ابزار وبمستر

لوركا قتیل اسبانیا المرتحل فی شعر السیاب والبیاتی ودرویش (2-2) - قصائد لمدن مسحورة تشهد علی مصرع شاع
لوركا قتیل اسبانیا المرتحل فی شعر السیاب والبیاتی ودرویش (2-2) - قصائد لمدن مسحورة تشهد علی مصرع شاعر - د. عدنان الظاهر
فیدیریكو غارسیا لوركا شاعر إسبانی متمیز قتله الحرس الأسود الفاشی عام 1936 وهو فی الثامنة والثلاثین من عمره فی غرناطة آوائل الحرب الأهلیة (1936 ــ 1939) التی قاد الثورة المضادة فیها الجنرال فرانكو إذ نجح فی عبور مضیق جبل طارق من جهة المغرب یقود أربع فرق عسكریة وكان یقول لدیَّ هناك داخل إسبانیا طابور خامس. من فرانكو جاء هذا المصطلح الذی أصبح شهیراً فی عالمی السیاسة والحرب.كان لوركا محسوباً علی الیسار السیاسی وكان معادیاً للدكتاتوریة. أشهر أعماله مسرحیة (عُرُس الدم). تمیّز بطریقة جدیدة فی كتابة الشعر تمتزج فیها رمزیة وسوریالیة شعراء عشرینیات القرن الماضی الفرنسیین المعروفین مع أسلوب كتابة الحكایات التراثیة الشعبیة الأندلسیة.كما كان له هوی خاصاً بتراث وأغانی غجر الأندلس. الفارس وغریمه
فی المقطع الرابع ینسی البیاتی غرناطة المدینة المسحورة فینصرف مأخوذاً إلی وصف واحدٍ من مشاهد مصارعة الثیران المعروفة فی إسبانیا. لقد سبق وأن مهّد الشاعر لذلك فی المقطع الأول، فلقد ذكر أنكیدو قاتل الثور السماوی. فی هذا المقطع نری أنكیدو لا جسداً بارداً طریح فراش الموت بل إنساناً معدّاً إعداداً جیداً لمصارعة الثیران. لكن مع فارق جدَّ كبیر: یطعن الفارسُ غریمَه البهیمة طعنةً غیر قتّالة، لكنه هو، الفارس أنكیدو، من یخسر المبارزة فی نهایة المطاف إذ یسقط قتیلاً مضرجاً بدمائه الساخنة. الثور یخور جریحاً فی الساحة وسط تهریج جمهور المتفرجین. هل سقط الثور كالفارس المصارع قتیلاً؟ السطر الأخیر فی هذا المقطع لا یفصح عن ذلك صراحةً (والثورُ فی الساحةِ مطعوناً بأعلی صوتهِ یخور). فالفعل یخور قد یعنی الخوَر (تخورقواه فیسقط علی الأرض حیّاً لكنْ منهوك القوی أو أن یسقط میتاً) وقد یعنی الخُوار (خوار الثور، مثل عواء الكلب ومواء القطط...). فی وسط هذا المقطع نقرأ (فمانِ أحمرانِ فاغرانْ) وهی إشارة واضحة تدل علی سقوط كلٍّ من الفارس والثور الخصم قتلی.
هل یجوز لی أن أُطلق علی هذا المقطع إسم (مشهد مصارعة الثیران)؟ وهل یجوز لی أنْ أقترح حذف هذا المقطع من مجمل القصیدة المكرّسة أصلاً للشاعر الفذ لوركا؟ أُرجّحُ بقاء المقطع كما هو، فلوركا إبن إسبانیا وإسبانیا أرض مصارعة الثیران العنیفة التی تسیل فیها دماء الثیران أو الفرسان أو كلیهما أحیاناً. أراد البیاتی أن یقولَ إن بلداً كهذا وإن أرضاً كهذه وإنَّ شعباً كهذا مُهیأةٌ بطبیعتها لوقوع كارثة إنقلاب الردة الدمویة التی وقعت عام 1936 وكان من أبرز ضحایاها الشاعر فیدیریكو غارسیا لوركا. اللوحة تمثّلُ خلفیةً ممتازة وتمهیداً لما وقع وكان البیاتی بحق بارعاً فی رسم صور مشهد مصارعة الثیران. یُخیل لی أن البیاتی أفاد كثیراً من رسوم لوحة الرسّام الإسبانی بیكاسو الشهیرة (غیورنیكا) التی خلّد فیها بالأسود والأبیض مأساة مدینة غیورنیكا التی دمرتها الطائرات الألمانیة خلال الحرب الأهلیة إیاها التی أشعل فرانكو فتیل حرائقها. لقد أعان بذلك هتلر قرینه الجنرال فرانكو. فی هذه اللوحة یقف ببرود ثور كبیر مثل ثیران المصارعة كأنه خرج لتوّهِ منتصراً وسط وضعٍ متوتر مشحون بأجواء الموت والخراب والدمار. سیف مكسور وأصابع مقطوعة ورؤوس مشوّهة وأم تحمل طفلاً تبحث عن الأمل والخلاص فی بصیص من ضوءِ مصباحٍ معلّق فوق الرؤوس. هل هذا الثور البارد الأعصاب هو الجنرال الدموی فرانكو بعینه؟ الثور الذی فاز بمعركة الصراع وخرج منتصراً علی شعب بأكمله بعد أن أغرقه بالدماء والموت والحرائق. أین مكان الشاعر لوركا فی هذه اللوحة؟ أین لوركا صاحب مسرحیة (عُرُس الدم)؟
إذا قتل الشاعر دیك الجن حبیبته وأحرق جثتها فی ساعة سكرٍ وجبل من رمادها كأساً
لشرابه فإن لوركا ما كان حبیباً ولا كان أثیراً لدی قاتله فرانكو كما هو معلوم.لم یُحرقْ جثمانُه ولا أحدَ یعرف أین تمَّ دفن جسده وتحت أیة تربةٍ فی غرناطة. إذن لا سبیلَ للمقارنة أو المقابلة بین الواقعتین. قصیدة (دیك الجن) جاءت فی الدیوان بعد مراثی لوركا مباشرةً.
مرّةً أخری، نواجه فلسفة البیاتی وإیمانه القوی الراسخ أنَّ بعض مظاهر الطبیعة ووقائع الحیاة تتكرر بهذا الشكل أو بذاك. النتیجة واحدة وإنْ تعددت وتنوّعت الوسائل والتفصیلات. فكما أنَّ عائشة تبقی عائشة، المرأة حواء وإبنة حواء بصرف النظر عمّا تقوم به من أدوار.كذلك الموت، یبقی موتاً مهما تعددت سبل تنفیذه، سواء جاء نتیجة طعنة سیف أو خنجر أو جاء نتیجةً لطعنةٍ بقرن خنزیرٍ أو ثور أو بإطلاقة حرسٍ فاشیٍّ أسود أو بشظیة قنبلة مدفع أو برصاصة عدو فی إحدی جبهات القتال أو أن یموتَ الإنسانُ حتف أنفه فی بیته علی سریر نومه أو علی سریر أحد المستشفیات. وعلیه فإنّ الموت هو سریر واحد یضطجع علیه مناصفةً كلٌّ من لوركا القتیل وعشیقة دیك الجن القتیلة.
أفلم یقل شاعر مجهول:
ومن لم یمتْ بالسیفِ مات بغیرهِ
تعددت الأسبابُ والموتُ واحدُ
وقال أبو الطیب المتنبی:
فطعمُ الموتِ فی أمرٍ حقیرٍ
كطعمِ الموتِ فی أمرٍ عظیمِ

یتكلم البیاتی فی المقطع الأخیر وهو السادس عن المدن التی أخلفت المدینة المسحورة غرناطة. إنه یضع المدن الأكثر سوءاً فی مقابل المدن الأكثر نقاءً وجمالاً. فمدرید أضحت عاصمة الدیكتاتور فرانكو بعد أن سقطت مدینة النور غرناطة. مدرید التی إنبطحت أمام جحافل الفاشیست أصبحت مدینة (الضرورة) التی تقرض الفئرانُ فیها الرجال الذین یتشوهون ویتلوثون لا محالةَ فی أوساخ مثل هذه المدن وبما أتی به الطوفان من أعراف
وتقالید لا تمتُّ بصلةٍ لأعراف وتقالید مدینة النور المسحورة. لقد قابل المدینة الرأسمالیة الجدیدة مدرید برمزٍ لمدینة وحضارةٍ كانت تسیر فی الطریق لبناء الإشتراكیة، وكان لوركا محسوباً علی الیسار الإشتراكی.
فی هذا المقطع یتلمس المرء خیوطاً ضعیفة متأثرة بما كتب الشاعر الإنجلیزی توماس إلیوت فی قصیدته الشهیرة (الأرض الخراب) The Waste Land.
درویش ولوركا
لوركا هو عنوان قصیدة محمود درویش، كلمة واحدة فقط، كلمة بسیطة. القصیدة تنتشرُ علی أربع صفحات صغیرة (نفس قیاس صفحات دیوان السیاب) جعل الشعر فیها علی شكل رباعیات ذكر فیها مدرید مرتین ولوركا ثلاث مرات وكذا ذكر إسبانیا ثلاث مرّاتٍ. وكسابقیه الشاعرین إلتزم درویش إیقاع التفعیلة ودرج مثلهما علی الوقوف علی القوافی وآواخر الأبیات أو السطور إلاّ فیما ندر من الحالات.
هل ظلمتُ الرجل إذ وضعته فی صف واحدٍ وعلی منصّة واحدة من حیث الإرتفاع عن مستوی الأرض مع السیابالسیاب والبیاتی شدیدَ الإعجاب بقصیدة محمود درویش. نعم، وبقیتُ كذلك بعد أن فرغت من دراسة هاتین القصیدتین. وجدته یتخذ لنفسه فی هذه القصیدة مكاناً لائقاً فی ذات الحافلة التی یستقلها مع السیاب والبیاتی. ولكی نتفهم قصیدته جیداً علینا أن نفهم أنَّ ظروفه وتكوینه وثقافته تختلف بشكل جوهری عن ظروف وتكوین وثقافة الشاعرین الآخرین. ما كان علیلاً ومنبوذاً ومحُارباً فی رزقه ولقمة أطفاله وقبیح الصورة كالسیاب الذی كان أشدهم معاناة وأكثرهم بؤساً فی حیاته القصیرة. ولا كان فقیراً مُدقِعاً شدید التلوّن السیاسی كالبیاتی الذی ذاق الحالین فی حیاته الطویلة: المُرَّ فی موسكو والحلو فی القاهرة ومدرید وعمّان ثم دمشق حیث یرقد جثمانه تحت ثراها.
تشرّدٍ وحرمان ومنافٍ
لقد رأی كلٌ منهم شیئاً من لوركا فی نفسه أو رأی شیئاً من نفسه فی لوركا. ثلاثتهم شعراء إنخرطوا بهذا الشكل أو ذاك فی العمل السیاسی وتحمّلوا جرّاء ذلك ما تحمّلوا من فصل من الوظائف وتشرّدٍ وحرمان ومنافٍ. لكن یظلُ درویش متمیزاً بأمور كثیرة أخری تباعد ما بینه وبینهما. فهو ربیب حیفا المُترف وشاعر فلسطین المبرِّز ومدلل الشعراء العرب والنخبة العربیة المثقفة، وهوالمناضل الثابت من أجل فلسطین سیاسةً وعقیدةً.لم ینقلبْ ولم یتلون ولم یتغیر كما فعل صاحباه. عانی ما عانی فی بیروت بعد الإجتیاح الإسرائیلی للبنان. ثم أصبح بعد ذلك أحد الوجوه البارزة فی منظمة التحریر الفلسطینیة وسفیراً لفلسطین فی باریس.كل هذه العوامل مجتمعةً تجعله مختلفاً عن صاحبیه فی أسلوب التعامل مع موضوع تراجیدی معقد كموضوع مصرع لوركا. لا یقل عن ذلك أهمیةً موضوع المرأة فی أشعاره. فبیئته المنفتحة فی حیفا وصداقاته المنوعة مع الجنس الناعم ثم إقامته الطویلة فی بیروت ثم سفارته فی باریس عاصمة الثورات والعطور والجمال والمتاحف والزهور والأناقة والترف الحضاری... كل هذه العوامل جعلت الشاعر دونما أدنی ریب مخلوقاً آخر یختلف جذریاً عن السیاب الذی كان یشكو أبداً من الحرمان الجنسی وحین تزوج قرینته أم غیلان لم یعرف إمرأة أخری سواها. وكذلك كان الأمر مع عبد الوهاب البیاتی، فقد قضّی أعوام شبابه الباكر وأعوام الدراسة فی دار المعلمین العالیة من دون أن یعرف طعم الحب أو الصداقة مع الجنس الآخر. فی شعره نجد إشاراتٍ كثیرة عن الحب لكنها مجرد نظم وتلفیق (وشطحات صوفیة) وبقایا أمانی سنیِّ المراهقة. وحین إقترن بإبنة عمه أم علی لم یعرف إمرأةً سواها علی الإطلاق. أردتُ أن أقول إنَّ روح وتربة وطینة محمود درویش ونشأته وبیئاته الرقیقة والناعمة والأرستقراطیة أحیاناً أعدّته لأن یكون شاعر رومانس وفتنة وجمال وغزل متمیزاً ومتفوقاً علی صاحبیه. هل من عجب حین نجد الشاعر یمزج هذه الأجواء المخملیة بألفاظ العنف والخروج عن (الأتیكیت) الدبلوماسی الذی تعلّمه فیما بعد فأتقنه فی باریس سفیراً لبلده فلسطین؟ نقرأ فی قصیدته ألفاظاً مثل الدم والزلزال والإعصار والریاح والزئیر وتطایر أحجار الشوارع والنظر الشزْر والأسیاف والجرح والإعدام. عاش وعایش درویش كارثة إحتلال فلسطین ومحنة شعبه تحت الإحتلال والتفرقة والتعسف. ترك أو أُجبرَ علی ترك وطنه لیجد نفسه بعد ذلك فی بیروت محاطاً بالدماء والخراب والقصف العشوائی والموت الیومی أثناء الإجتیاح الإسرائیلی عام 1982. هل كان الشاعر یتنبأ بما سیقع فی لبنان ساعات كتابته لهذه القصیدة فأفرغ فیها تفاصیل نبؤته وإختلط فیها الماضی الجمیل العریق بالمستقبل المظلم الأسود حیناً والأحمر دماً أحیانا؟ هذا ما حصل. نقرأ أغلبَ ما جاء فی قصیدة (لوركا) لمحمود درویش:
(عفوَ زهرِ الدم یا لوركا وشمسٌ فی یدیكْ
وصلیبٌ یرتدی نارَ قصیدةْ
أجملُ الفرسانِ فی اللیلِ یحجّون إلیكْ
بشهیدٍ وشهیدةْ.
هكذا الشاعرُ زلزالٌ وإعصارُ میاهْ
وریاحٌ إنْ زأرْ
یهمسُ الشارع للشارعِ قد مرّت خطاهْ
فتطایرْ یا حجرْ.
القصیدة واضحة تفصح بتواضع جمٍّ عن مضامینها. إنها خالیة من بُنی السیاب الفكریة المعقدة والتجرید والتضمین والتقدیم والتأخیر وشراع كولومبس. ولا نجد فیها إستطرادات البیاتی وخلطه الأوراق المحكم وتهویماته الصوفیة وإفراطه فی الرمز والرجوع إلی التأریخ القدیم سائحاً وبحاراً ممتازاً. لیس فیها أنكیدو وعشتار وعائشة وأمیرات بابل وصور مصارعة الثیران وقائمة الحیوانات الطویلة. لا شیءَ من ذلك فیها. إنها أُغنیة تصدح بالنغم والإیقاعات التی تدخل النفس بسهولة وعفویة. یتكلم عن شاعر قتیل من خلال أجواء دینیة مسیحیة (الصلیب) والتراتیل ثم یذكر الإله والموسیقی والحج والشهادة والصلاة والأقمار. أجواء وطقوس كنسیة معروفة فی البلدان المسیحیة وكان لوركا مسیحیاً فی إسبانیا الكاثولیكیة.لقد قاد فرانكو إنقلاب الردة الأسود بدعوی إنقاذ المسیحیة الكاثولیكیة من الإلحاد.
والبیاتی لأقارن بین ما قال هو وما قال الشاعران الآخران حول موضوع واحد؟ الجواب كلاّ. الغریب ــ وما أكثر الغرائب فی الحیاة ــ إنی كنت قبل أن أدرس قصیدتی الفرسان والقمر
ثم لا ینسی درویش وقد ذكر الموسیقی والتراتیل أن یذكر آلة العزف الإسبانیة المشهورة (الجیتار) والغجر الذین یستخدمون هذه الآلة فی غنائهم المرافق لرقصة (الفلامنكو) الأندلسیة ذائعة الصیت. ثم تعود عروق محمود بالضرب علی أوتار روحه وطبیعته الرومانسیة فیذكر أجمل الفرسان والقمر ــ العُش والحسناء وحدیث الحب وأجمل الفتیان وعطر زهر البرتقال.لم نجد هذه الأجواء الفارهة فی قصیدة السیاب لكن قد نجد القلیل القلیل جداً جداً منها فی قصیدة البیاتی. أحسبُ أنَّ المحاكمة الأكثر عدلاً هی فی مقارنة هذه القصیدة بالذات مع أشعار نزار قبانی التی قالها عن إسبانیا والأندلس وغرناطة وقصر الحمراء وهی كثیرة فی دواوین نزار. لیس لدی شك فی أنَّ درویش قد درس جیداً وإستوعب أشعار نزار هذه وتمثلها وهضمها فتأثر بها عمیقاً قبل أن یجلس لیكتب قصیدة (لوركا). الرجل لا ینكر تأثره بباقی الشعراء، وتلكم فضیلة یُحمد علیها.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:8|