ابزار وبمستر

رومنطیقیة القلب الحزین قصیدة الوصف عند خلیل مطران  الأسد الباكی نموذجا
رومنطیقیة القلب الحزین قصیدة
الوصف عند خلیل مطران

الأسد الباكی نموذجا



أقحم شعر الوصف فی أدبنا العربی ضمن الشعر الغنائی أو الوجدانی أو الذاتی وهو الشعر الذی یعبر فیه الشاعر عن ذاته أو "أناه " و بلفظ موجز رؤیا الذات أو موقفها من العالم و الوجود بخلاف الشعر الموضوعی أو التمثیلی حیث یعبر فیه الشاعر عن ذات الأمة ، غیر أن شعر الوصف فی أدبنا العربی القدیم ظل وصفا میكانیكیا لا تندغم الذات فیه فی الموضوع أو لا تتصل وشائج القرابة بین الذات الشاعرة و موضوعها ، فیظل الوصف خارجیا ترى فیه أثر كد الذهن فی خلق القرائن أو إدراكها بین المقتبس منه( المشبه به ) والمقتبس له ( المشبه)عن طریق التشبیه الصریح أو الاستعارة وترى التفنن فی ذلك ومحاولة السبق فی ابتكار التشبیهات و الاستعارات ولكن من غیر أن یصیر الشاعر قلب الوجود وروحه فلا یسع العالم حینها إلا أن یكون مظهرا لتلك الذات، ذلك أن الوصف بغیر هذا المعنى یكون أقرب إلى العلم منه إلى الفن لأن میكانیكیته تحید به عن روح الشعر التی هی فی الصمیم رؤیا وذلك لأنك فی الشعر لا تطلب الحقائق الموضوعیة وإنما تطلب كیانا شعریا فی تفاعله مع الوجود ورؤیته له، وذلك الكیان الشعری هو أشبه بالبناء المشمخر الذی تدخله لأول مرة مكتشفا سرادیبه وردهاته وغرفه متذوقا جماله واقعا على فرادته وأنت واثق أنك لم تقع على مثله من قبل على كثرة ما دخلت إلى الدور والقصور وبالمختصر فالشعر هو الرؤیا والفرادة معا لأن الروح الشعریة لا تقبل الاستنساخ والتقلید إعدام لها وتجنی على روح الشعر، وقد غاب هذا المفهوم العمیق للشعر عن أذهان أسلافنا ونقادنا القدامى فانصرفوا إلى النقد الفقهی أو تتبع السرقات الأدبیة واكتشاف مصادرها لولا محاولات من هنا ومن هناك تخرج من تلك الصحراء منقذة أناها ملقیة بها فی إصرار فی مملكة الشعر المعروفة بحدودها المتعالیة على سواها من الممالك ولعل امرأ القیس أفضل الشعراء الذین فروا بجلدهم من صحراء التیه لائذین بمملكة الشعر وترى الوصف عنده لصیقا فی معظم الأحوال بذاته ویغدو الوجود بمظاهره ملونا بلون ذاته وخیر مثال على ذلك هو وصفه للیل:

ولیل كموج البحر أرخى سدوله

علی بــأنواع الــهموم لــــیبتلی

فقــــــلت لـــه لما تمطى بصلبه

وأردف أعـــــجازا وناء بكلكل

ألا أیـــها اللیل الطویل ألا انجل

بصبح وما الإصباح منك بأمثل

فاللیل هنا لیس لیلی ولیلك أو لیل الكائنات الذی تسكن فیه إلى بعضها البعض ولیس بلیل موضوعی نستمتع فیه بجمال النجوم وروعة السكون بل هو لیل خاص ملون بلون الذات الحزینة الخائفة منه والذی ترى فیه غولا یناور ویتهجم محاولا إزهاق روح الشاعر وسكینته وأنت إذا أردت مثلا للوصف الموضوعی أو الذی أسمیناه میكانیكیا فلن تعدمه لأنه الكثرة الطاغیة فی شعر الوصف فی أدبنا القدیم فمنه قول امرئ القیس فی وصف سرعة جواده :

مكر مفر مقبل مدبر معا

كجلمود صخر حطه السیل من عل

أو قول طرفة فی وصفه الطلل :

لخولة أطلال ببرقة ثهمد

تلوح كباقی الوشم فی ظاهر الید

أو كقول الأعشى فی وصف مشیة حبیبته:

كأن مشیتها من بیت جارتها

مر السحابة لاریث ولاعجل

أو كقول المتنبی فی وصف جثث الأعداء:

نثرتهم فوق الأحیدب نثرة

كما نثرت فوق العروس الدراهم

أو كقول أبی تمام فی نفس الغرض :

تسعون ألفا كــــــآساد الشرى

نضجت جلودهم قبل نضج التین والعنب

وتستطیع أن تجد لذلك أمثلة كثیرة فی شعر البارودی وإسماعیل صبری وحافظ وشوقی ولا یتسع المقام للاستطراد فی ضرب الأمثلة. غیر أن الشعر الحدیث وفی تأثره بالشعر الغربی الفرنسی والإنجلیزی خاصة وفی العب من نظریات النقد عند أعلامه فی الغرب تنبه إلى ذلك وأدرك بعض الشعراء أن الشعر فی حقیقته رؤیا وكان هذا أهم مظهر من مظاهر التجدید قبل النظر فی الأوزان والقوافی لاأثر فیه للتقلید أو الاستنساخ ولعل شاعرنا الكبیر خلیل مطران أبرز الشعراء المحدثین الذین أدركوا ذلك ونفذوا ببصیرتهم إلى حقیقة الشعر ولبابه. وخلیل مطران( 1872- 1943) شاعر القطرین العربی الصمیم المنحدر عن الغساسنة ملوك الشام وكان أخر ملك منهم جبلة بن الأیهم الذی أسلم وقد قال الشاعر مشیرا إلى نسبه العریق هذا:

ألا یابنی غسان من ولد یعرب

وأجدادكم أجدادی العظماء

وبقیت بقیة منهم لم تسلم محتفظة بنصرانیتها، ونزحت إلى لبنان بعض العائلات منها كعائلة مطران التی تمذهبت بالأرثوذكسیة فی البدء ثم تكثلكت وأما اللقب الذی لحق بهم فذلك أن أحد أجداد الشاعر كان مطران كنیسه ببعلبك، وقد تعرضت عائلة الشاعر للاضطهاد وإلى مصادرة الأملاك التابعة لهم فی وادی البقاع من قبل الولاة التابعین للباب العالی فی استانبول فنزحت إلى الإسكندریة ثم إلى القاهرة وفیها عاش الشاعر ونبه ذكره مشتغلا بالصحافة فی جریدة " الأهرام" ثم أصدر عام 1900 "المجلة العربیة" وعام 1902 أصدر الجوائب. والشاعر أحد أركان النهضة الشعریة فی العصر الحدیث جمع بین الملكة الشعریة والملكة اللغویة ودقة التصویر والدفق العاطفی والتمكن من الأدب العربی قدیمه وحدیثه إضافة إلى اتقانه اللغتین الفرنسیة والإنجلیزیة ومطالعته للأدبین الفرنسی والإنجلیزی خاصة الرومنطیقی منه كشعر ووردزورث وشلی وجون كیتس وبایرون وألفرید دی موسیه وفرلین ورامبو وهوغو ولامارتین وغیرهم ثم فوق ذلك كله حس إنسانی رفیع ونبالة خلق وصفاء ضمیر واستقامة نفس فلا یذكر غیره إلا بالخیر كما ترفع عن النقد الجارح والقذف والحسد وأخلاقه شهد له بها معاصروه، ویكفی دلیلا على رهافة حسه ووفائه أنه دخل مرة إلى حدیقة فی القاهرة فلقی فتاة فی عمر الزهور أعجب بها وخفق لها فؤاده بمشاعر الوداد فحام حولها حومان النحل حول الزهر من 1897 إلى 1903 غیر أن الفتاة ماتت مصدورة فحزن الشاعر لموتها وصمم على حیاة العزوبیة وكتب فی رثاء الراحلة قصیدة یقول فی مطلعها:

سررت فی العمر مره

وكنت أنت المسره

فقد كان مطران إذا رجل عفة واستقامة عانى من شظف العیش وكدح بشرف مترفعا عن سفاسف الأمور وفی نظراته حزن تكشف عن ألم دفین وحسرة متمكنة من النفس لعلها حسرة الزوال وانفضاض المجالس وبطلان الحیاة وتهافت ملذاتها ورغائبها ثم سلطة القدر وسیفه المسلط على الإنسان إذ لا یمكن الإنسان من نیل رغائبه ولعل موت حبیبته أسوأ مؤشر على ذلك. وفی شعر مطران هدوء وسلاسة فهو غیر شوقی المقتفی أثر الشعراء الكبار كالمتنبی وأبی تمام والبحتری وهو غیر حافظ صاحب المزاج الحاد وقد كانت كلماته المنتقاة موحیة بذلك ، مجلجلة بتأثیر من طفولته المشردة وكهولته التعیسة من غیر زوج وولد وكأنه أراد للناس حیاة غیر حیاته فثار على الخصاصة سلیلة الفقر والطبقیة . أما خلیل مطران فهو كالنهر إذ استوى فی سهل یجری هادئا متمهلا بلا صخب أو ضوضاء متأملا الوجود بنظرة حانیة لا یخفى على المتأمل انكسارها ونفس یغلفها شعور بالأسى ولكنها هادئة لا تثور كالبركان وتقذف بحممها فی شعرها فتحرق القارئ معها . لقد كان الشاعر الإنجلیزی ووردزورث ینصح الشعراء أن یتمهلوا فلا ینبغی أن یمسك الشاعر بقلمه كلما خفق قلبه أو اضطرمت مشاعره، أی أن یكون الشعر استجابة عارضة لمؤثر خارجی بل یجب علیه أن یتأنى ویترك المشاعر تهدأ والزمن یفعل فعله لیذهب الزبد جفاء وما ینفع الناس والفن یبقى وتنجلی الغاشیة عن الأشیاء لأن العاطفة القویة تلفها كالضباب، وهی قویة صاخبة معربدة تلمع كالشهاب فجأة ثم تخبو رویدا رویدا وتنتهی رمادا. وقد سلم مطران من هذه الآفة التی تسئ إلى الشعر فصانه عن أن یكون زبدا أو رمادا. وفی قصیدته" الأسد الباكی" وهی من عیون الشعر الحدیث ولاتعنی الحداثة أن یكون الشعر على نسق شعر التفعیلة والكثیر منه رغاء، إنما الحداثة هی الوعی بالزمن و الإندغام فی العصر فی علاقته الجدلیة بالماضی منفصلا متصلا ومتصلا منفصلا وبإضافة شیء إلى المعمار الإنسانی لا بكلمة تلوكها الألسن وتمجها القلوب الانسانیة الحقة. ولقد كتب الشاعر هذه القصیدة إثر أزمة خانقة عاشها الشاعر وطوحت به ذلك أنه فشل فی مشروع من مشاریع حیاته حیث عمل من عام 1909 إلى عام 1912 بالتجارة وربح وخسر ثم قام بصفقة مضاربة خسر فیها أمواله واعتزل بعین شمس یائسا ولم یعد إلى القاهرة إلا بعد توسل الأحباب والأصحاب. والعنوان ذاته موحی بعمق الأزمة فالأسد على سبیل الاستعارة دال على معانی الرجولة وصفاتها الجوهریة كالقوة الروحیة والشهامة والترفع عن الصغائر وتأتی الصفة لاحقة بالموصوف لتوحی بالعجز تحت وطأة الظروف وقسوة الزمن فیأبى الشاعر أن یریق ماء وجهه ویتزلف وینافق استجلابا للسلامة أو الرفاه ولا یسعفه غیر الدمع أبلغ تعبیر عن عمق الجرح وهو فی حد ذاته لغة قوامها كیمیاء الجسد لا اللفظ السالك مجرى الطعام وسخونته وشفافیته البلوریة هما آیة الصدق مع النفس والعالم ، والحق أن خصیصة الوصف الحلولی هذه لم یكن مطران وحده هو ممثلها فی شعرنا الحدیث فقد تخلص هذا الشعر فی صیغته الحداثیة من آفة الذات والموضوع فهما واحد ولیس العالم إلا حلول الشاعر فیه وتلونه بلونه فهو لیس عالما حیادیا بل مزاجیا وفی وسع علم النفس أن یمدنا بمفاتیح تفتح أبواب الفهم وتنیر حلكات الطریق ولعل الإسقاط خیر ما یسعفنا به هذا العلم من مكتشفاته فی دنیا النفس القریبة البعیدة، ذلك أن عالم اللاوعی وعظمة خطره فی الحیاة الإنسانیة واستعصائه على المراقبة والتحری فهو كالحزب السری ینشط فی الخفاء ویجید المكر والتلاعب ولا یحب العلن لتعوده على حیاة الخفاء فیجئ الوصف أحیانا فیه إشارات من العقل الباطن بل هو كضربات الفرشاة التی تكمل رسم اللوحة وكثیرا ما تكون تلك الضربات حاسمة، وهنا تحدیدا یتجلى معنى التمایه بین الذات والموضوع وهو ما عنیناه بالإندغام، ولا تقف الصورة الشعریة عند هذا الحد فالرؤیا الشعریة تتمرد على الواقع وتخرق المألوف ولا تساوم فی حریتها وشفافیتها واندفاعها نحو الآفاق بقوة عجیبة یضفی علیها الحلم مسحة رومنطقیة أو صوفیة ویزیدها الرمز أحیانا إیحائیة أو ضبابیة تحافظ بها على رونقها، وخیر مثال على هذا الوصف الذی أسمیناه بالحلولی هذا المقطع للسیاب فی وصف مصباح الإضاءة اللیلیة فی دروب المبغى البغدادی:

وكأن مصباحیه من ضجر

كفان مدهما لی العار

كفان بل ثغران قد صبغا

بدم تدفق منه تیار

فإذا كان هذا المقطع یعكس حالة الشبقیة التی كانت تعذب الشاعر حد الفناء ، فإن الوصف هنا تجاوز الحدود المألوفة ففیه حركیة الكفین والثغرین والتشبیه هنا خلاق فهو من قبیل تشبیه الجامد بالحی ثم تأتی دلالة العار وهی دلالة دینیة أخلاقیة فی ذات الوقت موحیة بالإحساس بالذنب وارتكاب المعصیة، غیر أن النزوة الجسدیة والقوة الشهوانیة أقوى وأغلب فتلون الوجود كله بلونها القانی . وأما فی قصیدة خلیل مطران فكثیرا ما نقع على هذا الوصف الذی أسمیناه بالوصف الحلولی حیث یتأنسن الوجود بفعل رؤیة الشاعر التی ترى الوجود حیا فاعلا دینامیكیا بمظاهره لا مجرد أحجام وكتل وأرقام فترى الشاعر یحاوره محاولا الوقوف على خفایاه كاشفا إیاها كقوله:

شاك إلى البحر اضطراب خواطری

فیجیبنی بریاحه الهوجاء

واللمسة الرومنطیقیة واضحة هنا خاصة فی قوله " بریاحه الهوجاء" إلا أن البحر هنا صار یجسد جبروت الطبیعة وقهرها وهو موقف للذات المغلوبة التی صارت ترى الوجود وكأنه تآمر علیها فلتحمل صلیبها إلى ذروة الجلجلة وحیدة فی معاناتها ولو كلفها ذلك حیاتها ! ثم یأتی الوصف متتابعا متلاحقا فالشاعر ود لو أن قلبه كالصخر لا یتألم ولا ینزف وكأنه حسد الصخرة على بلادتها وعدم إحساسها ولو أن السقم والبرحاء نفذا إلى أعماقها فهدت صلادتها وخففت من غلواء الداء وتباریحه على الشاعر . لقد غدت الطبیعة والشاعر هنا واحدا ولم تعد موضوعا وهذا ما یضفی على التشبیهات دینامیكیة ویخرجها عن رتابة التشبیهات الكلاسیكیة:

ثاو على صخر أصم ولیت لی

قلبا كهذی الصخرة الصماء !

ینتـــابها موج كموج مكارهی

ویــــفتها كالسقم فی أعضائی

أما البحر ذاته فعاد إلیه الشاعر لیضفی علیه سمة الإنسان فألحقه بزمرة الیائسین، وأی یأس؟ إنه یأس الشاعر ذاته الذی أسقطه على الوجود فتلون كله بلون أسود ، وكأن مفتاح الرؤیا تجلى فی معنى لفظة " كن أیها الوجود" فكان كما أراده الشاعر وجودا ذاتیا لاحقیقة له إلا فی قرارة نفس الشاعر. ویمكن فهم ذلك كله بالعودة إلى علم النفس حیث تبحث الذات إذا وقعت فی كمین عن نظراء لها أصیبوا بما أصیبت به لتخف الغلواء وهو ما یجسده القول المأثور " إذا عمت خفت" وقد عمت البلوى هنا الوجود كله فالصخرة بلواها فی بلادتها والبحر فی كمده والوجود كله سأمان والأفق معتكر:

والأفق معتكر قریح جفنه

یغضی على الغمرات والأقذاء

ولن تجد فی الشعر العربی قدیمه وحدیثه شاعرا أبدع فی وصف الغروب شأن خلیل مطران وفی الواقع فوصفه استبطان للذات وكشف لخفایاها بترصد عناصر اللوحة الطبیعیة المتجلیة فی غروب الشمس ، ولقد رأى فیه الشاعر عبرة، وأیة عبرة؟ لعلها عبرة الاضمحلال والزوال وقدیما قال الشاعر:

منع البقاء تقلب الشمس

وطلوعها من حیث لا تمسی

وطلوعها حمراء صافیة

وغروبها صفراء كالورس

الیوم أعلم مایجیء به

ومضى بفصل قضائه أمس

غیر أن الشاعر یرى الظلام طمسا للیقین وذهابا بالنور الذی تمثل جنازته ، فالظلام یذكر بالهجوع الأبدی لولا أن الشمس تشرق غدا والحیاة تبدأ دورتها من جدید لكن وحشة الروح وكآبة النفس ظلمة دامسة لن تشرق علیها شمس السرور وحق للشاعر أن یتألم لها:

یاللغروب ومابه من عبرة

للمستهام وعبرة للرائی !

أولیس نزعا للنهار وصرعة

للشمس بین جنازة الأضواء؟

أولیس طمسا للیقین ومبعثا

للشك بین غلا ئل الظلماء؟

أولیس محوا للوجود إلى مدى

وإبادة لمعالم الأشیاء؟

حتى یكون النور تجدیدا لها

ویكون شبه البعث عود ذكاء

ولا غرض للاستفهام هنا إلا الإثبات. أما السحاب فقد تلون بلون الدم والدم فی عرف الرومنطیقیین رمز المعاناة والتباریح فلا بأس أن یشبه به خواطره الحزینة مادام قد رأى الوجود كله بتأثیر من نفسه كئیبا:

وخواطری تبدو تجاه ناظری

كلمى كدامیة السحاب إزائی

وولع الشاعر بالحمرة یمتد حتى إلى الدمعة وقد عهدناها بلوریة شفافة عند الرومنطیقیین ولكنها عند الشاعر غدت حمراء:

والشمس فی شفق یسیل نضاره

فوق العقیق على ذرى سوداء

مرت خلال غما متین تحدرا

وتقطعت كالدمعة الحمراء

وقد خان الشاعر التوفیق هنا فلو أننا سلمنا معه بحمرة الدمعة وقلنا أنها اختلطت بالدم الذی كان الشاعر ینزف به مما به من تباریح ،فأی شئ یقطع الدمعة الحمراء؟ وهو یرید وصف احتجاب جزء من قرص الشمس وراء السحاب الأحمر ولو كان أراد غیر ذلك لكان أجدر به أن یقول "وتنزلت " مثلا إذا برز قرص الشمس ثانیة بعد احتجابه بالغمام. وترى الشاعر فی النهایة أقام مناحة وجودیة وتأبینا كونیا له ، ومادام الشاعر هو قلب الوجود وإذا كان القلب تعیسا حزینا فلن یضخ إلى الوجود إلا الكآبة والیأس، فبكت الطبیعة لبكائه والزمن جسد للشاعر معنى الزوال بهذا المشهد الرومنطیقی الحزین الجامع بین لوعة المعنى ودلالة اللون:

فكأن آخر دمعة للكون قد

مزجت بأدمعی لرثائی

وكأنی آنست یومی زائلا

فرأیت فی المرآة كیف مسائی !

وأما البحر الذی اختاره الشاعر لقصیدته فهو الكامل وهو یتسع بتفعیلاته الست المتكررة "متفاعلن" السباعیة لتضمن المعنى والشجن والدفق العاطفی ویزیده إضمار " متفاعلن" جرسا موسیقیا عذبا تستلذه الأذن ویعلق بالقلب وأما الضرب بإضمارمتفاعلن وحذف النون مع إسكان اللام لتغدو " مستفعل" فهو أعذب ما فی الكامل على كثرة أعاریضه وأضربه وحتى البارودی فی رثائه لزوجته تخیر هذا الضرب. لقد كنا نعد الوصف فی الشعر مهارة ذهنیة ولغویة معا تظهر براعة الشاعر فیه فی تمثل المشبه به وكلما كان فریدا غیر مسبوق وكانت علاقته بالمشبه وطیدة كلما كان الشاعر ذا عبقریة مفلقة فجاء مطران وزاد على هذا بأن أنسن الطبیعة واندغم فیها ووصفها من خلال وجدانه على سبیل التمایه أی أن تغدوا الذات والموضوع واحدا وهو بذلك مدین بلا شك للرومنطیقیة الغربیة التی اغتذى بلبانها وتمثل " الرؤیا" التی نص علیها ولیم بلیك، وقد ساعده على ذلك إضافة إلى الدفق الوجدانی وقوة المخیلة وخصبها امتلاك الأداة أی اللغة التی طوعها لأغراضه البیانیة ولا عجب فمن یزعم أن الغساسنة أجداده لا جرم أنه یمتلك ناصیة اللغة وقد أفلح الشاعر فی ذلك إلى حد بعید وستبقى قصیدته " الأسد الباكی" خیر ما یمثل مذهبه الجدید فی فن الوصف على الرغم من مسحة الكآبة البادیة علیها
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:12|