ابزار وبمستر

وحشیات أبی تمام
وحشیات أبی تمام

بدأت فكرة الاختیارات الشعریة منذ العصر الأموی بدوافع متفاوتة الأهمیة مختلفة المقاصد، فمنها ما یتصل بالنزوع القبلی وما یقتضیه من ضرورة الحرص على مآثر القبیلة وفضائلها وتخلید مكارمها، وهذا لا یكون إلا بجمع أشعارها المتفرقة والحفاظ على دواوین شعرائها إن كانوا من المكثرین، فقد ذكر صاحب "الفهرست" أن الشیبانی جمع أ شعار أكثر من ثمانین قبیلة، وأن السكری جمع أشعار ذهل وشیبان وكنانة وغیرها من القبائل، كما جمع دواوین امرئ القیس والفرزدق وغیرهما من الشعراء، ومنها ما یتصل بالتأدب الخلقی العام وما یستتبع من تعلیم الفصاحة والبیان وتربیة النشء على مآثر الأجداد وفضائلهم، ومن هذا النوع كتاب المفضلیات الذی جمعه المفضل الضبی مؤدب المهدی بن المنصور، فأشار علیه المنصور بأن یختار لكل شاعر أجود ما قال، فأنفذ المفضل إشارته فكانت المفضلیات(1)، ثم تلا تلو المفضل الضبی فی هذا النهج عبد الملك بن قریب الأصمعی فصنع الأصمعیات، وأبو زید القرشی فصنع جمهرة أشعار العرب، ومنها ما یتصل بالخوف على اللغة بعد اتساع الدولة وتمازج الشعوب من أ ن تشوبها العجمة فتذهب بفصاحتها وصفائها، فنهض العلماء یثبتون قواعد اللغة والنحو مؤیدة بما وصل إلیهم من فصیح الشعر جاهلیه ومخضرمه، ولولا القرآن الكریم وهذه المجموعات الشعریة لاختلت موازین اللغة وضعفت السلائق وحار الدلیل.

على أن هذه الاختیارات بالإضافة إلى المعلقات لم تكن إلا أشتاتاً مختلطة من جیاد القصائد وروائع المقطعات لا تقوم على وحدة تقصد ولا نسق یراد، إلى أن جاء أبو تمام شاعر العربیة الكبیر فوضع دیوان الحماسة، فكان أول اختیار یقوم على التصنیف والتبویب ویعتمد على الفنون الشعریة الرائجة التی بلغت فی ذلك العصر غایة الامتیاز والوضوح، ثم اتبعه بالوحشیات وهو الحماسة الصغرى  التی سنقف عندها بعد قلیل.

وكأن فكرة الحماسة قد راقت عدداً من الأدباء بعد شیوعها وانتشارها وتبین أهمیتها، فنهضوا یقلدونها ویؤلفون على غرارها كتباً سموها الحماسة أیضاً جمعوا فیها ما تناثر من القصائد والمقطعات التی تجمع شرف المعنى وسمو المقصد ونادر الغرض إلى براعة الأداء وجمال العبارة وحسن التعبیر، حتى بلغت هذه الحماسات عشراً هی بحسب تتابعها الزمنی: "حماسة البحتری، وحماسة أبی بكر بن المرزبان، وحماسة أحمد بن فارس القزوینی، والحماسة العسكریة لأبی هلال العسكری، وحماسة الظرفاء من أشعار المحدثین والقدماء لأبی محمد عبد الله العبدلكانی الزوزنی، وحماسة الأعلم الشنتمری، والحماسة الشجریة لهبة الله العلوی بن الشجری، والحماسة البصریة لصدر الدین البصری، والحماسة المغربیة لأحمد بن عبد السلام الجراوی والحماسة للعباس بن علی البغدادی النجفی"(2).

على أن هناك مجموعات أخرى من المنتخبات والمختارات بلغت الثلاثین تقریباً لم تلتزم بتسمیة الحماسة وكان لها الفضل فی جمع الشعر العربی وحفظه إذ لا تزال مصدراً من المصادر التراثیة الوافیة.

وهذه الحماسة منها ما التزم أو قارب الالتزام بمنهج أبی تمام فی تقسیمه حماسته وتسمیة أبوابها، ومنها ما شذ عنه شذوذاً بعیداً ونحا نحواً وفقاً لقواعد ذوقیة أو أسس فكریة خاصة، فإذا كان أبو تمام قد جعل حماسته فی عشرة أبواب هی: باب الحماسة فالمراثی فالأدب فالتشبیب فالهجاء فالأضیاف والمدیح فالصفات فالسیر والنعاس فالملح فمذمة النساء فإن الشاعر البحتری قد فصل وأوسع فجعل حماسته فی مئة وأربعة وسبعین باباً، وأن ابن الشجری قد جعل حماسته فی خمسة عشر باباً وعشرین فصلاً، أما الوحشیات فقد جاءت مطابقة فی عدد أبوابها وتسمیاتها للحماسة الكبرى، مع تغییر طفیف لتسمیة الباب الثامن وهو باب السّیر والنعاس، إذ أطلق علیه أبو تمام فی الوحشیات باب المشیب.

ولقد طارت شهرة الحماسة فی الآفاق وانتزعت إعجاب القدماء من رجال الأدب واللغة، وتناصرت الآراء على أهمیتها حتى "وقع الإجماع من النقاد على أنه لم یتفق فی اختیار المقطعات أنقى مما جمعه أبو تمام(3)"، كما حكى الصولی أنه سمع المبرد یقول: سمعت الحسن بن رجاء یقول: ما رأیت أحداً قط أعلم بجید الشعر قدیمه وحدیثه من أبی تمام"(4)، ونقل التبریزی "أن أبا تمام فی اختیاره الحماسة أشعر منه فی شعره"(5)، بل أن كتاب الحماسة أصبح مضرب المثل فی الحسن والإتقان، فهذا البیهقی یترجم للقبیصی أحد علماء الفلك فی عصر سیف الدولة ویثنی على كتابه "المدخل إلى علم النجوم" فیقول "وهو فی كتب النجوم مثل كتاب الحماسة بین الأشعار".

فكان لابد للحماسة بعد ذلك أن یشمر للعنایة بها وشرحها عدد من العلماء اختلفت مذاهبهم وتنوعت اتجاهاتهم واهتماماتهم، فمنهم من شغلته المعانی الشعریة فأقبل یفسرها ویوضحها، ومنهم من قصر شرحه على مسائل الإعراب أو اللغة، ومنهم من تتبع النصوص فذكر الأخبار والأسباب التی قیل من أجلها الشعر، ومنهم من وقف شرحه على تصحیح نسبة الأبیات إلى أصحابها مع العنایة ببیان اشتقاق أسمائهم، فلا غرابة إذا رأینا الأستاذ فؤاد سیزكین یحفظ لنا فی سفره الجلیل "تاریخ التراث العربی" أسماء هذه الشروح التی بلغت ستة وثلاثین شرحاً(6)، على أن شرحی المرزوقی فالتبریزی یعدان من أوسع هذه الشروح وأبعدها شهرة وانتشاراً.

أما الوحشیات أو الحماسة الصغرى فلم تنل ما نالته الحماسة الكبرى من الحظوة والإقبال، ولم یلتفت إلیها العلماء بالشرح والدراسة، وقد یعزیها بعض العزاء أن أدیباً كبیراً فی عصرنا الحاضر هو الأستاذ عبد الله الطیب قد أصدر مجموعة مختارة من الشعر العربی أطلق علیها اسمه "الحماسة الصغرى"، والأشد من ذلك أن كتاب الوحشیات لم یأت على ذكره أحد من رجال الأدب القدماء إلا التبریزی فی مقدمة شرح الحماسة، والقاضی الباقلانی فی كتابه إعجاز القرآن: 177، والعینی فی شرح شواهد الألفیة بهامش الخزانة: ب 2: 404، أو لعله ذكر فی مواضع أخرى لم تكتشف بعد(7)، هذا مع أن أبا تمام قد اختاره كما یقول ناسخه البوازیجی بعد اختیاره كتاب الحماسة الكبرى ولم یروه، ولكن وجد بعده مكتوباً فی مسودة بخطه مترجماً بكتاب الوحشیات.

إلا أن الزمان أبى إلا أن ینتصف للوحشیات وینتشلها من مغاور النسیان أو الإهمال لترى النور زاهیة بهیّة فی إخراجها أنیقة فی طباعتها، إذ أتیح لها عالم جلیل ومحقق ثبت عرف بالغیرة على التراث الأدبی هو الأستاذ عبد العزیز المیمنی الراجكوتی أستاذ اللغة العربیة فی جامعة علّیكره- الهند، فقد حقق أبیاتها تخریجاً وضبطاً، وأشار إلى أصولها فی كتب الأدب ومجامیع الشعر، ورد بعض مقطعاتها إلى أصحابها، وذكر ما فیها من خلاف فی الروایة بعد سبر لغور معانیها بمسبار الفهم والرویة، معتمداً فی ذلك كله على نسخة فریدة فی دار الكتب المصریة مصورة عن الأصل المحفوظ بكتبخانة السلطان أحمد الثالث فی استنبول، ثم نهض علامة هذا العصر المحقق الأستاذ محمود شاكر فزاد فی حواشیها بما عنّ له من إشارات علمیة وتنبیهات ذكیة ومن بعض الشروح العارضة لغوامض الألفاظ التی تغنى النص وتزیده جلاءً ووضوحاً، ثم أعید النظر فی العمل بعد تمامه والفراغ منه فاستدرك العالمان الجلیلان على الحواشی ما یمكن أن یضاف إلیها من حصیلة المراجعة والتقلیب فی المصادر الأدبیة بعد رویة وأناة، وألحقا هذا المستدرك فی آخر الكتاب، ثم أتبعاه بخمسة فهارس تفصیلیة تعین أولی البحث والدراسة، فاجتمع بذلك جهد إلى جهد، وفضل إلى فضل، ثم دفعا الكتاب إلى دار المعارف فی مصر فظهر فی العدد الثالث والثلاثین من سلسلة ذخائر العرب سنة ثلاث وستین وتسعمائة وألف.

ومع ذلك فإن منهج العمل فیه ظل قائماً على التحقیق والضبط وتقدیم النصوص الشعریة على صورتها المثلى، وهو بعد بحاجة إلى مزید من الشرح والتفسیر والإیضاح مما یتمم العمل ویقاربه من حدود الكمال(8).

فلنرجع إلى ذلك الزمان ولندع التبریزی فی مقدمة شرحه للحماسة یحدثنا عن الظروف والملابسات التی أدت إلى تألیف هذین الكتابین.

یقول التبریزی: "وكان سبب جمع أبی تمام الحماسة أنه قصد عبد الله بن طاهر وهو بخراسان فمدحه... وعاد من خراسان یرید العراق، فلما دخل همذان اغتنمه أبو الوفاء بن سلمة فأنزله وأكرمه، فأصبح ذات یوم وقد وقع ثلج عظیم قطع الطریق ومنع السابلة، فغم أبا تمام ذلك وسر أبا الوفاء، فقال له: وطن نفسك على المقام، فإن هذا الثلج لا ینحسر إلا بعد زمان، وأحضر خزانة كتبه فطالعها واشتغل بها وصنف خمسة كتب فی الشعر منها كتاب الحماسة والوحشیات وهی قصائد طوال فبقی كتاب الحماسة فی خزائن آل سلمة یضنون به ولا یكادون یبرزونه لأحد حتى تغیرت أحوالهم، ثم ورد همذان رجل من أهل دینور یعرف بأبی العواذل فظفر به وحمله إلى أصبهان، فأقبل أدباؤها علیه ورفضوا ما عداه من الكتب المصنفة فی معناه، فشهر بهم، ثم فیمن یلیهم(9).

أما بقیة خمسة الكتب التی ذكرها التبریزی لأبی تمام عدا الحماستین فهی كتاب اختیار الشعراء الفحول أو فحول الشعراء "تلقط فیه محاسن شعر الجاهلیة والإسلام فأخذ من كل قصیدة شیئاً، حتى انتهى إلى إبراهیم بن هرمة"(10)، وكتاب الاختیار من أشعار القبائل، یقول الآمدی عنه: "اختار فیه من كل قبیلة قصیدة وقد مر على یدی هذا الكتاب"(11)، وكتاب نقائض جریر والأخطل الذی ثبت أنه منسوب إلیه خطأ.

لقد كان أبو تمام إذاً واحداً من الأعلام الأفذاذ فی الشعر والأدب، التقت فی شخصیته الأدبیة تیارات ثقافیة متنوعة كان المجتمع العربی إبان العصر العباسی یتفتح علیها ویغتنی بكنوزها، فنهل من الثقافة العربیة علوم القرآن والحدیث واللغة والمنطق وعلم الكلام، بالإضافة إلى الموروث الشعری الذی جمع ألوان الحكمة وفنون البیان، ونهل من الثقافة الیونانیة الفكر الفلسفی بما فیه من جدل عقلی ومطارحات ذهنیة، فظهر ذلك كله جلیاً فی مذهبه الشعری من حیث احتفال شعره بالمعانی المكثفة مما یحتاج إلى استنباط وشرح وتفسیر، فخرج بذلك عن مذهب الطبع والعفویة إلى مذهب الصنعة والتحكم العقلی، وتروی كتب الأدب أنه كان رجلاً یعد لمواهبه كل ما تحتاجه من خبرة علمیة ومعرفة فكریة، فغری بالكتب والمطالعة وعمق صلته بكل ما یمت إلى فن الشعر ویقوی الملكة ویرفد الموهبة، یقول ابن المعتز وهو یترجم لأبی تمام فی طبقاته: "حدثنی أبو الغصن محمد بن قدامة قال: دخلت على حبیب بن أوس بقزوین وحوالیه من الدفاتر ما غرق فیها فما یكاد یرى، فوقفت ساعة لا یعلم بمكانی لما هو فیه، ثم رفع رأسه فنظر إلی وسلم علی، فقلت له: یا أبا تمام، إنك لتنظر فی الكتب كثیراً وتدمن الدرس، فما أصبرك علیها! فقال: والله مالی إلف غیرها ولا لذة سواها، وإنی لخلیق أن أتفقدها أن أحسن، وإذا بحزمتین واحدة عن یمینه وواحدة عن شماله، وهو منهمك ینظر فیها ویمیزهما من دون سائر الكتب، فقلت: فما هذا الذی أرى من عنایتك به أوكد من غیره؟ قال: أما التی عن یمینی فاللات، وأما التی عن یساری فالعزى أعبدهما منذ عشرین سنة، فإذا عن یمینه شعر مسلم بن الولید صریع الغوانی وعن یساره شعر أبی نواس".

وهذا الخبر یجد ما یؤیده فی قول الآمدی: "فهذه الاختیارات تدل على عنایته بالشعر، وأنه اشتغل به وجعله وكده، واقتصر من كل الآداب والعلوم علیه، وأنه ما فاته كثیر من شعر جاهلی ولا إسلامی ولا محدث إلا قرأه وطالع فیه"(12).

أما تسمیة الكتاب بالوحشیات فلأنه ضم بین دفتیه شوارد من الشعر ومقطعات منها ما عرف قائلوها، وإن كانوا من المغمورین المقلین من شعراء الجاهلیة والعصر الإسلامی، ومنها ما ظل غفلاً من النسبة لم یعرف قائلوها، فكأن قارئها لم یأنس بها من قبل ولم تلامس سمعه ولم تسترع نظره، وإن كانت للمشهورین المعروفین من الشعراء، ففیها نقع على أبیات لعمر وبن معد یكرب وبشار بن برد والفرزدق وجریر وكثیر عزة وأبی نواس ومسلم بن الولید والمجنون وأبی العتاهیة.

وأما تسمیته بالحماسة الصغرى فلأنه لا یختلف عن كتاب الحماسة منهجاً وتبویباً، فكلاهما اختیار موسع لا یقف عند قبیلة واحدة أو شاعر واحد، وإنما یجمع من الشعر ما ینهض شاهداً على ذوق أبی تمام وعمق فهمه لفن الشعر ودوره فی الحیاة الإنسانیة، ولاسیما فی حیاة العرب الذین لم یكن لهم فن سواه، فكان مستودع أحلامهم ومستقر تصوراتهم، على أن الوحشیات أضیق حجماً من الحماسة وأقل عدد مقطعات، فإذا كانت الحماسة الكبرى قد بلغت نحواً من ثمانمئة وإحدى وثمانین مقطوعة فإن الوحشیات قد بلغت خمسمئة وثلاث مقطوعات، إلا أن باب الحماسة من الأبواب العشرة قد جاء فی مئة وتسع وتسعین وحشیة، وذلك لأن هذا الباب أوسع من غیره فی الشعر العربی بشكل عام.

"ولكن العجب كل العجب من التبریزی حین وصف الوحشیات بأنها قصائد طوال، وهذا ما یجعلنا نشكك فی اطلاعه علیها"(12)، إذ هی فی الغالب الأعم تتراوح عدة أبیات المقطوعة منها بین البیت الواحد وعشرة الأبیات، ولم یكد یخرج عن هذا العدد إلا أربع قصائد بلغ أطولها سبعة وأربعین بیتاً والثانیة خمسة وثلاثین بیتاً والثالثة خمسة وعشرین بیتاً والرابعة عشرین بیتاً.

ویتبین من البحث فی هذه المقطعات ما یلی:

1-إن أبا تمام كان یكتفی أحیاناً بإیراد عدد محدد من الأبیات ینتقیها من قصیدة تروى فی كتب الأدب تكون عدة  أبیاتها أكثر مما جاء فی الوحشیات، فنراه یروی لخلف الأحمر بیتین یهجو فیهما قوماً فیقول:

أناس تائهون لهم رواء                 تغیم سماؤهم من غیر وبلِ

إذا انتسبوا ففرع من قریش          ولكن الفعال فعال عُكلِ

والأبیات سبعة رویت فی عیون الأخبار وغیره من كتب الأدب، كما یروی ثلاثة أبیات للعتبی یرثی بها أولاده الستة الذین فقدهم فیقول:

وكنت أبا ستة كالبدور               فقد فقؤوا أعین الحاسدینا

فمرّوا على حادثات الزمان           كمرّ الدراهم بالناقدینا

وحسبك من حادث بامرئ           ترى حاسدیه له راحمینا

وهی اثنا عشر بیتاً فی عیون الأخبار أیضاً.

وهذا الانتقاء یدل لدى الفحص على أن أبا تمام قد مضى فی اختیاره وفق نهج مسبق یقوم على إبعاد فضول القول وحشو الكلام والاكتفاء بما قل من القصیدة ودل، وأما بقیة الأبیات فقد یراها تشتت التجربة وتفقدها التركیز والإیجاز، أضف إلى ذلك أن هذا المختار یسهل حفظه وتردیده والاستشهاد به فی مواقف الحیاة المماثلة وأما أن ندعی أن أبا تمام لم یكن یعرف بقیة الأبیات فهذا لا یقوم له دلیل ولا تدعمه حجة وهو أقرب عهداً بهؤلاء الشعراء وأوسع معرفة وأكثر حفظاً للشعر، وقد عرفنا من قبل أنه لم یكن یكتفی بما تملیه علیه حافظته، بل كان قد أقبل على خزانة الكتب فطالعها واشتغل بها كما یقول التبریزی.

2-إن أبا تمام كان یعمل قلمه فی بعض المفردات الشعریة فیغیرها ویبدلها كما یحلو له لیستقیم المعنى وتعتدل الفكرة ویأتی البیت فی صیاغته على حسب ما یرضی ذوقه ویصیب هواه، ولقد كان المرزوقی فی مقدمة شرحه للحماسة الكبرى قد تنبه لذلك وصرح به فی قوله: "حتى إنك تراه ینتهی إلى البیت الجید فیه لفظة تشینه، فیجبر نقیصته من عنده، ویبدل الكلمة بأختها فی نقده، وهذا یبین لمن رجع إلى دواوینهم فقابل ما فی اختیاره بها"(13)، ثم نجده فی شرحه للحماسیة ذات الرقم (347) یورد قول ابن العمید: "إنی لأتعجب من أبی تمام مع تكلفه رمّ جوانب ما یختاره من الأبیات، وغسله من درن بشع الألفاظ، كیف ترك تأمل قوله: فلیأت نسوتنا، وهذه لفظة شنیعة..".

وقد وقع الأمر نفسه فی الوحشیات غیر ما مرة، وأشار إلیه الأستاذ محمود شاكر فی زیاداته على الحواشی، واتهم أبا تمام مرة بالتخلیط وأخرى بالإفساد، ففی الوحشیة ذات الرقم (397) لكعب بن ذی الحبكة النهدی روى أبو تمام البیت الأول على هذا النحو:

أترجو اعتذاری یا بن أروى ورجعتی          عن الحق قدماً غال حلمَك غولُ

وروایته: "إلى الحق دهراً"، وذلك فی تاریخ الطبری (5: 97) ومعجم الشعراء للمزربانی (345) ومعجم البلدان مادة "دنیاوند"، ولا یخفى ما طرأ على المعنى من اختلاف جراء اختلاف الروایة. وفی الوحشیة ذات الرقم (471) روى أبیاتاً فی وصف أولها قول الشاعر:

یكفیك من قَلَع السماء مهندٌ                  فوق الذراع ودون بَوع البائع

وصواب الروایة كما فی الحیوان (5: 88): "قلع السماء عقیقة"، ویعلق الأستاذ محمود شاكر على هذا البیت بقوله: و "قلع السماء" قطع من السحاب كأنها الجبال، و"العقیقة" البرق یشق السحاب كأنه سیف مسلول، وأما أبو تمام فقد غیر الشعر فأفسده.

ولكنی أرى أن الضمیر فی الأبیات التالیة عائد إلى مذكر لا إلى مؤنث، إذ یقول الشاعر بعد ذلك:

صافی الحدیدة قد أضر بجسمه                 طول الدّیاس وبطنُ طیر جائع

أُمر المواطرُ والریاحُ بحمله             فحملنه لمضایر ومنافع

وهذا ما سوغ لأبی تمام فیما أعتقد تغییر اللفظ بما یتفق وسیاق الأبیات، هذا إلى أن روایة البیت فی الأشیاء والنظائر تطابق روایة الوحشیات.

ومع ذلك فإذا صحت هذه التهمة على أبی تمام وأن هذا التغییر لیس من عمل الرواة أو النساخ فإنها لا تنهض حجة مؤذنة بوصم الشاعر بالحیاد عن الأمانة فی النقل والروایة، وهذا الأستاذ عبد السلام هارون یقول: "وهذه التهمة: تهمة أبی تمام بتغییر النصوص التی اختارها والتی یدعمها المرزوقی فی أثناء شرحه بما یظهرها ویقویها كان جدیراً بها أن تنزل بقیمة الحماسة باعتبارها نصوصاً یستشهد بها فی علوم اللغة والعربیة، ولكنا نجد العلماء مجمعین على تزكیة أبی تمام فی الحماسة، وعلى تزكیة الحماسة ونصوصها، بل یعدون صنیعه فی الحماسة داعیة إلى الوثوق بشعر أبی تمام والاستشهاد بشعره، وفی ذلك یقول الزمخشری: "وهو وإن كان محدثاً لا یستشهد بشعره فی اللغة، فهو من علماء العربیة، فأجمل ما یقوله بمنزلة ما یرویه، ألا ترى إلى قول العلماء: الدلیل على هذا بیت الحماسة، فیقنعون بذلك لوثوقهم بروایته وإتقانه"(14).

3-إننا نجد فی بعض أبواب الوحشیات مقطعات یصعب أن تعد من الباب الذی هی فیه: إلا إذا حاولنا أن ندیم البحث فی مضمون هذه الأبواب وحقیقة تسمیاتها مقرین أن قضیة الفصل بین الفنون قضیة وثیقة الصلة بالمعنى الشعری لا بالشكل والصیاغة، وأن نظر أبی تمام فی فنون الشعر وأغراضه یتصف بالتمكن والإحكام، وهو الخبیر بمعانی الشعر، المدرك لآفاقه ومرامیه، إذ كان سباقاً إلى التمییز بین هذه الفنون على تشعبها أو تداخلها فی كثیر من الأحیان.

فهذان مثلاً بیتان للأحوص قد تضمنها باب الحماسة یقول فیهما(15):

فیا بعل لیلى كیف تجمع سلمها                وحربی وفیها بیننا كانت الحرب

لها مثل ذنبی الیوم إن كنتُ مذنباً              ولا ذنب لی إن كان لیس لها ذنب

فكیف نقتنع أنهما من الحماسة والشاعر فیهما یعرض طرفاً من مأساة حبه، وینكر على زوج محبوبته أن یقابل زوجته بالمسالمة ویقابل الشاعر بالمغاضبة وقد ثبت أن بینهما اتفاقاً فی العواطف لا یواریه الشاعر ولا یتخفى منه، وربما كان بینهما تواصل ولقاء. ولیس من المعقول أن یكون لفظ الحرب فی البیتین قد أدى أبا تمام إلى أن یسلكهما فی الحماسة.

والأعجب من ذلك أننا نجد فی باب الحماسة أیضاً أبیاتاً نسبها أبو تمام إلى عیسى بن فاتك وهو رجل من الخوراج، یقعد عن الحرب إشفاقاً على بناته، فهو یخشى إذا أصابته المنیة أن تنزل بهن الفاقة والبؤس والفقر، وأن یعشن بعده فی كنف جلف من الأعمام یظلمهن ولا یحسن إلیهن، فیقول(16):

لقد زاد الحیاة إلیَّ حباً                  بناتی إنهن من الضعاف

أحاذر أن یذقن البؤس بعدی                   وأن یشربن رنقاً بعد صاف

وأن یعرین إن كسی الجواری                  فتنبو العین عن كُرْمٍ عجاف

وأن یضطرهن الدهر بعدی           إلى جلف من الأعمام جاف

ولولاهن قد سومت مهری           وفی الرحمن للضعفاء كاف

تقول بنیتی أوص الموالی               وكیف وصاة من هو عنك خاف

والحماسة فی الأصل تعنی التشدد، ثم كثر استعمالها واتسع معناها حتى صارت تطلق على الشجاعة التی هی الأولى من صفات العرب وأم فضائلهم، لما فیها من معنى الشدة على النفس والقرن، وعلى هذا فإن أبا تمام حین اختار للحماسة لم ینظر إلى معناها الضیق المحسوس من الكر والفر والإیقاع بالأقران والتصدی للخصوم فی ساحات الحرب، بل نظر إلى معناها العام، وإلى بعض ما یتفرّع عنها من خصال كالنخوة والصبر على الأرزاء والمحن والاعتزاز بالشهامة فی وقت السلم وفی وقت الحرب، وعلى ذلك فكأن الشاعر الأحوص كان یرى من الحماسة أن یتحلى بعل لیلى بالنخوة والشهامة والصبر على الأرزاء، فیكبت غیظه ویكف أذاه ویكون له من عقله وحلمه ضابط لما اشرأب فی نفسه من غضب ونزق، ما دامت الزوجة قد اشتركت مع الشاعر فی الذنب.

ثم لعل هذا الشاعر الخارجی كان یرى من الحماسة التی تتضمن تلك المعانی السالفة أن یمكث إلى جوار بناته الضعیفات یرعاهن ویفیض علیهن من مشاعر الأبوة ما یكف عنهن الأذى ویحفظ علیهن كرامتهن، وأن حرمه ذلك من متعة الجهاد ومشاركة الفرسان فی مصاولة الأقران، فهذا كهذا حماسة ونجدة وحمیة.

ولقد كان المرزوقی قد أشار إلى هذه الظاهرة أیضاً فی شرحه دیوان الحماسة إذ وقف عند مقطوعتین تصوران عقوق الأبناء والدیهم ما یتوهم أنهما لیستا من باب الحماسة فی شیء فیقول(17): "فإن قیل: بماذا دخل هذه الأبیات وما یتلوها وهو فی معناها فی باب الحماسة؟ قلت: دخلت فیه بالمشكلة التی بینها وبین ما تقدمها من الأبیات المنبئة عن المفاسدة بین العشائر، وما یتولد فیها من الأحن والضغائن، المنسیة للتواشج والتناسب، المنشئة لهتك المحارم، المبیحة لسفك الدماء وقطع العصم، إذ كان عقوق البنین للآباء وتناسی الحرم فیه مثل ذلك وهو ظاهر بین".

ومع صلاح هذه التعلیلات فإن من الصعب أن نجد تسویغاً لوجود أبیات فی الخمرة والدعوة إلى الشراب قد سلكت فی باب النسیب إلا أن نقدّر كما قدر أبو تمام أن النسیب صِنْوُ الخمرة وتوأمها فی التأثیر فی النفس ودفعها إلى حالة واحدة من الانتشاء(18)، كما قال الشاعر متغزلاً(19):

هی الخمر فی حسن وكالخمر ریقها            ورقة ذاك اللون من رقة الخمر

وقد جُمِعَتْ فیها خمورٌ ثلاثةٌ          وفی واحد سكر یزید على السكر

وقد نبه المرزوقی أیضاً إلى دخول الحماسیات ذوات الأرقام (178 و 481 و 585) فی باب النسیب وهی لیست منه.

4-أن أبا تمام ساق هذه المقطعات عاریة عن ذكر المناسبة التی قیلت فیها، وبتعبیر آخر: أسقط عنها الثوب التاریخی الذی تتلفع به، ثم جاراه فی ذلك سائر أصحاب الحماسات والمختارات، ولقد نعلم أن الشعر العربی القدیم إبداع وثیق الصلة بمجریات الحیاة الیومیة شدید الارتباط بالفعل الواقعی وبالتجارب الخاصة، وأن ذكر المناسبة یضع القصیدة فی إطارها الزمانی والمكانی ویسهل على المتلقی فهمها وتذوقها، فبعض اللوحات الشعریة قد تتغلق فیها سبل التواصل بین الشاعر والقارئ ویعتاص الولوج إلیها ما لم تقدم بإشارة إلى الواقعة الحیة التی حفزت الشاعر إلى صیاغتها وإیداع أفكاره وعواطفه فیها، وما أظن هذه الظاهرة التی تتبدى فی الوحشیات وفی الحماسة أیضاً من قبیل الإهمال أو السهو، فربما تبین للمتأمل أن شاعرنا الفذ كان قد قصد إلى ذلك قصداً حین أدرك بذكائه المرهف وحسه الشعری النفاذ أن الإبداع الشعری أمر یختلف كل الاختلاف عن عملیة تسجیل الوقائع والأحداث، فالشاعر یسعى إلى تسجیل ماهو محتمل وممكن لا ما هو آنی واقعی، وبما أن الشعر یلهم ولا یعلم نراه ینزع إلى الإثارة وتنمیة الحس الجمالی بالحیاة، فكأن أبا تمام حین جعل هذه المقطعات تنسل من خیام عصرها وتتفلت من ذاكرة زمنها أرادها أن تنطلق فی زمن أرحب وعصر أوسع لتحل فی ذاكرة المستقبل خالدة متجددة، ثم لیقف القارئ أمام الأبیات، ولیستوح منها ما یشاء وفق طبیعته وبنیته النفسیة واستعداده الفنی، ولیخرج منها بتصورات وانطباعات ربما تختلف أو تتفق وتصورات الشاعر وانطباعاته فی زمن القصیدة الخاص، وبذلك یصبح الشعر نفسه باعثاً محرضاً یهیمن على القارئ ویحرك وجدانه وروحه ویضعه فی بؤرة الإبداع والإلهام.

5-آن لنا بعد لك كله أن نتساءل: ما المعیار الفنی الذی اهتدى إلیه أبو تمام فی اختیاره هذه المقطعات، فالوحشیات كتاب، والكتاب سواء أكان جمعاً أم تألیفاً یقوم على خطة بینة ومنهج سدید ورؤیة تحدد معالمه وتوحد أصوله، وقبل الإجابة عن هذا السؤال یحسن بنا أن نتحرى الفروق بین القصائد والمقطعات، إذ أن الوحشیات ومثلها الحماسة غلبت علیها المقطعات القصیرة التی تصل فی بعض الأحیان إلى بیت واحد مفرد، فالقصائد غالباً ما تكون طویلة تصور تجربة شمولیة ذات استشراف واسع یمتد فیها النفس وتكثر التفصیلات، وربما تشتمل على عدد من الأغراض والموضوعات، ولهذا تقتضی العنایة الفنیة وجودة البناء وحسن المدخل وبراعة التخلص والانتقال، أما المقطعات فهی معاناة مباغتة تصور حالة انفعالیة فی موقف انفعالی عابر، وإن كانت فی الغالب حادة قاسیة، ولهذا تقتضی التركیز والتكثیف وتتطلب التعبیر القائم على الإشارة والإیجاز.

ولقد كان المرزوقی قد تعرض لهذا المعیار وجعل له حیزاً فی مقدمة شرحه للحماسة فرأى (20) "أن أبا تمام كان یختار ما یختار لجودته لا غیر، ویقول ما یقوله من الشعر بشهوته، والفرق بین ما یشتهى وما یستجاد ظاهر".

ففی هذا القول ما یدل على أن المرزوقی یرى أن مذهب أبی تمام فی اختیاره یختلف عن مذهبه فی شعره، ثم نفاجأ بعد سطرین من هذا الكلام بقوله: "وهذا الرجل لم یعمد من الشعراء إلى المشتهرین منهم دون الإغفال، ولا من الشعر إلى المتردد على الأفواه، المجیب لكل داع، فكان أقرب، بل اعتسف فی دواوین الشعراء جاهلیهم ومخضرمهم، وإسلامیهم ومولدهم، واختطف منها الأرواح دون الأشباح، واخترف الأثمار دون الأكمام، وجمع ما یوافق نظمه ویخالفه لأن ضروب الاختیار لم تخف علیه، وطرق الإحسان والاستحسان لم تستتر عنه".

ولا یخفى ما فی كلام المرزوقی من تناقض فی الحكم وتعارض فی الرأی على ما فیه من رغبة واضحة فی إنصاف أبی تمام ووصفه بالاعتدال والموضوعیة، وعندی أن أبا تمام فی اختیاره لم یغادر فی قلیل ولا كثیر مذهبه الذی ارتضاه لنفسه وطریقته التی استنها لشعره، فإنه وإن كان من غیر المعقول أن یجد فی شعر السابقین له ممن عاشوا فی عصر غیر عصره واغتذوا بثقافة غیر ثقافته ما یتفق ومذهبه كل الاتفاق من حیث الإكثار من المجاز، والاعتماد فی الشعر على العقل ومقاییسه المنطقیة، وعلى البدیع وما یفید فی تلوین المعنى وتشقیقه لم یأل جهداً فی البحث عن الشعر الذی ینصرف إلى المضمون دون الشكل، وإلى ما فیه معنى جدید فی تصویر المواقف الإنسانیة المتأزمة والحالات النفسیة المتصادمة، والعدول عن الشعر الذی تصفو ألفاظه وتروق عباراته ویطرب إیقاعه، وفی ذلك ما فیه من الالتزام برؤیته الخاصة للشعر وموقفه من أصوله مما یثبت أحد شقی كلام المرزوقی حین قال: "واختطف منها الأرواح دون الأشباح واخترف الأثمار دون الأكمام" وهل كان قصد أبی تمام فی شعره، إلا إلى أرواح المعانی وأثمارها دون أشباح الأسالیب وأكمامها، وهو الذی یصف شعره بقوله:

ولكنه صوب العقول إذا انجلت               سحائب منه أعقبت بسحائب

فهذا باب الحماسة یغص بالمواقف التی یصل فیها الشاعر إلى حد من الهیاج النفسی والانفعال المحتدم مما لا یقل براعة وتأثیراً عن أقوى المشاهد المأساویة التی یعرضها شكسبیر فی مسرحیاته، فمن ذلك مثلاً ما قاله توبة بن مضرس السعدی إذ قتل رهط خاله أخویه طارقاً ومرداساً، فجزع علیهما جزعاً شدیداً، وقال فیهما مراثی جیدة، وظل یبكیهما حتى طلب إلیه الأحنف بن قیس أن یكف، فلما أبى لقبه بالخنّوت وهو الذی یمنعه الغیظ أو البكاء عن الكلام، ثم بدا له أن یقتل خاله ثأراً لأخویه، ولو أدى ذلك إلى تفطر قلب أمه رمیلة حزناً على أخیها، ففعل وقال(21):

بكت جزعاً أمی رُمیلة أن رأت                دماً من أخیها فی المهند باقیا

فقلت لها لا تجزعی أن طارقاً          خلیلی الذی كان الخلیل المصافیا

وما كنت لو أُعطیت ألفی نجیبة                وأولادَها لغواً وستین راعیا

لأقبلها من طارق دون أن أرى                 دماً من بنی عوف على السیف جاریا

وما كان فی عوف قتیل علمته                  لیوفینی من طارق غیر خالیا

وهذا نهیك القشیری یُقتل واحد من أفراد عشیرته، ویلطخ الدم ثیابه وینتهب بزه، لم لا تهب العشیرة للثأر، ویقعد زعماؤها وأولیاء أمورها متخاذلین مستكینین إلى الملذات، یتعاطون الخمور وینعمون بالسمر على ضفاف الینابیع والغدران، فیلتهب غیظاً منهم وغضباً، ویمتزج الغیظ بالأسف الهادر فی داخله، فیفضح شأنهم ویعلن على الملأ مثالبهم، ثم یلتفت إلیهم مهدداً متوعداً فیقول(22):

ألهى موالیَّ الخمور وشربُها            وعقیلةُ الوادی ونهی الأخرمِ

وأخوهم فی القوم یُقسم بزُّه          بثیابه ردعٌ كلون العندم

ضربت علیَّ الخثعمیة نحرها           إن لم أصبحكم بأمر مبرم

تعدو به فرسی وترقص ناقتی          حتى یشیع حدیثكم فی الموسم

وتطالعنا فی باب الهجاء أبیات حادة الوقع شدیدة الأسر تتعاظم فیها شكوى الشاعر من ابنه الذی أساءت أمه تربیته، فانتهب مال أبیه وعقه ولم یراع كبر سنه وانحناء عظامه، ثم مضى لا یرجى منه البر والإحسان فیقول(23):

تظلَّمنی مالی خلیجٌ وعقنی             على حین صارت كالحنیّ عظامی

وكیف أرجِّی البر منه وأمه           حَرامیَّة، ما غرنی بحرام

لعمری لقد ربیته فرحاً به             فلا یفرحن بعدی أب بغلام

ویضم باب النسیب بیتین لمجنون بنی عامر یرسمان صورة فذة لحالة النفس العاشقة حین تثقل علیها وطأة الحب وتلهبها لفحات الذكرى، فإذا بالمفردات الحیة المجسدة تغدو بدیلاً موضوعیاً للإحساس المجرد الموغل فی طغیانه وهیمنته فیقول(24):

كأن بلاد الله حلقة خاتم               علیَّ فما تزداد طولاً ولا عرضاً

كأن فؤادی فی مخالیب طائر           إذا ذكرتك النفسُ زاد به قبضا

وفی باب النسیب أیضاً یطالعنا بوح شجی ملفع بالخجل والتصون والخشیة یترقرق من امرأة من طیئ تتجاذبها قوتان عارمتان لا تستطیع لهما دفعاً، قوة یستفزها القلب بما فیه من شهوة وعاطفة وصبوة، وقوة یستفزها العقل بما فیه من تحكم وأناة وامتثال للقیم، فإذا بها ترى محبوبها أصفى من ماء المزن الذی تجمع فی الأودیة فمرت علیه النسائم الصیفیة فجردته من القذى فغدا عذباً نقیاً لذة للشاربین، ولكن أنى لها أن تستجیب له وتنهل منه وهی التقیة التی تخشى على نفسها من عواقب الإثم والخطیئة فلتمض فی طریقها على ما فی النفس من حرارة الظمأ ولتسجل هذه الخلجات فی هذه الأبیات(25):

فما ماء مزن من شماریخ شامخ                 تحدر من غرٍّ طوال الذوائب

بمنعرج أو بطن واد تحدرت           علیه ریاح الصیف من كل جانب

نفى نسمُ الریح القذى عن متونه              فلیس به عیب تراه لشارب

بأطیبَ ممن یقصر الطرفَ دونه                 تقى الله واستحیاءُ بعض العواقب

وحسبی ما عرضت من قطوف أبی تمام وعناقید اختیاراته شاهداً على ذوقه الرفیع الثاقب وشاعریته التی تجلت فی إبداعه كما تجلت فی اختیاره، وأخلق بالحماسة الصغرى هذه أن تسمى الأنسیات بعد أن ظلت قروناً مدیدة ترفل بثیاب الوحشیات.

محمد كمال- حلب

*       *       *

الحواشی:

(1)ذیل الأمالی: 132.

(2)فؤاد سیزكین. تاریخ التراث العربی، الشعر: 106-120.

(3)دیوان الحماسة، شرح المرزوقی: 10.

(4)المصدر السابق: 14.

(5)شرح التبریزی للحماسة: 1: 3.

(6)الحاشیة رقم (2).

(7)محمود شاكر، مقدمة الوحشیات: 10-11.

(8)بدا لی أن أزید فی حواشی الكتاب ما ظهر لی عرضاً من ملاحظات:

-الحاشیة ذات الرقم (27): البیتان الأخیران فی دیوان المعانی.

-الحاشیة ذات الرقم (186): فی (اللسان: قزع): وقال ابن الأعرابی هو للكمیت بن ثعلبة. وكذلك نسب الآمدی البیت الثانی فی الموازنة: 56 إلى الكمیت بن ثعلبة.

-الحاشیة ذات الرقم (339): فی الأغانی 20/106 الأبیات منسوبة إلى ابن أبی عیینة.

(9)شرح التبریزی الحماسة: 1: 4.

(10)الآمدی، الموازنة: 55.

(11)المصدر السابق.

(12)الراجكوانی: الوحشیات المقدمة.

(13)المرزوقی- شرح دیوان الحماسة: 14.

(14)عبد السلام هارون، مقدمة تحقیق دیوان الحماسة: 9.

(15)الوحشیة: 144.

(16)الوحشیة: 138.

(17)المرزوقی، شرح دیوان الحماسة: ص756.

(18)انظر الوحشیات: 314- 315- 339-344.

(19)الوحشیة: 301.

(20)ص13.

(21)الوحشیة: 121.

(22)الوحشیة: 166.

(23)الوحشیة: 404، ویبدو أن أبا تمام خلط بین اللعین المنقری واسمه منازل بن زمعة وصاحب هذه الأبیات واسمه منازل بن فرعان، أو أن نسبة الأبیات إلى اللعین من عمل النساخ، والغریب أن فرعان أبا منازل كان قد تزوج على أمه امرأة شابة، فغضب منازل واستاق إبل أبیه واعتزل مع أمه، فقال فیه فرعان أبیاتاً رواها أبو تمام فی دیوان الحماسة (الحماسیة ذات الرقم 603).

(24)الوحشیة: 327.

(25)الوحشیة: 337.

*      *       *

المراجع:

(1)الأعلام للزركلی.

(2)الأمالی لأبی علی القالی.

(3)تاریخ التراث العربی لفؤاد سیزكین.

(4)حماسة أبی تمام.. شرح المرزوقی.

(5)شرح أبی تمام.. شرح التبریزی.

(6)دراسة فی حماسة أبی تمام لعلی النجدی ناصف.

(7)عیون الأخبار لابن قتیبة.

(8)الفهرست لابن الندیم.

(9)الموازنة للآمدی.

(10)الوحشیات.. تحقیق عبد العزیز المیمنی الراجكوانی.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:22|