ابزار وبمستر

بدر شاكر السیاب
بدر شاكر السیاب

بدر شاكر السیاب ولد عام 1926 وتوفی فی 24 كانون أول دیسمبر عام 1964 شاعر عراقی ولد بقریة جیكور جنوب شرق البصرة. درس الابتدائیة فی مدرسة باب سلیمان فی أبی الخصیب ثم انتقل إلى مدرسة المحمودیة وتخرج منها فی 1 أكتوبر 1938م. ثم أكمل الثانویة فی البصرة ما بین عامی 1938 و 1943م. ثم انتقل إلى بغداد فدخل جامعتها دار المعلمین العالیة من عام 1943 إلى 1948م، والتحق بفرع اللغة العربیة، ثم الإنجلیزیة. ومن خلال تلك الدراسة أتیحت له الفرصة للإطلاع على الأدب الإنجلیزی بكل تفرعاته


البدایة السریعة على امتداد شط العرب إلى الجنوب الشرقی من البصرة، وعلى مسافة تقطعها السیارة فی خمس و أربعین دقیقة تقع أبو الخصیب التی تمثل مركز قضاء تابع للواء البصرة یضم عددا من القرى من بینها قریة لا یتجاوز عدد سكانها ألفا ومائتی نسمة

تقع على ما یسمى نهر أبو فلوس من شط العرب تدعى جیكور تسیر إلیها فی طریق ملتویة تمتد بالماشی مدى ثلاثة أرباع الساعة من أبی الخصیب وهی الزاویة الشمالیة من مثلث یضم أیضا قریتین أخریین هما بكیع وكوت بازل، قرى ذات بیوت من اللبن و الطین، لا تتمیز بشیء لافت للنظر عن سائر قرى العراق الجنوبی

فهی عامرة بأشجار النخیل التی تظلل المسارح المنبسطة ویحلو لأسراب الغربان أن تردد نعیبها فیها، و عند أطراف هذه القرى مسارح أخرى منكشفة تسمى البیادر، تصلح للعب الصبیان ولهوهم فی الربیع والخریف، وتغدو مجالا للنوارج فی فصل الصیف، فكل شخص یعمل فی الزراعة ویشارك فی الحصاد و الدراس، ویستعین على حیاته بتربیة الدجاج والأبقار، و یجد فی سوق البصرة مجالا للبیع أو المقایضة، ویحصل على السكر و البن و الشای وبعض الحاجات الضروریة الأخرى لكی ینعم فی قریته بفضائل الحضارة المادیة، وإذا كان من الطامحین إلى (الوجاهة) فلا بأس أن یفتح دیوانا یستقبل فیه الزائرین من أهل القریة أو من الغرباء لیشاركوه فی فضائل تلك الحضارة المادیة

السیاب - دراسة فی حیاته وشعره

والبلدة التی ولد الشاعر فی إحدى قراها و أكمل دراسته الأولى فیها والتی بقی یتردد إلیها طیلة عمره القصیر، برز فیها شعراء كثیرون، وان لم یشتهروا كشهرته، لضعف وسائل الأعلام ولخلود أكثرهم إلى السكینة ولعزوفهم عن النشر، نذكر منهم على سبیل المثال لا الحصر الشعراء محمد محمود من مشاهیر المجددین فی عالم الشعر و النقد الحدیث، ومحمد علی إسماعیل، زمیل السیاب فی العالیة وصاحب الشعر الكثیر، وأبوه شاعر مشهور أیضا و اسمه ملا علی إسماعیل، ینظم القریض والشعر العامی، و الشاعر خلیل إسماعیل توفی فی 1961 الذی ینظم المسرحیات الشعریة ویخرجها بنفسه ویصور دیكورها بریشته

و الشاعر مصطفی كامل الیاسین الدكتور و الموظف الكبیر فی الخارجیة وعبد الستار عبد الرزاق الجمعة، وعبد الباقی لفته و عبداللطیف الدلیسی وعبدالحافظ الخصیبی ومؤید العبدالواحد الشاعر الوجدان بالرقیق ومن رواة شعر السیاب، والشاعر الأستاذ سعدی یوسف هو من أبناء أبی الخصیب، ظهرت له عدة دواوین شعریة، ونال شهرة واسعة بین شعراء البلاد العربیة، اشتهر كالسیاب بشعره الحر

ونذكر الشاعر الشعبی عبدالدایم السیاب، من أقارب الشاعر ولشعره شهرة فی المنطقة الجنوبیة، والشاعر الشعبی كذلك عدنان دكسن وهو معلم

ولد السیاب فی منطقة (بكیع) بكاف فارسیة وجیكور محلة صغیرة فیها وهی كلمة فارسیة تعنی (بیت العمیان) وتبعد عن أبی الخصیب بما یقارب الكیلوین و تقع القریة على شط العرب، وأمامها جزیرة جمیلة اسمها (الطویلة) كثیرا ما كان السیاب یقضی الساعات الطوال فیها

و نهر (بویب) الذی تغنى به الشاعر كثیرا، یسیل فی أملاك عائلة السیاب وهو یتفرع من النهر الكبیر إنها قریة صغیرة اسمها مأخوذ من العبارة الفارسیة (جوی كور) أی الجدول الأعمى

و آل السیاب یملكون أراضی مزروعة بالنخیل، وهم مسلمون سنیون عرفتهم جیكور لأجیال عدة. و على الرغم من أنهم لم یكونوا من كبار الملاكین فی جنوب العراق، فانهم كانوا یحیون حیاة لائقة محترمة حسب المعاییر المحلیة

إن أعضاء الأسرة من الذكور لا یزیدون على ثلاثین فی الوقت الحاضر مصطفى السیاب ، فی رسالة إلى المؤلف، بیروت 32 نیسان 1966 لكن الأسرة كان أكبر مما هی الیوم فی أوائل القرن التاسع عشر إذ كانت تصم عائلة المیر

لكن كثیرین من أعضائها ماتوا فی الطاعون الذی انتشر فی العراق سنة 1831 وكان سیاب بن محمد بن بدران المیر أحد أعضائها، وكان قد فقد جمیع أهله الأقربین

وكلمة سیاب بتشدیدها بضم السین أو فتحها : اسم یطلق على البلح أو البسر الأخضر. لكن قصة تروى فی العائلة تزعم أنه دعی بهذا الاسم لأنه فقد جمیع أقربائه وسیب وحیدا. وهی تلفظ سیاب فی اللهجة المحلیة بتسكین السین

وفی عام تزوج شاكر بن عبدالجبار ابنة عمه كریمة،وكانت أمیة فی السابعة عشرة من عمرها. و أسكنها معه فی دار والده على ما تقضی به العادات المرعیة. وفی 1926 ولدت له ابنا دعاه (بدرا). وقد طار به فرحا وسجل تاریخ میلاده حتى یتذكره، لكنه ما لبث أن فقده وبقی تاریخ میلاد بدر مجهول

ولم تكن إدارة البلاد فی ذلك الوقت متفرغة لتنظیم تسجیل الموالید، ولا سیما فی النواحی النائیة. وفی 1928 ولدت له ابنا ثانیا دعاه عبدالله، وفی 1930 ولدت له ابنا ثالثا دعاه مصطفى وكان فخورا بأبنائه الثلاثة، واثقا من أنهم سیكبرون ویساعدونه فی عمله لكن أحدا منهم ما ساعده كما كان ینتظر ویأمل

أما فی البیت فقد كان بدر یلعب مع أصدقائه فیشاركه أخواه الأصغران. وكان الأماكن المحببة للعبهم بیت واسع قدیم مهجور یدعى (كوت المراجیح) باللهجة المحلیة

وكان هذا البیت فی العهد العثمانی یؤوی عبید الأسرة (مصطفى السیاب، من مقابلة مع المؤلف، بیروت 41 حزیران 1966) و من هنا أسمه، إذا معنى (المراجیح) المراقیق أی الرقی أو العبید

وقد دعاه بدر فی شعره فیما بعد (منزل الأقنان) كانوا یلعبون فی فنائه بالقفز على مربعات ودوائر تخطط على الأرض وما شابه ذلك من العاب القفز، واكن یلذ لهم كذلك أن یرووا عنه قصص الأشباح. وقد جعله بدر مقرا لجریدة خطیة كان یصدرها مدة باسم (جیكور) تتناقلها أیدی صبیان القریة، ثم تعود فی ختام المطاف لتجد محلها على الحائط فی غرفة الإدارة

وتشمل ذكریاته أقاصیص جده - على نحو مبهم- وقصص العجائز من عمة وجدة وغیرهما، و من أقاصیصهما حكایة عبد الماء الذی اختطف زینب الفتاة القرویة الجمیلة، وهی تملأ جرتها من النهر، ومضى بها إلى أعماق البحر و تزوجها، و أنجبت له عددا من الأطفال، ثم رجته ذات یوم أن تزور أهلها، فأذن لها بذلك، بعد أن احتفظ بأبنائه لیضمن عودتها، و لكنها لم تعد, فأخذ یخرج من الماء وینادیها ویستثر عاطفتها نحو الأطفال، و لكنها أصرت على البقاء، و أخیرا أطلق أهلها النار على الوحش فقتلوه، أما الأطفال فتختلف روایات العجائز حول مصیرهم

كذلك تشمل ذكریاته لعبه على شاطئ بویب، وهو لا یفتأ یذكر بیتا فی بقیع یختلف عن سائر البیوت، فی أبهائه الرحبة، وحدائقه الغناء، ولكن اشد ما یجذب نظره فی ذلك المنزل الإقطاعی تلك الشناشیل، وهی شرفة مغلقة مزینة بالخشب المزخرف و الزجاج الملون

غیر أن الشاعر حین یتحدث من بعد عن بیت العائلة فی جیكور فإنما یعنی البیت الذی ولد فیه وعاش فیه سنوات طویلة فی ظل أمه، وقضى فترات متقطعة من صباه وشبابه الباكر فی جنباته، وهكذا ینبسط اسم (جیكور) على القریتین إذا لیست بقیع فی واقع الحال الا حلة من جیكور

ولابد لنا من أن نشیر إلى أن بعض الصحفیین زاروا هذا البیت فی عام 1965 وكان مما قالوه فی وصفه : البیت قدیم جدا وعال، وقد تحللت جذور البیت حتى أصبحت كأسفل القبر، والبیت ذو باب كبیر كباب حصن كتب علیه بالطباشیر اسم ؛ عبدالمجید السیاب

وهو الذی یسكن الآن فی الغرفة الوحیدة الباقیة كان البیت قبل عشر سنین یموج بالحركة والحیاة، أما سبب هجر عائلة السیاب لهذا البیت أو بالأحرى لجیكور فهو بسبب ذهاب الشباب إلى المدن بعد توظیفه" جریدة الثورة العربیة، بغداد عدد 184 - 12 شباط 1965

دخل السیاب فی أول مراحله الدراسیة مدرسة باب سلیمان الابتدائیة فی أبی الخصیب، ثم انتقل إلى المحمودیة الابتدائیة التی أسسها المرحوم محمود باشا العبدالواحد فی سنة 1910 فی العهد العثمانی، وبقیت تحمل اسمه حتى الآن و تخرج من هذه المدرسة فی تاریخ 1-10-1938 ولدى مراجعة محمود العبطة سجلات المدرسة المحمودیة ، عثر على معلومات خاصة بالشاعر نقلها من السجل رقم 6 وصفحة السجل 757 و المعلومات هی

    معلومات خاصة بالشاعر
    قریة جیكور المحلة
    1926 تاریخ الولادة
    مدرسة باب سلیما آخر مدرسة كان فیها قبل دخوله المحمودیة
    1- 10 - 1936 تاریخ دخوله المدرسة
    الصف الخامس الصف الذی قبل فیه
    1- 10 - 1938 تاریخ الانفصال
    أكمل الدراسة الابتدائیة سبب الانفصال
    1937 رسب فی الصف السادس سنة
    1938 نجح من السادس سنة
    ابیض الوجه - أسود العینین صفاتة
    جیدة أحواله الصحیة
    جیدة سیرته فی المدرسة

عاش بدر طفولة سعیدة غیر إنها قصیرة سرعان ما تحطمت إذ توفیت أمه عام 1932 أثناء المخاض لتـترك أبناءها الثـلاثة وهى فی الثالثة والعشرین من عمرها. وبدا بدر الحزین یتساءل عن أمه التی غابت فجأة، وكان الجواب الوحید: ستعود بعد غد فیما یتهامس المحیطون به: أنها ترقد فی قبرها عند سفح التل عند أطراف القریة

وغابت تلك المرأة التی تعلق بها ابنها الصغیر، وكان یصحبها كلما حنت إلى أمها، فخفت لزیارتها، أو قامت بزیارة عمتها عند نهر بویب حیث تملك بستانا صغیرا جمیلا على ضفة النهر، فكان عالم بدر الصغیر تلك الملاعب التی تمتد بین بساتین جیكور ومیاه بویب وبینها ما غزل خیوط عمره ونسیج حیاته وذكریاته

وما كان أمامه سوى اللجوء إلى جدته لأبیه (أمینة) وفترة علاقته الوثیقة بأبیه بعد أن تزوج هذا من امرأة أخرى سرعان ما رحل بها إلى دار جدیدة بعیدا عن بدر وأخـویه، ومع أن هذه الدار فی بقیع أیضا، غیر أن السیاب أخویه انضموا إلى دار جده فی جیكور

القریة الأم، ویكبر ذلك الشعور فی نفس بدر بأنه محروم مطرود من دنیا الحنو الأمومی لیفر من بقیع وقسوتها إلى طرفه تدسها جدته فی جیبه أو قبلة تطبعها على خده تنسیه ما یلقاه من عنت وعناء، غیر أن العائلة تورطت فی مـشكلات كبیرة ورزحت تحت عبء الدیون، فبیعت الأرض تدریجیا وطارت الأملاك ولم یبق منها إلا القلیل یذكر بالعز القدیم الذی تشیر إلیه الآن أطلال بیت العـائلة الشاهق المتحللة

ویذهب بدر إلى المدرسة، كان علیه أن یسیر ماشیا إلى قریة باب سلیمان غرب جیكور لینتقل بعدها إلى المدرسة المحمودیة الابتدائیة للبنین فی أبی الخصیب التی شیدها محمود جلبی العبد الواحد أحد أعیان أبی الخصیب، وكان بالقرب من المدرسة البیت الفخم الذی تزینه الشرفات الخشبیة المزججة بالزجاج الملون الشناشیل و التی ستكون فیما بعد اسما لمجموعة شعریة متمیزة هی شناشیل ابنة الجلبی- الجلبی لقب للأعیان الأثریاء- وفى هذه المدرسة تعلم أن یردد مع أترابه أهزوجة یرددها أبناء الجنوب عند هطول المطر، ضمنها لاحقا فی إحدى قصائده

یا مطرا یا حلبی عبر بنات الجلبی
یا مطرا یا شاشا عبر بنات الباشا

وفى هذه المرحلة المبكرة بدأ ینظم الشعر باللهجة العراقیة الدارجة فی وصف الطبیعة أو فی السخریة من زملائه، فجذب بذلك انتباه معلمیه الذین شجعوه على النظم باللغة الفصیحة، وكانت العطلة الصیفیة التی یقضیها فی جیكور مجلبة لسروره وسعادته إذ كان بیت العبید الذی غدا الآن مهجورا، المكان المحبب للعبهم برغم ما یردده الصبیة وخیالهم الفسیح عن الأشباح التی تقطنه وكانت محبة جدته أمینة تمنحه العزاء والطمأنینة والعطف غیر انه سرعان ما فقدها إذ توفیت فی أیلول 1942 لیكتب فی رثائها قصیدة

    جدتی من أبث بعدك شكوای؟
    طوانی الأسى وقل معینی
    أنت یا من فتحت قلبك بالأمس لحبی
    أوصدت قبرك دونی
    فقلیل على أن اذرف الدمع
    ویقضى على طول أنینی

وتفاقم الأمر إذ باع جده ما تبقى من أملاكه مرغما، إذ وقع صغار الملاك ضحیة للمالكین الكبار و أصحاب مكابس التمر والتجار والمرابین وكان بدر یشعر بالظلم واستغلال القوى للضعیف وكانت طبیعته الرومانسیة تصور له مجتمعا مثالیا یعیش فیه الناس متساوین یتعاون بعضهم مع بعض بسلام

هذه النظرة المثالیة عمقها شعور بدر بأن أسرته كانت عرضه للظلم والاستغلال فضلا عما لحق به إذ فقد أمه وخسر أباه و أضاع جدته وسلبت حبیبته منه وكان قد بدأ یدرك انه لم یكن وسیما هذا كله احتشد فی أعماق روحه لیندلع فیما بعد مثل حمم بركان هائج تدفق شعرا ملتهبا

فی مدینة بغداد صیف 1943 أنهى بدر دراسته الثانویة، وقـبل فی دار المعلمین العالیة ببغداد (كلیة التربیة) وكان فی السابعة عشرة من عمره لیقضى فیها أربعة أعوام

وعثر (محمود العبطة) على درجات الشاعر فی الصف الثالث من الدار المذكورة فی مكتبة أبی الخصیب وبحیازة مأمورها الأستاذ عبداللطیف الزبیدی، وهی من جملة الوثائق التی أودعتها زوجة المرحوم السیاب ففی المكتبة عندما زار وفد من مؤتمر الأدباء العرب السادس ومؤتمر الشعر العربی، أبی الخصیب وقریة الشاعر جیكور وهی وریقة بحجم الكف مطبوعة على الآلة الكاتبة تشمل المعلومات التالیة

نتائج الطلبة 1946 - 1947

بدر شاكر السیاب اسم الطالب

الثالث - اللغة الإنكلیزیة الصف و الفرع

86 المعدل

ناجح الثانی فی صفه عمید دار المعلمین العالیة

كتب السیاب خلال تلك الفترة قصائد مترعة بالحنین إلى القریة والى الراعیة هالة التی احبها بعد زواج وفـیقة ویكتب قصائده العمودیة أغنیة السلوان و تحیة القریة.. الخ

ویكسب فی بغداد ومقاهیها صداقة بعض من أدبائها وینشر له ناجی العبیدی قصیدة لبدر فی جریدته الاتحاد هی أول قصیدة ینشرها بدر فی حیاته

تكونت فی دار المعلمین العالیة فی السنة الدراسیة 1944-1945 جماعة أسمت نفسها أخوان عبقر كانت تقیم المواسم و الحفلات الشعریة حیث ظهرت مواهب الشعراء الشبان، ومن الطبیعی تطرق أولئك إلى أغراض الشعر بحریة وانطلاق، بعد أن وجدوا من عمید الدار الدكتور متى عقراوی، أول عمید رئیس لجامعة بغداد و من الأساتذة العراقیین والمصریین تشجیعا

كان السیاب من أعضاء الجماعة، كما كانت الشاعرة نازك الملائكة من أعضائها أیضا، بالإضافة إلى شاعرین یعتبران المؤسسین للجماعة هما الأستاذان كمال الجبوری و الدكتور المطلبی، ولم یكن من أعضائها شعراء آخرون منهم الأستاذ حازم سعید من موالید 1924و أحمد الفخری وعاتكة وهبی الخزرجی

ویتعرف بدر على مقاهی بغداد الأدبیة ومجالسها مثل مقهى الزهاوی ومـقـهى ا لبلدیة و مقهى البرازیلیة وغیرها یرتادها مع مجموعة من الشعراء الذین غدوا فیما بعد (رواد حركة الشعر الحر) مثل بلند الحیدری وعبد الرزاق عبد الواحد ورشید یاسین وسلیمان العیسى وعبد الوهاب البیاتی وغیرهم

    ویلتقی امرأة یحبها وهی لا تبادله هذا الشعور فیكتب لها
    أبی.. منه جردتنی النساء
    وأمی.. طواها الردى المعجل
    ومالی من الدهر إلا رضاك
    فرحماك فالدهر لا یعدل
     
    ویكتب لها بعد عشرین عاما- وكانت تكبره عمرا- یقول
    وتلك.. لأنها فی العمر اكبر
    أم لأن الحسن أغراها
    بأنی غیر كفء
    خلفتنی كلما شرب الندى ورق
    وفتح برعم مثلتها وشممت ریاها؟

غلام ضاو نحیل كأنه قصبة، ركب رأسه المستدیر كحبة الحنظل، على عنق دقیقة تمیل إلى الطول، وعلى جانبی الرأس أذنان كبیرتان، وتحت الجبهة المستعرضة التی تنزل فی تحدب متدرج أنف كبیر یصرفك عن تأمله العینین الصغیرین العادیتین على جانبیه فم واسع، تبز (الضبة) العلیا منه ومن فوقها الشفة بروزا یجعل انطباق الشفتین فوق صفی الأسنان كأنه عما اقتساری

وتنظر مرة أخرى إلى هذا الوجه الحنطی فتدرك أن هناك اضطرابا فی التناسب بین الفك السفلی الذی یقف عند الذقن كأنه بقیة علامة استفهام مبتورة وبین الوجنتین الناتئتین وكأنهما بدایتان لعلامتی استفهام أخریین قد انزلقتا من موضعیهما الطبیعیین

وتزداد شـهرة بدر الشاعر النحـیل القادم من أقصى قـرى الجنوب، وكانت الفتیات یستعرن الدفتر الذی یضم أشعاره لیقرأنه، فكان یتمنى أن یكون هو الدیوان :

    دیوان شعر ملؤه غزل
    بین العذارى بات ینتقل
    أنفاسی الحرى تهیم على
    صفحاته والحب والأمل
    وستلتقی أنفاسهن بها
    وترف فی جنباته القبل

یقو ل محمود العبطة: عندما أصدر الشاعر دیوانه الأول أزهار ذابلة فی 1947 وصدره بقصیدة من الشعر العمودی مطلعها البیت المشهور

دیوان شعر ملوْه غزل
بین العذارى بات ینتقل

اطلع علی الدیوان الشاعر التقدمی الأستاذ علی جلیل الوردی، فنظم بیتا على السجیة وقال للسیاب ، كان الأولى لك أن تقول

    دیوان شعر ملوْه شعل
    بین الطلیعة بات ینتقل
    
    وفى قصیدة أخرى یقول
    یا لیتنی أصبحت دیوانی
    لأفر من صدر إلى ثان
    قد بت من حسد أقول له
    یا لیت من تهواك تهوانی
    ألك الكؤوس ولى ثمالتها
    ولك الخلود وأننی فانی؟

ویتعرف السیاب على شعر وود زورت وكیتس وشیلى بعد أن انتقل إلى قسم اللغة الإنجلیزیة ویعجب بشعر الیوت وادیث سیتویل ومن ثم یقرأ ترجمة لدیوان بودلیر أزهار الشر فتستهویه

ویتعرف على فتاة أضحت فیما بعد شاعرة معروفة غیر أن عائق الدین یمنع من لقائهما فیصاب بإحباط آخـر، فیجـد سلوته فی الانتماء السیاسی الذی كانت عاقبته الفـصل لعـام دراسی كامل من كلیته ومن ثم سجنه عام 1946 لفترة وجیزة

أطلق سراحه بعدها لیسجن مرة أخرى عام 1948 بعد أن صدرت مجموعته الأولى أزهار ذابلة بمقدمة كتبها روفائیل بطی أحد رواد قصیدة النثر فی العراق

عن إحدى دور النشر المصریة عام 1947 تضمنت قصیدة هل كان حبا حاول فیها أن یقوم بتجربة جدیدة فی الوزن والقافیة تجمع بین بحر من البحور ومجزوءاته أی أن التفاعیل ذات النوع الواحد یختلف عددها من بیت إلى آخر

وقد كتب روفائیل بطی مقدمة للدیوان قال فیها نجد الشاعر الطلیق یحاول جدیدا فی إحدى قصائده فیأتی بالوزن المختلف وینوع فی القافیة، محاكیا الشعر الإفرنجی، فعسى أن یمعن فی جرأته فی هذا المسلك المجدد لعله یوفق إلى أثر فی شعر الیوم، فالشكوى صارخة على أن الشعر الربی قد احتفظ بجموده فی الطریقة مدة أطول مما كان ینتظر من النهضة الحدیثة

إن هذه الباكورة التی قدمها لنا صاحب الدیوان تحدثنا عن موهبة فیه، وان كانت روعتها مخبوءة فی اثر هذه البراعم - بحیث تضیق أبیاته عن روحه المهتاجة وستكشف الأیام عن قوتها، و لا أرید أن أرسم منهجا مستقبلا لهذه القریحة الأصیلة تتفجر وتفیض من غیر أن تخضع لحدود و القیود، ولكن سیر الشعراء تعلمنا أن ذوی المواهب الناجحین، هم الذین تعبوا كثیرا، وعالجوا نفوسهم بأقصى الجهد، وكافحوا كفاح الأبطال، حتى بلغوا مرتبة الخلود

ویتخرج السیاب ویعین مدرسا للغة الإنجلیزیة فی مدرسة ثانویة فی مدینة الرمادی التی تبعد عن بغداد تسعین كیلومترا غربا، تقع على نهر الفرات. وظل یرسل منها قصائده إلى الصحف البغدادیة تباعا، وفى ینایر 1949

ألقی علیه القـبض فی جـیكور أثناء عطلة نصف السنة ونقل إلى سجن بغداد واستغنی عن خدماته فی وزارة المعارف رسمیا فى25 ینایر 1949 وافرج عنه بكفالة بعد بضعة أسابیع ومنع إداریا من التدریس لمدة عشر سنوات، فعاد إلى قریته یرجو شیئا من الراحة بعد المعاملة القاسیة التی لقیها فی السجن

ثم توجه إلى البصرة لیعمل (ذواقة) للتمر فی شركة التمور العراقیة، ثم كاتبا فی شركة نفط البصرة، وفى هذه الأیام ذاق مرارة الفقر والظلم والشقاء ولم ینشر شعرا قط، لیعود إلى بغداد یكابد البطالة یجتر نهاراته فی مقهى حسن عجمی یتلقى المعونة من أصحابه اكرم الوتری ومحی الدین إسماعیل وخالد الشواف، عمل بعدها مأمورا فی مخزن لإحدى شركات تعبید الطرق فی بغـداد

وهكذا ظل یتنقل من عمل یومی إلى آخر، وفى عام 1950 ینشر له الخاقانی مجموعته الثانیة (أساطیر) بتشجیع من أكرم الوتری مما أعاد إلى روحه هناءتها وأملها بالحیاة، وقـد تصدرتها مقدمة لبدر أوضح فیها مفهومه للشعر الجدید الذی یبشر به ویبدأ بدر بكتابة المطولات الشعریة مثل أجنحة السلام و اللعنات وحفـار القـبور و المومس العمیاء وغیرها

ویضطرب الوضع السیاسی فی بغداد عام 1952 ویخشى بدر أن تطاله حملة الاعتقالات فیهرب متخفیا إلى إیران ومنها إلى الكویت بجواز سفر إیرانی مزور باسم (على آرتنك) على ظهر سفینة شراعیة انطلقت من عبادان فی ینایر 1953، كتب عنها فیما بعد قصیدة اسمها فرار 1953 وهناك وجد له وظیفة مكتبیة فی شركة كهرباء الكویت حیث عاش حیاة اللاجئ الذی یحن بلا انقطاع إلى أهله ووطنه، وهناك كـتب أروع قصائده غریب على الخلیج یقول فیها

    مازلت اضرب، مترب القدمین أشعث
    فی الدروب تحت الشموس الأجنبیة
    مـتخافق الأطمار
    أبسط بالسؤال یدا ندیه
    صفراء من ذل وحمى
    ذل شحاذ غریب بین العیون الأجنبیة
    بین احتقار، وانتهار، وازورار.. أوخطیه
    والموت أهون من خطیه
    من ذلك الإشفاق تعصره العیون الأجنبیة
    قطرات ماء.. معدنیة

ویعود إلى بغداد بعد انقضاء عدة اشهر یلتقی بأصدقائه القدامى فی مقهى حسن، ویقطع صلته بالحركة السیاسیة التی كان ینتمی إلیها بعد تجربته المریرة فی الكویت مع بعض رفاقه السابقین الذین عاشوا معه فی بیت واحد. ثم یصدر أمر وزاری بتعیینه فی مدیریة الاستیراد والتصدیر العامة، ویستأجر بیتا متواضعا فی بغداد ویستدعى عمته آسیه لترعى شؤونه الیومیة

تنشر له مجلة الآداب فی یونیو 1954 أنشودة المطر تتصدرها كلمة قصیرة جاء فیها من وحی أیام الضیاع فی الكویت على الخلیج العربی ویكتب بعدها المخبر تلیها الأسلحة والأطفال وفی المغرب العربی و رؤیا فوكای و مرثیة الآلهة و مرثیة جـیكور وینشغل بالترجمة والكتـابة، وتحل سنة1955 حـیث یتزوج من إقبال شقیقة زوجة عمه عبد اللطیف، وهى معلمة فی إحدى مدارس البصرة الابتدائیة

فی العام نفسه نشر ترجماته من الشعر المعاصر فی كتاب سماه قصائد مختارة من الشعر العالمی الحدیث یحتوى على عشرین قصیدة لألیوت وستویل وباوند سبندر ودی لویس، ودی لامیر و لوركا ونیرودا ورامبو وبریفیر، وریلكه طاغـور وناظم حكمت وغیرهم

وتقوم حرب السویس اثر العدوان الثلاثی على مصر عام 1956 لیكتب بعـدها السـیـاب قصیدته بور سعید ألقاها فی اجتماع عقد فی دار المعلمین العالیة ببغداد تضامنا مع شعب مصر وفى،2 دیسمبر 1956 تولد ابنته البكر غیداء، التی ستصبح مهندسة فیما بعد

ویتعرف فی شتاء1957 على مجلة جدیدة ستلعب دورا هاما فی مرحلته الفنیة الجدیدة تلك هی مجلة (شعر) اللبنانیة كان محررها یوسف الخال وسرعان ما أصبح السیاب أحد كتابها العدیدین من دعاة التجدید فی الشعر العربی مثل أدونیس وأنسی الحاج وجبرا إبراهیم جبرا وتوفیق صایغ، لتبدأ قطیعته مع مجلة الآداب التی تبنت نتاجه المدة السابقة

وبدعـوة من المجلة الجدیدة یسافر إلى بیروت لاحیاء أمسیة شعریة تعرف خلالها على أدونیس و أنسی الحاج وشوقی أبى شقرا وفؤاد رفقه ویوسف الخال، ویعود إلى بغداد أشد ثقة بشاعریته. واكثر إحساسا بالغبن فی بلده حیث یجابه وعائلته مصاعب الحیاة براتب ضئیل

وتستهویه الأساطیر التی دلها علیه (الغصن الذهبی) لجو فریزر والذی ترجم جبرا فصلا منه، فیكتب قصائد مثل المسیح بعد الصلب و(جیكور والمدینة) و(سربروس فی بابل) و (مـدینة السندباد) وهى قصائد تمتلئ بالرموز مثل المسیح ویهوذا وتموز وعشتار وسربروس والسندباد، ویجئ یوم 23 نوفمبر 1957 لتكتحل عینا الشاعر بابنه غیلان وقد كثف بدر فرحه بمولوده فی قـصیـدته مرحى غیلان و فیها یقول :

    بابا .. بابا
    ینساب صوتك فی الظلام إلى كالمطر الغضیر
    ینساب من خلل النعاس وأنت ترقد فی السریر
    من أی رؤیا جاء؟ أی سماوة؟ أی انطلاق؟
    وأظل أسبح فی رشاش منه، أسبح فی عبیر
    أن أودیة العراق
    فـتـحت نوافـذ من رؤاك على سهادی
    كل واد
    وهبته عشتار الأزاهر والثمار
    كأن روحی
    فی تربة الظلماء حبة حنطة
    وصداك ماء أعلنت بعثی
    یا سماء
    هذا خلودی فی الحیاة
    تكن معناه الدماء

وتأتى صبیحة 14 یولیو 1958 لتعلن عن نهایة الحكم الملكی على ید الجیش وتنسحب الجمهوریة الولیدة من حلف بغداد تركیا، إیران، باكستان، العراق وتخرج من كتلة الإسترلینی وتعلن قانون الإصلاح الزراعی وتطلق سـراح السجناء السیاسیین، ویحس بدر أن ما تمناه طویلا قد تحقق، غیر أن آمال بدر قد تهاوت اثر الانقسامات والاحترابات التی عصفت بالمجتمع آنذاك

وفى السابع من أبریل 1959 فصل من الخدمة الحكومیة لمدة ثلاث سنوات بأمر وزاری لتبدأ من جدید رحلة التشرد والفقر، كان نتاجها عدد من القصائد مثل العودة لجیكور و رؤیا فی عام 1956 و المبغى

فی یولیو 1960 یذهب إلى بیروت لنشر مجموعة من شعره هناك، وتوافق وجوده مع مسابقة مجلة شعر لأفضل مجموعة مخطوطة فدفع بها إلى المسابقة لیفوز بجائزتها الأولى (1000 ل. ل) عن مجموعته أنشودة المطر التی صدرت عن دار شعر بعد ذلك

وعاد إلى بغداد بعد أن ألغی فصله وعین فی مصلحة الموانئ العراقیة لینتقل إلى البصرة ویقطن فی دار تابعة للمصلحة فی الوقت نفسه بدأت صحته تتأثر من ضغط العمل المضنی والتوتر النفسی، غیر انه اعتقل ثانیة فی 4 فبرایر 1961 لیطلق سراحه فی 20 من الشهر نفسه، و أعید تعیینه فی المصلحة نفسها، غیر أن صحته استمرت بالتدهور فقد بدا یجد صعوبة فی تحریك رجلیه كلتیهما وامتد الألم فی القسم الأسفل من ظهره

فی 7 یولیو 1961 رزق بابنته آلاء فی وقت ساءت فیه أحواله المالیة، وغدا مثل قصبة مرضوضة. وحملته حالة العوز إلى ترجمة كتابین أمریكیین لمؤسسة فرانكلین، جرت علیـه العـدید من الاتهامـات والشكوك ثم تسلم فی العام نفسه دعوة للاشتراك فی (مؤتمر للأدب المعاصر) ینعقد فی روما برعایة المنظمة العالمیة لحریة الثقافة

ویعود إلى بفداد و من ثم إلى البصرة- محلة- المعقل- حیث الدار التی یقطنها منذ تعین فی مصلحة الموانئ، یكابد أهوال المرض إذ لم یعد قادرا على المشی إلا إذا ساعده أحد الناس ولم یعد أمامه سوى السفر وهكذا عاد إلى بیروت فی أبریل 9962 فی 18 أبریل 1962 أدخل مستشفى الجامعة الأمریكیة فی بیروت، وبعد محاولات فاشلة لتشخیص مرضه غادر المستشفى بعد أسبوعین من دخوله إلیه بعد أن كتب قصیدته الوصیة یخاطب فیها زوجته :

    إقبال، یا زوجتی الحبیبه
    لا تعذلینی، ما المنایا بیدی
    ولست، لو نجوت، بالمخلد
    كونی لغیلان رضى وطیبه
    كونی له أبا و أما وارحمی نحیبه

ویزوره اكـثر من طبیب فی مرضه المیؤوس منه، وتنفد النقود التی تبرع بها أصدقاؤه له، وینشر له أصحابه دیوانه المعبد الفریق عن دار العلم للملایین لكن الدخل الضئیل الذی جناه منه لم یسد نفقات علاجه، وازدادت حاله سوءا وابتدأت فكرة الموت تلح علیه وهو ما نراه فی قصیدة نداء الموت لیعود بعدها مدمرا نهایة سبتمبر 1962 تلاحقه الدیون إلى البصرة، وتكفلت المنظمة العالمیة لحریة الثقافة بنفقاته لعام كامل بعد أن رتبت له بعثة دراسیة

یقول جبرا إبراهیم جبرا

فی أواخر عام 1961 كانت وطأة المرض فی بدء شدتها على الشاعر، حتى أخذ یفكر فی أن لابد له من علاج فی لندن قد یطول. ولما كان قد حصل على زمالة دراسیة، كان الاقتراح أن ینخرط طالبا فی جامعة إنكلیزیة للدراسة من أجل الدكتوراه

فی أثناء ذلك ینصرف أیضا لمعالجة مرضه. وكان عندها أن سعیت له مع صدیقی المفكر العربی الأصل، الأستاذ ألبرت حورانی، الأستاذ فی جامعة أكسفورد لقبوله بأسرع ما یمكن، وكان التأكید على السرعة

فأبدى الأستاذ حورانی حماسة للفكرة، و حاول أن یجد له مكانا فی الجامعة غیر أن قبوله لم یكن لیتم فی الحال - والذین حاولوا أیجاد مكان لهم فی أكسفورد یعلمون بالمدة الطویلة التی لابد من انقضائها أحیانا بین تقدیم الطلب و القبول النهائی- ولما لم یكن ثمة مجال للانتظار

ومرض بدر فی تصاعد سریع أخذ یعیق علیه سیره، استطاع الأستاذ حورانی أن یجد له قبولا فی جامعة درم وهی من جامعات شمال إنكلترا، المعروفة بدراساتها الشرقیة وفی أوائل خریف 1962 سافر در إلى إنكلترا لأول مرة والمرض یكاد یقعده، وتوجه إلى مدینة درم، وهو شدید القلق و المخاوف على حالته الصحیة .

درم مدینة جبلیة صغیرة، ابتنت شهرتا على وجود جامعة فیها هی من أفضل الجامعات البریطانیة. بید أنها رغم جمالها الطبیعی، وجمال كلیاتها التی یتباهى بعضها بروائع هندستها المعماریة، مدینة یلفها الضباب فی معظم أیام السنة، ولقربها من مناجم الفحم المحیط بها من كل صوب، یشتد فیها الضباب قتاما أیام الخریف و الشتاء لدرجة الكآبة


وفی 29 تشرین الثانی 1963 كتب قصیدة أسیر القراصنة یصف فیها حسرته لأنه مشلول، ویتمنى لو كان یستطیع المشی ویفضل ذلك على كونه شاعرا یعزف القیثار باسم الجراح ، ثم یقول لنفسه و أنت فی سفینة القرصان عبد أسیر دونما أصفاد تقبع فی خوف وإخلاد تصغی إلى صوت الوغى والطعان :

    سال دم
    اندقت رقاب ومال
    ربانها العملاق
    وقام ثان بعده ثم زال
    فامتدت الأعناق
    لأی قرصان سیأتی سواه
    و أی قرصان ستعلو یداه
    حینا على الأیدی ؟
    ولیأت من بعدی
    من بعدی الطوفان
    تسمعها تأتیك من بعد
    یحملها الإعصار عبر الزمان

وكان بدر فی غضون ذلك هدفا لحملات صحفیة بسبب تناقضاته السیاسیة فی الماضی وموقفه غیر الملتزم فی الحاضر. وكانت علاقاته بمجلة جوار و المنظمة العالمیة لحریة الثقافة تذكر ضده

وكان معظم الناس یحكم علیه أشد الحكم بناء على ما كتب أو ما كان یكتب ولكن قلائل كانوا یعلمون حقا مبلغ مرضه ومدى ضعفه، إذ كانوا لا یزالون یحسبون أنه عملاق الشعر العربی الحدیث الذی یجب أن یكون دائما عند كلمته بینما لم یكن عند بدر الا أن یندب حظه ویتحسر على عمره الضائع ویرغب فی الموت

قال فی رسالة إلى صدیق : ( لا أكتب هذه الأیام إلا شعرا ذاتیا خالصا. لم اعد ملتزما. ماذا جنیت من الالتزام؟ هذا الفقر وهذا المرض؟ لعلی أعیش هذه الایام آخر أیام حیاتی إننی أنتج خیر ما أنتجته حتى الآن. من یدری؟ لا تظن أننی متشائم، العكس هو الصحیح لكن موقفی من الموت قد تغیر

لم أعد أخاف منه، لیأت متى شاء. أشعر أننی عشت طویلا. لقد رافقت جلقامش فی مغامراته، وصاحبت عولیس فی ضیاعه، و عشت التاریخ العربی كله ألا یكفی هذا؟ تمثال السیاب

وكانت حالته الصحیة تزداد سوءا كل یوم وكاد فقد القدرة على الوقوف الآن كان طریح الفراش فی إجازة مرضیة وقد بدأت تظهر له فی منطقة الألیتین قرحة سریریة جعلت تتوسع لطول رقاده فی السریر

ولم یعد قادرا على ضبط حركتی التبول و إفراغ الأمعاء لضعف الأعصاب الاحساسیة والعضلات الضابطة فی جذعه الأسفل

ومرت بامرأته أیام عصیبة وهی تتفانى فی خدمته وتوفر أسباب الراحة له وعلى الرغم من أنه كان یتمتع بكامل قواه العقلیة فانه كان أحیانا یتهمها بعدم العطف علیه

وفی كانون الثانی 1964 سمع بدر بوفاة الشاعر لویس مكنیس، فكتب قصیدة لهذه المناسبة. ولكنه لم یستطع أن یحجم عن الإشارة إلى مرضه وغربته عن زوجته وتمنى الموت. وكان یدخن كثیرا ویأكل قلیلا جدا

واذا به فی 9 شباط 1964 فی حالة صحیة حرجة استدعت إدخاله إلى مستشفی الموانئ فی البصرة، وهو یعانی ارتفاع حرارته إلى أربعین درجة مئویة، بالإضافة إلى عسر فی التنفس مع ازرقاق الشفتین وسعال شدید

و بعد الفحص تبین أنه مصاب بذات الرئة المزدوجة وبدایة خذلان القلب، وإسهال شدید مع تقیؤ، وقرحة سریرة متعفنة قطرها 25 سنتیمترا فی المنطقة الحرقفیة، بالإضافة إلى شلل أطرافه السفلى وهزاله الشدید

فوضع مدة أسبوع كامل تحت المعالجة الخاصة بالحالات الطارئة الحرجة فی المستشفى الحكومی، وبعد أن زال الخطر عن حیاته مباشرة، وبعد أن بدأت حالة قلبه ورئتیه تتحسن عولج لإزالة الإسهال الذی كان یزید قرحته السریریة سوءا

وعندما بدأ الإسهال یزول اصبح فی الإمكان معالجة قرحته السریریة، فتحسنت حالتها و أصبحت غیر متقیحة. غیر أن التئامها بطریقة نمو الأنسجة الذاتی كان مشكوكا فیه إلا بعملیة رقع الجلد

وقد كتب بدر بهذا الشأن رسالة مؤثرة إلى توفیق صایغ یسأله فیها أن یرسل مسحوقا طبیا لجراح الناغرة و الفاغرة یشتریه له من صیدلیات بیروت

وقد أعطی بدر كمیات كبیرة من الأدویة المقویة ، فضلا عن الكمیات الإضافیة من الحلیب و اللحوم و الأسماك و الفواكه، مع العلم أنه لم یكن فی المستشفى إلا أسرة من الدرجة الثالثة التی لا تقدم لها هذه الأغذیة وبمثل هذه الكمیات

فازداد وزن بدر اكثر من ثمانیة كیلوغرامات، وبوشر باجرء تمارین ریاضیة بسطة لأطرافه السفلى. و كان الطبیب یعلم أن لا علاج لمرض التصلب المنتشر فی النخاع الشوكی المسبب للشلل، ولكنه اقترح أن ینقل بدر إلى أحد مستشفیات بغداد لیوضع تحت إشراف طبیب أخصائی بأمراض الجهاز العصبی

وفی أول نیسان 1964 انتهت المدة التی یحق لبدر فیها أن ینال إجازات مرضیة واجازات اعتیادیة براتب تام 54 دینارا عراقیا، وكذلك المدة التی یحق له فیها أن ینال إجازات مرضیة بنصف راتب، بمقتضى أحكام قانون الخدمة المدنیة رقم 24 لسنة 1960

ولكنه لم یستطع أن یغادر المستشفى لاستئناف العمل فی مصلحة الموانئ. لذلك بدأت مدة الإجازة المرضیة بدون راتب التی یسمح بها القانون، وطولها 180 یوما وفی 8 نیسان 1964 أرسلت جمعیة المؤلفین و الكتاب العراقیین ببغداد، وكان بدر عضوا فیها، رسالة إلى وزارة الصحة العراقیة تتوسط لدیها لمعالجة بدر

وجوابا على استفسارات الوزارة، أرسلت الجمعیة رسالة أخرى فی 26 نیسان 1964 فیها معلومات عن حالة بدر المرضیة و معالجته فی مستشفى الموانئ، مع رجاء حار بسرعة توفیر الأخصائیین الطبیین لمساعدة بدر

ولكن الرسمیات فی الدوائر الحكومیة طالت، بحیث أن شهر حزیران 1964 كاد ینتهی قبل أن تتخذ ترتیبات لنقل بدر بالقطار إلى بغداد لیوضع فی غرفة من الدرجة الأول ویعالج فی مستشفى الشعب ببغداد وصدرت دعوة المستشفى بتاریخ 29 حزیران 1964، ولكنها لم تصل بدرا إلى فی 5 تموز 1964

وكانت ترتیبات خاصة أخرى قد اتخذت قبل ذلك لمعالجة بدر فی الكویت وذلك أن الشاعر الكویتی علی السبتی كان قد نشر نداء موجها لوزیر الصحة الكویتی عبداللطیف محمد الثنیان یناشده فیه معالجة بدر فی الكویت على حساب الحكومة الكویتیة فرحب وزیر الصحة بذلك وكان معجبا بشعر بدر فاتخذت الترتیبات لأن یجئ بدر إلى الكویت بالطائرة لیعالج فی المستشفى الأمیری

فی 5 تموز 1964، كتب بدر كلمة شكر واعتذار على رسالة الدعوة التی جاءت من مستشفى الشعب ببغداد یشرح الترتیبات السابقة مع الحكومة الكویتیة. وفی 6 نموز طار إلى الكویت على إحدى طائرات الخطوط الجویة العراقیة وكان وحده

فاستقبله فی المطار الكویتی صدیقه علی السبتی مع أصدقاء آخرین. وادخل المستشفى الأمیری فی الحال ووضع فی غرفة خاصة و أحیط بكل عنایة واهتمام

غیر أن لا عنایة ولا اهتمام مهما حسنا كان بإمكانهما أن یعیدا الصحة لبدر فقد كانت صحته فی تأخر وانحدار متزایدین، وكان التصلب یسوء صعدا فی نخاعه الشوكی ویزید فی إفساد وظائف جهازه العصبی، وساءت حالة قرحته السریریة بفقدان الإحساس فی جذعه الأسفل وعدم قدرته على السیطرة على البراز و البول وكانت رجلاه الضامرتان بلا قوة، وقد أدى عدم استعمالهما إلى بدایة فساد فی العظام نفسها ولكنه كان متمالكا لجمیع قواه العقلیة، وكان برى أنه یعیش فی حضن الموت

و لم یكن فی حاجة لأن یقول له أحد أن أیامه كانت معدودة. لماذا إذن اذلال الجسد، ولماذا آلام الروح؟ لیأت الموت سریع، ولیأت فجأة

وفی لیلة 9 تموز 1964 كتب قصیدة عنوانها فی غابة الظلام بینما كان ساهرا یفكر بحالته الحزینة وبابنه غیلان یحلم بعودة والده، وختمها بقوله

    ألیس یكفی أیها الإله
    أن الفناء غایة الحیاه
    فتصبغ الحیاة بالقتام ؟
    سفینة كبیرة تطفو على المیاه؟
    هات الردى ، أرید أن أنام
    بین قبور أهلی المبعثرة
    وراء لیل المقبرة
    رصاصة الرحمة یا اله

لقد بلغ به الیأس مبلغا حتى أنه طلب من الله رصاصة الرحمة، طلب موتا فجائیا ینهی شقاءه برحمة

وكان یزوره فی المستشفى یومیا كثیرون من أصدقائه مثل علی السبتی وناجی علوش، وإبراهیم أبوناب وفاروق شوشه وسلمى الخضراء الجیوسی مع زوجها. وكان وزیر الصحة الكویتی وغیره من كبار الرسمیین الكویتیین یزورونه كذلك، ولم یكن بدر وحیدا ، بل أنه فی الواقع كان ینزعج أحیانا من طول جلسات الشعراء و الكتاب والصحفیین التی كانت تدوم إلى ساعات متأخرة من اللیل

وما أعظم ما كنت سعادته حین تسلم رسالة من زوجته فی 3 آب 1964، فكتب قصیدة عنوانها (رسالة) یصف فیها شعوره بالقلق على أسرته. وفی لیلة 5 آب 1964 كان یفكر مشتاقا بابنتیه غیداء وآلاء وینتظر وصولهما مع غیلان وزوجته إقبال فی الیوم التالی. فكتب قصیدة عنوانها (لیلة انتظار)، وفیها یقول :

    غدا تأتین یا إقبال ، یا بعثی من العدم
    ویا موتی ولا موت
    ویا مرسى سفینتی التی عادت ولا لوح على لوح
    ویا قلبی الذی إن مت أتركه على الدنیا لیبكینی
    ویجأر بالرثاء على ضریحی وهو لا دمع ولا صوت
    أحبینی ، إذا أدرجت فی كفنی .. أحبینی
    ستبقى - حین یبلى كل وجهی ، كل أضلاعی
    وتأكل قلبی الدیدان ، تشربه إلى القاع
    قصائد .. كنت أكتبها لأجلك فی دواوینی
    أحبیها تحبینی

ووصلت إقبال و أولادها إلى الكویت فی الیوم التالی ونزلوا فی بیت علی السبتی خلال اقامتهم فی الكویت. وكانت إقبال تزور زوجها فی المستشفى كل یوم فتؤنسه وتخدمه .
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 19:38|