النظرة
التفاؤلیة عند نازك الملائكة
الموجز
مع أن الشاعرة كانت متشائمة شدیدة التشاؤم فی بدایة حیاتها الشعریة؛ لأنها كانت مفعمة بالاتجاهات الرومنسیة و غلب علیها التشاؤم المطلق و كانت تشعر بالضیق والألم ولا ترى غیرالأزمة والشقاء فی الحیاة و لكن تدریجیا غیرت نظرتها حول الموت و فلسفة الحیاة و بدأت تنظر إلى الحیاة بمنظار جدید فیه مسحة من التفاؤل لیكون بلسما لدائها و مرهما لشفائها وخفّ من حدّة تشاؤمها حیث أصبحت متفائلة بعد تجربتها الفكریة و كثرة مواردها الأدبیة و بعد أن نضج عقلها و فكرها حول مسائل الحیاة. و نرى هذا التغییر حتى فی عنوان مطولتها من "مأساة الحیاة" إلى" أغنیة للإنسان"، فی الواقع آراؤها المتشائمة قد زالت و حلّ محلّها الإیمان بالله و الاطمئنان إلى الحیاة و جو مأساة الحیاة تبدد شیئا فشیئا.
الكلمات الرئیسیة: فلسفة الحیاة، مأساة الحیاة، التفاؤل، أغنیة للإنسان،الاتجاهات الرومنسیة.
التمهید
آمنت الشاعرة أن الحیاة كلها ألم و إبهام و تعقید؛ و اعترفت إلى فناء الإنسان وأنه محكوم إلى الفناء والموت بشع جدا كما تقول:" لم تكن عندی كارثة أقسى من الموت و كان الموت یلوح لی مأساة الحیاة الكبرى، ذلك هو الشعور الذی حملته من أقصى صبای إلى سن متأخرة". وعندما تصف خطیئة الإنسان تعدّ الموت لعنة السماء؛ لكنها ترى فیه أمنا و راحة لأنه سبیل لراحة الإنسان من عناء الحیاة و بالفعل تؤمن بما قال"شوبنهور": " إن أعظم نعیم للناس جمیعا هو الموت".
وبالفعل آمنت بقول" ویلیام جیمز": " إن أكثر دواء تأثیرا لعلاج الآلام و الأحزان هو الإیمان و الاعتقاد". و كان التغییرعاما و شاملا حتى فی عنوان مطولتها من مأساة الحیاة إلى أغنیة للإنسان، فی الواقع قد زالت آراؤها المتشائمة و حلّ محلّها الإیمان بالله و الاطمئنان إلى الحیاة و جو مأساة الحیاة تبدد شیئا فشیئا
قررت نازك الملائكة أن تجد السعادة التی كانت قد بحثت عنها كثیرا فی مختلف الأوساط فلم تجدها وانتهت رحلتها فی هذا المجال بالخیبة، فقد عبرت عن تمسكها بالحیاة فی هذه الحیاة الدنیا ؛ لأن حب الحیاة أمرلا ینفصل عن الحیاة نفسها وأن الإنسان یجد لذة كبرى فی أن یحیاها، مهما كان طبعها و صعدت من إحساسها بالیأس و العدم إلى قمة الرجاء والأمل و آمنت بأننا یجب أن نستسلم للقدر خاضعین؛ لأن العالم یواصل سیرته حتى بدوننا و آمنت بأن الإنسان مهما یفكر فی آلامه و آلام أبنائه ومواطنیه والمجهولات والأسرار والألغاز؛ لكن یجب ألا یعكس الیأس والقنوط و الألم …..فقط، بل یجب أن یكون للتفاؤل مكانه كشأن أشخاص كثیرین الذین وقفوا أمام الكون و مجهولاته و أسراره و كانوا حیارى و لكنهم یرون جمال الحیاة و خیرها و سرورها و أن الحیاة تجری فی نظام سرمدی و على الإنسان أن ینضم بكل حسناته و سیئاته حتى یبلغ ذروة المعرفة و قمتها. و مهما یتأمل فی الآلام الإنسانیة والألغاز والمجهولات لا ینصرف عن الحیاة؛ لأنه لم یجیء الحیاة لیشقى و یصب الهموم على نفسه؛ بل أتاها لتتنعم بها و بطیباتها و ملذاتها و مسراتها و یتمتع بها وأن یكون مسلكه تجاه الحیاة إیجابیا و ینظر إلیها بمنظار التفاؤل و لتكن فلسفتها الابتسام دائما مادام حیا و ینتهز فرصة الحیاة قبل أن تفلت من یده.
و أخیرا آمنت الشاعرة بأن جمیع ما فی ید الإنسان عاریة و ودیعة و لایبقى لدیه طول الحیاة فیخرج من یده آجلا أو عاجلا، ثم شعرت بأن الدنیا قد تغیرت فی نظرتها فعزمت أن تواجه الحیاة بغیر ما كانت تواجهها قبل ذلك، و آمنت بأن:
فلنلذ بالإیمان فهو ختام الیأس و الدمع و الشقاء الآتی لأنه: كاسح الأعین الحزینة من أدمعها الهامرات فی الظلمات فهاجرت إلى الله و عرفته: عرفتك فی ذهول تهجدی، و قرنفلی أكداس عرفتك فی اخضرار الآس عرفتك عند الفلاح یبعثر فی الثرى الأغراس وتزهر فی یدیه الفأس عرفتك عند طفل أسود العینین، و شیخ ذابل الخدین عرفتك عند صوفیّ ثریّ القلب و الإحساس و…….
و تُعلّم الإنسان طریق التسلط على الحزن حیث نراها فی قصیدة " خمس أغان للألم" تثیر فكرة صراع الإنسان فی سبیل الغلبة والاستعلاء على آلامه بأیة وسیلة یستطیعها، حیث تقول:
أ لیس فی إمكاننا أن نغلب الألم؟ نرجئه إلى صباح قادم؟ أو أمسیه؟ ننقُلُه؟ نقنعه بلعبة؟ بأغنیة؟ بقصة قدیمة منسیّة النغم؟( نازك الملائكة، دیوان، ج2،ص57٤).
وهنا نذكر مختارات من أشعارها التی تسود علیها روح التفاؤل:
مع أنها– كما تقول نفسها – كان الباعث على نظم مطولتها الأولى التشاؤم و الخوف من الموت، لكنها بالفعل تؤمن به؛ لأنه ینجو بالحی الشقی من الخوف و سبب الخلاص من هذه الحیاة الطافحة بالأسى و الظلام و تتفاءل به فی قولها:
أ فلیس الممات فی میعة العمر إذن نعمة على الأحیاء حین ینجو الحی الشقی فی الخوف و یغنی فی داجیات الفناء تاركا هذه الحیاة و ما فیها من الزیف والأسى و الظلام بین فك الریاح و القدر العاتی و نوح الشیوخ و الأیتام ( دیوان، نازك الملائكة، ج1، ص٤22).
و ترى فی الموت بلسما لنجاة الأحیاء من الأحزان و ترى فیه خلد الحیاة:
سأرى فیك بلسما ینقذ الأحیاء مما یلقون من الأحزان سأرى فی الممات خلد حیاتی حین تعفو عنی المُنی و الجروح ( دیوان، نازك الملائكة، ج1،ص229).
وهذا رأیها عن الموت:
إنه الموت ذلك الواهب العادل ملقی الهمود فی كل قبر و مریق الفناء فی كل خد و ذراع و كل نحر و صدر (دیوان، نازك الملائكة، ج1،ص387).
و تسلم على الموت: فسلام أیها الموت سلام یا رفات ( دیوان، نازك الملائكة، ج1،ص٦50)
و تحس بالراحة لأن: استرحنا، كُشف اللغز و مات المبهم وتلاشت حرقة الأحلام فی لون العیون ( دیوان، نازك الملائكة، ج2، ص8٤3).
و تعتقد أن الدنیا تبتسم إذا: هیا معی تبتسم الدنیا إذا أنت ابتسمت ماذا یثیر أساك ما دمنا نظل أنا و أنت؟ هیا معی فاللیل مختلج الدجى حبا و شعرا وعرائس الأحلام تفرش دربنا لونا وعطرا (دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص297).
و آمنت بأن یمكن لنا التغلب على الألم: ومن عساه أن یكون ذلك الألم؟ طفل صغیر ناعم مستفهم العیون تسكته تهویدةُ و رقبة حنون و إن تبسمنا و غنّینا له یَنَم ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص58٤).
و لنا یمكن أن ننساه: سوف ننسى الألم سوف ننساه إننا بالرضى قد سقیناه ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص1٤٦).
و ترى كل شیء جمیلا؛ لأن: تعال لنحلم، إن المساء الجمیل دنا و لین الدجى و خدود النجوم تنادی بنا ( دیوان، نازك الملائكة، ج2، ص٤23).
و رغم أزمتها النفسیة، ترى أن النفس ملیئة بالخیال و فیها یوجد الصفاء؛إذن تحبها:
سأحب نفسی فی ارتعاش ظلالها تحیا عصور ملأى بألوان الخیال و هناك فی أحنائها ألقی الجمال سأحب نفسی فی صفاء ظلالها أجد الصفاء و قد وصلناها معنا یحیى الجمال ( دیوان، نازك الملائكة، ج2، ص7٦3).
و تحب الحیاة و ما فیهامن أجل: سأحب الحیاة من أجل ألحانك یا بلبلی الحزین و أحیا سأرى فی النجوم من نور أحلامك ظلا مخلدا أبدیا أحب الحیاة بقلبی العمیق و أمزجها واقعها بالخیال أحب الطبیعة حب الجنون أحب النخیل أحب الجمال فأعشق ذاتی ففی عمقها خیال وجود عمیق الظلال ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص181).
و تُعلّمنا كیف نواجه الحیاة إذا جرحتنا: و إن جرحتنا أكف الحیاة سكبنا الرضى فی شفاه الجراح و ذقنا حنین الجمال اللذیذ و ملح مدامعنا الباردة ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص3٤٤).
و تفتخر بأنها: هنا أنت بنت حقول الجنوب و ألوانها قبستِ العذوبة و الدفء من سحر غدرانها و هذا الصفاء صفاء الحیاة هناك، همسك شدو الرعاهْ لقطعانها ( دیوان، نازك الملائكة، ج2، ص٤37).
و تعتقد علینا أن ننسى الأمس: و انس أمسا ملأ الكون خطوبا آن للأفراح أن تمحو الكروبا آن أن أحیی الأمانی وأغنّی و معی قلبی و أشعاری و لحنی (دیوان، نازك الملائكة، ج1،ص22٦).
عندما تنظر إلى الآفاق تبدو لها هكذا: جزیرة الوحی من بعید تلوح كالمأمل البعید الرمل فی شطها ندی یرشف من دجلة البرود و القمر الحلو فی سماها أمنیة الشاعر الوحید لاحت على البعد ضفّتاها أمنیة العالم الجدید ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص585).
و تؤمن بالله؛ لأنه خالق هذا الكون و أن وراء هذه الحیاة حیاة بدون الحزن و الألم:
فوراء الحیاة معنى عمیق لیس تفنیه سودة الأحزان هو معنى الألوهة الخالد المرجوّ خلق الوجود و الأزمان ( دیوان، نازك الملائكة، ج1،ص237).
فوراء التراب قلب له فی رحمة الله مأمل لیس یفنى مأمل الخافق الذی ضمه الله إلى عدله فأغمض عینا ( دیوان، نازك الملائكة، ج1،ص90٦)
و تحس باعتداد النفس و أن الشمس نارها لن تمزق نغمتها؛لأن:
جنون نارك لن یمزق نغمتی مادام قیثاری المغرد فی یدی اللیل ألحان الحیاة و شعرها و مطاف آلهة الجمال الملهم كم سرت تحت ظلامه و نجومه فنسیت أحزان الوجود المظلم و على فمی نَغَم إلهی الصدى تلقیه قافلة النجوم على فمی ( دیوان، نازك الملائكة، ج1،ص89٤).
و تتفاءل بالجمهوریة العراقیة فی٤1 تموز سنة 1958م:
فرح الأیتام بضمة حب أبویة فرحة عطشان ذاق الماء فرحة تموز بلمس نسائم ثلجیهْ فرح الظمآن بنبع ضیاء فرحتنا بالجمهوریّهْ..( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص5٤٤).
و تتفاءل بالوحدة العربیة ؛لأنها تعود بالحیاة و هی ضوء فی لیلة ظلماء:
تعود مع الوحدة العربیة تعلن الوحدة الكبیرة ضوءا وسلاما فی لیلة لیلاء أعلنتها أمنیة العرب الكبرى و حلم الأجداد و الآباء ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص521).
و تتفاءل كذلك بمستقبل العالم العربی حیث تقول:
یافا وحیفا فی غد نلتقی فنحن والضوء على الموعد تبقى فلسطین لنا نغمة قدسیة على فم المنشد و نسرنا الشامخ لم ینثنی أمام باب الزمن الموصد غدا فلسطین لنا كلها كأن إسرائیل لم توجد (دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص98٤).
و أخیرا طلع الفجر من وراء الظلام و قد قاربت حدود الرجاء: طلع الفجر من وراء الدیاجی یا عیون الشهید نامی قرّی ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص523).
و الیوم حان الفجر یا أمتی فنحن قاربنا حدود الرجاء ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص517).
إذن رأینا كیف تفاءلت بالحیاة و ما فیها، بعد أن آمنت بالله و حل محل آرائها المتشائمة نظرة التفاؤل و نظرت إلى الدنیا و ما فیها بمنظار التفاؤل. و بعد أن تفاءلت بالحیاة تصف لیالی الصیف هكذا:
یا هدوءا مطمئنا یا فضاء مرحا لدْن البریق یشرب الأنجم كأسا من رحیق یا رؤى تقطر لونا أنت عطر و نعومهْ و حفیف و انحدارات أشعهْ و نجوم عكست فی عمق ترعهْ و أناشید رخیمهْ أنت ینبوع سكون و حماسات و عطر و برودهْ یا وساد الأنجم الجذلَى البعیدهْ یا مصبا للحنین أنت للأحلام مأوى یا ملاذا باردا عذبَ الجوار لخدود حَمَلت عبء النهار و اقتل الآن نشوى ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص٦52).
و تصف الربیع هكذا: إنه الشیخ ربیعْ ذلك الشیخ المَرِح ذو الثیاب الخُضر و الوجه البدیع و الجبین المنشرح كلما طافت خطى نیسان بالدنیا أطلّا من كُوى غرفته عذبا طروبا هاتفا: أهلا و سهلا…….
و فی وصفها الكوارث وا لفواجع لغتها سهلة سلسة دون أی غلاظة تحكی عن تشاؤمها الكثیف. نظمت الشاعرة خلال الفیضان الرهیب عام٤195م التی أغرقت بغداد:
لم یزل یتبعنا مبتسما بسمة حب قدماه الرطبتان تركت آثارها الحمراء فی كل مكان إنه قد عاث فی شرق و غرب فی حنان ذلك العاشق إنا قد عرفناه قدیما إنه لا ینتهی من زحفه نحو رُبانا و له نحن بنیْنا، و له شِدْنا قُرانا إنه زائرُنا المألوف ما زال كریما كل عام ینزل الوادی و یأتی للقانا.( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص533).
مع أن الشاعرة كانت متشائمة شدیدة التشاؤم فی بدایة حیاتها الشعریة؛ لأنها كانت مفعمة بالاتجاهات الرومنسیة و غلب علیها التشاؤم المطلق و كانت تشعر بالضیق والألم ولا ترى غیرالأزمة والشقاء فی الحیاة و لكن تدریجیا غیرت نظرتها حول الموت و فلسفة الحیاة و بدأت تنظر إلى الحیاة بمنظار جدید فیه مسحة من التفاؤل لیكون بلسما لدائها و مرهما لشفائها وخفّ من حدّة تشاؤمها حیث أصبحت متفائلة بعد تجربتها الفكریة و كثرة مواردها الأدبیة و بعد أن نضج عقلها و فكرها حول مسائل الحیاة. و نرى هذا التغییر حتى فی عنوان مطولتها من "مأساة الحیاة" إلى" أغنیة للإنسان"، فی الواقع آراؤها المتشائمة قد زالت و حلّ محلّها الإیمان بالله و الاطمئنان إلى الحیاة و جو مأساة الحیاة تبدد شیئا فشیئا.
الكلمات الرئیسیة: فلسفة الحیاة، مأساة الحیاة، التفاؤل، أغنیة للإنسان،الاتجاهات الرومنسیة.
التمهید
آمنت الشاعرة أن الحیاة كلها ألم و إبهام و تعقید؛ و اعترفت إلى فناء الإنسان وأنه محكوم إلى الفناء والموت بشع جدا كما تقول:" لم تكن عندی كارثة أقسى من الموت و كان الموت یلوح لی مأساة الحیاة الكبرى، ذلك هو الشعور الذی حملته من أقصى صبای إلى سن متأخرة". وعندما تصف خطیئة الإنسان تعدّ الموت لعنة السماء؛ لكنها ترى فیه أمنا و راحة لأنه سبیل لراحة الإنسان من عناء الحیاة و بالفعل تؤمن بما قال"شوبنهور": " إن أعظم نعیم للناس جمیعا هو الموت".
وبالفعل آمنت بقول" ویلیام جیمز": " إن أكثر دواء تأثیرا لعلاج الآلام و الأحزان هو الإیمان و الاعتقاد". و كان التغییرعاما و شاملا حتى فی عنوان مطولتها من مأساة الحیاة إلى أغنیة للإنسان، فی الواقع قد زالت آراؤها المتشائمة و حلّ محلّها الإیمان بالله و الاطمئنان إلى الحیاة و جو مأساة الحیاة تبدد شیئا فشیئا
قررت نازك الملائكة أن تجد السعادة التی كانت قد بحثت عنها كثیرا فی مختلف الأوساط فلم تجدها وانتهت رحلتها فی هذا المجال بالخیبة، فقد عبرت عن تمسكها بالحیاة فی هذه الحیاة الدنیا ؛ لأن حب الحیاة أمرلا ینفصل عن الحیاة نفسها وأن الإنسان یجد لذة كبرى فی أن یحیاها، مهما كان طبعها و صعدت من إحساسها بالیأس و العدم إلى قمة الرجاء والأمل و آمنت بأننا یجب أن نستسلم للقدر خاضعین؛ لأن العالم یواصل سیرته حتى بدوننا و آمنت بأن الإنسان مهما یفكر فی آلامه و آلام أبنائه ومواطنیه والمجهولات والأسرار والألغاز؛ لكن یجب ألا یعكس الیأس والقنوط و الألم …..فقط، بل یجب أن یكون للتفاؤل مكانه كشأن أشخاص كثیرین الذین وقفوا أمام الكون و مجهولاته و أسراره و كانوا حیارى و لكنهم یرون جمال الحیاة و خیرها و سرورها و أن الحیاة تجری فی نظام سرمدی و على الإنسان أن ینضم بكل حسناته و سیئاته حتى یبلغ ذروة المعرفة و قمتها. و مهما یتأمل فی الآلام الإنسانیة والألغاز والمجهولات لا ینصرف عن الحیاة؛ لأنه لم یجیء الحیاة لیشقى و یصب الهموم على نفسه؛ بل أتاها لتتنعم بها و بطیباتها و ملذاتها و مسراتها و یتمتع بها وأن یكون مسلكه تجاه الحیاة إیجابیا و ینظر إلیها بمنظار التفاؤل و لتكن فلسفتها الابتسام دائما مادام حیا و ینتهز فرصة الحیاة قبل أن تفلت من یده.
و أخیرا آمنت الشاعرة بأن جمیع ما فی ید الإنسان عاریة و ودیعة و لایبقى لدیه طول الحیاة فیخرج من یده آجلا أو عاجلا، ثم شعرت بأن الدنیا قد تغیرت فی نظرتها فعزمت أن تواجه الحیاة بغیر ما كانت تواجهها قبل ذلك، و آمنت بأن:
فلنلذ بالإیمان فهو ختام الیأس و الدمع و الشقاء الآتی لأنه: كاسح الأعین الحزینة من أدمعها الهامرات فی الظلمات فهاجرت إلى الله و عرفته: عرفتك فی ذهول تهجدی، و قرنفلی أكداس عرفتك فی اخضرار الآس عرفتك عند الفلاح یبعثر فی الثرى الأغراس وتزهر فی یدیه الفأس عرفتك عند طفل أسود العینین، و شیخ ذابل الخدین عرفتك عند صوفیّ ثریّ القلب و الإحساس و…….
و تُعلّم الإنسان طریق التسلط على الحزن حیث نراها فی قصیدة " خمس أغان للألم" تثیر فكرة صراع الإنسان فی سبیل الغلبة والاستعلاء على آلامه بأیة وسیلة یستطیعها، حیث تقول:
أ لیس فی إمكاننا أن نغلب الألم؟ نرجئه إلى صباح قادم؟ أو أمسیه؟ ننقُلُه؟ نقنعه بلعبة؟ بأغنیة؟ بقصة قدیمة منسیّة النغم؟( نازك الملائكة، دیوان، ج2،ص57٤).
وهنا نذكر مختارات من أشعارها التی تسود علیها روح التفاؤل:
مع أنها– كما تقول نفسها – كان الباعث على نظم مطولتها الأولى التشاؤم و الخوف من الموت، لكنها بالفعل تؤمن به؛ لأنه ینجو بالحی الشقی من الخوف و سبب الخلاص من هذه الحیاة الطافحة بالأسى و الظلام و تتفاءل به فی قولها:
أ فلیس الممات فی میعة العمر إذن نعمة على الأحیاء حین ینجو الحی الشقی فی الخوف و یغنی فی داجیات الفناء تاركا هذه الحیاة و ما فیها من الزیف والأسى و الظلام بین فك الریاح و القدر العاتی و نوح الشیوخ و الأیتام ( دیوان، نازك الملائكة، ج1، ص٤22).
و ترى فی الموت بلسما لنجاة الأحیاء من الأحزان و ترى فیه خلد الحیاة:
سأرى فیك بلسما ینقذ الأحیاء مما یلقون من الأحزان سأرى فی الممات خلد حیاتی حین تعفو عنی المُنی و الجروح ( دیوان، نازك الملائكة، ج1،ص229).
وهذا رأیها عن الموت:
إنه الموت ذلك الواهب العادل ملقی الهمود فی كل قبر و مریق الفناء فی كل خد و ذراع و كل نحر و صدر (دیوان، نازك الملائكة، ج1،ص387).
و تسلم على الموت: فسلام أیها الموت سلام یا رفات ( دیوان، نازك الملائكة، ج1،ص٦50)
و تحس بالراحة لأن: استرحنا، كُشف اللغز و مات المبهم وتلاشت حرقة الأحلام فی لون العیون ( دیوان، نازك الملائكة، ج2، ص8٤3).
و تعتقد أن الدنیا تبتسم إذا: هیا معی تبتسم الدنیا إذا أنت ابتسمت ماذا یثیر أساك ما دمنا نظل أنا و أنت؟ هیا معی فاللیل مختلج الدجى حبا و شعرا وعرائس الأحلام تفرش دربنا لونا وعطرا (دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص297).
و آمنت بأن یمكن لنا التغلب على الألم: ومن عساه أن یكون ذلك الألم؟ طفل صغیر ناعم مستفهم العیون تسكته تهویدةُ و رقبة حنون و إن تبسمنا و غنّینا له یَنَم ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص58٤).
و لنا یمكن أن ننساه: سوف ننسى الألم سوف ننساه إننا بالرضى قد سقیناه ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص1٤٦).
و ترى كل شیء جمیلا؛ لأن: تعال لنحلم، إن المساء الجمیل دنا و لین الدجى و خدود النجوم تنادی بنا ( دیوان، نازك الملائكة، ج2، ص٤23).
و رغم أزمتها النفسیة، ترى أن النفس ملیئة بالخیال و فیها یوجد الصفاء؛إذن تحبها:
سأحب نفسی فی ارتعاش ظلالها تحیا عصور ملأى بألوان الخیال و هناك فی أحنائها ألقی الجمال سأحب نفسی فی صفاء ظلالها أجد الصفاء و قد وصلناها معنا یحیى الجمال ( دیوان، نازك الملائكة، ج2، ص7٦3).
و تحب الحیاة و ما فیهامن أجل: سأحب الحیاة من أجل ألحانك یا بلبلی الحزین و أحیا سأرى فی النجوم من نور أحلامك ظلا مخلدا أبدیا أحب الحیاة بقلبی العمیق و أمزجها واقعها بالخیال أحب الطبیعة حب الجنون أحب النخیل أحب الجمال فأعشق ذاتی ففی عمقها خیال وجود عمیق الظلال ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص181).
و تُعلّمنا كیف نواجه الحیاة إذا جرحتنا: و إن جرحتنا أكف الحیاة سكبنا الرضى فی شفاه الجراح و ذقنا حنین الجمال اللذیذ و ملح مدامعنا الباردة ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص3٤٤).
و تفتخر بأنها: هنا أنت بنت حقول الجنوب و ألوانها قبستِ العذوبة و الدفء من سحر غدرانها و هذا الصفاء صفاء الحیاة هناك، همسك شدو الرعاهْ لقطعانها ( دیوان، نازك الملائكة، ج2، ص٤37).
و تعتقد علینا أن ننسى الأمس: و انس أمسا ملأ الكون خطوبا آن للأفراح أن تمحو الكروبا آن أن أحیی الأمانی وأغنّی و معی قلبی و أشعاری و لحنی (دیوان، نازك الملائكة، ج1،ص22٦).
عندما تنظر إلى الآفاق تبدو لها هكذا: جزیرة الوحی من بعید تلوح كالمأمل البعید الرمل فی شطها ندی یرشف من دجلة البرود و القمر الحلو فی سماها أمنیة الشاعر الوحید لاحت على البعد ضفّتاها أمنیة العالم الجدید ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص585).
و تؤمن بالله؛ لأنه خالق هذا الكون و أن وراء هذه الحیاة حیاة بدون الحزن و الألم:
فوراء الحیاة معنى عمیق لیس تفنیه سودة الأحزان هو معنى الألوهة الخالد المرجوّ خلق الوجود و الأزمان ( دیوان، نازك الملائكة، ج1،ص237).
فوراء التراب قلب له فی رحمة الله مأمل لیس یفنى مأمل الخافق الذی ضمه الله إلى عدله فأغمض عینا ( دیوان، نازك الملائكة، ج1،ص90٦)
و تحس باعتداد النفس و أن الشمس نارها لن تمزق نغمتها؛لأن:
جنون نارك لن یمزق نغمتی مادام قیثاری المغرد فی یدی اللیل ألحان الحیاة و شعرها و مطاف آلهة الجمال الملهم كم سرت تحت ظلامه و نجومه فنسیت أحزان الوجود المظلم و على فمی نَغَم إلهی الصدى تلقیه قافلة النجوم على فمی ( دیوان، نازك الملائكة، ج1،ص89٤).
و تتفاءل بالجمهوریة العراقیة فی٤1 تموز سنة 1958م:
فرح الأیتام بضمة حب أبویة فرحة عطشان ذاق الماء فرحة تموز بلمس نسائم ثلجیهْ فرح الظمآن بنبع ضیاء فرحتنا بالجمهوریّهْ..( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص5٤٤).
و تتفاءل بالوحدة العربیة ؛لأنها تعود بالحیاة و هی ضوء فی لیلة ظلماء:
تعود مع الوحدة العربیة تعلن الوحدة الكبیرة ضوءا وسلاما فی لیلة لیلاء أعلنتها أمنیة العرب الكبرى و حلم الأجداد و الآباء ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص521).
و تتفاءل كذلك بمستقبل العالم العربی حیث تقول:
یافا وحیفا فی غد نلتقی فنحن والضوء على الموعد تبقى فلسطین لنا نغمة قدسیة على فم المنشد و نسرنا الشامخ لم ینثنی أمام باب الزمن الموصد غدا فلسطین لنا كلها كأن إسرائیل لم توجد (دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص98٤).
و أخیرا طلع الفجر من وراء الظلام و قد قاربت حدود الرجاء: طلع الفجر من وراء الدیاجی یا عیون الشهید نامی قرّی ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص523).
و الیوم حان الفجر یا أمتی فنحن قاربنا حدود الرجاء ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص517).
إذن رأینا كیف تفاءلت بالحیاة و ما فیها، بعد أن آمنت بالله و حل محل آرائها المتشائمة نظرة التفاؤل و نظرت إلى الدنیا و ما فیها بمنظار التفاؤل. و بعد أن تفاءلت بالحیاة تصف لیالی الصیف هكذا:
یا هدوءا مطمئنا یا فضاء مرحا لدْن البریق یشرب الأنجم كأسا من رحیق یا رؤى تقطر لونا أنت عطر و نعومهْ و حفیف و انحدارات أشعهْ و نجوم عكست فی عمق ترعهْ و أناشید رخیمهْ أنت ینبوع سكون و حماسات و عطر و برودهْ یا وساد الأنجم الجذلَى البعیدهْ یا مصبا للحنین أنت للأحلام مأوى یا ملاذا باردا عذبَ الجوار لخدود حَمَلت عبء النهار و اقتل الآن نشوى ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص٦52).
و تصف الربیع هكذا: إنه الشیخ ربیعْ ذلك الشیخ المَرِح ذو الثیاب الخُضر و الوجه البدیع و الجبین المنشرح كلما طافت خطى نیسان بالدنیا أطلّا من كُوى غرفته عذبا طروبا هاتفا: أهلا و سهلا…….
و فی وصفها الكوارث وا لفواجع لغتها سهلة سلسة دون أی غلاظة تحكی عن تشاؤمها الكثیف. نظمت الشاعرة خلال الفیضان الرهیب عام٤195م التی أغرقت بغداد:
لم یزل یتبعنا مبتسما بسمة حب قدماه الرطبتان تركت آثارها الحمراء فی كل مكان إنه قد عاث فی شرق و غرب فی حنان ذلك العاشق إنا قد عرفناه قدیما إنه لا ینتهی من زحفه نحو رُبانا و له نحن بنیْنا، و له شِدْنا قُرانا إنه زائرُنا المألوف ما زال كریما كل عام ینزل الوادی و یأتی للقانا.( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص533).
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:17|