التشاؤم
النفسی عند نازك الملائكة
الموجز
كان بعض الشعراء و الأدباء مشغولین بأنفسهم و یعكفون على آلامهم الخاصة و هذا اللون من شعر المعاناة و الألم الذی یهتم الشاعر ببیان آلامه النفسیة و معاناته ینبع جمیعاَ من أصل واحد و هو الإحساس بالضیاع و الخواء و عبثیة الحیاة. و كانت أدبیاتهم مبنیة على التشاؤم لأنهم ساخطون على الدنیا متبرمون بالعالم و لا یرون فیه إلّا شراَ مستطیراَ لا سبیل إلى دفعه و طفحت دواوینهم بشعر المعاناة و الألم و الحزن فالحیاة عندهم شر كلها و إن فی ازدرائهم للحیاة مغالاة و تشاؤماَ مضرین و یصرخون متألمین لأنهم فقدوا كل أمل و قوة فهم لا یرون فی الحیاة غیر ظلام و فناء و یحسون بالقنوط غافلین عن قیمة الحیاة. و من هؤلاء " نازك الملائكة" التی تكون الحیاة عندها ملیئة بالهموم و الشقاوات و فی نفسها تشاؤم مرّ كثیف و الحیاة فی نظرتها متعقدة مع الخیبة و الخشیة فتعبر عن أحاسیسها و عواطفها الذاتیة الحزینة و تنكفئ إلى ذاتها خاصة حینما ترى أن كلما تغنیت من أحلام جمیلة محض سراب و لیست له حقیقة، أو تجد نفسها محاطة بالأحزان و الآلام تدفع بها حالة من التأمل و المعاناة و الجهد الفكری.
الكلمات الرئیسیة: نازك الملائكة، تشاؤم، عبثیة الحیاة، شعر المعاناة، الإحساس بالضیاع.
المقدمة
هناك أشخاص كثیرون مسلكهم أمام الحیاة و المجتمع سلبی و یؤدی ذلك إلى عزلتهم و ینتهی إلى نوع من العدم و الفناء و یرون أن الحیاة كلها شر؛ لأنه غالب على الخیر و من هؤلاء الذین شاهدوا شرور الحیاة " دیدرو" فإنه یقرر أن المرء حیوان ضارّ لو ترك لطبیعته و "فولتیر" یعتقد بتأصل الشر و "باسكال" یعتقد بوحدة الإنسان و جهل مصیره حیث یقول: " حین أنظر إلى هذا العالم الصامت كله، و فیه الإنسان لا نور لدیه، متروكاَ لنفسه، كأنه ضالّ فی هذا الجانب من العالم دون أن یدری من الذی و ضعه فیه و ما مصیره بعد الموت عاجزاَ عن كل معرفة……" (د. غنیمی هلال، محمد، قضایا معاصرة فی الأدب و النقد، ص 71). أو "لابروییر" یرى الشر أصیلاَ فی الناس و یقول: "لا ینبغی أن نغضب على الناس حین نرى قسوتهم و كفرانهم بالصنیع و ظلمهم و نسیانهم للآخرین، فهم هكذا خلقوا و هذه طبیعتهم". أو مثلاَ یرى "سارتر" أن الخیر فی العالم شعلة ضئیلة تهددها ریاح الشر كل جانب و "البیر كامو" یعتقد بعبثیة الحیاة و استعصائها فی ذاتها علی الفهم (نفس المرجع، ص 75).
تعبر نازك الملائكة عن عواطفها الذاتیة الحزینة و تنكفئ إلى ذاتها عندما تحس بالفراغ و الضیاع و تشعب الأهداف و غموض الغایات كأنها تدور فی حلقة مفرغة لا تعرف لها نهایة تنتهی إلیها و تعترف بالحقیقة المرة هی أن عالم الرؤى و الأحلام الذی التمسته فی الطبیعة سجن آخر لها من لون جدید فلهذا تطلب الخلاص منه. فی هذا الأوان تحس بأن الموت غایة لها لأنها بلغت النهایة و تلاقت الموت على فراشها و ذاقت لذته و استعدت نفسها للرحیل خاصة أنها كانت بین فكی الموت بسبب حمى شدیدة أصیبت بها و غلب الیأس علیها و لا حیلة لها أن ترحب بالموت بما أن حیاتها تنقضی قریبا والألحان تموت على شفتیها قبل أن تقول كل ما عندها و تدفع نفسها إلى حب الحیاة رغم الموت و ترید الحیاة من أجل أن تقول أناشیدها كلها و بعد لا تبالی أن یجیء الموت و یخطفها:
ربما تنقضی حیاتی قریبا
و تموتُ الألحانُ فی شفتیّا
لیْس فی الكونِ بعد شعری ما یغری
فؤادی فمرحبا بالممات
فإذا ما أتممت لحنی كما أهوى
فماذا أریده من حیاتی (نازك الملائكة،دیوان، دار ج1،ص 18)
و عندما تنفجر الآلام فی وجودها قویة وتتناقض الحیاة أمامها و كل ما یكون فی وجودها و إحساسها تناقض الواقع والحقیقة فی هذه اللحظة تحس ببطلان وجودها و خواء أعماقها العاطفیة و تسعى فی البحث عن معنى للوجود الإنسانی و تؤمن بعبثیة الحیاة فتسری فی أشعارها روح التشاؤم و النقمة و مكتبها الشعری أو حالتها النفسیة مفعمةبالرومنسیة و هی تدفق فی إبداعها نغما حزینا و فكرا متشائما نتیجة المرارة و الخیبة فی أعماق المحن و الأزمات و یزید التشاوم فیها . و فی هذه الحالة تمیل أن تعود إلى الماضی الجمیل و تهرب من قیود الزمان لأن فیه تحررا –كما هو شأن الشعراء الرومنسیین (د غنیمی هلال، محمد، الرومانتیكیة،ص73)- و تستعرضه بكل تفاصیله و جزئیاته،ربما تقنع نفسها لفشل تجربتها و تحس بالیأس و التمزق و الاغتراب، فی الحقیقة تقابل بین حالتین – كما یعتقد الدكتور" المهنا"(مجلة الشعر فصلیة مصریة، العدد1٤، ینایر٦198م ص10)- و یقول:"……حالة الاغتراب التی یمثلها الماضی المفعم بالحرارة مع أنه میت من الناحیة المعنویة و حالة الاغتراب التی یعكسها الحاضر الخامد على رغم من أنه لم یفقد حرارة الحیاة و تمكن لها العودة إلی الماضی لأن فشل التجربة لا یعنی نهایة التجربة". تمثل نازك الملائكة درجة عظیمة من الألم النفسی و هو میراث نفس فاشلة تطمع فی المستقبل دون أن تنسى خذلان الماضی و قد أدركت هذا الموضوع فهما تاما خاصة بعد أن خرجت من المحیط العربی إلى محیط أجنبی و اشتد صراعها الذاتی و مقتضیات الحیاة من حولها . تلجأ الشاعرة إلى الأزمان من أجل هذه الأزمات، الزمن الماضی بكل ما فیه و انتظار الغد أی مواجهة القبور و الترحب بالموت لأنه یخلصها من هذه الأزمات و لو تكون باردة؛كما تقول:
ومن القبر ذلك المظلم البارد (نازك الملائكة،دیوان،ج1،ص83٦)
القبر ضمك فی برودته (نازك الملائكة،دیوان،ج2،ص٦13)
أو یكون صورة من الوحشة والصمت والظلام:
لم أجد غیر وحشة الیأس
و صمت مثل صمت القبور
أی قبر أعددت لی أ هو كهف؟
ملء أنحائه الظلام الداجی (نازك الملائكة،دیوان،ج1،ص25)
إذن تلجأ الشاعرة إلی دائرة الأزمان و هی الدائرة التی سمتها "یوتوبیا"منطقة یتعطل فیها حكم الزمن و رغم ذلك عالم یموت فیه الضیاء و مرة یضیئه القمر و لكن الصفة الثابتة لها أنها أفق أزلی لا یدركه الفناء كما یعتقد الدكتور" شوقی ضیف"(فصول فی الشعر و نقده، دار المعارف بمصر، ص ٦9). و قد نظمت فی عنائها النفسی و قلق نفسها و صورت خوفها و فزعها و ألمها تصویرا رائعا و تشعر فی حیاتها شعورا عمیقا بأن الشر و الشؤم یلازمانها و لا مفر منهما إلا أن تتخلص من الحیاة و تستقبل الموت و ما الفائدة فی هذه الحیاة الملیئة بالمشقات و الصعاب و یلیق بها أن تستریح من عذابها و عنائها و تحس بلهیب الیأس المتقد فی أعماق نفسها . و أزمتها النفسیة أمام الوجود و الكون و أسرار الحیاة و مصیرها شدید الحدة، فهی كثیرة التفكر فی آلام الإنسان و مصیره و وجوده و الكون و ألغازه و الموت وأسراره و حاولت لتكشف أسرار الحیاة و الطبیعة و ما بعدها فیسری التشاؤم فی أشعارها فتحزن و تبتئس و تكتئب و لون الحیاة بكآبة نفسها وأفكارها السوداء یلح علیها. و یقول الدكتور" هدارة" إنها استخدمت كلمة" لیس"فی مطولتها " مأساة الحیاة " خمسا و سبعین مرة و أطلق علیه "النزعة اللیسیة " لتضاف إلى " النزعة اللاأدریة "(د.هدارة ،محمد مصطفى ،دراسات فی الشعر العربی الحدیث، ص 93)
نرى طابعها أنه هو الحزن و الاضطراب و القلق النفسی و المعاناة، من أجل انهیار آمالها الواسعة و اشتهرت بشاعرة الحزن و البكاء و النواح و كل من یقرأ شعرها یشعر بالحزن الذی تعیش فیه الشاعرة و ینبع من أعماق قلبها و مصدر الآلام لا یخبو فی نفسها؛ و فی هذا المنطلق نذكر أشعارها التی تعبر عن تشاؤمها أمام الكون و الحیاة و الأسرار و الألغاز و تعرف من تفكراتها و نظریاتها حولها. بدأت الشاعرة نظم مطولتها الأولى فی الثانی و العشرین من عمرها التی هی صورة واضحة من اتجاهات الرومانسیة التی غلبت علیها فی هذه الفطرة من حیاتها و كان من مشاعرها التشاؤم و الخوف من الموت، و عنوان هذه المطولة "مأساة الحیاة" و العنوان نفسه یدل على تشاؤمها المطلق خاصة أنها تعتقد بأن الحیاة كلها ألم و إبهام و تعقید و موضوع هذه القصیدة الطویلة فلسفی یدور حول الحیاة و الموت و ما وراءهما من الأسرار و الألغاز؛ و تبدأ بهذه الأبیات:
عبثاَ تحلمین شاعرتی ما
من صباح للیل هذا الوجود
عبثاَ تسألین لن یكشف السر
و لن تنعمی بفكّ القیود (نازك الملائكة، دیوان مأساة الحیاة، ص 21).
و ترى أن الأفق مجهول و لا فائدة للنظر فیه؛ لأنه لا یتجلى و القدر مستغلق صامت:
أبداَ تنظرین للأفق المجهول
فهل تجلى الخفی
أبداَ تسألین و القدر الساخر
صمت مستغلق أبدی (نازك الملائكة، دیوان مأساة الحیاة، ص 22).
تحدثت الشاعرة كثیراَ فی أشعارها عن الإنسان و عن سر وجوده كما تحدثت عن عجزه عن معرفة هذا الكون الغامض المعقد و تعتقد أن حیاة الإنسان مجهولة غامضة ملیئة بالأسرار و الآلغاز التی لم یكن فی إمكان أحد أن یكشفها حتى الآن و مضمون الشعرها الیأس و العجز عن حل هذه الأسرار و الألغازو الرجاء لا طائل تحته:
نحن نحیا فی عالم لیس یُدرى
سره فهو غیهب مجهول
أی شیء هذا الفضاء؟ و ما سر
دجاه ؟ هل خلفه من حدود؟
هو سر الحیاة دقّ على الأفهام
حتى ضاقت به الحكماء
ما الذی یطلع النجوم على الكون
مساء؟ ما كنه هذا الوجود؟
فأیأسی یا فتاة ما فهمت من
قبل أسرارها ففیم الرجاء؟ (نازك الملائكة، دیوان مأساة الحیاة، ص 23).
و تعتقد أن النسان لیس بقادر أن یكشف الأسرار لكنها تسعى أن تجد السعادة و هناك صراع للوصول إلیها و لكن أخیراَ تقنع بالجهل و تریح نفسها من عناء الصراع فی سبیل وصولها لأنه لا یوجد أحد أن رآها إذن تبقى كلغز:
فیم لا تیأسین؟ ما أدرك الأسرار
قلب من قبل كی تدركیها
أسفاَ یا فتاة لن تفهمی الأیام
فلتقنعی بأن تجهلیها
نحن ندعوه بالسعادة لكن
لیس منا من ذاقه أو رآه
ذلك اللغز ذلك الحُلُم المحجوب
خلف الضباب أین تراه ؟ (نازك الملائكة، دیوان مأساة الحیاة، ص 22).
و تعتقد أن الألم جزء لا ینفصل عن الوجود الإنسانی و عقوبة طبیعیة و أنه دائما َمع الحیاة و هذا الجرح عمیق عندما كان الإنسان فی شبابه و لا فائدة من البقاء مادامت الحیاة تجرح الإنسان بالأسى و العذاب :
كل ما فی الوجود یؤلمنی الآن
و هذی الحیاة تجرح نفسی (نازك الملائكة، دیوان، ج 1، ص ٤3).
كل ما فی الوجود یجرحنی الآن
و لون الحیاة یطعن نفسی (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 257).
و أكفّ الحیاة تجرحنی فیم
بقائی؟ حسبی أسى و عذابا
فی ربیع الشباب ما أعمق الجرح
إذا كانت الحیاة شبابا (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 250).
و لا مفر للإنسلن من آلامه و هو محاصر بها مادام یعانی الحیاة:
أین أمضی یا رب أم كیف أنجو
من قیود الفناء والأیام
ضاق بی العالم الفسیح فیا
للهول أین المفر من آلامی (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 213).
و لا یمكن أن یفر من الأوهام و الأفكار:
آه لو كان فی الحیاة مفر
من شقاء الأوهام و الأفكار (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٤18).
و ترید أن تفهم ماذا تصنع بها المأساة فی المستقبل المجهول و ماذا یستقبلها من أجل هذا تنادی القلب بقولها :
حدثی القلب أنت أیتها المأساة
یا من قدسمیت بالحیاة
ما الذی تصنعین بی فی الغد المجهول
ماذا تری مصیر رفاتی ؟ (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 25).
لهذا السبب تقرر أن تسأل عن اللیل ربما یظهر لها ما ترید و لكن تشاهد الأوهام تسخر منها و لا تجیبها و یبقی سؤالها فی هذا المجال بدون جواب:
طالما قد سألت لیلی لكن
عزّ فی هذه الحیاة الجواب
لیس غیر الأوهام تسخر منی
لیس إلا تمزق و اضطراب (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٦2).
كما تكون الحیاة مبهمة، إن الموت لغز أیضاَ و حل هذا اللغز صعب جداَ و ما زال یبقی لغز عمیقاَ:
هل فهمتُ الحیاة كی أفهم الموت
و أدنو من سره المكنون
لم یزل عالم المنیة لغزاَ
عزّ حلاَ علی فؤادی الحزین (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٦2).
و أكفّ الحیاة تجرحنی واللغز
یبقی لغزاَ عمیقاَ خفیاَ
تتحدی الأحیاء قهقهةُ الموت
و تبقی الحیاة لیلاَ دجیا (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 8٤2).
و كما أن الحیاة قد جرّعتها الحزن و الیأس، المنایا لا تهتم بأمنیاتها:
ولْتَجرّعنی الحیاة كؤوس الحزن
و الیأس ما یشاء شقاها
هل ستصغی إلی رجائی المنایا
إن تمنیت صمتها و دجاها
إن تمنیت أن آعیش فما
یستمع الموت أو یمد سنینا
أو تمنیت أن أموت فما یرحم
حلمی ولست القى المنونا (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 27).
و ترى الموت غالباَ منتصراَ و أننا أمامه ضعفاء:
هكذا الموت غالب أبد الدهر
و نحن الصرعى الضعاف الحیارى
و له النصر و الفخار علینا
فاندبوا مادعوتموه انتصارا (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 58).
و إن المهم هو إرادة القدر:
هكذا مما یریده القدرالمحتوم
لا ما تریده آمالی (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 28).
طبعاَ تعود الشاعرة بنسبة الشر فی نفس الإنسانیة إلی خطیئة آدم و حوّاء و تؤكد على هذا الموضوع عدة مرّات خاصة فی مطولتها" مأساة الحیاة" و أغنیة للإنسان" و الشیطان نجح فی قهر الإنسان و غرس نزعة الشر فی وجود الإنسان بخضوعه لإرادته:
لیت حوّاء لم تذق ثمر الدوحة
لیت الشیطان لم یتجنا
علمتنا ثمارنا فكرة الشر
فكان الحزن العمیق العاصر (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 200)
و أحیاناَ تفكرفی الذنب الذی ارتكبه آدم بحیث یحق العذاب على البشر جمیعاَ و تقول:
حسبها أننا دفعنا إلیها
ثمن العیش حیرة و دموعا
أی ذنب جناه آدم حتى
نتلقى العقاب نحن جمیعا (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 38).
والحیاة عندها منبع شر و شقاء و اضطراب و لا مهرب منها و تصفها هكذا:
لقبوها الحیاة و هی اضطراب
أبدی و لهفة لا تقر
و امتداد للانهایة لا یبدأ
لا ینتهی و أین المفر؟(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 3٦1)
و ترون الحیاة منبع شر
لیس منها منجى و لیل شقاء
هی هذی الحیاة زارعة الأشواك
لا الزهر و الدجى و لاالضیاء
هی نبع الآثام تستلهم الشر
وتحیا فی الأرض لا فی السماء(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 37)
و تصفها أنها كساقیة تسقی كؤوس السم و تعطیها للعطاش:
هی هذی الحیاة ساقیة السم
كؤوب یطفو علیها الرحیق
أومأت للعطاش فاغترفوا منها
ومن ذاتها فلیس یفیق(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 37)
والحیاة الإنسانیة شقاء دائم:
عالم كل من على وجهه یشقى
و یقضی الأیام حزنا و یأسا
عبثا فالحیاة سنته الحزن
و حكم الآهات والدمع جار(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 8٦٤)
كما ضاق قطرة من نعیم
أعقبتها من الأسى ألف قطرة
و مهداتها هی:
هی هذی الحیاه لاتمنح الأحیاء
إلا العذاب و الأهوالا(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 3٤1)
وقد بلغ التشاؤم فبها إلى حد ترى أن الحیاة كلها مأساة من بدایتها ألی نهایتها:
ما أفظع المبدأ و المنتهى
ما أعمق الحزن الذی نحمل(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص٦52)
و العالم الملیئ بالشقاء و الألم ولا فائدة فی تهذیب النفس لأنها حاملة الشر و البغضاء:
هكذا شاءت المقادیر للعالم
إثم و شقوة و حروب
و هی النفس تحمل الشر و البغض
فماذا یفیدها التهذیب (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 50)
ولا نجاة من الكون المعذب المسوق إلى الأحزان:
كیف ینجو من الأسى ومتى یشفى
فی الموجعات و الآلام؟
یالهذا الكون المعذب فی قید
من الشرو الأذى و الآثام
كیف ینجو و الطبع و القدر القاسی
یسوقان إلى الأحزان (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 51)
و هناك لیس أی شفاء لهذا الیأس و الحزن؛ لأن:
لیس یشفیهم من الحزن و الیأس
دواء فالداء فی الأرواح (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 87)
و لا یوجد أی رخاء و راحة حتى فی القبر:
افتحوا هذه القبور و هاتوا
حدّثونا أین الغنى و الرخاء؟ (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٦5)
مع أنها تعتقد بأن الموت كارثة أقسى و تعتقد أن تشاؤمها قد فاق تشاؤمها" شوبنهاور" لأنه كان یعتقد أن الموت نعیم یختم عذاب الإنسان أما هی فلم تكن عندها كارثة أقسى من الموت و هو یلوح لها مأساة الحیاة الكبرى و أن التشاؤم و الخوف من الموت من مشاعرها. لكنها بالفعل تؤمن بأنه یخلص الإنسان من الشقاء و الألم و تؤمن بقول شوبنهاور: إن أعظم نعیم للناس جمیعا هو الموت؛لأنها تجد فیه راحة لا تجد ها فی الحیاة و لفظ الموت قد ذكر كثیرا فی عالمها الشعری حتى فی عناوین قصائدها الكثیرة؛ " عیون الأموات" ، "أنشودة الأموات" ، "بین فكّی الموت" ، "قلب میت" و…. و ترحب به و تلقاه غیر محزونة و لا سیما فی میعة شبابها إذن فلسفتها العملیة تثبت خلاف آرائها و عقائدها فی هذا المجال:
عدت أخشى الحیاه أفرق منها
و أراها دعابة لا تطاق
فإذا ما أتممت لحنی كما أهوى
فماذا أریده من حیاتی
لیس فی الكون بعد شعری ما یغری
فؤادی فمرحبا بالممات
سوف ألقى الموت المحجّب روحا
شاعریا یحب صمت التراب
و فؤادا یرى الممات شبابا
للمنى و الشعور أی شباب
سوف ألقاك غیر محزونة یا
موت فی میعة الشباب الغرید (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 218).
و ترى هموم الشباب أحر الهموم و الأحزان و الحیاة كلها ملیئة بالیأس و الحزن حتى مبهجات الحیاة:
یا هموم الشباب فیم تكونین
أحرالهموم و الأحزان
ها أنا فی الشباب تقتلنی الوحدة
و الصمت و الأسى یا هموم
أینما أتجه فثمة أحزان
أراها و وحشة و وجوم
كل شیء أراه یملأنی حزنا
و یأسا من مبهجات الحیاة(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 209)
و تشكو من خیبة أحلامها؛ لأنها:
یا خیبة الأحلام ما أبقیت لی
إلا ضلال كآبتی و ظلامی(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 87٤)
و تحس بالعجز و ترید الرأفة:
آه فارأف بفتاة حطّم الدهرُ مناها
و أفاقت لیهدّ الحزن و الیأس قواها(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٦1٦)
و ترىأن لهذه الشكوی الحزینة لیست فائدة:
آه لا بد من أسانا فماذا
نفع هذی الشكوى الحزینة منا(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٦23)
و أخیرا تنفر من كل شیء و تحس بالسآمة حتى فی التفكیرو البقاء و الواقع و إلخ ولا ترید أن تعیش روحها مثل الناس:
و أنفر من كل ما فی الوجود
و أهرب من كل شیء أراه(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٤5)
روحی لاتعشق أن تحیا مثل الناس
أنا أحیانا أنسى بشریة إحساسی(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 98)
قد سئمت التفكیر یا لیلی الساحی
و ألقیت بالكتاب الحبیب
قد سئمت الأمل المر الكذوبا
أیها الغادر لا تنظر إلیّا(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 570)
قد سئمت الواقع المر المملا
ولقد عدت خیالا مضمحلا
ففیم أعیش ؟ سئمت البقاء
و شاق حیاتی صمت العدم(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 599)
و قصارى القول إذا تطرفنا إلی أشعارها رأینا أن روح التشاؤم كیف سرت فی نفسیة الشاعرة ، و فی نفسها نوع من الیأس و التشاؤم الذی قد تسرب فی كلماتها و ألفاظها و قد آل المطاف بها أن تضجرت بكل شیء فی الحیاة و لا ترید أن تحیا مثل السائرین و آمنت بأننا نعیش فی العالم الذی:
نحن نحیا فی عالم كله دمع
و عمر یفیض یأسا و حزنا
تستشفی عناصر الزمن القاسی
بآهاتنا و تسخر منا(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 1٦1)
و تعیش فی عالمها الذی رسمت لنفسها و العالم الذی فرض على نفسها و هو سر التألم و التمزق فی حیاتها. و من أجل هذا العالم الملیء بالأحزان و الآلام الذی رسمت الشاعرة لنفسها،و الحیاة فیه جافة باردةو لا معنی للعیش فیه تعتقد بوجوب استقبال الموت لأنه:
لنمُت فالحیاة جفّت و هذه الأكؤس
الفارغات تسخر منا
و سكون الحیاة فی جسد الأحلام
لم یبق قط للعیش معنى
و فراغ الآهات أثبت أنا
قد فرغنا من دورنا و انتهینا
و لمذا نبقى هنا نسمع الموت
ینادی بنا فلم لا نجیب؟
لنمت فالریاح تجرح وجهینا
و لون الدجى عمیق رهیب(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٦10)
و هناك سبب آخر لاستقبال الموت،هو:
عصرتنی الحیاة لم یبق معنى
لوجودی، لأدمعی،لحیاتی
كل شیء یلوح لی عدما مرا
و لغزا مكنفا بالشكاة(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٤٦2).
كان بعض الشعراء و الأدباء مشغولین بأنفسهم و یعكفون على آلامهم الخاصة و هذا اللون من شعر المعاناة و الألم الذی یهتم الشاعر ببیان آلامه النفسیة و معاناته ینبع جمیعاَ من أصل واحد و هو الإحساس بالضیاع و الخواء و عبثیة الحیاة. و كانت أدبیاتهم مبنیة على التشاؤم لأنهم ساخطون على الدنیا متبرمون بالعالم و لا یرون فیه إلّا شراَ مستطیراَ لا سبیل إلى دفعه و طفحت دواوینهم بشعر المعاناة و الألم و الحزن فالحیاة عندهم شر كلها و إن فی ازدرائهم للحیاة مغالاة و تشاؤماَ مضرین و یصرخون متألمین لأنهم فقدوا كل أمل و قوة فهم لا یرون فی الحیاة غیر ظلام و فناء و یحسون بالقنوط غافلین عن قیمة الحیاة. و من هؤلاء " نازك الملائكة" التی تكون الحیاة عندها ملیئة بالهموم و الشقاوات و فی نفسها تشاؤم مرّ كثیف و الحیاة فی نظرتها متعقدة مع الخیبة و الخشیة فتعبر عن أحاسیسها و عواطفها الذاتیة الحزینة و تنكفئ إلى ذاتها خاصة حینما ترى أن كلما تغنیت من أحلام جمیلة محض سراب و لیست له حقیقة، أو تجد نفسها محاطة بالأحزان و الآلام تدفع بها حالة من التأمل و المعاناة و الجهد الفكری.
الكلمات الرئیسیة: نازك الملائكة، تشاؤم، عبثیة الحیاة، شعر المعاناة، الإحساس بالضیاع.
المقدمة
هناك أشخاص كثیرون مسلكهم أمام الحیاة و المجتمع سلبی و یؤدی ذلك إلى عزلتهم و ینتهی إلى نوع من العدم و الفناء و یرون أن الحیاة كلها شر؛ لأنه غالب على الخیر و من هؤلاء الذین شاهدوا شرور الحیاة " دیدرو" فإنه یقرر أن المرء حیوان ضارّ لو ترك لطبیعته و "فولتیر" یعتقد بتأصل الشر و "باسكال" یعتقد بوحدة الإنسان و جهل مصیره حیث یقول: " حین أنظر إلى هذا العالم الصامت كله، و فیه الإنسان لا نور لدیه، متروكاَ لنفسه، كأنه ضالّ فی هذا الجانب من العالم دون أن یدری من الذی و ضعه فیه و ما مصیره بعد الموت عاجزاَ عن كل معرفة……" (د. غنیمی هلال، محمد، قضایا معاصرة فی الأدب و النقد، ص 71). أو "لابروییر" یرى الشر أصیلاَ فی الناس و یقول: "لا ینبغی أن نغضب على الناس حین نرى قسوتهم و كفرانهم بالصنیع و ظلمهم و نسیانهم للآخرین، فهم هكذا خلقوا و هذه طبیعتهم". أو مثلاَ یرى "سارتر" أن الخیر فی العالم شعلة ضئیلة تهددها ریاح الشر كل جانب و "البیر كامو" یعتقد بعبثیة الحیاة و استعصائها فی ذاتها علی الفهم (نفس المرجع، ص 75).
تعبر نازك الملائكة عن عواطفها الذاتیة الحزینة و تنكفئ إلى ذاتها عندما تحس بالفراغ و الضیاع و تشعب الأهداف و غموض الغایات كأنها تدور فی حلقة مفرغة لا تعرف لها نهایة تنتهی إلیها و تعترف بالحقیقة المرة هی أن عالم الرؤى و الأحلام الذی التمسته فی الطبیعة سجن آخر لها من لون جدید فلهذا تطلب الخلاص منه. فی هذا الأوان تحس بأن الموت غایة لها لأنها بلغت النهایة و تلاقت الموت على فراشها و ذاقت لذته و استعدت نفسها للرحیل خاصة أنها كانت بین فكی الموت بسبب حمى شدیدة أصیبت بها و غلب الیأس علیها و لا حیلة لها أن ترحب بالموت بما أن حیاتها تنقضی قریبا والألحان تموت على شفتیها قبل أن تقول كل ما عندها و تدفع نفسها إلى حب الحیاة رغم الموت و ترید الحیاة من أجل أن تقول أناشیدها كلها و بعد لا تبالی أن یجیء الموت و یخطفها:
ربما تنقضی حیاتی قریبا
و تموتُ الألحانُ فی شفتیّا
لیْس فی الكونِ بعد شعری ما یغری
فؤادی فمرحبا بالممات
فإذا ما أتممت لحنی كما أهوى
فماذا أریده من حیاتی (نازك الملائكة،دیوان، دار ج1،ص 18)
و عندما تنفجر الآلام فی وجودها قویة وتتناقض الحیاة أمامها و كل ما یكون فی وجودها و إحساسها تناقض الواقع والحقیقة فی هذه اللحظة تحس ببطلان وجودها و خواء أعماقها العاطفیة و تسعى فی البحث عن معنى للوجود الإنسانی و تؤمن بعبثیة الحیاة فتسری فی أشعارها روح التشاؤم و النقمة و مكتبها الشعری أو حالتها النفسیة مفعمةبالرومنسیة و هی تدفق فی إبداعها نغما حزینا و فكرا متشائما نتیجة المرارة و الخیبة فی أعماق المحن و الأزمات و یزید التشاوم فیها . و فی هذه الحالة تمیل أن تعود إلى الماضی الجمیل و تهرب من قیود الزمان لأن فیه تحررا –كما هو شأن الشعراء الرومنسیین (د غنیمی هلال، محمد، الرومانتیكیة،ص73)- و تستعرضه بكل تفاصیله و جزئیاته،ربما تقنع نفسها لفشل تجربتها و تحس بالیأس و التمزق و الاغتراب، فی الحقیقة تقابل بین حالتین – كما یعتقد الدكتور" المهنا"(مجلة الشعر فصلیة مصریة، العدد1٤، ینایر٦198م ص10)- و یقول:"……حالة الاغتراب التی یمثلها الماضی المفعم بالحرارة مع أنه میت من الناحیة المعنویة و حالة الاغتراب التی یعكسها الحاضر الخامد على رغم من أنه لم یفقد حرارة الحیاة و تمكن لها العودة إلی الماضی لأن فشل التجربة لا یعنی نهایة التجربة". تمثل نازك الملائكة درجة عظیمة من الألم النفسی و هو میراث نفس فاشلة تطمع فی المستقبل دون أن تنسى خذلان الماضی و قد أدركت هذا الموضوع فهما تاما خاصة بعد أن خرجت من المحیط العربی إلى محیط أجنبی و اشتد صراعها الذاتی و مقتضیات الحیاة من حولها . تلجأ الشاعرة إلى الأزمان من أجل هذه الأزمات، الزمن الماضی بكل ما فیه و انتظار الغد أی مواجهة القبور و الترحب بالموت لأنه یخلصها من هذه الأزمات و لو تكون باردة؛كما تقول:
ومن القبر ذلك المظلم البارد (نازك الملائكة،دیوان،ج1،ص83٦)
القبر ضمك فی برودته (نازك الملائكة،دیوان،ج2،ص٦13)
أو یكون صورة من الوحشة والصمت والظلام:
لم أجد غیر وحشة الیأس
و صمت مثل صمت القبور
أی قبر أعددت لی أ هو كهف؟
ملء أنحائه الظلام الداجی (نازك الملائكة،دیوان،ج1،ص25)
إذن تلجأ الشاعرة إلی دائرة الأزمان و هی الدائرة التی سمتها "یوتوبیا"منطقة یتعطل فیها حكم الزمن و رغم ذلك عالم یموت فیه الضیاء و مرة یضیئه القمر و لكن الصفة الثابتة لها أنها أفق أزلی لا یدركه الفناء كما یعتقد الدكتور" شوقی ضیف"(فصول فی الشعر و نقده، دار المعارف بمصر، ص ٦9). و قد نظمت فی عنائها النفسی و قلق نفسها و صورت خوفها و فزعها و ألمها تصویرا رائعا و تشعر فی حیاتها شعورا عمیقا بأن الشر و الشؤم یلازمانها و لا مفر منهما إلا أن تتخلص من الحیاة و تستقبل الموت و ما الفائدة فی هذه الحیاة الملیئة بالمشقات و الصعاب و یلیق بها أن تستریح من عذابها و عنائها و تحس بلهیب الیأس المتقد فی أعماق نفسها . و أزمتها النفسیة أمام الوجود و الكون و أسرار الحیاة و مصیرها شدید الحدة، فهی كثیرة التفكر فی آلام الإنسان و مصیره و وجوده و الكون و ألغازه و الموت وأسراره و حاولت لتكشف أسرار الحیاة و الطبیعة و ما بعدها فیسری التشاؤم فی أشعارها فتحزن و تبتئس و تكتئب و لون الحیاة بكآبة نفسها وأفكارها السوداء یلح علیها. و یقول الدكتور" هدارة" إنها استخدمت كلمة" لیس"فی مطولتها " مأساة الحیاة " خمسا و سبعین مرة و أطلق علیه "النزعة اللیسیة " لتضاف إلى " النزعة اللاأدریة "(د.هدارة ،محمد مصطفى ،دراسات فی الشعر العربی الحدیث، ص 93)
نرى طابعها أنه هو الحزن و الاضطراب و القلق النفسی و المعاناة، من أجل انهیار آمالها الواسعة و اشتهرت بشاعرة الحزن و البكاء و النواح و كل من یقرأ شعرها یشعر بالحزن الذی تعیش فیه الشاعرة و ینبع من أعماق قلبها و مصدر الآلام لا یخبو فی نفسها؛ و فی هذا المنطلق نذكر أشعارها التی تعبر عن تشاؤمها أمام الكون و الحیاة و الأسرار و الألغاز و تعرف من تفكراتها و نظریاتها حولها. بدأت الشاعرة نظم مطولتها الأولى فی الثانی و العشرین من عمرها التی هی صورة واضحة من اتجاهات الرومانسیة التی غلبت علیها فی هذه الفطرة من حیاتها و كان من مشاعرها التشاؤم و الخوف من الموت، و عنوان هذه المطولة "مأساة الحیاة" و العنوان نفسه یدل على تشاؤمها المطلق خاصة أنها تعتقد بأن الحیاة كلها ألم و إبهام و تعقید و موضوع هذه القصیدة الطویلة فلسفی یدور حول الحیاة و الموت و ما وراءهما من الأسرار و الألغاز؛ و تبدأ بهذه الأبیات:
عبثاَ تحلمین شاعرتی ما
من صباح للیل هذا الوجود
عبثاَ تسألین لن یكشف السر
و لن تنعمی بفكّ القیود (نازك الملائكة، دیوان مأساة الحیاة، ص 21).
و ترى أن الأفق مجهول و لا فائدة للنظر فیه؛ لأنه لا یتجلى و القدر مستغلق صامت:
أبداَ تنظرین للأفق المجهول
فهل تجلى الخفی
أبداَ تسألین و القدر الساخر
صمت مستغلق أبدی (نازك الملائكة، دیوان مأساة الحیاة، ص 22).
تحدثت الشاعرة كثیراَ فی أشعارها عن الإنسان و عن سر وجوده كما تحدثت عن عجزه عن معرفة هذا الكون الغامض المعقد و تعتقد أن حیاة الإنسان مجهولة غامضة ملیئة بالأسرار و الآلغاز التی لم یكن فی إمكان أحد أن یكشفها حتى الآن و مضمون الشعرها الیأس و العجز عن حل هذه الأسرار و الألغازو الرجاء لا طائل تحته:
نحن نحیا فی عالم لیس یُدرى
سره فهو غیهب مجهول
أی شیء هذا الفضاء؟ و ما سر
دجاه ؟ هل خلفه من حدود؟
هو سر الحیاة دقّ على الأفهام
حتى ضاقت به الحكماء
ما الذی یطلع النجوم على الكون
مساء؟ ما كنه هذا الوجود؟
فأیأسی یا فتاة ما فهمت من
قبل أسرارها ففیم الرجاء؟ (نازك الملائكة، دیوان مأساة الحیاة، ص 23).
و تعتقد أن النسان لیس بقادر أن یكشف الأسرار لكنها تسعى أن تجد السعادة و هناك صراع للوصول إلیها و لكن أخیراَ تقنع بالجهل و تریح نفسها من عناء الصراع فی سبیل وصولها لأنه لا یوجد أحد أن رآها إذن تبقى كلغز:
فیم لا تیأسین؟ ما أدرك الأسرار
قلب من قبل كی تدركیها
أسفاَ یا فتاة لن تفهمی الأیام
فلتقنعی بأن تجهلیها
نحن ندعوه بالسعادة لكن
لیس منا من ذاقه أو رآه
ذلك اللغز ذلك الحُلُم المحجوب
خلف الضباب أین تراه ؟ (نازك الملائكة، دیوان مأساة الحیاة، ص 22).
و تعتقد أن الألم جزء لا ینفصل عن الوجود الإنسانی و عقوبة طبیعیة و أنه دائما َمع الحیاة و هذا الجرح عمیق عندما كان الإنسان فی شبابه و لا فائدة من البقاء مادامت الحیاة تجرح الإنسان بالأسى و العذاب :
كل ما فی الوجود یؤلمنی الآن
و هذی الحیاة تجرح نفسی (نازك الملائكة، دیوان، ج 1، ص ٤3).
كل ما فی الوجود یجرحنی الآن
و لون الحیاة یطعن نفسی (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 257).
و أكفّ الحیاة تجرحنی فیم
بقائی؟ حسبی أسى و عذابا
فی ربیع الشباب ما أعمق الجرح
إذا كانت الحیاة شبابا (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 250).
و لا مفر للإنسلن من آلامه و هو محاصر بها مادام یعانی الحیاة:
أین أمضی یا رب أم كیف أنجو
من قیود الفناء والأیام
ضاق بی العالم الفسیح فیا
للهول أین المفر من آلامی (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 213).
و لا یمكن أن یفر من الأوهام و الأفكار:
آه لو كان فی الحیاة مفر
من شقاء الأوهام و الأفكار (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٤18).
و ترید أن تفهم ماذا تصنع بها المأساة فی المستقبل المجهول و ماذا یستقبلها من أجل هذا تنادی القلب بقولها :
حدثی القلب أنت أیتها المأساة
یا من قدسمیت بالحیاة
ما الذی تصنعین بی فی الغد المجهول
ماذا تری مصیر رفاتی ؟ (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 25).
لهذا السبب تقرر أن تسأل عن اللیل ربما یظهر لها ما ترید و لكن تشاهد الأوهام تسخر منها و لا تجیبها و یبقی سؤالها فی هذا المجال بدون جواب:
طالما قد سألت لیلی لكن
عزّ فی هذه الحیاة الجواب
لیس غیر الأوهام تسخر منی
لیس إلا تمزق و اضطراب (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٦2).
كما تكون الحیاة مبهمة، إن الموت لغز أیضاَ و حل هذا اللغز صعب جداَ و ما زال یبقی لغز عمیقاَ:
هل فهمتُ الحیاة كی أفهم الموت
و أدنو من سره المكنون
لم یزل عالم المنیة لغزاَ
عزّ حلاَ علی فؤادی الحزین (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٦2).
و أكفّ الحیاة تجرحنی واللغز
یبقی لغزاَ عمیقاَ خفیاَ
تتحدی الأحیاء قهقهةُ الموت
و تبقی الحیاة لیلاَ دجیا (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 8٤2).
و كما أن الحیاة قد جرّعتها الحزن و الیأس، المنایا لا تهتم بأمنیاتها:
ولْتَجرّعنی الحیاة كؤوس الحزن
و الیأس ما یشاء شقاها
هل ستصغی إلی رجائی المنایا
إن تمنیت صمتها و دجاها
إن تمنیت أن آعیش فما
یستمع الموت أو یمد سنینا
أو تمنیت أن أموت فما یرحم
حلمی ولست القى المنونا (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 27).
و ترى الموت غالباَ منتصراَ و أننا أمامه ضعفاء:
هكذا الموت غالب أبد الدهر
و نحن الصرعى الضعاف الحیارى
و له النصر و الفخار علینا
فاندبوا مادعوتموه انتصارا (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 58).
و إن المهم هو إرادة القدر:
هكذا مما یریده القدرالمحتوم
لا ما تریده آمالی (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 28).
طبعاَ تعود الشاعرة بنسبة الشر فی نفس الإنسانیة إلی خطیئة آدم و حوّاء و تؤكد على هذا الموضوع عدة مرّات خاصة فی مطولتها" مأساة الحیاة" و أغنیة للإنسان" و الشیطان نجح فی قهر الإنسان و غرس نزعة الشر فی وجود الإنسان بخضوعه لإرادته:
لیت حوّاء لم تذق ثمر الدوحة
لیت الشیطان لم یتجنا
علمتنا ثمارنا فكرة الشر
فكان الحزن العمیق العاصر (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 200)
و أحیاناَ تفكرفی الذنب الذی ارتكبه آدم بحیث یحق العذاب على البشر جمیعاَ و تقول:
حسبها أننا دفعنا إلیها
ثمن العیش حیرة و دموعا
أی ذنب جناه آدم حتى
نتلقى العقاب نحن جمیعا (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 38).
والحیاة عندها منبع شر و شقاء و اضطراب و لا مهرب منها و تصفها هكذا:
لقبوها الحیاة و هی اضطراب
أبدی و لهفة لا تقر
و امتداد للانهایة لا یبدأ
لا ینتهی و أین المفر؟(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 3٦1)
و ترون الحیاة منبع شر
لیس منها منجى و لیل شقاء
هی هذی الحیاة زارعة الأشواك
لا الزهر و الدجى و لاالضیاء
هی نبع الآثام تستلهم الشر
وتحیا فی الأرض لا فی السماء(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 37)
و تصفها أنها كساقیة تسقی كؤوس السم و تعطیها للعطاش:
هی هذی الحیاة ساقیة السم
كؤوب یطفو علیها الرحیق
أومأت للعطاش فاغترفوا منها
ومن ذاتها فلیس یفیق(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 37)
والحیاة الإنسانیة شقاء دائم:
عالم كل من على وجهه یشقى
و یقضی الأیام حزنا و یأسا
عبثا فالحیاة سنته الحزن
و حكم الآهات والدمع جار(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 8٦٤)
كما ضاق قطرة من نعیم
أعقبتها من الأسى ألف قطرة
و مهداتها هی:
هی هذی الحیاه لاتمنح الأحیاء
إلا العذاب و الأهوالا(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 3٤1)
وقد بلغ التشاؤم فبها إلى حد ترى أن الحیاة كلها مأساة من بدایتها ألی نهایتها:
ما أفظع المبدأ و المنتهى
ما أعمق الحزن الذی نحمل(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص٦52)
و العالم الملیئ بالشقاء و الألم ولا فائدة فی تهذیب النفس لأنها حاملة الشر و البغضاء:
هكذا شاءت المقادیر للعالم
إثم و شقوة و حروب
و هی النفس تحمل الشر و البغض
فماذا یفیدها التهذیب (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 50)
ولا نجاة من الكون المعذب المسوق إلى الأحزان:
كیف ینجو من الأسى ومتى یشفى
فی الموجعات و الآلام؟
یالهذا الكون المعذب فی قید
من الشرو الأذى و الآثام
كیف ینجو و الطبع و القدر القاسی
یسوقان إلى الأحزان (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 51)
و هناك لیس أی شفاء لهذا الیأس و الحزن؛ لأن:
لیس یشفیهم من الحزن و الیأس
دواء فالداء فی الأرواح (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 87)
و لا یوجد أی رخاء و راحة حتى فی القبر:
افتحوا هذه القبور و هاتوا
حدّثونا أین الغنى و الرخاء؟ (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٦5)
مع أنها تعتقد بأن الموت كارثة أقسى و تعتقد أن تشاؤمها قد فاق تشاؤمها" شوبنهاور" لأنه كان یعتقد أن الموت نعیم یختم عذاب الإنسان أما هی فلم تكن عندها كارثة أقسى من الموت و هو یلوح لها مأساة الحیاة الكبرى و أن التشاؤم و الخوف من الموت من مشاعرها. لكنها بالفعل تؤمن بأنه یخلص الإنسان من الشقاء و الألم و تؤمن بقول شوبنهاور: إن أعظم نعیم للناس جمیعا هو الموت؛لأنها تجد فیه راحة لا تجد ها فی الحیاة و لفظ الموت قد ذكر كثیرا فی عالمها الشعری حتى فی عناوین قصائدها الكثیرة؛ " عیون الأموات" ، "أنشودة الأموات" ، "بین فكّی الموت" ، "قلب میت" و…. و ترحب به و تلقاه غیر محزونة و لا سیما فی میعة شبابها إذن فلسفتها العملیة تثبت خلاف آرائها و عقائدها فی هذا المجال:
عدت أخشى الحیاه أفرق منها
و أراها دعابة لا تطاق
فإذا ما أتممت لحنی كما أهوى
فماذا أریده من حیاتی
لیس فی الكون بعد شعری ما یغری
فؤادی فمرحبا بالممات
سوف ألقى الموت المحجّب روحا
شاعریا یحب صمت التراب
و فؤادا یرى الممات شبابا
للمنى و الشعور أی شباب
سوف ألقاك غیر محزونة یا
موت فی میعة الشباب الغرید (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 218).
و ترى هموم الشباب أحر الهموم و الأحزان و الحیاة كلها ملیئة بالیأس و الحزن حتى مبهجات الحیاة:
یا هموم الشباب فیم تكونین
أحرالهموم و الأحزان
ها أنا فی الشباب تقتلنی الوحدة
و الصمت و الأسى یا هموم
أینما أتجه فثمة أحزان
أراها و وحشة و وجوم
كل شیء أراه یملأنی حزنا
و یأسا من مبهجات الحیاة(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 209)
و تشكو من خیبة أحلامها؛ لأنها:
یا خیبة الأحلام ما أبقیت لی
إلا ضلال كآبتی و ظلامی(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 87٤)
و تحس بالعجز و ترید الرأفة:
آه فارأف بفتاة حطّم الدهرُ مناها
و أفاقت لیهدّ الحزن و الیأس قواها(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٦1٦)
و ترىأن لهذه الشكوی الحزینة لیست فائدة:
آه لا بد من أسانا فماذا
نفع هذی الشكوى الحزینة منا(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٦23)
و أخیرا تنفر من كل شیء و تحس بالسآمة حتى فی التفكیرو البقاء و الواقع و إلخ ولا ترید أن تعیش روحها مثل الناس:
و أنفر من كل ما فی الوجود
و أهرب من كل شیء أراه(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٤5)
روحی لاتعشق أن تحیا مثل الناس
أنا أحیانا أنسى بشریة إحساسی(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 98)
قد سئمت التفكیر یا لیلی الساحی
و ألقیت بالكتاب الحبیب
قد سئمت الأمل المر الكذوبا
أیها الغادر لا تنظر إلیّا(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 570)
قد سئمت الواقع المر المملا
ولقد عدت خیالا مضمحلا
ففیم أعیش ؟ سئمت البقاء
و شاق حیاتی صمت العدم(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 599)
و قصارى القول إذا تطرفنا إلی أشعارها رأینا أن روح التشاؤم كیف سرت فی نفسیة الشاعرة ، و فی نفسها نوع من الیأس و التشاؤم الذی قد تسرب فی كلماتها و ألفاظها و قد آل المطاف بها أن تضجرت بكل شیء فی الحیاة و لا ترید أن تحیا مثل السائرین و آمنت بأننا نعیش فی العالم الذی:
نحن نحیا فی عالم كله دمع
و عمر یفیض یأسا و حزنا
تستشفی عناصر الزمن القاسی
بآهاتنا و تسخر منا(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 1٦1)
و تعیش فی عالمها الذی رسمت لنفسها و العالم الذی فرض على نفسها و هو سر التألم و التمزق فی حیاتها. و من أجل هذا العالم الملیء بالأحزان و الآلام الذی رسمت الشاعرة لنفسها،و الحیاة فیه جافة باردةو لا معنی للعیش فیه تعتقد بوجوب استقبال الموت لأنه:
لنمُت فالحیاة جفّت و هذه الأكؤس
الفارغات تسخر منا
و سكون الحیاة فی جسد الأحلام
لم یبق قط للعیش معنى
و فراغ الآهات أثبت أنا
قد فرغنا من دورنا و انتهینا
و لمذا نبقى هنا نسمع الموت
ینادی بنا فلم لا نجیب؟
لنمت فالریاح تجرح وجهینا
و لون الدجى عمیق رهیب(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٦10)
و هناك سبب آخر لاستقبال الموت،هو:
عصرتنی الحیاة لم یبق معنى
لوجودی، لأدمعی،لحیاتی
كل شیء یلوح لی عدما مرا
و لغزا مكنفا بالشكاة(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٤٦2).
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:16|