دلائل الاحتباس الشعری فی
القرن الثانی الهجری
یحمل التاریخ فوق ظهره كتبا
جمة، یطوی بعض سجلاتها تارة ویترك أخرى مفتوحة تارة أخرى، بعضها مدونة
بأحبار سود مطرزة على جلد ذی نفس غیر عاقلة تحكی فترة رخاء وأخرى حبّرتها
النصول بالقانی من الدماء على جلد ذی نفس عاقلة، وشكلت السیاط فی بعضها
خطوط الصفحات یكتب فوقها الجلاد ما یرید، تحكی فترة شدة وعناء. وتاریخ
المسلمین تقلب بین هذین النوعین من الجلود، ومالت الكفة إلى جلود البشر،
فشهدت المجتمعات المسلمة على مدى أربعة عشر قرنا سماءأ صافیة فی بعضها وفی
أكثرها تلبدت بالحالك من الغیوم تمطر عذابات.
ومثلَ القرن الثانی الهجری علامة فارقة فی تاریخ المسلمین، حیث شهد الثلث الأول منه تنازع روح الدولة الأمویة إلى الترقوة صاحبتها عملیات قمع شدیدة للثورات والانتفاضات حتى خرجت، وانهار جسد الدولة الأمویة لتحل الروح فی جسد الدولة العباسیة مؤذنة بعهد جدید ومعلنة عودة الحكم إلى الفرع العباسی من قریش، بدلا من علویّها، وكما قام الحكم الأموی على الدم لمدة قرن من الزمان ابتدأ الحكم العباسی بالدم.
هذه التحولات الكبیرة فی تاریخ المسلمین، كان للشعراء حضورهم فی تسجیل وقائعها وتضمینها فی صدور قصائدهم وأعجازها، وبخاصة ما یتعلق بالنهضة الحسینیة التی كانت تغذی حركات المعارضة، أعمل الدكتور الشیخ محمد صادق محمد الكرباسی جهده وسجلها فی كتابه "دیوان القرن الثانی" قسم "الحسین فی الشعر العربی القریض" من سلسلة دائرة المعارف الحسینیة، الذی صدر عن المركز الحسینی للدراسات فی لندن، فی 396 صفحة من القطع الوزیری، والذی غطى الفترة الزمنیة (24/7/719م) حتى (29/7/816م).
الإحتباس الشعری
ولكن رغم التحولات الكبیرة والخطیرة التی شهدها المسلمون فی القرن الثانی، وبخاصة قبل وبعد سقوط الأمویین فی العام 132 هـ، فان الشعر العربی الخاص بالنهضة الحسینیة، تقلصت مساحته، ویعزو المؤلف ذلك إلى شدة البطش الذی كان یمارسه النظام الأموی، صحیح إن عهد عمر بن عبد العزیز (101 هـ) شهد رفع سب الإمام علی وأهل بیته (ع) ولعنه من على المنابر، ولكن هذه الفترة استمرت ثلاثین شهرا فقط، وعاد الظلم من جدید على شیعة أهل البیت (ع) بصورة أشد، ولما كان الشعراء یمثلون الطبقة الواعیة من المجتمع فمن باب أولى أن یكون الظلم الواقع علیهم أشد قسوة، ولهذا فان الموالین من الشعراء انكفأوا على أنفسهم أو إنهم تعرضوا للتهمیش، وهاجر بعضهم أو هجّر وأُبعد، وضاعت عدد غیر قلیل من المقطوعات فی زحمة الظلم والمطاردة، كما كان العهد الأموی یمارس الدس والدجل من جانب ومن جانب آخر یشتری الذمم لإنتاج الأحادیث الكاذبة أو القصائد المضادة لفضائل أهل البیت (ع)، ولذلك اقتصر الشعر الحسینی على الولائیین لأهل بیت النبی (ص) وكان هذا واحد من أسباب انحسار رقعة الشعر الحسینی، واحتباس حرارته فی صدور الموالین، ولعل أبو الفرج الأصفهانی (ت 356 هـ) خیر من یعبّر عن هذه الظاهرة الأدبیة بقوله: "وقد رثى الحسین بن علی صلوات الله علیه جماعة من متأخری الشعراء أستغنی عن ذكرهم فی هذا الموضوع كراهیة الإطالة، وأما من تقدم فما وقع إلینا شیء رثی به، وكانت الشعراء لا تقدم على ذلك مخافة من بنی أمیة وخشیة منهم".
ولم یختلف الحال بعد زوال العهد الأموی، فالظلم الواقع على شیعة أهل البیت (ع) ازدادت وطأته، وبخاصة بعد أن توسد العباسیون الحكم واقتعدوا نمارقه، مع إنهم دخلوا قصر الرئاسة من بوابة الثأر لدماء الإمام الحسین (ع) والرضا من أهل البیت (ع)، فعلى سبیل المثال وصل الأمر بهارون العباسی (ت 193 هـ) أن طلب من وزیره الفضل بن الربیع (ت 208 هـ)، بنبش قبر الشاعر منصور بن سلمة النمری (ت 190 هـ)، حتى یستخرج جثته ویحرقها، لان هارون تناهى إلى سمعه أبیاتا للنمری فی رثاء الإمام الحسین (ع)، أزعجته كثیرا، كان مطلعها:
شاء من الناس راتع هامل … یعللون النفوس بالباطلْ
وفار تنور غضبه عند البیت:
ألا مساعیر یغضبون لها … بسِلّة البِیض والقنا الذابلْ
وقد بلغ الظلم الزبى، وضیقوا الدائرة على أئمة أهل البیت (ع) بین سجن وقتل وسمّ، حتى قال الشاعر:
والله ما فعلت أمیة فیهم… معشار ما فعلت بنو العباس
ولكن البیت وان كان یقدم صورة للواقع الذی كان علیه أبناء الرسول (ص) فی العهد العباسی، لكن العهد الأموی أسس لهذا العدوان بقتله الإمام الحسین (ع) ولذلك صدق القول "لا یوم كیومك یا أبا عبد الله الحسین". وبشكل عام فان طبقات الشعراء فی القرن الثانی الهجری یحصرهم المحقق الكرباسی فی أربع: طبقة موالیة للحكم، وثانیة موالیة للرسول (ص) وأهل بیته (ع)، وثالثة مستقلة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وقفت على أعراف الحیاة، ورابعة سائرة وراء مصالحها ترى حیاتها فی تجنب الإنشاد فی الإمام الحسین (ع) لما قد یجلبه الحق من همّ وحرمان وإبعاد.
مفاهیم خاطئة
عندما یتناهى إلى سمع المرء كلمة "الرفض والروافض" فان ذهنه سیقوده إلى شیعة أهل البیت (ع) ویسوقه فكره إلى سقیفة بنی ساعدة التی جرت فیها "بیعة الفلتة" للخلیفة أبی بكر التیمی (ت 13 هـ) والنبی محمد (ص) بعد لم یدفن، ورفض شیعة علی (ع) أمثال عمار بن یاسر وسلمان الفارسی وأبو ذر الغفاری لمثل هذه البیعة. وعندما یتناهى إلى السمع كلمة السُنّة والسنیون، فان الذهن سیقود المرء إلى السقیفة نفسها واصطفاف قادة من المهاجرین إلى جانب الخلیفة. ولكن الحقیقة مختلفة جدا، فلا السقیفة أنتجت المسلمون الروافض ولا هی ابتدعت المسلمون السنّة، فالروافض كما یؤكد البحاثة الكرباسی مصطلح نشأ فی القرن الثانی الهجری، على ید المغیرة بن سعید المقتول فی العام 119 هـ إشارة إلى الرجال الذین رفضوا الالتحاق بثورة زید بن علی السجاد المستشهد فی العام 121 هـ، فكما یقول السجستانی (ت 250 هـ) والنوبختی (ت 310 هـ) ما حاصله: "إن المغیرة بن سعید هو الذی سمّاهم الرافضة لمّا رفضوا زیداً وفارقوه فی الكوفة وتركوه حتى قتل"، ولذلك یقول ابن منظور فی لسان العرب: 5/267: "والروافض جنود تركوا قائدهم وانصرفوا، فكل طائفة منهم رافضة والنسبة إلیهم رافضی، والروافض قوم من الشیعة سموا بذلك لأنهم تركوا زید بن علی".
ومثل ذلك یقال فی مصطلح السنّة، فمن الوهم المعرفی والخطأ الشائع القول إن المصطلح إشارة إلى سنّة الرسول محمد (ص)، أو أن المصطلح من إفرازات السقیفة، بل هو من مبتدعات الماكنة الإعلامیة الأمویة، أطلق لأول مرة على الذین امتنعوا من سبّ الإمام علی (ع) فی خلافة عمر بن عبد العزیز، فكان الواحد منهم یلتقی صاحبه فی السر ویسأله هل أنت سُنِّی یعنی ممن یعمل بسنّة معاویة فی سب الإمام علی وسبطیه (ع)، وكان الواحد إذا امتنع من السب عمداً أو سهواً التفت إلیه جلیسه وقال له: نسیت السنّة یا شیخ! مما یدل أن اللعن كان یتم بصوت مسموع فی أثناء الصلاة وخارجها!!، ثم استقرت التسمیة تدریجیا، ویعبر الفقیه الكرباسی عن أسفه، لأن: “التسمیتین انحرفتا عن مسمّیهما فقیل لأتباع مدرسة أهل البیت (ع) رافضة ولأتباع المدارس الأخرى سنّة".
الاختبار الصعب
فی الواقع أن حب أهل البیت (ع) والولاء لهم لیس من الأمور الهینة، فالولائی الحقیقی یختبر عند الامتحان، والشاعر الملتزم یبان التزامه عند الملمات والشدائد، ولذلك فلا عجب أن الإنشاد فی حق بیت النبوة من المنازل الكبیرة والمراتب السامقة، ولذلك ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) (ت 148 هـ): (من قال فینا بیت شعر بنى الله له بیتا فی الجنة). وهذه المنزلة صعبة، بخاصة عندما تكون السیوف مصلة على الرقاب، ولهذا لا یخفی الشاعر یوسف بن لقوة الكوفی المتوفى فی القرن الثانی إحساسه فی قصیدة من الخفیف تحت عنوان "مالی مجیر سواهم" یقول فی مطلعها:
أحمد الله ذا الجلال كثیراً … وإلیه ما عشت ألجی الأمورا
إلى أن یقول:
إنّ صرف الزمان ضعضعَ رُكنی … ما أرى لی من الزمان مجیرا
لیس ذنبی إلى الزمان سوى أننی … أحببت شُبّرا وشبیرا
وعلیا أباهما أفضل الأمة … بعد النبی سبقا وخیرا
فعلى حبهم أموت وأحیا … وعلى هدیهم اُلاقی النشورا
فالشاعر هنا لا یبالی إن وقع الموت علیه، وهذه من طبیعة الشعراء الملتزمین الذین یدركون حقیقة الولاء لأهل البیت النبوی (ع) وما یجر علیهم من إبتلاءات، لانهم یؤمنون فی الوقت نفسه أن مآلهم إلى خیر، من هنا فان الشاعر كمیت بن زید الأسدی (ت 60-126 هـ) مات على الولاء شهیدا على ید والی الكوفة یوسف الثقفی، وقد اشتهر بلامیته، عندما أنشدها على الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع)، حیث رفع الإمام (ع) یدیه بالدعاء وقال: (اللهم اغفر للكمیت ما قدّم وما أخّر وما أسرّ وما أعلن وأعطه حتى یرضى)، ووقع الدعاء فی محله، لان الشهادة فی سبیل الحق منزلة عظیمة لا یلقاها إلا ذو حظ عظیم. فاللامیة المعنونة بـ "عجب لا ینقضی" من بحر الطویل، ومطلعها:
ألا هل عم فی رأیه متأمل … وهل مدبر بعد الإساءة مقبل
اختص 15 بیتا منها فی وصف الإمام الحسین (ع) فی معركة الطف وما حل به وبأهل بیته، إلى أن یقول:
كأنّ حسینا والبهالیلُ حوله … لأسیافهم ما یختلی المتبقِّلُ
یخضن به من آل أحمدَ فی الوغى … دماً طُلّ منهم كالبهیم المحجلُ
وغاب نبیُّ الله عنهم وفقدُهُ … على الناس رُزءٌ ما هناك مُجلَّلُ
فلم أرَ مخذولا أجلَّ مصیبةً … وأوجبَ منه نُصرةً حین یُخذلُ
ومن مفارقات الدهر وصروفه، وبعد قرون من الإهمال المتعمد للحكومات المتعاقبة، قررت وزارة الدولة للسیاحة والآثار العراقیة فی عهد ما بعد 9/4/2003م، فی بیان صادر عن رئاسة الوزراء فی العشرین من آذار مارس العام 2007، إجراء مسح لإعمار قبر الشاعر المنسی، الواقع على تل كمیت غرب ناحیة الكمیت على بعد 40 كیلومترا من مركز مدینة العمارة، عرفانا بالجمیل لدور هذا الشاعر الشهید فی الدفاع عن مقدسات الأمة الإسلامیة بعامة والشعب العراقی بخاصة، ودفاعا عن العراق الذی ولد فی كنفه وقدم له أدبه وما یملك، واستشهد على صعیده بسیوف أعدائه التی هوت على بطنه وبقرته حتى مات محتسبا صابراً، وكانت آخر كلماته قبل أن تفیض روحه إلى بارئها "اللهم آل محمد اللهم آل محمد اللهم آل محمد".
سید القرن
ما یلفت النظر فی قصائد الولاء، أن الشاعر إسماعیل بن محمد الحِمیَری المتوفى فی العام 178 هـ كان سید الموقف الشعری فی القرن الثانی الهجری، جاهر بفضائل أهل البیت (ع): "وأعلن مناقبهم دون تهیّب أو تردّد، فلم یدع منقبة وردت إلا ونظمها وكثرة ما فی هذا القرن من شعره یبیّن ذلك"، إذ كانت له 33 مقطوعة شعریة من مجموع 94 مقطوعة لـ 39 شخصیة وقف الشیخ الكرباسی علیها من بین مئات المصادر وأمات المراجع التاریخیة، یلیه عبد الله بن الزبیر الأسدی وله 18 مقطوعة ثم الكمیت وله 6 مقطوعات، وسدیف ابن میمون المكی (146 هـ) وله 5 مقطوعات، وكلا من الشاعر كثیر عزة الخزاعی (105 هـ) وأبو نؤاس الحكمی (198 هـ) ولهما أربع مقطوعات، وتوزعت البقیة بین ثلاث واثنین ومقطوعة أو بیت واحد. كما استدرك المؤلف بمقطوعتین من شعر القرن الأول الهجری. ولعل من أشهر ما یتصف شعر القرون الأولى القریبة من عصر النبوة والإمامة، أنها تترجم أحادیث الرسول أو وقائع حصلت فی عهده، فیأخذ الشعر دوره القدیم فیكون دیوان عهد الرسالة كما كان من قبل دیوان العرب، وهكذا كان شعر الحِمیَری المتصف بالجرأة والشجاعة، ومن ذلك بیتان من البحر الكامل تحت عنوان :نعم الراكبان" یصف طلب أبی بكر من النبی (ص) حمل الحسن أو الحسین لما رآهما والنبی یحملهما، فرد علیه (ص): "نعم المطی مطیهما ونعم الراكبان هما"، فینشد:
مَن ذا الذی حمل النبی برأفة … ابنیه حتى جاوز الغمضاءا
مَن قال نِعم الراكبان هما ولم … یكن الذی قد قال منه خفاءا
أو قصیدة فی وصف ما جرى فی كربلاء أنشدها فی محضر الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) بطلب منه حیث أجلس حرمه خلف ستر فبكى الإمام (ع) وارتفع الصراخ والبكاء من داره، والحمیری ینشد من مجزوء الكامل تحت عنوان "الأعظم الزكیة":
أُمُرر على جدَث الحسیـــ … ـن وقل لأَعظُمه الزكیّة
یا أعظُما لا زلتِ من … وطفاءَ ساكبة رویّة
ما لذّ عیشٌ بعد رضِّكَ بالجیاد الأعوجیّة
قبرٌ تضمّن طیِّباً آباؤه خیرُ البریّة
الوسیلة وأشیاء أخرى
من الأمور التی خضعت للجدال بعد فترة من عصر الرسالة الإسلامیة هی مسألة الشفاعة والتوسل بالنبی وأهل بیته الكرام، ففی حین یقر القرآن الكریم مسألة الوسیلة، بقوله سبحانه فی سورة المائدة: 35: (یا أیها الذین آمنوا اتقوا الله وابتغوا إلیه الوسیلة)، وقوله سبحانه فی سورة الأنبیاء: 28: (ولا یشفعون إلا لمن ارتضى)، غیر أن بعض المدارس الفكریة المتأخرة، حاولت تحت دعوى التوحید نسف مسألة الوسیلة التی مَنّ الله بها على بعض عباده الذین اصطفى، ومنهم النبی محمد (ص) وأهل بیته الكرام (ع) الذین أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهیرا، وأكدتها الروایات والأحادیث. وقد كانت هذه المسألة فی العصر الأول من المسلمات بحیث وردت فی أبیات الشعراء ولم یجدوا فی ذلك حرجا، من ذلك قصیدة للفرزدق (ت 110 هـ) فی مدح أهل البیت (ع) یقول فی بعضها من البسیط:
من معشر حبُّهم دِینٌ وبغضهم … كُفرٌ وقربهم منجىً ومعتصمُ
یُستدفعُ السوءُ والبلوى بحُبِّهم … ویُستدبُ به الإحسانُ والنِّعمُ
مُقدَّمٌ بعد ذكر الله ذكرُهُمُ … فی كل بدءٍ ومختوم به الكَلِمُ
إن عُدّ أهلُ التقى كانوا أئمتهُم … أو قیلَ مَن خَیرُ أهلِ الأرض قیلَ همُ
ومن ذلك قصیدة لأبی نؤاس (ت 198 هـ) فی الشفاعة، من الكامل تحت عنوان "الحصن الحصین" یقول فیها:
مُتمسِّكاً بمحمد وبآله … إن الموفَّقَ مَن بهم یستعصمُ
ثمّ الشفاعة من نبیِّك أحمدٍ … ثم الحمایة مِن علیٍّ أعلمُ
ثم الحسینُ وبعده أولادُه … ساداتنا حتى الإمام المُكتمُ
سادات حُرٍّ ملجأٌ مُستعصَمٌ … بِهم ألوذُ فذاك حِصنٌ مُحكم
ومما تؤرخه المقطوعات، هو لون اللباس الذی كان یرتدیه المعزون بفقد قریب أو عزیز، إذ كان الأسود والأخضر إشارة إلى الحزن والمصاب، وهذا ما نستبینه من قصیدة سیف بن عمیرة النخعی المتوفى فی القرن الثانی الهجری، من بحر الكامل فی مائة وستة أبیات حملت عنوان: جلّ المصاب"، وتعتبر هذه القصیدة من أطول القصائد فی دیوان القرن الثانی أنشأت فی رثاء الإمام الحسین (ع)، یقول الشاعر فی بعض أبیاتها:
إبكِ الحسینَ بلوعةٍ وبعبرةٍ … إن لم تجدها ذُب فؤادك واكثِرِ
وآمزج دموعَك بالدماء وقَلَّ ما … فی حقه حقًّا إذا لم تَنصُرِ
والبس ثیاب الحزن یوم مُصابِهِ … ما بین أسودَ حالكٍ أو أخضرِِ
فعساك تحظى فی المعاد بِشِربةٍ … مِن حوضهم ماءٍ لذیذٍ سُكَّرِِ
بید أن الأقوام عند العزاء تختلف فی ملبسها، فبعض یرتدى الأبیض وآخر الأصفر، ویكثر استعمال الأسود، ویقل استخدام الأخضر، والشاعر یؤرخ لتلك الفترة حیث كان الأسود والأخضر هما اللونان المستعملان عند المسلمین، وبمرور الزمن اختص الأخضر بنسل أهل البیت (ع) والذین یطلق علیه لقب السادة، حیث یضعون فی مجالس العزاء على الإمام الحسین (ع) قطعة خضراء على الكتف أو حول الخاصرة إلى جانب رداء اسود، فیما یكتفی غیرهم بالأسود.
ویصاحب الملبس البكاء، لان البكاء فی واقع الأمر إظهار للحزن الشدید على ما حلّ بالإسلام من قتل سید شباب أهل الجنة (ع)، حیث یمثل البیت النبوی عدل القرآن، وهما وصیة رسول الله (ص) فی أمته، ولهذا أصاب الشاعر جعفر بن عفان الطائی المتوفى حدود عام 150 هـ كبد الحقیقة فی قصیدته من الطویل بعنوان "لیبك على الإسلام"، عندما أنشد:
لیبكِ على الإسلام مَن كان باكیا … فقد ضُیِّعَت أحكامُهُ واستُحِلَّت
غداةَ حُسینٌ للرماح دَریئةٌ … وقد نَهِلَت منه السیوفُ وعَلّتِ
كما تحرى الشاعر خالد بن معدان الطائی المتوفى حدود عام 103 هـ، صدقا فی قصیدته من البسیط المعنونة "جاؤوا برأسك" عندما أنشد:
فكأنما بكَ یا بنَ بنت محمدٍ … قتلوا جهاراً عامدین رسولا
قتلوكَ عطشاناً ولم یترقَّبوا … فی قتلكَ التأویلَ والتنزیلا
ویُكبِّرون بأن قُتلتَ وإنما … قتلوا بك التكبیرَ والتهلیلا
ولذلك فلا عجب أن تمطر السماء دما على الإمام الحسین (ع) كما بكت من قبل على النبی یحیى بن زكریا (ع)، ویخلد الشاعر سیف النخعی هذه الواقعة فی ملحمته "جلّ المصاب":
وعلیه أمطرت السماءُ وقبلُهُ … یحیى دماً وسواهما لم تُمطرِ
بین عصرین یشكل القرن الثانی الهجری علامة فارقة تفصل بین عصرین من حیث الإنتاج الأدبی فی جانبیه المنثور والمنظوم، بین العصر الجاهلی وعصر المخضرمین (من البعثة حتى نهایة عصر الخلافة الراشدة فی العام 40 هـ)، إذ أصاب العربیة اللحن وتهجنت بعض مفرداتها، وكان هذا من آثار اختلاط المسلمین بالثقافات واللغات الأخرى وورود غیر العرب ولحنهم فی اللغة، ولذلك كما یقول المصنف: "فقد بدأت اللغة العربیة تشعر أنها لم تعد على أصالتها الأولى بل امتزجت بمفردات جدیدة بدأت تنعكس على الأدب العربی" ولذلك ضعف الاستشهاد بقول الشاعر فی بیان اللغة وقواعدها وآدابها: "فكان أن انتهت فترة الاحتجاج بقول الشاعر بعد بشار بن برد المتوفى عام 168 هـ"، لكن القرآن الكریم ظل هو المعین الذی لا ینضب والذی لن یتسنّه ماؤه.
ویستظهر المحقق الكرباسی من مجمل دیوان القرن الثانی الهجری أمور عدة، أهمها:
أولا: غلب الاتجاه السیاسی على الكثیر من القصائد، وبخاصة لدى الكمیت بن زید الأسدی الذی یمثل فی هذا الجانب وبحق فارس الحلبة.
ثانیا: غلبت صبغة المعارضة والتمرد على الواقع السیئ، على الكثیر من القصائد، بخاصة وان القرن شهد تحولات سیاسیة خطیرة كان السیف هو الحاكم فیها والدماء تسیل من تحت شفرتیه، وكان الشاعر منصور بن سلمة النمری فارس المیدان فیه.
ثالثا: سعى شعراء الولاء إلى تخلید كل منقبة لأهل البیت وردت فی القرآن أو على لسان النبی محمد (ص) إلى قصائد، لتخلید تلك المناقب والمكارم، وكان الشاعر إسماعیل بن محمد الحِمیَِری سید الموقف. رابعا: ولأن النهضة الحسینیة تتجدد، فان باب الرثاء ظل مفتوحا للشعراء على مصراعیه، وقد أبدع فیه عدة من الشعراء، كالنمری والحِمیَری، واشتهر الشاعر سلیمان بن قتة التمیمی الدمشقی بقصیدته المعنونة "وإنّ قتیل الطف"، ومطلعها:
مررتُ على أبیاتِ آلِ محمدٍ … فلم أرَها أمثالَها یومَ حُلَّتِ
وأخیرا
لا یخلو أی مجلد من مجلدات دائرة المعارف الحسینیة البالغة نحو 600 مجلد وصدر منها حتى الیوم 34 مجلدا، من فهارس قیّمة فی أبواب كثیرة، تختلف من مجلد إلى آخر حسب الباب الذی یطرقه الكاتب، وفی هذا الدیوان، نتابع من خلال: فهارس المتن: فهرس الأعلام والشخصیات، القبائل والإنسان والجماعات، القوافی والروی، البحور والأوزان. ونتابع فی فهارس الهامش: فهرس الأبیات وأنصافها، التأریخ، الناظمین والشعراء، الأعلام والشخصیات، القبائل والأنساب والجماعات، اللغة. وفی الفهارس المشتركة بین المتن والهامش، نتابع: فهرس الآیات المباركة، الأحادیث والأخبار، الأمثال والحكم، مصطلحات الشریعة، المصطلحات العلمیة والفنیة، الطوائف والملل، الوظائف والرتب، الآلات والأدوات، الإنسان ومتعلقاته، الحیوان ومتعلقاته، النبات ومستحضراته، الفضاء ومتعلقاته، الأرض ومتعلقاتها، المعادن، الأماكن والبقاع، الزمان، الوقائع والأحداث، المؤلفات والمصنفات، المصادر والمراجع، مؤلفی المراجع، وفهرس الخطأ والصواب. وفی سبیل أن یقف القارئ على وجهات نظر غربیة واستشراقیة للنتاج الشعری الولائی فی القرن الثانی الهجری، ختم الدكتور محمد صادق الكرباسی كتابه بقراءة نقدیة للدكتور بیار جون لویزارد، وهو مستشرق فرنسی مسیحی المعتقد، باحث فی المركز الوطنی للأبحاث والعلوم، وبروفیسور فی المؤسسة الوطنیة للغات الشرقیة، قال فیه: "وفی هذا العصر – القرن الثانی للهجرة- حیث المشاعر العلویة كانت متوهجة، كما تؤكد على ذلك الحركات المناوئة للأمویین والعباسیین، لم یصلنا إلا القلیل من ذلك الشعر الذی نظم فی رثاء الإمام الثالث، وما وصلنا فهو تصور فیه مشاعر المحبة تجاه حفید النبی"، وعبر عن كبیر تقدیره للجهد المبذول فی الكتاب، ذلك: "أن العمل الموسوعی للشیخ محمد صادق محمد الكرباسی یبدو مدهشا، حیث أثمرت جهوده من خلال القصائد التی كان من الصعب جمعها وتقدیمها بإخراج الموضوع إخراجا رائعا".
ومثلَ القرن الثانی الهجری علامة فارقة فی تاریخ المسلمین، حیث شهد الثلث الأول منه تنازع روح الدولة الأمویة إلى الترقوة صاحبتها عملیات قمع شدیدة للثورات والانتفاضات حتى خرجت، وانهار جسد الدولة الأمویة لتحل الروح فی جسد الدولة العباسیة مؤذنة بعهد جدید ومعلنة عودة الحكم إلى الفرع العباسی من قریش، بدلا من علویّها، وكما قام الحكم الأموی على الدم لمدة قرن من الزمان ابتدأ الحكم العباسی بالدم.
هذه التحولات الكبیرة فی تاریخ المسلمین، كان للشعراء حضورهم فی تسجیل وقائعها وتضمینها فی صدور قصائدهم وأعجازها، وبخاصة ما یتعلق بالنهضة الحسینیة التی كانت تغذی حركات المعارضة، أعمل الدكتور الشیخ محمد صادق محمد الكرباسی جهده وسجلها فی كتابه "دیوان القرن الثانی" قسم "الحسین فی الشعر العربی القریض" من سلسلة دائرة المعارف الحسینیة، الذی صدر عن المركز الحسینی للدراسات فی لندن، فی 396 صفحة من القطع الوزیری، والذی غطى الفترة الزمنیة (24/7/719م) حتى (29/7/816م).
الإحتباس الشعری
ولكن رغم التحولات الكبیرة والخطیرة التی شهدها المسلمون فی القرن الثانی، وبخاصة قبل وبعد سقوط الأمویین فی العام 132 هـ، فان الشعر العربی الخاص بالنهضة الحسینیة، تقلصت مساحته، ویعزو المؤلف ذلك إلى شدة البطش الذی كان یمارسه النظام الأموی، صحیح إن عهد عمر بن عبد العزیز (101 هـ) شهد رفع سب الإمام علی وأهل بیته (ع) ولعنه من على المنابر، ولكن هذه الفترة استمرت ثلاثین شهرا فقط، وعاد الظلم من جدید على شیعة أهل البیت (ع) بصورة أشد، ولما كان الشعراء یمثلون الطبقة الواعیة من المجتمع فمن باب أولى أن یكون الظلم الواقع علیهم أشد قسوة، ولهذا فان الموالین من الشعراء انكفأوا على أنفسهم أو إنهم تعرضوا للتهمیش، وهاجر بعضهم أو هجّر وأُبعد، وضاعت عدد غیر قلیل من المقطوعات فی زحمة الظلم والمطاردة، كما كان العهد الأموی یمارس الدس والدجل من جانب ومن جانب آخر یشتری الذمم لإنتاج الأحادیث الكاذبة أو القصائد المضادة لفضائل أهل البیت (ع)، ولذلك اقتصر الشعر الحسینی على الولائیین لأهل بیت النبی (ص) وكان هذا واحد من أسباب انحسار رقعة الشعر الحسینی، واحتباس حرارته فی صدور الموالین، ولعل أبو الفرج الأصفهانی (ت 356 هـ) خیر من یعبّر عن هذه الظاهرة الأدبیة بقوله: "وقد رثى الحسین بن علی صلوات الله علیه جماعة من متأخری الشعراء أستغنی عن ذكرهم فی هذا الموضوع كراهیة الإطالة، وأما من تقدم فما وقع إلینا شیء رثی به، وكانت الشعراء لا تقدم على ذلك مخافة من بنی أمیة وخشیة منهم".
ولم یختلف الحال بعد زوال العهد الأموی، فالظلم الواقع على شیعة أهل البیت (ع) ازدادت وطأته، وبخاصة بعد أن توسد العباسیون الحكم واقتعدوا نمارقه، مع إنهم دخلوا قصر الرئاسة من بوابة الثأر لدماء الإمام الحسین (ع) والرضا من أهل البیت (ع)، فعلى سبیل المثال وصل الأمر بهارون العباسی (ت 193 هـ) أن طلب من وزیره الفضل بن الربیع (ت 208 هـ)، بنبش قبر الشاعر منصور بن سلمة النمری (ت 190 هـ)، حتى یستخرج جثته ویحرقها، لان هارون تناهى إلى سمعه أبیاتا للنمری فی رثاء الإمام الحسین (ع)، أزعجته كثیرا، كان مطلعها:
شاء من الناس راتع هامل … یعللون النفوس بالباطلْ
وفار تنور غضبه عند البیت:
ألا مساعیر یغضبون لها … بسِلّة البِیض والقنا الذابلْ
وقد بلغ الظلم الزبى، وضیقوا الدائرة على أئمة أهل البیت (ع) بین سجن وقتل وسمّ، حتى قال الشاعر:
والله ما فعلت أمیة فیهم… معشار ما فعلت بنو العباس
ولكن البیت وان كان یقدم صورة للواقع الذی كان علیه أبناء الرسول (ص) فی العهد العباسی، لكن العهد الأموی أسس لهذا العدوان بقتله الإمام الحسین (ع) ولذلك صدق القول "لا یوم كیومك یا أبا عبد الله الحسین". وبشكل عام فان طبقات الشعراء فی القرن الثانی الهجری یحصرهم المحقق الكرباسی فی أربع: طبقة موالیة للحكم، وثانیة موالیة للرسول (ص) وأهل بیته (ع)، وثالثة مستقلة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وقفت على أعراف الحیاة، ورابعة سائرة وراء مصالحها ترى حیاتها فی تجنب الإنشاد فی الإمام الحسین (ع) لما قد یجلبه الحق من همّ وحرمان وإبعاد.
مفاهیم خاطئة
عندما یتناهى إلى سمع المرء كلمة "الرفض والروافض" فان ذهنه سیقوده إلى شیعة أهل البیت (ع) ویسوقه فكره إلى سقیفة بنی ساعدة التی جرت فیها "بیعة الفلتة" للخلیفة أبی بكر التیمی (ت 13 هـ) والنبی محمد (ص) بعد لم یدفن، ورفض شیعة علی (ع) أمثال عمار بن یاسر وسلمان الفارسی وأبو ذر الغفاری لمثل هذه البیعة. وعندما یتناهى إلى السمع كلمة السُنّة والسنیون، فان الذهن سیقود المرء إلى السقیفة نفسها واصطفاف قادة من المهاجرین إلى جانب الخلیفة. ولكن الحقیقة مختلفة جدا، فلا السقیفة أنتجت المسلمون الروافض ولا هی ابتدعت المسلمون السنّة، فالروافض كما یؤكد البحاثة الكرباسی مصطلح نشأ فی القرن الثانی الهجری، على ید المغیرة بن سعید المقتول فی العام 119 هـ إشارة إلى الرجال الذین رفضوا الالتحاق بثورة زید بن علی السجاد المستشهد فی العام 121 هـ، فكما یقول السجستانی (ت 250 هـ) والنوبختی (ت 310 هـ) ما حاصله: "إن المغیرة بن سعید هو الذی سمّاهم الرافضة لمّا رفضوا زیداً وفارقوه فی الكوفة وتركوه حتى قتل"، ولذلك یقول ابن منظور فی لسان العرب: 5/267: "والروافض جنود تركوا قائدهم وانصرفوا، فكل طائفة منهم رافضة والنسبة إلیهم رافضی، والروافض قوم من الشیعة سموا بذلك لأنهم تركوا زید بن علی".
ومثل ذلك یقال فی مصطلح السنّة، فمن الوهم المعرفی والخطأ الشائع القول إن المصطلح إشارة إلى سنّة الرسول محمد (ص)، أو أن المصطلح من إفرازات السقیفة، بل هو من مبتدعات الماكنة الإعلامیة الأمویة، أطلق لأول مرة على الذین امتنعوا من سبّ الإمام علی (ع) فی خلافة عمر بن عبد العزیز، فكان الواحد منهم یلتقی صاحبه فی السر ویسأله هل أنت سُنِّی یعنی ممن یعمل بسنّة معاویة فی سب الإمام علی وسبطیه (ع)، وكان الواحد إذا امتنع من السب عمداً أو سهواً التفت إلیه جلیسه وقال له: نسیت السنّة یا شیخ! مما یدل أن اللعن كان یتم بصوت مسموع فی أثناء الصلاة وخارجها!!، ثم استقرت التسمیة تدریجیا، ویعبر الفقیه الكرباسی عن أسفه، لأن: “التسمیتین انحرفتا عن مسمّیهما فقیل لأتباع مدرسة أهل البیت (ع) رافضة ولأتباع المدارس الأخرى سنّة".
الاختبار الصعب
فی الواقع أن حب أهل البیت (ع) والولاء لهم لیس من الأمور الهینة، فالولائی الحقیقی یختبر عند الامتحان، والشاعر الملتزم یبان التزامه عند الملمات والشدائد، ولذلك فلا عجب أن الإنشاد فی حق بیت النبوة من المنازل الكبیرة والمراتب السامقة، ولذلك ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) (ت 148 هـ): (من قال فینا بیت شعر بنى الله له بیتا فی الجنة). وهذه المنزلة صعبة، بخاصة عندما تكون السیوف مصلة على الرقاب، ولهذا لا یخفی الشاعر یوسف بن لقوة الكوفی المتوفى فی القرن الثانی إحساسه فی قصیدة من الخفیف تحت عنوان "مالی مجیر سواهم" یقول فی مطلعها:
أحمد الله ذا الجلال كثیراً … وإلیه ما عشت ألجی الأمورا
إلى أن یقول:
إنّ صرف الزمان ضعضعَ رُكنی … ما أرى لی من الزمان مجیرا
لیس ذنبی إلى الزمان سوى أننی … أحببت شُبّرا وشبیرا
وعلیا أباهما أفضل الأمة … بعد النبی سبقا وخیرا
فعلى حبهم أموت وأحیا … وعلى هدیهم اُلاقی النشورا
فالشاعر هنا لا یبالی إن وقع الموت علیه، وهذه من طبیعة الشعراء الملتزمین الذین یدركون حقیقة الولاء لأهل البیت النبوی (ع) وما یجر علیهم من إبتلاءات، لانهم یؤمنون فی الوقت نفسه أن مآلهم إلى خیر، من هنا فان الشاعر كمیت بن زید الأسدی (ت 60-126 هـ) مات على الولاء شهیدا على ید والی الكوفة یوسف الثقفی، وقد اشتهر بلامیته، عندما أنشدها على الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع)، حیث رفع الإمام (ع) یدیه بالدعاء وقال: (اللهم اغفر للكمیت ما قدّم وما أخّر وما أسرّ وما أعلن وأعطه حتى یرضى)، ووقع الدعاء فی محله، لان الشهادة فی سبیل الحق منزلة عظیمة لا یلقاها إلا ذو حظ عظیم. فاللامیة المعنونة بـ "عجب لا ینقضی" من بحر الطویل، ومطلعها:
ألا هل عم فی رأیه متأمل … وهل مدبر بعد الإساءة مقبل
اختص 15 بیتا منها فی وصف الإمام الحسین (ع) فی معركة الطف وما حل به وبأهل بیته، إلى أن یقول:
كأنّ حسینا والبهالیلُ حوله … لأسیافهم ما یختلی المتبقِّلُ
یخضن به من آل أحمدَ فی الوغى … دماً طُلّ منهم كالبهیم المحجلُ
وغاب نبیُّ الله عنهم وفقدُهُ … على الناس رُزءٌ ما هناك مُجلَّلُ
فلم أرَ مخذولا أجلَّ مصیبةً … وأوجبَ منه نُصرةً حین یُخذلُ
ومن مفارقات الدهر وصروفه، وبعد قرون من الإهمال المتعمد للحكومات المتعاقبة، قررت وزارة الدولة للسیاحة والآثار العراقیة فی عهد ما بعد 9/4/2003م، فی بیان صادر عن رئاسة الوزراء فی العشرین من آذار مارس العام 2007، إجراء مسح لإعمار قبر الشاعر المنسی، الواقع على تل كمیت غرب ناحیة الكمیت على بعد 40 كیلومترا من مركز مدینة العمارة، عرفانا بالجمیل لدور هذا الشاعر الشهید فی الدفاع عن مقدسات الأمة الإسلامیة بعامة والشعب العراقی بخاصة، ودفاعا عن العراق الذی ولد فی كنفه وقدم له أدبه وما یملك، واستشهد على صعیده بسیوف أعدائه التی هوت على بطنه وبقرته حتى مات محتسبا صابراً، وكانت آخر كلماته قبل أن تفیض روحه إلى بارئها "اللهم آل محمد اللهم آل محمد اللهم آل محمد".
سید القرن
ما یلفت النظر فی قصائد الولاء، أن الشاعر إسماعیل بن محمد الحِمیَری المتوفى فی العام 178 هـ كان سید الموقف الشعری فی القرن الثانی الهجری، جاهر بفضائل أهل البیت (ع): "وأعلن مناقبهم دون تهیّب أو تردّد، فلم یدع منقبة وردت إلا ونظمها وكثرة ما فی هذا القرن من شعره یبیّن ذلك"، إذ كانت له 33 مقطوعة شعریة من مجموع 94 مقطوعة لـ 39 شخصیة وقف الشیخ الكرباسی علیها من بین مئات المصادر وأمات المراجع التاریخیة، یلیه عبد الله بن الزبیر الأسدی وله 18 مقطوعة ثم الكمیت وله 6 مقطوعات، وسدیف ابن میمون المكی (146 هـ) وله 5 مقطوعات، وكلا من الشاعر كثیر عزة الخزاعی (105 هـ) وأبو نؤاس الحكمی (198 هـ) ولهما أربع مقطوعات، وتوزعت البقیة بین ثلاث واثنین ومقطوعة أو بیت واحد. كما استدرك المؤلف بمقطوعتین من شعر القرن الأول الهجری. ولعل من أشهر ما یتصف شعر القرون الأولى القریبة من عصر النبوة والإمامة، أنها تترجم أحادیث الرسول أو وقائع حصلت فی عهده، فیأخذ الشعر دوره القدیم فیكون دیوان عهد الرسالة كما كان من قبل دیوان العرب، وهكذا كان شعر الحِمیَری المتصف بالجرأة والشجاعة، ومن ذلك بیتان من البحر الكامل تحت عنوان :نعم الراكبان" یصف طلب أبی بكر من النبی (ص) حمل الحسن أو الحسین لما رآهما والنبی یحملهما، فرد علیه (ص): "نعم المطی مطیهما ونعم الراكبان هما"، فینشد:
مَن ذا الذی حمل النبی برأفة … ابنیه حتى جاوز الغمضاءا
مَن قال نِعم الراكبان هما ولم … یكن الذی قد قال منه خفاءا
أو قصیدة فی وصف ما جرى فی كربلاء أنشدها فی محضر الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) بطلب منه حیث أجلس حرمه خلف ستر فبكى الإمام (ع) وارتفع الصراخ والبكاء من داره، والحمیری ینشد من مجزوء الكامل تحت عنوان "الأعظم الزكیة":
أُمُرر على جدَث الحسیـــ … ـن وقل لأَعظُمه الزكیّة
یا أعظُما لا زلتِ من … وطفاءَ ساكبة رویّة
ما لذّ عیشٌ بعد رضِّكَ بالجیاد الأعوجیّة
قبرٌ تضمّن طیِّباً آباؤه خیرُ البریّة
الوسیلة وأشیاء أخرى
من الأمور التی خضعت للجدال بعد فترة من عصر الرسالة الإسلامیة هی مسألة الشفاعة والتوسل بالنبی وأهل بیته الكرام، ففی حین یقر القرآن الكریم مسألة الوسیلة، بقوله سبحانه فی سورة المائدة: 35: (یا أیها الذین آمنوا اتقوا الله وابتغوا إلیه الوسیلة)، وقوله سبحانه فی سورة الأنبیاء: 28: (ولا یشفعون إلا لمن ارتضى)، غیر أن بعض المدارس الفكریة المتأخرة، حاولت تحت دعوى التوحید نسف مسألة الوسیلة التی مَنّ الله بها على بعض عباده الذین اصطفى، ومنهم النبی محمد (ص) وأهل بیته الكرام (ع) الذین أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهیرا، وأكدتها الروایات والأحادیث. وقد كانت هذه المسألة فی العصر الأول من المسلمات بحیث وردت فی أبیات الشعراء ولم یجدوا فی ذلك حرجا، من ذلك قصیدة للفرزدق (ت 110 هـ) فی مدح أهل البیت (ع) یقول فی بعضها من البسیط:
من معشر حبُّهم دِینٌ وبغضهم … كُفرٌ وقربهم منجىً ومعتصمُ
یُستدفعُ السوءُ والبلوى بحُبِّهم … ویُستدبُ به الإحسانُ والنِّعمُ
مُقدَّمٌ بعد ذكر الله ذكرُهُمُ … فی كل بدءٍ ومختوم به الكَلِمُ
إن عُدّ أهلُ التقى كانوا أئمتهُم … أو قیلَ مَن خَیرُ أهلِ الأرض قیلَ همُ
ومن ذلك قصیدة لأبی نؤاس (ت 198 هـ) فی الشفاعة، من الكامل تحت عنوان "الحصن الحصین" یقول فیها:
مُتمسِّكاً بمحمد وبآله … إن الموفَّقَ مَن بهم یستعصمُ
ثمّ الشفاعة من نبیِّك أحمدٍ … ثم الحمایة مِن علیٍّ أعلمُ
ثم الحسینُ وبعده أولادُه … ساداتنا حتى الإمام المُكتمُ
سادات حُرٍّ ملجأٌ مُستعصَمٌ … بِهم ألوذُ فذاك حِصنٌ مُحكم
ومما تؤرخه المقطوعات، هو لون اللباس الذی كان یرتدیه المعزون بفقد قریب أو عزیز، إذ كان الأسود والأخضر إشارة إلى الحزن والمصاب، وهذا ما نستبینه من قصیدة سیف بن عمیرة النخعی المتوفى فی القرن الثانی الهجری، من بحر الكامل فی مائة وستة أبیات حملت عنوان: جلّ المصاب"، وتعتبر هذه القصیدة من أطول القصائد فی دیوان القرن الثانی أنشأت فی رثاء الإمام الحسین (ع)، یقول الشاعر فی بعض أبیاتها:
إبكِ الحسینَ بلوعةٍ وبعبرةٍ … إن لم تجدها ذُب فؤادك واكثِرِ
وآمزج دموعَك بالدماء وقَلَّ ما … فی حقه حقًّا إذا لم تَنصُرِ
والبس ثیاب الحزن یوم مُصابِهِ … ما بین أسودَ حالكٍ أو أخضرِِ
فعساك تحظى فی المعاد بِشِربةٍ … مِن حوضهم ماءٍ لذیذٍ سُكَّرِِ
بید أن الأقوام عند العزاء تختلف فی ملبسها، فبعض یرتدى الأبیض وآخر الأصفر، ویكثر استعمال الأسود، ویقل استخدام الأخضر، والشاعر یؤرخ لتلك الفترة حیث كان الأسود والأخضر هما اللونان المستعملان عند المسلمین، وبمرور الزمن اختص الأخضر بنسل أهل البیت (ع) والذین یطلق علیه لقب السادة، حیث یضعون فی مجالس العزاء على الإمام الحسین (ع) قطعة خضراء على الكتف أو حول الخاصرة إلى جانب رداء اسود، فیما یكتفی غیرهم بالأسود.
ویصاحب الملبس البكاء، لان البكاء فی واقع الأمر إظهار للحزن الشدید على ما حلّ بالإسلام من قتل سید شباب أهل الجنة (ع)، حیث یمثل البیت النبوی عدل القرآن، وهما وصیة رسول الله (ص) فی أمته، ولهذا أصاب الشاعر جعفر بن عفان الطائی المتوفى حدود عام 150 هـ كبد الحقیقة فی قصیدته من الطویل بعنوان "لیبك على الإسلام"، عندما أنشد:
لیبكِ على الإسلام مَن كان باكیا … فقد ضُیِّعَت أحكامُهُ واستُحِلَّت
غداةَ حُسینٌ للرماح دَریئةٌ … وقد نَهِلَت منه السیوفُ وعَلّتِ
كما تحرى الشاعر خالد بن معدان الطائی المتوفى حدود عام 103 هـ، صدقا فی قصیدته من البسیط المعنونة "جاؤوا برأسك" عندما أنشد:
فكأنما بكَ یا بنَ بنت محمدٍ … قتلوا جهاراً عامدین رسولا
قتلوكَ عطشاناً ولم یترقَّبوا … فی قتلكَ التأویلَ والتنزیلا
ویُكبِّرون بأن قُتلتَ وإنما … قتلوا بك التكبیرَ والتهلیلا
ولذلك فلا عجب أن تمطر السماء دما على الإمام الحسین (ع) كما بكت من قبل على النبی یحیى بن زكریا (ع)، ویخلد الشاعر سیف النخعی هذه الواقعة فی ملحمته "جلّ المصاب":
وعلیه أمطرت السماءُ وقبلُهُ … یحیى دماً وسواهما لم تُمطرِ
بین عصرین یشكل القرن الثانی الهجری علامة فارقة تفصل بین عصرین من حیث الإنتاج الأدبی فی جانبیه المنثور والمنظوم، بین العصر الجاهلی وعصر المخضرمین (من البعثة حتى نهایة عصر الخلافة الراشدة فی العام 40 هـ)، إذ أصاب العربیة اللحن وتهجنت بعض مفرداتها، وكان هذا من آثار اختلاط المسلمین بالثقافات واللغات الأخرى وورود غیر العرب ولحنهم فی اللغة، ولذلك كما یقول المصنف: "فقد بدأت اللغة العربیة تشعر أنها لم تعد على أصالتها الأولى بل امتزجت بمفردات جدیدة بدأت تنعكس على الأدب العربی" ولذلك ضعف الاستشهاد بقول الشاعر فی بیان اللغة وقواعدها وآدابها: "فكان أن انتهت فترة الاحتجاج بقول الشاعر بعد بشار بن برد المتوفى عام 168 هـ"، لكن القرآن الكریم ظل هو المعین الذی لا ینضب والذی لن یتسنّه ماؤه.
ویستظهر المحقق الكرباسی من مجمل دیوان القرن الثانی الهجری أمور عدة، أهمها:
أولا: غلب الاتجاه السیاسی على الكثیر من القصائد، وبخاصة لدى الكمیت بن زید الأسدی الذی یمثل فی هذا الجانب وبحق فارس الحلبة.
ثانیا: غلبت صبغة المعارضة والتمرد على الواقع السیئ، على الكثیر من القصائد، بخاصة وان القرن شهد تحولات سیاسیة خطیرة كان السیف هو الحاكم فیها والدماء تسیل من تحت شفرتیه، وكان الشاعر منصور بن سلمة النمری فارس المیدان فیه.
ثالثا: سعى شعراء الولاء إلى تخلید كل منقبة لأهل البیت وردت فی القرآن أو على لسان النبی محمد (ص) إلى قصائد، لتخلید تلك المناقب والمكارم، وكان الشاعر إسماعیل بن محمد الحِمیَِری سید الموقف. رابعا: ولأن النهضة الحسینیة تتجدد، فان باب الرثاء ظل مفتوحا للشعراء على مصراعیه، وقد أبدع فیه عدة من الشعراء، كالنمری والحِمیَری، واشتهر الشاعر سلیمان بن قتة التمیمی الدمشقی بقصیدته المعنونة "وإنّ قتیل الطف"، ومطلعها:
مررتُ على أبیاتِ آلِ محمدٍ … فلم أرَها أمثالَها یومَ حُلَّتِ
وأخیرا
لا یخلو أی مجلد من مجلدات دائرة المعارف الحسینیة البالغة نحو 600 مجلد وصدر منها حتى الیوم 34 مجلدا، من فهارس قیّمة فی أبواب كثیرة، تختلف من مجلد إلى آخر حسب الباب الذی یطرقه الكاتب، وفی هذا الدیوان، نتابع من خلال: فهارس المتن: فهرس الأعلام والشخصیات، القبائل والإنسان والجماعات، القوافی والروی، البحور والأوزان. ونتابع فی فهارس الهامش: فهرس الأبیات وأنصافها، التأریخ، الناظمین والشعراء، الأعلام والشخصیات، القبائل والأنساب والجماعات، اللغة. وفی الفهارس المشتركة بین المتن والهامش، نتابع: فهرس الآیات المباركة، الأحادیث والأخبار، الأمثال والحكم، مصطلحات الشریعة، المصطلحات العلمیة والفنیة، الطوائف والملل، الوظائف والرتب، الآلات والأدوات، الإنسان ومتعلقاته، الحیوان ومتعلقاته، النبات ومستحضراته، الفضاء ومتعلقاته، الأرض ومتعلقاتها، المعادن، الأماكن والبقاع، الزمان، الوقائع والأحداث، المؤلفات والمصنفات، المصادر والمراجع، مؤلفی المراجع، وفهرس الخطأ والصواب. وفی سبیل أن یقف القارئ على وجهات نظر غربیة واستشراقیة للنتاج الشعری الولائی فی القرن الثانی الهجری، ختم الدكتور محمد صادق الكرباسی كتابه بقراءة نقدیة للدكتور بیار جون لویزارد، وهو مستشرق فرنسی مسیحی المعتقد، باحث فی المركز الوطنی للأبحاث والعلوم، وبروفیسور فی المؤسسة الوطنیة للغات الشرقیة، قال فیه: "وفی هذا العصر – القرن الثانی للهجرة- حیث المشاعر العلویة كانت متوهجة، كما تؤكد على ذلك الحركات المناوئة للأمویین والعباسیین، لم یصلنا إلا القلیل من ذلك الشعر الذی نظم فی رثاء الإمام الثالث، وما وصلنا فهو تصور فیه مشاعر المحبة تجاه حفید النبی"، وعبر عن كبیر تقدیره للجهد المبذول فی الكتاب، ذلك: "أن العمل الموسوعی للشیخ محمد صادق محمد الكرباسی یبدو مدهشا، حیث أثمرت جهوده من خلال القصائد التی كان من الصعب جمعها وتقدیمها بإخراج الموضوع إخراجا رائعا".
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:7|