الجلال والجمال فی شعر ابن عربی
- د. محمد علی آذرشب *
- د. محمد علی آذرشب *
مقدمات
یمثل ابن عربی قمة من قمم العرفان فی تاریخنا الإسلامی، وأودّ قبل الدخول فی أدب ابن عربی أن أشیر إلى بعض الملاحظات بشأن العرفان والأدب لتكون مقاربة لما أبتغی تقدیمه فی هذا المقال.
1- العرفان - الناس.
ابتلی معظم قادة الفكر وأصحاب الكلمة فی عالمنا الإسلامی منذ فترة مبكرة بالابتعاد عن الناس، وشاع فقه السلطة الذی یبرر للحاكم كلَّ ما یمارسه من ظلم وتسلط واستبداد، وأصبح أكثر أصحاب المدارس الفكریة وكتّاب التاریخ والفقه والحدیث یمارسون أعمالهم لخدمة السلطة، وأضحى لهم من المكان والجاه ما جعلهم یتنافسون على التقرب من السلطان، على حساب ترك عامة الناس یكابدون ویعانون ویكدحون ویجوعون ویقتلون ویسجنون دون أی اهتمام بمعاناتهم،بل وأكثر من ذلك عملوا على تبریر ما ینزل بهم باعتباره قضاءً وقدراً لیس لهم أن یعارضوه.
وإلى جانب هذا التوّجه كان هناك التوجّه الإسلامی الأصیل الذی اهتمّ بالناس، فكان فقهه فقه الناس، وكانت حركته للدفاع عن الناس، وعن كرامتهم وعزّتهم وشخصیتهم. وتمثّل هذا الاتجاه بالدرجة الأولى بمدرسة أهل بیت رسول الله (ص).
فكان دعاة هذه المدرسة یقدمون من الفكر والفقه ما ینفع الناس، ویتحركون لتحریر الناس من عبودیة الطاغوت والشهوات تحقیقاً لعزتهم وكرامتهم. والطریف أن الحركات المنحرفة التی أرادت أن تستقطب الجماهیر مثل حركة الزنج والقرامطة رفعت هی أیضاً شعارات الدفاع عن مدرسة أهل البیت لعلمها بما فی هذه الشعارات من دوافع تستحث الجماهیر على الحركة وتستقطب عواطفها.
والعرفان نشأ فی أحضان مدرسة الناس، نجد جذوره الأولى فی "نهج البلاغة" و"الصحیفة السجادیة" وخطب "مجموعة كربلاء" وتعالیم "الصادقین"، ثم انتشر وتبلور بین "الناس" بعیداً عن توجهات السلاطین. واستمرّ مع الناس یربیهم ویرفعهم ویسمو بهم، ویصونهم من السقوط والهزیمة والاستسلام للواقع الفاسد.
ونرى العرفاء یعلنون على مرّ التاریخ ولاءهم لآل بیت رسول الله (ص)، ومن ذلك قول ابن عربی یرویه عنه القاضی نور الله الشوشترى فی كتابه مجالس المؤمنین:
على رغم أهل البُعد یورثنی القربى *** رأیت ولائی آل طه وسیلة
بتبلیغه إلاّ المودة فی القربى *** فما طَلَبَ البعوث أجرا على الهدى
العرفان إذن مدرسة الناس التی تأبى أن تجعل درجات كرامة الناس مرتبطة بما یملؤون به أذهانهم فی المدارس
یقول الإمام الخمینی:
جوت به عشق أعدم از حوزه عرفان، دیدم
أن یه خواندیم وشنیدیم، هن باطل بود
2- العرفان - العزّة
الدعوة إلى الارتباط بالله هی دعوة إلى التحرر من العبودیة لما سوى الله، هی دعوة للترفع عن السقوط فی عبودیة المال والشهوة والسلطة والجاه، من هنا یستشعر الإنسان عزّته فی كنف الله: (من كان یرید العزّة فلله العزّة جمیعاً) سورة فاطر 35/10، (أیبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جمیعاً) سورة النساء 4/139، (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنین) سورة المنافقون 63/8، من هنا فإن جماعة الفقراء لا یلینهم الطمع، ولا یفلّ ساعدهم المتاع، ولا تدق أعناقهم فضول العیش.
یقول ابن عربی:
أنا عزّ العزّ ما ملكت *** نفسی ذات الذلّ والعدم
(دیوان/ 23)
ویقول عن عزّة حسامه، وهی كنایة عن دفاعه المستمیت عن عزّته:
نصبت حساماً للردى فی فرنده *** شعاع له بین الفریقین فیصل
حملت به لا أرهب الموت والردى *** ولا أبتغی حمداً له النفس تعمل
ولكن لیعلو الدین عزّا وشرعنا *** إلى موضع منه الطواغیت تسفل
\(الدیوان /67)
هذه العزّة هی التی جعلت جماعة العارفین تسترخص الحیاة للدفاع عن أوطانها أمام الغزاة فی مختلف العصور، جدیر بالذكر أن زعماء الثورات وحركات المقاومة فی العصر الحدیث ینتمون بدرجة وأخرى إلى مدارس العرفان، ولا أدل على ذلك من ضجیع ابن عربی فی مثواه الأخیر الأمیر عبد القادر الجزائری، والإمام الثائر) الثانی روح الله الموسوی الخمینی.
3- العرفان - النفس
"النفس البشریة، التی تمثل جانب الطین والصلصال والحمأ المسنون تقف دائماً أمام تجلی نفخة رب العالمین فی هذا الموجود البشری، والعرفاء تحدثوا كثیراً عن هذا التعارض. ونفخة رب العالمین تتجلّى فی العشق، ولا یكون الإنسان عاشقاً إذا كان غارقاً فی "الذاتیة"، ولا یرى الإنسان وجه الحقیقة إذا كان راسفاً تحت ركام ذاتیته المستفحلة.
وكل الذین عشقوا فأبدعوا فی جمیع العلوم والفنون أناس تخلّصوا من ذاتیاتهم الضیقة وانطلقوا إلى رحاب نفخة رب العالمین فیهم سواء كانوا تحركوا عن قصد فی هذا الانطلاق أم عن دون قصد.
من هنا فكل المبدعین فی الدنیا وكلّ من برزت مواهبهم فی مجال من المجالات هم أناس تحرروا بدرجة وأخرى من ذاتیاتهم فعشقوا وخطوا خطوات على طریق العرفان.
لا یمكن لأصحاب الآثار الفنیة والعلمیة والأدبیة الخالدة إلاّ أن یكونوا عاشقین، وهم فی عشقهم دخلوا ساحة العرفان شاؤوا أم أبوا.
فالعرفان أساس كل ابتكار خالد وفن ساحر.
العرفان هجرة الإنسان من نفسه إلى معشوقه، یقول الإمام الخمینی:
هجرت ازخویش غوده سوى دلدار رویم
واله شمع رخش كشته وبروانه شویم
ویخطئ من یظنّ أنه مبدع أو مبتكر أو فنان أو أدیب ممتاز إذا كان یتحرك من أجل ذاته وشهرته وماله لا یمكن للمواهب أن تسجّل عطاءها إلاّ إذا كان العشق حادیها. ولا یمكن أن یكون الإنسان عاشقاً إذا كانت قبلته ذاته ونفسه، فلیترك مثل هذا الإنسان الطریق للعشاق ولیكف عن تقوّل العشق.
یقول الإمام الخمینی:
سَرِ خودكیر وره عشق به رهوار سیار
كر ندارى سرِ عشّاق وندانی ره عشق
وما أجمل الشاعر العربی الذی عبّر عن هذه الحقیقة بلغة شعریة عامیة مغنّاة أطربتنا أیام الشباب إذ قال:
حبّ إیه اللی انته جای تقول علیه
أنت عارف قبل معنى الحبّ إیه
كان هواك خلاّك ملاك
إنت لو حبیت یومین
لیه بتتجنه كده عالحبِّ لیه
ویعبر الإمام الخمینی عن تجاوز العارف لذاته حین یدخل فی عالم العرفان والعشق فیقول:
جسم بیمار ترادیدم وبیمار شدم
من به خال لبت أی دوست كرفتارسدم
همجو منصور خریدارسر دارشدم
فارغ ازخودتشدم وكوس "أنا الحق" بزدم
4- العرفان - الأدب
الأدیب الممتاز مثل كلّ فنان ومبتكر ممتاز عاشق یخرج من إطار ذاتیة الطین لیرتفع إلى عمق هذا الكون، مع اختلاف بین الأدباء فی درجة هذا العشق حسب مستوى هذا الأدیب أو ذاك.
فالأدیب إذن عارف، ویستطیع فی لحظات توهّج مشاعره أن یرتبط بعالم أسمى من هذا العالم المادیّ المحدود فیقدّم لنا تجربة شعوریة خالدة ینقلها لنا شعراً أو نثراً ذا تأثیر خالد فی المستمع والقارئ.
والشعر بالذات یعبّر أفضل تعبیر عن مفهوم الأدیب لأنه "الفناء المطلق بما فی النفس من مشاعر وأحاسیس وانفعالات، حین ترتفع هذه المشاعر والأحاسیس عن الحیاة العادیة، وحین تصل هذه الانفعالات إلى درجة التوهج والإشراق أو الرفرفة والانسیاب على نحو من الأنحاء.." (النقد الأدبی/ 57)
من هنا نستطیع أن نفهم سبب انتشار لغة الشعر عند العرفاء، لأن اللغة العادیة لا تستطیع أن تعبّر عن توهّج المشاعر، فلابد أن تصحبها الموسیقى والخیال والظلال لكی تستطیع أن تنقل الشحنة العاطفیة المتراكمة فی نفس العارف.
الجلال والجمال
كثر الحدیث عن معنى الجلال والجمال وعن ارتباط الاثنین مع ما بینهما من تضاد على الظاهر، فالجلال مظهر الغلبة والقهر والقدرة، والجمال مظهر اللطف والرحمة. وهو كلام طویل لا طائل تحته، لأن الإنسان العاشق یرى دائماً فی معشوقة الجلال والجمال. قال الشاعر العربی:
أهابك إجلالا وما بك قدرة *** علیّ ولكن ملء عین حبیبها
وقال آخر:
یصرعن ذا اللب حتى لا حراك به *** وهن أضعف خلق الله إنسانا
ویذكر ابن عربی أنه ما ذاق فی نفسه القهر الإلهی قط ولا كان له من هذه الحضرة فیه حكم. (الفتوحات 4/316).
ولكنه هو یذكر فی فصّ الآدمی (ص54):
"إن الحق وصف نفسه بأنه ظاهر وباطن، فأوجد العالمَ عالمَ غیب وشهادة، لندرك الباطل بغیبنا، والظاهر بشهادتنا.
ووصف نفسه بالرضا والغضب، وأوجد العالم ذا خوف ورجاء فتخاف غضبه وترجو رضاه. ووصف نفسه بأنه جمیل وذو جلال، فأوجدنا على هَیبة وأُنس، فعبّر عن هاتین الصفتین بالیدین".
ویرى ابن عربی أن التجلی الإلهی للبشر لا یكون إلاّ فی جلال جماله یقول: "ولحضرة الجلال السُبُعات الوجهیة المحرقة، ولهذا لا یتجلى فی جلاله أبداً، ولكن یتجلى فی جلال جماله لعباده، فیه یقع التجلّی، فیشهدونه مظهر ما ظهر من القهر الإلهی فی العالم" (الفتوحات 3/543).
وكما ذكرت إن الجلال والجمال مترابطان، إذا تجلّى الجمال ملك شغاف القلب وقهر العاشق، وخلق فی نفسه هیبة ورهبة ووجلا. فالإنسان العاشق دائماً بین خوف ورجاء یعتوران فی قلبه فیزداد اندفاعاً نحو طلب رضا المعشوق وتحقیق المُثُل التی یطلبها المعشوق.
وفی الأدب العرفانی الفارسی یشبّهون صباحة وجه الحبیب بتجلّی الجمال، ویشبهون ذؤابة شعر المعشوق على صدغیه وسحر عیونه النجلاء بتجلّی الجمال. یقول الشاعر:
تجلّى كَه جمال وكَه جلال است
رخ وزلف أن معانی امثال است
ومما لاشك فیه أن صباحة وجه الحبیب لا تكتمل إلاّ بعقارب الصدغین وسحر العینین، وهكذا الجمال لا یكتمل إلا بهذا السحر الذی یصرع ذا اللب حتى لا حراك له.
وبمناسبة قول ابن عربی بأن الله "جمیل ذو جلال، فأوجدنا على هَیبة وأنس، فعبّر عن هاتین الضفتین بالیدین" أقول إن الإمام الخمینی یتحدث عن هذه الید فی أشعاره بأنها الید اللطیفة معبراً عن الجلال بالید باعتبارها رمز القدرة، وعن الجمال باللطیفة. یقول:
باده ازدست لطیف تودراین فصل بهار
جان فزاید، كن در این فصل بهار أمده ام
لماذا ینشد الإنسان الجمال؟
عن هذا السؤال كثرت الأجوبة فی المدارس الفلسفیة، غیر أن ابن عربی ینقل عن رسول الله (ص) حدیثاً له دلالته البالغة فی التعبیر عن النظریة الجمالیة لدى هذا العارف، وفی الإجابة عن السؤال المذكور.
فی الفتوحات (ج4، ص369) یروى عن صحیح مسلم قوله (ص): "إن الله جمیل یحب الجمال"
فالله جمیل وهذا كاف لیعبّر عن سبب اتجاه الإنسان نحو الجمال، وهكذا نحو كل صفات جلال الله وجماله كالعلم، والقدرة، والسعة، والغنى، والكرم، والانتقام من الظالمین، ونصرة المظلومین، والقهر، والغلبة و...
فالإنسان مخلوق بفطرته لكی یكدح كدحاً نحو الله لیلاقیه، والكدح نحو الله لیس قطع مسافة مكانیة، بل قطع أشواط على طریق التخلق بأخلاق الله. هذه هی فطرته التی فُطِر علیها، إنه یتجه بفطرته نحو المثل الأعلى، فإن كان مؤمناً بالله الواحد الأحد اتجه نحو المثل الأعلى الحقیقی الذی خلق الإنسان ورسم له طریق تكامله اللامتناهی، وإن كان كافراً اتجه أیضاً نحو مثل أعلى، ولكن نحو مثل أعلى سرابی:
مثل الذین كفروا ...
الإمام الخمینی فی شعره العرفانی یعبّر عن هذه الحقیقة.. حقیقة أن الإنسان مخلوق وهو عاشق هائم فی طلب المعشوق بقوله:
مازاده عشقیم ویسر خوانده جامیم
درست وجابنازی دلدار تمامیم
5- العرفان والغزل
الغزل إظهار الشوق إلى المحبوب، والحدیث عن لوعة فراقه، وذكر أوصاف جلاله وجماله، وإذا تحدّد هذا المحبوب بامرأة معینة فإن هذه المرأة هی الوسیلة التی ینتقل منها المتغزل من النسبی إلى المطلق، وهی النافذة التی یطلّ منها الغزلیّ إلى عالم الجمال المطلق.
مما تقدم لا نرى الوصف الحسّی للمرأة وذكر العلاقة الجنسیة بها من الغزل، لأنه یتعارض مع روح الغزل التی ترید أن ترفع الشاعر إلى عالم الجمال المطلق.
والواقع أن كل شاعر عاشق، وكل عاشق عارف، ولو جفّ العشق لجفّت روح الشعر والعرفان أیضاً فی نفس الإنسان. ولانطفأت النار الملتهبة فی صدره.
یقول العطار فی منطق الطیر/ ص186- 187 بعد أن یسمى العشق الوادی الثانی من الأودیة السبعة:
بعد از أن، وادیّ عشق آید یدید
غرق اتش شد كبی كه أنجار سید
عاشق أن باشد كه جون أتش بود
كرمْرو، سوزنده وسركش بود..
عقل درسوداه عشق استادنیست
عشق، كار عقل مادرزادنیست
عشق اینجا أتش است وعقل دود
عشق جون أمد كَر یزد عقل زود
أی: إن وادی العشق یغرق العاشق فی النار، غیر أن العاشق الحقیقی كالنار ساخن وحارق وطاغ.. والعقل لیس بحاكم فی دنیا العشق، فوظیفة العشق غیر مهمة العقل، فالعشق نار والعقل دخان، وإن شبت النار زال الدخان، وإن جاء العشق فرّ العقل بسرعة.
وفی الأبیات حدیث عن العلاقة بین الشعور والعقل لا مجال لذكره فی هذا الحدیث.
وابن عربی ممن عاش فی وادی العشق، وتحدث عنه فی غزل عبّر فیه عن جلال المحبوب وجماله.
وهنا أشیر إلى أن غزل ابن عربی لم یكن فی الله مباشرة وإنما كان فی امرأة، أمرأة عاشت حیاة حقیقیة أو خیالیة، ولا فرق بین الاثنتین، المهم أنهما ملكتا قلبه، وأثارتا فی نفسه الشوق إلى الجمال المطلق.
ومن الطریف أن تكون المرأة الأولى إیرانیة أصفهانیة وهی التی نظم فیها أشواقه وأحسن قلائده یقول:
"لما نزلت بمكة سنة خمسمائة وثمان وتسعین، ألفیت جماعة من الفضلاء، ولم أرَ فیهم مع فضلهم مثل أبی شجاع بن رُستَم الأصفهانی، وكان لهذا الشیخ بنت تقید النظر وتزین المحاضر، علمُها عَمَلُها، علیها مسحةُ مَلَك وهمّة مَلِك، فقلدناها من نظمنا فی هذا الكتاب أحسن القلائد، فكل اسم أذكره فی هذا الجزء فعنها یكنی، ولم أزل فیما نظمته، فی ذا الجزء على الإیماء إلى الواردات للإلهیة، والتنزلات الروحیة، والمناسبات العلویة، جریا على طریقتنا المُثلى، والله یعصم قارئ هذا الدیوان مَنْ سبقَ خاطرُه إلى ما لا یلیق بالنفوس الأبیة والهمم العلیة المتعلقة بالأمور السماویة.."
هی بنت العراق بنت إمامی *** وأنا ضدَّها سلیلُ یمانی
هل رأیتم یا سادتی أو سمعتم *** أنّ ضدین قطّ یجتمعانِ
لو ترانا برامةٍ نتعاطى *** أكؤساً للهوى بغیر بَنانِ
والهوى بیننا یسوق حدیثاً *** طیباً مطرباً بغیر لسانِ
لرأیتم ما یذهبُ العقلُ فیه *** یمنٌ والعراق مقتنعانِ
كذب الشاعر الذی قال قبلی *** وبأحجار عقله قد رمانی
أیها المنكح الثریّا سهیلا *** عَمْرَكَ الله كیف یلتقیان
هی شامیة إذا ما استهلّت *** وسهیل إذا استهلَ یمانی
مرضی من مریضة الأجفان *** علّانی بذكرها علّانی
هَفَت الوُرق بالریاض وناحت *** شجْوُ هذا الحَمام مما شجانی
بأبی طفلةٌ لعوب تَهادى *** من بناتِ للخدرِ بین الغوانی
طلعت فی العِیان شمسا فلما *** أفلت أشرقت بأفقِ جنانی
یا طلولاً برامةٍ دارساتٍ *** كم رأت من كواعبٍ وحسانِ
بأبی ثم بی غزالٌ ربیب *** یرتعی بین أضلعی فی أمانِ
ما علیه من نارها فهی نور *** هكذا النور مُخمِدُ النیرانِ
یا خلیلیَّ عرّجا بعَیانی *** لأرى رسم دارها بِعیانی
فإذا ما بلغتما الدار حُطّا *** وبها صاحبیَّ فلتبكیانی
وقفا بی على الطلول قلیلا *** نتباكى، بل أبْكِ مما دهانی
الهوى راشقی بغیر سهام *** الهوى قاتلی بغیر سنانِ
عرّ فانی إذا بكیت لدیها *** تُسعدانی على البُكا تُسعدانی
واذكروا لی حدیث هندٍ ولبنى *** وسلیمى وزینبٍ وعِنانِ
ثم زیدا من خاجر وزرود *** خبراً عن مراتع الغِزلانِ
واندبانی بشعر قیس ولیلى *** وبَمیٍّ والمبتلى غیلانِ
طال شوقی لطفلة ذات نثرٍ *** ونظامٍ ومنبرٍ وبیانِ
من بنات الملوك من دار فُرسٍ *** من أجلِّ البلادِ من إصبهان
كنت أطوف ذات لیلة بالبیت فطاب وقتی، وهزّنی حال كنت أعرفه، فخرجت من البلاط من أجل الناس، وطفت على الرسل، فحضرتنی أبیات، فأنشدتها أُسمِع بها نفسی ومن یلینی لو كان هناك أحد، فقلت:
لیت شعری هل دروا *** أیّ قلب ملكوا
وفؤادی لو دوى *** أیّ شِعب سلكوا
أتراهم سلموا *** أم تراهم هلكوا
حار أرباب الهوى *** فی الهوى وارتبكوا
فلم أشعر إلاّ بضربة بین كتفیّ بید ألین من الخزّ، فالتفت فإذا بجاریة من بنات الروم لم أرَ أحسن وجهاً ولا أعذب منطقاً، ولا أرقّ حاشیة، ولا ألطف معنى، ولا أدق إشارة، ولا أظرف محاورة منها، قد فاقت أهل زمانها ظرفاً وأدباً وجمالاً ومعرفة" ثم تبدأ هذه الجاریة تستنشده الأبیات.
یمثل ابن عربی قمة من قمم العرفان فی تاریخنا الإسلامی، وأودّ قبل الدخول فی أدب ابن عربی أن أشیر إلى بعض الملاحظات بشأن العرفان والأدب لتكون مقاربة لما أبتغی تقدیمه فی هذا المقال.
1- العرفان - الناس.
ابتلی معظم قادة الفكر وأصحاب الكلمة فی عالمنا الإسلامی منذ فترة مبكرة بالابتعاد عن الناس، وشاع فقه السلطة الذی یبرر للحاكم كلَّ ما یمارسه من ظلم وتسلط واستبداد، وأصبح أكثر أصحاب المدارس الفكریة وكتّاب التاریخ والفقه والحدیث یمارسون أعمالهم لخدمة السلطة، وأضحى لهم من المكان والجاه ما جعلهم یتنافسون على التقرب من السلطان، على حساب ترك عامة الناس یكابدون ویعانون ویكدحون ویجوعون ویقتلون ویسجنون دون أی اهتمام بمعاناتهم،بل وأكثر من ذلك عملوا على تبریر ما ینزل بهم باعتباره قضاءً وقدراً لیس لهم أن یعارضوه.
وإلى جانب هذا التوّجه كان هناك التوجّه الإسلامی الأصیل الذی اهتمّ بالناس، فكان فقهه فقه الناس، وكانت حركته للدفاع عن الناس، وعن كرامتهم وعزّتهم وشخصیتهم. وتمثّل هذا الاتجاه بالدرجة الأولى بمدرسة أهل بیت رسول الله (ص).
فكان دعاة هذه المدرسة یقدمون من الفكر والفقه ما ینفع الناس، ویتحركون لتحریر الناس من عبودیة الطاغوت والشهوات تحقیقاً لعزتهم وكرامتهم. والطریف أن الحركات المنحرفة التی أرادت أن تستقطب الجماهیر مثل حركة الزنج والقرامطة رفعت هی أیضاً شعارات الدفاع عن مدرسة أهل البیت لعلمها بما فی هذه الشعارات من دوافع تستحث الجماهیر على الحركة وتستقطب عواطفها.
والعرفان نشأ فی أحضان مدرسة الناس، نجد جذوره الأولى فی "نهج البلاغة" و"الصحیفة السجادیة" وخطب "مجموعة كربلاء" وتعالیم "الصادقین"، ثم انتشر وتبلور بین "الناس" بعیداً عن توجهات السلاطین. واستمرّ مع الناس یربیهم ویرفعهم ویسمو بهم، ویصونهم من السقوط والهزیمة والاستسلام للواقع الفاسد.
ونرى العرفاء یعلنون على مرّ التاریخ ولاءهم لآل بیت رسول الله (ص)، ومن ذلك قول ابن عربی یرویه عنه القاضی نور الله الشوشترى فی كتابه مجالس المؤمنین:
على رغم أهل البُعد یورثنی القربى *** رأیت ولائی آل طه وسیلة
بتبلیغه إلاّ المودة فی القربى *** فما طَلَبَ البعوث أجرا على الهدى
العرفان إذن مدرسة الناس التی تأبى أن تجعل درجات كرامة الناس مرتبطة بما یملؤون به أذهانهم فی المدارس
یقول الإمام الخمینی:
جوت به عشق أعدم از حوزه عرفان، دیدم
أن یه خواندیم وشنیدیم، هن باطل بود
2- العرفان - العزّة
الدعوة إلى الارتباط بالله هی دعوة إلى التحرر من العبودیة لما سوى الله، هی دعوة للترفع عن السقوط فی عبودیة المال والشهوة والسلطة والجاه، من هنا یستشعر الإنسان عزّته فی كنف الله: (من كان یرید العزّة فلله العزّة جمیعاً) سورة فاطر 35/10، (أیبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جمیعاً) سورة النساء 4/139، (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنین) سورة المنافقون 63/8، من هنا فإن جماعة الفقراء لا یلینهم الطمع، ولا یفلّ ساعدهم المتاع، ولا تدق أعناقهم فضول العیش.
یقول ابن عربی:
أنا عزّ العزّ ما ملكت *** نفسی ذات الذلّ والعدم
(دیوان/ 23)
ویقول عن عزّة حسامه، وهی كنایة عن دفاعه المستمیت عن عزّته:
نصبت حساماً للردى فی فرنده *** شعاع له بین الفریقین فیصل
حملت به لا أرهب الموت والردى *** ولا أبتغی حمداً له النفس تعمل
ولكن لیعلو الدین عزّا وشرعنا *** إلى موضع منه الطواغیت تسفل
\(الدیوان /67)
هذه العزّة هی التی جعلت جماعة العارفین تسترخص الحیاة للدفاع عن أوطانها أمام الغزاة فی مختلف العصور، جدیر بالذكر أن زعماء الثورات وحركات المقاومة فی العصر الحدیث ینتمون بدرجة وأخرى إلى مدارس العرفان، ولا أدل على ذلك من ضجیع ابن عربی فی مثواه الأخیر الأمیر عبد القادر الجزائری، والإمام الثائر) الثانی روح الله الموسوی الخمینی.
3- العرفان - النفس
"النفس البشریة، التی تمثل جانب الطین والصلصال والحمأ المسنون تقف دائماً أمام تجلی نفخة رب العالمین فی هذا الموجود البشری، والعرفاء تحدثوا كثیراً عن هذا التعارض. ونفخة رب العالمین تتجلّى فی العشق، ولا یكون الإنسان عاشقاً إذا كان غارقاً فی "الذاتیة"، ولا یرى الإنسان وجه الحقیقة إذا كان راسفاً تحت ركام ذاتیته المستفحلة.
وكل الذین عشقوا فأبدعوا فی جمیع العلوم والفنون أناس تخلّصوا من ذاتیاتهم الضیقة وانطلقوا إلى رحاب نفخة رب العالمین فیهم سواء كانوا تحركوا عن قصد فی هذا الانطلاق أم عن دون قصد.
من هنا فكل المبدعین فی الدنیا وكلّ من برزت مواهبهم فی مجال من المجالات هم أناس تحرروا بدرجة وأخرى من ذاتیاتهم فعشقوا وخطوا خطوات على طریق العرفان.
لا یمكن لأصحاب الآثار الفنیة والعلمیة والأدبیة الخالدة إلاّ أن یكونوا عاشقین، وهم فی عشقهم دخلوا ساحة العرفان شاؤوا أم أبوا.
فالعرفان أساس كل ابتكار خالد وفن ساحر.
العرفان هجرة الإنسان من نفسه إلى معشوقه، یقول الإمام الخمینی:
هجرت ازخویش غوده سوى دلدار رویم
واله شمع رخش كشته وبروانه شویم
ویخطئ من یظنّ أنه مبدع أو مبتكر أو فنان أو أدیب ممتاز إذا كان یتحرك من أجل ذاته وشهرته وماله لا یمكن للمواهب أن تسجّل عطاءها إلاّ إذا كان العشق حادیها. ولا یمكن أن یكون الإنسان عاشقاً إذا كانت قبلته ذاته ونفسه، فلیترك مثل هذا الإنسان الطریق للعشاق ولیكف عن تقوّل العشق.
یقول الإمام الخمینی:
سَرِ خودكیر وره عشق به رهوار سیار
كر ندارى سرِ عشّاق وندانی ره عشق
وما أجمل الشاعر العربی الذی عبّر عن هذه الحقیقة بلغة شعریة عامیة مغنّاة أطربتنا أیام الشباب إذ قال:
حبّ إیه اللی انته جای تقول علیه
أنت عارف قبل معنى الحبّ إیه
كان هواك خلاّك ملاك
إنت لو حبیت یومین
لیه بتتجنه كده عالحبِّ لیه
ویعبر الإمام الخمینی عن تجاوز العارف لذاته حین یدخل فی عالم العرفان والعشق فیقول:
جسم بیمار ترادیدم وبیمار شدم
من به خال لبت أی دوست كرفتارسدم
همجو منصور خریدارسر دارشدم
فارغ ازخودتشدم وكوس "أنا الحق" بزدم
4- العرفان - الأدب
الأدیب الممتاز مثل كلّ فنان ومبتكر ممتاز عاشق یخرج من إطار ذاتیة الطین لیرتفع إلى عمق هذا الكون، مع اختلاف بین الأدباء فی درجة هذا العشق حسب مستوى هذا الأدیب أو ذاك.
فالأدیب إذن عارف، ویستطیع فی لحظات توهّج مشاعره أن یرتبط بعالم أسمى من هذا العالم المادیّ المحدود فیقدّم لنا تجربة شعوریة خالدة ینقلها لنا شعراً أو نثراً ذا تأثیر خالد فی المستمع والقارئ.
والشعر بالذات یعبّر أفضل تعبیر عن مفهوم الأدیب لأنه "الفناء المطلق بما فی النفس من مشاعر وأحاسیس وانفعالات، حین ترتفع هذه المشاعر والأحاسیس عن الحیاة العادیة، وحین تصل هذه الانفعالات إلى درجة التوهج والإشراق أو الرفرفة والانسیاب على نحو من الأنحاء.." (النقد الأدبی/ 57)
من هنا نستطیع أن نفهم سبب انتشار لغة الشعر عند العرفاء، لأن اللغة العادیة لا تستطیع أن تعبّر عن توهّج المشاعر، فلابد أن تصحبها الموسیقى والخیال والظلال لكی تستطیع أن تنقل الشحنة العاطفیة المتراكمة فی نفس العارف.
الجلال والجمال
كثر الحدیث عن معنى الجلال والجمال وعن ارتباط الاثنین مع ما بینهما من تضاد على الظاهر، فالجلال مظهر الغلبة والقهر والقدرة، والجمال مظهر اللطف والرحمة. وهو كلام طویل لا طائل تحته، لأن الإنسان العاشق یرى دائماً فی معشوقة الجلال والجمال. قال الشاعر العربی:
أهابك إجلالا وما بك قدرة *** علیّ ولكن ملء عین حبیبها
وقال آخر:
یصرعن ذا اللب حتى لا حراك به *** وهن أضعف خلق الله إنسانا
ویذكر ابن عربی أنه ما ذاق فی نفسه القهر الإلهی قط ولا كان له من هذه الحضرة فیه حكم. (الفتوحات 4/316).
ولكنه هو یذكر فی فصّ الآدمی (ص54):
"إن الحق وصف نفسه بأنه ظاهر وباطن، فأوجد العالمَ عالمَ غیب وشهادة، لندرك الباطل بغیبنا، والظاهر بشهادتنا.
ووصف نفسه بالرضا والغضب، وأوجد العالم ذا خوف ورجاء فتخاف غضبه وترجو رضاه. ووصف نفسه بأنه جمیل وذو جلال، فأوجدنا على هَیبة وأُنس، فعبّر عن هاتین الصفتین بالیدین".
ویرى ابن عربی أن التجلی الإلهی للبشر لا یكون إلاّ فی جلال جماله یقول: "ولحضرة الجلال السُبُعات الوجهیة المحرقة، ولهذا لا یتجلى فی جلاله أبداً، ولكن یتجلى فی جلال جماله لعباده، فیه یقع التجلّی، فیشهدونه مظهر ما ظهر من القهر الإلهی فی العالم" (الفتوحات 3/543).
وكما ذكرت إن الجلال والجمال مترابطان، إذا تجلّى الجمال ملك شغاف القلب وقهر العاشق، وخلق فی نفسه هیبة ورهبة ووجلا. فالإنسان العاشق دائماً بین خوف ورجاء یعتوران فی قلبه فیزداد اندفاعاً نحو طلب رضا المعشوق وتحقیق المُثُل التی یطلبها المعشوق.
وفی الأدب العرفانی الفارسی یشبّهون صباحة وجه الحبیب بتجلّی الجمال، ویشبهون ذؤابة شعر المعشوق على صدغیه وسحر عیونه النجلاء بتجلّی الجمال. یقول الشاعر:
تجلّى كَه جمال وكَه جلال است
رخ وزلف أن معانی امثال است
ومما لاشك فیه أن صباحة وجه الحبیب لا تكتمل إلاّ بعقارب الصدغین وسحر العینین، وهكذا الجمال لا یكتمل إلا بهذا السحر الذی یصرع ذا اللب حتى لا حراك له.
وبمناسبة قول ابن عربی بأن الله "جمیل ذو جلال، فأوجدنا على هَیبة وأنس، فعبّر عن هاتین الضفتین بالیدین" أقول إن الإمام الخمینی یتحدث عن هذه الید فی أشعاره بأنها الید اللطیفة معبراً عن الجلال بالید باعتبارها رمز القدرة، وعن الجمال باللطیفة. یقول:
باده ازدست لطیف تودراین فصل بهار
جان فزاید، كن در این فصل بهار أمده ام
لماذا ینشد الإنسان الجمال؟
عن هذا السؤال كثرت الأجوبة فی المدارس الفلسفیة، غیر أن ابن عربی ینقل عن رسول الله (ص) حدیثاً له دلالته البالغة فی التعبیر عن النظریة الجمالیة لدى هذا العارف، وفی الإجابة عن السؤال المذكور.
فی الفتوحات (ج4، ص369) یروى عن صحیح مسلم قوله (ص): "إن الله جمیل یحب الجمال"
فالله جمیل وهذا كاف لیعبّر عن سبب اتجاه الإنسان نحو الجمال، وهكذا نحو كل صفات جلال الله وجماله كالعلم، والقدرة، والسعة، والغنى، والكرم، والانتقام من الظالمین، ونصرة المظلومین، والقهر، والغلبة و...
فالإنسان مخلوق بفطرته لكی یكدح كدحاً نحو الله لیلاقیه، والكدح نحو الله لیس قطع مسافة مكانیة، بل قطع أشواط على طریق التخلق بأخلاق الله. هذه هی فطرته التی فُطِر علیها، إنه یتجه بفطرته نحو المثل الأعلى، فإن كان مؤمناً بالله الواحد الأحد اتجه نحو المثل الأعلى الحقیقی الذی خلق الإنسان ورسم له طریق تكامله اللامتناهی، وإن كان كافراً اتجه أیضاً نحو مثل أعلى، ولكن نحو مثل أعلى سرابی:
مثل الذین كفروا ...
الإمام الخمینی فی شعره العرفانی یعبّر عن هذه الحقیقة.. حقیقة أن الإنسان مخلوق وهو عاشق هائم فی طلب المعشوق بقوله:
مازاده عشقیم ویسر خوانده جامیم
درست وجابنازی دلدار تمامیم
5- العرفان والغزل
الغزل إظهار الشوق إلى المحبوب، والحدیث عن لوعة فراقه، وذكر أوصاف جلاله وجماله، وإذا تحدّد هذا المحبوب بامرأة معینة فإن هذه المرأة هی الوسیلة التی ینتقل منها المتغزل من النسبی إلى المطلق، وهی النافذة التی یطلّ منها الغزلیّ إلى عالم الجمال المطلق.
مما تقدم لا نرى الوصف الحسّی للمرأة وذكر العلاقة الجنسیة بها من الغزل، لأنه یتعارض مع روح الغزل التی ترید أن ترفع الشاعر إلى عالم الجمال المطلق.
والواقع أن كل شاعر عاشق، وكل عاشق عارف، ولو جفّ العشق لجفّت روح الشعر والعرفان أیضاً فی نفس الإنسان. ولانطفأت النار الملتهبة فی صدره.
یقول العطار فی منطق الطیر/ ص186- 187 بعد أن یسمى العشق الوادی الثانی من الأودیة السبعة:
بعد از أن، وادیّ عشق آید یدید
غرق اتش شد كبی كه أنجار سید
عاشق أن باشد كه جون أتش بود
كرمْرو، سوزنده وسركش بود..
عقل درسوداه عشق استادنیست
عشق، كار عقل مادرزادنیست
عشق اینجا أتش است وعقل دود
عشق جون أمد كَر یزد عقل زود
أی: إن وادی العشق یغرق العاشق فی النار، غیر أن العاشق الحقیقی كالنار ساخن وحارق وطاغ.. والعقل لیس بحاكم فی دنیا العشق، فوظیفة العشق غیر مهمة العقل، فالعشق نار والعقل دخان، وإن شبت النار زال الدخان، وإن جاء العشق فرّ العقل بسرعة.
وفی الأبیات حدیث عن العلاقة بین الشعور والعقل لا مجال لذكره فی هذا الحدیث.
وابن عربی ممن عاش فی وادی العشق، وتحدث عنه فی غزل عبّر فیه عن جلال المحبوب وجماله.
وهنا أشیر إلى أن غزل ابن عربی لم یكن فی الله مباشرة وإنما كان فی امرأة، أمرأة عاشت حیاة حقیقیة أو خیالیة، ولا فرق بین الاثنتین، المهم أنهما ملكتا قلبه، وأثارتا فی نفسه الشوق إلى الجمال المطلق.
ومن الطریف أن تكون المرأة الأولى إیرانیة أصفهانیة وهی التی نظم فیها أشواقه وأحسن قلائده یقول:
"لما نزلت بمكة سنة خمسمائة وثمان وتسعین، ألفیت جماعة من الفضلاء، ولم أرَ فیهم مع فضلهم مثل أبی شجاع بن رُستَم الأصفهانی، وكان لهذا الشیخ بنت تقید النظر وتزین المحاضر، علمُها عَمَلُها، علیها مسحةُ مَلَك وهمّة مَلِك، فقلدناها من نظمنا فی هذا الكتاب أحسن القلائد، فكل اسم أذكره فی هذا الجزء فعنها یكنی، ولم أزل فیما نظمته، فی ذا الجزء على الإیماء إلى الواردات للإلهیة، والتنزلات الروحیة، والمناسبات العلویة، جریا على طریقتنا المُثلى، والله یعصم قارئ هذا الدیوان مَنْ سبقَ خاطرُه إلى ما لا یلیق بالنفوس الأبیة والهمم العلیة المتعلقة بالأمور السماویة.."
هی بنت العراق بنت إمامی *** وأنا ضدَّها سلیلُ یمانی
هل رأیتم یا سادتی أو سمعتم *** أنّ ضدین قطّ یجتمعانِ
لو ترانا برامةٍ نتعاطى *** أكؤساً للهوى بغیر بَنانِ
والهوى بیننا یسوق حدیثاً *** طیباً مطرباً بغیر لسانِ
لرأیتم ما یذهبُ العقلُ فیه *** یمنٌ والعراق مقتنعانِ
كذب الشاعر الذی قال قبلی *** وبأحجار عقله قد رمانی
أیها المنكح الثریّا سهیلا *** عَمْرَكَ الله كیف یلتقیان
هی شامیة إذا ما استهلّت *** وسهیل إذا استهلَ یمانی
مرضی من مریضة الأجفان *** علّانی بذكرها علّانی
هَفَت الوُرق بالریاض وناحت *** شجْوُ هذا الحَمام مما شجانی
بأبی طفلةٌ لعوب تَهادى *** من بناتِ للخدرِ بین الغوانی
طلعت فی العِیان شمسا فلما *** أفلت أشرقت بأفقِ جنانی
یا طلولاً برامةٍ دارساتٍ *** كم رأت من كواعبٍ وحسانِ
بأبی ثم بی غزالٌ ربیب *** یرتعی بین أضلعی فی أمانِ
ما علیه من نارها فهی نور *** هكذا النور مُخمِدُ النیرانِ
یا خلیلیَّ عرّجا بعَیانی *** لأرى رسم دارها بِعیانی
فإذا ما بلغتما الدار حُطّا *** وبها صاحبیَّ فلتبكیانی
وقفا بی على الطلول قلیلا *** نتباكى، بل أبْكِ مما دهانی
الهوى راشقی بغیر سهام *** الهوى قاتلی بغیر سنانِ
عرّ فانی إذا بكیت لدیها *** تُسعدانی على البُكا تُسعدانی
واذكروا لی حدیث هندٍ ولبنى *** وسلیمى وزینبٍ وعِنانِ
ثم زیدا من خاجر وزرود *** خبراً عن مراتع الغِزلانِ
واندبانی بشعر قیس ولیلى *** وبَمیٍّ والمبتلى غیلانِ
طال شوقی لطفلة ذات نثرٍ *** ونظامٍ ومنبرٍ وبیانِ
من بنات الملوك من دار فُرسٍ *** من أجلِّ البلادِ من إصبهان
كنت أطوف ذات لیلة بالبیت فطاب وقتی، وهزّنی حال كنت أعرفه، فخرجت من البلاط من أجل الناس، وطفت على الرسل، فحضرتنی أبیات، فأنشدتها أُسمِع بها نفسی ومن یلینی لو كان هناك أحد، فقلت:
لیت شعری هل دروا *** أیّ قلب ملكوا
وفؤادی لو دوى *** أیّ شِعب سلكوا
أتراهم سلموا *** أم تراهم هلكوا
حار أرباب الهوى *** فی الهوى وارتبكوا
فلم أشعر إلاّ بضربة بین كتفیّ بید ألین من الخزّ، فالتفت فإذا بجاریة من بنات الروم لم أرَ أحسن وجهاً ولا أعذب منطقاً، ولا أرقّ حاشیة، ولا ألطف معنى، ولا أدق إشارة، ولا أظرف محاورة منها، قد فاقت أهل زمانها ظرفاً وأدباً وجمالاً ومعرفة" ثم تبدأ هذه الجاریة تستنشده الأبیات.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:9|