینعى فیه على النَّحْویّینَ (علماء النحو) تَعْنیتَهم له، من غیر استكانة لهم ولا إقرار بسلطانهم! أم تُراه یُخَوِّفُ الشعراء بالكَمَدِ الذی وَجَدَه عَمّارٌ، من حیث كان السعیدَ منهم من وُعِظَ بأخی صَنْعَتِه - حتى یُقْرّوا ویَسْتَكینوا! لقد كان ینبغی للمظفر العلوی، أن یشتغل بجوامع ما بین طائفتی الشعراء والنَّحْویّینَ (علماء النحو) تَرْغیبًا ومُؤالَفَةً وإِصْلاحًا، أكثرَ منِ اشتغاله بفوارق ما بینهما تَرْهیبًا ومُخالَفَةً وإِفْسادًا!

2

مَثَلُ اللغة المعینة مَثَلُ بنیان الإنسان المعین، ومَثَلُ شِعْرِ اللغة المعینة مَثَلُ بنیان إنسانٍ وُلِدَ من ذلك البنیان السابق، ومَثَلُ نَحْوِ اللغة المعینة مَثَلُ جِهازٍ مُعَیَّنٍ فی البنیان السابقِ الوالد مُسْتَمِرٍّ إلى البنیان اللاحقِ المولود.

ومَنْ تَأَمَّلَ بُنیانَ الشعر وَجَدَ بُنیانَ اللغة: جِهازَ أَصْواتِها وَمَقاطِعِها الصَّوْتیة ومعانیها، وجِهازَ صِیَغِها الصَّرْفیة ومعانیها، وجِهازَ مفرداتها المُعْجَمیّة ومعانیها، وجِهازَ تَراكیبها النَّحْویَّة ومعانیها - ورأى كیف تمتزج فی الجهاز الواحد مبانیه ومعانیه، وفی البنیان الواحد أجهزتُه كلُّها - امتزاجَ الأشباح والأرواح، لِتُؤَدِّی رسالةً واحدة لا تُؤَدّى إلا بذلك امْتِزاجًا فامْتِزاجًا، مثلما یُؤَدّی عَمَلَه الإنسانُ نفسُه صاحبُ هذه اللغة ؛ وكُلُّ عَمَلٍ مُوَفَّقٍ یعمله الإنسان - واللغة عَمَلُه الفَذُّ - ففیه طَبیعَتُه البُنْیانیَّة ؛ " لَعَنَ اللّهُ مَنْ هَدَمَ بُنْیانَه "!

وإذا جمعنا تُراثَ لغة ما، استطعنا أن نمیز الشعر منه، لأنه جزء محدد - ولم نستطع أن نمیز النحو، لأنه عنصر مُتَأَصِّلٌ فی مُرَكِّب هذا التراث كله ؛ ومن ثم یعمل النحوُ فی بُنْیان الشعر وغیره من البُنْیانات اللغویة المولودة، ویَتَكَوَّنُ بُنْیانُ الشعر من جهاز النحو وغیره من الأجهزة اللغویة المستمرة ؛ فبین الشعر والنحو عُمومٌ وخُصوصٌ مُطْلَقانِ!

3

وكذلك نستطیع أن نمیز بالعموم والخصوص المطلقین، الشاعرَ والفَصیحَ بعضَهما من بعض ؛ فأولهما المشتغل بإنتاج الشعر، والآخر المشتغل بإنتاج النحو، والشاعرُ یجب أن یكون فَصیحًا، أی أن یستعمل جهاز النحو من اللغة التی یقول فیها شعره، والفَصیحُ یجوز أن یكون شاعرًا، وأن یكون غیر شاعر، ولكن یجب أن یكون أیَّهما، لیقول من اللغة ما یستعمل فیه جهاز نحوها.

وإنما یكون الشاعرُ والفَصیحُ - ویَبْرَعان، ویَفْرَعان - بمَلَكَةٍ فَنّیَّةٍ یستوعب بها كل منهما تُراثَه على منهج من مناهج الارتیاح الإیحائی، سَعْیًا إلى مَیْلٍ وُجْدانی من مُیول التَّرْجیحات الذَّوْقیّة - ویجری مجراه اتِّباعًا فابْتِداعًا ؛ فتتحول مَلَكَتُه الفنّیَّةُ من مرحلة الاستعداد، إلى مرحلة القدرة، حتى مرحلة المهارة، أی من مرحلةٍ یُتْقِنُ فیها عمله واعیا أنه یتقن أو یحاول الإتقان، حتى مرحلةٍ یتقن فیها عمله غافلا عن أنه یتقن أو یحاول الإتقان!

كلامُ الحق - سبحانه، وتعالى! - ورسولِه - صلى الله علیه، وسلم! - وصحابتِه - رضی الله عنهم! - ثم كلامُ سحبانِ وائلٍ وقُسِّ بن ساعدة وأكثمَ بن صیفیٍّ وغیرِهم، ثم كلامُ الشافعی والجاحظ وعبد الحمید وابن المقفع والأصفهانی والتوحیدی وغیرِهم، ثم كلامُ الطبری وعبد القاهر الجرجانی والمعری وغیرِهم، ثم كلامُ ابن خلدون وابن تیمیة وابن القیم والقاضی الفاضل والصفدی وغیرِهم، ثم كلامُ الجبرتی والسبكی وابن عبد الوهاب وغیرِهم، ثم كلامُ المنفلوطی والعقاد والمازنی وسید قطب والرافعی ومحمود شاكر وحمد الجاسر والطنطاوی والبهبیتی وغیرِهم، ثم كلامُ المسعودی ویحیى حقی وعبد الحلیم عبد الله ونجیب محفوظ ویوسف إدریس وفتحی غانم ومصطفى محمود وزكریا تامر وعبد الرحمن منیف وعلی أبو المكارم وغیرِهم!

وكلامُ شعراء المعلقات والمفضلیات والأصمعیات والحماسات والجمهرات وغیرِهم، ثم كلامُ شعراءِ رسول الله - صلى الله علیه، وسلم! - وشعراءِ صحابتِه، ثم كلامُ جریر والفرزدق والأخطل والكمیت وغیرِهم، ثم كلامُ أبی العتاهیة وصالح بن عبد القدوس وبشار وأبی نواس وغیرِهم، ثم كلامُ دیك الجن وعلی بن الجهم وأبی تمام والبحتری والعَكَوَّك وابن الرومی والمتنبی وأبی فراس والمعری وغیرِهم، ثم كلامُ التطیلی وابن خفاجة وابن سهل وغیرهم، ثم كلامُ ابن حمدیسَ والبهاء زهیر وابن سناء الملك وغیرِهم، ثم كلام ابن غنام وابن عثیمین والساعاتی وغیرِهم، ثم كلام البهلانی وأحمد شوقی وحافظ إبراهیم والزبیری وغیرِهم، ثم كلام الشابی وإبراهیم ناجی وعلی طه ومحمود إسماعیل ومحمود شاكر وحمزة شحاتة والنجفی والجواهری وغیرهم، ثم كلام عمر أبو ریشة والسیاب ونازك وأمل دنقل ومحمود درویش ومحمد الفیتوری وحسن قرشی ومهران السید وعبد اللطیف عبد الحلیم وغیرِهم.

مادة بعضها من بعض، وبعضها یدل على بعض مشهورًا ومغمورًا، لا یرضى إلا أن یُحْشَر معه - ینبغی لكلٍّ من طالِبَیِ الشعر والفَصاحَةِ العَرَبیَّیْنِ، أن یبحث عنها، ویستوعبها، ویتحقق بها، ویلهج بذكرها ؛ فیلتبس بها ظاهرا وباطنا، حتى یقَلِّدها عفوًا، أو یتَناساها قصدا! فإن قلدها انضاف إلى مذهب أصحابها، وإن تناساها انطلق إلى مَذْهَبٍ ینفرد به حتى ینضاف إلیه فیه غیرُه!

4

ونستطیع أن نمیز بالعموم والخصوص المطلقین كذلك، عالمَ الشعر والنحویَّ (عالمَ النحو) بعضهما من بعض ؛ فأولهما المشتغل بالبحث عن حقیقة وجود الشعر ضَبْطًا لنظریاته، والآخر المشتغل بالبحث عن حقیقة وجود النحو ضَبْطًا لنظریاته، وعالم الشعر لا یستغنی عن علم النحو، والنحویُّ (عالم النحو) لا یكتمل إلا بعلم الشعر.

وإنما یكون عالمُ الشعر والنحویُّ (عالم النحو) - ویَبْرَعان، ویَفْرَعان - بمَلَكَةٍ عِلْمیَّةٍ یستوعب بها كل منهما تراثَه العلمیَّ على منهج من مناهج التأمل الظاهریة أو الباطنیة، سَعْیًا إلى نظریة ضابطة من نظریات ترتیب المقدمات والنتائج - ویجری مجراه كذلك اتِّباعًا فابْتِداعًا ؛ فتتحول مَلَكَتُه العِلْمیَّةُ كذلك من مرحلة الاستعداد، إلى مرحلة القدرة، حتى مرحلة المهارة.

كتبُ البیان والتبیین والحیوان والأغانی وغیرِها، ثم كتبُ الصناعتین والوساطة وأسرار البلاغة ودلائل الإعجاز وشرح الحماسة وشرح دیوان المتنبی وغیرِها، ثم كتبُ العمدة والموازنة وعیار الشعر والمثل السائر ومنهاج البلغاء وغیرِها، ثم كتبُ الدیوان وفی المیزان الجدید ورسالة فی الطریق إلى ثقافتنا ونمط صعب ونمط مخیف وأباطیل وأسمار والنقد الأدبی الحدیث وغیرِها، ثم كتبُ قراءة الشعر والصورة فی الشعر العربی والرمز والرمزیة فی الشعر المعاصر وواقع القصیدة العربیة وحركة الشعر الحدیث فی سوریة وعن بناء القصیدة العربیة الحدیثة وتشریح النص وغیرِها!

وكتبُ الكتاب والمقتضب ومعانی القرآن والأصول وشرح القصائد السبع الطوال الجاهلیات وشرح المفضلیات وغیرِها، ثم كتبُ الخصائص وسر صناعة الإعراب والمقرب والبحر المحیط وغیرِها، ثم كتبُ الأمالی وشرح المفصل وشرح الكافیة وخزانة الأدب ونتائج الفكر وغیرِها، ثم كتبُ الاقتراح وهمع الهوامع والألفیة وشرح الأشمونی وحاشیة الصبان وحاشیة الشهاب وشرح بانت سعاد والمغنی وغیرِها، ثم كتبُ النحو الوافی واللغة العربیة معناها ومبناها والبیان فی روائع القرآن وخصائص الأسلوب فی الشوقیات وبناء الجملة العربیة والنحو والدلالة والجملة فی الشعر العربی ومدخل إلى دراسة الجملة العربیة ونظام الجملة فی شعر المعلقات وغیرِها!

مادة بعضها من بعض كذلك، وبعضها یدل على بعض مشهورًا ومغمورًا، لا یرضى إلا أن یُحْشَر معه - ینبغی لكلٍّ من طالِبَیْ علم الشعر وعلم النحو العربیین، أن یبحث عنها، ویستوعبها، ویتحقق بها، ویلهج بذكرها ؛ فیلتبس بها ظاهرا وباطنا، حتى یقَلِّدها عفوًا، أو یتَناساها قصدا! فإن قلدها انضاف إلى مذهب أصحابها، وإن تناساها انطلق إلى مَذْهَبٍ ینفرد به حتى ینضاف إلیه فیه غیرُه!

5

بهؤلاء جمیعا وأمثالهم على مسیرة التاریخ الثقافی، تكون فنونُ اللغة وعلومُها دائما، وتحیا حیاة طیبة، ثم على آثارهم یسعى غیرُهم من أصحاب اللغة، إِكْبارًا لهم، ووُثوقًا بهم، ولا یقبلون فیهم لَوْمَةَ لائِمٍ!

وأنى لهم أن یُخْطِئوا مَرامِیَهُمْ اللغویة بأعمالهم على أیِّ وجه كان الخطأ، فیُلیموا وهم الموهوبون المُوَفَّقون إلى تثقیف مواهبهم، المشتغلون دائما بأعمالهم، المُتَطَوِّرون من حال إلى أحسن منها!

ولكننا نتكلم من ذلك فی مسألة خطأ الشاعر والفصیح ؛ فخطأُ عالم الشعر ربما ینبنی على خطأ الشاعر نفسه، وخطأُ النحوی (عالم النحو) ربما ینبنی على خطأ الشاعر والفصیح كلیهما! بل نستطیع أن نكتفی من هذا بالكلام فی خطأ الشاعر ؛ فالفصیحُ نفسه ربما یكون هو الشاعر نفسه، كما شرحت فیما سبق!

6

لقد رأى بعض العلماء المعاصرین أن الشاعر یخطئ أحیانا مَرْماه اللغوی، وأن خطأه حَدَثٌ واقعی، یدل على غفلة تفكیریة بأثر اضطراب أو شرود أو جهل. وأبى ذلك غیرُهم من المعاصرین، بأنَّ خطأه وَجْهٌ مُهْمَلٌ من الصواب، یَدُلُّ على خَطْرَةٍ فكریة طارئة لم تتمكن من العادات الجماعیة بعد!

ولیس المذهبان بجدیدین ؛ فلقد كان عبد الله بن أبی إسحاق المتوفى سنة 117هـ - وهو وابنه زید هما المذكوران فی شعر عمّار السابق ذكره - وتلمیذُه عیسى بن عمر المتوفى سنة 149هـ، وأبو عمرو بن العلاء المتوفى سنة 154هـ، وتلمیذُه یونس بن حبیب المتوفى سنة 182هـ - كلُّهم من أئمة النحویین (علماء النحو)، وكان الأَوَّلانِ أَمْیَلَ إلى تخطئة الشاعر إذا خالف القاعدة، وكان الآخِران أَمْیَلَ إلى تصویبه واعتماد ما خالفهما فیه والقیاس علیه. ولقد دَرَجَ البصریون مَدْرَجَ الأَوَّلَیْنِ، ودَرَجَ الكوفیون مَدْرَجَ الآخِرَیْنِ ؛ " وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّیها "!

قال القاضی الجرجانی المتوفى سنة 392هـ: " دونَكَ هذِهِ الدَّواوینَ الْجاهِلیَّةَ وَالْإِسْلامیَّةَ ؛ فَانْظُرْ: هَلْ تَجِدُ فیها قَصیدَةً تَسْلَمُ مِنْ بَیْتٍ أَوْ أَكْثَرَ لا یُمْكِنُ لِعائِبٍ الْقَدْحُ فیهِ، إِمّا فی لَفْظِه وَنَظْمِه، أَوْ تَرْتیبِه وَتَقْسیمِه، أَوْ مَعْناهُ، أَوْ إِعْرابِه؟ وَلَوْلا أَنَّ أَهْلَ الْجاهِلیَّةِ جُدّوا بِالتَّقَدُّمِ، وَاعْتَقَدَ النّاسُ فیهِمْ أَنَّهُمُ الْقُدْوَةُ وَالْأَعْلامُ وَالْحُجَّةُ - لَوَجَدْتَ كَثیرًا مِنْ أَشْعارِهِمْ مَعیبَةً مُسْتَرْذَلَةً، وَمَرْدودَةً مَنْفیَّةً! لكِنَّ هذَا الظَّنَّ الْجَمیلَ وَالِاعْتِقادَ الْحَسَنَ، سَتَرَ عَلَیْهِمْ، وَنَفَى الظِّنَّةَ عَنْهُمْ ؛ فَذَهَبَتِ الْخَواطِرُ فِی الذَّبِّ عَنْهُمْ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَقامَتْ فی الِاحْتِجاجِ لَهُمْ كُلَّ مَقامٍ! وَما أَراكَ - أَدامَ اللّهُ تَوْفیقَكَ! - إِذا سَمِعْتَ قَوْلَ امْرِئِ الْقَیْسِ:

    یا راكِبًا بَلِّغَ إِخْوانَنا مَنْ كانَ مِنْ كِندَةَ أَوْ وائِل
    فَنَصَبَ بَلِّغْ - وَقَوْلَه:
    فَالْیَوْمَ أَشْرَبْ غَیْرَ مُسْتَحقِبٍ إثْمًا مِنَ اللّهِ وَلا واغِل
    فَسَكَّنَ أَشْرَبُ - وَقَوْلَه:
    لَها مَتْنَتانِ خَظاتا كَما أَكَبَّ عَلى ساعِدَیْهِ النَّمِرْ
    فَأَسْقَطَ النّونَ مِنْ خَظاتانِ لِغَیْرِ إِضافَةٍ ظاهِرَةٍ - وَقَوْلَ لَبیدٍ:
    تَرّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذا لَمْ أَرْضَها أَوْ یَرْتَبِطْ بَعْضَ النُّفوسِ حِمامُها
    فَسَكَّنَ یَرْتَبِطَ وَلا عَمَلَ فیهِ لِلَمْ - وَقَوْلَ طَرَفَةَ:
    قَدْ رُفِعَ الفَخُّ فَماذا تَحْذَری
    فَحَذَفَ النّونَ - وَقَوْلَ الْأَسَدیِّ:
    كُنّا نُرَقِّعْها وَقَدْ مُزِّقت وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَى الرّاقِع
    فَسَكَّنَ نُرَقِّعُها - وَقَوْلَ الْآخَرِ:
    تَأْبى قُضاعَةُ أَنْ تَعْرِفْ لَكُمْ نَسَبًا وَابْنا نِزارٍ وَأَنْتُمْ بَیْضَةُ الْبَلَد
    فَسَكَّنَ تَعْرِفَ - وَقَوْلَ الْآخَرِ:
    یا عَجَبًا وَالدَّهْرُ جَمٌّ عَجَبُهْ
    مِنْ عَنَزیٍّ سَبَّنی لَمْ أَضْرِبُهْ
    فَرَفَعَ أَضْرِبْهُ - وَقَوْلَ الْفَرَزْدَقِ:
    وَعَضُّ زَمانٍ یَا ابْنَ مَرْوانَ لَمْ یَدَعْ مِنَ الْمالِ إِلّا مُسْحَتًا أَوْ مُجَلَّف

فَضَمَّ مُجَلَّفًا (…) ثُمَّ تَصَفَّحْتَ مَعَ ذلِكَ ما تَكَلَّفَهُ النَّحْویّونَ لَهُمْ مِنَ الِاحْتِجاجِ إِذا أَمْكَنَ، تارَةً بِطَلَبِ التَّخْفیفِ عِنْدَ تَوالِی الْحَرَكاتِ، وَمَرَّةً بِالْإِتْباعِ وَالْمُجاوَرَةِ ؛ وَما شاكَلَ ذلِكَ مِنَ الْمَعاذیرِ الْمُتَمَحَّلَةِ، وَتَغْییرِ الرِّوایَةِ إِذا ضاقَتِ الْحُجَّةُ ؛ وَتَبَیَّنْتَ ما راموه فی ذلِكَ مِنَ الْمَرامِی الْبَعیدَةِ، وَارْتَكبوا لِأَجْلِه مِنَ الْمَراكِبِ الصَّعْبَةِ، الَّتی یَشْهَدُ الْقَلْبُ أَنَّ الْمُحَرِّكَ لَها وَالْباعِثَ عَلَیْها، شِدَّةُ إِعْظامِ الْمُتَقَدِّمِ، وَالْكَلَفُ بِنُصْرَةِ ما سَبَقَ إِلَیْهِ الِاعْتِقادُ وَأَلِفَتْهُ النَّفْسُ (…) شَكَكْتَ فی أَنَّ نَفْعَ هذَا الْحُكْمِ عامٌّ، وَجَدْواهُ شامِلٌ، وَأَنَّ الْمُتَقَدِّمَ یَضْرِبُ فیهِ بِسَهْمِ الْمُتَأَخِّرِ، وَالْجاهِلیَّ یَأْخُذُ مِنْهُ ما یَأْخُذُ الْإِسْلامیُّ، وَأَنَّه قَوْلٌ لا حَظَّ لَه فِی الْعَصَبیَّةِ، وَلا نَسَبَ بَیْنَه وَبَیْنَ التَّحامُلِ ".

(الوساطة)

لقد أراد القاضی الوساطة بین المتنبی وخصومه، فاقتص آثار الشعراء مُخْطِئینَ، حتى یُبَرِّئَ المتنبیَ بعُموم البَلْوى، ثم یَحْكُمَ بضرورة الاعتماد فی تقدیر الشاعر المُخْطِئِ، على الغالب علیه ؛ فإن غلب علیه الصوابُ وَجَبَ تَصْنیفُه فی طائفة المُصیبین، وإن غلب علیه الخطأُ وجب تَصْنیفُه فی طائفة المُخْطئین، فأما عِصْمَتُه فَرَأْیٌ فائِلٌ لا یراه لنفسِه الشاعرُ نَفْسُه إلا أن یكون مَهْووسًا، وهو الإنصافُ!

7

ولكنْ فات القاضیَ الجرجانیَّ أنه ینبغی ألا یرى لنفسه العصمةَ كذلك النحویُّ (عالم النحو) نفسُه - وأنا أَرُدُّ عَجُزَ كلامی هنا على صَدْرِه - فربما خَفِیَ علیه مرادُ الشاعر اضطرابًا أو شُرودًا أو جَهْلا كذلك ؛ فاستعجل التخطیء كما استعجل الشیخ القاضی نفسُه تخطیء بعضِ ما أورد على الشعراء!

قال ابن رشیق القیروانی المتوفى سنة 463هـ: " حَكى الصّاحِبُ بْنُ عَبّادٍ فی صَدْرِ رِسالَةٍ صَنَعَها عَلى أَبی الطَّیِّبِ، قالَ: حَدَّثنی مُحَمَّدُ بْنُ یوسُفَ الْحَمّادیُّ، قالَ: حَضَرْتُ بِمَجْلِسِ عُبَیْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ طاهِرٍ، وَقَدْ حَضَرَه الْبُحْتُریُّ، فَقالَ: یا أَبا عُبادَةَ، أَمُسْلِمٌ أَشْعَرُ أَمْ أَبو نُواسٍ؟ فَقالَ: بَلْ أَبو نُواسٍ، لِأَنَّه یَتَصَرَّفُ فی كُلِّ طَریقٍ، وَیَبْرَعُ فی كُلِّ مَذْهَبٍ: إِنْ شاءَ جَدَّ، وَإِنْ شاءَ هَزَلَ، وَمُسْلِمٌ یَلْزَمُ طَریقًا واحِدًا لا یَتَعَدّاهُ، وَیَتَحَقَّقُ بِمَذْهَبٍ لا یَتَخَطّاهُ. فَقالَ لَه عُبَیْدُ اللّهِ: إِنَّ أَحْمَدَ بْنَ یَحْیى ثَعْلَبًا لا یُوافِقُكَ عَلى هذا. فَقالَ: أَیُّها الْأَمیرُ، لَیْسَ هذا مِنْ عِلْمِ ثَعْلَبٍ وَأَضْرابِه مِمَّنْ یَحْفَظُ الشِّعْرَ وَلا یَقولُه ؛ فَإِنَّما یَعْرِفُ الشِّعْرَ مَنْ دُفِعَ إِلى مَضایِقِه. فَقالَ: وَرِیَتْ بِكَ زِنادی، یا أَبا عُبادَةَ! إِنَّ حُكْمَكَ فی عَمَّیْكَ أَبی نُواسٍ وَمُسْلِمٍ، وافَقَ حُكْمَ أَبی نُواسٍ فی عَمَّیْهِ جَریرٍ وَالْفَرَزْدَقِ ؛ فَإِنَّه سُئِلَ عَنْهُما، فَفَضَّلَ جَریرًا، فَقیلَ لَه: إِنَّ أَبا عُبَیْدَةَ لا یُوافِقُكَ عَلى هذا، فَقالَ: لَیْسَ هذا مِنْ عِلْمِ أَبی عُبَیْدَةَ ؛ فَإِنَّما یَعْرِفُه مَنْ دُفِعَ إِلى مَضایِقِ الشِّعْرِ ". (العمدة)

وهذه عادةُ الشعراء التی یُدافعون بها عادةَ النحویین (علماء النحو) تلك، ویُؤَرِّثُ نارَها طلابُهما الغاوونَ المُذَبْذَبون بینهما كلیهما جمیعا معا، حتى إذا سَكَتَ عن كل منهما الغضبُ خالصةً نیَّتُه للحق، وبَرِئَ من التَّسَرُّع صافیةً نفسُه من الغُرور - قال فی الآخرِ غیرَ ما قال ؛ فقال فیه الآخرُ غیرَ ما قال ؛ فاجتمع الشمل فی خدمة اللغة فَنًّا وعِلْمًا: یعتمد الشاعرُ من النحوی (عالم النحو)، على أَرْضٍ قَویَّةٍ راسِخَةٍ، فیُؤَصِّلُ بنیانَ فَنِّه، ویتعلق النحویُّ (عالمُ النحو) من الشاعر، بِسَماءٍ قَویَّةٍ سامِقَةٍ، فیُفَرِّعُ بنیانَ عِلْمِه!

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:1|