تاریخ الأدب العربی بعیون حسینیة
یمثل الكلام الجمیل صك المحبة
الى القلب یدخله دون حاجب او استئذان، وإذا انتظمت الكلمات وسالت موسیقاها
ألحانا فی أخادید أذن السامع، متسربة الى حقول نفسه ومشاتل عاطفته، أسَرته
وأفقدته صولجانه ودفعته عن عرش جلموده مهما أوتى من قوة العقل وصلادة
النفس، وهذا ما یفعله الشعر المجید، یغرق مستمعه فی بحوره بمرساة أوزانه،
لیطلعه وهو یغوص بین أمواج الشعر وسحره على اللئالئ والدرر المنظومة.
وما أجمل الشعر حینما ینسج الشاعر خیوطه الحریریة فی حب شخصیة ملَكَ المكارم كلها، وینشئ عقدها فی تعظیم رمز حاز الفضائل جمیعها، وهب الإله كل ما یملك، فوهبه الرحمن حب الناس، تأسرهم العَبرة فینیخوا ركابهم عند رحله، یمیرون أنفسهم ویزدادون كَیل عِِبر، إنها شخصیة سبط الرسول الأكرم محمد (ص) قتیل العبرة وشهید الحق الامام الحسین بن علی (ع).
البحاثة الدكتور محمد صادق الكرباسی، یسلك بنا هذه المرة فی الموسوعة الحسینیة التی تنوء أبوابها بالعصبة أولی القلم، سبل التحقیق الى بساتین "الحسین فی الشعر العربی القریض"، من خلال "المدخل الى الشعر الحسینی" فی جزئه الأول الصادر عن المركز الحسینی للدراسات فی لندن، فی 560 صفحة من القطع الوزیری، حیث تناول فیه كل صغیرة وكبیرة لها علاقة بالأدب الشعری، فهو قبل أن یأخذنا فی رحلة معرفیة ویطلعنا على مراحل الشعر الحسینی كمقدمة ضروریة للدخول فیما نظم فی الامام الحسین (ع) من الشعر القریض، یتوقف عند محطات عدة، لبیان الشعر وتاریخه وخصائص مفرداته.
الأدب وحقیقته
ولما كان هذا الجزء والذی یلیه هو مدخل الى الدواوین الشعریة لخمسة عشر قرنا، فان المصنف یبحث فی الشعر ومنهاجیته ویستعرض الموضوعات اللصیقة بدائرة الشعر، فأول ما یبدأ به هو شرح معنى كلمة (الدیوان) وأصلها، فقد قالوا فیها أنها فارسیة أو آشوریة أو آكدیة أو سومریة أو عربیة، ویخلص الى أن الكلمة غیر دخیلة یمكن إرجاعها الى أصول عربیة، ولكن لا ینافی أن تكون لها فی اللغات الأخرى معان قریبة من ذلك، ولا یستبعد: "أن تكون عربیة الأصل دخیلة على اللغات الأخرى ولكنها دخیلة الاستخدام فی العربیة للمؤسسات والدوائر الرسمیة".
وتحت عنوان (تعریف الأدب)، یفصل القول فی المعنى اللغوی والاصطلاحی. كما إن (الأدیب) تسمیة تطلق على من یجید التعبیر نثرا او شعرا، ومن یتصف بالفضیلة فهو مؤدب. أما (ولادة الأدب) فان: "البذرة الأولى للأدب هی التجربة الشعوریة التی تتولد فی مخیلة الأدیب نتیجة لتلاقح مؤثرات خارجیة مخزونة او حاضرة"، والأدیب لیس فكراً مجردا بل عمل وتطبیق على ارض الواقع. لأن (قیمة الشعور الأدبی) تعادل القیمة الوجودیة. كما إن (قیمة الاختیار الأدبی) تتحقق فی جمع الحروف والكلمات والجمل والفقرات فی منظومة موزونة ومنمقة، لأن الجزئیات هی التی تشكل الكلیات، والكلیات تأخذ خصائصها من كینونة الأجزاء، فمتى ما أحسن استخدام المفردة صار الكلام جمیلا، وفی الشعر لابد عند تنسیق جزئیات الكلام مراعاة التنسیق بین الغرض الشعری والبحر وأوزانه والقافیة بحركاتها وحروفها، فجودة الشعر ملزومة بتناسقیة ثلاثی الغرض والبحر والقافیة. ذلك إن (القیمة التعبیریة) تعتمد على تحول الشحنة الذهنیة الى ارض الواقع بالأسلوب الشعوری.
ولكن ما هی (حقیقة الأدب)، هل هو فن أم علم؟ وهل هو عمل أم مجرد فكر؟ وهل هو هدف أم وسیلة؟
یرى المصنف أن: "الأدب بما انه یبحث عن أسالیب التعبیر وفنون الأداء بغرض تحسین صورة الفكرة فهو فن، ومن المجاز إضافة العلم الى الأدب" ویرى أن الأدب عمل والأدیب یستحق هذا الوصف: "اذا مارس الأداء الفنی فی التعبیر"، كما إن الأدب وسیلة لإیصال فكرة معینة، وحكمه حكم المقبلات فی مائدة الكلام، فعلیه: "إن شئت سمیت الأدب بالمقبلات اللفظیة". ثم إن (منابع الأدب ومجاله) كامنة فی مخیلة الانسان تترجمها التجربة الشعوریة. والأدب النابض بالحیاة هو (الأدب الموجه) الذی لا یتخذه المرء مطیة لشهواته ونزواته. لكون (هدف الأدب والشعر) هو تقدیم رسالة مسؤولة الى المجتمع عبر الكلام الخمیل والنظم الجمیل. بید أن الترابط بین (الأدب والإلتزام) لا یدعونا الى التحجر، لان مسألة الإلتزام فی الأدب والشعر التی شاعت فی خمسینات القرن العشرین، كانت قائمة على فكرة الإلتزام لحشد الطاقات الأدبیة والفكریة لخدمة قضایا الأمة. وأعلى درجات (قمة الأدب) عندما تكون القطعة النثریة او الشعریة فی تناسبها التكعیبی (التركیب والموضوع والتعبیر) فی منتهاها. لأنه عند (التقسیم الأدبی) فان: "الأدیب یحلق بجناحین: جناح الشعر وجناح النثر والقاسم المشترك بینهما هو حسن الأداء للصورة التجریبیة سواء الواقعیة منها او الخیالیة".
مرتبة النثر والشعر
وتحت عنوان (أدب النثر وفنونه) یفصل المحقق الكرباسی القول فی تقسیماته، وبخاصة: القصة، التمثیل، المقالة، الخطابة، النقد، المكاتبة، المناظرة، المثل، والمقامة. ویفرد عنوانا للحدیث عن (أدب القرآن) وبلاغته التی انبهر بها فطاحل الأدب الجاهلی. ویستقل بعنوان لبیان العلاقة بین (الأدب والشعر) وموقع الشعر الحر من النثر والشعر القریض. منطلقا من ذلك لبیان (مرتبة الشعر) فی سلّم الأدب وتعریفه، حیث توصل الى إن: "الأدب الشعری یأتی فی المرحلة الثانیة من الأدب النثری من حیث التأریخ لأن الشعر فی الحقیقة تطویر للنثر وفیه التزام أكثر من النثر، ولكن من جهة أخرى فإن الشعر یأتی فی الدرجة الأولى من حیث الفن الأدبی"، ولابد لمن یرید نظم الشعر ویرتقی أعواده أن یقرأ كما یقول الخوارزمی: حولیات زهیر واعتذارات النابغة وحماسیات عنترة وأهاجی الحطیئة وهاشمیات الكمیت ونقائض جریر وخمریات أبی نؤاس وتشبیهات ابن المعتز وزهریات أبی العتاهیة ومراثی أبی تمام ومدائح البحتری وروضیات الصنوبری ولطائف كشاجم وحكم المتنبی وغزلیات ابن الفارض. وقد عمد المصنف الى بیان المقصود من كلام الخوارزمی بمتابعة كل شاعر وما اتصف به شعره. ولا یخفى أن بین (النظم والشعر) عموم وخصوص من وجه: "وذلك لأن كل شعر نظم ولیس العكس حیث إن الشعر هو ما حرك الشعور الإنسانی بل مطلق الشعور مع مراعاة الوزن والقافیة". فالشعر الحسن ولید المعنى الجید واللفظ الجید، ولذلك فان الشعر المنتوج یقع مدار (الشعر بین العفویة والتكلف) حیث: "إن الشعر العفوی بریق شحنة فكرة تتولد بشكل عفوی وطبیعی .. بینما الشعر المصطنع عبارة عن إفراغ ما احتوته القوالب العروضیة حین یرید صانعه استخدامه". وهذا یقودنا الى معرفة مدار (الشاعر بین القریحة والعروض) حیث: "لا یستغنی الشاعر المبدع عن القریحة الخلاقة ولا عن العروض الخلیلیة" لكون الأولى بمثابة الوقود تسوق مركب الكلمات والمعانی على طریق العروض الممهد الى قمة العطاء الأدبی. على إن القول بان الشعر (أعذبه أكذبه) فیه استغراق غیر مبرر، لأن: "شاعر العفویة لا یمكن أن یقول الكذب لأن الطبیعة غیر كاذبة، والكذب لا یأتی إلا من التصنع فهو الى النظم أقرب منه الى الشعر، فالشعر أبلغه أعذبه وأخیله أصوبه، وأما المبالغة فهی ضرب من ضروب الأدب". ومن یتكلف الشعر او تقصر همته یسهل علیه (سرقة الشعر) الغالی والنفیس، وتتمحور السرقات كما یضیف المصنف حول: سرقة الفكرة أو الألفاظ أو القالب الشعری أو الانتحال، والأخیرة تعتبر أخس السرقات الأدبیة، وفیه حرمة شرعیة، على أن التضمین والتشطیر یعدان من الفن لا من السرقة. وفی مقام (الرخص الشعریة) اشتهر القول انه یجوز فی الشعر ما لا یجوز فی غیره، ویعلق علیه المصنف ویرى هناك فرقا بین الرخص المعیبة والرخص الفنیة من قبیل التقدیر والحذف واستخدام الخاص بمعنى العام وبالعكس. ولا یرى مانعا من (الانفتاح الأدبی) المسؤول على الآداب العالمیة.
تاریخ الشعر وتطوره
وقبل الدخول فی صلب الشعر الحسینی وتاریخه، یأخذنا المحقق فی جولة للإطلاع على (تاریخ الشعر وتطوره) واضعا فی حسبانه ثلاثة عصور: الجاهلی والإسلامی والحسینی، فالعصر الأول ینتهی حتى عام البعثة النبویة فی 13 قبل الهجرة، وكان: "یصب فی غالبه على الفخر والمدح والهجاء والفروسیة والشجاعة والغزل الى غیرها من المعانی المتسمة بهذه الصفات"، وینتهی العصر الاسلامی باستشهاد الامام الحسین (ع) فی بدایة العام 61 هجریة، ولوحظ فی هذا العصر: "ان الإسلامیین استعملوا مفردات القرآن الكریم والأحادیث الشریفة فی إنشائهم مما ألبسوه وشاحا عقائدیا وأعطوه طابعا علمیا فدخلت فیه الفلسفة والعلوم الأخرى"، ویرد المصنف على اولئك الذین قالوا بوقوف النبی (ص) فی وجه حركة الشعر بل یرى أن تشجیعه (ص) للشعراء مثل كعب بن زهیر وحسان بن ثابت دلیل تأییده فضلا عن ما اشتهر عن بعض أئمة المسلمین قولهم الشعر مثل الامام علی (ع).
وتستمر مرحلة الشعر الحسینی حتى یومنا هذا، لكنها مرت هی الأخرى بثلاث مراحل: الأولى: وتنتهی بغیبة الامام المهدی (ع) عام 326 هجریة, والثانیة حتى نهایة القرن الثالث عشر الهجری، والأخیرة منذ القرن الرابع عشر الهجری وحتى یومنا هذا. وضمت المرحلة الأولى دورین: الأول حتى نهایة العصر الأموی العام 132 هجریة، وقد بدأ الشعر الحسینی فی معظمه بالرجز السیاسی واتسعت رقعته الى باقی البحور، أما الدور الثانی فیبدأ من العصر العباسی وینتهی بغیبة الامام المهدی المنتظر (ع)، وفی هذه الفترة تعرض الأدیب الحسینی لمحنة كبیرة نتیجة لممارسة بنی العباس القمعیة، لكن الأدب الحسینی ظل نابضا ومتحركا مع حركة الزمان والتطور وذلك: لوجود أئمة أهل البیت وحثهم للشعراء على الإنشاء والإنشاد، وقیام العلویین بالثورات والانتفاضات، وبروز بعض الدول والحكومات الموالیة لأهل البیت، وبشكل عام كان التفوق من نصیب الأدیب الشیعی حتى قال الأدیب الأندلسی ابن هانی: "وهل رأیت أدیبا غیر شیعی".
الأدب فی العصر العباسی
وتستغرق (المرحلة الثانیة) حدود عشرة قرون هجریة، ما تبقى من عصر الدولة العباسیة حتى سقوطها على ید التتار فی العام 656 هجریة ثم سیطرة العثمانیین على البلاد العربیة عام 923 هـ، وما بعده. وقد مر الأدب العربی بشكل عام فی الدولة العباسیة بعصرین: أولا (العصر الذهبی) ثم (عصر الانحطاط)، وفی العصر الأول شهد العالم الاسلامی نشوء حواضر علمیة أرفدت الأدب بصورة رئیسة، مثل الحاضرة العلمیة فی دولة الأدارسة فی المغرب العربی والحاضرة العلمیة فی حلب على عهد الحمدانیین، وحاضرة طرابلس الشرق فی عهد الدولة العماریة، وحاضرة القاهرة فی عهد الدولة الفاطمیة، والحاضرة العلمیة فی كربلاء على عهد البویهیین والحاضرة العلمیة فی النجف الأشرف على عهد الشیخ الطوسی والمدرسة النظامیة فی بغداد على عهد النظام السلجوقی, وقد ترك التبادل المعرفی بین المسلمین من عرب وعجم تأثیره على مسار الأدب، فضلا عن إن بغداد وحلب وأصفهان والقاهرة وطرابلس كانت تعج بالمترجمین، على إن من خصائص هذا العصر: "الإسراف فی الصناعة اللفظیة، خاصة التزام السجع وكثرة التضمین للأشعار والأمثال والآیات والأحادیث واستخدام التشابه والاستعارات ..".
أما (عصر الانحطاط) فانه یبدأ عند منتصف القرن الخامس الهجری مع سیطرة السلاجقة على أمور الدولة العباسیة فی بغداد وخروج دویلات عن دائرة الحكم العباسی ونشوب الحروب الصلیبیة، ففی هذا العصر أصبح العنصر العربی غریبا فی وطنه، وتغرب معه الأدب، كما إن بعض الدویلات كانت قائمة قبل الدولة العباسیة واستمرت فی وجودها، وبعضها تولدت فی العصر العباسی وهی بالعشرات، كما أنهكت الحروب الصلیبیة كاهل الدولة العباسیة، فضلا عن شخصیات مثل یوسف بن أیوب التكریتی الشهیر بصلاح الدین الأیوبی، كما یذهب المحقق الكرباسی تآمرت مع الدولة البیزنطینیة وساهمت فی تقویض أركان الدولة الاسلامیة والسماح للصلیبیین باحتلال المدن الاسلامیة مثل القدس. فی مثل هذه الظروف یساعدها الصراعات الطائفیة، برز شعر التصوف والعقیدة والتمذهب، كما ظهر شعر الفلسفة أیضا وبالأخص فی أروقة الفاطمیین، كما: "إن التشرذم والتقلب أثّر بشكل فاعل فی تراجع الشعر الحسینی كغیره، كما إن الصراع الطائفی والنزاع على الملك كان له الأثر فی نوعیة الشعر الحسینی".
الأدب فی العصر العثمانی
ویتابع المصنف فی (العهد العثمانی) حركة الأدب بعامة والشعر بخاصة والشعر الحسینی على وجه الخصوص، حیث قسم العهد العثمانی الذی ینتهی بانتهاء الدولة العثمانیة فی العام 1342 هـ (1924م) الى أربعة عصور، یبدأ بالعصر المغولی وینتهی بعصر التدهور وبینهما عصر الفتوحات وعصر الاستقرار، ویعتبر العصر المغولی هی الحلقة بین سقوط الحكم العباسی وقیام الحكم العثمانی، ویشیر الى الفساد الذی استشرى فی قصر المستعصم بالله العباسی وعدم استماعه الى صوت العقل ونصائح العقلاء من وزرائه من قبیل الوزیر محمد بن العلقمی لتجنیب سقوط بغداد بید المغول الذین راحوا یحتلون المدن الاسلامیة كالسیل العرم، وبشكل عام: "وفی هذه الفترة العصیبة لم یكن للحركة الأدبیة مرتع یناسبها فقد ضعفت مبانی الشعر وتراكبیه واتجه من كان بمقدوره نظم الشعر فی ظل هذه الظروف الى تناول المعانی المتداولة وبرز العنصر الدینی فی الأدب والشعر معا".
وفی العصر العثمانی الذی ابتدأ من إنشاء الدولة العثمانیة عام 680 هجریة، انفتحت شهیة الحكام على الفتوحات والحروب، وفی المقابل انعقد لسان: "الأدب العربی فی ظل هذه الحروب والانتهاكات والاحتلالات وتعاقب الحكومات من شتى اللغات والقومیات غیر العربیة والتی على أثرها دخل اللحن فی اللغة والتسیب فی آدابها وظهر الشعر الملمع بالتركیة والفارسیة والهندیة وغیرها، واستخدمت الكلمات الدخیلة وراجت اللهجات الدارجة"، أما الشعر الحسینی فانه لم یشذ عن مسار الشعر العام الذی نظم فی هذه الفترة، ولما كان محوره الامام الحسین فلابد أن یكون النظم على الولاء والعقیدة، إذ إن: "الحسین كان وسیبقى المادة الخصبة للشعراء والنقطة الروحیة الناطقة لتجمیع الأمة یلجأ الیها الانسان فی مثل تلك الظروف الحالكة لیتقرب الى الله ویشكو همه".
وبعد أن استولى العثمانیون على جل البلاد العربیة حل (عصر الاستقرار) فاستتب الأمن وافترشت لهم وسادة الحكم، وحاولوا جاهدین تحمیل ثقافتهم التركیة على المسلمین مع التزامهم بالثقافة الاسلامیة بشكل عام. وقد اتسم (الحكم العثمانی الأول) كما یرى المحقق، بالاستبداد، والطائفیة، والقومیة، وبروز التصوف، والعنف، وهذه أثرت على النتاج الأدبی النثری والشعری، حیث اكتسب الأدب فی عصر الاستقرار الكثیر من سمات هذه الظواهر، حیث: "تمكن الضعف فی النفوس وفسدت ملكة اللسان وجمدت القرائح فلا نبغ شاعر مشهور خارج البلاد العربیة، لان البیئة الأدبیة قد انكمشت انكماشا ملموسا فانحصرت فی مصر والشام وحدهما"، وأفضل من یصف حالة الأدب فی ذلك العصر هو البكاشكیری (ت 992) صاحب العقد المنظوم فی أفاضل الروم، حیث یقول: "قد انتهیت الى زمان یرون الأدب عیباً ویعدون التضلع فی الفنون ذنبا والى الله الحنان المشتكى من هذا الزمان"، على انه برز فی هذا العصر كما یقول البحاثة الكرباسی: "شعر التصوف والمدائح النبویة بشكل عام وخفت الأغراض الشعریة الأخرى كالغزل والفخر والحماسة والمدح وما شابه ذلك ومعه خف المستوى الأدبی والإبداعی فی الشعر، كما برز شعراء مخضرمون ینظمون بالعربیة وبالفارسیة أو بالتركیة والعربیة".
وبموت السلطان سلیمان الثانی (ت 1102هـ) حكم الدولة العثمانیة سبعة عشر سلطانا حتى انقراضهم، وهذه الفترة یصفها المؤلف بأنها فترة (عصر التدهور) حیث نشبت الحروب على أطراف الدولة العثمانیة نتج عنها استقطاع المدن وضمها الى هذه الدولة او تلك، أو الاستقلال بنفسها، وبالتبع نال الأدب النثری والشعری ما نال الواقع السیاسی العام، وهكذا: "ضعف الشعر فی هذا العصر وأصبح ركیك الأسلوب، سخیف المعانی، كثیر الأغلاط، ضعیف الأغراض"، ولكن فی المقابل حیث لا یرتبط الشعر الحسینی بالبلاط فانه استطاع أن یقفز على الضعف الذی أصاب الشعر، ولهذا فان: "المجموعة الشعریة التی حصلنا علیها عن هذه الفترة والتی تطابق تاریخیا القرنین الثانی عشر والثالث عشر، والنصف الأول من القرن الرابع عشر الهجری تزایدت باضطراد"، فان: "عددهم فی هذه الفترة تجاوز 330 شاعرا، القرن الثانی عشر نحو ستین شاعرا، القرن الثالث عشر نحو 130 شاعرا، القرن الرابع عشر حتى عام 1342 هـ نحو 130 شاعرا، والعیون منهم نحو خمسین شخصیة".
الأدب فی العصر الحدیث
أما (المرحلة الثالثة) من مراحل الشعر الحسینی، فان البلدان العربیة والإسلامیة شهدت احتلالا من قبل هذا الاستعمار واستقلالا عن ذاك، ولا یخفى: "إن الاستقلال لم یأت عن فراغ ولا عن إرادة دولیة أو غربیة، بل اثر نهوض الشعوب الاسلامیة بوجه الاستعمار وتقدیم التضحیات الجسام من قبل الأشراف وبقیادات شریفة كالشیخ محمد تقی الشیرازی فی العراق، وعمر المختار فی لیبیا، وعبد القادر الجزائری فی الجزائر، واحمد عرابی فی مصر، وإبراهیم هنانو فی سوریا، ومحمد احمد المهدی فی السودان، ومحمد المهدی فی الصومال، وشرف الدین فی لبنان، وأمثالهم فی أقطار أخرى". ولابد أن یصطبغ عموم الأدب بملامح (العصر الحدیث)، فعلى صعید اللغة خرجت الأمة من هیمنة اللغة التركیة، ولكن الاستعمار حاول فرض لغته كما فی شمال أفریقیا، وعلى صعید الجانب السیاسی: "تأثر العالم الاسلامی بالسیاسة الغربیة وذلك بفضل الحكام الذین وصلوا الى الحكم فی البدایة على أكتاف الغربیین إن بشكل مباشر أو غیر مباشر"، وتأثر الأدب بهذه التحولات، وساعد (الأدب والأدباء فی هذه المرحلة) ظهور: الصحافة والمدارس والإذاعة والطباعة والترجمة والمواصلات والاتصالات والاستقلال والمكتبات والهجرة والمجامع العلمیة والجامعات، وقد ازداد الشعراء فی هذا العصر، لكنه شهد من جانب آخر (صراع اللهجتین) بین الفصحى والدارجة.
وقبل أن یلج المصنف صلب موضوع الشعر وأغراضه وبحوره وأوزانه، یرى أن التطلع الى (المستقبل) یستدعی: أن یتحول الأدب الى أدب تخصص فی أغراضه، وان یبتعد عن التسیس فیكون طوع الحاكم، وان یكرم الشاعر أیام حیاته وعطائه، وان یتم إنشاء مجمعات وندوات أدبیة، وان یصار الى إعادة المباراة الشعریة، وان یتم الالتقاء بالحضارات الأخرى عبر عقد الندوات، وان یتم دراسة الشعر والأدب من قبل أخصائیین معترف بهم، وان یصار الى تقییم النتاج الأدبی والشعری بین فترة وأخرى، وان تتوجه الأنظار للاعتناء بالمواهب الفنیة وصقلها، وان یوجه الأدب لصالح المجتمع.
بحور تنفتح على أخرى
ویوضح المصنف ضمن (معیار النظم) مصطلحات العروض والوزن والبحر، فالأول یبحث أوزان الشعر والبحور ومتعلقاتهما، والثانی یتناول المقاییس الإیقاعیة، والثالث یبحث نوعیة الوزن والإیقاع، فنوعیة التفعیلات التی تشكل الإیقاع الجمیل هو البحر. ویعترض المصنف ضمن بحث (عروض الخلیل بین الأصالة والتحدیث) على اولئك الذین یحاولون عبثا نسبة ما اكتشفه الخلیل بن احمد الفراهیدی من بحور الى غیره. ثم یتناول (البحور) بشیء من التفصیل، وبخاصة التی توصل الیها الخلیل وهی خمسة عشر بحراً: الطویل، المدید، البسیط، الوافر، الكامل، الهزج، الرجز، الرمل، السریع، المنسرح، الخفیف، المضارع، المقتضب، المجتث، والمتقارب. وزاد الأخفش بحر المتدارك، وزاد أبو العتاهیة بحر المِدَق، وزادوا بمرور الأیام بحور: المستطیل، الممتد، المتئد، المنسرد، المُطرد، المتوافر، الدوبیت، السلسلة، المبسوط، المستدق، المستدرك، المستقرب، القریب، المشترك، الموجز، المستكمل، المستزاد، المتوفر، المخفف، المركب، والمتسرح. ویلحق بهذه البحور عشرون أخرى، فضلا عن (المربوع) فی 22 نوعا، وبشكل عام لا یمكن قصر البحور على عدد معین، ذلك: "إن اختراع البحور لیس حكرا على احد وإنما تابع للقواعد والمعاییر، فأینما وجد الإیقاع وتوفرت الشروط فلا یمكن رفضه" ولهذا أوجد الدكتور الكرباسی أوزانا جدیدة أدرجها فی كتابه "الأوزان الشعریة"، وواصل فی هذا التوجه حتى وضع كتابه هندسة العروض لیوصلها الى 208 بحور بغض النظر عن مولداتها.
ویعتقد: "إن البحر من جهة والوزن من جهة أخرى تابعان لموسیقى الكلام ووقعه لدى السامع ویتدخل فیه الذوق ولا یمكن حصره بما وضع له"، ولذلك لا یعترض على (التجاوزات المجازة)، بلحاظ انه: "كلما لم یستهجنه الذوق السلیم فهو موزون" أیده فیما توصل الیه الأدیب واللغوی العراقی الراحل الدكتور ابراهیم السامرائی فی قصیدتین بعث بهما للمؤلف.
أصل الشعر: الرجز أم الحداء؟
ویحدثنا المصنف عن (الرجز)، ولا یؤید قول البعض انه لیس من الشعر، وقد: "سمی بحمار الشعراء او حمار الشعر لسهولة النظم على زنته او لسهولة التلاعب مع تفعیلاته ورویه"، بل یؤید ما ذهب الیه البعض بان اصل الشعر بدأ بالرجز، فیكون تاریخه من تاریخ الشعر، على إن البعض یرى أن الحداء، وهو سوق الإبل والغناء لها، هو أساس الشعر عند العرب ثم تطور الى سائر ألوان الرجز ومن ثم الى غیره من الأوزان والبحور، ربما یؤیده فی ذلك قوله النبی محمد (ص): "لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنین". ومن الرجز (الأرجوزة) حیث یلتزم الشاعر بالقافیة الموحدة فی كل من الصدر والعجز دون غیرهما. وفی مقابل الرجز ظهر (القصید) حیث كان أول تطوره أن قاموا بتطویل شعر الرجز فنتج عن ذلك القصید. واشتهر الرجز بوصفه (شعر الحرب).
الشعر الحر وأمور أخرى
ویفرد المصنف عنوانا مستقلا للحدیث عن وزن (الدوبیت) وتتبع أصل الكلمة وتاریخها وتفاصیلها، و(نشأة الدوبیت)، والعلاقة بین (الأدب العربی والدوبیت)، وحجم (وقع الدوبیت) و(تركیبة الدوبیت)، ومناقشة (أقوال شاذة فی وزن الدوبیت)، وملاحظة (أنواع الدوبیت وتطوره). وبشكل عام فان الدوبیت كلمة فارسیة مركبة من "دو+بیت" وتعنی البیتین: "وفی الحقیقة انه كالمربع فی كونه یحتوی على أربعة أشطر ولكن یخالفه فی الوزن ویتفق معه فی اتحاد قافیة الشطر الأول والثانی والرابع" ولعل الشاعر الإیرانی "رودكی" أول من نظم على وزنه، بید أن: "أدباء العرب وشعراءهم تفننوا فی القالب الشعری من الدوبیت وطوروه حتى أصبح له أنواع مختلفة"، أما فی الأدب الحسینی فان الدوبیت دخله منذ القرن السادس الهجری او قبله بقلیل.
ویفرد البحاثة الكرباسی عنوانا خاصا یتناول (الشعر الحر) بوصفه حالة وسطى بین النثر المقفى والشعر الموزون، وان كان البعض یرى أن الشعر الحر فی عائلة الأدب كالخنثى، لا هو من جنس النثر ولا من جنس الشعر، حیث ضاع قائله بین المشیتین! وعند المصنف أن المختار من الشعر الحر: "المتحرر من القافیة فقط دون الوزن تناسبا مع وضع الشعر وما حملته الكلمة من معنى حیث إن موسیقى الكلمات المعبّرة هی التی تهزّ مشاعر الانسان"، مشیرا الى قصائد نازك صادق الملائكة وبدر شاكر السیّاب بوصفهما ممن حرك فی قصائده من الشعر الحر مشاعر الانسان.
والعنوان الأخیر من عناوین الجزء الأول من كتاب المدخل الى الشعر الحسینی، اختص بوزن (البند) او القفل او العقدة او الفقرة او القسم، فهذه أسماء عربیة لأصل الكلمة الفارسیة بفتح الباء وسكون النون، وحاصل البحث: "إن البند نوع من أنواع الشعر كان معروفا قدیما وهو یشبه ما یسمى بالشعر الحر فی زماننا".
ولا یتنازل المصنف عن حق القارئ فی أن یعرف كل ما تضمنه الكتاب فترك له فهارس غنیة بالمعلومات، یتابع من خلالها: الآیات المباركة، الأحادیث والأخبار، الأمثال والحكم، الأعلام والشخصیات، القبائل والإنسان والجماعات، الطوائف والملل، الأشعار، التأریخ، اللغة، مصطلحات الشریعة، المصطلحات العلمیة والفنیة، الوظائف والرتب، الآلات والأدوات، الإنسان ومتعلقاته، الحیوان ومتعلقاته، النبات ومستحضراته، الفضاء ومتعلقاته، الأرض ومتعلقاتها، المعادن، الأماكن والبقاع، الزمان، الوقائع والأحداث، المؤلفات والمصنفات، المصادر والمراجع، مؤلفو المراجع.
ولا یتنازل المصنف أیضا عن حق الآخرین فی النقد أو بیان وجهة نظرهم او فكرة جدیدة یقدمها علم من الأعلام من جنسیات وأدیان ومذاهب مختلفة، ولذلك فإننا فی هذا الجزء نقرأ وجهة نظر المفكر اللبنانی المسیحی انطوان بارا الذی یبدأ قراءته لهذا الكتاب بالتأكید انه: "لو قلنا أن الإسلام بدؤه محمدی واستمراره حسینی، فلن نكون مجافین لحقیقة تجلت فی شواهد دینیة وتاریخیة" فقد "كانت كربلاء بارهاصاتها الروحیة أنشودة وضعها الحسین على الشفاء فما ملّتها قط، استوطنت حناجر الأجیال، تطرب لها العقول وتحنو علیها الأضلع والصدور كدرّة ثمینة، فتلهب المشاعر وتهز القرائح لها اهتزاز الصبّ المستهام فتخلدها كلماً وشعراً الى جانب ما خلده التاریخ منها سرداً وتحلیلاً"، وعبّر عن سعادته لصدور الموسوعة الحسینیة ومتابعتها للنهضة الحسینیة: "لأنه عمل فكری لا یجارى". وبوصفه أدیبا رأى أنطوان بارا أن ما أتى به المحقق الكرباسی فی هذا الجزء وما سیلیه من أجزاء هو كنز عظیم لان: "المكتبة العربیة تفتقر الى كتاب یجمع بین دفتیه ما نظم من أشعار عن ملحمة كربلاء التی شكّلت على مر التاریخ إلهاما للشعراء وذوی النفوس الشفیفة".
وأجد أن هذا الجزء بما فیه من مادة أدبیة ومعرفیة دسمة لا یستغنی عنه أی طالب أدب من نثر او شعر، فهو ینقل أقدامه الى الجادة الصحیحة التی ینبغی أن یسلكها للوصول الى مصفًى العمل الأدبی وزلال الأدب الموجه.
وما أجمل الشعر حینما ینسج الشاعر خیوطه الحریریة فی حب شخصیة ملَكَ المكارم كلها، وینشئ عقدها فی تعظیم رمز حاز الفضائل جمیعها، وهب الإله كل ما یملك، فوهبه الرحمن حب الناس، تأسرهم العَبرة فینیخوا ركابهم عند رحله، یمیرون أنفسهم ویزدادون كَیل عِِبر، إنها شخصیة سبط الرسول الأكرم محمد (ص) قتیل العبرة وشهید الحق الامام الحسین بن علی (ع).
البحاثة الدكتور محمد صادق الكرباسی، یسلك بنا هذه المرة فی الموسوعة الحسینیة التی تنوء أبوابها بالعصبة أولی القلم، سبل التحقیق الى بساتین "الحسین فی الشعر العربی القریض"، من خلال "المدخل الى الشعر الحسینی" فی جزئه الأول الصادر عن المركز الحسینی للدراسات فی لندن، فی 560 صفحة من القطع الوزیری، حیث تناول فیه كل صغیرة وكبیرة لها علاقة بالأدب الشعری، فهو قبل أن یأخذنا فی رحلة معرفیة ویطلعنا على مراحل الشعر الحسینی كمقدمة ضروریة للدخول فیما نظم فی الامام الحسین (ع) من الشعر القریض، یتوقف عند محطات عدة، لبیان الشعر وتاریخه وخصائص مفرداته.
الأدب وحقیقته
ولما كان هذا الجزء والذی یلیه هو مدخل الى الدواوین الشعریة لخمسة عشر قرنا، فان المصنف یبحث فی الشعر ومنهاجیته ویستعرض الموضوعات اللصیقة بدائرة الشعر، فأول ما یبدأ به هو شرح معنى كلمة (الدیوان) وأصلها، فقد قالوا فیها أنها فارسیة أو آشوریة أو آكدیة أو سومریة أو عربیة، ویخلص الى أن الكلمة غیر دخیلة یمكن إرجاعها الى أصول عربیة، ولكن لا ینافی أن تكون لها فی اللغات الأخرى معان قریبة من ذلك، ولا یستبعد: "أن تكون عربیة الأصل دخیلة على اللغات الأخرى ولكنها دخیلة الاستخدام فی العربیة للمؤسسات والدوائر الرسمیة".
وتحت عنوان (تعریف الأدب)، یفصل القول فی المعنى اللغوی والاصطلاحی. كما إن (الأدیب) تسمیة تطلق على من یجید التعبیر نثرا او شعرا، ومن یتصف بالفضیلة فهو مؤدب. أما (ولادة الأدب) فان: "البذرة الأولى للأدب هی التجربة الشعوریة التی تتولد فی مخیلة الأدیب نتیجة لتلاقح مؤثرات خارجیة مخزونة او حاضرة"، والأدیب لیس فكراً مجردا بل عمل وتطبیق على ارض الواقع. لأن (قیمة الشعور الأدبی) تعادل القیمة الوجودیة. كما إن (قیمة الاختیار الأدبی) تتحقق فی جمع الحروف والكلمات والجمل والفقرات فی منظومة موزونة ومنمقة، لأن الجزئیات هی التی تشكل الكلیات، والكلیات تأخذ خصائصها من كینونة الأجزاء، فمتى ما أحسن استخدام المفردة صار الكلام جمیلا، وفی الشعر لابد عند تنسیق جزئیات الكلام مراعاة التنسیق بین الغرض الشعری والبحر وأوزانه والقافیة بحركاتها وحروفها، فجودة الشعر ملزومة بتناسقیة ثلاثی الغرض والبحر والقافیة. ذلك إن (القیمة التعبیریة) تعتمد على تحول الشحنة الذهنیة الى ارض الواقع بالأسلوب الشعوری.
ولكن ما هی (حقیقة الأدب)، هل هو فن أم علم؟ وهل هو عمل أم مجرد فكر؟ وهل هو هدف أم وسیلة؟
یرى المصنف أن: "الأدب بما انه یبحث عن أسالیب التعبیر وفنون الأداء بغرض تحسین صورة الفكرة فهو فن، ومن المجاز إضافة العلم الى الأدب" ویرى أن الأدب عمل والأدیب یستحق هذا الوصف: "اذا مارس الأداء الفنی فی التعبیر"، كما إن الأدب وسیلة لإیصال فكرة معینة، وحكمه حكم المقبلات فی مائدة الكلام، فعلیه: "إن شئت سمیت الأدب بالمقبلات اللفظیة". ثم إن (منابع الأدب ومجاله) كامنة فی مخیلة الانسان تترجمها التجربة الشعوریة. والأدب النابض بالحیاة هو (الأدب الموجه) الذی لا یتخذه المرء مطیة لشهواته ونزواته. لكون (هدف الأدب والشعر) هو تقدیم رسالة مسؤولة الى المجتمع عبر الكلام الخمیل والنظم الجمیل. بید أن الترابط بین (الأدب والإلتزام) لا یدعونا الى التحجر، لان مسألة الإلتزام فی الأدب والشعر التی شاعت فی خمسینات القرن العشرین، كانت قائمة على فكرة الإلتزام لحشد الطاقات الأدبیة والفكریة لخدمة قضایا الأمة. وأعلى درجات (قمة الأدب) عندما تكون القطعة النثریة او الشعریة فی تناسبها التكعیبی (التركیب والموضوع والتعبیر) فی منتهاها. لأنه عند (التقسیم الأدبی) فان: "الأدیب یحلق بجناحین: جناح الشعر وجناح النثر والقاسم المشترك بینهما هو حسن الأداء للصورة التجریبیة سواء الواقعیة منها او الخیالیة".
مرتبة النثر والشعر
وتحت عنوان (أدب النثر وفنونه) یفصل المحقق الكرباسی القول فی تقسیماته، وبخاصة: القصة، التمثیل، المقالة، الخطابة، النقد، المكاتبة، المناظرة، المثل، والمقامة. ویفرد عنوانا للحدیث عن (أدب القرآن) وبلاغته التی انبهر بها فطاحل الأدب الجاهلی. ویستقل بعنوان لبیان العلاقة بین (الأدب والشعر) وموقع الشعر الحر من النثر والشعر القریض. منطلقا من ذلك لبیان (مرتبة الشعر) فی سلّم الأدب وتعریفه، حیث توصل الى إن: "الأدب الشعری یأتی فی المرحلة الثانیة من الأدب النثری من حیث التأریخ لأن الشعر فی الحقیقة تطویر للنثر وفیه التزام أكثر من النثر، ولكن من جهة أخرى فإن الشعر یأتی فی الدرجة الأولى من حیث الفن الأدبی"، ولابد لمن یرید نظم الشعر ویرتقی أعواده أن یقرأ كما یقول الخوارزمی: حولیات زهیر واعتذارات النابغة وحماسیات عنترة وأهاجی الحطیئة وهاشمیات الكمیت ونقائض جریر وخمریات أبی نؤاس وتشبیهات ابن المعتز وزهریات أبی العتاهیة ومراثی أبی تمام ومدائح البحتری وروضیات الصنوبری ولطائف كشاجم وحكم المتنبی وغزلیات ابن الفارض. وقد عمد المصنف الى بیان المقصود من كلام الخوارزمی بمتابعة كل شاعر وما اتصف به شعره. ولا یخفى أن بین (النظم والشعر) عموم وخصوص من وجه: "وذلك لأن كل شعر نظم ولیس العكس حیث إن الشعر هو ما حرك الشعور الإنسانی بل مطلق الشعور مع مراعاة الوزن والقافیة". فالشعر الحسن ولید المعنى الجید واللفظ الجید، ولذلك فان الشعر المنتوج یقع مدار (الشعر بین العفویة والتكلف) حیث: "إن الشعر العفوی بریق شحنة فكرة تتولد بشكل عفوی وطبیعی .. بینما الشعر المصطنع عبارة عن إفراغ ما احتوته القوالب العروضیة حین یرید صانعه استخدامه". وهذا یقودنا الى معرفة مدار (الشاعر بین القریحة والعروض) حیث: "لا یستغنی الشاعر المبدع عن القریحة الخلاقة ولا عن العروض الخلیلیة" لكون الأولى بمثابة الوقود تسوق مركب الكلمات والمعانی على طریق العروض الممهد الى قمة العطاء الأدبی. على إن القول بان الشعر (أعذبه أكذبه) فیه استغراق غیر مبرر، لأن: "شاعر العفویة لا یمكن أن یقول الكذب لأن الطبیعة غیر كاذبة، والكذب لا یأتی إلا من التصنع فهو الى النظم أقرب منه الى الشعر، فالشعر أبلغه أعذبه وأخیله أصوبه، وأما المبالغة فهی ضرب من ضروب الأدب". ومن یتكلف الشعر او تقصر همته یسهل علیه (سرقة الشعر) الغالی والنفیس، وتتمحور السرقات كما یضیف المصنف حول: سرقة الفكرة أو الألفاظ أو القالب الشعری أو الانتحال، والأخیرة تعتبر أخس السرقات الأدبیة، وفیه حرمة شرعیة، على أن التضمین والتشطیر یعدان من الفن لا من السرقة. وفی مقام (الرخص الشعریة) اشتهر القول انه یجوز فی الشعر ما لا یجوز فی غیره، ویعلق علیه المصنف ویرى هناك فرقا بین الرخص المعیبة والرخص الفنیة من قبیل التقدیر والحذف واستخدام الخاص بمعنى العام وبالعكس. ولا یرى مانعا من (الانفتاح الأدبی) المسؤول على الآداب العالمیة.
تاریخ الشعر وتطوره
وقبل الدخول فی صلب الشعر الحسینی وتاریخه، یأخذنا المحقق فی جولة للإطلاع على (تاریخ الشعر وتطوره) واضعا فی حسبانه ثلاثة عصور: الجاهلی والإسلامی والحسینی، فالعصر الأول ینتهی حتى عام البعثة النبویة فی 13 قبل الهجرة، وكان: "یصب فی غالبه على الفخر والمدح والهجاء والفروسیة والشجاعة والغزل الى غیرها من المعانی المتسمة بهذه الصفات"، وینتهی العصر الاسلامی باستشهاد الامام الحسین (ع) فی بدایة العام 61 هجریة، ولوحظ فی هذا العصر: "ان الإسلامیین استعملوا مفردات القرآن الكریم والأحادیث الشریفة فی إنشائهم مما ألبسوه وشاحا عقائدیا وأعطوه طابعا علمیا فدخلت فیه الفلسفة والعلوم الأخرى"، ویرد المصنف على اولئك الذین قالوا بوقوف النبی (ص) فی وجه حركة الشعر بل یرى أن تشجیعه (ص) للشعراء مثل كعب بن زهیر وحسان بن ثابت دلیل تأییده فضلا عن ما اشتهر عن بعض أئمة المسلمین قولهم الشعر مثل الامام علی (ع).
وتستمر مرحلة الشعر الحسینی حتى یومنا هذا، لكنها مرت هی الأخرى بثلاث مراحل: الأولى: وتنتهی بغیبة الامام المهدی (ع) عام 326 هجریة, والثانیة حتى نهایة القرن الثالث عشر الهجری، والأخیرة منذ القرن الرابع عشر الهجری وحتى یومنا هذا. وضمت المرحلة الأولى دورین: الأول حتى نهایة العصر الأموی العام 132 هجریة، وقد بدأ الشعر الحسینی فی معظمه بالرجز السیاسی واتسعت رقعته الى باقی البحور، أما الدور الثانی فیبدأ من العصر العباسی وینتهی بغیبة الامام المهدی المنتظر (ع)، وفی هذه الفترة تعرض الأدیب الحسینی لمحنة كبیرة نتیجة لممارسة بنی العباس القمعیة، لكن الأدب الحسینی ظل نابضا ومتحركا مع حركة الزمان والتطور وذلك: لوجود أئمة أهل البیت وحثهم للشعراء على الإنشاء والإنشاد، وقیام العلویین بالثورات والانتفاضات، وبروز بعض الدول والحكومات الموالیة لأهل البیت، وبشكل عام كان التفوق من نصیب الأدیب الشیعی حتى قال الأدیب الأندلسی ابن هانی: "وهل رأیت أدیبا غیر شیعی".
الأدب فی العصر العباسی
وتستغرق (المرحلة الثانیة) حدود عشرة قرون هجریة، ما تبقى من عصر الدولة العباسیة حتى سقوطها على ید التتار فی العام 656 هجریة ثم سیطرة العثمانیین على البلاد العربیة عام 923 هـ، وما بعده. وقد مر الأدب العربی بشكل عام فی الدولة العباسیة بعصرین: أولا (العصر الذهبی) ثم (عصر الانحطاط)، وفی العصر الأول شهد العالم الاسلامی نشوء حواضر علمیة أرفدت الأدب بصورة رئیسة، مثل الحاضرة العلمیة فی دولة الأدارسة فی المغرب العربی والحاضرة العلمیة فی حلب على عهد الحمدانیین، وحاضرة طرابلس الشرق فی عهد الدولة العماریة، وحاضرة القاهرة فی عهد الدولة الفاطمیة، والحاضرة العلمیة فی كربلاء على عهد البویهیین والحاضرة العلمیة فی النجف الأشرف على عهد الشیخ الطوسی والمدرسة النظامیة فی بغداد على عهد النظام السلجوقی, وقد ترك التبادل المعرفی بین المسلمین من عرب وعجم تأثیره على مسار الأدب، فضلا عن إن بغداد وحلب وأصفهان والقاهرة وطرابلس كانت تعج بالمترجمین، على إن من خصائص هذا العصر: "الإسراف فی الصناعة اللفظیة، خاصة التزام السجع وكثرة التضمین للأشعار والأمثال والآیات والأحادیث واستخدام التشابه والاستعارات ..".
أما (عصر الانحطاط) فانه یبدأ عند منتصف القرن الخامس الهجری مع سیطرة السلاجقة على أمور الدولة العباسیة فی بغداد وخروج دویلات عن دائرة الحكم العباسی ونشوب الحروب الصلیبیة، ففی هذا العصر أصبح العنصر العربی غریبا فی وطنه، وتغرب معه الأدب، كما إن بعض الدویلات كانت قائمة قبل الدولة العباسیة واستمرت فی وجودها، وبعضها تولدت فی العصر العباسی وهی بالعشرات، كما أنهكت الحروب الصلیبیة كاهل الدولة العباسیة، فضلا عن شخصیات مثل یوسف بن أیوب التكریتی الشهیر بصلاح الدین الأیوبی، كما یذهب المحقق الكرباسی تآمرت مع الدولة البیزنطینیة وساهمت فی تقویض أركان الدولة الاسلامیة والسماح للصلیبیین باحتلال المدن الاسلامیة مثل القدس. فی مثل هذه الظروف یساعدها الصراعات الطائفیة، برز شعر التصوف والعقیدة والتمذهب، كما ظهر شعر الفلسفة أیضا وبالأخص فی أروقة الفاطمیین، كما: "إن التشرذم والتقلب أثّر بشكل فاعل فی تراجع الشعر الحسینی كغیره، كما إن الصراع الطائفی والنزاع على الملك كان له الأثر فی نوعیة الشعر الحسینی".
الأدب فی العصر العثمانی
ویتابع المصنف فی (العهد العثمانی) حركة الأدب بعامة والشعر بخاصة والشعر الحسینی على وجه الخصوص، حیث قسم العهد العثمانی الذی ینتهی بانتهاء الدولة العثمانیة فی العام 1342 هـ (1924م) الى أربعة عصور، یبدأ بالعصر المغولی وینتهی بعصر التدهور وبینهما عصر الفتوحات وعصر الاستقرار، ویعتبر العصر المغولی هی الحلقة بین سقوط الحكم العباسی وقیام الحكم العثمانی، ویشیر الى الفساد الذی استشرى فی قصر المستعصم بالله العباسی وعدم استماعه الى صوت العقل ونصائح العقلاء من وزرائه من قبیل الوزیر محمد بن العلقمی لتجنیب سقوط بغداد بید المغول الذین راحوا یحتلون المدن الاسلامیة كالسیل العرم، وبشكل عام: "وفی هذه الفترة العصیبة لم یكن للحركة الأدبیة مرتع یناسبها فقد ضعفت مبانی الشعر وتراكبیه واتجه من كان بمقدوره نظم الشعر فی ظل هذه الظروف الى تناول المعانی المتداولة وبرز العنصر الدینی فی الأدب والشعر معا".
وفی العصر العثمانی الذی ابتدأ من إنشاء الدولة العثمانیة عام 680 هجریة، انفتحت شهیة الحكام على الفتوحات والحروب، وفی المقابل انعقد لسان: "الأدب العربی فی ظل هذه الحروب والانتهاكات والاحتلالات وتعاقب الحكومات من شتى اللغات والقومیات غیر العربیة والتی على أثرها دخل اللحن فی اللغة والتسیب فی آدابها وظهر الشعر الملمع بالتركیة والفارسیة والهندیة وغیرها، واستخدمت الكلمات الدخیلة وراجت اللهجات الدارجة"، أما الشعر الحسینی فانه لم یشذ عن مسار الشعر العام الذی نظم فی هذه الفترة، ولما كان محوره الامام الحسین فلابد أن یكون النظم على الولاء والعقیدة، إذ إن: "الحسین كان وسیبقى المادة الخصبة للشعراء والنقطة الروحیة الناطقة لتجمیع الأمة یلجأ الیها الانسان فی مثل تلك الظروف الحالكة لیتقرب الى الله ویشكو همه".
وبعد أن استولى العثمانیون على جل البلاد العربیة حل (عصر الاستقرار) فاستتب الأمن وافترشت لهم وسادة الحكم، وحاولوا جاهدین تحمیل ثقافتهم التركیة على المسلمین مع التزامهم بالثقافة الاسلامیة بشكل عام. وقد اتسم (الحكم العثمانی الأول) كما یرى المحقق، بالاستبداد، والطائفیة، والقومیة، وبروز التصوف، والعنف، وهذه أثرت على النتاج الأدبی النثری والشعری، حیث اكتسب الأدب فی عصر الاستقرار الكثیر من سمات هذه الظواهر، حیث: "تمكن الضعف فی النفوس وفسدت ملكة اللسان وجمدت القرائح فلا نبغ شاعر مشهور خارج البلاد العربیة، لان البیئة الأدبیة قد انكمشت انكماشا ملموسا فانحصرت فی مصر والشام وحدهما"، وأفضل من یصف حالة الأدب فی ذلك العصر هو البكاشكیری (ت 992) صاحب العقد المنظوم فی أفاضل الروم، حیث یقول: "قد انتهیت الى زمان یرون الأدب عیباً ویعدون التضلع فی الفنون ذنبا والى الله الحنان المشتكى من هذا الزمان"، على انه برز فی هذا العصر كما یقول البحاثة الكرباسی: "شعر التصوف والمدائح النبویة بشكل عام وخفت الأغراض الشعریة الأخرى كالغزل والفخر والحماسة والمدح وما شابه ذلك ومعه خف المستوى الأدبی والإبداعی فی الشعر، كما برز شعراء مخضرمون ینظمون بالعربیة وبالفارسیة أو بالتركیة والعربیة".
وبموت السلطان سلیمان الثانی (ت 1102هـ) حكم الدولة العثمانیة سبعة عشر سلطانا حتى انقراضهم، وهذه الفترة یصفها المؤلف بأنها فترة (عصر التدهور) حیث نشبت الحروب على أطراف الدولة العثمانیة نتج عنها استقطاع المدن وضمها الى هذه الدولة او تلك، أو الاستقلال بنفسها، وبالتبع نال الأدب النثری والشعری ما نال الواقع السیاسی العام، وهكذا: "ضعف الشعر فی هذا العصر وأصبح ركیك الأسلوب، سخیف المعانی، كثیر الأغلاط، ضعیف الأغراض"، ولكن فی المقابل حیث لا یرتبط الشعر الحسینی بالبلاط فانه استطاع أن یقفز على الضعف الذی أصاب الشعر، ولهذا فان: "المجموعة الشعریة التی حصلنا علیها عن هذه الفترة والتی تطابق تاریخیا القرنین الثانی عشر والثالث عشر، والنصف الأول من القرن الرابع عشر الهجری تزایدت باضطراد"، فان: "عددهم فی هذه الفترة تجاوز 330 شاعرا، القرن الثانی عشر نحو ستین شاعرا، القرن الثالث عشر نحو 130 شاعرا، القرن الرابع عشر حتى عام 1342 هـ نحو 130 شاعرا، والعیون منهم نحو خمسین شخصیة".
الأدب فی العصر الحدیث
أما (المرحلة الثالثة) من مراحل الشعر الحسینی، فان البلدان العربیة والإسلامیة شهدت احتلالا من قبل هذا الاستعمار واستقلالا عن ذاك، ولا یخفى: "إن الاستقلال لم یأت عن فراغ ولا عن إرادة دولیة أو غربیة، بل اثر نهوض الشعوب الاسلامیة بوجه الاستعمار وتقدیم التضحیات الجسام من قبل الأشراف وبقیادات شریفة كالشیخ محمد تقی الشیرازی فی العراق، وعمر المختار فی لیبیا، وعبد القادر الجزائری فی الجزائر، واحمد عرابی فی مصر، وإبراهیم هنانو فی سوریا، ومحمد احمد المهدی فی السودان، ومحمد المهدی فی الصومال، وشرف الدین فی لبنان، وأمثالهم فی أقطار أخرى". ولابد أن یصطبغ عموم الأدب بملامح (العصر الحدیث)، فعلى صعید اللغة خرجت الأمة من هیمنة اللغة التركیة، ولكن الاستعمار حاول فرض لغته كما فی شمال أفریقیا، وعلى صعید الجانب السیاسی: "تأثر العالم الاسلامی بالسیاسة الغربیة وذلك بفضل الحكام الذین وصلوا الى الحكم فی البدایة على أكتاف الغربیین إن بشكل مباشر أو غیر مباشر"، وتأثر الأدب بهذه التحولات، وساعد (الأدب والأدباء فی هذه المرحلة) ظهور: الصحافة والمدارس والإذاعة والطباعة والترجمة والمواصلات والاتصالات والاستقلال والمكتبات والهجرة والمجامع العلمیة والجامعات، وقد ازداد الشعراء فی هذا العصر، لكنه شهد من جانب آخر (صراع اللهجتین) بین الفصحى والدارجة.
وقبل أن یلج المصنف صلب موضوع الشعر وأغراضه وبحوره وأوزانه، یرى أن التطلع الى (المستقبل) یستدعی: أن یتحول الأدب الى أدب تخصص فی أغراضه، وان یبتعد عن التسیس فیكون طوع الحاكم، وان یكرم الشاعر أیام حیاته وعطائه، وان یتم إنشاء مجمعات وندوات أدبیة، وان یصار الى إعادة المباراة الشعریة، وان یتم الالتقاء بالحضارات الأخرى عبر عقد الندوات، وان یتم دراسة الشعر والأدب من قبل أخصائیین معترف بهم، وان یصار الى تقییم النتاج الأدبی والشعری بین فترة وأخرى، وان تتوجه الأنظار للاعتناء بالمواهب الفنیة وصقلها، وان یوجه الأدب لصالح المجتمع.
بحور تنفتح على أخرى
ویوضح المصنف ضمن (معیار النظم) مصطلحات العروض والوزن والبحر، فالأول یبحث أوزان الشعر والبحور ومتعلقاتهما، والثانی یتناول المقاییس الإیقاعیة، والثالث یبحث نوعیة الوزن والإیقاع، فنوعیة التفعیلات التی تشكل الإیقاع الجمیل هو البحر. ویعترض المصنف ضمن بحث (عروض الخلیل بین الأصالة والتحدیث) على اولئك الذین یحاولون عبثا نسبة ما اكتشفه الخلیل بن احمد الفراهیدی من بحور الى غیره. ثم یتناول (البحور) بشیء من التفصیل، وبخاصة التی توصل الیها الخلیل وهی خمسة عشر بحراً: الطویل، المدید، البسیط، الوافر، الكامل، الهزج، الرجز، الرمل، السریع، المنسرح، الخفیف، المضارع، المقتضب، المجتث، والمتقارب. وزاد الأخفش بحر المتدارك، وزاد أبو العتاهیة بحر المِدَق، وزادوا بمرور الأیام بحور: المستطیل، الممتد، المتئد، المنسرد، المُطرد، المتوافر، الدوبیت، السلسلة، المبسوط، المستدق، المستدرك، المستقرب، القریب، المشترك، الموجز، المستكمل، المستزاد، المتوفر، المخفف، المركب، والمتسرح. ویلحق بهذه البحور عشرون أخرى، فضلا عن (المربوع) فی 22 نوعا، وبشكل عام لا یمكن قصر البحور على عدد معین، ذلك: "إن اختراع البحور لیس حكرا على احد وإنما تابع للقواعد والمعاییر، فأینما وجد الإیقاع وتوفرت الشروط فلا یمكن رفضه" ولهذا أوجد الدكتور الكرباسی أوزانا جدیدة أدرجها فی كتابه "الأوزان الشعریة"، وواصل فی هذا التوجه حتى وضع كتابه هندسة العروض لیوصلها الى 208 بحور بغض النظر عن مولداتها.
ویعتقد: "إن البحر من جهة والوزن من جهة أخرى تابعان لموسیقى الكلام ووقعه لدى السامع ویتدخل فیه الذوق ولا یمكن حصره بما وضع له"، ولذلك لا یعترض على (التجاوزات المجازة)، بلحاظ انه: "كلما لم یستهجنه الذوق السلیم فهو موزون" أیده فیما توصل الیه الأدیب واللغوی العراقی الراحل الدكتور ابراهیم السامرائی فی قصیدتین بعث بهما للمؤلف.
أصل الشعر: الرجز أم الحداء؟
ویحدثنا المصنف عن (الرجز)، ولا یؤید قول البعض انه لیس من الشعر، وقد: "سمی بحمار الشعراء او حمار الشعر لسهولة النظم على زنته او لسهولة التلاعب مع تفعیلاته ورویه"، بل یؤید ما ذهب الیه البعض بان اصل الشعر بدأ بالرجز، فیكون تاریخه من تاریخ الشعر، على إن البعض یرى أن الحداء، وهو سوق الإبل والغناء لها، هو أساس الشعر عند العرب ثم تطور الى سائر ألوان الرجز ومن ثم الى غیره من الأوزان والبحور، ربما یؤیده فی ذلك قوله النبی محمد (ص): "لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنین". ومن الرجز (الأرجوزة) حیث یلتزم الشاعر بالقافیة الموحدة فی كل من الصدر والعجز دون غیرهما. وفی مقابل الرجز ظهر (القصید) حیث كان أول تطوره أن قاموا بتطویل شعر الرجز فنتج عن ذلك القصید. واشتهر الرجز بوصفه (شعر الحرب).
الشعر الحر وأمور أخرى
ویفرد المصنف عنوانا مستقلا للحدیث عن وزن (الدوبیت) وتتبع أصل الكلمة وتاریخها وتفاصیلها، و(نشأة الدوبیت)، والعلاقة بین (الأدب العربی والدوبیت)، وحجم (وقع الدوبیت) و(تركیبة الدوبیت)، ومناقشة (أقوال شاذة فی وزن الدوبیت)، وملاحظة (أنواع الدوبیت وتطوره). وبشكل عام فان الدوبیت كلمة فارسیة مركبة من "دو+بیت" وتعنی البیتین: "وفی الحقیقة انه كالمربع فی كونه یحتوی على أربعة أشطر ولكن یخالفه فی الوزن ویتفق معه فی اتحاد قافیة الشطر الأول والثانی والرابع" ولعل الشاعر الإیرانی "رودكی" أول من نظم على وزنه، بید أن: "أدباء العرب وشعراءهم تفننوا فی القالب الشعری من الدوبیت وطوروه حتى أصبح له أنواع مختلفة"، أما فی الأدب الحسینی فان الدوبیت دخله منذ القرن السادس الهجری او قبله بقلیل.
ویفرد البحاثة الكرباسی عنوانا خاصا یتناول (الشعر الحر) بوصفه حالة وسطى بین النثر المقفى والشعر الموزون، وان كان البعض یرى أن الشعر الحر فی عائلة الأدب كالخنثى، لا هو من جنس النثر ولا من جنس الشعر، حیث ضاع قائله بین المشیتین! وعند المصنف أن المختار من الشعر الحر: "المتحرر من القافیة فقط دون الوزن تناسبا مع وضع الشعر وما حملته الكلمة من معنى حیث إن موسیقى الكلمات المعبّرة هی التی تهزّ مشاعر الانسان"، مشیرا الى قصائد نازك صادق الملائكة وبدر شاكر السیّاب بوصفهما ممن حرك فی قصائده من الشعر الحر مشاعر الانسان.
والعنوان الأخیر من عناوین الجزء الأول من كتاب المدخل الى الشعر الحسینی، اختص بوزن (البند) او القفل او العقدة او الفقرة او القسم، فهذه أسماء عربیة لأصل الكلمة الفارسیة بفتح الباء وسكون النون، وحاصل البحث: "إن البند نوع من أنواع الشعر كان معروفا قدیما وهو یشبه ما یسمى بالشعر الحر فی زماننا".
ولا یتنازل المصنف عن حق القارئ فی أن یعرف كل ما تضمنه الكتاب فترك له فهارس غنیة بالمعلومات، یتابع من خلالها: الآیات المباركة، الأحادیث والأخبار، الأمثال والحكم، الأعلام والشخصیات، القبائل والإنسان والجماعات، الطوائف والملل، الأشعار، التأریخ، اللغة، مصطلحات الشریعة، المصطلحات العلمیة والفنیة، الوظائف والرتب، الآلات والأدوات، الإنسان ومتعلقاته، الحیوان ومتعلقاته، النبات ومستحضراته، الفضاء ومتعلقاته، الأرض ومتعلقاتها، المعادن، الأماكن والبقاع، الزمان، الوقائع والأحداث، المؤلفات والمصنفات، المصادر والمراجع، مؤلفو المراجع.
ولا یتنازل المصنف أیضا عن حق الآخرین فی النقد أو بیان وجهة نظرهم او فكرة جدیدة یقدمها علم من الأعلام من جنسیات وأدیان ومذاهب مختلفة، ولذلك فإننا فی هذا الجزء نقرأ وجهة نظر المفكر اللبنانی المسیحی انطوان بارا الذی یبدأ قراءته لهذا الكتاب بالتأكید انه: "لو قلنا أن الإسلام بدؤه محمدی واستمراره حسینی، فلن نكون مجافین لحقیقة تجلت فی شواهد دینیة وتاریخیة" فقد "كانت كربلاء بارهاصاتها الروحیة أنشودة وضعها الحسین على الشفاء فما ملّتها قط، استوطنت حناجر الأجیال، تطرب لها العقول وتحنو علیها الأضلع والصدور كدرّة ثمینة، فتلهب المشاعر وتهز القرائح لها اهتزاز الصبّ المستهام فتخلدها كلماً وشعراً الى جانب ما خلده التاریخ منها سرداً وتحلیلاً"، وعبّر عن سعادته لصدور الموسوعة الحسینیة ومتابعتها للنهضة الحسینیة: "لأنه عمل فكری لا یجارى". وبوصفه أدیبا رأى أنطوان بارا أن ما أتى به المحقق الكرباسی فی هذا الجزء وما سیلیه من أجزاء هو كنز عظیم لان: "المكتبة العربیة تفتقر الى كتاب یجمع بین دفتیه ما نظم من أشعار عن ملحمة كربلاء التی شكّلت على مر التاریخ إلهاما للشعراء وذوی النفوس الشفیفة".
وأجد أن هذا الجزء بما فیه من مادة أدبیة ومعرفیة دسمة لا یستغنی عنه أی طالب أدب من نثر او شعر، فهو ینقل أقدامه الى الجادة الصحیحة التی ینبغی أن یسلكها للوصول الى مصفًى العمل الأدبی وزلال الأدب الموجه.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:30|