لمحات.. من أدب أواخر العهد العثمانی فی مدینة
حمص
هذه باقة من الحدیث عن بعض
شعراء حمص فی نهایة العهد العثمانی، لم أشأ أن تتخذ طبیعة البحث فی اتجاه
واحد، ولكنی أردت لها أن تكون حُسوة طائر ولمحة عابر، إنها إلمامة السائح
العجلان یلاحقه نفیر القطار وإلحاح المسافرین.. فإلى بعض المعالم لاكلها..
ولعل إلمامة أخرى وأخرى تتیح لنا الولوج إلى الخبایا والزوایا...
الحدیث عن أدب القرن التاسع عشر فی حمص خاصة وبلاد الشام عامة حدیث ذو خصوصیة، فلیس موضوعه ذاك الموضوع الممتع المشوق، ولا أفقه ذاك الأفق الرحیب المترامی الآفاق الذی یجذب إلیه المتشوق الظامئ، ولیست فیه تلك الومضات الذكیة الرائعة التی تعجب بها العقول، ولا تلك العواطف الدافئة التی تستكین إلیها النفوس.
هذه الأحكام السلبیة التی بدأت بها كلامی قد تكون صادقة على العموم، ولكن أیضاً قد لا تكون شاملة على الرغم من صدقها، فالباحث لا یمكن أن یفقد فی خضم ذلك الأدب بصیص نور هنا وقبساً من النار هناك، وأن من الصخر لما یتفجر منه الأنهار. وإذا كنا لا ننتظر أنهاراً ولا سواقی تتفجر من شعر شعراء ذلك القرن، ولا نتوقع بزوغ شموس منهم فی سماوات الشعر وآفاقه... فإننا لا نعدم لدیهم بعض الدفء والإخلاص نلمسه ونحسه فی مقطوعات من شعرهم وخاصة فی شعر التوسلیات والمدائح النبویة والقصائد ذات المنحى الصوفی.
ونعود إلى مدینة حمص وإلى تاریخ الأدب فیها: یخبرنا الأستاذ المرحوم رفیق فاخوری(1) فی مقالة له أن النشاط الأدبی بدأ یدب فی حمص منذ عام 1930 أو قبله بقلیل، أما الزمن الذی سبق هذا التاریخ فقد وجد فیه أدب لا یسمو على مستوى الأدب العثمانی إلا بمقدار... فالعقم والكلفة یسودانه، وربما فضله أدب عصر الانحطاط من حیث الشكل وسلامة التعبیر(2).. ویمكن أن نضیف إلى قول الأستاذ الفاخوری قولنا: أن تفاهة الموضوعات هی غالباً ما یتسم به شعر تلك المرحلة وأدبها إلا ما نجا لسبب أو لآخر.
ومن الجدیر بالذكر ههنا أن شعر شعراء حمص فی تلك المرحلة من الصعب جمعه، فباستثناء دیوان الشیخ أمین الجندی ودیوان مصطفى زین الدین لا یوجد بین أیدینا أثر آخر مطبوع إلا ما قام بنشره میخائیل بطرس معماری من شعر بطرس كرامة(3) وإبراهیم الحورانی(4) ولم أقف علیهما، أما الآثار الأخرى فهناك دیوان تام حصلت على مصورة له من الظاهریة بدمشق وهو دیوان محمد درویش عجم(5)، وهناك دیوان عمر نبهان الموجود لدی مخطوطاً.. وأخبرنی الأستاذ عبد المعین الملوحی أن لدیه مخطوطاً یشتمل على شعر الشیخ زكریا الملوحی ولم أره.. أما سائر القصائد لسائر الشعراء فهی موزعة فی كنَّاشات لدى الأسر، وبعض الأسر ضنین بها حریص علیها.. ولكن ذلك الحرص لا یستمر فی الأجیال الجدیدة ولا ینتقل إلیها- وقد یكون الحق إلى جانبها- مما یؤدی إلى ضیاع كثیر من آثار شعراء المدینة فی ذلك العصر واندثار أخبارهم.
ومن الملاحظ التی یجب تقدیمها أن أولئك الشعراء كان جمهورهم من فئة العلماء، علماء الدین، الذین لهم مشاركة فی عدد من فنون العلم كالفقه والأصول والمنطق والقراءات... وكان الشعر لدیهم مظهراً من مظاهر البراعة والتمیز من الآخرین.. فالشیخ العلامة خالد الأتاسی(6) معروف فی تاریخ الفقه والقانون بشرحه العظیم للمجلة(7)، ولكنه كان یقول الشعر، والشهید عبد الحمید الزهراوی معروف بعمق ثقافته الحكمیة والفلسفیة والفقهیة والسیاسیة وكان یقول الشعر وقد یرتجله، وعلمت من الشیوخ أن له دیواناً أتلف برمیه فی البئر لدى مداهمة الأتراك لبیته.. وقل مثل ذلك فی سائر الشعراء فی تلك المرحلة، فقد كان معظمهم من حملة العلم ونقلته وملقنیه إلى الأجیال التالیة، ولم یكونوا من الشعراء أصحاب الرؤیة النفاذة الخلاقة ولا من أصحاب الریادة والإبداع.. وأرى أن مثل هذا الحكم لا ینطبق على حمص وحدها وإنما یمكن تعمیمه على بلاد الشام، فقد كان الشعر الحی الخلاّق مفقوداً إلا من بعض الومضات، وكانت سوریة كما یقول الأستاذ أحمد الجندی(8): عالة فی الثقافة الأدبیة والإنتاج الفنی على مصر، ومرتبطة بها ارتباطاً أدبیاً وثیقاً، ولم یكن لدینا شاعر یحسب حسابه، وشعراؤنا آنذاك لم یتأثروا بأحد ولم یؤثروا فی أحد، بل كانوا ینضحون من ذاكرتهم ما وعت من المحفوظات ینظمونها مجدداً.. أو فی قالب آخر دون أن یتكلفوا إیراد معنى نفیس أو خیال طریف... لأن إلهامهم الشعری كان مقصوص الجناح مهیضاً لا یستطیع الارتفاع والسمو إلى الأجواء العالیة، فكلهم قد تعلموا النظم، ولكنهم لم یلهموا الشعر، لذلك یمكننا أن نعد عشرین واحداً منهم ممن یجید النظم، ومع ذلك قد لا نحظى بقصیدة واحدة لهم جمیعاً تستحق تسمیتها بالشعر. ولكن إذا كانت هذه الأحكام صحیحة أو على قدر محدود من الصحة فما فائدة تتبع أخبار هؤلاء الشعراء وما الغایة من الاهتمام بشعرهم أو الكاتبة عنهم؟!
والجواب: إن ذلك الجیل یمثل حلقة من حلقات تاریخنا الأدبی قد تعجبنا أو لا تعجبنا ولكنها كانت حقیقة واقعة فهی تستحق التسجیل والحفظ والبحث والدرس ولها ما لها وعلیها ما علیها، وهی على كل حال كانت مرآة لعصرها، وإذا كان ذلك العصر یتصف بالخمود والخمول فمن أین التألق والصفاء؟
ویجب أن نذكر أن شعراءنا فی تلك المرحلة كانوا علماء شعراء فی عصر یعز فیه وجود القارئ الكاتب ربما فی حی بأكمله أو فی أسرة بقضها وقضیضها.. فآثارهم إذن هی من أهم ما تبقى لنا من آثار عقلیة لجیل كامل. زد على ذلك أن كثیراً من الأحداث المحلیة كإقامة بناء ما أو مجیء والٍ أو رحیل باشا أو حدوث شغب... كل ذلك كان یسجل فی الشعر.. فشعرهم بغض النظر عن قیمته الأدبیة یتضمن فوائد تاریخیة واجتماعیة وأثریة. هذا ولعل ولوجنا حرم أولئك الشعراء ومخالطتنا لشعرهم سیعدل من أحكامنا العامة القاسیة تجاه بعضهم على الأقل، وسأختار بعض شعراء ذلك العصر وأتحدث بإیجاز عن كل واحد منهم، وسأبدأ بأعرفهم وأكثرهم شهرة وشیوع ذكر، أعنی بالشیخ أمین الجندی.
الشیخ أمین الجندی:
ولد فی حمص عام 1766م وبها تلقى علومه الأولى على الشیخ محمد الطیبی والشیخ یوسف الشمسی، وتابع تحصیله فی دمشق على ید عدد من علمائها كالشیخ أحمد العطار وعبد الرحمن الكزبری وغیرهم، وله فیهم قصائد مدیح رنانة. وعرف الشیخ بتعلقه بآل الكیلانی ومدیحه لهم. ولما جاء إبراهیم باشا سنة 1247هـ قرّب الشیخ أمیناً إلیه وجعله ندیمه، وكان الشیخ ینظم القصائد مصوراً انتصارات إبراهیم باشا وهزائم الأتراك:(10)
هذا ولما فاض جور الترك فی *** ظلم العباد وصار أمراً مشكلا
وتظاهرت أعمالهم بمقاصد *** ومظالمٍ وحوادثٍ لن تقبلا
سلبوا البلاد من العباد فلا ترى *** فی حكمهم ذا نعمة متمولا
والملك ملك الله یؤتیه الذی *** قد شاء لا هو بالوراثة والولا
من یخبر الأتراك أن جیوشهم *** هُزمت وأن "حسینهم" ولَّى إلى
وقد لا تكون لهذا الشعر أهمیة فنیة، لكن الخطورة فیه آنذاك والأهمیة الكبرى أنه أنكر حق الأتراك فی الحكم وجعلهم من المغتصبین له ومن المحرّفین لكتاب الله، وقرر أن الحكم إنما هو للعرب، لذلك شن حملة شعواء فی هذه القصیدة على أنصار الأتراك من العلماء السائرین فی ركابهم، والذین یزینون أعمالهم على أنها هی الحق ویشاركونهم فی ارتكاب المظالم:
ومشایخ الإسلام أصبح جهلهم *** علَماً فلم تر قط منهم أجهلا
وقضاتهم للسحت قد أكلوا فهل *** أبصرت حیاً من مضرّتهم خلا
زعموا أولی الأمر الولاة وغرّهم *** فی الآیة الاصغا لمن قد أوّلا
نعم الخلافة فی قریشٍ أصلها *** وبها لقد جاء الحدیث مسلسلا
ولا شك أن هذا الصوت نادر آنذاك، له قیمته القومیة وإن كان فجاً من الناحیة الفنیة. وقد سافر الشیخ أمین الجندی إلى القاهرة صحبة إبراهیم باشا الذی قدمه إلى والده محمد علی باشا بقوله: أتیت لك بأعز هدیة من البلاد الشامیة. وأنشد الشیخ الجندی بین یدی محمد علی قصیدة امتدحه بها، ابتدأها بغزل جمع فیه ما استطاع من السابقین:
بدت شمساً وماست سمهریا *** وغنت بلبلا ورنت ظُبیا
وسلَّت من لواحظها جهاراً *** على العشاق عضباً مشرفیا
مهاةٌ ما رآها البدر إلا *** تمنى أن تكون له محیا
سرتْ والنور یغشاها سُحیراً *** وعرف المسك یصحبها ملیا
وسرتُ وراءها وأنا سعید *** بلثمی نعلها الرطب الذكیا
وبعد أن لثم نعلها وصل الشیخ إلى ما یسمیه علماء البدیع بحسن التخلص فانتقل من الغزل إلى المدیح:
إلى أن أجلستنی فوق عرشٍ *** لدى قصر حوى روضاً بهیا
ذكرت لها الأفاضل فاستهلتّ *** بمن لأبی الحسین غدا سمیا
إماماً عارفاً براً تقیا *** خفاجیاً كریماً أریحیا
ویستمر بإیراد معانی المدیح مستعرضاً ما وعته ذاكرته.. ولا أرید أن أطیل فی الحدیث عن الشیخ الجندی لأن حیاة الرجل وشعره ومواقفه یمكن أن تقصر حدیثنا علیه وما إلى هذا قصدنا، لذلك سأختصر حدیثی بإشارات سریعة إلى ما أراه هاماً فی شعره.
لا شك فی أن الشیخ كان مشغوفاً بالجمال، ذا قدرة رائعة على النظم، ولكن سلاسل التقلید الشعریة كانت أقوى منه ومن غیره فرسف فی أغلالها، فامتلأ دیوانه بالتخمیس والتشطیر واستخدام مصطلحات العلوم التی كثیراً ما أساءت إلى الشعر وسلبته تدفقه وحیویته.. ومع ذلك ففی دیوانه ومضات ولموسیقاه نفثات ومن منا لا یطرب لقول الشیخ ترتله حناجر المنشدین:
یا غزالی كیف عنی أبعدوكْ *** شتتوا شملی وهجری عودوكْ
***
قلت: رفقاً یا حبیبی قال: لا *** قلت: راعِ الودَّ یا ریم الفلا
قال: من یهوى فلا یشكو البلى *** قلت: حسبی مدمعی لی قال: لا
***
ذاب قلبی فی هوى بیض اللَّمى *** واستهلّ الدمع من عینی دما
ثم ودعت حیاتی عندما *** فأرقونی. یا ترى كیف السلوكْ
ومن لا یترنح مع ضربات الإیقاع على قوله:
هیَّمتنی تیَّمتنی *** عن سواها أشغلتنی
عاتبی ماذا علیها *** باللقا لو أتحفتنی
ولا یزال شعره یغنَّى حتى أیامنا، وسمعت أن أصحاب هذا الفن فی حلب یعتنون بأدوار الشیخ الجندی عنایة فائقة.
وأترك الشیخ الجندی وأنتقل إلى الحدیث عن شعراء لم تطبع دواوینهم، وقد عاش أكثرهم وتوفی فی القرن التاسع عشر، وأحدهم كان مخضرماً بین التاسع عشر والعشرین، ولكنه فی أشعاره لم یكن سوى امتداد لما كان علیه الشعر قبله على الرغم من معاصرته لشوقی وحافظ ولغیرهم من مبدعی الشعر. وسأذكرهم حسب تسلسل وفیاتهم الأقدم فالأقدم وسیكون المقدم ذكره الشیخ زكریا الملوحی.
زكریا الملوحی:
هو زكریا بن إبراهیم بن علی الملوحی، ولد وتوفی فی حمص، ورجح المرحوم أدهم الجندی أن وفاته ربما كانت بین عامی 1843-1848م. وذكر الجندی أنه لم یعثر لهذا الشاعر إلا على أبیات قلیلة رواها فی كتابه.
وقد ساقت إلی المصادفة كنَّاشاً اشتمل فیما اشتمل علیه، على عدة قصائد للشیخ زكریا مما جعل.. فی الإمكان التعریج على شعر هذا الشاعر فی حدود ما عثرنا علیه.
القصائد التی حفظها الكنَّاش معظمها ذو منحى صوفی، وهی على قلتها تدل على علو كعب الشاعر وعلى مقدرته على نظم القریض، كما تشیر إلى التأثیر العمیق الذی أحدثته ثقافته الدینیة والصوفیة فی شعره.
والحق أن الشیخ كان ینهج فی شعره منهجاً مطروقاً ویسیر فی طریق لاحبة عبَّدها من سبقه من شعراء التصوف. وأتى هو ینسج على منوالهم، ویشطِّر أشعارهم أو یخمّسها، ویستخدم أسالیبهم الرمزیة فی التعبیر عن حبه للذات الإلهیة وذلك بالغزل الحسی فی الظاهر، وإفهام هذا الغزل بالرموز التی تصرف المعانی عن ظواهرها وتشیر إلى المقصود منها، وتبعد عن الخاطر تلك المعانی الظاهرة الطافیة على السطح، ولنأخذ مثالاً على ذلك بعض أبیات له من قصیدة "مد المدید":
ذات حسن ذكرها سكَر *** وجها تعنو له الصورُ
مذ تبدّت فی محاسنها *** تنجلی حارت بها الفكر
إن هذا الكون مظهرها *** یقظة یا من له نظر
نسبةٌ هذا الجمال لها *** ظاهراً، فالمبتدا الخبر
فالبدایة كما نرى غزلیة وعادیة جداً، ثم أتت التلمیحات والعبارات التی تصرفنا عن الدلالات الحسیة إلى فهم ما یرنو إلیه الشاعر وهو التغنی بجمال الذات الإلهیة المتجلیة ظاهراً فی جمال هذا الكون.
ویمیل الشیخ الملوحی فی معظم ما وجدناه من شعره إلى استخدام مصطلحات العلوم التی یعرفها، ویفسح المجال لولعه الشدید بالمحسنات البدیعیة، ویتفنن فی إیرادها، ولنقف لدن هذه الأبیات: (من الطویل)
أریح الصبا مُرّی على حیّ من أهوى *** وقولی له: مضناك أودت به الأهوا
وحییه عنی یا ریاح تحیة *** معنعنة عنها حدیث الهوى یروى
وبثِّیه أشجانی ووجدی ولوعتی *** وكیف عِنانی عنه فی الحب لا یُلوى
أبیت اللیالی ساهر الطرف ساجیاً *** وروض هجوعی كله یابس أحوى
وأصبح مسلوب الجنان مولِّها *** كمجنون لیلى غارقاً لا أرى الصحوا
وطُور اصطباری دكه عاصف الجوى *** غراماً بمن أضحى فؤادی له مأوى
وأثر الصنعة أبرز من أن یخفى، وكأن الشاعر یصوغ شعره صیاغة عقلیة، فهو یمد یده إلى معارفه المتنوعة یتناول منها ما یرید، لیبنی به القصیدة، فتأتی القصیدة كأنها بناء استمدت حجارته من مقالع مختلفة، لكن الغایة توحد هذا التعدد، وما الغایة ههنا سوى أن الشاعر یعبر عن مواجده بهذه الطریقة التی ارتضاها لنفسه، وارتضاها عصره لشعرائه. وقد لاحظنا استخدامه لمصطلحات بعض العلوم "معنعنة، حدیث، یروى" كما لاحظنا كیف استمد من القرآن سورة الطور الذی دُك لمَّا تجلى الرب لموسى، وأخذ من الأدب قصة مجنون لیلى إلى أن وصل فی النهایة إلى تقریر حبه لأحبائه حتى الموت. وقبل أن ندع الشیخ زكریا أحب أن نستمع إلى مقطوعة أخرى من شعره الصوفی: (من الطویل)
حبیب له بالحسن قامت شهوده *** وأُدهش فی مجلى المال شهوده
إذا شامه المشتاق أوما بوجهه *** ركوعاً، وإن حیَّاه طال سجوده
بأوج البها قد أشرقت شمس حسنه *** ولاحت بأفلاك المعانی سعوده
فما جنَّة الفردوس إلا لقاؤه *** وما النار والأهوال إلا صدوده
فهل أنت یا أعمى البصیرة مبصر *** من الحسن ما عینی وقلبی یروده
وفی ختام حدیثنا عن الشاعر نشیر إلى أن الرجل كان معروفاً بلقب الحافظ لحفظه القرآن، وكان عالماً بالموسیقا بارعاً فی الخطابة، حاضر البدیهة، له موشحات بدیعة، وقد كف بصره فی أواخر حیاته، ولا یزال بعض الناس فی حمص حتى أیامنا هذه یحفظون له أبیاتاً فی تاریخ وفاة أو ولادة أو بناء. ویبدو أنه كانت له مكانته فی مدینته وكانت له مشاركة ما فی الحیاة الفنیة آنذاك.
رسلان زین العابدین: (ت 1879م)
انتقل الآن إلى الحدیث عن شاعر آخر، عرف فی حیاته بالأدیب، واشتهرت أسرته بسبب لقبه بآل الأدیب.
على یمین الخارج من سوق الحشیش باتجاه الغرب، وقد خلف وراءه مسجد القاسمی، وتحت أقواس عقدٍ متداعیة وإلى الأمام قلیلاً تقع "زاویة" مهجورة الآن، یتصدرها قبر الجد علی زین العابدین الذی أتى إلى حمص من ناحیة (أورفه) فی تركیا منذ حوالی مائتی عام، وأقام عقبه من بعده فی حمص.
خلَّف الشیخ علی ولداً واحداً هو الشیخ رسلان الذی عُرف بأدبه وشعره ولقِّب بالأدیب، وقد ذكره الوفائی(11) فی تاریخه فقال فیه: "كان رجلاً عالماً أدیباً فاضلاً عاقلاً متكلماً" وكان شأن آثاره شأن غیرها من آثار معاصریه فقد آلت إلى الضیاع ولم یقم أحد بحفظها حتى ذووه فإنهم لم یحفظوا شیئاً منها، وبعد البحث والسؤال عثرت له على قصیدة واحدة لدى الأستاذ عبد المهیمن زین العابدین، وهی مطبوعة فی مصر وعدد أبیاتها (89) بیتاً، وهی لا تختلف فی شیء عن قصائد المدیح النبوی المعروفة فی تلك الأیام. فالشاعر یحشد كل صفات المدیح وأخبار المعجزات التی تنسب إلى رسول الله ویقارنها بمعجزات غیره من الرسل ثم یفضله علیهم، ثم یخلص إلى الاعتذار عن تقصیره فی مدیح الرسول، وتتسم القصیدة عموماً بالركاكة الأسلوبیة آفة العصر آنذاك قال:
یقولون لی: تمم لنا وصف أحمدٍ *** فإنك ذو علم ولست بجاهل
فقلت لهم عدّوا النجوم جمیعها *** ولا تهملوا عدّ النجوم الأوافل
فإن تستطیعوا عدّها بتمامها *** فقولوا لمثلی: صف لأكمل كامل
وینتقل الشاعر بعد ذلك إلى الاستغاثة بالرسول متوسلاً بنسبه الشریف طالباً الرحمة ببركة النسب والقرابة:
وإنی لفرع من فروعك سیدی *** ولی نسبة للمرتضى بالتناسل
فكم من مرة یا خیر من وطئ الثرى *** تداركنی من كید ضدّ مزایلی
ثم یتوسل بكبار الصحابة واحداً واحداً حتى یصل إلى التوسل بشیخ الطریقة القطب عبد القادر وبسائر المشایخ كالدسوقی والرفاعی والبدوی إلى أن یصل إلى حسن الختام:
وصلّ إلهی كل وقت وساعة *** على المصطفى نور البدور الكوامل
كذا الآل والأصحاب ما قال واقع *** بباب ندى المختار حطت رواحلی
وكان الشاعر بدأ قصیدته بقوله:
بباب ندى المختار حطت رواحلی *** فحاشا لطه أن یرد لسائلی
هو الحامد المحمود والحاشر الذی *** هو الواصل الموصول بل خیر واصل
ولا شك أن للشیخ شعراً كثیراً بدلیل شهرته بالأدیب، ولكن لیس بین أیدینا غیر هذه القصیدة، لذلك یمكننا أن نقول اعتماداً علیها: إنه كان شاعراً عادیاً لم یستطع أن یخرج عن ركاكة الأسلوب السائدة فی عصره، ولكنه على كل حال یبقى اسمه إبان عصره شاعراً- كائناً ما كانت نظرتنا إلى الشعر- بل كانت له شهرة بذلك ونال سمعة طیبة وحسن ذكر.
توفی الشیخ رسلان سنة 1879 ودفن بمقبرة "باب هود".
محمد عجم "ت 1894":
هو محمد بن عبد الرحمن عجم، ذكره الأستاذ عمر رضا كحالة فی معجم المؤلفین ولم یذكر له تاریخ ولادة ولا وفاة، إلا أن المؤرخ عبد الهادی الوفائی ذكر أن وفاته كانت عام 1312 = 1894م.
هذا الشاعر جمع دیوانه بنفسه، وذكر فی مقدمته أنه جمع شعره نتیجة لإلحاح أصدقائه، ویقول: أنه استنكف مراراً لأنه لیس من فرسان هذا المیدان، لكن من قبیل التقلید- وهذه عباراته-. ویستفاد من قراءة الدیوان أن صاحبه كان یعمل موظفاً "عدّاد أغنام" وكان یحرص على مدیح الرسمیین آنذاك.
بدأ دیوانه بقصیدة بمدیح الرسول تبركاً، ثم انتقل إلى مدیح "البكوات" و"الأفندیة" فمن نماذج مدیحه قوله یمدح محرّم "بیك" بن إسماعیل "بیك" قائمقام حمص سنة 1292هـ: (من الكامل)
إن طاب عیشك بالمسرة أو صفا *** قبل الفوات، فوات دهراً أنصفا
خذ فرصة اللذات صاح ولا تكن *** ممن تمنَّع بل تمتَّع بالصفا
لیل العناء لقد تولى هارباً *** إذ سلّ برق الأنس سیفاً مرهفا
والسحب جاد على الرباء بطلِّه *** والروض فی زهَر الربیع تزخرفا
فبخٍ بخٍ طابت مواسم أنسنا *** والهمُّ عنا قد ترحَّل واختفى
هذا محرّم قد وفى لسمیِّه *** وبطالع الإسعاد جاد وأتحفا
هیَّا نهنیه بأسرع همةٍ *** فی خیر عامٍ بالمسرّة قد وفى
ثم یستطرد الشاعر فی ذكر صفات الممدوح، فمحرم بیك لیث الشرى ودری اللفظ ویوسفی الحسن إلى ما هنالك...
فإذا ما انتهینا من باب المدیح انتقل بنا الشاعر إلى التشطیر والتخمیس والمطرزات، ثم یلی ذلك الأدوار الغنائیة، فنستمع لدیه إلى مثل هذه الأنغام: (مجزوء الرمل)
یا نسیم الصبح بلِّغ *** جیرة الشِّعب الیمانی
حال صبّ مستهامٍ *** یرتجی نیل الأمانی
یلی ذلك باب للرثاء ولذكر العمران، وباب الألغاز وآخر للهجاء، وهجاؤه بذیء اللفظ عاهر الصور، یستخدم فیه ما هب ودب من ألفاظ بذیئة ولعل هذا ما دفع المؤرخ الوفائی إلى الإعجاب به فقال: وله هجو ظریف. إننا أمام شاعر أنصف نفسه وشعره منذ مقدمة دیوانه فهو یعترف بأنه یقول ما یقول من باب التقلید، والحقیقة أنه نظَّام، ولكن لیس من المستوى الرفیع ولا الوسط.. وقیمة دیوانه لا تنبع من قیمة شعره ولكن من كونه یقدم لنا نموذجاً تاماً من أدب ذلك العصر، ولأنه یقدّم لنا فوائد تاریخیة تتعلق بجزیئات تاریخ المدینة كأسماء القضاة والحكام وتاریخ بعض الأبنیة، ولیته اقتصر على ذلك، ولكنه ملأ دیوانه بقصائد ذات مناسبات تافهة كولادة طفل أو زواج فلان وموت فلانة من الناس العادیین الذین لیس لهم خبر یروى ولا أثر یحفظ ولا عمل یذكر. ولا ینجو شعره فی أحسن حالاته من ركاكة أسالیب العهد العثمانی، وقد لا یخطئ طرافة الفكرة ولكن لا یستقیم لدیه التعبیر عنها، لنسمعه مثلاً یقول: (من الكامل)
لو كان لی كالعاشقین عواذل *** لجعلت ذمّ العاذلین تغزُّلی
ولو أنهم حشدوا جیوش مكایدٍ *** لسعیت فی تشتیتهم وتوصلی
لكن محبوبی تعشَّق نفسه *** فی نفسه وكذاك أعظم مشكل
قد هام فی لاهوته ناسوته *** فُقد العذول فما یكون تحیِّلی
فإذا ما نظرنا إلى هذه العبارات "توصلی، وكذاك أعظم مشكل... الخ" أدركنا ما تجنیه ركاكة التعبیر على الفكرة مهما تكن طرافتها.
ومن أمثلة مطرزاته "والمطرزة مقطوعة من المنظوم إذا أخذت الحرف الأول من كل بیت من أبیاتها تركب لدیك الاسم المقصود" قوله مطرزاً باسم "عارف": (من الوافر)
علقت بأغیدٍ حلو التثنی *** وقلبی من لظى الهجران خائفْ
أبى قربی لدیه وصدّ عنی *** غزالٌ قد حوى أسنى اللطائف
رنا عجباً وهزّ قضیب بان *** كحیلُ الطرف مسدول السوالف
فقلت له رویدك فی المعنَّى *** فأنت بحالة العشاق عارف
ولا أحب أن أطیل أكثر من ذلك فی كلامی عن محمد عجم، وفی الحدیث عنه متسع ولكنی أحب أن أنقل إحساساً فحواه أن الرجل ربما كان یملك فطرة شاعر وتوثبه، لكن ثقافة عصره وتقالیده الفنیة كانت أقوى منه بكثیر، فسار على الدرب وقنع بالشعر صنعة عقلیة طریقها النظم.
وأتساءل: أیستحق دیوانه أن یحقق وینشر؟
أظن أنه یمكننا أن نجیب بـ(لا) فلیس هناك ما یسوغ نشر مثل ذاك الشعر وقد لا یستحق ثمن الورق الذی سیطبع علیه..
ویمكننا أن نجیب بـ(نعم) على تردد، لا لأن الشعر یستحق ذلك، وإنما لبعض الفوائد التی یمكن أن یستمد شیئاً منها بعض الباحثین فی أمور ذلك العصر من الوجهة الاجتماعیة والسیاسیة والاقتصادیة والأدبیة.
عمر نبهان ت 1898م:
هو الشیخ عمر بن عبد القادر نبهان، لم أستطع تحدید ولادته، ولكنه بالتأكید ولد فی مطلع القرن التاسع عشر، ولم أستطع الحصول على تفصیلات تتعلق بنشأته وأطوار حیاته، ولكن من الثابت فی حدود ما سمعته أن نشأته كانت دینیة خالصة، یخالطها زهد وتقشف ورغبة عن متع الحیاة، كان یعمل حتى الظهر فقط، وما بعده خصصه للعبادة وطلب العلم مرافقاً أولاده الأربعة إلى حلقات العلم فی المسجد: عبد القادر وحامد ومحمد وأحمد، ویبدو أنه كانت له مبادرة إلى عمارة المساجد أو ترمیمها، فهناك مسجد لا یزال یحمل اسمه فی "باب الدریب" كما تدل لائحة أسماء المساجد فی مدیریة الأوقاف بحمص، وهناك مسجد آخر مشهور باسم مسجد الشیخ عمر فی الحمیدیة، وحدثنی بعضهم أنه المقصود به.
عثرت على دیوانه الصغیر مصادفة، وهو مكتوب بخطه، وقد قصر شعره على مدح الرسول الأعظم، وقدم لدیوانه بمقدمة حدد فیها موضوع شعره فقال: "فهذا ما یسر الله تعالى من مدح سید المرسلین وحبیب رب العالمین محمد " وقد كان شعره منسجماً مع مقدمته، فلا نعثر فی دیوانه على بیت واحد تقرب به وتزلف إلى أحد، وله قصیدتان فی مدح شیخه أحمد الاروادی ولیستا فی حقیقة أمرهما إلا امتداداً لمدیحه النبوی وسنقدم بعض نماذج من شعره قبل تقدیم تعلیقنا الأخیر، قال یمدح الرسول: (من الكامل)
قسماً بمكة والحطیم وما حوى *** قلبی سوى مدح ابن رامة ما حوى
وبطیبةٍ والبانِ ثم بحاجرٍ *** وبمرقدٍ جسمُ الحبیب به ثوى
كم لیلة قد بتِّها متفكراً *** وبمهجتی نار یؤججها النوى
شوقاً إلى تلك الأماكن لا إلى *** (حمص) وإن نسبوا لها طیب الهوى
یا خیر مبعوث أتى بشریعة *** غراء فیها من تمسَّك ما غوى
حاشا محبك أن یبوء بخیبةٍ *** ولكل شخصٍ فی المحبة ما نوى
یا أیها الشادی- فدیتك- لی أعد *** ذكر الحجاز ولا تعرّض بالنوى
وأعد علیّ ثنا أجلّ الأنبیا *** طه الذی ما كان ینطق عن هوى
إن هذا الشاعر كما نرى ینطلق انطلاقاً عفویاً فی شعره لا تغلَّه المحسَّنات، ولا تكبله القیود، ولكن ما یسیء إلى شعره هو تلك الركاكة الأسلوبیة التی نلمحها بین حین وآخر، والركاكة لا تعنی الغلط ولا تعنی العامیة، وإنما تتمثل فی العجز عند التصرف باللغة، وتنشأ من عدم تمكن الأدیب من اللغة التی یكتب بها لافتقاره إلى معرفة أصولها وإدراك أسرارها، ولقلة بصره بالفروق الدقیقة بین دلائل المفردات ومعانی التراكیب ومناسبات الجمل وروابطها(12)، وأول دلائل الركاكة شعورنا بثقل الشعر الذی نقرؤه وإحساسنا بأن الشاعر یرقِّع شعره هنا ویرفوه هناك، فمن عبارة زائدة، ومن قافیة قلقة، ومن ضرورة قبیحة. والحق أن الركاكة كانت آفة الكتابة والشعر فی عصور الانحدار ولیست مقصورة على القرن التاسع عشر، ولكن ربما بلغت أوجها فی تلك القرون المتأخرة.
ونعود الآن إلى شاعرنا الشیخ عمر، كنا ذكرنا أن له قصیدتین فی مدح شیخه أحمد الاروادی، ویبدو من قراءة النصین أنهما قیلا بمناسبة وصول الاروادی إلى حمص، وهو شیخ النقشبندیة، وكان وصوله یوماً مشهوداً بدلیل ما ذكره الوفائی: "فصادف یوماً بأن الشیخ أحمد الاروادی كان مشرّفاً لحمص وحاضراً عن طریق طرابلس من بلده جزیرة ارواد، فخرجت العالم لملاقاته...".
وهؤلاء المشایخ أعنی المتصوفة كانوا آنئذ یتمتعون بسلطة أدبیة واسعة، وكانوا موئلاً یحتمی بهم الناس من ظلم الحكام وعسف الأشقیاء، كما أشارت إلى ذلك حوادث كثیرة ذكرها المؤرخ الوفائی. وسنستمع الآن إلى شیء مما قاله الشاعر فی استقبال شیخه: (من الكامل)
خذ من وجوه العارفین إشارة *** وبشارة تنجی من الهلكات
واسأل بهم مولاك ما ترجوه من *** كشف الهموم وسائر الخیرات
فهم الوسیلة فی الدُّنا لمن اهتدى *** وبهم نروم زیادة الحسنات
لما أتى (حمصاً) بدا بدر الهنا *** فیها وأشرق طالع الشطحات
وأنالنا من فیضه ذخراً لنا *** نلقاه یوم العرض فی المیقات
یوماً یرى فیه السعید نجاته *** وعلیه راضٍ بارئ النسمات
فمدیحه لشیخه مرتبط بالمعانی الدینیة، ولیس بعیداً عن المدیح النبوی، لأنه كان یرى أن شیخه مسلسل النسب إلى الحضرة النبویة. ویمكن أن نلخص أحكامنا بأن هذا الشاعر یتسم بالبساطة والعفویة والانطلاق مع مواجده، متحرراً بقدر ما تتیحه له ظروفه من قیود المحسنات والزخارف، ولولا الركاكة التی وقعت فی شعره لكان حكمنا على شعره أقل قسوة من أحكامنا العامة التی قدمناها بین یدی هذه السطور.
ولیسمح لنا القارئ أن ننتقل به الآن إلى شعر الطرافة، شعر المآكل، إلى مائدة مصطفى زین الدین الحافلة بأطایب الطعام.
مصطفى زین الدین (ت 1900م)(11):
من شعراء حمص فی القرن التاسع عشر من یدخل شعرهم فی باب الطرافة وحدها، فالشعر عندهم لیس تعبیراً عن مواجد ولا صبوات، وإنما الهدف منه الإطراف وإمتاع الأسماع بما تهواه وتضحك له الأفواه. ومن هذا النمط وعلى هذه الطریقة كان مصطفى زین الدین.
ولد هذا الشاعر فی حمص عام 1245هـ- 1826م ودرس على علمائها، واطلع على معالم الثقافة العامة المعروفة فی عصره على ید شیوخ مدینته، وحفظ الشعر وتعلَّق بالموسیقا، وكان حسن الصوت، لذلك كله اهتم به الشیخ أبو النصر ابن الشیخ عمر الیافی صاحب المنظومات والقدود وصحبه معه إلى الآستانة. وصار زین الدین منشد الحضرة عند الشیخ الیافی، ثم سافر إلى المدینة المنورة، ثم طاف البلاد المصریة. ولما عاد الشیخ زین الدین إلى حمص وجد شهرة الشاعر الحموی المعروف بالهلالی(14) قد طارت فی الآفاق فدفعته شهوة الشهرة إلى منافسته، فشمر عن ساعد الهمة لمعارضته ومبارزته.
وكان زین الدین شدید الفطنة والزكانة فقلَّب نظره وأعمل رأیه فرأى أن اهتمام الناس بمآكلهم وإشباع بطونهم یفوق اهتمامهم بما یقدمه الهلالی من غزلیات ومن مدائح یقدمها لشخصیات مدینته.. لذلك جعل زین الدین شعره فی وصف المآكل والقدور، فكان یأخذ قصائد الهلالی ویعارضها مستبدلاً موضوعها بما یقدمه من وصف للمآكل، فكان الناس ینصرفون عن الهلالی وشعره ویقبلون على قراءة معارضات زین الدین، وبعضهم كان یحفظها ویرویها، فكان ذلك یشعل الغیظ ویثیر الحنق فی صدر الهلالی.
وقد كتب لأشعار زین الدین البقاء بسبب اهتمام الناس بها، وقام أحد أصدقائه وهو الأدیب محمد الخالد جلبی(15) بجمع أشعاره فی دیوان سماه "تذكرة الغافل عن استحضار المآكل الموسوم بالمعارضات الزینیة على المنظومات الهلالیة"(16).
ولزین الدین أشعار غیر شعره فی وصف المآكل، وهی على نمط شعر عصره من حیث الاحتفال بالبدیع والتطریز وما شابه ذلك، وسنقف الآن مع بعض نماذج من شعره مما قاله فی المآكل، معارضاً قصائد الهلالی: (من الخفیف)
قذف الدهن من فواه القدور *** واستوى الطبخ واستقامت أموری
ودعاة الطعام نادوا هلموا *** أیها الجائعون خمص الخصور
وأجیبوا فیها المدارج صفَّت *** فی ضواحی المیماس بین الزهور
بین قوم على اللحوم عكوف *** قد تبدت خرفانهم كالبدور
یا صدیراً حوى الكنافة بصما *** من یفی حق سعیك المشكور
وتسیر القصیدة على هذا النمط، تذكر السمن ونوعه وریحه، ثم تذكر "القطایف" و"القراص" والرز والحلیب واللبن وغیرها.
ولعل سبب اتجاه زین الدین ونجاحه فی هذا المضمار أنه كان شدید الولع بالطعام وأطایبه، وقد ذكر مترجمه الحلبی قصصاً تكاد لا تصدق عن نهمه وشدة حبه للطعام وإكثاره منه، حتى لقد كان یأكل وحده قدر ما یأكله عدد من الرجال مجتمعین، وسمعت أیضاً بعض الأخبار التی تؤكد ما ذكره الحلبی. وله قصص طریفة، فقد سافر إلى حماه ورفع علیه الهلالی دعوى فی المحكمة وحضر المحاكمة أعیان البلد ووجوهها لیشهدوا تلك المحكمة الأدبیة الطریفة، وقد سجل ما دار فیها من مطارحات ومحاورات، وكان الناس یهتمون بشعره وحسب علمی فقد طبع دیوانه ثلاث طبعات على الأقل.
ومن شعره فی غیر المآكل ما رواه المرحوم أدهم الجندی فی كتابه أعلام الأدب والفن: (من الطویل)
رمانی بسهم من لحاظٍ فواتكٍ *** غزال له دانت أسود المعارك
فما البدر یحكیه ولا الغصن إن بدا *** أو اختال من ثوب البها فی مسالك
یلذ لی التعذیب فی حب من غدا *** وأصبح من دون البریة مالكی
ونختتم حدیثنا عن الشاعر بوقوفنا معه وهو یتحدث عن الكبة: (من الرمل)
هاتها كبة هبرٍ بُسطت *** بالصوانی بعد ضرب وامتهان
یا لها حمراء بالسمن انقلا *** وجهها بالفرن آناً بعد آن
منسف الرز به جیء بعدها *** ذو محیا منه قد ضاء المكان
ولا یخفى ما فی نظم زین الدین من ركاكة أسلوبیة تشفع لها طرافة الموضوع وضیق حیزه.
توفی الشیخ زین الدین إثر نزلة صدریة فی حمص عام 1319هـ = 1900م وقد أعقب من الذكور المرحوم نجیب زین الدین الذی ما زال یضرب المثل حتى الآن فی حمص بنداوة صوته وجمال أدائه وروعة غنائه.
الشیخ عبد الحمید الزهراوی (ت 1916):
كان من المفروض أن یكون مسك الختام أن نتحدث عن السید عبد الحمید الزهراوی لكننا تحدثنا عنه لدى نشرنا شعره فی مجلة التراث العربی مما أغنانا عن التكرار ههنا. ونأمل أن یتاح لنا أن ننشر مقالة أخرى حول شخصیات من العصر نفسه.
وقد رأینا أن نلحق بهذا المقال قصیدة الشیخ أمین الجندی التی مدح بها إبراهیم باشا وهی غیر منشورة فی دیوانه كما أشرنا، وقد ساعدنی فی قراءتها وقدم قراءات صحیحة فیها أخی الأستاذ خالد الزهراوی، ومع ذلك فقد بقیت فیها هنات لم نستطع استدراكها. ویجب أن نشیر إلى أن نشرها إنما هو لقیمتها القومیة آنذاك لا لقیمتها الأدبیة، وقد عثرت علیها مكتوبة على كراس بالحبر الصینی على ورق قدیم متآكل، لذلك رأیت فی نشرها حفظاً لها من التلف والضیاع، ویجب أن أشیر أیضاً أن بعض استعمالات الشیخ فی قصیدته لبعض الألفاظ كانت عامیة. أما الأحداث التاریخیة التی أشارت إلیها القصیدة فیمكن مراجعتها ومعرفة الشخصیات التی ذكرت فیها فی كتاب مختصر تاریخ سوریة للمطران یوسف الدبس 2: 287 وكتاب المناقب الإبراهیمیة والمآثر الخدیویة ص 48 وما بعدها وسائر الكتب التی فصلت القول فی تاریخ محمد علی وابنه إبراهیم باشا.
الحواشی:
(1)-المرحوم الأستاذ رفیق فاخوری من شعراء قطرنا البارزین، عمل طوال حیاته بالتعلیم. ولد 1909 وتوفی سنة 1985 كتب عنه الأستاذ أحمد الجندی فی كتابه شعراء سوریة.
(2)-من مقالة للمرحوم الفاخوری نشرت فی مجلة المعلم العربی، العدد: 3، آذار 1970.
(3)-بطرس بن إبراهیم كرامة 1774- 1851م. انظر أعلام الأدب والفن لأدهم الجندی 1: 36.
(4)-إبراهیم الحورانی 1844-1916 انظر أعلام الأدب والفن 1: 46.
(5)-دار الكتب الظاهریة بدمشق برقم 6869.
(6)-الشیخ خالد الأتاسی: 1834-1908. انظر أعلام الأدب والفن: 38.
(7)-طبع فی عدة مجلدات فی حمص بإشراف ابنه الشیخ محمد طاهر الأتاسی. بدأ بطبعه عام 1930 وطبع آخر جزء منه وهو السادس عام 1937، والمقصود بالمجلة أنها كتاب یحتوی على القوانین الشرعیة والأحكام العدلیة المطابقة للكتب الفقهیة. حررتها لجنة من العلماء فی المشیخة الإسلامیة إبان العصر العثمانی وبین یدی الطبعة الثانیة منها طبعت فی مطبعة الجوائب عام 1298هـ.
(8)-شعراء سوریة: 10 (طبع دار الكتاب الجدید- بیروت 1965).
(9)-انظر حلیة البشر فی تاریخ القرن الثالث عشر 1: 329.
(10)-هذه الأبیات من قصیدة لم تنشر فی دیوانه المطبوع، ولدی نسخة منها مخطوطة.
(11)-عبد الهادی الوفائی 1843-1909. وتاریخه مخطوط وهو بحوزتنا وننوی نشره بالاشتراك مع الأستاذ ریاض البدری.
(12)-د.عبد العزیز الأهوانی: ابن سناء الملك: 37 (طبع مكتبة الانجلو بمصر 1962).
(13)-انظر أعلام الأدب والفن 1: 39 وحلیة البشر فی تاریخ القرن الثالث عشر 3: 1521.
(14)-انظر أعلام الأدب والفن 1: 183.
(15)-محمد خالد الجلبی 1867-1926. انظر أعلام الأدب والفن 1: 57.
(16)-طبع هذا الدیوان عدة طبعات.
الحدیث عن أدب القرن التاسع عشر فی حمص خاصة وبلاد الشام عامة حدیث ذو خصوصیة، فلیس موضوعه ذاك الموضوع الممتع المشوق، ولا أفقه ذاك الأفق الرحیب المترامی الآفاق الذی یجذب إلیه المتشوق الظامئ، ولیست فیه تلك الومضات الذكیة الرائعة التی تعجب بها العقول، ولا تلك العواطف الدافئة التی تستكین إلیها النفوس.
هذه الأحكام السلبیة التی بدأت بها كلامی قد تكون صادقة على العموم، ولكن أیضاً قد لا تكون شاملة على الرغم من صدقها، فالباحث لا یمكن أن یفقد فی خضم ذلك الأدب بصیص نور هنا وقبساً من النار هناك، وأن من الصخر لما یتفجر منه الأنهار. وإذا كنا لا ننتظر أنهاراً ولا سواقی تتفجر من شعر شعراء ذلك القرن، ولا نتوقع بزوغ شموس منهم فی سماوات الشعر وآفاقه... فإننا لا نعدم لدیهم بعض الدفء والإخلاص نلمسه ونحسه فی مقطوعات من شعرهم وخاصة فی شعر التوسلیات والمدائح النبویة والقصائد ذات المنحى الصوفی.
ونعود إلى مدینة حمص وإلى تاریخ الأدب فیها: یخبرنا الأستاذ المرحوم رفیق فاخوری(1) فی مقالة له أن النشاط الأدبی بدأ یدب فی حمص منذ عام 1930 أو قبله بقلیل، أما الزمن الذی سبق هذا التاریخ فقد وجد فیه أدب لا یسمو على مستوى الأدب العثمانی إلا بمقدار... فالعقم والكلفة یسودانه، وربما فضله أدب عصر الانحطاط من حیث الشكل وسلامة التعبیر(2).. ویمكن أن نضیف إلى قول الأستاذ الفاخوری قولنا: أن تفاهة الموضوعات هی غالباً ما یتسم به شعر تلك المرحلة وأدبها إلا ما نجا لسبب أو لآخر.
ومن الجدیر بالذكر ههنا أن شعر شعراء حمص فی تلك المرحلة من الصعب جمعه، فباستثناء دیوان الشیخ أمین الجندی ودیوان مصطفى زین الدین لا یوجد بین أیدینا أثر آخر مطبوع إلا ما قام بنشره میخائیل بطرس معماری من شعر بطرس كرامة(3) وإبراهیم الحورانی(4) ولم أقف علیهما، أما الآثار الأخرى فهناك دیوان تام حصلت على مصورة له من الظاهریة بدمشق وهو دیوان محمد درویش عجم(5)، وهناك دیوان عمر نبهان الموجود لدی مخطوطاً.. وأخبرنی الأستاذ عبد المعین الملوحی أن لدیه مخطوطاً یشتمل على شعر الشیخ زكریا الملوحی ولم أره.. أما سائر القصائد لسائر الشعراء فهی موزعة فی كنَّاشات لدى الأسر، وبعض الأسر ضنین بها حریص علیها.. ولكن ذلك الحرص لا یستمر فی الأجیال الجدیدة ولا ینتقل إلیها- وقد یكون الحق إلى جانبها- مما یؤدی إلى ضیاع كثیر من آثار شعراء المدینة فی ذلك العصر واندثار أخبارهم.
ومن الملاحظ التی یجب تقدیمها أن أولئك الشعراء كان جمهورهم من فئة العلماء، علماء الدین، الذین لهم مشاركة فی عدد من فنون العلم كالفقه والأصول والمنطق والقراءات... وكان الشعر لدیهم مظهراً من مظاهر البراعة والتمیز من الآخرین.. فالشیخ العلامة خالد الأتاسی(6) معروف فی تاریخ الفقه والقانون بشرحه العظیم للمجلة(7)، ولكنه كان یقول الشعر، والشهید عبد الحمید الزهراوی معروف بعمق ثقافته الحكمیة والفلسفیة والفقهیة والسیاسیة وكان یقول الشعر وقد یرتجله، وعلمت من الشیوخ أن له دیواناً أتلف برمیه فی البئر لدى مداهمة الأتراك لبیته.. وقل مثل ذلك فی سائر الشعراء فی تلك المرحلة، فقد كان معظمهم من حملة العلم ونقلته وملقنیه إلى الأجیال التالیة، ولم یكونوا من الشعراء أصحاب الرؤیة النفاذة الخلاقة ولا من أصحاب الریادة والإبداع.. وأرى أن مثل هذا الحكم لا ینطبق على حمص وحدها وإنما یمكن تعمیمه على بلاد الشام، فقد كان الشعر الحی الخلاّق مفقوداً إلا من بعض الومضات، وكانت سوریة كما یقول الأستاذ أحمد الجندی(8): عالة فی الثقافة الأدبیة والإنتاج الفنی على مصر، ومرتبطة بها ارتباطاً أدبیاً وثیقاً، ولم یكن لدینا شاعر یحسب حسابه، وشعراؤنا آنذاك لم یتأثروا بأحد ولم یؤثروا فی أحد، بل كانوا ینضحون من ذاكرتهم ما وعت من المحفوظات ینظمونها مجدداً.. أو فی قالب آخر دون أن یتكلفوا إیراد معنى نفیس أو خیال طریف... لأن إلهامهم الشعری كان مقصوص الجناح مهیضاً لا یستطیع الارتفاع والسمو إلى الأجواء العالیة، فكلهم قد تعلموا النظم، ولكنهم لم یلهموا الشعر، لذلك یمكننا أن نعد عشرین واحداً منهم ممن یجید النظم، ومع ذلك قد لا نحظى بقصیدة واحدة لهم جمیعاً تستحق تسمیتها بالشعر. ولكن إذا كانت هذه الأحكام صحیحة أو على قدر محدود من الصحة فما فائدة تتبع أخبار هؤلاء الشعراء وما الغایة من الاهتمام بشعرهم أو الكاتبة عنهم؟!
والجواب: إن ذلك الجیل یمثل حلقة من حلقات تاریخنا الأدبی قد تعجبنا أو لا تعجبنا ولكنها كانت حقیقة واقعة فهی تستحق التسجیل والحفظ والبحث والدرس ولها ما لها وعلیها ما علیها، وهی على كل حال كانت مرآة لعصرها، وإذا كان ذلك العصر یتصف بالخمود والخمول فمن أین التألق والصفاء؟
ویجب أن نذكر أن شعراءنا فی تلك المرحلة كانوا علماء شعراء فی عصر یعز فیه وجود القارئ الكاتب ربما فی حی بأكمله أو فی أسرة بقضها وقضیضها.. فآثارهم إذن هی من أهم ما تبقى لنا من آثار عقلیة لجیل كامل. زد على ذلك أن كثیراً من الأحداث المحلیة كإقامة بناء ما أو مجیء والٍ أو رحیل باشا أو حدوث شغب... كل ذلك كان یسجل فی الشعر.. فشعرهم بغض النظر عن قیمته الأدبیة یتضمن فوائد تاریخیة واجتماعیة وأثریة. هذا ولعل ولوجنا حرم أولئك الشعراء ومخالطتنا لشعرهم سیعدل من أحكامنا العامة القاسیة تجاه بعضهم على الأقل، وسأختار بعض شعراء ذلك العصر وأتحدث بإیجاز عن كل واحد منهم، وسأبدأ بأعرفهم وأكثرهم شهرة وشیوع ذكر، أعنی بالشیخ أمین الجندی.
الشیخ أمین الجندی:
ولد فی حمص عام 1766م وبها تلقى علومه الأولى على الشیخ محمد الطیبی والشیخ یوسف الشمسی، وتابع تحصیله فی دمشق على ید عدد من علمائها كالشیخ أحمد العطار وعبد الرحمن الكزبری وغیرهم، وله فیهم قصائد مدیح رنانة. وعرف الشیخ بتعلقه بآل الكیلانی ومدیحه لهم. ولما جاء إبراهیم باشا سنة 1247هـ قرّب الشیخ أمیناً إلیه وجعله ندیمه، وكان الشیخ ینظم القصائد مصوراً انتصارات إبراهیم باشا وهزائم الأتراك:(10)
هذا ولما فاض جور الترك فی *** ظلم العباد وصار أمراً مشكلا
وتظاهرت أعمالهم بمقاصد *** ومظالمٍ وحوادثٍ لن تقبلا
سلبوا البلاد من العباد فلا ترى *** فی حكمهم ذا نعمة متمولا
والملك ملك الله یؤتیه الذی *** قد شاء لا هو بالوراثة والولا
من یخبر الأتراك أن جیوشهم *** هُزمت وأن "حسینهم" ولَّى إلى
وقد لا تكون لهذا الشعر أهمیة فنیة، لكن الخطورة فیه آنذاك والأهمیة الكبرى أنه أنكر حق الأتراك فی الحكم وجعلهم من المغتصبین له ومن المحرّفین لكتاب الله، وقرر أن الحكم إنما هو للعرب، لذلك شن حملة شعواء فی هذه القصیدة على أنصار الأتراك من العلماء السائرین فی ركابهم، والذین یزینون أعمالهم على أنها هی الحق ویشاركونهم فی ارتكاب المظالم:
ومشایخ الإسلام أصبح جهلهم *** علَماً فلم تر قط منهم أجهلا
وقضاتهم للسحت قد أكلوا فهل *** أبصرت حیاً من مضرّتهم خلا
زعموا أولی الأمر الولاة وغرّهم *** فی الآیة الاصغا لمن قد أوّلا
نعم الخلافة فی قریشٍ أصلها *** وبها لقد جاء الحدیث مسلسلا
ولا شك أن هذا الصوت نادر آنذاك، له قیمته القومیة وإن كان فجاً من الناحیة الفنیة. وقد سافر الشیخ أمین الجندی إلى القاهرة صحبة إبراهیم باشا الذی قدمه إلى والده محمد علی باشا بقوله: أتیت لك بأعز هدیة من البلاد الشامیة. وأنشد الشیخ الجندی بین یدی محمد علی قصیدة امتدحه بها، ابتدأها بغزل جمع فیه ما استطاع من السابقین:
بدت شمساً وماست سمهریا *** وغنت بلبلا ورنت ظُبیا
وسلَّت من لواحظها جهاراً *** على العشاق عضباً مشرفیا
مهاةٌ ما رآها البدر إلا *** تمنى أن تكون له محیا
سرتْ والنور یغشاها سُحیراً *** وعرف المسك یصحبها ملیا
وسرتُ وراءها وأنا سعید *** بلثمی نعلها الرطب الذكیا
وبعد أن لثم نعلها وصل الشیخ إلى ما یسمیه علماء البدیع بحسن التخلص فانتقل من الغزل إلى المدیح:
إلى أن أجلستنی فوق عرشٍ *** لدى قصر حوى روضاً بهیا
ذكرت لها الأفاضل فاستهلتّ *** بمن لأبی الحسین غدا سمیا
إماماً عارفاً براً تقیا *** خفاجیاً كریماً أریحیا
ویستمر بإیراد معانی المدیح مستعرضاً ما وعته ذاكرته.. ولا أرید أن أطیل فی الحدیث عن الشیخ الجندی لأن حیاة الرجل وشعره ومواقفه یمكن أن تقصر حدیثنا علیه وما إلى هذا قصدنا، لذلك سأختصر حدیثی بإشارات سریعة إلى ما أراه هاماً فی شعره.
لا شك فی أن الشیخ كان مشغوفاً بالجمال، ذا قدرة رائعة على النظم، ولكن سلاسل التقلید الشعریة كانت أقوى منه ومن غیره فرسف فی أغلالها، فامتلأ دیوانه بالتخمیس والتشطیر واستخدام مصطلحات العلوم التی كثیراً ما أساءت إلى الشعر وسلبته تدفقه وحیویته.. ومع ذلك ففی دیوانه ومضات ولموسیقاه نفثات ومن منا لا یطرب لقول الشیخ ترتله حناجر المنشدین:
یا غزالی كیف عنی أبعدوكْ *** شتتوا شملی وهجری عودوكْ
***
قلت: رفقاً یا حبیبی قال: لا *** قلت: راعِ الودَّ یا ریم الفلا
قال: من یهوى فلا یشكو البلى *** قلت: حسبی مدمعی لی قال: لا
***
ذاب قلبی فی هوى بیض اللَّمى *** واستهلّ الدمع من عینی دما
ثم ودعت حیاتی عندما *** فأرقونی. یا ترى كیف السلوكْ
ومن لا یترنح مع ضربات الإیقاع على قوله:
هیَّمتنی تیَّمتنی *** عن سواها أشغلتنی
عاتبی ماذا علیها *** باللقا لو أتحفتنی
ولا یزال شعره یغنَّى حتى أیامنا، وسمعت أن أصحاب هذا الفن فی حلب یعتنون بأدوار الشیخ الجندی عنایة فائقة.
وأترك الشیخ الجندی وأنتقل إلى الحدیث عن شعراء لم تطبع دواوینهم، وقد عاش أكثرهم وتوفی فی القرن التاسع عشر، وأحدهم كان مخضرماً بین التاسع عشر والعشرین، ولكنه فی أشعاره لم یكن سوى امتداد لما كان علیه الشعر قبله على الرغم من معاصرته لشوقی وحافظ ولغیرهم من مبدعی الشعر. وسأذكرهم حسب تسلسل وفیاتهم الأقدم فالأقدم وسیكون المقدم ذكره الشیخ زكریا الملوحی.
زكریا الملوحی:
هو زكریا بن إبراهیم بن علی الملوحی، ولد وتوفی فی حمص، ورجح المرحوم أدهم الجندی أن وفاته ربما كانت بین عامی 1843-1848م. وذكر الجندی أنه لم یعثر لهذا الشاعر إلا على أبیات قلیلة رواها فی كتابه.
وقد ساقت إلی المصادفة كنَّاشاً اشتمل فیما اشتمل علیه، على عدة قصائد للشیخ زكریا مما جعل.. فی الإمكان التعریج على شعر هذا الشاعر فی حدود ما عثرنا علیه.
القصائد التی حفظها الكنَّاش معظمها ذو منحى صوفی، وهی على قلتها تدل على علو كعب الشاعر وعلى مقدرته على نظم القریض، كما تشیر إلى التأثیر العمیق الذی أحدثته ثقافته الدینیة والصوفیة فی شعره.
والحق أن الشیخ كان ینهج فی شعره منهجاً مطروقاً ویسیر فی طریق لاحبة عبَّدها من سبقه من شعراء التصوف. وأتى هو ینسج على منوالهم، ویشطِّر أشعارهم أو یخمّسها، ویستخدم أسالیبهم الرمزیة فی التعبیر عن حبه للذات الإلهیة وذلك بالغزل الحسی فی الظاهر، وإفهام هذا الغزل بالرموز التی تصرف المعانی عن ظواهرها وتشیر إلى المقصود منها، وتبعد عن الخاطر تلك المعانی الظاهرة الطافیة على السطح، ولنأخذ مثالاً على ذلك بعض أبیات له من قصیدة "مد المدید":
ذات حسن ذكرها سكَر *** وجها تعنو له الصورُ
مذ تبدّت فی محاسنها *** تنجلی حارت بها الفكر
إن هذا الكون مظهرها *** یقظة یا من له نظر
نسبةٌ هذا الجمال لها *** ظاهراً، فالمبتدا الخبر
فالبدایة كما نرى غزلیة وعادیة جداً، ثم أتت التلمیحات والعبارات التی تصرفنا عن الدلالات الحسیة إلى فهم ما یرنو إلیه الشاعر وهو التغنی بجمال الذات الإلهیة المتجلیة ظاهراً فی جمال هذا الكون.
ویمیل الشیخ الملوحی فی معظم ما وجدناه من شعره إلى استخدام مصطلحات العلوم التی یعرفها، ویفسح المجال لولعه الشدید بالمحسنات البدیعیة، ویتفنن فی إیرادها، ولنقف لدن هذه الأبیات: (من الطویل)
أریح الصبا مُرّی على حیّ من أهوى *** وقولی له: مضناك أودت به الأهوا
وحییه عنی یا ریاح تحیة *** معنعنة عنها حدیث الهوى یروى
وبثِّیه أشجانی ووجدی ولوعتی *** وكیف عِنانی عنه فی الحب لا یُلوى
أبیت اللیالی ساهر الطرف ساجیاً *** وروض هجوعی كله یابس أحوى
وأصبح مسلوب الجنان مولِّها *** كمجنون لیلى غارقاً لا أرى الصحوا
وطُور اصطباری دكه عاصف الجوى *** غراماً بمن أضحى فؤادی له مأوى
وأثر الصنعة أبرز من أن یخفى، وكأن الشاعر یصوغ شعره صیاغة عقلیة، فهو یمد یده إلى معارفه المتنوعة یتناول منها ما یرید، لیبنی به القصیدة، فتأتی القصیدة كأنها بناء استمدت حجارته من مقالع مختلفة، لكن الغایة توحد هذا التعدد، وما الغایة ههنا سوى أن الشاعر یعبر عن مواجده بهذه الطریقة التی ارتضاها لنفسه، وارتضاها عصره لشعرائه. وقد لاحظنا استخدامه لمصطلحات بعض العلوم "معنعنة، حدیث، یروى" كما لاحظنا كیف استمد من القرآن سورة الطور الذی دُك لمَّا تجلى الرب لموسى، وأخذ من الأدب قصة مجنون لیلى إلى أن وصل فی النهایة إلى تقریر حبه لأحبائه حتى الموت. وقبل أن ندع الشیخ زكریا أحب أن نستمع إلى مقطوعة أخرى من شعره الصوفی: (من الطویل)
حبیب له بالحسن قامت شهوده *** وأُدهش فی مجلى المال شهوده
إذا شامه المشتاق أوما بوجهه *** ركوعاً، وإن حیَّاه طال سجوده
بأوج البها قد أشرقت شمس حسنه *** ولاحت بأفلاك المعانی سعوده
فما جنَّة الفردوس إلا لقاؤه *** وما النار والأهوال إلا صدوده
فهل أنت یا أعمى البصیرة مبصر *** من الحسن ما عینی وقلبی یروده
وفی ختام حدیثنا عن الشاعر نشیر إلى أن الرجل كان معروفاً بلقب الحافظ لحفظه القرآن، وكان عالماً بالموسیقا بارعاً فی الخطابة، حاضر البدیهة، له موشحات بدیعة، وقد كف بصره فی أواخر حیاته، ولا یزال بعض الناس فی حمص حتى أیامنا هذه یحفظون له أبیاتاً فی تاریخ وفاة أو ولادة أو بناء. ویبدو أنه كانت له مكانته فی مدینته وكانت له مشاركة ما فی الحیاة الفنیة آنذاك.
رسلان زین العابدین: (ت 1879م)
انتقل الآن إلى الحدیث عن شاعر آخر، عرف فی حیاته بالأدیب، واشتهرت أسرته بسبب لقبه بآل الأدیب.
على یمین الخارج من سوق الحشیش باتجاه الغرب، وقد خلف وراءه مسجد القاسمی، وتحت أقواس عقدٍ متداعیة وإلى الأمام قلیلاً تقع "زاویة" مهجورة الآن، یتصدرها قبر الجد علی زین العابدین الذی أتى إلى حمص من ناحیة (أورفه) فی تركیا منذ حوالی مائتی عام، وأقام عقبه من بعده فی حمص.
خلَّف الشیخ علی ولداً واحداً هو الشیخ رسلان الذی عُرف بأدبه وشعره ولقِّب بالأدیب، وقد ذكره الوفائی(11) فی تاریخه فقال فیه: "كان رجلاً عالماً أدیباً فاضلاً عاقلاً متكلماً" وكان شأن آثاره شأن غیرها من آثار معاصریه فقد آلت إلى الضیاع ولم یقم أحد بحفظها حتى ذووه فإنهم لم یحفظوا شیئاً منها، وبعد البحث والسؤال عثرت له على قصیدة واحدة لدى الأستاذ عبد المهیمن زین العابدین، وهی مطبوعة فی مصر وعدد أبیاتها (89) بیتاً، وهی لا تختلف فی شیء عن قصائد المدیح النبوی المعروفة فی تلك الأیام. فالشاعر یحشد كل صفات المدیح وأخبار المعجزات التی تنسب إلى رسول الله ویقارنها بمعجزات غیره من الرسل ثم یفضله علیهم، ثم یخلص إلى الاعتذار عن تقصیره فی مدیح الرسول، وتتسم القصیدة عموماً بالركاكة الأسلوبیة آفة العصر آنذاك قال:
یقولون لی: تمم لنا وصف أحمدٍ *** فإنك ذو علم ولست بجاهل
فقلت لهم عدّوا النجوم جمیعها *** ولا تهملوا عدّ النجوم الأوافل
فإن تستطیعوا عدّها بتمامها *** فقولوا لمثلی: صف لأكمل كامل
وینتقل الشاعر بعد ذلك إلى الاستغاثة بالرسول متوسلاً بنسبه الشریف طالباً الرحمة ببركة النسب والقرابة:
وإنی لفرع من فروعك سیدی *** ولی نسبة للمرتضى بالتناسل
فكم من مرة یا خیر من وطئ الثرى *** تداركنی من كید ضدّ مزایلی
ثم یتوسل بكبار الصحابة واحداً واحداً حتى یصل إلى التوسل بشیخ الطریقة القطب عبد القادر وبسائر المشایخ كالدسوقی والرفاعی والبدوی إلى أن یصل إلى حسن الختام:
وصلّ إلهی كل وقت وساعة *** على المصطفى نور البدور الكوامل
كذا الآل والأصحاب ما قال واقع *** بباب ندى المختار حطت رواحلی
وكان الشاعر بدأ قصیدته بقوله:
بباب ندى المختار حطت رواحلی *** فحاشا لطه أن یرد لسائلی
هو الحامد المحمود والحاشر الذی *** هو الواصل الموصول بل خیر واصل
ولا شك أن للشیخ شعراً كثیراً بدلیل شهرته بالأدیب، ولكن لیس بین أیدینا غیر هذه القصیدة، لذلك یمكننا أن نقول اعتماداً علیها: إنه كان شاعراً عادیاً لم یستطع أن یخرج عن ركاكة الأسلوب السائدة فی عصره، ولكنه على كل حال یبقى اسمه إبان عصره شاعراً- كائناً ما كانت نظرتنا إلى الشعر- بل كانت له شهرة بذلك ونال سمعة طیبة وحسن ذكر.
توفی الشیخ رسلان سنة 1879 ودفن بمقبرة "باب هود".
محمد عجم "ت 1894":
هو محمد بن عبد الرحمن عجم، ذكره الأستاذ عمر رضا كحالة فی معجم المؤلفین ولم یذكر له تاریخ ولادة ولا وفاة، إلا أن المؤرخ عبد الهادی الوفائی ذكر أن وفاته كانت عام 1312 = 1894م.
هذا الشاعر جمع دیوانه بنفسه، وذكر فی مقدمته أنه جمع شعره نتیجة لإلحاح أصدقائه، ویقول: أنه استنكف مراراً لأنه لیس من فرسان هذا المیدان، لكن من قبیل التقلید- وهذه عباراته-. ویستفاد من قراءة الدیوان أن صاحبه كان یعمل موظفاً "عدّاد أغنام" وكان یحرص على مدیح الرسمیین آنذاك.
بدأ دیوانه بقصیدة بمدیح الرسول تبركاً، ثم انتقل إلى مدیح "البكوات" و"الأفندیة" فمن نماذج مدیحه قوله یمدح محرّم "بیك" بن إسماعیل "بیك" قائمقام حمص سنة 1292هـ: (من الكامل)
إن طاب عیشك بالمسرة أو صفا *** قبل الفوات، فوات دهراً أنصفا
خذ فرصة اللذات صاح ولا تكن *** ممن تمنَّع بل تمتَّع بالصفا
لیل العناء لقد تولى هارباً *** إذ سلّ برق الأنس سیفاً مرهفا
والسحب جاد على الرباء بطلِّه *** والروض فی زهَر الربیع تزخرفا
فبخٍ بخٍ طابت مواسم أنسنا *** والهمُّ عنا قد ترحَّل واختفى
هذا محرّم قد وفى لسمیِّه *** وبطالع الإسعاد جاد وأتحفا
هیَّا نهنیه بأسرع همةٍ *** فی خیر عامٍ بالمسرّة قد وفى
ثم یستطرد الشاعر فی ذكر صفات الممدوح، فمحرم بیك لیث الشرى ودری اللفظ ویوسفی الحسن إلى ما هنالك...
فإذا ما انتهینا من باب المدیح انتقل بنا الشاعر إلى التشطیر والتخمیس والمطرزات، ثم یلی ذلك الأدوار الغنائیة، فنستمع لدیه إلى مثل هذه الأنغام: (مجزوء الرمل)
یا نسیم الصبح بلِّغ *** جیرة الشِّعب الیمانی
حال صبّ مستهامٍ *** یرتجی نیل الأمانی
یلی ذلك باب للرثاء ولذكر العمران، وباب الألغاز وآخر للهجاء، وهجاؤه بذیء اللفظ عاهر الصور، یستخدم فیه ما هب ودب من ألفاظ بذیئة ولعل هذا ما دفع المؤرخ الوفائی إلى الإعجاب به فقال: وله هجو ظریف. إننا أمام شاعر أنصف نفسه وشعره منذ مقدمة دیوانه فهو یعترف بأنه یقول ما یقول من باب التقلید، والحقیقة أنه نظَّام، ولكن لیس من المستوى الرفیع ولا الوسط.. وقیمة دیوانه لا تنبع من قیمة شعره ولكن من كونه یقدم لنا نموذجاً تاماً من أدب ذلك العصر، ولأنه یقدّم لنا فوائد تاریخیة تتعلق بجزیئات تاریخ المدینة كأسماء القضاة والحكام وتاریخ بعض الأبنیة، ولیته اقتصر على ذلك، ولكنه ملأ دیوانه بقصائد ذات مناسبات تافهة كولادة طفل أو زواج فلان وموت فلانة من الناس العادیین الذین لیس لهم خبر یروى ولا أثر یحفظ ولا عمل یذكر. ولا ینجو شعره فی أحسن حالاته من ركاكة أسالیب العهد العثمانی، وقد لا یخطئ طرافة الفكرة ولكن لا یستقیم لدیه التعبیر عنها، لنسمعه مثلاً یقول: (من الكامل)
لو كان لی كالعاشقین عواذل *** لجعلت ذمّ العاذلین تغزُّلی
ولو أنهم حشدوا جیوش مكایدٍ *** لسعیت فی تشتیتهم وتوصلی
لكن محبوبی تعشَّق نفسه *** فی نفسه وكذاك أعظم مشكل
قد هام فی لاهوته ناسوته *** فُقد العذول فما یكون تحیِّلی
فإذا ما نظرنا إلى هذه العبارات "توصلی، وكذاك أعظم مشكل... الخ" أدركنا ما تجنیه ركاكة التعبیر على الفكرة مهما تكن طرافتها.
ومن أمثلة مطرزاته "والمطرزة مقطوعة من المنظوم إذا أخذت الحرف الأول من كل بیت من أبیاتها تركب لدیك الاسم المقصود" قوله مطرزاً باسم "عارف": (من الوافر)
علقت بأغیدٍ حلو التثنی *** وقلبی من لظى الهجران خائفْ
أبى قربی لدیه وصدّ عنی *** غزالٌ قد حوى أسنى اللطائف
رنا عجباً وهزّ قضیب بان *** كحیلُ الطرف مسدول السوالف
فقلت له رویدك فی المعنَّى *** فأنت بحالة العشاق عارف
ولا أحب أن أطیل أكثر من ذلك فی كلامی عن محمد عجم، وفی الحدیث عنه متسع ولكنی أحب أن أنقل إحساساً فحواه أن الرجل ربما كان یملك فطرة شاعر وتوثبه، لكن ثقافة عصره وتقالیده الفنیة كانت أقوى منه بكثیر، فسار على الدرب وقنع بالشعر صنعة عقلیة طریقها النظم.
وأتساءل: أیستحق دیوانه أن یحقق وینشر؟
أظن أنه یمكننا أن نجیب بـ(لا) فلیس هناك ما یسوغ نشر مثل ذاك الشعر وقد لا یستحق ثمن الورق الذی سیطبع علیه..
ویمكننا أن نجیب بـ(نعم) على تردد، لا لأن الشعر یستحق ذلك، وإنما لبعض الفوائد التی یمكن أن یستمد شیئاً منها بعض الباحثین فی أمور ذلك العصر من الوجهة الاجتماعیة والسیاسیة والاقتصادیة والأدبیة.
عمر نبهان ت 1898م:
هو الشیخ عمر بن عبد القادر نبهان، لم أستطع تحدید ولادته، ولكنه بالتأكید ولد فی مطلع القرن التاسع عشر، ولم أستطع الحصول على تفصیلات تتعلق بنشأته وأطوار حیاته، ولكن من الثابت فی حدود ما سمعته أن نشأته كانت دینیة خالصة، یخالطها زهد وتقشف ورغبة عن متع الحیاة، كان یعمل حتى الظهر فقط، وما بعده خصصه للعبادة وطلب العلم مرافقاً أولاده الأربعة إلى حلقات العلم فی المسجد: عبد القادر وحامد ومحمد وأحمد، ویبدو أنه كانت له مبادرة إلى عمارة المساجد أو ترمیمها، فهناك مسجد لا یزال یحمل اسمه فی "باب الدریب" كما تدل لائحة أسماء المساجد فی مدیریة الأوقاف بحمص، وهناك مسجد آخر مشهور باسم مسجد الشیخ عمر فی الحمیدیة، وحدثنی بعضهم أنه المقصود به.
عثرت على دیوانه الصغیر مصادفة، وهو مكتوب بخطه، وقد قصر شعره على مدح الرسول الأعظم، وقدم لدیوانه بمقدمة حدد فیها موضوع شعره فقال: "فهذا ما یسر الله تعالى من مدح سید المرسلین وحبیب رب العالمین محمد " وقد كان شعره منسجماً مع مقدمته، فلا نعثر فی دیوانه على بیت واحد تقرب به وتزلف إلى أحد، وله قصیدتان فی مدح شیخه أحمد الاروادی ولیستا فی حقیقة أمرهما إلا امتداداً لمدیحه النبوی وسنقدم بعض نماذج من شعره قبل تقدیم تعلیقنا الأخیر، قال یمدح الرسول: (من الكامل)
قسماً بمكة والحطیم وما حوى *** قلبی سوى مدح ابن رامة ما حوى
وبطیبةٍ والبانِ ثم بحاجرٍ *** وبمرقدٍ جسمُ الحبیب به ثوى
كم لیلة قد بتِّها متفكراً *** وبمهجتی نار یؤججها النوى
شوقاً إلى تلك الأماكن لا إلى *** (حمص) وإن نسبوا لها طیب الهوى
یا خیر مبعوث أتى بشریعة *** غراء فیها من تمسَّك ما غوى
حاشا محبك أن یبوء بخیبةٍ *** ولكل شخصٍ فی المحبة ما نوى
یا أیها الشادی- فدیتك- لی أعد *** ذكر الحجاز ولا تعرّض بالنوى
وأعد علیّ ثنا أجلّ الأنبیا *** طه الذی ما كان ینطق عن هوى
إن هذا الشاعر كما نرى ینطلق انطلاقاً عفویاً فی شعره لا تغلَّه المحسَّنات، ولا تكبله القیود، ولكن ما یسیء إلى شعره هو تلك الركاكة الأسلوبیة التی نلمحها بین حین وآخر، والركاكة لا تعنی الغلط ولا تعنی العامیة، وإنما تتمثل فی العجز عند التصرف باللغة، وتنشأ من عدم تمكن الأدیب من اللغة التی یكتب بها لافتقاره إلى معرفة أصولها وإدراك أسرارها، ولقلة بصره بالفروق الدقیقة بین دلائل المفردات ومعانی التراكیب ومناسبات الجمل وروابطها(12)، وأول دلائل الركاكة شعورنا بثقل الشعر الذی نقرؤه وإحساسنا بأن الشاعر یرقِّع شعره هنا ویرفوه هناك، فمن عبارة زائدة، ومن قافیة قلقة، ومن ضرورة قبیحة. والحق أن الركاكة كانت آفة الكتابة والشعر فی عصور الانحدار ولیست مقصورة على القرن التاسع عشر، ولكن ربما بلغت أوجها فی تلك القرون المتأخرة.
ونعود الآن إلى شاعرنا الشیخ عمر، كنا ذكرنا أن له قصیدتین فی مدح شیخه أحمد الاروادی، ویبدو من قراءة النصین أنهما قیلا بمناسبة وصول الاروادی إلى حمص، وهو شیخ النقشبندیة، وكان وصوله یوماً مشهوداً بدلیل ما ذكره الوفائی: "فصادف یوماً بأن الشیخ أحمد الاروادی كان مشرّفاً لحمص وحاضراً عن طریق طرابلس من بلده جزیرة ارواد، فخرجت العالم لملاقاته...".
وهؤلاء المشایخ أعنی المتصوفة كانوا آنئذ یتمتعون بسلطة أدبیة واسعة، وكانوا موئلاً یحتمی بهم الناس من ظلم الحكام وعسف الأشقیاء، كما أشارت إلى ذلك حوادث كثیرة ذكرها المؤرخ الوفائی. وسنستمع الآن إلى شیء مما قاله الشاعر فی استقبال شیخه: (من الكامل)
خذ من وجوه العارفین إشارة *** وبشارة تنجی من الهلكات
واسأل بهم مولاك ما ترجوه من *** كشف الهموم وسائر الخیرات
فهم الوسیلة فی الدُّنا لمن اهتدى *** وبهم نروم زیادة الحسنات
لما أتى (حمصاً) بدا بدر الهنا *** فیها وأشرق طالع الشطحات
وأنالنا من فیضه ذخراً لنا *** نلقاه یوم العرض فی المیقات
یوماً یرى فیه السعید نجاته *** وعلیه راضٍ بارئ النسمات
فمدیحه لشیخه مرتبط بالمعانی الدینیة، ولیس بعیداً عن المدیح النبوی، لأنه كان یرى أن شیخه مسلسل النسب إلى الحضرة النبویة. ویمكن أن نلخص أحكامنا بأن هذا الشاعر یتسم بالبساطة والعفویة والانطلاق مع مواجده، متحرراً بقدر ما تتیحه له ظروفه من قیود المحسنات والزخارف، ولولا الركاكة التی وقعت فی شعره لكان حكمنا على شعره أقل قسوة من أحكامنا العامة التی قدمناها بین یدی هذه السطور.
ولیسمح لنا القارئ أن ننتقل به الآن إلى شعر الطرافة، شعر المآكل، إلى مائدة مصطفى زین الدین الحافلة بأطایب الطعام.
مصطفى زین الدین (ت 1900م)(11):
من شعراء حمص فی القرن التاسع عشر من یدخل شعرهم فی باب الطرافة وحدها، فالشعر عندهم لیس تعبیراً عن مواجد ولا صبوات، وإنما الهدف منه الإطراف وإمتاع الأسماع بما تهواه وتضحك له الأفواه. ومن هذا النمط وعلى هذه الطریقة كان مصطفى زین الدین.
ولد هذا الشاعر فی حمص عام 1245هـ- 1826م ودرس على علمائها، واطلع على معالم الثقافة العامة المعروفة فی عصره على ید شیوخ مدینته، وحفظ الشعر وتعلَّق بالموسیقا، وكان حسن الصوت، لذلك كله اهتم به الشیخ أبو النصر ابن الشیخ عمر الیافی صاحب المنظومات والقدود وصحبه معه إلى الآستانة. وصار زین الدین منشد الحضرة عند الشیخ الیافی، ثم سافر إلى المدینة المنورة، ثم طاف البلاد المصریة. ولما عاد الشیخ زین الدین إلى حمص وجد شهرة الشاعر الحموی المعروف بالهلالی(14) قد طارت فی الآفاق فدفعته شهوة الشهرة إلى منافسته، فشمر عن ساعد الهمة لمعارضته ومبارزته.
وكان زین الدین شدید الفطنة والزكانة فقلَّب نظره وأعمل رأیه فرأى أن اهتمام الناس بمآكلهم وإشباع بطونهم یفوق اهتمامهم بما یقدمه الهلالی من غزلیات ومن مدائح یقدمها لشخصیات مدینته.. لذلك جعل زین الدین شعره فی وصف المآكل والقدور، فكان یأخذ قصائد الهلالی ویعارضها مستبدلاً موضوعها بما یقدمه من وصف للمآكل، فكان الناس ینصرفون عن الهلالی وشعره ویقبلون على قراءة معارضات زین الدین، وبعضهم كان یحفظها ویرویها، فكان ذلك یشعل الغیظ ویثیر الحنق فی صدر الهلالی.
وقد كتب لأشعار زین الدین البقاء بسبب اهتمام الناس بها، وقام أحد أصدقائه وهو الأدیب محمد الخالد جلبی(15) بجمع أشعاره فی دیوان سماه "تذكرة الغافل عن استحضار المآكل الموسوم بالمعارضات الزینیة على المنظومات الهلالیة"(16).
ولزین الدین أشعار غیر شعره فی وصف المآكل، وهی على نمط شعر عصره من حیث الاحتفال بالبدیع والتطریز وما شابه ذلك، وسنقف الآن مع بعض نماذج من شعره مما قاله فی المآكل، معارضاً قصائد الهلالی: (من الخفیف)
قذف الدهن من فواه القدور *** واستوى الطبخ واستقامت أموری
ودعاة الطعام نادوا هلموا *** أیها الجائعون خمص الخصور
وأجیبوا فیها المدارج صفَّت *** فی ضواحی المیماس بین الزهور
بین قوم على اللحوم عكوف *** قد تبدت خرفانهم كالبدور
یا صدیراً حوى الكنافة بصما *** من یفی حق سعیك المشكور
وتسیر القصیدة على هذا النمط، تذكر السمن ونوعه وریحه، ثم تذكر "القطایف" و"القراص" والرز والحلیب واللبن وغیرها.
ولعل سبب اتجاه زین الدین ونجاحه فی هذا المضمار أنه كان شدید الولع بالطعام وأطایبه، وقد ذكر مترجمه الحلبی قصصاً تكاد لا تصدق عن نهمه وشدة حبه للطعام وإكثاره منه، حتى لقد كان یأكل وحده قدر ما یأكله عدد من الرجال مجتمعین، وسمعت أیضاً بعض الأخبار التی تؤكد ما ذكره الحلبی. وله قصص طریفة، فقد سافر إلى حماه ورفع علیه الهلالی دعوى فی المحكمة وحضر المحاكمة أعیان البلد ووجوهها لیشهدوا تلك المحكمة الأدبیة الطریفة، وقد سجل ما دار فیها من مطارحات ومحاورات، وكان الناس یهتمون بشعره وحسب علمی فقد طبع دیوانه ثلاث طبعات على الأقل.
ومن شعره فی غیر المآكل ما رواه المرحوم أدهم الجندی فی كتابه أعلام الأدب والفن: (من الطویل)
رمانی بسهم من لحاظٍ فواتكٍ *** غزال له دانت أسود المعارك
فما البدر یحكیه ولا الغصن إن بدا *** أو اختال من ثوب البها فی مسالك
یلذ لی التعذیب فی حب من غدا *** وأصبح من دون البریة مالكی
ونختتم حدیثنا عن الشاعر بوقوفنا معه وهو یتحدث عن الكبة: (من الرمل)
هاتها كبة هبرٍ بُسطت *** بالصوانی بعد ضرب وامتهان
یا لها حمراء بالسمن انقلا *** وجهها بالفرن آناً بعد آن
منسف الرز به جیء بعدها *** ذو محیا منه قد ضاء المكان
ولا یخفى ما فی نظم زین الدین من ركاكة أسلوبیة تشفع لها طرافة الموضوع وضیق حیزه.
توفی الشیخ زین الدین إثر نزلة صدریة فی حمص عام 1319هـ = 1900م وقد أعقب من الذكور المرحوم نجیب زین الدین الذی ما زال یضرب المثل حتى الآن فی حمص بنداوة صوته وجمال أدائه وروعة غنائه.
الشیخ عبد الحمید الزهراوی (ت 1916):
كان من المفروض أن یكون مسك الختام أن نتحدث عن السید عبد الحمید الزهراوی لكننا تحدثنا عنه لدى نشرنا شعره فی مجلة التراث العربی مما أغنانا عن التكرار ههنا. ونأمل أن یتاح لنا أن ننشر مقالة أخرى حول شخصیات من العصر نفسه.
وقد رأینا أن نلحق بهذا المقال قصیدة الشیخ أمین الجندی التی مدح بها إبراهیم باشا وهی غیر منشورة فی دیوانه كما أشرنا، وقد ساعدنی فی قراءتها وقدم قراءات صحیحة فیها أخی الأستاذ خالد الزهراوی، ومع ذلك فقد بقیت فیها هنات لم نستطع استدراكها. ویجب أن نشیر إلى أن نشرها إنما هو لقیمتها القومیة آنذاك لا لقیمتها الأدبیة، وقد عثرت علیها مكتوبة على كراس بالحبر الصینی على ورق قدیم متآكل، لذلك رأیت فی نشرها حفظاً لها من التلف والضیاع، ویجب أن أشیر أیضاً أن بعض استعمالات الشیخ فی قصیدته لبعض الألفاظ كانت عامیة. أما الأحداث التاریخیة التی أشارت إلیها القصیدة فیمكن مراجعتها ومعرفة الشخصیات التی ذكرت فیها فی كتاب مختصر تاریخ سوریة للمطران یوسف الدبس 2: 287 وكتاب المناقب الإبراهیمیة والمآثر الخدیویة ص 48 وما بعدها وسائر الكتب التی فصلت القول فی تاریخ محمد علی وابنه إبراهیم باشا.
الحواشی:
(1)-المرحوم الأستاذ رفیق فاخوری من شعراء قطرنا البارزین، عمل طوال حیاته بالتعلیم. ولد 1909 وتوفی سنة 1985 كتب عنه الأستاذ أحمد الجندی فی كتابه شعراء سوریة.
(2)-من مقالة للمرحوم الفاخوری نشرت فی مجلة المعلم العربی، العدد: 3، آذار 1970.
(3)-بطرس بن إبراهیم كرامة 1774- 1851م. انظر أعلام الأدب والفن لأدهم الجندی 1: 36.
(4)-إبراهیم الحورانی 1844-1916 انظر أعلام الأدب والفن 1: 46.
(5)-دار الكتب الظاهریة بدمشق برقم 6869.
(6)-الشیخ خالد الأتاسی: 1834-1908. انظر أعلام الأدب والفن: 38.
(7)-طبع فی عدة مجلدات فی حمص بإشراف ابنه الشیخ محمد طاهر الأتاسی. بدأ بطبعه عام 1930 وطبع آخر جزء منه وهو السادس عام 1937، والمقصود بالمجلة أنها كتاب یحتوی على القوانین الشرعیة والأحكام العدلیة المطابقة للكتب الفقهیة. حررتها لجنة من العلماء فی المشیخة الإسلامیة إبان العصر العثمانی وبین یدی الطبعة الثانیة منها طبعت فی مطبعة الجوائب عام 1298هـ.
(8)-شعراء سوریة: 10 (طبع دار الكتاب الجدید- بیروت 1965).
(9)-انظر حلیة البشر فی تاریخ القرن الثالث عشر 1: 329.
(10)-هذه الأبیات من قصیدة لم تنشر فی دیوانه المطبوع، ولدی نسخة منها مخطوطة.
(11)-عبد الهادی الوفائی 1843-1909. وتاریخه مخطوط وهو بحوزتنا وننوی نشره بالاشتراك مع الأستاذ ریاض البدری.
(12)-د.عبد العزیز الأهوانی: ابن سناء الملك: 37 (طبع مكتبة الانجلو بمصر 1962).
(13)-انظر أعلام الأدب والفن 1: 39 وحلیة البشر فی تاریخ القرن الثالث عشر 3: 1521.
(14)-انظر أعلام الأدب والفن 1: 183.
(15)-محمد خالد الجلبی 1867-1926. انظر أعلام الأدب والفن 1: 57.
(16)-طبع هذا الدیوان عدة طبعات.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:19|