النقد العربــــی ومناهجـــــه
1- مفهـــوم النقــــــد:
النقد عملیة وصفیة تبدأ بعد عملیة الإبداع مباشرة، وتستهدف قراءة الأثر الأدبی ومقاربته قصد تبیان مواطن الجودة والرداءة. ویسمى الذی یمارس وظیفة مدارسة الإبداع ومحاكمته الناقد ؛لأنه یكشف ماهو صحیح وأصیل فی النص الأدبی ویمیزه عما هو زائف ومصطنع. لكن فی مرحلة مابعد البنیویة ومع التصور السیمیوطیقی وجمالیة التقبل، استبعد مصطلح الناقد وصار مجرد قارئ یقارب الحقیقة النصیة ویعید إنتاج النص وبناءه من جدید. وتسمى مهمة الناقد بالنقد وغالبا ما یرتبط هذا الأخیر بالوصف والتفسیر والتأویل والكشف والتحلیل والتقویم. أما النص الذی یتم تقویمه من قبل الناقد یسمى بالنص المنقود.
هذا، ویخضع النقد لمجموعة من الخطوات والإجراءات الضروریة التی تتجسد فی قراءة النص وملاحظته وتحلیله مضمونا وشكلا ثم تقویمه إیجابا وسلبا. وفی الأخیر، ترد عملیة التوجیه وهی عملیة أساسیة فی العملیة النقدیة لأنها تسعى إلى تأطیر المبدع وتدریبه وتكوینه وتوجیهه الوجهة الصحیحة والسلیمة من أجل الوصول إلى المبتغى المنشود.
وإذا كانت بعض المناهج النقدیة تكتفی بعملیة الوصف الظاهری الداخلی للنص كما هو شأن المنهج البنیوی اللسانی والمنهج السیمیوطیقی، فإن هناك مناهج تتعدى الوصف إلى التفسیر والتأویل كما هو شان المنهج النفسی والبنیویة التكوینیة والمنهج التأویلی (الهرمونیتیقی Herméneutique).
وللنقد أهمیة كبیرة لأنه یوجه دفة الإبداع ویساعده على النمو والازدهار والتقدم، ویضیء السبیل للمبدعین المبتدئین والكتاب الكبار. كما أن النقد یقوم بوظیفة التقویم والتقییم ویمیز مواطن الجمال ومواطن القبح، ویفرز الجودة من الرداءة، والطبع من التكلف والتصنیع والتصنع. ویعرف النقد أیضا الكتاب والمبدعین بآخر نظریات الإبداع والنقد ومدارسه وتصوراته الفلسفیة والفنیة والجمالیة، ویجلی لهم طرائق التجدید ویبعدهم عن التقلید.
2- مـــفهــــوم المنهــــج النقدی:
إذا تصفحنا المعاجم والقوامیس اللغویة للبحث عن مدلول المنهج فإننا نجد شبكة من الدلالات اللغویة التی تحیل على الخطة والطریقة والهدف والسیر الواضح والصراط المستقیم. ویعنی هذا أن المنهج عبارة عن خطة واضحة المدخلات والمخرجات، وهو أیضا عبارة عن خطة واضحة الخطوات والمراقی تنطلق من البدایة نحو النهایة. ویعنی هذا أن المنهج ینطلق من مجموعة من الفرضیات والأهداف والغایات ویمر عبر سیرورة من الخطوات العملیة والإجرائیة قصد الوصول إلى نتائج ملموسة ومحددة بدقة مضبوطة.
ویقصد بالمنهج النقدی فی مجال الأدب تلك الطریقة التی یتبعها الناقد فی قراءة العمل الإبداعی والفنی قصد استكناه دلالاته وبنیاته الجمالیة والشكلیة. ویعتمد المنهج النقدی على التصور النظری والتحلیل النصی التطبیقی. ویعنی هذا أن الناقد یحدد مجموعة من النظریات النقدیة والأدبیة ومنطلقاتها الفلسفیة والإبستمولوجیة ویختزلها فی فرضیات ومعطیات أو مسلمات، ثم ینتقل بعد ذلك إلى التأكد من تلك التصورات النظریة عن طریق التحلیل النصی والتطبیق الإجرائی لیستخلص مجموعة من النتائج والخلاصات التركیبیة. والأمر الطبیعی فی مجال النقد أن یكون النص الأدبی هو الذی یستدعی المنهج النقدی، والأمر الشاذ وغیر المقبول حینما یفرض المنهج النقدی قسرا على النص الأدبی على غرار دلالات قصة سریر بروكوست التی تبین لنا أن الناقد یقیس النص على مقاس المنهج. إذ نجد كثیرا من النقاد یتسلحون بمناهج أكثر حداثة وعمقا للتعامل مع نص سطحی مباشر لایحتاج إلى سبر وتحلیل دقیق، وهناك من یتسلح بمناهج تقلیدیة وقاصرة للتعامل مع نصوص أكثر تعقیدا وغموضا. ومن هنا نحدد أربعة أنماط من القراءة وأربعة أنواع من النصوص الأدبیة على الشكل التالی:
• قراءة مفتوحة ونص مفتوح؛
• قراءة مفتوحة ونص مغلق؛
• قراءة مغلقة ونص مفتوح؛
• قراءة مغلقة ونص مغلق.
وتتعدد المناهج بتعدد جوانب النص (المؤلف والنص والقارئ والمرجع والأسلوب والبیان والعتبات والذوق….)، ولكن یبقى المنهج الأفضل هو المنهج التكاملی الذی یحیط بكل مكونات النص الأدبی.
3- النقد االعربــــــی القدیــــــم :
ظهر النقد الأدبی عند العرب منذ العصر الجاهلی فی شكل أحكام انطباعیة وذوقیة وموازنات ذات أحكام تأثریة مبنیة على الاستنتاجات الذاتیة كما نجد ذلك عند النابغة الذبیانی فی تقویمه لشعر الخنساء وحسان بن ثابت. وقد قامت الأسواق العربیة وخاصة سوق المربد بدور هام فی تنشیط الحركة الإبداعیة والنقدیة. كما كان الشعراء المبدعون نقادا یمارسون التقویم الذاتی من خلال مراجعة نصوصهم الشعریة وتنقیحها واستشارة المثقفین وأهل الدرایة بالشعر كما نجد ذلك عند زهیر بن أبی سلمی الذی كتب مجموعة من القصائد الشعریة التی سماها "الحولیات" والتی تدل على عملیة النقد والمدارسة والمراجعة الطویلة والعمیقة والمتأنیة. وتدل كثیر من المصطلحات النقدیة التی وردت فی شعر شعراء الجاهلیة على نشاط الحركة النقدیة وازدهارها كما یبین ذلك الباحث المغربی الشاهد البوشیخی فی كتابه "مصطلحات النقد العربی لدى الشعراء الجاهلیین والإسلامیین".
وإبان فترة الإسلام سیرتبط النقد بالمقیاس الأخلاقی والدینی كما نلتمس ذلك فی أقوال وآراء الرسول (صلعم) والخلفاء الراشدین رضوان الله علیهم.
وسیتطور النقد فی القرن الأول الهجری وفترة الدولة العباسیة مع ابن قتیبة والجمحی والأصمعی والمفضل الضبی من خلال مختاراتهما الشعریة وقدامة بن جعفر وابن طباطبا صاحب عیار الشعر والحاتمی فی حلیته وابن وكیع التنیسی وابن جنی والمرزوقی شارح عمود الشعر العربی والصولی صاحب الوساطة بین المتنبی وخصومه…
هذا، ویعد كتاب "نقد الشعر" أول كتاب ینظر للشعریة العربیة على غرار كتاب فن الشعر لأرسطو لوجود التقعید الفلسفی والتنظیر المنطقی لمفهوم الشعر وتفریعاته التجریدیة. بینما یعد أبو بكرالباقلانی أول من حلل قصیدة شعریة متكاملة فی كتابه "إعجاز القرآن"، بعدما كان التركیز النقدی على البیت المفرد أو مجموعة من الأبیات الشعریة المتقطعة. وفی هذه الفترة عرف النقاد المنهج الطبقی والمنهج البیئی والمنهج الأخلاقی والمنهج الفنی مع ابن سلام الجمحی صاحب كتاب "طبقات فحول الشعراء فی الجاهلیة والإسلام"، والأصمعی صاحب "كتاب الفحولة"، وابن قتیبة فی كتابة "الشعر والشعراء"، والشعریة الإنشائیة خاصة مع قدامة بن جعفر فی "نقد الشعر" و"نقد النثر". واعتمد عبد القاهر الجرجانی على نظریة النظم والمنهج البلاغی لدراسة الأدب وصوره الفنیة رغبة فی تثبیت إعجاز القرآن وخاصة فی كتابیه "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة". ولكن أول دراسة نقدیة ممنهجة حسب الدكتور محمد مندور هی دراسة الآمدی فی كتابه: "الموازنة بین الطائیین: البحتری وأبی تمام". وقد بلغ النقد أوجه مع حازم القرطاجنی الذی اتبع منهجا فلسفیا فی التعامل مع ظاهرة التخییل الأدبی والمحاكاة وربط الأوزان الشعریة بأغراضها الدلالیة فی كتابه الرائع "منهاج البلغاء وسراج الأدباء" والسجلماسی فی كتابه "المنزع البدیع فی تجنیس أسالیب البدیع"، وابن البناء المراكشی العددی فی كتابه"الروض المریع فی صناعة البدیع".
ومن القضایا النقدیة التی أثیرت فی النقد العربی القدیم قضیة اللفظ والمعنى وقضیة السرقات الشعریة وقضیة أفضلیة الشعر والنثر وقضیة الإعجاز القرآنی وقضیة عمود الشعر العربی وقضیة المقارنة والموازنة كما عند الآمدی والصولی، وقضیة بناء القصیدة عند ابن طباطبا وابن قتیبة، وقضیة الفن والدین عند الأصمعی والصولی وغیرهما… وقضیة التخییل الشعری والمحاكاة كما عند فلاسفة النقد أمثال الكندی والفارابی وابن سینا وابن رشد والقرطاجنی وابن البناء المراكشی والسجلماسی… لكن هذا النقد سیتراجع نشاطه مع عصر الانحطاط لیهتم بالتجمیع وكتابة التعلیقات والحواشی مع ابن رشیق القیروانی فی كتابه "العمدة" وابن خلدون فی "مقدمته".
4- النقد العربی الحدیث والمعاصر:
مع عصر النهضة، سیتخذ النقد طابعا بیانیا ولغویا وخاصة مع علماء الأزهر الذین كانوا ینقدون الأدب على ضوء المقاییس اللغویة والبلاغیة والعروضیة كما نجد ذلك واضحا عند حسین المرصفی فی كتابه "الوسیلة الأدبیة"، وطه حسین فی بدایاته النقدیة عندما تعرض لمصطفى لطفی المنفلوطی مركزا على زلاته اللغویة وأخطائه البیانیة وهناته التعبیریة.
ومع بدایة القرن العشرین، سیظهر المنهج التاریخی أو كما یسمیه شكری فیصل فی كتابه "مناهج الدراسة الأدبیة فی الأدب العربی" [1] النظریة المدرسیة؛ لأن هذا المنهج كان یدرس فی المدارس الثانویة والجامعات فی أوربا والعالم العربی. ویهدف هذا المنهج إلى تقسیم الأدب العربی إلى عصور سیاسیة كالعصر الجاهلی وعصر صدر الإسلام وعصر بنی أمیة والعصر العباسی وعصر الانحطاط أو العصر المغولی أو العصر العثمانی ثم العصر الحدیث والعصر المعاصر. وهذا المنهج یتعامل مع الظاهرة الأدبیة من زاویة سیاسیة، فكلما تقدم العصر سیاسیا ازدهر الأدب، وكلما ضعف العصر ضعف الأدب. وهذا المنهج ظهر لأول مرة فی أوربا وبالضبط فی فرنسا مع أندری دوشیسون André Dechesson الذی ألف كتاب "تاریخ فرنسا الأدبی" سنة 1767م. ویقسم فیه الأدب الفرنسی حسب العصور والظروف السیاسیة ویقول:" إن النصوص الأدبیة الراقیة هی عصور الأدب الراقیة، وعصور تاریخ السیاسة المنحطة هی عصور الأدب المنحطة". [2]
وقد اتبع كثیر من مؤرخی الأدب العربی الحدیث منهج المستشرقین فی تقسیم الأدب العربی (بروكلمان، وجیب، ونالینو، ونیكلسون، وهوار…)، ومن هؤلاء جورجی زیدان فی كتابه "تاریخ آداب اللغة العربیة" الذی انتهى منه سنة 1914م. وفی هذا الكتاب یدعی السبق بقوله:" ولعلنا أول من فعل ذلك، فنحن أول من سمى هذا العلم بهذا الاسم"، وفی موضع آخر یقول إن المستشرقین أول من كتب فیه باللغة العربیة، [3] والشیخ أحمد الإسكندری والشیخ مصطفى عثمان بك فی كتابهما "الوسیط فی الأدب العربی وتاریخه" [4] الذی صدر سنة 1916م. وكان تاریخ الأدب عندهما هو العلم "الباحث عن أحوال اللغة، نثرها ونظمها فی عصورها المختلفة من حیث رفعتها وضعتها، وعما كان لنابغیها من الأثر البین فیها…. ومن فوائده:
1- معرفة أسباب ارتقاء أدب اللغة وانحطاطه، دینیة كانت تلك الأسباب أو اجتماعیة أو سیاسیة، فنستمسك بأسباب الارتقاء، ونتحامى أسباب الانحطاط.
2- معرفة أسالیب اللغة، وفنونها، وأفكار أهلها ومواضعاتهم، واختلاف أذواقهم فی نثرهم ونظمهم، على اختلاف عصورهم، حتى یتهیأ للمتخرج فی هذا العلم أن یمیز بین صور الكلام فی عصر وصوره فی آخر، بل ربما صح أن یلحق القول بقائله عینه.
3- معرفة أحوال النابهین من أهل اللغة فی كل عصر، وما كان لنثرهم وشعرهم، وتألیفهم من أثر محمود، أو حال ممقوتة، لنحتذی مثال المحسن، ونتنكب عن طریق المسیء". [5]
ومن المؤرخین العرب المحدثین أیضا نذكر محمد حسن نائل المرصفی فی كتابه "أدب اللغة العربیة"، وعبد الله دراز وكیل مشیخة الجامع الأحمدی فی كتابه "تاریخ أدب اللغة العربیة"، وأحمد حسن الزیات فی كتابه "تاریخ الأدب العربی" الذی اعتبر المنهج السیاسی فی تدریس تاریخ الأدب العربی نتاجا إیطالیا ظهر فی القرن الثامن عشر. ونستحضر فی هذا المجال كذلك طه حسین وشوقی ضیف وأحمد أمین فی كتبه المتسلسلة "فجر الإسلام" و"ضحى الإسلام" و"ظهر الإسلام"، وحنا الفاخوری فی كتابه المدرسی "تاریخ الأدب العربی"، وعمر فروخ فی تأریخه للأدب العربی، وعبد الله كنون فی كتابه "النبوغ المغربی فی الأدب العربی".
لكن هذا المنهج سیتجاوز من قبل النقاد الذی دعوا إلى المنهج البیئی أو الإقلیمی مع أحمد ضیف فی كتابه "مقدمة لدراسة بلاغة العرب"، والأستاذ أمین الخولی فی كتابه "إلى الأدب المصری"، وشوقی ضیف فی كتابه "الأدب العربی المعاصر فی مصر"، والدكتور كمال السوافیری فی كتابه "الأدب العربی المعاصر فی فلسطین"….
وسیرفض المنهج السیاسی المدرسی والمنهج الإقلیمی الذی یقسم الأدب العربی إلى بیئات وأقالیم فیقال: أدب عراقی، وأدب فلسطینی، وأدب جزائری، وأدب أندلسی، وأدب تونسی….وسیعوضان بالمنهج القومی مع عبد الله كنون الذی یرى أن الجمع القومی ینفی" جمیع الفوارق الاصطناعیة بین أبناء العروبة على اختلاف بلدانهم وتباعد أنحائهم، كما ینبغی أن ننفی نحن جمیع الفوارق الاعتباریة بین آداب أقطارهم العدیدة فی الماضی والحاضر. ذلك أن الأدب العربی وحدة لاتتجزأ فی جمیع بلاده بالمغرب والمشرق، وفی الأندلس وصقلیة المفقودتین…
وهناك قضیة شكلیة لها علاقة بالموضوع، وهی هذا التقسیم إلى العصور الذی ینبغی أن یعاد فیه النظر كالتقسیم على الأقطار؛ لأنه كذلك تقلید محض لمنهاج البحث فی الأدب الأوربی، ولعله تقلید له فی العرض دون الجوهر، وإلا فلیس بلازم أن یكون لعصر الجاهلیة أدب ولعصر صدر الإسلام أدب ولعصر الأمویین أدب، وهكذا حتى تنتهی العصور، وتكون النتیجة تعصب قوم لأدب وآخرین لغیره مما لا یوحى به إلا النزعات الإقلیمیة وهی إلى مذهب الشعوبیة أقرب منها إلى القومیة العربیة." [6]
ویبدو أن المنهج الذی یتبناه عبد الله كنون هو منهج ذو مظاهر دینیة قائمة على الوحدة العربیة الإسلامیة بأسسها المشتركة كوحدة الدین ووحدة اللغة ووحدة التاریخ ووحدة العادات والتقالید ووحدة المصیر المشترك. لكن عبد الله كنون سیؤلف كتابا بعنوان" أحادیث عن الأدب المغربی الحدیث"، وبذلك یقع فی تناقض كبیر حیث سیطبق المنهج الإقلیمی البیئی الذی اعتبره سابقا نتاجا للشعوبیة والعرقیة.
وإلى جانب هذه المناهج، نذكر المنهج الفنی الذی یقسم الأدب العربی حسب الأغراض الفنیة أو الفنون والأنواع الأجناسیة كما فعل مصطفى صادق الرافعی فی كتابه "تاریخ الأدب العربی"، وطه حسین فی "الأدب الجاهلی" حینما تحدث عن المدرسة الأوسیة فی الشعر الجاهلی التی امتدت حتى العصر الإسلامی والأموی، وشوقی ضیف فی كتابیه "الفن ومذاهبه فی الشعر العربی" و"الفن ومذاهبه فی النثر العربی" حیث قسم الأدب العربی إلى ثلاث مدارس فنیة: مدرسة الصنعة ومدرسة التصنیع ومدرسة التصنع، ومحمد مندور فی كتابه "الأدب وفنونه"، وعز الدین إسماعیل فی "فنون الأدب"، وعبد المنعم تلیمة فی "مقدمة فی نظریة الأدب"، ورشید یحیاوی فی "مقدمات فی نظریة الأنواع الأدبیة". فهؤلاء الدارسون عددوا الأجناس الأدبیة وقسموها إلى فنون وأنواع وأغراض وأنماط تشكل نظریة الأدب.
أما المنهج التأثری فهو منهج یعتمد على الذوق والجمال والمفاضلة الذاتیة والأحكام الانطباعیة المبنیة على المدارسة والخبرة، ومن أهم رواد هذا المنهج طه حسین فی كتابه "أحادیث الأربعاء" فی الجزء الثالث، وعباس محمود العقاد فی كتابه "الدیوان فی الأدب والنقد" ومقالاته النقدیة، والمازنی فی كتابه "حصاد الهشیم"،و میخائیل نعیمة فی كتابه "الغربال". بینما المنهج الجمالی الذی یبحث عن مقومات الجمال فی النص الأدبی من خلال تشغیل عدة مفاهیم إستیتیقیة كالمتعة والروعة والتناسب والتوازی والتوازن والازدواج والتماثل والائتلاف والاختلاف والبدیع فیمثله الدكتور میشال عاصی فی كتابه "مفاهیم الجمالیة والنقد فی أدب الجاحظ" والذی صدر سنة 1974م عن دار العلم للملایین ببیروت اللبنانیة.
ومع تأسیس الجامعة الأهلیة المصریة سنة 1908م، واستدعاء المستشرقین للتدریس بها، ستطبق مناهج نقدیة جدیدة على الإبداع الأدبی قدیمه وحدیثه كالمنهج الاجتماعی الذی یرى أن الأدب مرآة تعكس المجتمع بكل مظاهره السیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة والثقافیة. وقد تبلور هذا المنهج مع طه حسین فی كتابه "ذكرى أبی العلاء المعری" و"حدیث الأربعاء" الجزء الأول والثانی، وقد تأثر كثیرا بأستاذه كارلو نالینو وبأساتذة علم الاجتماع كدوركایم ولیڤی برول وابن خلدون صاحب نظریة العمران الاجتماعی والفلسفة الاجتماعیة. وقد سار على منواله عباس محمود العقاد فی كتابه "شعراء مصر وبیئاتهم فی الجیل الماضی"، ففیه یعمد الناقد إلى دراسة شعراء مصر انطلاقا من العرق والزمان والمكان من خلال مفهوم الحتمیة التی تربط الأدب جدلیا ببیئته.
ومع ظهور النظریات الإیدیولوجیة الحدیثة كالنظریة الاشتراكیة والشیوعیة، سیظهر المنهج الإیدیولوجی الاشتراكی والمنهج المادی الجدلی فی الساحة النقدیة العربیة مع مجموعة من النقاد كمحمد مندور وحسین مروة وسلامة موسى وعز الدین إسماعیل ومحمد برادة وإدریس الناقوری وعبد القادر الشاوی……
ومع بدایة الستینیات، ستفرز ظاهرة المثاقفة والترجمة والاطلاع على المناهج الغربیة مجموعة من المناهج النقدیة الحدیثة والمعاصرة كالبنیویة اللسانیة مع حسین الواد وعبد السلام المسدی وصلاح فضل وموریس أبو ناضر وكمال أبو دیب وجمیل المرزوقی وجمیل شاكر وسعید یقطین، كما ستتبلور أیضا البنیویة التكوینیة التی تجمع بین الفهم والتفسیر لتعقد تماثلا بین البنیة الجمالیة المستقلة والبنیة المرجعیة كما نظر لها لوسیان گولدمان وسیتبناها كل من محمد بنیس وجمال شحیذ ومحمد برادة وطاهر لبیب وحمید لحمدانی وسعید علوش وإدریس بلملیح وعبد الرحمن بوعلی وبنعیسى بوحمالة…
وإلى جانب المنهج البنیوی اللسانی والتكوینی، نذكر المنهج الموضوعاتی أو الموضوعیة البنیویة التی تدرس الأدب العربی على مستوى التیمات والموضوعات ولكن بطریقة بنیویة حدیثة مع سعید علوش فی كتابه "النقد الموضوعاتی"، وحمید لحمدانی فی كتابه "سحر الموضوع"، وعبد الكریم حسن فی كتابه "الموضوعیة البنیویة دراسة فی شعر السیاب"، وعلی شلق فی كتابه "القبلة فی الشعر العربی القدیم والحدیث".
أما المنهج السمیوطیقی فسیتشكل مع محمد مفتاح ومحمد السرغینی وسامی سویدان وعبد الفتاح كلیطو وعبد المجید نوسی وسعید بنكراد… من خلال التركیز على شكل المضمون تفكیكا وتركیبا ودراسة النص الأدبی وجمیع الخطابات اللصیقة به كعلامات وإشارات وأیقونات تستوجب تفكیكها بنیویا وتناصیا وسیمیائیا.
وبعد أن اهتم المنهج الاجتماعی بالمرجع الخارجی وذلك بربط الأدب بالمجتمع مباشرة مع المادیة الجدلیة أو بطریقة غیر مباشرة مع البنیویة التكوینیة، واهتم المنهج النفسی بربط الأدب بذات المبدع الشعوریة واللاشعوریة مع عزالدین إسماعیل والعقاد ومحمد النویهی وجورج طرابیشی ویوسف الیوسف، كما اختص الأدب الأسطوری بدراسة الأساطیر فی النص الأدبی كنماذج علیا منمطة تحیل على الذاكرة البشریة كما عند مصطفى ناصف فی كتابه "قراءة ثانیة لشعرنا القدیم"، ومحمد نجیب البهبیتی فی كتابه "المعلقة العربیة الأولى"، وأحمد كمال زكی فی "التفسیر الأسطوری للشعر القدیم"، وإبراهیم عبد الرحمن فی "التفسیر الأسطوری للشعر الجاهلی"، وعبد الفتاح محمد أحمد فی "المنهج الأسطوری فی تفسیر الشعر الجاهلی"، فإن جمالیة التلقی ونظریة الاستقبال مع إیزرIzer ویوس Yauss الألمانیین ستدعو الجمیع للاهتمام بالقارئ والقراءة بكل مستویاتهما؛ لأن القراءة تركیب للنص من جدید عن طریق التأویل والتفكیك، مما سینتج عن نظریة القارئ ظهور مناهج جدیدة أخرى كالمنهج التفكیكی والمنهج التأویلی.
ومن النقاد العرب الذین اهتموا بمنهج القراءة نجد حسین الواد فی كتابه "فی مناهج الدراسات الأدبیة"، ورشید بنحدو فی الكثیر من مقالاته التی خصصها لأنماط القراءة (القراءة البلاغیة، والقراءة الجمالیة، والقراءة السوسیولوجیة، والقراءة السیمیائیة….)، وحمید لحمدانی فی كتابه "القراءة وتولید الدلالة، تغییر عاداتنا فی القراءة"، ومحمد مفتاح فی كتابه "النص: من القراءة إلى التنظیر". أما التفكیكیة فمن أهم روادها الناقد السعودی عبد الله محمد الغذامی فی كتابه "الخطیئة والتكفیر" وكتاب "تشریح النص"، وكتاب "الكتابة ضد الكتابة"، والناقد المغربی محمد مفتاح فی "مجهول البیان" وعبد الفتح كلیطو فی كثیر من دراساته حول السرد العربی وخاصة "الحكایة والتأویل" و"الغائب". ومن أهم رواد النقد التأویلی الهرمونیتیقی نستحضر الدكتور مصطفى ناصف فی كتابه "نظریة التأویل"، وسعید علوش فی كتابه "هرمنوتیك النثر الأدبی".
ولا ننسى كذلك المنهج الأسلوبی الذی یحاول دراسة الأدب العربی من خلال وجهة بلاغیة جدیدة وأسلوبیة حداثیة تستلهم نظریات الشعریة الغربیة لدى تودوروف، وجون كوهن، وریفاتیر، ولوتمان، وبییرغیرو، ولیو سبیتزر،وماروزو… ومن أهم ممثلیه فی الأدب العربی الدكتور عبد السلام المسدی فی كتابه "الأسلوب والأسلوبیة"، ومحمد الهادی الطرابلسی "فی منهجیة الدراسة الأسلوبیة"، وحمادی صمود فی "المناهج اللغویة فی دراسة الظاهرة الأدبیة"، وأحمد درویش فی "الأسلوب والأسلوبیة"، وصلاح فضل فی "علم الأسلوب وصلته بعلم اللغة"، وعبد الله صولة فی "الأسلوبیة الذاتیة أو النشوئیة"، ودكتور حمید لحمدانی فی كتابه القیم "أسلوبیة الروایة"، والهادی الجطلاوی فی كتابه "مدخل إلى الأسلوبیة". وثمة مناهج ومقاربات ظهرت مؤخرا فی الساحة العربیة الحدیثة كلسانیات النص مع محمد خطابی فی كتابه "لسانیات النص" والأزهر الزناد فی "نسیج النص"، والمقاربة المناصیة التی من روادها شعیب حلیفی وجمیل حمداوی وعبد الفتاح الحجمری وعبد الرزاق بلال ومحمد بنیس وسعید یقطین… وتهتم هذه المقاربة بدراسة عتبات النص الموازی كالعنوان والمقدمة والإهداء والغلاف والرسوم والأیقون والمقتبسات والهوامش، أی كل ما یحیط بالنص الأدبی من عتبات فوقیة وعمودیة، وملحقات داخلیة وخارجیة.
خلاصـــة تركیبیــــة:
هذه هی أهم التطورات المرحلیة التی عرفها النقد العربی قدیما وحدیثا، وهذه كذلك أهم المناهج النقدیة التی استند إلیها النقاد فی تحلیل النصوص الإبداعیة وتقویمها ومدارستها نظریا وتطبیقیا. ویلاحظ كذلك أن هذه المناهج النقدیة العربیة ولاسیما الحدیثة والمعاصرة كانت نتاج المثاقفة والاحتكاك مع الغرب والاطلاع على فكر الآخر عن طریق التلمذة والترجمة. وقد ساهم هذا الحوار الثقافی على مستوى الممارسة النقدیة فی ظهور إشكالیة الأصالة والمعاصرة أو ثنائیة التجریب والتأصیل فی النقد العربی.
وعلیه، فقد ظهر اتجاه یدافع عن الحداثة النقدیة وذلك بالدعوة إلى ضرورة الاستفادة من كل ماهو مستجد فی الساحة النقدیة الغربیة كما نجد ذلك عند محمد مفتاح ومحمد بنیس وحمید لحمدانی وحسین الواد وصلاح فضل…، واتجاه یدعو إلى تأصیل النقد العربی وعدم التسرع فی الحكم سلبا على تراثنا العربی القدیم ومن هؤلاء الدكتور عبد العزیز حمودة فی كتبه القیمة والشیقة مثل: "المرایا المقعرة"، و"المرایا المحدبة"، و"الخروج من التیه". لكن هناك من كان موقفه وسطا یدافع عن التراث ویوفق بین أدواته وآلیات النقد الغربی كمصطفى ناصف فی كثیر من كتبه ودراساته التی یعتمد فیها على أدوات البلاغة العربیة القدیمة، وعبد الفتاح كلیطو فی "الأدب والغرابة" و"الحكایة والتأویل"، وكتابه "الغائب"، وعبد الله محمد الغذامی فی كتابیه "القصیدة والنص المضاد" و"المشاكلة والاختلاف".
حواشی
[1] الدكتور شكری فیصل: مناهج الدراسة الأدبیة فی الأدب العربی، دار العلم للملایین، بیروت، لبنان، الطبعة السادسة، 1986، ص:17-24؛
[2] نقلا عن أحمد نوفل بن رحال: دروس ابن یوسف، النجاح الجدیدة، الدار البیضاء، ط1، 2000، ص:95؛
[3] أحمد نوفل: نفسه، ص:97؛
[4] أحمد الإسكندری ومصطفى عثمان: الوسیط فی الأدب العربی وتاریخه، دار المعارف بمصر، ط1، 1916م،
[5] نفس المرجع السابق، ص:4-5؛
[6] عبد الله كنون: خل وبقل، المطبعة المهدیة، تطوان، المغرب، بدون تاریخ، ص:148-158؛
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:21|