ابزار وبمستر

البیاتی والنقد الاجتماعی

یمكن القول ان البدایة الحقیقیة للمنهج الاجتماعی كانت فی مطلع القرن العشرین ، ومن ابرز اعلامه (كارل ماركس) ، الذی ارتبط باسمه نوع من النقد الاجتماعی هو (النقد الماركسی) . فقد سعى (ماركس) إلى دراسة الادب والفن بصورة عامة على غرار رؤیة اجتماعیة ترى ان العمل الفنی یحیى فی عالم اجتماعی ، وان الصراعات بین الطبقات تؤدی الى خلق الفن ، كما أنَّ الاعمال الفنیة تتألف دائماً فی موضوعات لها دلالة اجتماعیة
ان المبدأ الاساس فی النقد الماركسی هو الانعكاس الموضوعی وتمثل الادب للواقع ، إذ تؤكد نظریة الانعكاس ، ان الحیاة الاجتماعیة على بنیتین :بنیة دنیا تتمثل فی الانتاج المادی ، وبنیة علیا تتمثل فی الانتاج الفكری المتضمن نظماً سیاسیة وقوانین وفلسفات وعلوماً وآداباً وفنوناً ، وما اتصل بذلك من مظاهر ثقافیة مختلفة ، والبنیة الدنیا هی الاساس الحقیقی الذی ینبنى علیه المجتمع . فالادب والفن انعكاس للواقع الموضوعی ، ومن ثم وسیلة من وسائل المعرفة ، یقول بلیخانوف فی هذا الاتجاه لیس صحیحاً ان الفن یعبر عن مشاعرالناس وعواطفهم وحدها ، كلا انه یعبر عن عواطفهم وافكارهم معاً ، یعبر عنها لا على نحو مجرد ، وانما بالصور
لقد ارتبطت نظریة الانعكاس بفكرة الایدولوجیا ، وصار الالتزام بالتجارب الانسانیة ، واحداً من مقومات النقد الماركسی ، فضلاً عن ضرورة المحتوى الثوری ، مشفوعاً بصیاغة جمالیة فائقة ، وانكار الانفصال بین المعیارین الجمالی والسیاسی، وعندما نصل الى (لوكاتش) ، نجد انَّه اسهم فی تطور الواقعیة الاشتراكیة ، بوصفها مذهباً فی الادب والفن ، على وفق رؤیة فلسفیة خاصة به نتجت عن فهم خاص للماركسیة تماشیاً مع ظروف ما بین الحربین والمد الفاشی ، وتراجع الثورة فی العالم ، وقد حوى ذلك كله كتاب (لوكاتش) الرؤیا للعالم
اما فی عالمنا العربی ، فكان لجهود اسماعیل ادهم ، وشبلی شمیل ، وسلامة موسى ، ویحیى حقی ، ومحمد مندور ، ومحمود امین العالم ، ورجاء النقاش ، اثر كبیر فی تبلور النقد الاجتماعی فی النقد العربی الحدیث ویعد الدكتور محمد مندور من البارزین فی هذا الاتجاه ، فقد حمل شعار (الادب نقد الحیاة) ، ونادى بالالتزام فی الادب إذ انه یرى بأن الوقت قد حان "لكی یلتزم الادباء والفنانون بمعارك شعوبهم وقضایا عصرهم ومصیر الانسانیة كلها . ویحدد الدكتور محمد مندور مفهوم النقد الاجتماعی مبیناً انه "یرتكز على منطق العصر وحاجات البیئة ، ومطالب الانسان المعاصر ... ، ولا یكتفی بالنظر فی الموضوع ، بل یتجاوزه الى المضمون أی ما یفرغه فیه الادیب والفنان من افكار واحاسیس ووجهة نظر
ثمة ناقد اخر له اسهامٌ كبیر فی النقد العربی هو الناقد محمود امین العالم الذی اصدر كتابه (فی الثقافة المصریة) بالاشتراك مع عبد العظیم انیس دعا فیه الادباء والفنانین الى الالتزام بقضایا عصرهم ، ومشكلات مجتمعهم ، غیر ان هذا الالتزام ، لا یتم على حساب الادب والفن ، وانما من خلال تفاعل حقیقی بین الشكل والمضمون.
ان كلام محمود امین المتقدم ، یدل على ان صاحبه كان واعیاً بان أی تصور للادب والفن ، مهما كان متطوراً ، لایمكنه ان یلغی من حسابه مسألة الفن ذاته ، ومسألة الجمال والشكل ، لان الواقع بنظرهِ هومجموع العلاقات المتشابكة بین الانسان والعالم المحیط به ، بین الحاضر والمستقبل ، بین التجارب الذاتیة والاحلام والعواطف والأخیلة .
من خلال ما تقدم نستطیع القول بأن حضور المنهج الاجتماعی قد ازداد فی الحركة النقدیة التی واكبت ظهور الشعر الحر ، لاسیما ما یخص الشاعر عبد الوهاب البیاتی إذ أن قسماً كبیراً من نصوصهِ الشعریة كان تعبیراً عن هذا الواقع ، وما یحدث فیه من تقلبات سیاسیة واجتماعیة واقتصادیة ، لذلك نجد عدداً من الدراسات النقدیة تطرقت الى هذه القضیة وحاولت اظهارها بشكل او بآخر ، ومن بین هذه الدراسات : (الرؤیا فی شعر عبد الوهاب البیاتی) لمحیی الدین صبحی / و (الرؤیا الابداعیة فی شعر البیاتی) لعبد العزیز تشرف ، و (الالتزام والتصوف فی شعر عبد الوهاب البیاتی) لعزیز السید جاسم ، و (شجرة الرماد المواجد فی شعر البیاتی) للدكتور وفیق رؤوف ، و (النموذج الثوری فی شعر عبد الوهاب البیاتی) لمجموعة من النقاد العراقیین والعرب ، و (مأساة الانسان المعاصر فی شعر عبد الوهاب البیاتی) لمجموعة من النقاد العراقیین والعرب والغربیین .
لقد حظی البیاتی باهتمام كبیر من قبل الناقد (محمد زفزاف) ولا سیما فی دراسته الموسومة بـ (النموذج الثوری فی شعر عبد الوهاب البیاتی) ، إذ حاول الناقد الدخول الى عالم البیاتی الشعری من خلال مقدمة تناول فیها ثورة الادباء والشعراء على الواقع الاجتماعی والسیاسی السائد فی تلك الفترة التی عاشها البیاتی ، ویمضی الناقد فی رصد النمو الثوری فی شعر البیاتی الذی یغنی للثورات من المحیط الى الخلیج باحثاً عن المدینة الفاضلة المنسیة فی التاریخ، ویشیر الناقد الى تغیر واضح فی اشعار البیاتی لذلك كانت (اباریق مهمشة) و (المجد للاطفال والزیتون) و (كلمات لا تموت) تعبر عن البساطة والوضوح فی شعر البیاتی ، إلا انه تحول بشكل واضح فی (الذی یاتی ولا یاتی) و (سفر الفقر والثورة) و (الموت فی الحیاة) ، ویحاول الناقد ان یتلمس الخطوط التی سار علیها الشاعر واستلهم من خلالها الابعاد التاریخیة والواقعیة والاسطوریة لیخرج بنتیجة حاول تلخیصها بأنها عائدة الى التراث الفارسی فی صورة (عمر الخیام) ، وتاریخ العراق القدیم فی صورة (انكیدو وكلكامش) ، وتاریخ العراق الحاضر ، وتجربة الشاعر مع وطنه الام ، والتراث العربی الاسلامی ، والتأریخ القدیم بصفة عامة لیؤكد ان البیاتی كان دائم الرجوع الى الماضی محاولاً ربطه بالحاضر.
من جانب اخر یشیر الناقد ، الى الحس الانسانی الذی تعمق فی شعر البیاتی مما دفعه الى الارتقاء بماضیه وبماضی الانسانیة الى حاضر والى مستقبل ، عن طریق تحول كل القوى الادراكیة وكل التاریخ ، وكل الاساطیر الى شیء واحد فقط اسمه (الثورة).
ویشیر الناقد الى انه على الرغم من التشاؤم وذكر الموت الذی یهیمن على معظم اشعار المجموعة الشعریة (الموت فی الحیاة) إلا ان البیاتی یوضح لنا ان الثوری متوقع لموته العاجل او الآجل ، وهذا سِرُّ قوتهِ وصمودهِ، كما یبین ان حكایة (الموت والحیاة) سیطرت على المجموعة الشعریة للشاعر حتى بدت كما لو كانت قصیدة واحدة ، فالبیاتی یستقطب التأریخ ویجمع الحوادث ویحولها الى رمز لیعید حكایة الموت فی الحیاة أو التعذیب الثقافی.
واللافت للنظر ان الناقد لم یبق اسیراً لمعطیات المنهج الاجتماعی وانما افاد من أطروحات المناهج الأخرى ، وهی جزء من رؤیته النقدیة الناضجة ، التی ترى امتزاج الشكل بالمضمون فی أی عمل ادبی لذلك كانت أفادته من معطیات المنهج الاسطوری وبعض اجراءات المنهج النفسی متساوقة مع تلك الرؤیة .
وتعدُّ دراسة الدكتور (احسان عباس) واحدة من الممارسات النقدیة ، التی عالجت شعر البیاتی فی ضوء اجراءات المنهج الاجتماعی ، اذ اختار الدكتور (احسان عباس) قصیدة (سوق القریة) بوصفها أنموذجا شعریاً مختلفاً عمّا تعارف علیه لدى الشعراء فی ایضاح النزعة الاجتماعیة .
یبدأ الناقد دراسته مباشرةً عن طریق تحلیل قصیدة (سوق القریة) وهی القصیدة التی حظیت بقراءات متنوعة بین النقاد ، ویقف فی بدایة قراءته التحلیلیة عند لفظة (الشمس) لكونها تصلح ان تكون تحدیداً زمنیاً كما تصلح ان تشیر الى معاناة الناس المحتشدین، ویؤكد الناقد ان فی القصیدة حلماً كبیراً بل سلسلة من الاحلام التی اسقطها الشاعر على السوق ، ویؤكد اهمیة عنصر المفارقة فی القصیدة التی یقیمها الشاعر بین القریة والمدینة مستمداً حكمه على المدینة من تصور الفلاحین لها وهم یقولون لدى عودتهم منها :
والعائدون من المدینةِ
یالها وحشاً ضریر
صرعاه موتانا واجساد النساء
والحالمون الطیبون
هذه المفارقة تضیف بؤساً الى بؤس الریفیین ، وینسون وهم (الحاصدون المتعبون) انهم مسخرون جسدیاً ومعنویاً لیزرعوا صاغرین كی یأكل الاقطاعیون .
یشیر الدكتور (احسان عباس) الى ان هذه القصیدة اقرب ما تكون الى لوحة الرسم وكل ما افادته من الشكل الجدید هو حریة الاختیار فی الاحصاء ، وارسال الاقوال والحكم دون مدخل.
ویستمر الناقد بالابحار فی خلیج البیاتی الشعری لیؤكد ان هذه القصیدة على الرغم من كل الدلالات التی تحملها لا تستطیع ان تعطینا تصوراً كاملاً عن جمیع الروافد التی تعمل مُشكِّلة التیار البیاتی، لذلك عَمد الناقد الى اخذ قصیدة اخرى وهی قصیدة (مسافر بلا حقائب) التی یفتتحها البیاتی بقولهِ :
من لا مكان
لا وجه لا تأریخ لی ، من لا مكان
تحت السماء وفی عویل الریح اسمعها تنادینی
"تعال!"
یشیر الدكتور (احسان عباس) الى انه لن یعمد الى تحلیل القصیدة ، ولكنه یسجل بعض الملاحظات التی بدأها بكون القصیدة تقدم معجماً لفظیاً متكاملاَ، كما انها (تجسد واقع الغربة الذی یعانیه الشاعر ، وهذهِ الغربة لیست غربة عن الذات وانما هی غربة میتافیزیقیة لانبتات الصلة بالمكان والزمان (التاریخ) ، ویؤكد الناقد بان البیاتی فی هذه القصیدة مؤمنٌ بإستحالة استردادهِ لهویتهِ لان الشاعر یؤكد انه سیبقى بلا وجهٍ ولا تاریخ ولا مكان ، ویخلص الدكتور (احسان عباس) فی نهایة تحلیله الى انه اذا كان كل من نازك والسیاب قد اشتركا فی ارتیاد شكل جدید ، فإن البیاتی كان اسبق المجددین الى تغییر طبیعة المحتوى فی ذلك الشكل . لقد القى الأولان حجراً فی ماء الشعر وسَرَّهُما – الى حین – اندیاح الدوائر واتساع اقطارها فی ذلك الماء ، وذهب الثالث یعمل على تحویل مجرى ذلك الماء لیسقی غراساً مختلفة.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:5|