ابزار وبمستر

الاغتراب فی الشعر العراق
الاغتراب -ظاهرةً- قدیمةٌ قدم الإنسان فی هذا الوجود. فمنذ أن تكونت المجتمعات الأولى نشأت معها وفی ظلها الأزمات التی كانت تتمخض -بشكل أو بآخر- عن أنواع من الاغتراب عانى منها الفرد، وواجهها على وفق حجم طاقاته العادیة والروحیة، فقد تقوده إلى التمرد والعصیان، مثلما قد تفضی به إلى الاستسلام والانعزال والانكفاء على الذات.‏

ویبدو أن الاغتراب قدر الشعراء العرب القدامى:‏

فقد تغرب امرؤ القیس حین أنكر علیه أبوه قول الشعر وخرج مغضوباً علیه فی نفر من شذاذ طیء وكلب بعد أن شبب بإحدى نساء أبیه. كما عانى طرفة بن العبد من الاغتراب حین خرج على مجتمعه وتمرد على قیم القبیلة فتحامته العشیرة. وعرف عنترة العبسی الاغتراب بسبب لونه ونسبه لأمّه وهی الأمَةَ الحبشیة وكان ذو الرمة ضحیة الاغتراب الاجتماعی بسبب مرضه العصبی، ثم العاطفی حین أحب ((میّة)) قرابة عشرین عاماً.‏

وعانى أبو تمام من اغترابات شتى: مكانیة واجتماعیة ونفسیة حتى آمن بأن الاغتراب هو التجدد. وارتبط الاغتراب بحیاة أبی الطیب المتنبی أیما ارتباط فكان نسیج وحده، افرده الهّم مثلما افرده الحسد. وكان لأبی فراس الحمدانی اغترابه هو الآخر: بسبب مرارة الأسر وعذابات الشوق والحب، وعاش الشریف الرضی اغترابات حادة على رأسها اغترابه الروحی الذی تلبسه بسبب مآسی سلالته الهاشمیة.‏

فإذا ما اقتربنا من أبی العلاء المعری أطْللْنا على ذروة اغتراب النفس، واغتراب المكان واغتراب الجسد. وهكذا یتكشف لنا الاغتراب من خلال أولئك الشعراء وسواهم عن نفوس طامحة وأرواح مجنحّة تاقتْ إلى العلو، ووجدت فی الأرض جحیماً لا یُطاق.‏

وقد بات الاغتراب قضیةً تناولها الفلاسفة والمفكرون بالتحلیل وتعقبّوها بالبحث والاستقصاء بعد نشوء المجتمع الصناعی من جهة، وقیام الحربین الكونیتین وما رافقهما من مآسٍ وویلات من جهة أخرى حتى لیصح أن یقال إنَّ فی كل إنسان مغترباً.‏

ولقد عانى الإنسان العربی بعامة والمثقّف بخاصّة، من اغترابات شتى، واتسمت ردود فعله بأشكال شتى تراوحت بین الانسحاب من الواقع إلى هامش الحیاة، أو الرضوخ للنظام القائم والاندماج فی مؤسساته، أو التمرد بنوعیه: الفردی والثوری الجماعی، أو الهجرة إلى الخارج بحثاً عن فرص أفضل فی الحیاة.‏

ولابد من الإشارة إلى سببین جوهریین وراء اغتراب المثقف: یتصل الأول بقضیة الحریة وما یتعلق بها من مداخلات السلطة السیاسیة والاجتماعیة، ویتعلق الثانی بصدمة المثقف بسبب تعثّر المشروع النهضوی القومی.‏

وإذا انعطفنا نحو الشاعر العربی المعاصر، سنجد أنّ انعكاس الاغتراب علیه بات طردیاً مع تعقید الحیاة وتعفّن أوضاع المجتمع، فالشاعر أسرع من غیره إلى الإصابة بهذا الداء لأنه یتمتع بقدر عال من الحساسیة والتوتر والرهافة، ولهذا فقد عاش فی اغتراب مركب لأنه ((إنسان جمعی یستطیع أن ینقل ویشكل اللاشعور أو الحیاة الروحیة للنوع البشری)) مثلما یقول (یونج).‏

ولا شك فی أن اغتراب طلیعة الشعراء فی هذا القرن وفی الحقب اللاحقة، قادهم إلى محاكاة الرومانسیة الغربیة، یستوی فی ذلك شعراء الوطن العربی والشعراء العرب فی المهاجر، فاتخذوا من اللیل أنیساً، وتاقوا إلى حیاة الكوخ، واعتزلوا المدینة، وتغنوا بالألم، وصار الحزن ندیماً لهم.‏

ومن هنا فقد وجد الشعراء، وبخاصة منهم الرواد: بدر شاكر السیاب ونازك الملائكة، وعبد الوهاب البیاتی، وبلند الحیدری، أنفسهم فی عالم مقفر، تراجعت فیه المثل الروحیة، وافتُقِدَت أواصر الحب الإنسانی الذی یتشوفون إلیه، فعانوا من الاغتراب أیما معاناة، وحاولوا -كل على وفق طاقاته المادیة والروحیة- مواجهته والرد علیه، ومن هنا بدأت أتحسس -بصفتی شاعراً- عمق تجربتهم الإبداعیة التی رسمتها وبدقة تجربتهم الحیاتیة مثلما قادنی ذلك إلى فحص منجزهم الشعری بحثاً عن الثیمات الاغترابیة فیه، قصد الإحاطة بمكوناتها، ومن ثم الوقوف على المناهج التعویضیة التی اعتمدوها، فكانت هذه الدراسة المتواضعة التی اشتملت على أربعة فصول:‏

اختص الفصل الأول بأنماط الاغتراب التی عاشها الشعراء الرواد الأربعة: بدر شاكر السیاب، ونازك الملائكة، وعبد الوهاب البیاتی وبلند الحیدری وهی: الاغتراب الاجتماعی والعاطفی، والسیاسی والمكانی، والروحی، ثم استعرضت المنهج التعویضی الذی استعان به الشعراء للرد على الاغتراب، والذی اشتمل على العودة إلى الطفولة والماضی، وتأسیس المدن الحلمیة واستلهام التراث فضلاً عن صیغ أخرى تفرد بها الشعراء.‏

وحمل الفصل الثانی عنوان ((البنیة اللغویة))، وقد تحدثت فیه عن القصیدة موضوعاً لغویاً، وعن مكونات المعجم الشعری عند الرواد، وهی ألفاظ الغربة، وألفاظ الطبیعة وألفاظ الصوت، فضلاً عن ظاهرة التجسید والتشخیص، وختمت الفصل بالحدیث عن مستویی الأداء اللغوی عند الرواد، وهما: الأداء بالكلام المحكی والأداء بالموروث على صعید اللفظة وعلى صعید التركیب.‏

أما الفصل الثالث فقد خصص للبنیة التصویریة، وقد تناولت فی مستهله المهاد النظری للصورة الشعریة، وموقع الصورة فی البناء الشعری وعلاقتها بكل من المجاز والخیال، والرمز الأسطولی، وختمت الفصل بأمثلة تطبیقیة على التشكیل بالقصة، والتشكیل بالموروث، والتشكیل بالرمز الأسطوری والتشكیل بالرمز الأدبی والتشكیل بالقناع.‏

وفی الفصل الرابع الذی اختص بالبنیة الإیقاعیة، تحدثت عن أثر الموسیقى فی البناء الفنی ودورها فی تثبیت الانفعال، وكیف تتعامل الشعراء الرواد فی موضوع الاغتراب مع الإیقاع الداخلی، عبر وسائل تحقیقه وهی:‏

تكرار الأصوات، وأصوات ..؟.، والتدویم، وتجزئة الوزن العروضی وإلباس الألفاظ إیقاع النواة، وكذلك من خلال موسیقى الإطار، ودور الوزن فی البناء الشعری، مثلما تحدثت عن أثر القافیة الموسیقی، وموقف الشعراء الرواد منها، مستشهداً بأمثلة تطبیقیة محددة.‏

وفی ختام الفصل تناولت ظاهرتین موسیقیتین لفتتا نظری تلكما هما: تنوع الأوزان، وتناوب شعر البیت وشعر التفعیلة فی القصیدة الواحدة، لضرورات فنیة وانفعالیة، اجتهدت فی تفسیرها بعدد من الأمثلة التطبیقیة.‏

أزعم أنی استخدمت المنهج التحلیلی الفنی، مركزاً على النص بالدرجة الأولى، مع الاستعانة -كلما دعت الحاجة- بأقاویل الشاعر ونقاده، فی تحلیل النص وفهمه، أو فی تحلیل الموقف وفهمه، شریطة أن لا یتعارض ذلك مع روح النص الذی هو جوهر العملیة النقدیة، بما یمتلكه من عناصر التكامل اللغوی والفنی والجمالی.‏

ولا أزعم -بعد ذلك- أنی استكملت الموضوع، فما زال فیه الكثیر مما لم یُدرس، أو مما لم یُتَعَّمق فی دراسته، وحسب هذا البحث أن یكون لبنة فی بناء یتكامل تباعاً.‏
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 19:31|