ابزار وبمستر

التجدید العروضی الغنائی فی شعر الموشحات الأندلسیة
التجدید العروضی الغنائی فی شعر الموشحات الأندلسیة

احتاجت الدولة العربیة فی الأندلس إلى قرنین أو ثلاثة قرون من تأسیسها حتى تستقر أركانها وتثبت دعائمها. وعندئذ مال الناس إلى الترف واللهو فی حیاتهم، وكان من آثار ذلك انتشار الغناء ودواعی الطرب، وزیادة الاهتمام بالألحان، والموسیقا وآلاتها.

ولاشك أن لهذه الحال الاجتماعیة أثراً كبیراً فی نشأة الموشحات وشیوعها، لأن الموشحات عامة تدخل فی إطار الاتجاه الشعبی الذی هیأ له نمو الشخصیة الأندلسیة وإسهام الأندلسیین فی إنشاد الشعر والإصغاء إلى ألحانه فی مجالسهم وأسمارهم.

وهذه الصلة الوثیقة بین الموشحات والغناء تبدو فی اعتماد لغة الموشحات على الألفاظ الرقیقة الغزلة الهزازة والمعانی الطریفة، على ما فیها من سطحیة، وبموضوعاتها التی تناسب جو الغناء والمرح من غزل ووصف خمر وطبیعة ساحرة عرفت بها بلاد الأندلس ومرابعها العامرة.

وعلى الرغم من قوة الصلة بین الموشحات وبین الموسیقا وطریقة الغناء، فإننا لا نعلم شیئاً عن النظریة الإیقاعیة التی قامت علیها الموشحات، ولا عن كیفیة أدائها وتلحینها وإنشادها، ولكن الراجح أنها كانت تصاغ على نهج معین لتتسق مع النغم المنشود، وأنها كانت تغنى بطریقة فردیة، لا بطریقة "الكورس"، وأن الوشاح هو الملحن غالباً، وقد یكون غیره. أما المغنی فهو شخص آخر. وأغلب الظن أن بواكیر الموشحات عاشت زمناً بین الناس مسموعة لا مقروءة. ولم یعمد أحد إلى تدوینها فی بادئ الأمر. ولیس معنى ذلك أن الموشحات جمیعاً كانت تغنى، إذ لا شك أن كثیراً منها نظم لغیر غرض الغناء والتلحین، ولاسیما تلك التی لا تتصل مناسبتها ولا موضوعها بهذا الجانب: كالهجاء والرثاء والزهد.

وهذا كله یعنی أن الموشح فن أندلسی أصیل ابتدعه العرب فی ظل ظروف اجتماعیة خاصة، وهذا ما أكده المؤلفون العرب من أندلسیین ومشارقة، كابن خلدون فی مقدمته، وابن بسام فی ذخیرته، وابن دحیة فی "المطرب"، والمقری فی نفح الطیب، وابن سناء الملك فی "دار الطراز"، وغیرهم، وإن كانت هناك أقوال یسیرة تنسب ظهور بدایات هذا الفن إلى المشارقة.

أما الأثر المتبادل بین فن الموشحات وشعر التروبادور Troubaours، فما زال یفتقر إلى مزید من المناقشة والتثبت والتمحیص، وإلى القول الفصل فی مدى التأثیر والتأثر بینهما(2). فالموشحات إذن هی عربیة الأرومة، وفن جدید فی الشعر الأندلسی، لأن البیئة فی الأندلس كانت مواتیة للتجدید أكثر من المشرق، ویمكن أن نحدد الموشح بأنه قالب شعری عربی وشكل مستحدث للقصیدة شذ فیه الأندلسیون عن مأثور نظامها الموسیقی الموروث فی الوزن الواحد، والقافیة الواحدة، إلى نظام آخر یحمل خصائص معینة.

وأهم هذه الخصائص –مما یدخل فی نطاق بحثنا هذا- خروج الموشح على نظام القافیة الواحدة فی القصیدة، واللجوء إلى التنویع فی القوافی والتوزیع الإیقاعی وفق نسق معین یجعل الموشح حقاً أشبه بالوشاح المزین المزركش الذی رصعته الجواهر المتلألئة، وزینته الزخارف والنمنمات الملونة، فضلاً عن "الخرجة" التی تأتی فی خاتمة الموشح زینة أخرى متمیزة، عندهم، بخصائص ینبغی للوشاح مراعاتها.

ومن هذا المنطلق، منطلق التجدید العروضی الإیقاعی، والموسیقی الغنائی، نشیر إلى أن الوشاحین الأندلسیین –على كثرتهم- لم یبینوا لنا بصورة واضحة قواعد الموشح وأسس بنائه ومصطلحاته، وإن كنا نجد هنا وهناك بعض الإشارات إلى أصول هذا الفن. وربما كان ابن سناء الملك، المصری، (608ه/1212م) أول من حاول أن یحدد قواعد هذا الفن الشعری وأوزانه، ویبیّن لنا خصائصه وطرق نظمه، وذلك فی كتابه القیّم "دار الطراز فی عمل الموشحات". وتكونت نتیجة لذلك كله جملة من التقسیمات والتصنیفات التی حملت مصطلحات مختلفة، ومتضاربة فی دلالاتها أحیاناً. إلا أننا سنقتصر على أیسرها وأقربها منالاً، مما لا یتعب القارئ فی استیعابه وتفهمه:

إن أهم أقسام الموشح وعناصره هی: القفل، والبیت، والغصن، والخَرْجة. وهذا ما نوضحه فی بعض مقاطع الموشح التالی لابن زُهر الأندلسی (595ه/1199م):

حَیِّ الوجوه المِلاحا

وحیِّ نُجلَ العیونْ

هل فی الهوى من جُناحِ

أم فی ندیمٍ وراحِ؟

رام النصیحُ صلاحی

وكیف أرجو صَلاحا

بین الهوى والمجون؟

أبكی العیونَ البواكی

تذكارَ أختِ السِّماكِ

حتى حَمامُ الأراكِ

بكى شجونی وناحا

على فروعِ الغصونْ(3)

افتتح هذا الموشح بالبیت الأول وهو المطلع، ویسمى قفلاً. وهو على البحر المجتث (مستفعلن فاعلاتن) بضرب مقصور (فاعلاتن). وعلى وزنه هذا، وقافیتی صدره وعجزه توالت بعده الأقفال كلها، ویضم هذا الموشح ستة أقفال، یبدأ بقفل وینتهی بقفل، ویسمى عندئذ "التام".

والأقفال أساسیة فی الموشح، وبدونها لا تكون المنظومة موشحاً، وهی الوحدة الأولى فیه. ویسمى كل شطر من شطری القفل: غصناً.

أما الوحدة الثانیة فی الموشح فهی التی تلی القفل، وتتألف هنا فی موشح ابن زهر من ثلاثة أشطر أو أغصان وزن كل منها (مستفعلن فاعلاتن) أیضاً، تسمى بمجموعها "بیتاً". وعددها خمسة "أبیات". وهی جمیعاً تتفق فیما بینها فی الوزن ولكنها تختلف فی القوافی. وهذا النظام هو الغالب فی الموشح عامة، وهو المسمى "بالتام" ویكون مؤلفاً –كما نرى- من ستة أقفال، وخمسة "أبیات". وكلها ذات وزن عروضی واحد. فإذا لم یبدأ بقفل، بل ب "بیت"- وهذا قلیل- سمی الموشح "أقرع".

ولا یقتصر القفل فی الموشح على بیت شعری واحد ذی شطرین أو غصنین، بل قد یكون أكثر من ذلك، وكذا "البیت" بین القفلین یمكن أن یكون مؤلفاً من عدة أغصان، تكتب على نسق شاقولی (عمودی)، أو أفقی فی سطر واحد.

أما "الخَرْجة" فهی القفل الأخیر من الموشح –كما قال ابن سناء الملك فی كتابه "دار الطراز"- وإذا كان القفل الأول فی الموشح لیس عنصراً رئیسیاً، فإنه فی غایة الأهمیة عندما یكون فی خاتمة الموشح، وهو الذی یعرف بالخَرْجة، وهی ركن أساسی یولیه الوشاحون عنایة خاصة، ولها شروط تنسجم مع جو الطرب والغناء المواتی للموشحات.

والموشح، بعد هذا، بأقفاله و"أبیاته" وأغصانه وخرجته یؤلف وحدة كاملة مترابطة فیما بینها فی المعنى، كما الأبیات كلها فی القصیدة العربیة الموروثة، وهذا التقسیم الاصطلاحی الإیقاعی لأجزاء الموشح لا یعنی أنها منفصلة فیما بینها من حیث الأفكار والمعانی.

وبعد هذه الوقفة عند أجزاء الموشح وعناصره التی تؤلف بنیته ووحدته، یحسن بنا أن نتحدث عن وزنه العروضی أو التفعیلی، ومدى ما فیه من تجدید أو تقلید فی هذا الجانب. وفی هذا السیاق الغنائی القائم على التلحین والوزن یمكن أن نقسم الموشحات إلى خمسة أقسام:

1-قسم یلتزم بالبحور الشعریة الستة عشر الموروثة، التزاماً تاماً، من حیث أوزانها المعروفة، أما فیما عدا ذلك فإنها تختلف فی شكلها الفنی وتوزیعها الإیقاعی عن شكل القصیدة، وقلیل من الوشاحین من یلتزمون بنظام الشطرین وحده فی الموشح –على طریقة القصیدة العربیة –لكنهم حتى فی هذه الحالة یحافظون على طریقة الأقفال و "الأبیات" دون مراعاة الخرجة.

ومن هذا القبیل موشحة ابن سهل الإشبیلی (649ه/1251م) التی بدأها بقفل مؤلف من أربعة أشطر، على بحر الرمل:

هل درى ظبیُ الحِمى أنْ قد حمَى

قلبَ صَبِّ حلّه عن مكنسِ؟

فهو فی حَرٍّ وخفْقٍ مثلما

لعبتْ ریحُ الصَّبا بالقَبس

وختمها بهذا القفل الأخیر:

قلتُ، لمّا أن تبدّى مُعْلَما

وهو من ألحاظِهِ فی حَرس

أیُّها الآخِذُ قلبی مَغْنَما

اجعلِ الوصلَ مكانَ الخُمُس

وما بین القفلین، الأول والأخیر، تأتی "الأبیات" وعددها خمسة، على وزن الرمل أیضاً، ولكن قوافیها تختلف من "بیت إلى آخر" وكل بیت مؤلف من ستة أشطر، وأوّلها بعد المطلع (القفل الأول) وقافیته راء ساكنة:

یا بدوراً أشرقتْ یومَ النوى

غرراً تَسلكُ بی نهجَ الغرَرْ

ما لنفسی فی الهوى ذنبٌ سوى

منكم الحسنُ، ومن عینی النظَرْ

أجتنی اللذّاتِ مكلومَ الجَوى

والتذاذی مِن حبیبی بالفِكَرْ(4)

ثم تتوالى "الأبیات" بین الأقفال على هذا النسق.

وأما النوع الآخر من الموشحات الجاریة على الأوزان الموروثة فإن الوشّاح لا یلتزم نظام الشطرین المتقابلین، بل ینوع فی بناء الموشح من حیث الالتزام بالشطرین معاً فی الأقفال، وبشطر واحد أو أكثر فی "الأبیات".

ومثال ذلك موشح ابن زُهر الأندلسی (595ه/1199م) وهو موشح تام على بحر الرمل، ذو ستة أقفال وخمسة "أبیات"، وكل بیت مؤلف من ثلاثة أشطار، والقفلان الأولان یأتیان على النمط التالی، مع القفل الواقع بینهما، وتتبعهما بقیة الأقفال والأبیات على النمط نفسه، مع اتفاق فی قافیة الأقفال، واختلاف فی قوافی "الأبیات":

أیها الساقی إلیك المشتكى

قد دعوناكَ وإن لم تسمعِ

وندیمٍ هِمتُ فی غُرّتهِ

وبشربِ الراح من راحتِه

كلما استیقظَ من سكرتهِ

جذبَ الزقّ إلیه واتّكا

وسقانی أربعاً فی أربعِ(5)

2-قسم یظهر فیه التجدید على استحیاء، وهو ما یفعله بعض أصحاب الموشحات من ابتعاد موشحاتهم قلیلاً عن البحر التقلیدی، وذلك بتعدیل بعض تفعیلاته، أو إدخال شیء من الزیادة أو النقصان فی حركاته وكلماته، أو فی تقفیة حشو الأبیات فی موضع معین للتزیین والزخرفة، ومثال ذلك الموشح التام –الذی سبق- لابن زهر وأوله:

حَیّ الوجوهَ المِلاحا

 وحَیِّ نُجل العیونْ

هل فی الهوى من جُناحِ

أو فی ندیمٍ وراح؟

رام النصیحُ صلاحی

وكیف أرجو صَلاحا

بین الهوى والمجونْ؟

فهذا الموشح یقوم فی أصله على وزن البحر المجتث (مستفعلن فاعلاتن)، ولكن ابن زُهر لم یبق الضرب فی الأقفال كلها على فاعلاتن بل جعله "مقصوراً" بحذف ساكن السبب الخفیف فی آخره وتسكین ما قبله فصار (فاعلاتْ = فاعلانْ). وهذا التغییر لا وجود له فی وزن المجتث الموروث.

ومن هذا القبیل موشح أبی بكر بن بقی (540ه/1145م) وأوله:(6)

یا ویحَ صبٍّ إلى البرق

له نظَرُ

وفی البكاء معَ الوُرْقِ له وطرُ

من أجل بُعدٍ عن صَحْبی

بكیتُ دمَا

كم لی هنالكَ من سِرْبِ

ووصْلِ دُمى

وعسكرُ اللیلِ فی الغربِ

قد انهزَما

والصبحُ قد فاضَ فی الشرقِ

له نهَرُ

وسال من أنجُمِ الأُفْقِ دمٌ كدِرُ

فهذا الموشح من وزن البسیط التام، ولكن الوشّاح التزم قافاً مكسورة فی وسط الحشو من شطری الأقفال جمیعاً، وبذلك بناها على أربع قوافٍ یُتوقّف عندها فی القراءة أو الإنشاد بما یجعل القفل خارج البحر البسیط من حیث الظاهر.

أما "الأبیات" فقد جعل أغصانها شطراً من البحر البسیط، ولكنه جعل لكل غصن قافیتین (ب +ما) بحسب الظاهر مع أن تفعیلات الغصن كلها متتابعة فی الوزن (مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن) ثم نوّع هذه القوافی فی سائر أغصان "الأبیات" ضمن الموشح كله.

3-ونوع ثالث من الموشحات الموزونة، وهو ما اشترك فیه أكثر من وزن واحد، ویكون ذلك بإحدى طریقتین:

آ- استخدام بحر واحد فی موشح واحد كامل، وذلك بتوظیف حالاته المختلفة من زحافات وعلل، وأعاریض وأضرب، وتام ومجزوء، ومشطور ومنهوك ضمن الموشح نفسه، لا یخرج فی ذلك كله عن بحر واحد داخل الموشح المنشود، كأن تأتی أشطار على الرمل التام، وأخرى على مجزوء الرمل.. أی یتفاوت عدد التفعیلات وأشكالها.

ب- أن یجمع صاحب الموشح بحرین اثنین فی موشح واحد بحیث یأتی بأشطرٍ على بحر ما، تام، أو مجزوء، أو منهوك، ثم یعدل عنه فی أشطر تالیة إلى بحر آخر مختلف التفعیلات، وذلك فی حال تنقله من القفل إلى البیت. أما الأقفال أو الأبیات فیبقى كل منها ملتزماً وحدة البحر مع نظائره فی الموشح نفسه، من أقفال و"أبیات"، إضافة إلى وحدة القافیة بین الأقفال، أو فی حشو الأقفال و "الأبیات" المقفّاة" فی حشوها. ومثال ذلك موشح للأعمى التُّطیلی (القرن 3ه = 9م) یقول فیه(7):

المطلع (القفل الأول)

ضاحكٌ عن جُمانْ

سافرٌ عن بَدرِ

ضاق عنه الزمانْ

وحواهُ صَدری

* *

البیت الأول

آهِ مما أجِدْ

شفّنی ما أجِدْ

قام بی وقَعدْ

باطشٌ مُتَّئدْ

كلّما قلتُ قدْ

قال لی: أینَ قد؟

* *

القفل الثانی

وانثنى خوطَ بانْ

ذا مَهَزٍّ نَضْرِ

عابثَتْهُ یَدانْ

للصَّبا والقَطْرِ

وهكذا دوالیك..

وقد جاءت التفعیلات فی هذا الموشح على الوجه التالی:

المطلع (القفل الأول)

فاعلن فاعلانْ

فاعلن مفعولنْ

فاعلن فاعلانْ

فعلن مفعولنْ

البیت الأول:

فاعلن فاعلن

فاعلن فاعلن

فاعلن فعِلن

فاعلن فاعلن

فاعلن فاعلن

فاعلن فاعلن

القفل الثانی:

فاعلن فاعلانْ

فاعلن مفعولنْ

فاعلن فاعلانْ

فاعلن مفعولنْ

4-وقسم من الموشحات له أوزان وتفعیلات خاصة یدركها السامع عند القراءة أو السماع، ویستعذبها الذوق ولكنها لا تنطبق على شیء من أوزان الشعر العربی الموروثة.

وقد حاول بعضهم حصر الأوزان والتفعیلات التی بُنی علیها هذا النوع من الموشحات وجهدوا فی أن یردّوها إلى نظام الأوزان العروضیة التی حصرها الخلیل الفراهیدی ومَن بَعدهُ فی البحور الستة عشر، وفروعها، حتى أوصلوها إلى نحو 150 وزناً أو بحراً مخترعاً، لا عهد للشعر العربی بها، ولكن محاولاتهم هذه اتسمت بشیء كبیر من التكلف والافتعال، فضلاً عن أنها لم تستقص أوزان الموشحات كافة، فما زالت هناك موشحات خارج تلك الأوزان ولكن الإیقاع فیها –على كل حال- هو عربی خالص، وتفعیلاتها متناسقة مع اختلاف تنویعاتها، وإن كانت لا یمكن أن تنتمی إلى بحر معین كالبسیط أو مجزوء الكامل.. الخ فالوزن العربی لم یُقفل بابه على مر العصور، ولیس هناك ما یحول بین الشاعر المجدّد وبین استخراجه ما یریده من أوزان، إذا جرى فی الاستخراج على قاعدة سلیمة فی التقفیة والإیقاع.

ومثال هذا النوع قول ابن اللَّبانة (507ه/1113م):

القفل الأول

كم ذا یؤرّقنی ذُو حَدقِ

مَرضَى صِحاحِ

لا بُلینَ بالأرَقِ(8)

البیت الأول

قد باح دمعی بما أكتمُه

وحنَّ قلبی لِمنْ یَظلِمُهُ

رشَا تمرَّن فی "لا" فَمُهُ

كم بالمُنى أبداً ألثِمُه

القفل الثانی

یفترُّ عن لؤلؤٍ فی نَسقِ

منَ الأقاحی

بنَسیمهِ العَبِقِ

وجاء الوزن فیه على الوجه التالی:

القفل (1)

مستفعلن فعِلن مفتعلن

مستفعلن متفْعلن مفاعلَتن

البیت (1)

مستفعلن فاعلن مفتعلن

متفْعلن فاعلن مفتعلن

متفعلن فعلن مفْتعلن

مستفعلن فعلن مفتعلن

القفل (2)

مستفعلن فاعلن مفتعلن

متفْعلن مفتعلن مفاعلتن

5-والقسم الخامس والأخیر من الموشحات ما لیس له وزن یدركه السمع عند قراءته أو إنشاده، ولا یوزن إلا بالتلحین وذلك بمد حرف، وقصر آخر أو خطف حركته، وإدغام حرف فی حرف، وغیر ذلك من فنون التلحین.

وهذا النوع –كما قال ابن سناء الملك –لا یدخل شیء منه فی أوزان العرب، وهو النمط الذی یسود أكثر نماذج الوشاحین فی الأندلس، وعدده لا یقع تحت حصر، ولا یستقصیه إحصاء، لأنه قائم على التلحین فقط، ولا میزان له إلا الضرب على العود أو النفخ فی الأرغن، ولا ضابط له سوى النغم والإیقاع عن طریق مد الصوت بالإنشاد والغناء، أو قصره وحبسه، حتى ینسجم مع اللحن العام الذی یسود الموشح المغنّى.

وهذا یؤكد التلازم والتواشج الوثیق بین التوشیح والغناء، وما كان من هذا النمط فإنه لا یعلم صالحه من مختله إلا بمیزان الغناء والتلحین الذی یجبر كسره، ویقوّم معوجّه، ویردّه صحیحاً. ولكن هذا لا یمنع من ورود بعض الكلمات أو التراكیب فیه موزونة أحیاناً على بعض التفعیلات.

ومثال هذا النوع قول ابن القزاز فی مطلع موشح له(9):

رُحْ للراح وباكِرْ

بالمُعْلَمِِ المَشُوفْ

غَبوقا وصَبوحْ

على الوتَرِ الفصیحْ

لیس اسمُ الخمرِ عندی

مأخوذاً فاعلَمْ

إلاّ مِن خاءِ الخَدِّ

ومیمِ المَبْسِمْ

وَراءِ ریقِ الشَّهْدِ

العاطِرِ الفَمْ

فكُنْ للهم هاجِرْ

وصِلْ هذی الحُروفْ

كی تَغدو وتَروحْ

بجسمٍ فیه رُوحْ

* * *

أخیراً، إن الموشحات فن شعری أندلسی، وهو فن جدید مستقل بمفرده، ونماذجُه المختلفة لا تتفق مع القصیدة الشعریة الموروثة فی جوانب كثیرة، أبرزها الشكل، واللغة، والقافیة، والوزن، كما أنها تتصل اتصالاً قویاً بفن الموسیقا وطرائق الغناء فی الأندلس.

ولاشك أن هذا الفن اكتسب على مدى الأیام قیمة كبیرة، ومكانة سامیة فی میدان الغناء والطرب، حتى إنه استهوى المشارقة، فراح عدد منهم ینظم الموشحات كابن سناء الملك، وابن نُباتة المصری، وصفی الدین الحلی، وتابعهم آخرون حتى العصر الحدیث كالشاعر أحمد شوقی الذی نظم موشحته "صقر قریش" على طریقته الخاصة، وقبله سلیمان البستانی فی ترجمته لإلیاذة هومیروس، فبرهنا بذلك على مطاوعة هذا الفن لنظم الملاحم.

وبذلك تكون الموشحات الأندلسیة منعطفاً بارزاً فی مسیرة الشعر العربی، لأنها أول محاولة تجدیدیة فی الشعر العربی على الإطلاق، والذی عرف بتقالیده الفنیة الراسخة، وعراقة تلك التقالید وقوتها، لذلك لو لم یكن للموشحات إلا أنها كسرت هذا الطوق، وانطلقت منه إلى نظام شعری جدید، لكفى أن تلتفت إلیها الأنظار، ویُبحث عن دواعیها ونتائجها، وإن كان هذا النظام الجدید مرتبطاً بإطار التقفیة والتنویع فی الوزن والإیقاع الموسیقی، وتنوع الأجواء الفنیة الخارجیة دون أن یتعداها إلى المضمون المرتبط برؤیا الشاعر إلى الوجود، والمتصل بمنابع الثقافة الفكریة، وآرائه فی الحیاة الاجتماعیة، وسبر أغوار النفس.

ولاشك أن فن التوشیح كان نقطة انطلاق حثیث إلى السیر فی طریق التجدید العروضی والإیقاعی النغمی فی الشعر العربی الحدیث الذی بدأ یتحرر من رتوب القافیة، ویخرج على توازن الأشطار فی القصیدة العربیة، ویبتعد عن التكلف والتصنع فی اللغة والأسلوب، مما ساعد على ولوج الشعراء مجالات أخرى فی فنون القول: كالقصص الشعریة، والملاحم، والأدب التمثیلی، وكذلك كان فن التوشیح مرتكزاً للتجدید فی الشعر التفعیلی المعاصر، وأنماطه الإیقاعیة المختلفة عند الشعراء فی المشرق وفی المهجر، من أمثال خیر الدین الزركلی، وخلیل مردم والأخطل الصغیر، وعمر أبو ریشة، ونازك الملائكة، وفدوى طوقان، وصلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطی حجازی، وعبد الوهاب البیاتی، والیاس فرحات، والشاعر القروی، وفوزی المعلوف وشفیق المعلوف وغیرهم.

المصادر والمراجع

1-أبو نواس الأندلس، ابن سهل الإسرائیلی: محروس منشاوی الجالی- القاهرة 1986م.

2-الأدب الأندلسی: مصطفى الشكعة –بیروت 1983م.

3-أدباء العرب: بطرس البستانی –بیروت 1937م

4-تاریخ الأدب الأندلسی "عصر الطوائف والمرابطین": إحسان عباس –بیروت 1962م,

5-تاریخ الأدب العربی (الجزء الخامس): عمر فروخ –بیروت 1982م.

6-دار الطراز فی عمل الموشحات: ابن سناء الملك –تح. جودة الركابی- دمشق 1977م.

7-دراسات أدبیة فی الشعر الأندلسی: سعد إسماعیل شلبی –القاهرة 1972م.

8-دیوان ابن سهل الأندلسی: جمعه وشرحه: أحمد حسنین القرنی –القاهرة 1926م.

9- دیوان الأعمى التُّطیلی: تح. إحسان عباس- بیروت 1963م

10-الشعر فی عهد المرابطین والموحّدین بالأندلس، محمد مجید السعید –بیروت 1985م.

11-الشعر والبیئة فی الأندلس: میشال عاصی- بیروت 1970م.

12-فی الأدب الأندلسی: جودة الركابی –دمشق 1955م.

13-مقدمة ابن خلدون: عبد الرحمن بن خلدون- طبعة دار الشعب –القاهرة

14-ملامح الشعر الأندلسی: عمر الدقاق –بیروت 1972م.

15-موسیقا الشعر العربی: محمود فاخوری –حلب 1981م.

16-الموشحات والأزجال: مصطفى عوض الكریّم –القاهرة 1965م.

________________________________________

* مدرّس فی كلیة الآداب بجامعة حلب.

(2) ممّن تناول هذا الموضوع بالبحث: میشال عاصی فی كتابه "الشعر والبیئة فی الأندلس" ص112-114 وسعد إسماعیل شلبی فی كتابه "دراسات أ دبیة فی الشعر الأندلسی" ص90-95.

(3) ملامح الشعر الأندلسی، د.عمر الدقاق، ص 355.

(4) دیوان ابن سهل الأندلسی: جمعه أحمد حسنین القرنی –القاهرة 1344ه، 1926م، ص 53-55.

(5) أدباء العرب: بطرس البستانی 3/77، وتاریخ الأدب العربی: د.عمر فروخ 5/540.

(6) ملامح الشعر الأندلسی: د.عمر الدقاق، ص341.

(7) دیوان الأعمى التطیلی: تحقیق د.إحسان عباس –بیروت 1963م. ص253.

(8) الموشحات والأزجال: مصطفى عوض الكریّم –ص55.

(9) الموشحات والأزجال، مصطفى عوض الكریّم، ص54.

مجلة التراث العربی-مجلة فصلیة تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 85
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 19:31|