قراءة فی بنیة القصیدة المدحیّة
مدحیة
القطامی- نموذجاً
ظل الشعر العربی عهداً طویلاً دیوان العرب، وسِجل مفاخرهم ومآثرهم، نهض بتصویر عواطفهم وأفراحهم وأحزانهم وتأملاتهم، مؤصلین عبر هذه المسیرة الطویلة قواعده وأصوله المكتملة النضج والبناء.
بید أن هذه المكانة للشعر العربی القدیم، لم تنل حظها من التقویم الصحیح، إذ اتسمت الرؤیة النقدیة للقصیدة العربیة –لا سیما المدحیة- ردحاً من الزمن برؤیة جزئیة ترتكز على وحدة البیت، وتسلیط الضوء على معطیات أخرى قد یتصل بعضها بذات المبدع، أو بمؤثرات العصر التاریخیة والسیاسیة، وسواها، دون التركیز على البناء الكلی للعمل الأدبی. ومن ثمَّ تولدت تلك الإشكالیة التی تصف القصیدة العربیة بالتفكك لافتقادها الوحدة العضویة(1).
وهذا الحكم تبناه بعض المستشرقین، ومن دار فی فلكهم من الباحثین العرب، وهذا الحكم كان نتاج فقدان القراءة المتعمقة، إلى جانب قیاس القصیدة العربیة على نماذج القصیدة الغربیة التی تختلف عنها بطبیعة مبدعها، ومؤثرات إبداعها.
وقد أشار بعض النقاد العرب إلى مدى الغبن الذی أصاب القصیدة العربیة نتیجة قیاسها على نماذج غربیة، یقول د. شكری عیاد: "على كثرة ما كُتِب فی النقد العربی الحدیث حول القصیدة التقلیدیة فقد عانت دائماً من قیاسها على أجناس مختلفة من الشعر الأوربی، ولوحظ افتقارها إلى "الوحدة العضویة" لا سیما أن الإلحاح على وحدة البیت جعل وحدة القصیدة أشبه بنافلة، أو شذوذاً عن القاعدة"(2). وتقول د. حیاة جاسم: "تعرّض هذا التراث إلى هجمات كثیرة، ومطاعن متعددة، لعل من أخطرها تلك التی ترمی القصیدة العربیة بالتفكك، وافتقادها الوحدة، وترى أنها مزق متناثرة، وصور متناقضة لا تربطها إلا القافیة. وقد كُتبت فی ذلك المقالات والدراسات الجزئیة؛ ولكن ما كتب لا یستند إلى نظرة شاملة للشعر العربی، وإنما یقوم على دراسة ضیقة، كما أن الكثیر مما كُتب متأثر بمقاییس النقد الغربی، ویحاول تطبیق تلك المقاییس على الشعر العربی..."(3).
وهذه الرؤیة النقدیة للقصیدة العربیة أفقدتها الكثیر من إیحاءاتها، وآفاقها الجمالیة؛ إذ من البدهی أن الإبداع سواء كان شعراً أم نثراً لا تتضح دراسته إلاَّ فی إطار المؤثرات المختلفة المحیطة به، لأن هذه المؤثرات هی المحرك الحقیقی للتجربة الشعوریة التی هی نتاج كل إبداع.
ومع العلم بأنه لیس هناك قراءة نهائیة للنص الأدبی، وأن لكل نص رؤیته الخاصة فإن هذه الدراسة تعدُّ محاولة من المحاولات التی تسلط الضوء على بعض العلاقات والسمات التی شكلت صیاغة القصیدة العربیة تشكیلاً عضویاً، جعلت منها وحدة واحدة من التعبیر، وذلك من خلال القراءة المتعمقة التی تسبر أغوار النص، وتتعاطف معه، وترى فی القصیدة على أنها نفثة شعوریة متكاملة، متجاهلة أی حكم انطباعی وسم به الشعر الجاهلی.
ومن هنا أصبح الناقد أو المتلقی ینهض بدور رئیس فی الكشف عن آفاق النص، وإیحاءاته من خلال القراءة المتفحصة التی لم تعد قراءة واحدة، بل قراءات متعددة لها نظریاتها المختلفة؛ منها ما یسمى ب "القراءة الاستبطانیة" وهی القِراءة التی تستنطق النص، وتكشف علاقاته الفنیة، ومحاولة الربط بین أجزائه(4). ومنها ما أسماه (تودوروف) (Todorov) القراءة الشعریة، (POETIC READING) تلك القراءة التی تقود إلى نتائج تتواءم مع الافتراضات الأولى التی یفترضها القارئ(5). ومنها ما یسمى ب "شعریة التلقی" "فكما أن هناك جمالیات أو شعریة إبداع هناك جمالیات أو شعریة تلقٍ..." والشعر طریقة إبداع وتلقٍ، بل الأدب عموماً، فهو –كما یقول الغذامی-: "عملیة إبداع جمالی من منشئه، وهو عملیة تذوق جمالی من المتلقی"(6).
وعلى ضوء ما تقدم فإن هذه الدراسة سوف تسلك مسلك القراءة الشعریة الاستبطانیة التی تتعمق النص، وتكشف عن علاقته الفنیة التی تربط بین أجزائه، بما یكشف عن فعالیة النص وإیحاءاته، وآفاقه الجمالیة، بحیث یفضی الخطاب الشعری فی نهایة المطاف إلى تعاطف وحوار ودی بین الشاعر والمفسر، مما یؤدی للانتقال من ظاهر المعنى إلى معنى المعنى. فالتفكك المزعوم للقصیدة العربیة، غالباً، هو نتاج فقدان الربط المنطقی، وهذا الربط قد نجده فی الدراسات التی تتناول مناهج المدارس التفكیكیة والسریالیة، إذ تكون القصیدة مفككة، لكن الناقد قد یلتقط لها هذا الربط، ویدلل علیه بصورة أو بأخرى.
والقصیدة التی نقف إزاءها بالقراءة الشعریة الاستبطانیة هی قصیدة القطامی: "إنا محیوك فاسلم أیها الطلل" والقطامی: اسم من أسماء الصقر(7)، ولقب هذا الشاعر بذلك لقوله: (8):
یَحُطُّهن جانباً فجانبا *** حَطَّ القُطامِیِّ قَطا قَواربا
وقد اختلف فی اسمه الأول، فالسمعانی فی الأنساب ذكر أن اسمه هو: "عُمیر بن شییم بن عمرو بن عباد بن بكر بن عامر بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبیب"(9) وابن سلاّم ذكر أن اسمه هو: "عمرو بن شییم بن عمرو، أحد بنی بكر بن حبیب بن عمرو بن غَنْم من تغلب"(10).
والقطامی عدَّه ابن سلاَّم فی الطبقة الثانیة من الشعراء الإسلامیین. ووصف شعره بالفحولة ورقة الحواشی، وحلاوة الشعر(11). وأضاف المرزبانی إلى هذه الصفات كثرة الأمثال فی شعره(12). وذكر البغدادی أن القطامی كان نصرانیاً فأسلم، وهو ابن أخت الأخطل النصرانی المشهور(13).
وغلب على شعره المدیح الذی تغلفه العاطفة الصادقة مشیداً بما لدى الممدوح من الفضائل، ومكارم الأخلاق. وقد سجلت كتب التراث الأدبی والنقدی هذه المزیّة فی شعره؛ فذكرت غیر قصیدة وجهها لمدح زُفَر بن الحارث حین افتكه من الأسر، وأعطاه مئة من الإبل، وردّ علیه ماله(14).
وهذه الظاهرة المدحیة لم تكن غریبة على المجتمع العربی، فقد ذكر الجاحظ روایة عن الخلیفة الراشد عمر بن الخطاب –رضی الله عنه- قوله: "من خیر صناعات العرب الأبیات یقدمها الرجل بین یدی حاجته، یستنزل بها الكریم، ویستعطف بها اللئیم"(15).
ویقول د. شوقی ضیف: جرت عادة الشعراء منذ العصر الجاهلی على الإشادة بالأشراف، وذوی النباهة، ووصف خصالهم بالكرم والحلم والشجاعة والوفاء وحمایة الجار، وسوى ذلك، وكان لا یُعدّ السید فیهم كاملاً إلا إذا أشاد بنباهته ومآثره غیر شاعر، ومضوا على هذه السنة فی الإسلام(16).
وقصیدة القطامی التی سنتناولها بالدراسة تمثل قمة شعره المدحی؛ یقول أبو عمرو ابن العلاء: "أول ما حرك من القطامی ورفع من ذكره أنه قدم فی خلافة الولید بن عبد الملك دمشق لیمدحه، فقیل له: إنه بخیل لا یعطی الشعراء. وقیل بل قدمها فی خلافة عمر بن عبد العزیز، فقیل له: إن الشعر لا یَنْفُق عند هذا، ولا یعطی شیئاً، وهذا عبد الواحد بن سلیمان فامدحه. فمدحه بقصیدته التی أولها: (17)
إنا محیوك فاسلم أیها الطلل *** وإن بلیت وإن طالت بك (الطیل)
ومدحیّة القطامی تعدّ من عیون شعر المدیح، اعتمدها القرشی فی جمهرته، وابن عساكر فی تاریخه، والأصفهانی فی أغانیه، وسواهم.
وهذه القصیدة خضعت لنظام القصیدة المدحیة التی یغلب علیها تعدد الموضوعات، وهی التی حدد منهجها ابن قتیبة فی كتابه: "الشعر والشعراء"(18) فقال: "وسمعت بعض أهل الأدب یذكر أن مقصد القصید إنما ابتدأ فیها بذكر الدیار والدمن، فبكى وشكا، وخاطب الربع، واستوقف الرفیق؛ لیجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنین إذ كان نازلةُ العَمد فی الحلول والظَّعن على خلاف ما علیه نازلة المَدَر، لانتقالهم عن ماء إلى ماء، وانتجاعهم الكلأ، وتتبعهم مساقط الغیث حیث كان. ثم وصل ذلك بالنسیب، فشكا شدة الوجد، وألم الفِراق، وفرط الصبابة والشوق، لیمیل نحوه القلوب، ویصرف إلیه الوجوه، ولیستدعی به إصغاء الأسماع إلیه؛ لأن التشبیب قریب من النفوس، لائط بالقلوب،
لما قد جعل الله فی تركیب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فلیس یكاد أحدٌ یخلو من أن
یكون متعلقاً منه بسببٍ وضارباً فیه بسهم حلال أو حرام. فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء
إلیه، عقَّب بإیجاب الحقوق، فرحل فی شعره، وشكا النصب والسهر، وسُرى اللیل، وحرَّ
الهجیر، وإنضاء الراحلة والبعیر. فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء وذمامة التأمیل، وقرر عنده ما ناله من المكاره فی المسیر، بدأ فی المدیح "فبعثه على المكافأة، وهزَّه للسماح، وفضَّله على الأشباه، وصغَّر فی قدره الجزیل.
فالشاعر المجید من سلك هذه الأسالب، وعَدَّل بین هذه الأقسام، فلم یجعل واحداً منها أغلب على الشعر، ولم یُطل فیُمِلَّ السامعین، ولم یقطع وبالنفوس ظمأ إلى المزید"(19).
ولدى تأمّل قصیدة القطامی نجدها تنهل من أشجان ذاته بمحیطها الجغرافی والبیئی، معبرة عن أزمة مزدوجة: أزمة الذات، وأزمة الحیاة، منسابة فی فضاء تعبیری بلغ ثلاثة وأربعین بیتاً. وقد تنوّعت موضوعاتها ما بین: الوقوف على الطلل، فالحكمة، والنسیب، ووصف الرحلة والراحلة، وذكریات الأغید الربل، ثم الأخذ بالمدیح.
وقد نجح فی صهر معاناته فی ثنائیة: "القلق والأمل" القلق إزاء شظف الحیاة الصحراویة وقسوتها، جاعلاً من الذات موضوعاً، ومن الموضوع ذاتاً؛ مختزلاً أسى الإنسان فی أسى الذات، محلقاً فی فضاء تفاؤلی، رحب، یقتضی التوجه إلى المورد العذب، إلى الممدوح، لتحقیق الأمل بمستقبل أفضل!
وهذا التجاذب بین المعنیین لم یسیطر على جو القصیدة فحسب؛ بل كان الدافع الحقیقی لإنشائها، ومن ثمَّ تآلفت موضوعاتها فی تیار شعری واحد، مشدود بعاطفة الحب: حب الشاعر لطلل المحبوبة، حبه للحكمة، حبه للناقة، ثم حبه وإعجابه بممدوحه، وهذه الثنائیة: نتلمسها على صعید السیاق الشعری، وعلى صعید الأدوات التعبیریة.
1-السیاق الشعری:
یتحدث القطامی عن أزمته، وأزمة الإنسان فی الصحراء، لا على شاكلة الشعراء التقلیدیین بصوت منفرد، منكفئ على الذات، بل بصوت جماعی منفتح على الحیاة، مستفتحاً القصیدة، بتحیة الطلل، تحیة ینفذ منها من ثابت الفناء والخراب، إلى ثابت الأمل والحیاة، حیث یتداعى حدیث الذكریات الذی ما زال ماثلاً فی الأذهان، على الرغم مما طرأ من متغیرات:(20)
1-إنا محیوك فاسلم أیها الطلل *** وإن بلیتَ وإن طالت بك الطِّولُ(21)
2-أنى اهتدیتَ لتسلیم على دمنٍ *** بالغَمر غیَّرهن الأعصُرُ الأُولُ(22)
3-صافتْ تعمجُ أعناقُ السیول به *** من باكر سبِطٍ أو رائحٍ یَبِلُ(23)
4-فَهُنَّ كالخِلل الموشیِّ ظاهِرُها *** أو كالكتابِ الذی (قد مسَّه) البَللُ(24)
وهكذا تجلت فی مستهل القصیدة أولى سمات هذه الثنائیة بتلك المشاعر القلقة لذلك التحول الذی واكب موطن الذكریات –طلل الحبیبة- ثم بمشاعر الأمل التی اقترنت بتحیة السلام، وهی تحیّة مترتبة على السلامة وحیاة مترتبة على التحیة، بما ادخرته من رؤى تفاؤلیة مستقبلیة.
ثم تتوالى معالم هذه الثنائیة المفعمة بحس المكان وأسى الذات تتراءى من خلال هذا الرصد الإنسانی لما واكب حیاة الناس من متغیرات انسابت فی أبیات الحكمة بتلك المقابلات المصورة للآلام والآمال:(25)
5-كانت مَنَازِلُ منا قد یُحِلُّ بها *** حتى تغَیَّر دهرٌ خائِنٌ خَبِلُ(26)
6-لیسَ الجدیدُ به تبقَى بشاشَتُه *** إلا قلیلاً ولا ذو خُلَّةٍ یَصِلُ(27)
7-والعیشُ لا عیشَ إلاّ ما تقرُّ به *** عیناً ولا حال إلاّ سوفَ ینتقلُ(28)
8-والناسُ مَنْ یَلْقَ خیراً قائلون له *** ما یشتهی ولأُمِّ المخطِئ الهَبَلُ(29)
9-قد یُدرك المتأنی بعضَ حاجَتِه *** وقد یكونُ مع المُستَعجِلِ الزَّللُ(30)
10-وقد یُصیبُ الفتى الحاجاتِ مُبْتَدِراً *** ویستریحُ إلى الأخبارِ من یَسَلُ(31)
ومن ناحیة أخرى فقد نهضت أبیات الحكمة بخصوصیة دلالیة، من خلال تلك المقابلات التی وظفت توظیفاً فنیاً فی طرحها لوجهی الحیاة: القاتم والمشرق، أو (القلق والأمل) مما شكل لحمة صوتیة فی بنیة القصیدة بصفتها وحدةً تعبیریة.
ویبدو أن تصویر الشاعر لأزمة العلاقات الاجتماعیة وما أضحى علیه منطق الحیاة قد عزز لدیه معاناة القهر وزفرات الألم، لتخلخل القیم، ثم انبثاق الصوت الداخلی المضطرم للارتحال، وتحقیق الأمل بالاستقرار، ممهداً لابتداء مسیرة الارتحال التی یتجاذبها المعنیان، منطلقاً من البیت الذی یمثل ومضة الأمل، تتراءى فی الأفق البعید، ممثلة باسم "علیة" ذلك الاسم الموحی بالعلو والرفعة، وسمو الغایة:(32)
11-أمستْ عُلّیة یرتاحُ الفؤادُ لها وللرواسِم فیما دونها عَمَلُ(33)
بید أن هذا العلو، وسمو الغایة لا یمنعان من الوصول إلیها، مهما واكب الرحلة من مشاق، والراحلة من جهد وإنضاء:
12-بكل مُنخَرِقٍ یجری السرابُ به *** یُمسی ورَاكِبهُ من خَوفِه وَجِلُ(34)
13-یُنْضِی الهِجَان التی كانتْ تكونُ به *** عُرْضِیَّةٌ وهِبابٌ حین تُرتَحلُ(35)
14-حتى ترى الحُرَّةَ الوَجْنَاءَ لاغِبةً *** والأرحبیَّ الذی فی خَطْوِه خَطَلُ(36)
15-خُوْصاً تُدیرُ عیوناً ماؤها سَرِبٌ *** علَى الخدود إذا ما اغرورقَ المُقَلُ(37)
16-لواغِبَ الطَّرف منقوباً حَواجِبُها *** كأنه قُلَبٌ عادیَّةٌ مُكُلُ(38)
17-ترمی الفجَاجَ بها الركبان مُعْتَرِضاً *** أعناقَ بُزَّلِهَا مُرْخىً لها الجُدُلُ(39)
وهكذا یرسم الشاعر لوحةً مجسمة متحركة لرحلة الصحراء، صارخة الألوان، ثلاثیة الأبعاد: بركبانها، وحیوانها وطبیعتها، مازجاً التصویر الحسی مع النفسی والبیئی.
ومع تنامی مسیرة الرحلة یتراءى تفعیل دور الراحلة كأداة تضامنیة مع أزمة الشاعر النفسیة عبر شعور بالمساندة الوجدانیة، آملاً بتحقیق الغایة المنشودة:(40)
18-یمشینَ رَهْواً فلا الأعجازُ خاذلة *** ولا الصدورُ على الأعجازِ تَتَّكِلُ(41)
19-فهُنَّ مُعْتَرِضَاتٌ والحَصى رَمِضٌ *** والریح ساكنةٌ والظِّلُ مُعْتَدِلُ(42)
20-یَتْبَعن مائرة العینین تَحسِبُهَا *** مجنونةً أو ترى ما لا ترى الإبلُ(43)
21-لما وَرَدْنَ نَبیّاً واستَتَبَّ بنا *** مُسْحَنْفِرٌ كخطوط السِّیْح مُنْسَحِلُ(44)
22-على مكانٍ غَشَاش لا یُنیخُ به *** إلا مُغَیِّرُنَا والمُسْتَقِی العَجِلُ(45)
ویتابع الشاعر نشیده الشعری عبر ذلك التناسق الكونی، مجسداً آفاق لوحته الصحراویة بكل تفصیلاتها الدقیقة:(46)
23- ثم استمر بها الحادی وجنَّبها *** بَطنَ التی نَبْتُها الحَوْذَانُ والنَّفَلُ(47)
24-حتى وَرَدْنَ رَكیَّات الغُویْر وقد *** كاد المُلاءُ من الكَتانِ یشتَعِلُ(48)
25-وقد تعرجتُ لمَّا وَرَّكتْ أرَكَا *** ذاتَ الشِمالِ وعن أیمانِنا الرِّجَلُ(49)
26-على منادٍ (دعانا) دعوةً كشفتْ *** عنا النعاسَ وفی أعناقِنَا مَیَلُ(50)
وهكذا استطاعت ریشة الفنان الدقیقة استیعاب كل جزئیة فی هذه المنظومة الصحراویة: بركبانها، وإبلها، وبُزلَها، وأمتعتِها، وأماكِنها، وفجاجِها، وكثبانها، ونَباتِها، وآبارِها، وسرابِها، وشح مائِها، وانحسارِ ظلِها، وسكونِ ریاحها، وسرى لیلها، وقیظ نهارها، ورَمَضِ حَصبائها، كل ذلك یوحی بأن الرحلة أوشكت على الانتهاء، متزامنةً مع تلك الدعوة التی تجاوزت الجبال الشماء موحیَّة باستشراف بعض المفاجآت:(51)
27-سمعتُها ورِعَانُ الطَّوْدِ مُعْرِضَةٌ *** من دونها وكثیبُ الغَینة السَهلُ(52)
28-فقلتُ للرَّكْبِ لما أن علا بِهمُ *** من عن یمین الحُبیَّا نظرة قَبَلُ(53)
29-ألمحةً من سَنَا بَرق رأى بصری *** أم وجهَ عالیةَ اختالتْ به الكِلَلُ(54)
30-تُهدِی لنا كُلَّ ما كانتْ عُلاوتُنَا *** رِیحَ الخُزامى جرى فیها النَدى الخَضِلُ(55)
أجل.. لقد أشاع ذلك النداء إیقاظاً شعوریاً وتفتحاً نفسیاً لدى الشاعر، ملمحاً بتلاشی أزمة القلق، وتفتح مشاعر الأمل، متزامناً مع إطلالة وجه عالیة الذی ملأ الكون ألقاً وبشراً وعبیراً أخاذاً. واستشعار ذلك الأمل قد أحدث نوعاً من الابتهاج النفسی الذی هیأ لتداعی أو استشراف مناخ عاطفی مع امرأة غیداء ذات حسن وجمال:(56)
31-وقد أبیتُ إذا ما شئتُ مَالَ معِی *** على الفراشِ الضجیعُ الأغیدُ الرَّبِلُ(57)
32-وقد تُباكرنی الصهباءُ ترفَعُها *** إلیَّ لینةٌ أطرافها ثَمِلُ(58)
ثم تتصعد إشراقة الأمل فی الخطاب الشعری بالتفات الشاعر إلى ناقته التی شاطرته رحلة العناء والقلق، فلیكن لها حظ من بهجة الأمل:(59)
33-أقولُ للحرف لمَّا أن شَكَتْ أُصُلاً *** مَتَّ السِّفَارِ وأفنى نَیِّها الرحلُ(60)
34-إن ترجعی من أبی عثمانَ مُنْجَحَةً *** فقد یهونُ على المُسْتَنِْجِحِ العَمَلُ(61)
ثم تمضی القصیدة عبر ذلك الانفتاح النفسی مشكلةً نقلة معنویة مؤدیة للالتئام التام بین بعدی الثنائیة، من خلال الوصول إلى الممدوح(62)، مما اقتضى آلیة جدیدة فی التقنیة الشعریة، منها تداخل الخاص مع العام، فعطاء الممدوح سیحقق آماله وآمال أهل المدینة قاطبة. ومنها توجه الخطاب الشعری من الأنا إلى الآخر، ومن الضمیر الأحادی إلى الجمعی؛ فالنشید المدحی یتراءى حتى نهایته بضمیر جمعی، وكأن فضائل القوم مجتمعة قد اختزلت فی الممدوح، مشكلةً منظومة من القیم الدینیة والاجتماعیة:(63)
35-أهلُ المدینة لا یَحزُنك شأَنَهُم *** إذا تخاطأ عبدَ الواحِدِ الأَجلُ
36-أما قُریشُ فلن تلقاهُمُ أبداً *** إلاَّ وهم خَیرُ من یَحفَى وینتعلُ
37-إلاَّ وهم جَبَل اللهِ الذی قصرتْ *** عنه الجبالُ فما سوّى به جَبَلُ
38-قومٌ هُمُ ثبَّتوا الإسلام واتَّبعوا *** قولَ الرسول الذی ما بعده رسُلُ(64)
39-مَنْ صَالحوه رأى فی عَیْشِه سعَةً *** ولا یرى مَنْ أرادوا ضَرَّه یَئِلُ(65)
ثم یشكل القطامی من هذا الفیض الغطائی وأصالة المنبت علاقة تكافؤ وتوحد مع الممدوح؛ فكلاهما فی موقف الأخذ والعطاء؛ فالشاعر یسدی إلیه عبیر ثنائه، والممدوح یزجی إلیه سحائب جوده، مشكلاً منهما خیطاً شعوریاً كان بمثابة التلاحم الحقیقی لثنائیة القلق والأمل، ذلك المخزون النفسی الذی أسفر بعد طول عناء وانتظار عن تحقق الحلم المنشود الذی فاق كل التوقعات(66):
40-كَمْ نالنی منهُم فَضْلٌ علَى عَدَمٍ *** إذ لا أكادُ من الإقتار أحتملُ(67)
41-وكَمْ من الدهر ما قد ثبَّتوا قدمی *** إذ لا أزالُ مع الأعداءِ أنتَضِلُ(68)
أجل... فقد تحقق الأمل! ومما عزز اللذة بتحققه أن الشاعر تلقاه فی سیاقه التاریخی والاجتماعی والنفسی؛ ذلك العطاء الذی لم یشبه مَنٌ أو محاباة أعداء، ولا غرو فی ذلك فالشیء من معدنه لا یستغرب، فهم الملوك، أبناء السیادة والجود:(69)
42-فلا هم صَالحوا مَنْ یبتغی عَنَتی *** ولا هُمُ كدَّروا الخیرَ الذی فَعلوا(70)
43-همُ الملوكُ وأبناءُ الملوكِ لهم *** والآخذون به والسَادةُ الأُوَلُ(71)
وبهذه الأبیات یكون الخطاب الشعری قد أوفى على النهایة، كما أوفى على الغایة، إذ نهضت القصیدة بدورها الحیوی فی صنع القرار الحاسم فی حیاة الشاعر؛ فقد ذكر صاحب الأغانی عن أبی عمرو بن العلاء "أن القطامی عندما أنشد القصیدة لعبد الواحد فقال له: كم أمَّلتَ من أمیر المؤمنین؟ قال: أمَّلتُ أن یعطینی ثلاثین ناقة! فقال: قد أمرتُ لك بخمسین ناقة موقرةً بُرَّاً وتمراً وثیاباً، ثم أمر بدفع ذلك إلیه"(72).
وهكذا انتظم السیاق الشعری فی نسق تعبیری متآلف حیث ابتدأ بزفرات القهر والقلق، وانتهى بإشراقة التفاؤل والأمل، تلك التی تتلمسها على صعید الأدوات التعبیریة.
2-الأدوات التعبیریة:
شكلت لغة الخطاب الشعری بشتى مستویاتها دوراً تأسیسیاً فی تجسید ثنائیة "القلق والأمل" بكونها ثابتاً من ثوابت القصیدة، تلك التی تجلت على صعید: المعجم الشعری، الحقول الدلالیة، العبارات، المفردات، الإیقاع الداخلی، الموسیقى الخارجیة.
أ-المعجم الشعری:
وفق القطامی فی انتقاء معجمه الشعری انتقاء: "أستاذ بلیغ یعرف كیف یستدعی انتباهك، ویشد اهتمامك... أدیب یسمعك مختارات من أجمل الشعر العربی، وأكثره فصاحةً وسحراً.."(73).
ومع أن الشاعر قد اختار معجمه الشعری من اللغة التی ألفناها فی العصر الجاهلی إلا أن القطامی قد تصرف فی معطیاتها بما یتلاءم وموقفه النفسی؛ ففی الرحلة الصحراویة حیث مشاعر القلق فی ذروتها تداعت اللغة بأوابدها وشواردها وخشونتها، مثل: دمن، منخرق، الوجناء، فجاج، مستحنفر، غشاش- الخ.." وعند توجهه إلى الممدوح حیث إشراقة الأمل اتجهت اللغة من الوعورة والخشونة إلى الرقة والعذوبة، والتحضر، ویؤید ذلك أن النشید المدحی فی مجمله قد كفانا مؤنة البحث عن مستغلق المعانی وغریبها.
ب-الحقول الدلالیة:
تنوعت الحقول الدلالیة مشكلة معبرة موحیة بدلالتها على الحالات النفسیة المتعاقبة للشاعر، وهی:
-حقل الفناء : وینطلق من الطلل، ویعبر عن فناء الذات، أو درجة الإحباط النفسی، ویتجسد فی: الطلل، بلیت، دمن، غیرهن، الأعصر الأول، صافت، الخلل، الكتاب المبلل، تغیر، دهر خائن، خبل، بشاشته، تبقى قلیلاً، حال تنتقل.
-حقل الصحراء: ویمثل مرحلة البرزخ، ویتماهى فیه: الفناء بالحیاة، والموت بالبعث، وهو معبر الشاعر من الطلل إلى الممدوح، ویصطبغ بالخوف، وترقب المجهول، ویتمثل فی: المنخرق، السراب، وجل، ینضی، لاغبة، خوصاً عیونها، منقوباً حواجبها، مائرة العینین، الفجاج، الحصى رمض، مسحنفر، غشاش، یشتعل.
-حقل العبور : ویتراءى فیه ذكر المحبوبة والشوق إلیها مع بدء الوصول للممدوح، ومنه: یمشین رهواً، الحادی، نبتها الحوذان والنفل، الركب، لمحة، سنا برق، وجه عالیة، الخزامى، الندى الخضل، الأغید الربل، الصهباء، لینة الأطراف.
-حقل الأمل : ویتماهى فیه لقاء الممدوح بتحقیق الأمل، ممثلاً فی: (أبو عثمان)، أهل المدینة، قریش، خیر، جبل الله، ثبَّتوا، صالحوا، عیش، سعة، نالنی، فضل، الخیر، الملوك، أبناء الملوك، السادة الأول.
ومع تعدد هذه الحقول الدلالیة كان هناك ثابتان یؤلفان بینها، هما: ثابتا الحركة والاستقرار، وكان الجسر الرابط بینهما: أبیات الحكمة.
ج-العبارات:
نهضت عبارات الحكمة بوظیفة تعبیریة ثنائیة الغایة؛ فإلى جانب كونها الرابط بین الحقول الدلالیة، قد حققت نوعاً من العزاء النفسی للشاعر، بالانتقال من عالم الطلل، عالم القلق والكبت النفسی، إلى عالم الآخر، عالم تتواصل فیه الحیاة ویتنسم فیه عبیر الصحة النفسیة، منتفعاً بحصاد التجارب الإنسانیة الثَّرة حیال ما یعتمل الحیاة من صراع ومتغیرات؛ لا سیما وأن الناس یجاملون السعید ویتنكرون للخائب الشقی، إذن الحیاة صعبة، ولا بد فیها من إثبات الذات، فلینطلق إلى أفق آخر، ولیكن بتأن وحذر:
والناس من یلق خیراً قائلون له *** ما یشتهی ولأمّ المخطئ الهُبَلُ
قد یدرك المتأنی بعض حاجته *** وقد یكون مع المستعجل الزلل
فاستعمال (قد) مع الفعل المضارع نهض بمغزى دلالی فی احتمال حدوث الفعل، وفی هذا دلالة على أن الأمل الذی یسعى إلیه قد یتحقق، كما قد یكون مع المستعجل الزلل، إذن لا بد من التریث، والبحث عن الأفضل، والأفضل یتراءى عند رجل الفضل والجود، فلیشد الرحال إلى أبی عثمان، حیث الأمل المنشود.
وهاجس الرجل بالتفاؤل یتراءى منذ مطلع القصیدة، فالتحیة للطلل فی مستهل القصیدة لا تعنی السلام المجرد، بل السلامة، ویؤید ذلك أن من معنى "الطِّول" طیلة العمر؛ جاء فی اللسان: أطال الله طِولك، أی عمرك:
إنا محیوك فاسلم أیها الطلل *** وإن بلیت وإن طالت بك الطَوْلُ طِوَلَكَ
وهذا یسلمنا أن تراكیب القصیدة تجسد ثابت الحیاة إزاء ثابت الفناء، ویعزز ذلك تشبیهه آثار الطلل بالكتاب الذی مسه البلل ومع ذلك لم تطمس حروفه ومعانیه، وبالسیف الذی تقادم عهده ولم تمح آثار وشیه وجماله:
فهن كالخلل الموشیِّ ظاهرها *** أو كالكتاب الذی قد مسه البلل
وهذا التجاذب بین الزوال والبقاء فی البیت الواحد یوحی بالرحیل العاطفی من ناحیة وبالتطلع للأمل المرتقب، وحب الحیاة من ناحیة أخرى.
د-المفردات:
زخرت أبیات القطامی بمفردات تجاوزت دلالتها المعجمیة إلى دلالة إیحائیة. من ذلك استخدامه لمفردة: "الرواسم" لخصوصیة معناها؛ فهو لم یستخدم مفردة أخرى ترادفها فی معناها ك الرواحل –مثلاً- لأن لفظ الرواسم یوحی بتصور الإبل وهی ترسم على الأرض بأخفافها موحیّةً بمسار الرحلة الصحراویة بكل أبعادها الحسیة والنفسیة. وأیضاً استخدامه لمفردة "الجبل" فهی توحی بمغزى عمیق، ینهض بمعنى الاستقرار والثبات، وعندما یوصف به الممدوح فهذا یعنی تعزیز الثقة بالعطاء، لا سیما إذا كان هذا الجبل شامخاً كالطود العظیم.
ومن ناحیة أخرى نهضت مفردات الأنوثة بوظیفة دلالیة مكثفة عمَّقت تلك الثنائیة، مُشَكِّلَةً عنصراً شعریاً ذا قطبین، الأول: المحبوبة الرمز، وتراءى باسم "علیة" ذلك الاسم الموحی بالعلو والرفعة، والتطلع للأمل المرتقب؛ ولذلك صورها فی مطلع القصیدة بأمل یحن إلیه؛ لكنه بعید المنال، یقتضی شد الرحال، وتجشم الصعاب.
أمستْ علیة یرتاح الفؤاد لها *** وللرواسم فیما دونها عملُ
وعندما أوشك الأمل یلوح بالأفق بدا وجه "علیة" مشرقاً یملأ الآفاق بعبیره الأخاذ، مقترناً بذكر البرق؛ والبرق مصدر للمطر، والمطر حیاة الأرض، وحیاة الأنفس، ومن ثمَّ كان ارتباطه باسم علیة موحیاً بأنها رمز للأمل، لحیاة الشاعر، ویدعِّم ذلك امتزاجه بریا طیبة، مضمخاً بالندى وشذى الخزامى، كنایة عن سمو العطاء وسخائه:
ألمحة من سنا برق رأى بصری *** أم وجه عالیة اختالت به الكلل
تهدی لنا كل ما كانت علاوتنا *** ریح الخزامى جرى فیها الندى الخضل
أما القطب الآخر لخصوصیة مفردات الأنوثة فقد تبدى بذكریات "الأغید الربل" تلك المحبوبة التی تربطها بالشاعر علاقة عاطفیة، تتراءى بالسعادة التی استشرفها قبیل الوصول إلى الممدوح، وهذا الوجود الأنثوی "للأغید الربل نهض بوظیفة أخرى مشكلاً لبنة من بنیة القصیدة المدحیة التی یُعدّ الغزل أحد أركانها، إلى جانب إبانته عن رمزیة اسم "علیة" وأنه لیس اسم الحبیبة على الحقیقة.
ومن المفردات التی وظِّفت توظیفاً إیحائیاً تلك المقابلات التی طرحتها أبیات الحكمة كاشفة عن الجوانب القاتمة والمضیئة فی أخلاقیات الناس وسلوكهم، ممثلة بتلك الثنائیات: الماضی والحاضر، الفقر والغنى، السعید والشقی، السخط والرضى، الصواب والزلل، تحقق الحاجة وإخفاقها، المبادرة والتواكل، العجلة والأناة، تهلیل الناس للمحظوظ وتنكرهم للخائب.
ه-الإیقاع الداخلی:
شكل الشاعر إیقاع قصیدته العام وفق الإیقاع الخلیلی الجهیر الصوت على نغمات بحر البسیط، بید أن الموسیقا الداخلیة للنص زادت من التناغم الموسیقی محاولة المزاوجة بین الشكل والمضمون لتوصیل الرسالة الشعریة، بطریقة جذابة إلى المتلقی.
وقد انسابت هذه الموسیقا وفق مظاهر عدة، كان منها: الصوت، والكلمة، والعبارة، والتوازی بین التراكیب فی ثنایا الأبیات.
فعلى صعید الاستخدام الصوتی كثَّف القطامی من استخدام حرف الهمزة، متكئاً على خصوصیتها الصوتیة المؤثرة، فالهمزة: "انفجار صوتی یثیر انتباه السامع، فاستعملها العربی فی مقدمة معظم أحرف النداء. كما یدل صوتها الانفجاری على الحضور والبروز، فتصدرت ضمائر المتكلم والمخاطب، وما إلى ذلك.."(74)
إذاً لم یكن ولید المصادفة استهلال الشاعر قصیدته بحرف الهمزة، بل واشتمال البیت الأول أیضاً على أربعة حروف همزیة.
ومن نماذج الاستخدام الصوتی تكرار حروف بعینها فی الشطر الواحد، وأحیاناً فی البیت الواحد، من ذلك على سبیل المثال:
ورود حرف "اللام" وهو حرف الروی ست مرات فی البیت الأول، وحرف "الطاء" خمس مرات.
ورود حرف "التاء" ثلاث مرات فی الشطر الأول من البیت الثانی.
ورود حرف "النون" أربع مرات فی البیت الخامس.
ورود حرف "الیاء" أربع مرات فی البیت السادس.
وعلى هذه الشاكلة تتكرر بعض هذه الأحرف وسواها فی ثنایا الأبیات، مما یحقق إیقاعاً موسیقیاً داخلیاً، لیس قائماً على البحر والقافیة، بل على الحركة الداخلیة القائمة على تردد الحرف نفسه واختلاف حركاته فی البیت الواحد، فالموسیقا تسیر فی صعود وهبوط وفق الحركات الداخلیة للحروف متلائمة مع الإیقاع العام؛ من ذلك ما نجده من ورود حرف اللام فی البیت الأول ست مرات بحركات متعددة:
إنا محیوك فاسلمْ أیها الطَّلَلُ *** وإن بَلِیتَ وإن طَالَت بل الطِّولُ
فاللام ابتداءً وردت مفتوحة واختفت وعادت مفتوحة ومضمومة ثم اختفت، ثم جاءت مكسورة واختفت، إلى أن عادت مضمومة مشكلة حرف الروی للقصیدة.
كما تجلى النغم الداخلی وفق مظاهر أخرى نتلمسها بتردد ألفاظ بعینها فی ثنایا الأبیات، مثل قوله: "إلا وهم، كم، إذ لا، فلا هم، هم"(75).
36-أما قریش فلا تلقاهم أبداً *** إلاَّ وهم خیر من یحفى وینتعلُ
37-إلاَّ وهم جَبَل الله الذی قصرتْ *** عنه الجبالُ فما سوّى به جَبَلُ
40-كم نالنی منهم فضل على عَدَمٍ *** إذ لا أكاد من الإقتار أحتملُ
41-وكم من الدهر ما قد ثبَّتوا قدمی *** إذ لا أزال مع الأعداء أنتضلُ
42-فلا هم صالحوا من یبتغی عَنَتی *** ولا هم كدَّروا الخیر الذی فَعَلوا
43-هم الملوك وأبناء الملوك هُمُ *** والآخذون به والسادة الأولُ
وهذا التردد اللفظی قد حقق توازناً إیقاعیاً متناغماً مع الإیقاع الشعری العام.
الإیقاع الخارجی:
شكل الإیقاع الخارجی لمدحیة القطامی میسماً من میاسم الوحدة التعبیریة للقصیدة، فكما هو معلوم أن الوزن العروضی، أو الإیقاع الخارجی یتداعى تبعاً لطبیعة التجربة الشعوریة؛ فالقصیدة تقول ما تقول ابتداءً من إیقاعها الشعری ثم بفضائها التعبیریة الذی یترجم الحالة النفسیة للشاعر مما یوحی بصدق التجربة وتأثیرها. وقد نهض هذا الإیقاع الموسیقی للقصیدة لیخدم الحالة الشعوریة: القلقة ثم المستقرة، فبدا متساوقاً مع هذا التیار الذی اتضح فی تلك المراوحة لحركة الانتقال والسیر عبر الصحراء صعوداً وهبوطاً متناغماً مع حركات تفعیلات البحر البسیط:
مستَفعِلن فَاعِلن مستفعِلن فَاعِلن *** مستَفعلن فَاعِلن مستَفعِلن فَاعِلن
إلى جانب ما أداه حرف القافیة من وظیفة إیقاعیة تراءت بحرف اللام المضمومة المشبعة المتجهة للأعلى متلائمة مع مسار الرحلة فی توجهها الارتقائی نحو الممدوح.
وعلى هذا فالإیقاع الشعری بمحوریه: الداخلی والخارجی قد نهض بوظیفة تعبیریة انضوت فی ثنایا المنظومة العامة للمدحیة، التی شكلت ثنائیة: "القلق والأمل" ركیزتها الرئیسة. مما یمنحنا الثقة للقول: إن القصیدة العربیة التقلیدیة عامة، والمدحیة على وجه الخصوص، لیست على إطلاقها، مفككة الأغراض، مشتتة الأوصال، إنما قد نجد فیها هذا التواصل العضوی الذی هو أداة الناقد والمتلقی لاستعادة وجوده وغایته.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:20|