التصـــوف و الأدب
یعد التصوف من أهم المباحث
الأساسیة التی یدرسها الفكر الإسلامی إلى جانب علم الكلام والفلسفة والفكر
العربی المعاصر. وقد قطع التصوف الإسلامی أشواطا كثیرة فی تطوره إلى أن
تحول إلى طرق وزوایا ورباطات دینیة للسالكین والمریدین یقودهم شیخ أو قطب.
وقد قامت هذه الطرق والزوایا بأدوار إیجابیة تتمثل فی خدمة الناس والفقراء
والمحتاجین على مستوى الاجتماعی، والدعوة إلى الجهاد على المستوى السیاسی،
بید أن هناك من الزوایا الطرقیة التی كان لها دور سلبی یتمثل فی مهادنة
الاستعمار والتحالف معه ضد السیادة الوطنیة ومصلحة الشعب. هذا، وللتصوف
علاقة وطیدة بالأدب نثرا وشعرا، إذ استعان المتصوفة بالشعر للتعبیر عن
مجاهداتهم وشطحاتهم العرفانیة، كما استعانوا بالنثر لتقدیم قبساتهم
النورانیة وتجاربهم العرفانیة الباطنیة. إذاً، ما هی علاقة التصوف بالأدب
بصفة عامة والشعر بصفة خاصة؟
1- مفهـــوم التصوف:
من یتأمل الاشتقاقات اللغویة لكلمة التصوف، فإنه سیجد أن الكلمة تدل على عدة معان كالدلالة على الصفاء والصفو؛ لأن هم المتصوف هو تزكیة النفس وتطهیرها وتصفیتها من أدران الجسد وشوائب المادة والحس، وقد تشیر الكلمة إلى أهل الصفة الذین كانوا یسكنون صفة المسجد النبوی، ویعیشون على الكفاف والتقشف وشظف العیش، ویزهدون فی الحیاة الدنیا. وهناك من یربط التصوف بلباس الصوف ؛ لأن المتصوفة كانوا یلبسون ثیابا مصنوعة من الصوف الخشن، فی حین ذهب البیرونی إلى أن التصوف مشتق من كلمة صوفیا الیونانیة، والتی هی بمعنى الحكمة. وعلى الرغم من تعدد معانی كلمة التصوف، فإن الدلالة الأمیل إلى المنطق والصواب هی اشتقاقها من الصوف الذی یشكل علامة تمیز العارف وتفرد الزاهد عن باقی الناس داخل المجتمع العربی الإسلامی، وقد یكون هذا تأثرا بالرهبان النصارى أو تأثرا بأحبار الیهود.
ویقصد بالتصوف فی الاصطلاح تلك التجربة الروحانیة الوجدانیة التی یعیشها السالك المسافر إلى ملكوت الحضرة الإلهیة و الذات الربانیة من أجل اللقاء بها وصالا وعشقا، ویمكن تعریفه كذلك بأنه تحلیة وتخلیة وتجل، ویمكن القول أیضا بأن التصوف هو محبة الله والفناء فیه والاتحاد به كشفا وتجلیا من أجل الانتشاء بالأنوار الربانیة والتمتع بالحضرة القدسیة.
ویلاحظ أن لكل متصوف تعریفا خاصا للتصوف حسب التجربة الصوفیة التی یخوضها فی حضرة الذات المعشوقة. وإذا كان الفلاسفة یعتمدون على العقل والمنطق للوصول إلى الحقیقة، وعلماء الكلام یعتمدون على الجدل ، والفقهاء یستندون إلى الظاهر النصی، فإن المتصوفة یتكئون فی معرفتهم على القلب والحدس الوجدانی والعرفان اللدنی متجاوزین بذلك الحس والعقل نحو الباطن. لذا یعتبر التأویل من أهم الآلیات الإجرائیة لفهم الخطاب الدینی والصوفی على حد سواء.
ویقوم التصوف الإسلامی على موضوعات بارزة تغنی عوالمه النظریة والعملیة ، وهذه المواضیع هی: المجاهدات والغیبیات والكرامات والشطحات. أی ینبنی التصوف على مجموعة من المقامات والأحوال والمراقی الروحانیة عبر مجاهدة النفس ومحاسبتها ، والإیمان بالصفات الربانیة ومحاولة استكشافها روحانیا ووجدانیا، ورصد الكرامات الخارقة التی قد تصدر عن العارف السالك أو المرید المسافر أو الشیخ القطب، فتبرز العوالم الفانطاستیكیة، وتنكشف الأسرار الكونیة ومفاتیح الغیب أمام العبد العاشق الذی انصهر فی حب معشوقه النورانی . وتتحول الممارسات والأقوال والعبارات العرفانیة عند بعض الصوفیة إلى شطحات لا أساس لها من الصحة والواقع، وتكون اقرب من عالم التخریف والأسطورة والأحلام.
ویستعیر التصوف مصطلحاته من عدة معاجم كالمعجم الفلسفی والمعجم الأدبی والمعجم النحوی والمعجم الصرفی والمعجم الكیمیائی، والمعجم الفقهی، والمعجم الأصولی، والمعجم القرآنی، والمعجم النبوی….
2- مراحل التصوف:
یمكن تقسیم أطوار التصوف إلى عدة مراحل أساسیة یمكن إجمالها فی المراحل التالیة:
أ- مرحلة الزهـــد:
انطلق التصوف الإسلامی مع مجموعة من الزهاد والأتقیاء الورعین الذین كانوا یعتكفون فی المساجد، یقضون حیاتهم فی عبادة الله وتنفیذ أوامره واجتناب نواهیه . وكان أهل الصفة فی عهد الدعوة الإسلامیة من الزهاد الذی ارتضوا حیاة التقشف والفقر وسبیل الفاقة؛ لأن الدنیا زائلة بینما الآخرة باقیة. وكان الرسول ( صلعم) نموذجا حقیقیا للزهد والورع والتقوى ، إذ لم ینسق مع مغریات الحیاة الدنیا، بل كان یكبح نفسه من أجل نیل رضى الآخرة. ولقد سار الصحابة رضوان الله علیهم على نفس الطریق الذی سار فیه النبی المقتدى ، فآثروا حیاة النسك والزهد والتقشف والورع من أجل نیل مرضاة الله وجنته العلیا.
ب- مرحلة التصوف السنی:
لم یظهر التصوف السنی إلا بعد مرحلة الزهد والتقشف فی الدنیا واختیار حیاة الورع والتقوى والإخلاص فی الاعتكاف والإكثار من الخلوة و التخلی عن الدنیا واستشراف الآخرة. وسمی بالتصوف السنی ؛ لأنه كان مبنیا على الشریعة الإسلامیة وأحكام الشرع الربانی، أی إن الصوفیة كانوا یوفقون بین الباطن والظاهر أو یؤالفون بین الشریعة النصیة والباطن العرفانی. وبتعبیر آخر، كان المتصوفة السنیون یستندون إلى الكتاب أولا، فالسنة النبویة ثانیا مع الابتعاد عما یغضب الله و تمثل أوامره والابتعاد عن الحرام وارتكاب الذنوب والمعاصی والارتماء فی أحضان الذات المعشوقة. ومن أهم المتصوفة السنیین نذكر: الحسن البصری الذی عرف بالخوف الصوفی، والمحاسبی الذی أوجد أصول التصوف والمجاهدة، والقشیری المعروف بالرسالة القشیریة، والغزالی صاحب كتاب " منقذ الضلال" والذی یعد من السباقین إلى التوفیق بین الظاهر والباطن على ضوء الشریعة الإسلامیة، ورابعة العدویة المعروفة بالمحبة الإلهیة، والجنید ، وأبو نصر السراج، وابن المبارك ، ومالك بن دینار، وعبد القادر الجیلانی، وأحمد البدوی، وأحمد الرفاعی، وابن عبدك….
ج- مرحلة التصوف الفلسفی:
انتعش التصوف الفلسفی إبان العصر العباسی فی منتصف القرن الثالث الهجری مع انتشار الفكر الفلسفی، والاحتكاك بثقافات الشعوب المجاورة ، وترجمة الفكر الیونانی من قبل علماء بیت الحكمة الذی بناه المأمون فی بغداد لنقل تراث الفكر الهیلینی وفكر المدرسة الإسكندریة إلى اللغة العربیة. وبطبیعة الحال، سیتأثر التصوف الإسلامی بالمؤثرات الخارجیة والمؤثرات الداخلیة على حد سواء كما نجد ذلك واضحا لدى الحلاج صاحب نظریة الحلول، والبسطامی صاحب نظریة الفناء، وابن عربی صاحب فكرة وحدة الوجود، ناهیك عن شطحات غریبة فی تصوف ابن الفارض والشریف الرضی وجلال الدین الرومی ونور الدین العطار والشبلی وذی النون المصری والسهروردی. هذه النظریات الصوفیة هی التی ستدفع المستشرقین لربط التصوف بالمعتقدات المسیحیة والیهودیة والعقیدة البوذیة والنرڤانا الهندیة والتصوف الفارسی.
3- الأدب الصوفی:
أ- الشعر الصوفی القدیم:
یمكن تقسیم الأدب الصوفی إلى ثلاثة أطوار: الطور الأول یبدأ من ظهور الإسلام وینتهی فی أواسط القرن الثانی للهجرة؛ " وكل ما بین أیدینا منه طائفة كبیرة من الحكم والمواعظ الدینیة والأخلاق تحث على كثیر من الفضائل، وتدعو إلى التسلیم بأحكام الله ومقادیره، وإلى الزهد والتقشف وكثرة العبادة والورع، وعلى العموم تصور لنا عقیدة هذا العصر من البساطة والحیرة.
والطور الثانی یبدأ من أواسط القرن الثانی الهجری إلى القرن الرابع. وهنا یبدو ظهور آثار التلقیح بین الجنس العربی والأجناس الأخرى، وفیه یظهر اتساع أفق التفكیر اللاهوتی، وتبدأ العقائد تستقر فی النفوس على أثر نمو علم الكلام. وفیه یظهر عنصر جدید من الفلسفة. والأدب الصوفی فی طوریه الأول والثانی أغلبه نثر، وإن ظهر الشعر قلیلا فی طوره الثانی. وفی الطور الثانی هذا یبدأ تكون الاصطلاحات الصوفیة والشطحات.
أما الطور الثالث فیستمر حتى نهایة القرن السابع وأواسط القرن الثامن، وهو العصر الذهبی فی الأدب الصوفی، غنی فی شعره، غنی فی فلسفته، شعره من أغنى ضروب الشعر وأرقاها، وهو سلس واضح وإن غمض أحیانا." [1]
هذا، وقد تطور الأدب الصوفی نثرا وشعرا، وبلغ الشعر الصوفی ذروته مع ابن العربی وابن الفارض فی الشعر العربی، وجلال الدین الرومی فی الشعر الفارسی. ولم یظهر الشعر الصوفی إلا بعد شعر الزهد والوعظ الذی اشتهر فیه كثیرا أبو العتاهیة ، و قد ظهر الشعر الصوفی كذلك بعد شعر المدیح النبوی وانتشار التنسك والورع والتقوى بین صفوف العلماء والأدباء والفقهاء والمحدثین كإبراهیم بن أدهم، وسفیان الثوری، وداود الطائی، ورابعة العدویة، والفضیل بن عیاض، وشقیق البلخی، وسفیان بن عیینة، ومعروف الكرخی ،وعمرو بن عبید، والمهتدی. ویعنی هذا أن الشعر الصوفی ظهر فی البدایة عند كبار الزهاد والنساك، ثم" أخذت معالمه تتضح فی النصف الأول من القرن الثالث الهجری. فذو النون (ت245هــ) واضع أسس التصوف، ورأس الفرقة لأن الكل أخذ عنه وانتسب إلیه، وهو أول من فسر إشارات الصوفیة وتكلم فی هذا الطریق.
ولم ینته القرن الثالث الهجری حتى أصبح الشعر الصوفی شعرا متمیزا یحمل بین طیاته منهجا كاملا للتصوف، وأما الذین جاؤوا بعدهم فإنهم تمیزوا بالإفاضة والتفسیر." [2] ویقول الدكتور شوقی ضیف فی هذا السیاق:" ومنذ أواخر القرن الثالث الهجری تلقانا ظاهرة جدیدة فی بیئات الصوفیة، فقد كان السابقون منهم لاینظمون الشعر بل یكتفون بإنشاد ماحفظوه من أشعار المحبین وهم فی أثناء ذلك یتواجدون وجدا لایشبهه وجد، أما منذ أبی الحسین النوری المتوفى سنة 295هـ فإن صوفیین كثیرین ینظمون الشعر معبرین به عن التیاع قلوبهم فی الحب آملین فی الشهود مستعطفین متضرعین، مصورین كیف یستأثر حبهم لربهم بأفئدتهم استئثارا مطلقا، نذكر منهم سحنون أبا الحسین الخواص المتوفى سنة 303، وأبا علی الروذباری المتوفى سنة 322 ، والشبلی دلف بن جحدر المتوفى سنة 334 وجمیعهم من تلامذة الجنید.
وواضح أن العصر العباسی الثانی لم یكد ینتهی حتى تأصلت فی التصوف فكرة المعرفة الإلهیة ومحبة الله كما تأصلت فكرة أن الصوفیة أولیاء الله ،" [3] وقد ترتب عن هذا أن اشتهر كثیر من الصوفیة فی العصر العباسی كالسری السقطی الذی یعد أول من تكلم فی لسان التوحید وحقائق الأحوال ، وهو أیضا أول من تكلم فی المقامات والأحوال قبل ذی النون المصری [4]، وسهل بن عبد الله التستری، والجنید، والحسین بن منصور المشهور باسم الحلاج، والحسن بن بشر، ویحیى بن معاذ، وأبی سعید الخراز، وحمدون القصار النیسابوری، والمحاسبی، وابن العربی ، وابن الفارض، والشریف الرضی، والنفری صاحب كتابی:" المواقف" و" المخاطبات". ومن أصول التصوف عند هؤلاء العارفین: التمسك بكتاب الله تعالى، والاقتداء بسنة رسول الله( ص)، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وأداء الحقوق. [5] ویقول الجنید:" طریقنا مضبوط بالكتاب والسنة، ومن لم یحفظ القرآن ولم یكتب الحدیث ولم یتفقه لا یقتدى به". [6] ومن الشعراء الذین مالوا إلى الكتابة الصوفیة جحظة البرمكی إبان العصر العباسی حیث یظهر تجلده ومحاسبته للنفس ومیله إلى التزهد والتقشف فی الحیاة وارتضاء عیش الفقر والضنك بدلا من الارتماء فی أحضان الدنیا الفانیة:
إنی رضیت من الرحیق بشراب تمر كالعقیق
ورضیت من أكل السمیـــــد بأكل مسود الدقیق
ورضیت من سعة الصحـــــن بمنزل ضنك وضیق
وعرفت رابعة العدویة بكونها شاعرة فلسفة الحب ؛ لأنها حصرت حیاتها فی حب الذات الربانیة والسهر المستمر من أجل استكشافها لقاء ووصالا:
أحبك حبین: حب الهوى
وحبا لأنك أهل لذاكـــــــا
فأما الذی هو حب الهوى
فشغل بذكرك عمن سواكا
وأما الذی أنت أهل له
فكشفك لی الحجب حتى أراكا
فلا الحمد فی ذا ولا ذاك لی
ولكن لك الحمد فی ذا وذاكا
واعتبر ذو النون القرآن الكریم محرك القلوب والهمم والوجدان الروحی، و عده السبب لكل تذلل عرفانی یصدر عن المحب العاشق:
منع القرآن بوعده ووعیده
مقل العیون بلیلها أن تهجعا
فهموا عن الملك الكریم كلامه
فه۫ما تذل له الرقاب وتخضعا
ویشید ذو النون بمحبة الله التی توصل العارف السالك إلى النجاة والفوز برضى الله ووصاله اللدنی:
من لاذ بالله نجــــا بالله
وسره مــــرّ قضاء الله
لله أنفاس جـــــــرت لله
لاحول لی فیها بغیر الله
ویعظم الجنید حضور الله فی قلبه الذی یعمره بهواه ، ولا یستطیع أن ینساه مادام أن الله هو المستند والمعتمد:
حاضر فی القلب یعمره
لســـت أنساه فأذكره
فهو مولای ومعتمدی
ونصیبی منـــه أوفره
ویبین الجنید شوقه نحو الذات الإلهیة فی لحظات اللقاء والفراق وتعظیمه للحضرة الربانیة أثناء تواجدها فی قلب العارف المحب:
وتحققتـــك فی الســــر
فنــاجـــاك لســــــانی
فاجتمعــــــنا لمعان
وافترقـــــنا لمعـــــانی
إن یكن غیبك التعظـ
ـیم عن لحظ عیانی
فلقد صیرك الوجد من الأحشــــــاء دانی [7]
ویتبنى الجنید فی بعض الأبیات الشعریة نظریة الفناء فی الذات الربانیة على غرار أبی یزید البسطامی، ویكون الفناء عن طریق تجرد النفس عن رغباتها وقمعها لشهواتها وانمحاء إرادتها والفناء فی الذات الإلهیة كما فی هذا البیت الشعری:
أفنیتنی عن جمیعی
فكیف أرعى المحلا
وقد عمل الجنید على إرساء نظام الطرق الصوفیة وتحدید مسالك العارفین ونظام المریدین فی التصوف الإسلامی. ومن شعراء المحبة الإلهیة وفكرة الفناء الصوفی عبر انمحاء الإرادة البشریة وذوبانها فی الإرادة الربانیة الشاعر الصوفی أبو الحسین سحنون الخواص الذی قال:
وكان فؤادی خالیا قبل حبكـــم
وكان بذكر الخلق یلهو ویمزح
فلما دعا قلبی هواك أجابه
فلست أراه عن فنائك یــــــبرح
رمیت ببین منك إن كنت كاذبا
وإن كنت فی الدنیا بغیرك أفرح
وإن كل شیء فی البلاد بأسرها
إذا غبت عن عینی بعینی یملح
ومن الشعراء الذین تغنوا بفكرة الفناء والمحبة الإلهیة الشاعر الصوفی أبو علی الروذباری:
روحی إلیك بكلها قد أجمعت
لو أن فیها هلكها ما أقلعت
تبكی علیك بكلها عن كلها
حتى یقال من البكاء تقطعت
وتشید میمونة السوداء بالعارفین السالكین الذین یحبون الله ویسلكون فی تجلدهم الروحانی مقامات وأحوالا من أجل الاتحاد بالله ومعانقته والاتصال بجبروته وقدسیته النوارنیة:
قلوب العارفین لها عیون
ترى ما لا یراه الناظروما
وألسنة بسر قد تنــــاجی
تغیب عن الكــــرام الكاتبینا
وأجنحة تطیر بغــیر ریش
إلى ملكــــوت رب العالمینا
فتسقیها شراب الصدق صرفا
وتشرب من كؤوس العارفینا
[8]
ویعد الحلاج من كبار الصوفیة الذین تغنوا بالذات الربانیة ، وقد استطاع أن یبرهن على وجود الله اعتمادا على التجلی النورانی والمحبة الروحانیة التی یعجز عن إدراكها أصحاب الظاهر والحس المادی:
لم یبق بینی وبین الحق اثنان
ولا دلیـــل بآیات وبرهان
هذا وجودی وتصریحی ومعتـقدی
هذا توحد توحیدی وإیمانی
هذا تجل بنور الحق نائره
قد أزهرت فی تلالیها بسلطان
لایستدل على الباری بصنعته
وأنتــــم حدث ینبی عن أزمان
ویزور الحلاج حبیبه فی الخلوات ویذكره سرا وجهرا، ویدركه بالقلب الوجدانی فی الحضور والغیاب قربا وبعدا، ویفهم جیدا كلمات الرب من خلال تجلیاته النورانیة وحضرته القدسیة واللدنیة:
لی حبیب أزور فی الخلوات
حاضر غائب عن اللحظات
ماترانی أصغی إلیه بسمع
كی أعی ما یقول من كلمات
كلمات من غیر شكل ولا نط
ــق ولا مثل نغمة الأصوات
فكأنی مخاطب كنت إیا
ه على خاطری بذاتی لذاتی
حاضر غائب قریب بعید
وهو لم تحوه رسوم الصفات
هو أدنى من الضمیر على الو
هم وأخفى من لائح الخطوات
بید أن الحلاج یسقط فی فكرة الحلول والتی تعنی حلول اللاهوت فی الناسوت، وتذكرنا هذه الفكرة الصوفیة بالمعتقد المسیحی الذی یؤكد الطبیعة الثنائیة للمسیح. وقد أودت هذه الفكرة بمتصوفنا إلى الصلب والإعدام حینما خرج إلى الناس وهو یقول: أنا الله أو أنا الحق، وما فی جبتی إلا الله، وفی هذا یقول الحلاج:
سبحان من أظهر ناسوته
سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا لخلقه ظاهرا
فی صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاینه خلقه
كلحظة الحاجب بالحاجب
وفی موقع آخر یؤكد هذه الحلولیة بقوله الشعری:
مزجت روحك فی روحی كما
تمزج الخمرة بالماء الزلال
فإذا مسك شیء مسنی
فإذا أنت أنا فی كل حال
ویقول أیضا:
أنا من أهوى، ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتنی أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
وهذه الشطحات الصوفیة هی التی دفعت المستشرقین إلى ربط التصوف الفلسفی بالمؤثرات الخارجیة بعیدا عن القرآن والسنة، إذ أرجعوا التصوف الإسلامی إلى مصادر خارجیة كالمسیحیة والیهودیة و الفارسیة والبوذیة والأفلاطونیة المحدثة. و من جهة أخرى، یلقى الصوفیة فی مسالكهم الوجدانیة ومقاماتهم أنواعا من البلاء والمحن خاصة أثناء خلوتهم الروحانیة التی تستلزم الصبر والتجلد والفقر والمعاناة والضنى من أجل لقاء الله والاتصال به حضرة وتجربة وانكشافا كما فی هذین البیتین للشاعر العباسی أبی الحسن النوری:
كم حسرة لی وقد غصت مرارتها
جعلت قلبی لها وقفا لبلواك
وحق ما منك یبلینی ویتلفنی
لأبكینك أو أحظى بلقیاك [9]
ویعد ذو النون المصری أول من تحدث عن الأحوال والمقامات الصوفیة إلى جانب السری السقطی، وهو حسب شوقی ضیف:" الأب الحقیقی للتصوف، هو أول من تكلم عن المعرفة الصوفیة فارقا بینها وبین المعرفة العلمیة والفلسفیة التی تقوم على الفكر والمنطق، على حین تقوم المعرفة الصوفیة على القلب والكشف والمشاهدة، فهی معرفة باطنة تقوم على الإدراك الحدسی، ولها أحوال ومقامات" . [10] وإلیكم أبیات ذی النون المصری وهو یناجی ربه روحانیا:
أموت وما ماتت إلیك صبابتی
ولا قضیت من صدق حبك أوطاری
تحمــــــــــل قلبی ما لا أبثه
وإن طال سقمی فیك أوطال إضراری
أما ابن العربی فیقول بوحدة الوجود الناتجة عن تجاوز ثنائیة الوجود: وجود الله ووجود الكون، فعن طریق امتزاجهما فی بوتقة عرفانیة واحدة تتحقق الوحدة الوجودیة بین العارف والذات الربانیة، كما یؤمن ابن عربی بتعدد الأدیان مادامت تنصب كلها على محبة الله واستجلاء ملكوته روحانیا:
عقد الخلائق فی الإله عقائدا
وأنا اعتقدت جمیع مااعتقدوه
وقال ابن عربی أیضا:
لقد صار قلبی قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان ودیر لرهبان
وبیت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدین بدین الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب دینی وإیمانی
ومن الشعراء الذین اشتهروا بالكتابة الصوفیة ابن الفارض المصری الذی عاش ما بین القرن السادس والسابع الهجری( 576هـــ- 632هـ )، وتأثر بالتجربة الصوفیة للسهروردی. وكتب عدة قصائد صوفیة من أشهرها تائیته الكبرى وكافیته التی یتغزل فیها بالذات الربانیة مبدیا لواعجه وتشوقه إلى الحضرة الربانیة كاشفا عواطفه الصادقة ولهفته لرؤیة الله :
ابــــق لی مقلـــة لعلــی یومـــــــا
قبل مـــوتی أرى بها من رآكا
أین منی مارمت؟ هیهات بل أیـــ
ن لعیـــنی باللحــــظ لثم ثراكا
وبشیری لو جاء منك بعطف
ووجودی فی قبضتی قلت هاكا
قد كفى ماجرى دما من جفون
لی قرحی! فهل جرى ما كـفاكا
فانا من قلاك فیــــــــك معنى
قبل أن یعرف الهــــوى یهـــواكا
بانكساری بذلتی بخضوعی
بافتقـــــاری بفـــاقـــتی لغنــــــاكا
لاتكلــــنی إلى قوى جلد خا
ن ، فإنی أصبحــت من ضعــفاكا
كنت تجفو وكان لی بعض صبر
أحسن الله فی اصطباری عزاكا!
كم صدود عساك ترحم شكوا
ی، ولو باستماع قولــی عساكا!
شنّع المرجفون عنك بهجری
وأشاعـــــوا أنی سلـوت هــــواكا
ما بأحشائهم عشقت، فأسلو
عنــــــك یوما. دع یهجر حاشاكا
كیف أسلو ؟ ومقلتی كلما لا
ح بریـــــق تلفتت للقـــــــــــــاكا
كل من فی حماك یهواك لكن
أننــــــا بكــــــل مـــن فی حماكا
ومن ممیزات الشعر الصوفی القدیم السمو الروحی، واستكناه المعانی النفسیة العمیقة ، والخضوع لإرادة الله القویة، والإكثار من الخیال ، واستعمال الرمزیة والشطحات الصوفیة، والجنوح نحو الإبهام والغموض، والتأرجح بین الظاهر والباطن، والتأثر بالشریعة الإسلامیة كما هو شأن التصوف السنی ، وتمثل المصادر الفلسفیة والعقائد الأجنبیة كما هو حال الشعر الصوفی الفلسفی.
ب- الأدب الصوفی الحدیث:
إذا كان الكثیر من المتصوفة هم الذین كتبوا الأشعار الصوفیة فی محبة الله وفنائه فی الشعر العربی القدیم، ففی العصر الحدیث نجد الشعراء هم الذین دبجوا تجارب صوفیة فی قصائد ذاتیة وجدانیة كما فی القصائد الرومانسیة عند عبد الكریم بن ثابت فی مصنفه الشعری :" دیوان الحریة" الذی قدم فیه الشاعر رحلات صوفیة وجدانیة یقوم بها الشاعر السالك المسافر بتعراجه فی السماء ، وهو فی حالة سكر وانتشاء، ولا یعود إلى وعیه إلا مع فترة الصحو ویقظة اللقاء والوصال. ولابد أن نذكر شاعرا رومانسیا آخر أبدع الكثیر من القصائد الصوفیة ألا وهو: الشاعر المصری محمود حسن إسماعیل كما فی دیوانه الشعری:" قاب قوسین" الذی یقول فیه معبرا عن حالة الكشف الصوفی والتجلی الربانی:
مزقی عن وجهــــك الیانع، أسمال القنــاع
وارفعی الستـر، بلا خوف على أی متــاع
زادك النور، وفی دربك ینبـــوع الشعــاع
فانفذی…فالسر إن سرت على قیــد ذراع
واصرعی الموج، ولو أقبلت من غیر شراع
. [11]
ت- الشعر الصوفی المعاصر:
مع انطلاق الشعر العربی المعاصر أو ما یسمى بشعر التفعیلة منذ منتصف القرن العشرین، بدأ الشعراء یشغلون التراث فی شعرهم على غرار تجربة إلیوت فی دیوانه "أرض الیباب" ، حینما اتكأ على الموروث الأسطوری لنعی الحضارة الغربیة وإعلان إفلاسها. واقتداء بإلیوت، غدا الشعراء العرب المعاصرون یوظفون التراث الأسطوری والتاریخی واستخدام الأقنعة الدینیة والفنیة والأدبیة والصوفیة، وتشغیل الرموز المكانیة والطبیعیة واللغویة من أجل خلق قصیدة الرؤیا والانزیاح التی تتجاوز طرائق الاجترار والامتصاص والاستنساخ فی التعامل مع التراث إلى طریقة الحوار والتناص قصد خلق تعددیة صوتیة تحیل على المعرفة الخلفیة للكاتب ومرجعیاته الثقافیة وسمو حسه الشعری، وجمعه بین المتعة والفائدة فی شعره.
وقلما نجد شاعرا عربیا معاصرا یكتب شعر التفعیلة أو الشعر المنثور بدون أن یوظف التراث أو یشغل الكتابة الصوفیة أو یستلهم الشخصیات الصوفیة أو یستعمل تعابیر المعرفة اللدنیة أو یستحضر مقتبسات المتصوفة والوعاظ أو ینحو منحاهم فی التخییل والتجرید واستعمال الرموز و الاستعانة برشاقة الأسلوب وتلوین النصوص الشعریة بنفحات الدین والعرفان الباطنی. هذا، وإن استعارة" الشخصیات الصوفیة مثلت ظاهرة واضحة فی الشعر المعاصر، وقد اختار شعراؤنا المعاصرون شخصیات عدیدة من أهل التصوف واجهوا بها قارئ قصائدهم، واتخذوا منها قناعا یتحدثون به ومن ورائه عن مشاغلهم ومعاناتهم ومواقفهم. ولیس ذلك فحسب، بل نجد الشاعر المعاصر أحیانا یندمج فی الشخصیة الصوفیة ویحل فیها حلولا صوفیا. ویتحد بأبعادها بفعل تشابه أحواله بأحوالها." [12] ومن الشعراء الذی وظفوا الخطاب الصوفی نذكر: بدر شاكر السیاب و نازك الملائكة وعبد الوهاب البیاتی وأدونیس وصلاح عبد الصبور ومحمد الفیتوری وخلیل حاوی ومحمد عفیفی مطر ومحمد محمد الشهاوی وأحمد الطریبق أحمد ومحمد السرغینی وحسن الأمرانی ومحمد بنعمارة وعبد الكریم الطبال وأحمد بلحاج آیة وارهام ومحمد علی الرباوی وآخرین.
وقد استعار هؤلاء الشعراء مجموعة من الشخصیات الصوفیة كشخصیة النفری عند أدونیس، وشخصیة السهروردی وفرید الدین العطار وجلال الدین الرومی عند عبد الوهاب البیاتی، وشخصیة الحلاج عند صلاح عبد الصبور فی قصیدته الدرامیة" مأساة الحلاج"، وعبد الوهاب البیاتی فی قصیدة بعنوان" عذابات الحلاج"، وأدونیس فی قصیدة تحت عنوان" مرثیة الحلاج"، وشخصیة إبراهیم بن أدهم عند الشاعر التونسی محیی الدین خریف، وشخصیة رابعة العدویة عند نازك الملائكة فی قصیدتها" الهجرة إلى الله".
ویمتاز الشعر الصوفی المعاصر باستعمال التناص بكثرة فضلا عن الاستشهاد بالمستنسخات والمقتبسات والشذرات العرفانیة. كما یشغل الشعراء المعاصرون فی قصائدهم ودواوینهم الشعریة خطاب الانزیاح الصوفی و الرموز الإحالیة والعبارات الموحیة الرشیقة. وهناك من الشعراء من سقط فی خاصیة الإبهام والغموض خاصة الشاعر الحداثی أدونیس الذی حول كتاباته الشعریة إلى طلاسم من الصعب تفكیكها و فهمها وتأویلها . وهناك من أحسن توظیف التناص الصوفی فی سیاقه الشعری الملائم إبداعیا، وهناك من وظف العبارات العرفانیة والمفاهیم الصوفیة دون أن یعیش التجربة أو یستكنهها بشكل جید؛ مما أوقع نصوص الكثیر منهم فی التصنع الزائد والتمحل الشعری.
خاتمــــة:
ویتضح لنا مما سبق ، أن المتصوفة والشعراء على حد سواء استعملوا الكتابة الشعریة للتعبیر عن تجاربهم العرفانیة وأحوالهم الذوقیة ومجاهداتهم النفسیة ومقاماتهم الباطنیة.
هذا، وقد ترابط الشعر مع التصوف منذ مرحلة مبكرة لینتعش الشعر الصوفی مع القرن الثالث من العصر العباسی. وقد سبق هذا الشعر ما یسمى بشعر الزهد وشعر المدیح النبوی اللذین سبقا الشعر الصوفی منذ فترة مبكرة. وقد آثرنا أن یكون موضوعنا منصبا على الشعر الصوفی مرجئین الكتابة النثریة إلى دراسة لاحقة إن شاء الله.
وعلیه، فقد بینا أن الشعر الصوفی عرف عدة أطوار فی القدیم والحدیث، ففی القدیم ارتبط التصوف بشعر الزهد وشعر المتصوفة السنیین، لینتقل بعد ذلك إلى شعر المتصوفة الغلاة أو المتصوفة الفلاسفة. وإذا كان الشعر الصوفی فی القدیم من نظم المتصوفة ، فإن الشعر الصوفی فی العصر الحدیث والمعاصر من نسج الشعراء المبدعین الذین صاغوا قصائد صوفیة فی إطار تجارب كلیة أو جزئیة أو فی شكل استشهادات تناصیة موحیة أو فی شكل مستنسخات تناصیة وظیفیة وغیر وظیفیة.
حواشی
[1] أحمد أمین: ظهر الإسلام، المجلد الثانی، 3-4، دار الكتاب العربی، بیروت، لبنان، ط 1969، ص:173؛
[2] - د. علی جمیل مهنا: الأدب فی ظل الخلافة العباسیة، الطبعة الأولى 1981، مطبعة النجاح الجدیدة ، الدار البیضاء، ص:173؛
[3] - د. شوقی ضیف: العصر العباسی الثانی، دار المعارف بمصر، ط 2 ، ص:113-114؛
[4] د. شوقی ضیف: العصر العباسی الثانی، دار المعارف بمصر، ط 2 ، ص:109؛
[5] أبو عبد الرحمن السلمی: طبقات الصوفیة، طبعة لیدن، 1960م، ص: 141؛
[6] أبو عبد الرحمن السلمی: طبقات الصوفیة، طبعة لیدن، 1960م، ص: 141؛
[7] أبو نصر السراج: اللمع، طبعة دار الكتب الحدیثة 1960م، ص:283؛
[8] انظر النیسابوری: عقلاء المجانین، ترجمة میمونة، طبعة دمشق، سوریا، 1924م؛
[9] أبو عبد الرحمن السلمی: طبقات الصوفیة، طبعة لیدن، 1960م، ص: 153؛
[10] شوقی ضیف: العصر العباسی الثانی، ص:475-476؛
[11] محمود حسن إسماعیل: دیوان قاب قوسین، ط الأولى، 1964م، دار العروبة، القاهرة، ص:10؛
[12] محمد بنعمارة: الأثر الصوفی فی الشعر العربی المعاصر، شركة النشر والتوزیع ، المدارس، الدار البیضاء، ط 1، 2001م، ص: 266؛
1- مفهـــوم التصوف:
من یتأمل الاشتقاقات اللغویة لكلمة التصوف، فإنه سیجد أن الكلمة تدل على عدة معان كالدلالة على الصفاء والصفو؛ لأن هم المتصوف هو تزكیة النفس وتطهیرها وتصفیتها من أدران الجسد وشوائب المادة والحس، وقد تشیر الكلمة إلى أهل الصفة الذین كانوا یسكنون صفة المسجد النبوی، ویعیشون على الكفاف والتقشف وشظف العیش، ویزهدون فی الحیاة الدنیا. وهناك من یربط التصوف بلباس الصوف ؛ لأن المتصوفة كانوا یلبسون ثیابا مصنوعة من الصوف الخشن، فی حین ذهب البیرونی إلى أن التصوف مشتق من كلمة صوفیا الیونانیة، والتی هی بمعنى الحكمة. وعلى الرغم من تعدد معانی كلمة التصوف، فإن الدلالة الأمیل إلى المنطق والصواب هی اشتقاقها من الصوف الذی یشكل علامة تمیز العارف وتفرد الزاهد عن باقی الناس داخل المجتمع العربی الإسلامی، وقد یكون هذا تأثرا بالرهبان النصارى أو تأثرا بأحبار الیهود.
ویقصد بالتصوف فی الاصطلاح تلك التجربة الروحانیة الوجدانیة التی یعیشها السالك المسافر إلى ملكوت الحضرة الإلهیة و الذات الربانیة من أجل اللقاء بها وصالا وعشقا، ویمكن تعریفه كذلك بأنه تحلیة وتخلیة وتجل، ویمكن القول أیضا بأن التصوف هو محبة الله والفناء فیه والاتحاد به كشفا وتجلیا من أجل الانتشاء بالأنوار الربانیة والتمتع بالحضرة القدسیة.
ویلاحظ أن لكل متصوف تعریفا خاصا للتصوف حسب التجربة الصوفیة التی یخوضها فی حضرة الذات المعشوقة. وإذا كان الفلاسفة یعتمدون على العقل والمنطق للوصول إلى الحقیقة، وعلماء الكلام یعتمدون على الجدل ، والفقهاء یستندون إلى الظاهر النصی، فإن المتصوفة یتكئون فی معرفتهم على القلب والحدس الوجدانی والعرفان اللدنی متجاوزین بذلك الحس والعقل نحو الباطن. لذا یعتبر التأویل من أهم الآلیات الإجرائیة لفهم الخطاب الدینی والصوفی على حد سواء.
ویقوم التصوف الإسلامی على موضوعات بارزة تغنی عوالمه النظریة والعملیة ، وهذه المواضیع هی: المجاهدات والغیبیات والكرامات والشطحات. أی ینبنی التصوف على مجموعة من المقامات والأحوال والمراقی الروحانیة عبر مجاهدة النفس ومحاسبتها ، والإیمان بالصفات الربانیة ومحاولة استكشافها روحانیا ووجدانیا، ورصد الكرامات الخارقة التی قد تصدر عن العارف السالك أو المرید المسافر أو الشیخ القطب، فتبرز العوالم الفانطاستیكیة، وتنكشف الأسرار الكونیة ومفاتیح الغیب أمام العبد العاشق الذی انصهر فی حب معشوقه النورانی . وتتحول الممارسات والأقوال والعبارات العرفانیة عند بعض الصوفیة إلى شطحات لا أساس لها من الصحة والواقع، وتكون اقرب من عالم التخریف والأسطورة والأحلام.
ویستعیر التصوف مصطلحاته من عدة معاجم كالمعجم الفلسفی والمعجم الأدبی والمعجم النحوی والمعجم الصرفی والمعجم الكیمیائی، والمعجم الفقهی، والمعجم الأصولی، والمعجم القرآنی، والمعجم النبوی….
2- مراحل التصوف:
یمكن تقسیم أطوار التصوف إلى عدة مراحل أساسیة یمكن إجمالها فی المراحل التالیة:
أ- مرحلة الزهـــد:
انطلق التصوف الإسلامی مع مجموعة من الزهاد والأتقیاء الورعین الذین كانوا یعتكفون فی المساجد، یقضون حیاتهم فی عبادة الله وتنفیذ أوامره واجتناب نواهیه . وكان أهل الصفة فی عهد الدعوة الإسلامیة من الزهاد الذی ارتضوا حیاة التقشف والفقر وسبیل الفاقة؛ لأن الدنیا زائلة بینما الآخرة باقیة. وكان الرسول ( صلعم) نموذجا حقیقیا للزهد والورع والتقوى ، إذ لم ینسق مع مغریات الحیاة الدنیا، بل كان یكبح نفسه من أجل نیل رضى الآخرة. ولقد سار الصحابة رضوان الله علیهم على نفس الطریق الذی سار فیه النبی المقتدى ، فآثروا حیاة النسك والزهد والتقشف والورع من أجل نیل مرضاة الله وجنته العلیا.
ب- مرحلة التصوف السنی:
لم یظهر التصوف السنی إلا بعد مرحلة الزهد والتقشف فی الدنیا واختیار حیاة الورع والتقوى والإخلاص فی الاعتكاف والإكثار من الخلوة و التخلی عن الدنیا واستشراف الآخرة. وسمی بالتصوف السنی ؛ لأنه كان مبنیا على الشریعة الإسلامیة وأحكام الشرع الربانی، أی إن الصوفیة كانوا یوفقون بین الباطن والظاهر أو یؤالفون بین الشریعة النصیة والباطن العرفانی. وبتعبیر آخر، كان المتصوفة السنیون یستندون إلى الكتاب أولا، فالسنة النبویة ثانیا مع الابتعاد عما یغضب الله و تمثل أوامره والابتعاد عن الحرام وارتكاب الذنوب والمعاصی والارتماء فی أحضان الذات المعشوقة. ومن أهم المتصوفة السنیین نذكر: الحسن البصری الذی عرف بالخوف الصوفی، والمحاسبی الذی أوجد أصول التصوف والمجاهدة، والقشیری المعروف بالرسالة القشیریة، والغزالی صاحب كتاب " منقذ الضلال" والذی یعد من السباقین إلى التوفیق بین الظاهر والباطن على ضوء الشریعة الإسلامیة، ورابعة العدویة المعروفة بالمحبة الإلهیة، والجنید ، وأبو نصر السراج، وابن المبارك ، ومالك بن دینار، وعبد القادر الجیلانی، وأحمد البدوی، وأحمد الرفاعی، وابن عبدك….
ج- مرحلة التصوف الفلسفی:
انتعش التصوف الفلسفی إبان العصر العباسی فی منتصف القرن الثالث الهجری مع انتشار الفكر الفلسفی، والاحتكاك بثقافات الشعوب المجاورة ، وترجمة الفكر الیونانی من قبل علماء بیت الحكمة الذی بناه المأمون فی بغداد لنقل تراث الفكر الهیلینی وفكر المدرسة الإسكندریة إلى اللغة العربیة. وبطبیعة الحال، سیتأثر التصوف الإسلامی بالمؤثرات الخارجیة والمؤثرات الداخلیة على حد سواء كما نجد ذلك واضحا لدى الحلاج صاحب نظریة الحلول، والبسطامی صاحب نظریة الفناء، وابن عربی صاحب فكرة وحدة الوجود، ناهیك عن شطحات غریبة فی تصوف ابن الفارض والشریف الرضی وجلال الدین الرومی ونور الدین العطار والشبلی وذی النون المصری والسهروردی. هذه النظریات الصوفیة هی التی ستدفع المستشرقین لربط التصوف بالمعتقدات المسیحیة والیهودیة والعقیدة البوذیة والنرڤانا الهندیة والتصوف الفارسی.
3- الأدب الصوفی:
أ- الشعر الصوفی القدیم:
یمكن تقسیم الأدب الصوفی إلى ثلاثة أطوار: الطور الأول یبدأ من ظهور الإسلام وینتهی فی أواسط القرن الثانی للهجرة؛ " وكل ما بین أیدینا منه طائفة كبیرة من الحكم والمواعظ الدینیة والأخلاق تحث على كثیر من الفضائل، وتدعو إلى التسلیم بأحكام الله ومقادیره، وإلى الزهد والتقشف وكثرة العبادة والورع، وعلى العموم تصور لنا عقیدة هذا العصر من البساطة والحیرة.
والطور الثانی یبدأ من أواسط القرن الثانی الهجری إلى القرن الرابع. وهنا یبدو ظهور آثار التلقیح بین الجنس العربی والأجناس الأخرى، وفیه یظهر اتساع أفق التفكیر اللاهوتی، وتبدأ العقائد تستقر فی النفوس على أثر نمو علم الكلام. وفیه یظهر عنصر جدید من الفلسفة. والأدب الصوفی فی طوریه الأول والثانی أغلبه نثر، وإن ظهر الشعر قلیلا فی طوره الثانی. وفی الطور الثانی هذا یبدأ تكون الاصطلاحات الصوفیة والشطحات.
أما الطور الثالث فیستمر حتى نهایة القرن السابع وأواسط القرن الثامن، وهو العصر الذهبی فی الأدب الصوفی، غنی فی شعره، غنی فی فلسفته، شعره من أغنى ضروب الشعر وأرقاها، وهو سلس واضح وإن غمض أحیانا." [1]
هذا، وقد تطور الأدب الصوفی نثرا وشعرا، وبلغ الشعر الصوفی ذروته مع ابن العربی وابن الفارض فی الشعر العربی، وجلال الدین الرومی فی الشعر الفارسی. ولم یظهر الشعر الصوفی إلا بعد شعر الزهد والوعظ الذی اشتهر فیه كثیرا أبو العتاهیة ، و قد ظهر الشعر الصوفی كذلك بعد شعر المدیح النبوی وانتشار التنسك والورع والتقوى بین صفوف العلماء والأدباء والفقهاء والمحدثین كإبراهیم بن أدهم، وسفیان الثوری، وداود الطائی، ورابعة العدویة، والفضیل بن عیاض، وشقیق البلخی، وسفیان بن عیینة، ومعروف الكرخی ،وعمرو بن عبید، والمهتدی. ویعنی هذا أن الشعر الصوفی ظهر فی البدایة عند كبار الزهاد والنساك، ثم" أخذت معالمه تتضح فی النصف الأول من القرن الثالث الهجری. فذو النون (ت245هــ) واضع أسس التصوف، ورأس الفرقة لأن الكل أخذ عنه وانتسب إلیه، وهو أول من فسر إشارات الصوفیة وتكلم فی هذا الطریق.
ولم ینته القرن الثالث الهجری حتى أصبح الشعر الصوفی شعرا متمیزا یحمل بین طیاته منهجا كاملا للتصوف، وأما الذین جاؤوا بعدهم فإنهم تمیزوا بالإفاضة والتفسیر." [2] ویقول الدكتور شوقی ضیف فی هذا السیاق:" ومنذ أواخر القرن الثالث الهجری تلقانا ظاهرة جدیدة فی بیئات الصوفیة، فقد كان السابقون منهم لاینظمون الشعر بل یكتفون بإنشاد ماحفظوه من أشعار المحبین وهم فی أثناء ذلك یتواجدون وجدا لایشبهه وجد، أما منذ أبی الحسین النوری المتوفى سنة 295هـ فإن صوفیین كثیرین ینظمون الشعر معبرین به عن التیاع قلوبهم فی الحب آملین فی الشهود مستعطفین متضرعین، مصورین كیف یستأثر حبهم لربهم بأفئدتهم استئثارا مطلقا، نذكر منهم سحنون أبا الحسین الخواص المتوفى سنة 303، وأبا علی الروذباری المتوفى سنة 322 ، والشبلی دلف بن جحدر المتوفى سنة 334 وجمیعهم من تلامذة الجنید.
وواضح أن العصر العباسی الثانی لم یكد ینتهی حتى تأصلت فی التصوف فكرة المعرفة الإلهیة ومحبة الله كما تأصلت فكرة أن الصوفیة أولیاء الله ،" [3] وقد ترتب عن هذا أن اشتهر كثیر من الصوفیة فی العصر العباسی كالسری السقطی الذی یعد أول من تكلم فی لسان التوحید وحقائق الأحوال ، وهو أیضا أول من تكلم فی المقامات والأحوال قبل ذی النون المصری [4]، وسهل بن عبد الله التستری، والجنید، والحسین بن منصور المشهور باسم الحلاج، والحسن بن بشر، ویحیى بن معاذ، وأبی سعید الخراز، وحمدون القصار النیسابوری، والمحاسبی، وابن العربی ، وابن الفارض، والشریف الرضی، والنفری صاحب كتابی:" المواقف" و" المخاطبات". ومن أصول التصوف عند هؤلاء العارفین: التمسك بكتاب الله تعالى، والاقتداء بسنة رسول الله( ص)، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وأداء الحقوق. [5] ویقول الجنید:" طریقنا مضبوط بالكتاب والسنة، ومن لم یحفظ القرآن ولم یكتب الحدیث ولم یتفقه لا یقتدى به". [6] ومن الشعراء الذین مالوا إلى الكتابة الصوفیة جحظة البرمكی إبان العصر العباسی حیث یظهر تجلده ومحاسبته للنفس ومیله إلى التزهد والتقشف فی الحیاة وارتضاء عیش الفقر والضنك بدلا من الارتماء فی أحضان الدنیا الفانیة:
إنی رضیت من الرحیق بشراب تمر كالعقیق
ورضیت من أكل السمیـــــد بأكل مسود الدقیق
ورضیت من سعة الصحـــــن بمنزل ضنك وضیق
وعرفت رابعة العدویة بكونها شاعرة فلسفة الحب ؛ لأنها حصرت حیاتها فی حب الذات الربانیة والسهر المستمر من أجل استكشافها لقاء ووصالا:
أحبك حبین: حب الهوى
وحبا لأنك أهل لذاكـــــــا
فأما الذی هو حب الهوى
فشغل بذكرك عمن سواكا
وأما الذی أنت أهل له
فكشفك لی الحجب حتى أراكا
فلا الحمد فی ذا ولا ذاك لی
ولكن لك الحمد فی ذا وذاكا
واعتبر ذو النون القرآن الكریم محرك القلوب والهمم والوجدان الروحی، و عده السبب لكل تذلل عرفانی یصدر عن المحب العاشق:
منع القرآن بوعده ووعیده
مقل العیون بلیلها أن تهجعا
فهموا عن الملك الكریم كلامه
فه۫ما تذل له الرقاب وتخضعا
ویشید ذو النون بمحبة الله التی توصل العارف السالك إلى النجاة والفوز برضى الله ووصاله اللدنی:
من لاذ بالله نجــــا بالله
وسره مــــرّ قضاء الله
لله أنفاس جـــــــرت لله
لاحول لی فیها بغیر الله
ویعظم الجنید حضور الله فی قلبه الذی یعمره بهواه ، ولا یستطیع أن ینساه مادام أن الله هو المستند والمعتمد:
حاضر فی القلب یعمره
لســـت أنساه فأذكره
فهو مولای ومعتمدی
ونصیبی منـــه أوفره
ویبین الجنید شوقه نحو الذات الإلهیة فی لحظات اللقاء والفراق وتعظیمه للحضرة الربانیة أثناء تواجدها فی قلب العارف المحب:
وتحققتـــك فی الســــر
فنــاجـــاك لســــــانی
فاجتمعــــــنا لمعان
وافترقـــــنا لمعـــــانی
إن یكن غیبك التعظـ
ـیم عن لحظ عیانی
فلقد صیرك الوجد من الأحشــــــاء دانی [7]
ویتبنى الجنید فی بعض الأبیات الشعریة نظریة الفناء فی الذات الربانیة على غرار أبی یزید البسطامی، ویكون الفناء عن طریق تجرد النفس عن رغباتها وقمعها لشهواتها وانمحاء إرادتها والفناء فی الذات الإلهیة كما فی هذا البیت الشعری:
أفنیتنی عن جمیعی
فكیف أرعى المحلا
وقد عمل الجنید على إرساء نظام الطرق الصوفیة وتحدید مسالك العارفین ونظام المریدین فی التصوف الإسلامی. ومن شعراء المحبة الإلهیة وفكرة الفناء الصوفی عبر انمحاء الإرادة البشریة وذوبانها فی الإرادة الربانیة الشاعر الصوفی أبو الحسین سحنون الخواص الذی قال:
وكان فؤادی خالیا قبل حبكـــم
وكان بذكر الخلق یلهو ویمزح
فلما دعا قلبی هواك أجابه
فلست أراه عن فنائك یــــــبرح
رمیت ببین منك إن كنت كاذبا
وإن كنت فی الدنیا بغیرك أفرح
وإن كل شیء فی البلاد بأسرها
إذا غبت عن عینی بعینی یملح
ومن الشعراء الذین تغنوا بفكرة الفناء والمحبة الإلهیة الشاعر الصوفی أبو علی الروذباری:
روحی إلیك بكلها قد أجمعت
لو أن فیها هلكها ما أقلعت
تبكی علیك بكلها عن كلها
حتى یقال من البكاء تقطعت
وتشید میمونة السوداء بالعارفین السالكین الذین یحبون الله ویسلكون فی تجلدهم الروحانی مقامات وأحوالا من أجل الاتحاد بالله ومعانقته والاتصال بجبروته وقدسیته النوارنیة:
قلوب العارفین لها عیون
ترى ما لا یراه الناظروما
وألسنة بسر قد تنــــاجی
تغیب عن الكــــرام الكاتبینا
وأجنحة تطیر بغــیر ریش
إلى ملكــــوت رب العالمینا
فتسقیها شراب الصدق صرفا
وتشرب من كؤوس العارفینا
[8]
ویعد الحلاج من كبار الصوفیة الذین تغنوا بالذات الربانیة ، وقد استطاع أن یبرهن على وجود الله اعتمادا على التجلی النورانی والمحبة الروحانیة التی یعجز عن إدراكها أصحاب الظاهر والحس المادی:
لم یبق بینی وبین الحق اثنان
ولا دلیـــل بآیات وبرهان
هذا وجودی وتصریحی ومعتـقدی
هذا توحد توحیدی وإیمانی
هذا تجل بنور الحق نائره
قد أزهرت فی تلالیها بسلطان
لایستدل على الباری بصنعته
وأنتــــم حدث ینبی عن أزمان
ویزور الحلاج حبیبه فی الخلوات ویذكره سرا وجهرا، ویدركه بالقلب الوجدانی فی الحضور والغیاب قربا وبعدا، ویفهم جیدا كلمات الرب من خلال تجلیاته النورانیة وحضرته القدسیة واللدنیة:
لی حبیب أزور فی الخلوات
حاضر غائب عن اللحظات
ماترانی أصغی إلیه بسمع
كی أعی ما یقول من كلمات
كلمات من غیر شكل ولا نط
ــق ولا مثل نغمة الأصوات
فكأنی مخاطب كنت إیا
ه على خاطری بذاتی لذاتی
حاضر غائب قریب بعید
وهو لم تحوه رسوم الصفات
هو أدنى من الضمیر على الو
هم وأخفى من لائح الخطوات
بید أن الحلاج یسقط فی فكرة الحلول والتی تعنی حلول اللاهوت فی الناسوت، وتذكرنا هذه الفكرة الصوفیة بالمعتقد المسیحی الذی یؤكد الطبیعة الثنائیة للمسیح. وقد أودت هذه الفكرة بمتصوفنا إلى الصلب والإعدام حینما خرج إلى الناس وهو یقول: أنا الله أو أنا الحق، وما فی جبتی إلا الله، وفی هذا یقول الحلاج:
سبحان من أظهر ناسوته
سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا لخلقه ظاهرا
فی صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاینه خلقه
كلحظة الحاجب بالحاجب
وفی موقع آخر یؤكد هذه الحلولیة بقوله الشعری:
مزجت روحك فی روحی كما
تمزج الخمرة بالماء الزلال
فإذا مسك شیء مسنی
فإذا أنت أنا فی كل حال
ویقول أیضا:
أنا من أهوى، ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتنی أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
وهذه الشطحات الصوفیة هی التی دفعت المستشرقین إلى ربط التصوف الفلسفی بالمؤثرات الخارجیة بعیدا عن القرآن والسنة، إذ أرجعوا التصوف الإسلامی إلى مصادر خارجیة كالمسیحیة والیهودیة و الفارسیة والبوذیة والأفلاطونیة المحدثة. و من جهة أخرى، یلقى الصوفیة فی مسالكهم الوجدانیة ومقاماتهم أنواعا من البلاء والمحن خاصة أثناء خلوتهم الروحانیة التی تستلزم الصبر والتجلد والفقر والمعاناة والضنى من أجل لقاء الله والاتصال به حضرة وتجربة وانكشافا كما فی هذین البیتین للشاعر العباسی أبی الحسن النوری:
كم حسرة لی وقد غصت مرارتها
جعلت قلبی لها وقفا لبلواك
وحق ما منك یبلینی ویتلفنی
لأبكینك أو أحظى بلقیاك [9]
ویعد ذو النون المصری أول من تحدث عن الأحوال والمقامات الصوفیة إلى جانب السری السقطی، وهو حسب شوقی ضیف:" الأب الحقیقی للتصوف، هو أول من تكلم عن المعرفة الصوفیة فارقا بینها وبین المعرفة العلمیة والفلسفیة التی تقوم على الفكر والمنطق، على حین تقوم المعرفة الصوفیة على القلب والكشف والمشاهدة، فهی معرفة باطنة تقوم على الإدراك الحدسی، ولها أحوال ومقامات" . [10] وإلیكم أبیات ذی النون المصری وهو یناجی ربه روحانیا:
أموت وما ماتت إلیك صبابتی
ولا قضیت من صدق حبك أوطاری
تحمــــــــــل قلبی ما لا أبثه
وإن طال سقمی فیك أوطال إضراری
أما ابن العربی فیقول بوحدة الوجود الناتجة عن تجاوز ثنائیة الوجود: وجود الله ووجود الكون، فعن طریق امتزاجهما فی بوتقة عرفانیة واحدة تتحقق الوحدة الوجودیة بین العارف والذات الربانیة، كما یؤمن ابن عربی بتعدد الأدیان مادامت تنصب كلها على محبة الله واستجلاء ملكوته روحانیا:
عقد الخلائق فی الإله عقائدا
وأنا اعتقدت جمیع مااعتقدوه
وقال ابن عربی أیضا:
لقد صار قلبی قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان ودیر لرهبان
وبیت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدین بدین الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب دینی وإیمانی
ومن الشعراء الذین اشتهروا بالكتابة الصوفیة ابن الفارض المصری الذی عاش ما بین القرن السادس والسابع الهجری( 576هـــ- 632هـ )، وتأثر بالتجربة الصوفیة للسهروردی. وكتب عدة قصائد صوفیة من أشهرها تائیته الكبرى وكافیته التی یتغزل فیها بالذات الربانیة مبدیا لواعجه وتشوقه إلى الحضرة الربانیة كاشفا عواطفه الصادقة ولهفته لرؤیة الله :
ابــــق لی مقلـــة لعلــی یومـــــــا
قبل مـــوتی أرى بها من رآكا
أین منی مارمت؟ هیهات بل أیـــ
ن لعیـــنی باللحــــظ لثم ثراكا
وبشیری لو جاء منك بعطف
ووجودی فی قبضتی قلت هاكا
قد كفى ماجرى دما من جفون
لی قرحی! فهل جرى ما كـفاكا
فانا من قلاك فیــــــــك معنى
قبل أن یعرف الهــــوى یهـــواكا
بانكساری بذلتی بخضوعی
بافتقـــــاری بفـــاقـــتی لغنــــــاكا
لاتكلــــنی إلى قوى جلد خا
ن ، فإنی أصبحــت من ضعــفاكا
كنت تجفو وكان لی بعض صبر
أحسن الله فی اصطباری عزاكا!
كم صدود عساك ترحم شكوا
ی، ولو باستماع قولــی عساكا!
شنّع المرجفون عنك بهجری
وأشاعـــــوا أنی سلـوت هــــواكا
ما بأحشائهم عشقت، فأسلو
عنــــــك یوما. دع یهجر حاشاكا
كیف أسلو ؟ ومقلتی كلما لا
ح بریـــــق تلفتت للقـــــــــــــاكا
كل من فی حماك یهواك لكن
أننــــــا بكــــــل مـــن فی حماكا
ومن ممیزات الشعر الصوفی القدیم السمو الروحی، واستكناه المعانی النفسیة العمیقة ، والخضوع لإرادة الله القویة، والإكثار من الخیال ، واستعمال الرمزیة والشطحات الصوفیة، والجنوح نحو الإبهام والغموض، والتأرجح بین الظاهر والباطن، والتأثر بالشریعة الإسلامیة كما هو شأن التصوف السنی ، وتمثل المصادر الفلسفیة والعقائد الأجنبیة كما هو حال الشعر الصوفی الفلسفی.
ب- الأدب الصوفی الحدیث:
إذا كان الكثیر من المتصوفة هم الذین كتبوا الأشعار الصوفیة فی محبة الله وفنائه فی الشعر العربی القدیم، ففی العصر الحدیث نجد الشعراء هم الذین دبجوا تجارب صوفیة فی قصائد ذاتیة وجدانیة كما فی القصائد الرومانسیة عند عبد الكریم بن ثابت فی مصنفه الشعری :" دیوان الحریة" الذی قدم فیه الشاعر رحلات صوفیة وجدانیة یقوم بها الشاعر السالك المسافر بتعراجه فی السماء ، وهو فی حالة سكر وانتشاء، ولا یعود إلى وعیه إلا مع فترة الصحو ویقظة اللقاء والوصال. ولابد أن نذكر شاعرا رومانسیا آخر أبدع الكثیر من القصائد الصوفیة ألا وهو: الشاعر المصری محمود حسن إسماعیل كما فی دیوانه الشعری:" قاب قوسین" الذی یقول فیه معبرا عن حالة الكشف الصوفی والتجلی الربانی:
مزقی عن وجهــــك الیانع، أسمال القنــاع
وارفعی الستـر، بلا خوف على أی متــاع
زادك النور، وفی دربك ینبـــوع الشعــاع
فانفذی…فالسر إن سرت على قیــد ذراع
واصرعی الموج، ولو أقبلت من غیر شراع
. [11]
ت- الشعر الصوفی المعاصر:
مع انطلاق الشعر العربی المعاصر أو ما یسمى بشعر التفعیلة منذ منتصف القرن العشرین، بدأ الشعراء یشغلون التراث فی شعرهم على غرار تجربة إلیوت فی دیوانه "أرض الیباب" ، حینما اتكأ على الموروث الأسطوری لنعی الحضارة الغربیة وإعلان إفلاسها. واقتداء بإلیوت، غدا الشعراء العرب المعاصرون یوظفون التراث الأسطوری والتاریخی واستخدام الأقنعة الدینیة والفنیة والأدبیة والصوفیة، وتشغیل الرموز المكانیة والطبیعیة واللغویة من أجل خلق قصیدة الرؤیا والانزیاح التی تتجاوز طرائق الاجترار والامتصاص والاستنساخ فی التعامل مع التراث إلى طریقة الحوار والتناص قصد خلق تعددیة صوتیة تحیل على المعرفة الخلفیة للكاتب ومرجعیاته الثقافیة وسمو حسه الشعری، وجمعه بین المتعة والفائدة فی شعره.
وقلما نجد شاعرا عربیا معاصرا یكتب شعر التفعیلة أو الشعر المنثور بدون أن یوظف التراث أو یشغل الكتابة الصوفیة أو یستلهم الشخصیات الصوفیة أو یستعمل تعابیر المعرفة اللدنیة أو یستحضر مقتبسات المتصوفة والوعاظ أو ینحو منحاهم فی التخییل والتجرید واستعمال الرموز و الاستعانة برشاقة الأسلوب وتلوین النصوص الشعریة بنفحات الدین والعرفان الباطنی. هذا، وإن استعارة" الشخصیات الصوفیة مثلت ظاهرة واضحة فی الشعر المعاصر، وقد اختار شعراؤنا المعاصرون شخصیات عدیدة من أهل التصوف واجهوا بها قارئ قصائدهم، واتخذوا منها قناعا یتحدثون به ومن ورائه عن مشاغلهم ومعاناتهم ومواقفهم. ولیس ذلك فحسب، بل نجد الشاعر المعاصر أحیانا یندمج فی الشخصیة الصوفیة ویحل فیها حلولا صوفیا. ویتحد بأبعادها بفعل تشابه أحواله بأحوالها." [12] ومن الشعراء الذی وظفوا الخطاب الصوفی نذكر: بدر شاكر السیاب و نازك الملائكة وعبد الوهاب البیاتی وأدونیس وصلاح عبد الصبور ومحمد الفیتوری وخلیل حاوی ومحمد عفیفی مطر ومحمد محمد الشهاوی وأحمد الطریبق أحمد ومحمد السرغینی وحسن الأمرانی ومحمد بنعمارة وعبد الكریم الطبال وأحمد بلحاج آیة وارهام ومحمد علی الرباوی وآخرین.
وقد استعار هؤلاء الشعراء مجموعة من الشخصیات الصوفیة كشخصیة النفری عند أدونیس، وشخصیة السهروردی وفرید الدین العطار وجلال الدین الرومی عند عبد الوهاب البیاتی، وشخصیة الحلاج عند صلاح عبد الصبور فی قصیدته الدرامیة" مأساة الحلاج"، وعبد الوهاب البیاتی فی قصیدة بعنوان" عذابات الحلاج"، وأدونیس فی قصیدة تحت عنوان" مرثیة الحلاج"، وشخصیة إبراهیم بن أدهم عند الشاعر التونسی محیی الدین خریف، وشخصیة رابعة العدویة عند نازك الملائكة فی قصیدتها" الهجرة إلى الله".
ویمتاز الشعر الصوفی المعاصر باستعمال التناص بكثرة فضلا عن الاستشهاد بالمستنسخات والمقتبسات والشذرات العرفانیة. كما یشغل الشعراء المعاصرون فی قصائدهم ودواوینهم الشعریة خطاب الانزیاح الصوفی و الرموز الإحالیة والعبارات الموحیة الرشیقة. وهناك من الشعراء من سقط فی خاصیة الإبهام والغموض خاصة الشاعر الحداثی أدونیس الذی حول كتاباته الشعریة إلى طلاسم من الصعب تفكیكها و فهمها وتأویلها . وهناك من أحسن توظیف التناص الصوفی فی سیاقه الشعری الملائم إبداعیا، وهناك من وظف العبارات العرفانیة والمفاهیم الصوفیة دون أن یعیش التجربة أو یستكنهها بشكل جید؛ مما أوقع نصوص الكثیر منهم فی التصنع الزائد والتمحل الشعری.
خاتمــــة:
ویتضح لنا مما سبق ، أن المتصوفة والشعراء على حد سواء استعملوا الكتابة الشعریة للتعبیر عن تجاربهم العرفانیة وأحوالهم الذوقیة ومجاهداتهم النفسیة ومقاماتهم الباطنیة.
هذا، وقد ترابط الشعر مع التصوف منذ مرحلة مبكرة لینتعش الشعر الصوفی مع القرن الثالث من العصر العباسی. وقد سبق هذا الشعر ما یسمى بشعر الزهد وشعر المدیح النبوی اللذین سبقا الشعر الصوفی منذ فترة مبكرة. وقد آثرنا أن یكون موضوعنا منصبا على الشعر الصوفی مرجئین الكتابة النثریة إلى دراسة لاحقة إن شاء الله.
وعلیه، فقد بینا أن الشعر الصوفی عرف عدة أطوار فی القدیم والحدیث، ففی القدیم ارتبط التصوف بشعر الزهد وشعر المتصوفة السنیین، لینتقل بعد ذلك إلى شعر المتصوفة الغلاة أو المتصوفة الفلاسفة. وإذا كان الشعر الصوفی فی القدیم من نظم المتصوفة ، فإن الشعر الصوفی فی العصر الحدیث والمعاصر من نسج الشعراء المبدعین الذین صاغوا قصائد صوفیة فی إطار تجارب كلیة أو جزئیة أو فی شكل استشهادات تناصیة موحیة أو فی شكل مستنسخات تناصیة وظیفیة وغیر وظیفیة.
حواشی
[1] أحمد أمین: ظهر الإسلام، المجلد الثانی، 3-4، دار الكتاب العربی، بیروت، لبنان، ط 1969، ص:173؛
[2] - د. علی جمیل مهنا: الأدب فی ظل الخلافة العباسیة، الطبعة الأولى 1981، مطبعة النجاح الجدیدة ، الدار البیضاء، ص:173؛
[3] - د. شوقی ضیف: العصر العباسی الثانی، دار المعارف بمصر، ط 2 ، ص:113-114؛
[4] د. شوقی ضیف: العصر العباسی الثانی، دار المعارف بمصر، ط 2 ، ص:109؛
[5] أبو عبد الرحمن السلمی: طبقات الصوفیة، طبعة لیدن، 1960م، ص: 141؛
[6] أبو عبد الرحمن السلمی: طبقات الصوفیة، طبعة لیدن، 1960م، ص: 141؛
[7] أبو نصر السراج: اللمع، طبعة دار الكتب الحدیثة 1960م، ص:283؛
[8] انظر النیسابوری: عقلاء المجانین، ترجمة میمونة، طبعة دمشق، سوریا، 1924م؛
[9] أبو عبد الرحمن السلمی: طبقات الصوفیة، طبعة لیدن، 1960م، ص: 153؛
[10] شوقی ضیف: العصر العباسی الثانی، ص:475-476؛
[11] محمود حسن إسماعیل: دیوان قاب قوسین، ط الأولى، 1964م، دار العروبة، القاهرة، ص:10؛
[12] محمد بنعمارة: الأثر الصوفی فی الشعر العربی المعاصر، شركة النشر والتوزیع ، المدارس، الدار البیضاء، ط 1، 2001م، ص: 266؛
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:14|