تفسیر أرجوزة أبی نواس فی
تقریظ الفضل بن الربیع
(الطبعة الثانیة 1400ه-1979م) - لطیفة الشهابی
كثیراً ما یحلو للمرء أن
یرجع بذاكرته إلى الوراء وأن یستعید الماضی، ولاسیما حین یكون هذا الماضی
مشرقاً مضیئاً. ومن هنا فإننا نحن العرب، نشعر بنشوة أیما نشوة حین تمر
أمام مخیلتنا شرط الماضی الجمیل وإن من أجمل ما یحمله ماضینا ذلك التراث
الثقافی الواسع، وتلك اللغة التی وسعت جوانب ذلك التراث، بعد أن وسعت كتاب
الله، والتی ما زلنا نتمتع بقراءتها وسماعها، وما زالت من أبرز الروابط
التی تربط مواطنینا العرب من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن أقصى الشمال
إلى أقصى الجنوب. فكأننا ونحن نعیش مع هذه اللغة الآن، نعیش معها بُعد
العمق فی ماضینا. وهذا العمق نسبی دائماً، شأنه شأن الماضی ذاته. فنحن نعیش
الآن مع أبی نواس على أنه ماض قدیم بینما عاش معه معاصروه، وهو حدیث مبدع
مجدد متحضر یحاول فی بعض قصائده أن یقلد القدماء أو الأعراب المغرقین فی
بداوتهم وفصاحتهم.
فقد أراد أولئك الشعراء المحدثون فی العصر العباسی، الذین أثرت فهم الحضارة ورققتهم حیاة المدن أن یثبتوا للعلماء واللغویین أنهم لیسوا أقل قدرة على استیعاب الغریب وتضمینه أشعارهم من أولئك البداة الجفاء من الرجاز أمثال رؤبة والعجاج. وهكذا نظم أبو نواس أرجوزته فی مدح الفضل بن الربیع، سالكاً سبیل أولئك الرجاز المعروفین مثلما فعل بشار من قبله حین تحداه عقبة بن رؤبة، وكان هذا الأخیر ینشد عقبة بن سلم رجزاً، فقال لبشار: (هذا طراز لا تحسنه أنت یا أبا معاذ، فقال بشار: ألی یقال هذا؟! أنا والله أرجز منك ومن أبیك وجدك، فقال له عقبة: أنا والله وأبی فتحنا للناس باب الغریب، وباب الرجز، والله إنی لخلیق أن أسده علیهم، فقال بشار: ارحمهم رحمك الله، فقال عقبة: أتسخف بی یا أبا معاذ وأنا شاعر ابن شاعر ابن شاعر؟.. ثم خرج من عند عقبة مغضباً، فلما كان من غد غدا على عقبة وعنده عقبة ابن رؤبة، فأنشده أجوزته التی یمدحه فیها ومطلعها:
یا طلل الحی بذات الضمد بالله خبر كیف كنت بعدی
وهكذا كانت أرجوزة بشار المطولة المتنوعة الأغراض والأفكار المحشوة بالغریب الفائضة بالجزالة والقوة تحدیاً صریحاً، كما یؤكد هذا الخبر، لأولئك الرجاز وأمثالهم من الشغوفین بالغریب والجزل من القول.
وربما أمكن أن یقال مثل هذا فی أرجوزة أبی نواس التی مدح بها الفضل ابن الربیع.
وإذا كانت الكتب القدیمة لم تسرد لها خبراً صریحاً یفید التحدی، فإن مجرد مقارنتها بأشعار أبی نواس الأخرى، وما تتسم به تلك الأشعار من وضوح وبعد عن الغریب، ربما دفعنا إلى تصور هذا التحدی المقصود ولاسیما أننا نلاحظ ظاهرة الجزالة والقوة بارزتین فی أشعار المدیح التی قدمها أبو نواس بین یدی الرشید وغیره من وجوه الدولة العباسیة. فكأنما غرض الشاعر أن یثبت مقدرته الكاملة أمام أولئك العرب؛ أو كأنه یدرك أن أذواقهم لا تستریح إلا لهذا النوع من الشعر، وإن كانت تلك القصائد لا تصل إلى ما وصلت إلیه الأرجوزة من الغریب.
وقد طلب أحد أصحاب ابن جنی منه أن یفسر له هذه الأرجوزة، فاستجاب عالمنا الجلیل لرغبته وعمد إلى تفسیرها وتوضیحها.
وجاء الأستاذ محمد بهجة الأثری فأبرز هذا التفسیر إلى عالم الكلمة المطبوعة مضیفاً إلیه كل ما یحتاجه من مقدمات وتعریفات وتحقیقات وتذییلات رآها لازمة.
وبین یدی من هذا الكتاب نسخة من طبعته الثانیة التی طبعها مجمع اللغة العربیة فی دمشق عام 1400ه-1979م.
قدم الأستاذ الأثری لهذه الطبعة بمقدمة مطولة تجاوز عدد صفحاتها تسعین صفحة، جعلها ذات أقسام:
القسم الأول عرف فیه بالكتاب وهو تفسیر أرجوزة أبی نواس لأبی الفتح عثمان ابن جنی، وذكر فیه أن ابن جنی نفسه كان واحداً من حفاظ هذا الرجز والمعنیین به. ومن هنا سأله بعض أصحابه من هؤلاء الشبان البغدادیین أن یفسره له، فاستجاب أبو الفتح "قضاء لحق مودته"، وإن ابن جنی على ما عرف عنه من علم وسعة، كان قد ذكر أنه قرأ الأرجوزة على أستاذه أبی علی الفارسی (لیضم علمه إلى علمه، ویزداد به فهماً لما هو مقبل على شرحه).
ویعدد لنا الأستاذ الأثری فی هذه المقدمة بعض فوائد هذا الشرح؛ وأولها (أنه یصحح لنا بعض شعر هذا الشاعر العظیم الذی انتشر التحریف والفساد فی شعره قدیماً، وزادته الأیام سوءاً). وثانیها (أن ابن جنی قد سجل به مرحلة جدیدة فی كتابة شروح الأشعار القدیمة والمحدثة، وتطویرها بالانتقال من طور الوقوف عند تفسیر الغریب وتدوین اختلاف الروایات إلى طور التوسع فی هذا الشرح وتشقیق الكلام فی فنون شتى من المعارف اللغویة والأدبیة وغیرها).
ویورد لنا المحقق الأدلة الصحیحة المؤكدة نسبة هذا الكتاب إلى ابن جنی، ثم یذكر لنا النسخة التی اعتمدها فی تحقیقه، وكانت نسخة واحدة صادفها فی المدینة المنورة لم یستطع العثور على سواها قبل الطبعة الأولى، ولكنه اعتمد معها على كتب ابن جنی الأخرى فی تحریر هذه النسخة وتصحیحها، كما اعتمد على المعجمات اللغویة، وأخیراً على شروح الشواهد ودواوین الشعراء. ثم عمد إلى زیادة ما تجب زیادته فی الهوامش ففسر ما أهمل ابن جنی تفسیره، ورقم الآیات القرآنیة، وخرج الأحادیث الشریفة، وتقصى الشواهد الشعریة، وترجم للأعلام ترجمات وافیة.
وقد سرد لنا الأرجوزة متوالیة بعد التعریف بالكتاب، مفصولة عن الشرح، وانتقل بعدها فی القسم التالی من المقدمة إلى التعریف بالفضل بن الربیع، فترجم لحیاته وعرفنا بالفترة التاریخیة التی كان یعیش فیها، وبین مركزه فی الدولة العباسیة وطبیعة صلاته مع الخلفاء العباسیین.
ثم وضع أمامنا ترجمة لأبی نواس المادح بعد أن عرفنا بالممدوح، فأعطانا صورة معتدلة الألوان والخطوط لهذا الشاعر الذی اكثرت الكتب القدیمة من الحدیث عنه ومنحته ملامح مضطربة من بعض جوانبها، فحاول المحقق أن یزیل بعض الخطوط التی اعتقدها وهمیة أو بعیدة عن الصحة.
وأخیراً فی القسم الرابع من المقدمة التفت الكاتب المحقق إلى مؤلف هذا الشرح (أبی الفتح عثمان بن جنی) فترجم لحیاته ترجمة مناسبة ذاكراً أصله ونسبه وثقافته، وأساتذته، ومذهبه الدینی، وضابطاً اسمه أو نسبته ومتحدثاً عن مؤلفاته وعن المراجع التی أشارت إلى هذه المؤلفات.
وقد ذكر أن مؤلفات ابن جنی تبلغ الخمسین كتاباً، ولكن ما وصل منها إلى دور المطابع لا یكاد یزید على اثنی عشر كتاباً.
وأخیراً عمد إلى مقدمة أخرى موجزة خصصها للطبعة الثانیة، وهی التی بین أیدینا، وأشار فیها إلى أنه اعتمد لهذه الطبعة مخطوطة أخرى لندنیة إضافة إلى مخطوطة الطبعة الأولى التی كان عثر علیها فی المدینة المنورة. وبین أوجه الالتقاء والاختلاف بین المخطوطتین، ثم ختم مقدمته بمجموعة صور عرضها لبعض صفحات المخطوطتین، مخطوطة المدینة ومخطوطة المتحف البریطانی.
وقد بلغت هذه الأقسام المتنوعة للمقدمة ما یزید على التسعین صفحة رقمها المؤلف بالأرقام غیر العربیة تمییزاً لهان على ما یبدو، عن صفحات الكتاب، التی بدأها بالأرقام العربیة، فكانت مئتین وسبع عشرة صفحة. ثم تلت الكتاب صفحات خمس صحح فیها المحقق ما وقع من أخطاء فی الطبع. وأتبع ذلك بفهرس للألفاظ اللغویة وإلى جانبها معانیها الموجزة بما یقارب السبع عشرة صفحة ثم فهرس المسائل:
آ-مسائل علم العربیة: النحو، الصرف، الاشتقاق.
ب-مسائل العروض والقافیة.
ج-مسائل البیان.
د-مسألة فقهیة.
ه-فوائد أدبیة.
وأتبع ذلك بفهرس الآیات القرآنیة ثم الأحادیث الشریفة وبعدها الأمثال یلیها فهرس أسماء القصائد ثم الأیام والحروب ویلی ذلك فهرس الأشعار ثم الأعلام ثم فهرس الأمم والقبائل والأسر والمذاهب، وقد أشار فی حاشیته إلى أنه لم یضمنه أسماء القبائل والأسر والمذاهب التی وردت فی مقدمة التحقیق. وبعده فهرس البلدان والأمكنة والبقاع.
وأخیراً أشار إلى مراجع المقدمة والتحقیق والتعلیق، فكان تحقیقاً متمیزاً وجهداً مشكوراً أعادنا فیه الأستاذ محمد الأثری إلى صفحات من تراثنا الخالد فی الشعر واللغة والغریب، والشرح والتفسیر، وأسبق لنا هذه الصفحات بمقدمات مفصلة تناول فیها الشاعر المادح، والشخصیة الممدوحة، والمؤلف الشارح لذلك المدح، والجهد الذی بذل لإبراز ذلك كله، ثم عقب بعد تحقیق ذلك الشرح بالفهارس والذیول المتنوعة الكافیة لتسهیل العودة إلى كل ما یحتاجه القارئ من هذا الكتاب.
جزى الله شاعرنا أبا نواس وعالمنا ابن جنی ومحققنا محمد بهجة الأثری خیر الجزاء على ما بذلوه لخدمة تراثنا وحفظ لغتنا التی هی الركن الخالد من أركان حضارتنا فی ماضینا وحاضرنا، والله لا یضیع أجر من أحسن عملاً.
ومن حق القارئ علینا فی الختام أن نذكر له مطلع هذه الأرجوزة الموسومة بمنهوكة أبی نواس لأنها من منهوك الرجز:
وبلدة فیها زور صعراء تخطى فی صقر
وكأنی بالقارئ حین یعلم أن أ بیات هذه الأرجوزة تنوف على الخمسین بیتاً لن یستغرب أن یأتی شرحها كتاباً برمته. فأی غریب ذاك الذی جشم أبو نواس نفسه مشقة إیراده فی هذه الأرجوزة التی بدأها بوصف البقاع العسیرة والاجتیاز، ثم وصف الجمَل القوی الذی كان مطیة الانتقال عبر هذه البقاع والتی كانت طریقه إلى الممدوح. ثم أخذ بعد ذلك بالمدیح؛ متنقلاً بین شتى الخصال التی یعتز بها العربی بعبارات موغلة فی الصعوبة والغرابة لا یكاد یخیل لقارئها أن قائلها نفسه هو الذی قال:
عاج الشقی على رسم یسائله وعجت أسأل عن خمارة البلد
یبكی على طلل الماضین من أسد لا در درك قل لی من بنو أسد
دع ذا عدمتك واشربها معتقة صفراء تفرق بین الروح والجسد
فاشرب وجد بالذی تحوی یداك لها لا تدخر الیوم شیئاً خوف فقر غد
وقال أیضاً فی مدح الفضل:
یا فضل جاوزت المدى فجللت عن شبه النظیر
أنت المعظم والمكبر فی العیون وفی الصدور
حتى تعصرت الشبیبة واكتسبت من القتیر
عف المداخل والمخارج والغریزة والضمیر
فأی سهولة ووضوح هنا، وأی صعوبة ووعورة هناك؟! ولكنه التحدی والرغبة فی إثبات القدرة على مجاراة الأوائل وهواة أسالیبهم ومدارسهم.
فقد أراد أولئك الشعراء المحدثون فی العصر العباسی، الذین أثرت فهم الحضارة ورققتهم حیاة المدن أن یثبتوا للعلماء واللغویین أنهم لیسوا أقل قدرة على استیعاب الغریب وتضمینه أشعارهم من أولئك البداة الجفاء من الرجاز أمثال رؤبة والعجاج. وهكذا نظم أبو نواس أرجوزته فی مدح الفضل بن الربیع، سالكاً سبیل أولئك الرجاز المعروفین مثلما فعل بشار من قبله حین تحداه عقبة بن رؤبة، وكان هذا الأخیر ینشد عقبة بن سلم رجزاً، فقال لبشار: (هذا طراز لا تحسنه أنت یا أبا معاذ، فقال بشار: ألی یقال هذا؟! أنا والله أرجز منك ومن أبیك وجدك، فقال له عقبة: أنا والله وأبی فتحنا للناس باب الغریب، وباب الرجز، والله إنی لخلیق أن أسده علیهم، فقال بشار: ارحمهم رحمك الله، فقال عقبة: أتسخف بی یا أبا معاذ وأنا شاعر ابن شاعر ابن شاعر؟.. ثم خرج من عند عقبة مغضباً، فلما كان من غد غدا على عقبة وعنده عقبة ابن رؤبة، فأنشده أجوزته التی یمدحه فیها ومطلعها:
یا طلل الحی بذات الضمد بالله خبر كیف كنت بعدی
وهكذا كانت أرجوزة بشار المطولة المتنوعة الأغراض والأفكار المحشوة بالغریب الفائضة بالجزالة والقوة تحدیاً صریحاً، كما یؤكد هذا الخبر، لأولئك الرجاز وأمثالهم من الشغوفین بالغریب والجزل من القول.
وربما أمكن أن یقال مثل هذا فی أرجوزة أبی نواس التی مدح بها الفضل ابن الربیع.
وإذا كانت الكتب القدیمة لم تسرد لها خبراً صریحاً یفید التحدی، فإن مجرد مقارنتها بأشعار أبی نواس الأخرى، وما تتسم به تلك الأشعار من وضوح وبعد عن الغریب، ربما دفعنا إلى تصور هذا التحدی المقصود ولاسیما أننا نلاحظ ظاهرة الجزالة والقوة بارزتین فی أشعار المدیح التی قدمها أبو نواس بین یدی الرشید وغیره من وجوه الدولة العباسیة. فكأنما غرض الشاعر أن یثبت مقدرته الكاملة أمام أولئك العرب؛ أو كأنه یدرك أن أذواقهم لا تستریح إلا لهذا النوع من الشعر، وإن كانت تلك القصائد لا تصل إلى ما وصلت إلیه الأرجوزة من الغریب.
وقد طلب أحد أصحاب ابن جنی منه أن یفسر له هذه الأرجوزة، فاستجاب عالمنا الجلیل لرغبته وعمد إلى تفسیرها وتوضیحها.
وجاء الأستاذ محمد بهجة الأثری فأبرز هذا التفسیر إلى عالم الكلمة المطبوعة مضیفاً إلیه كل ما یحتاجه من مقدمات وتعریفات وتحقیقات وتذییلات رآها لازمة.
وبین یدی من هذا الكتاب نسخة من طبعته الثانیة التی طبعها مجمع اللغة العربیة فی دمشق عام 1400ه-1979م.
قدم الأستاذ الأثری لهذه الطبعة بمقدمة مطولة تجاوز عدد صفحاتها تسعین صفحة، جعلها ذات أقسام:
القسم الأول عرف فیه بالكتاب وهو تفسیر أرجوزة أبی نواس لأبی الفتح عثمان ابن جنی، وذكر فیه أن ابن جنی نفسه كان واحداً من حفاظ هذا الرجز والمعنیین به. ومن هنا سأله بعض أصحابه من هؤلاء الشبان البغدادیین أن یفسره له، فاستجاب أبو الفتح "قضاء لحق مودته"، وإن ابن جنی على ما عرف عنه من علم وسعة، كان قد ذكر أنه قرأ الأرجوزة على أستاذه أبی علی الفارسی (لیضم علمه إلى علمه، ویزداد به فهماً لما هو مقبل على شرحه).
ویعدد لنا الأستاذ الأثری فی هذه المقدمة بعض فوائد هذا الشرح؛ وأولها (أنه یصحح لنا بعض شعر هذا الشاعر العظیم الذی انتشر التحریف والفساد فی شعره قدیماً، وزادته الأیام سوءاً). وثانیها (أن ابن جنی قد سجل به مرحلة جدیدة فی كتابة شروح الأشعار القدیمة والمحدثة، وتطویرها بالانتقال من طور الوقوف عند تفسیر الغریب وتدوین اختلاف الروایات إلى طور التوسع فی هذا الشرح وتشقیق الكلام فی فنون شتى من المعارف اللغویة والأدبیة وغیرها).
ویورد لنا المحقق الأدلة الصحیحة المؤكدة نسبة هذا الكتاب إلى ابن جنی، ثم یذكر لنا النسخة التی اعتمدها فی تحقیقه، وكانت نسخة واحدة صادفها فی المدینة المنورة لم یستطع العثور على سواها قبل الطبعة الأولى، ولكنه اعتمد معها على كتب ابن جنی الأخرى فی تحریر هذه النسخة وتصحیحها، كما اعتمد على المعجمات اللغویة، وأخیراً على شروح الشواهد ودواوین الشعراء. ثم عمد إلى زیادة ما تجب زیادته فی الهوامش ففسر ما أهمل ابن جنی تفسیره، ورقم الآیات القرآنیة، وخرج الأحادیث الشریفة، وتقصى الشواهد الشعریة، وترجم للأعلام ترجمات وافیة.
وقد سرد لنا الأرجوزة متوالیة بعد التعریف بالكتاب، مفصولة عن الشرح، وانتقل بعدها فی القسم التالی من المقدمة إلى التعریف بالفضل بن الربیع، فترجم لحیاته وعرفنا بالفترة التاریخیة التی كان یعیش فیها، وبین مركزه فی الدولة العباسیة وطبیعة صلاته مع الخلفاء العباسیین.
ثم وضع أمامنا ترجمة لأبی نواس المادح بعد أن عرفنا بالممدوح، فأعطانا صورة معتدلة الألوان والخطوط لهذا الشاعر الذی اكثرت الكتب القدیمة من الحدیث عنه ومنحته ملامح مضطربة من بعض جوانبها، فحاول المحقق أن یزیل بعض الخطوط التی اعتقدها وهمیة أو بعیدة عن الصحة.
وأخیراً فی القسم الرابع من المقدمة التفت الكاتب المحقق إلى مؤلف هذا الشرح (أبی الفتح عثمان بن جنی) فترجم لحیاته ترجمة مناسبة ذاكراً أصله ونسبه وثقافته، وأساتذته، ومذهبه الدینی، وضابطاً اسمه أو نسبته ومتحدثاً عن مؤلفاته وعن المراجع التی أشارت إلى هذه المؤلفات.
وقد ذكر أن مؤلفات ابن جنی تبلغ الخمسین كتاباً، ولكن ما وصل منها إلى دور المطابع لا یكاد یزید على اثنی عشر كتاباً.
وأخیراً عمد إلى مقدمة أخرى موجزة خصصها للطبعة الثانیة، وهی التی بین أیدینا، وأشار فیها إلى أنه اعتمد لهذه الطبعة مخطوطة أخرى لندنیة إضافة إلى مخطوطة الطبعة الأولى التی كان عثر علیها فی المدینة المنورة. وبین أوجه الالتقاء والاختلاف بین المخطوطتین، ثم ختم مقدمته بمجموعة صور عرضها لبعض صفحات المخطوطتین، مخطوطة المدینة ومخطوطة المتحف البریطانی.
وقد بلغت هذه الأقسام المتنوعة للمقدمة ما یزید على التسعین صفحة رقمها المؤلف بالأرقام غیر العربیة تمییزاً لهان على ما یبدو، عن صفحات الكتاب، التی بدأها بالأرقام العربیة، فكانت مئتین وسبع عشرة صفحة. ثم تلت الكتاب صفحات خمس صحح فیها المحقق ما وقع من أخطاء فی الطبع. وأتبع ذلك بفهرس للألفاظ اللغویة وإلى جانبها معانیها الموجزة بما یقارب السبع عشرة صفحة ثم فهرس المسائل:
آ-مسائل علم العربیة: النحو، الصرف، الاشتقاق.
ب-مسائل العروض والقافیة.
ج-مسائل البیان.
د-مسألة فقهیة.
ه-فوائد أدبیة.
وأتبع ذلك بفهرس الآیات القرآنیة ثم الأحادیث الشریفة وبعدها الأمثال یلیها فهرس أسماء القصائد ثم الأیام والحروب ویلی ذلك فهرس الأشعار ثم الأعلام ثم فهرس الأمم والقبائل والأسر والمذاهب، وقد أشار فی حاشیته إلى أنه لم یضمنه أسماء القبائل والأسر والمذاهب التی وردت فی مقدمة التحقیق. وبعده فهرس البلدان والأمكنة والبقاع.
وأخیراً أشار إلى مراجع المقدمة والتحقیق والتعلیق، فكان تحقیقاً متمیزاً وجهداً مشكوراً أعادنا فیه الأستاذ محمد الأثری إلى صفحات من تراثنا الخالد فی الشعر واللغة والغریب، والشرح والتفسیر، وأسبق لنا هذه الصفحات بمقدمات مفصلة تناول فیها الشاعر المادح، والشخصیة الممدوحة، والمؤلف الشارح لذلك المدح، والجهد الذی بذل لإبراز ذلك كله، ثم عقب بعد تحقیق ذلك الشرح بالفهارس والذیول المتنوعة الكافیة لتسهیل العودة إلى كل ما یحتاجه القارئ من هذا الكتاب.
جزى الله شاعرنا أبا نواس وعالمنا ابن جنی ومحققنا محمد بهجة الأثری خیر الجزاء على ما بذلوه لخدمة تراثنا وحفظ لغتنا التی هی الركن الخالد من أركان حضارتنا فی ماضینا وحاضرنا، والله لا یضیع أجر من أحسن عملاً.
ومن حق القارئ علینا فی الختام أن نذكر له مطلع هذه الأرجوزة الموسومة بمنهوكة أبی نواس لأنها من منهوك الرجز:
وبلدة فیها زور صعراء تخطى فی صقر
وكأنی بالقارئ حین یعلم أن أ بیات هذه الأرجوزة تنوف على الخمسین بیتاً لن یستغرب أن یأتی شرحها كتاباً برمته. فأی غریب ذاك الذی جشم أبو نواس نفسه مشقة إیراده فی هذه الأرجوزة التی بدأها بوصف البقاع العسیرة والاجتیاز، ثم وصف الجمَل القوی الذی كان مطیة الانتقال عبر هذه البقاع والتی كانت طریقه إلى الممدوح. ثم أخذ بعد ذلك بالمدیح؛ متنقلاً بین شتى الخصال التی یعتز بها العربی بعبارات موغلة فی الصعوبة والغرابة لا یكاد یخیل لقارئها أن قائلها نفسه هو الذی قال:
عاج الشقی على رسم یسائله وعجت أسأل عن خمارة البلد
یبكی على طلل الماضین من أسد لا در درك قل لی من بنو أسد
دع ذا عدمتك واشربها معتقة صفراء تفرق بین الروح والجسد
فاشرب وجد بالذی تحوی یداك لها لا تدخر الیوم شیئاً خوف فقر غد
وقال أیضاً فی مدح الفضل:
یا فضل جاوزت المدى فجللت عن شبه النظیر
أنت المعظم والمكبر فی العیون وفی الصدور
حتى تعصرت الشبیبة واكتسبت من القتیر
عف المداخل والمخارج والغریزة والضمیر
فأی سهولة ووضوح هنا، وأی صعوبة ووعورة هناك؟! ولكنه التحدی والرغبة فی إثبات القدرة على مجاراة الأوائل وهواة أسالیبهم ومدارسهم.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:23|