ابزار وبمستر

بحث عن ذاتیّة الشاعِر الجاهلی
بحث عن ذاتیّة الشاعِر الجاهلی
 - راوی بوجوفتش المستشرق الیوغسلافی

كان شیئاً ممتعاً وحافزاً على الدوام تجرید وإضاءة شخصیة الفنان، هذا المبدع الذی یثیر عمله الفنی الأحاسیس الرقیقة والحادة. لذا یرغب أی الباحث أو القارئ فی أن یغوص فی شخصیته وروحه ویبحث فی عوالمها، أی یبحث فی العلاقات والأسباب التی تؤثر فی تشكیل وجهات النظر الفنیة. غیر أن النقد وتاریخ الأدب كانا یهتمان، بشكل خاص، باكتشاف مصادر وطرق استلهام الفنان ومنابع قدرته الإبداعیة، وبكلمة أخرى، خصوصیة الفنان فی استخدام الرمز للتعبیر عن مكنوناته الإبداعیة والحوافز التی تمده بالقدرة على ذلك.‏

وبالطبع، لم تستطع مثل هذه الدراسة العجلى أن تستوعب كل تلك الجوانب التی ذكرناها، وبشكل خاص بدایات نشأة الشعر العربی القدیم ودور الشاعر فی ذلك الحین. لأن ذلك یتطلب بحثاً شاملاً یلجأ إلى شتى العلوم التی تساعد على خلق نظرة متكاملة. وفی الحقیقة نحن لا نعرف عن الشاعر الجاهلی سوى النزر الیسیر ولذلك كثیراً ما نعتمد فی بحوثنا على تصوراتنا الخاصة ونحاول أن نستعید ونجدد صورة هذا العصر البعید وروحه الحقة. وربما كان الفنان سلفادور دالی قد عبر عن أسرار الروح والنفس البشریة بأكثر دقة و أروع مجاز، حینما ظهر ذات یوم بین الجمهور مرتدیاً (بدلة) الغوص وأراد أن یتحدث أمامهم عن أغوار هذه النفس التی تنوی الكشف عن مكنوناتها.‏

ولكی نحدد وجهة بحثنا هذا فلنتوقف عند مسألة العلاقة بین المبدع (الشاعر) والإلهام. غیر أننا لن نمیل هنا إلى التحلیلات الشعریة والسیكولوجیة بل نلقی الضوء على هذه الجوانب التی ستكمل صورتنا عن العوامل الثقافیة المؤثرة فی تكوین خصوصیة الشاعر الجاهلی ودوره الحضاری المهم، كما نحاول أن نجمع كل المعلومات الواردة عن هذه الشخصیة ونشیر إلى أهم خصائص تلك العلاقة.‏

فلو نظرنا إلى تسمیة ذلك العصر لوجدنا أنها تشیر إلى ثقافة معینة، ثقافة البدوی التی أنجبت شعراً ظل یرمز إلى قمة الإبداع الأدبی عند العرب على مر الأزمنة والعصور. وبالرغم من أن العرب قد طوروا حضارتهم بعد ظهور الإسلام تطویراً مرموقاً فقد احتل هذا الشعر مكانة خاصة فی هذه الحضارة وأصبح معیاراً للإبداع فی العصور القادمة. وحتى المحاولات التی قام بها بعض الأدباء فی تجدید الشعر وتطویره كانت تستند فی ذلك إلى أیام ولادته وإلى القوانین التی حددت معالمه الأصلیة، وبذلك فإن هذه المحاولات تنطبق انطباقاً تاماً على تلك المحاولات التی أبداها أو قام بها رجال الدین فی تجدید القیم الإسلامیة. ولذا یمكننا القول أن الشعر عند العرب فی تلك العصور وخاصة فی العصر الجاهلی أصبح یمثل دیناً لهم، یحمل فی طیاته سلوكهم وأخلاقهم وفهمهم لوجودهم. ولذا وبذلك أصبح تعبیر "الشعر دیوان العرب" أكثر وضوحاً وأوسع فهماً:‏

ولكون الشعر دیوان العرب، حصلت ضجة فی الثلاثینات من هذا القرن عندما حاول الأدیب طه حسین أن یهز هذه القدسیة (ربما تحت تأثیر المستشرقین "الفرت" و"مرغولیوث") حیث طرح أفكاره فی كتابه الشهیر (فی الشعر الجاهلی)(1). وبطبیعة الحال كان أول من عارض ذلك بانفعال شدید هم رجال الدین. ویشیر طه حسین فی هذا الكتاب، الذی غیر بعد هذه الضجة عنوانه ومحتویاته إلى حد ما، عندما یتحدث عن الشعر الجاهلی كمعیار لقمة الشعر، قائلاً: فلست أعرف أمة من الأمم القدیمة استمسكت بمذهب المحافظة فی الأدب ولم تجدد فیه إلا بمقدار كالأمة العربیة. فحیاة العرب الجاهلیین ظاهرة فی شعر الفرزدق وجریر وذی الرمة والأخطل والراعی أكثر من ظهورها فی هذا الشعر الذی ینسب إلى "طرفة وعنترة وبشر بن أبی خازم"(2).‏

ولكن الباحث الكبیر ابن خلدون، الذی سبقه بعدة قرون، كان قد أشار إلى ذات الفكرة قائلاً أن العرب یتعصبون لشعرهم دون أن یلتفتوا إلى القدرة الشعریة عند الشعوب الأخرى، وإن الإغریق یمكنهم كذلك أن یفتخروا بشعرهم(3). ویحق لنا أن نسأل: ما الأسباب التی دفعت العرب أن یجعلوا شعرهم البدائی معیاراً على مر العصور، رغم ظهور شعر الموشح والزجل فی الأندلس والبند فی العراق ورغم الحقیقة الماثلة وهی ظهور الشعر الحر منذ بدایة الخمسینات (لا نرید الخوض فی هذا المجال)(4)؟...‏

ومن الممكن أن نجیب بأن شكل القصیدة الجاهلیة هو السبب الأول والرئیسی فی الرجوع المستمر إلى هذا الشعر. حیث أن هذه القصیدة تمثل منطلقاً فنیاً ذا تكوین عال ثم إن لغتها ما زالت تداعب الأحاسیس برقة وتفرض الإعجاب بشتى معانیها وقوة أفكارها التی تعكس قوة العقول فی ذلك العصر. وهذه القصیدة، من جهة أخرى باستثناء روحها الفردیة ما زالت تمتلك وعیها الاجتماعی، لذا یمكننا أن ندعو هذه القصیدة بأنها قصیدة ذات خصائص ملحمیة، وجدانیة. أی أنها تمثل شكلاً ممزوجاً. إن ارتباط العرب بلغتهم كوسیلة رمزیة، نراه متطبعاً فی تسمیة أشهر القصائد الجاهلیة، كما هو فی المعلقات، التی استند علیها المستشرق الفرنسی (شال بیلا) فی إطلاق صفة صانعی الجواهر على الشعراء الأقدمین، بینما أنا أعتقد بأن القصة الأخرى حول تسمیة المعلقات أكثر أهمیة ومتعة لأنها تشیر إلى ثقافة العصر الجاهلی وإلى عادات الأعراب، حیث نجد فیها عناصر میثولوجیة أسطوریة من خلال استعمال أرقام المعلقات السبع أو التسع. ومن تعلیق هذه القصائد على باب الكعبة التی كانت مكاناً دینیاً وسحریاً قبل مجیء الإسلام، یبدو لنا أن تلك القصائد كان لها دور ساحر فی حیاة ذلك المجتمع، إذ أن العلاقة بین الشاعر والطبیعة فی عموم الشعر البدائی، علاقة وطیدة وشدیدة الصلة. حیث أننا نرى كذلك فی الشعر البدوی تلك العلاقة الأصیلة نرى شدة ارتباط البدوی ببیئته واندهاشه بما یحیط به، لذا یستخدم الشاعر وصفاً دقیقاً قوی التعبیر لما یراه ویعیشه (انظر مثلاً وصف العاصفة، عند امرئ القیس)، ویدل على قوة هذه العلاقة وتوطدها أنها تركت آثار الأفكار الأسطوریة المثیولوجیة والتوتمیة(5). بالرغم من مجیء الإسلام الذی حاول مسح تلك الآثار من أجل توحید الناس لعبادة إله واحد (لن نستخدم تعبیر الإسلام "المتزمت" الذی أصبح منتشراً فی أوربا، إذ أن له معنى خطیراً یحاول أصحاب هذا التعبیر من ورائه الحط من شأن الحضارة الإسلامیة)، لقد كان لحیاة البدوی، ومجمل إبداعاته وأصالة الشعراء الأوائل الذین یعدون مؤسسی الثقافة العربیة القدیمة أو ثقافة القبائل تأثیر كبیر فی تاریخ العرب حتى أن الإسلام لم یستطع اجتناب هذه الحقیقة، یمكننا الاعتماد على ما یقوله الأدیب طه حسین من "أن القرآن أصدق مرآة للحیاة الجاهلیة". (6).‏

وحتى یكون بوسع الباحث أن یقدم صورة كاملة ودقیقة عن ذلك العالم، یجب علیه أن یكون مولعاً بكل جوانب هذا الموضوع إذ إن الشعر الجاهلی الذی یتمیز ببساطته وروحیته الطبیعیة قد وضع ركائز لثقافة جدیدة متطورة. بطبیعة الحال لا یتسع هنا المجال لتحلیل هذه الجوانب بأسرها ولذا سنلفت الانتباه إلى بعض الحقائق الثقافیة التی ربما ساعدتنا على تكوین انطباع مستفز عن ذلك. مثلاً لنأخذ عبادة الشمس، والقمر التی لها أهمیتها حسب رأیی فی تكوین الثقافة البدویة والجاهلیة بشكل عام، نجد ذلك الأثر فی جمیع الثقافات البدائیة تقریباً مع أننا نستطیع تتبع تینك العبادتین فی الثقافة العربیة الإسلامیة على أساس تطورهما وصراعهما من أجل تغلب إحداهما على الأخرى. إذ إن هذا الصراع كان قد ترك أثراً مهماً فی سیر الحضارة العربیة والإسلامیة بشكل عام. ویبدو لی أن هذا الصراع لا یظهر فقط فی صراع الطرفین، أی العقیدتین، بل یشیر بشكل واضح إلى محاولة تكوین الشعور القومی عند البدوی على أساس انتمائه القبلی.‏

وربما لن ندرك طول فترة ذلك الصراع إن لم نتوغل فی هذا الموضوع أن هذین الطرفین یتمیزان حتى جغرافیاً. فی الشمال العدنانیون وفی الجنوب القحطانیون الذین یمتلكون، دون ریب، حضارة أقدم. وكل من هذین الطرفین یتمثل فی ثقافة خاصة تحمل شعارها الخاص القمر (علامة الأنوثة) والشمس (علامة الرجولة)، بعض الأحیان لا نستطیع أن نضع حدوداً فاصلة بین حاملی هذین الشعارین لأنهما أحیاناً یعیشان فی اندماج وتنسیق فی البیئة والمجتمع. ویدل على ذلك أن الیمنیین قد سبقوا فی وضع التقویم القمری والمصریین القدامى (والأعراب بعد ذلك اشتركوا فی تكوین جنسیتهم بالفعل)، جاؤوا بالتقویم الشمسی. غیر أن الصراع یستمر بین الشمس والقمر، أی بین ثقافة البدو (القمر) وثقافة الحضر (الشمس)، ونتلمس آثار ذلك فی العصر الأموی، ویتبین لنا أن هذا الصراع قد تلاشى فی العصر العباسی بغلبة ثقافة البدو عقائدیاً كما یبدو لنا فی القرن العاشر، بعد هزیمة حركة الشعوبیة. ومع أن هذه الثقافة تبدو بسیطة، ساذجة بل بدائیة، فإنها تخفی فی طیاتها حسا مرهفاً وقیماً جمالیة. ویخیل إلینا كذلك أن هذا الانتصار تحقق خاصة أن طریق سمو الأدب البدوی بشكل عام ولذا یمكننا القول أن القمر البدوی تغلب على ثقافة الشمس على صعید الأدب. بینما هناك انتصارات حققتها ثقافة الشمس، مثلاً فی القرنین الثامن والتاسع، وكأن الإسلام هدنة بین الثقافتین المتنازعتین أوقف ولو مؤقتاً الصراع ولكن بدون نتیجة.‏

وینعكس التوتر بین نموذج الثقافتین (البدویة والحضریة)، انعكاساً لامعاً حتى فی الأبجدیة العربیة، حیث نجد فیها الحروف القمریة والشمسیة، وكأن تقسیم هذه الأبجدیة یشیر إلى أن التوازن الثقافی أمر متوقع لأن هناك أربعة عشر حرفاً شمسیاً مقابل أربعة عشر حرفاً قمریاً، وبذلك أخذ هذا الصراع كثیراً من حیویة الحضارة الإسلامیة والبدویة من قبلها مع أننا شخصیاً نرى أن فی هذا الصراع (الدائم) بذرة تحرك الثقافة العربیة من حین لآخر وقدرة شدیدة على إمكانیة تحریك هذه الحضارة على الدوام ومن جدید(7). ولو غصنا بعمق فی الدوافع الإبداعیة للثقافة البدویة لأمكننا الاستنتاج أن فی الشعر البدوی حافزاً حضاریاً هاماً قد یستطیع أن ینتج فی ظروف اجتماعیة وتاریخیة مناسبة(8) ثقافة أخرى أكثر إبداعاً حتى من هذه الثقافة التی جاء بها الأدب العباسی فی عصره الذهبی وإن هذا الحافز هو صنف من الأصناف الجمالیة: الإلهام.‏

وبطبیعة الحال لا یمكننا أن نناقش مثل هذا الصنف، وفی تلك الفترة، بل یمكننا الخوض بهذا الشیء بعد ظهور نظریة الشعر عند العرب. ولذا سنورد فی هذا المجال فكرة نظریة واحدة فقط تتحدث عن هذا الشیء نجد مصدرها فی القرون الوسطى. یضمها كتاب العقد الفرید المشهور لمحمد بن عبد ربه (القرن العاشر) وتحكی هذه القصة أن رجلاً كاتباً توسل إلیه أحد أصحابه أن یكتب رسالة باسمه، وعندما أخذ الكاتب قلمه توقف هنیهة. فسأله صاحبه عن سبب توقفه ظناً منه أنه فقد بلاغته، ولكن الكاتب لم یومئ برأسه بل أجاب أنه یبحث فی باله عن أفضل المعانی لكتابة الرسالة(9). ویجب علینا أن نعلم بأن الإلهام لم یكن یعنی شیئاً حتى بالنسبة لشعراء الجاهلیة دون الاعتماد على الجهد الإبداعی الأصیل وعلاقات الشاعر بأعماله الشعریة علاقة وطیدة جادة.‏

وهكذا نجد فی كتاب "الصناعتین فی الكتابة والشعر" لأبی هلال العسكری (القرن التاسع)، وهذا الكتاب مهم جداً للبحث فی نظریة الشعر فی القرون الوسطى عند العرب، نجد معلومات عن الجهد الذی بذله الشاعر زهیر أثناء نظمه للشعر، إذ إنه كان ینظم قصیدة واحدة فی ستة أشهر، ثم یتركها طی الكتمان ستة أشهر أخرى. وعندما كانت تنتهی هذه الفترة الطویلة إلى حد كبیر كان یلقی شعره(10). وأما الشاعر عنترة بن شداد فهو یشكو من مصیره الشعری لأن الشعراء الذین سبقوه لم یتركوا له مجالاً لیحمل شعره مضامین جدیدة وعلینا ألا ننسى أن هذا الكلام قیل فی القرن السادس.‏

إذن، إذا أراد الشاعر أن یضیف إلى شعره شیئاً إبداعیاً جدیداً فعلیه أن یكون ذا تناسق متواصل مع الإلهام الذی یحفز الشاعر للبحث عن فضاءات جدیدة. إنه یجب أن یستفز فیه المشاعر. حتى یوصله إلى اكتشاف الحقیقة وكسب المعرفة. ولذا لیس من الغریب إن كانت هناك صلة ولو خاطفة بین الشاعر والكاهن والشعر الجاهلی خاصة إذا لم ننس أن الفعل (شَعَر) كان فی البدء مرادفاً للفعل (عَلم)، وإن صلتهما تفهم بالذات وقبل كل شیء عن طریق (صنف) فی الإلهام. فهناك اعتقاد سائد بأن الكاهن كان یحصل على الإلهام بمساعدة إبلیس أو الشیطان، وإن هذا الاعتقاد قد امتد بعد ذلك إلى الشاعر أیضاً. كما أن هناك دلیلاً نجده فی تسلسل الشعراء الجاهلیین والمخضرمین الذین تقوم بینهم صلة القرابة (المهلهل امرؤ القیس عمرو بن كلثوم، طرفة المتلمس، زهیر كعب بن زهیر وغیرهم). وإن دل هذا على شیء فإنما یدل على أن أسرار نظم الشعر كانت تنتقل من شاعر إلى شاعر مختار آخر ضمن "طائفة" معینة ومحدودة.‏

وربما كانت هذه الصلة تساعد الشعراء مثل الكهنة على أن یعبروا عن أنفسهم بطریقة إبداعیة خاصة، مثلما كان الكهنة یستخدمون السجع فی خطبهم. ومن جهة أخرى، فإن لغة القرآن لغة مسجوعة ولذا كان بعض القرشیین یتهمون الرسول محمداً ( بانتمائه إلى صفوف الكهنة. ومن هذا یمكننا أن نتوقع بأن الصلة التی تربط الشعراء بالكهنة كانت لغة السجع. ولغة الشعراء هی لغة البیت والقافیة. وأما بخصوص الرسول محمد ( فقد اضطر أن یدافع عن نفسه ضد هذه التهمة كما ورد ذلك فی سورتی الحاقة والطور. ولكن بالنسبة لما نود الإشارة إلیه هو أن الرسول فی سورة الشعراء رد على الشعراء بالشعراء أنفسهم مثلما فعل أفلاطون فی جمهوریته ووسمهم بصفة الكاذبین. وفی الآیتین (210 211)، من نفس السورة نجد الفكرة التی تقول بأن القرآن لم ینزل على الشیاطین، أی على الكهنة أو الشعراء لأنهم "وماینبغی لهم و مایستطیعون "ویتهم القرآن الشیاطین الذین تآمروا على البشر ویتسمعون لما یجری فی السماء وبإمكانهم أن ینقلوا المعارف السریة كالأشخاص الذین یمتلكونها إلى الناس المختارین فی الدنیا.‏

ومن هذه الفكرة یبدو أن الشعراء قد أصبحوا مثل الكهنة السذج. ولكن هذه التهمة التی وردت بالقرآن قد لا تستطیع أن تحطم القدرة الشعریة (أو السحریة)، تحطیماً كاملاً. ولذا أضاف القرآن تهمة أشد وأقوى عندما ذكر بأن الشعراء یتكلمون بما لا یستطیعون تحقیقه ولذا فإن عملهم وشعرهم لیسا منسجمین وإن من یتبعهم هو فی ضلال ولكن ما أراه أهم هو هذه الصلة بین إبلیس أو الشیطان والشاعر، كما أن رأی الشاعر الجاهلی فی القدر وبحثه عن الحقیقة و المعرفة یذكرنا بما جرى، إلى حد ما، بفاوست غوته الأسطوری، وأخیراً بالثقافة الفاوستیة، هذه الثقافة الخاصة التی ولدت فی حضن الثقافة الجرمانیة، وهناك وجه آخر لنفس العملة، كما یقال، أی هذه الظاهرة تقول إن الكاهن أو الشاعر أو الإنسان بوجه عام یحصل على المعارف السریة ویبرزها فی أماكن الطقوس (وأنا أرى عكاظ والمربد والأسواق الأخرى أماكن للطقوس)، ویحرك نفوس المستمعین ومن ثم كل شیء ینتهی عند ذلك. ولذا اسمحوا لی بطرح السؤال التالی: لماذا لم تنجب هذه البذرة الفاوستیة التی نجدها فی بدایة الثقافة العربیة محاولة اللهاث وراء المعرفة ومحاصیلها؟ ولماذا لم تتحقق الثقافة الفاوستیة فی مفهومها الأوروبی الحدیث؟ وأعتقد أن الجواب الوحید الذی أستطیع أن أقدمه هنا هو عدم وجود الجو المناسب فی الأطراف الأخرى لحیاة المجتمع العربی آنذاك، لأن هذه الفكرة الفاوستیة ظهرت بشكل مبكر تقریباً، فی المرحلة البدائیة من تشكل العقل الإنسانی. ولكن هذه الظاهرة ساعدت مساعدة واضحة على ظهور الإسلام كمرحلة أرقى وأعلى فی سیر الثقافة نحو الأمام كما تمثلت هذه الظاهرة فی بدایة انتشار الإسلام فی "جوع" الأعراب للتعلم أكثر وتوسیع آفاقهم ولیعوضوا كل ما لم یعرفوا فی جاهلیتهم.‏

ولنتوقف الآن قلیلاً عند الفرق الجوهری بین النظریتین العربیة والأوروبیة تجاه مفهوم صنف الإلهام، وقد یحیرنا هذا الفرق لأننا نجد أن آلهة ما تقف وراء النظریة الأوربیة، بینما یقف وراء الشاعر الجاهلی الشیطان نفسه، قبیحاً مطروداً، مستفزاً. وفی اعتقادی أن هذا الشیطان هو الذی یسمو بهذا الشعر إلى مستوى الإبداع ویجعله شعراً مادیاً وتشكیل وتكوین نظریة الشعر الواقعی ولأنه كذلك فالقصیدة عند الشاعر الجاهلی تجد حاجة شدیدة فی سعیها للوصول إلى كشف مكنونات الطبیعة. والقصیدة تمثل، كما هو معروف، شكلاً أدبیاً ممزوجاً(11)، من ثلاثة أجزاء مختلفة: الجزء الأول منها، الذی نسمیه النسیب یشیر إلى میزة أساسیة عند الشاعر الجاهلی أو إلى (الموتیف) (MOTIV) الأساسی الحاجة الجامعة إلى الأسفار والبحث عن المجهول والمفقود. ولذا أرى فی هذا الجزء، عندما یبحث الشاعر الجاهلی عن حبیبته ویسرد ذكریاته معها ویقف مناجیاً أطلالها، إن هناك رمزاً أصیلاً یسری فی عروق الشعر العربی حتى أیامنا هذه. إن "موتیف" الفرار الدائم هو المحرك الحقیقی لیس للشعر الجاهلی فحسب بل وحتى للشعر المعاصر. یصف الشاعر تأبط شراً فی القرن السادس صاحباً له كان لاهث الشوق للأسفار غیر آبه برحاب القفار (وفی رأینا هذا رمز المغفرة)، والظمأ (رمز المعرفة) والخطر (رمز العقاب) الذی یداهم المسافر عند كل خطوة. ویمكن تتبع مثل أولئك المسافرین والتائهین بین الشعراء (أمثال تأبط شراً والشنفرى وامرئ القیس)، من خلال الشعر الجاهلی عامة، كما یمكن ذلك فی القرون الوسطى، ولكن بشكل أقل وضوحاً، باستثناء المقامات. ویبدو أن الحضارة الشمسیة تغلبت هذه الفترة (القرنین الحادی عشر والثانی عشر)، على الحضارة القمریة. وحتى فی أ یامنا هذه نشهد میول الشعراء إلى الأسفار والتیه وذلك على سبیل المثال من خلال أشعار بدر شاكر السیاب، وعبد الوهاب البیاتی، وسعدی یوسف، والفیتوری، ویمكننا تلمس هذه الظاهرة فی قصص ألف لیلة ولیلة، وإن كان الباحثون الأوربیون بشكل خاص یلاحظون تأثیر الهنود فی ذلك الموضوع، غیر أنی أعتبر هذا الرأی غیر سلیم.‏

والرجل المسافر یحتاج على الدوام إلى أن یعلم مصیره. والمصیر عند الشاعر امرئ القیس یعبر عن فضاء رحب الأشواق والعدو خلف ما یفلت من العقل البشری. ویعبر هذا الشاعر عن البشر والمستقبل فی شعره بعاملین أحدهما یبنی بوعی والآخر یهدم بجهله. ویمكننا الاستنتاج أن الشاعر الجاهلی یتعذب إلى حد ما من أجل كشف مكنونات الفضاء والطبیعة غیر أن بعض المستشرقین یصفونه بالمادیة ویتهمونه بجفاف الأسلوب وحتى یبدو بالنسبة إلیهم مملاً، ناسین أن أی شعر بدائی لا یستطیع أن یتجاوز عصره البدائی، ولكن ذاتیة هذا الشعر تجذبنا من جدید عندما نجدها قد تطورت فی القرنین 8 10 إلى الشك الذی اندثر بعد ذلك بسرعة مع شدید الأسف وتحول إلى الخفوت والركود (12).‏

بقی فقط الوهج البلاغی وتلاشى النبض الجمالی. ویبدو أن الشعر الكلاسیكی قد وصل إلى نصف العمود الذی یربط الأسفل والأعلى لیأتی الشعر المعاصر ویبدأ صعوده مع هذا العمود إلى أعلاه.‏

إن المصیر الذی یهتم به شعراء البادیة هو مصیر متقلب مستتر، ولذا لیس من الغریب أن ینظروا ولو نادراً خارج شخصیاتهم الضعیفة المحدودة التأثیر ولذا فإن هؤلاء الشعراء، حسب تقالید السامیین القدامى وحسب تقالید حضارات وادی الرافدین، یتطلعون إلى الطبیعة والنجوم للحصول على الأجوبة التی طرحتها روح متسائلة ومتعجبة وعلى سبیل المثال، الشعر المعاصر یواصل هذه "الخبرة" فإن الشاعر السیاب كثیراً ما یتطلع إلى النجوم ولكنه یرمز فی شعره بشیء معاكس للنجوم وهو الصدف. ویعنی هذا الربط عذاب الإنسان أمام الحقیقة، أی بین النور والظلام، بین التفاؤل والتشاؤم، بین الأسرار والمعرفة. وكان عرب الزمن القدیم یؤمنون بأن هبوط النجوم ینبئ بوفاة نبیل أو بولادته. ولكن شعراء القرون الوسطى یحاولون اجتیاز هذه الهاویة وعدم الانسجام بین البشر والفضاء عن طریق إهمال هذه المسألة.‏

ومن خلال هذا البحث السریع أود أن أبین للقارئ أن هذا الإلهام شبه الفاوستی ترك أثراً مهماً لیس فی الشعر العربی فحسب، وإنما فی الثقافة عموماً بالرغم من أنه لم یستطع أن یؤثر على ظروف هذا العصر البدائی والعصور التی تلته، ولذا كان الإلهام لمدة قصیرة محاولة للبحث عن مقاومة الحقیقة وبث الشكوك(13) ولكنه تحول بمرور القرون، إلى حركة جدیدة فی الشعر العربی المعاصر (القرن العشرین وبالخصوص منذ الخمسینات)، عندما أصبح الشعر الحر یبنی طرقه الجدیدة، مؤكداً على وجود الإنسان.‏

**** ‏

الحواشی:‏

(1) لأن القصیدة بلغت هذه الدرجة من المهارة الشعریة، وخاصة من جانب العروض بحیث أصبح بعض الباحثین یشكون فی أصالتها الباكرة مع أن فیلیب حتی، المؤرخ الشهیر، یضع القصیدة فوق ملاحم هومیروس وعلینا أن نتذكر أن هومیروس كان "مفاجأة كبیرة"، بحد ذاته فی ذلك الزمن.‏

(2) فی الأدب الجاهلی، القاهرة 1962، ص 71.‏

(3) مقدمة ابن خلدون، ج4، القاهرة، ص 1314.‏

(4) انظر دراسة نور الدین صمود المنشورة فی أعداد مجلة الفكر التونسیة لعام 1978، وبالخصوص العددین 5 و10.‏

(5) انظر باللغة الروسیة:‏

S.Y.SHIDFAR, Obraznaya sistema arabskyo Klasicheskoy literaturi, Moskva, 1974.‏

(6) طه حسین، المصدر المذكور، ص 71.‏

(7) إن هذا التغلب واضح فی العصر الأموی حیث یحترم الشعراء التقلید الجاهلی احتراماً شاملاً، وانظر إلى:‏

Papers on Islamic Kistory (950- 1750). Oxford 1973.‏

وفیه دراسة CI. Cahen.‏

(8) یقول القرآن: (أقرأ باسم ربك الذی خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذی علم بالقلم، علم الإنسان مالم یعلم(.‏

(9) العقد الفرید، بیروت 1963، ص 44.‏

(10) المصدر المذكور، ص 65.‏

(11) ویقول ابن خلدون عن الشكل والمضمون إن الأول بمثابة القوالب للمعانی فكما أن الأوانی التی یغترف بها الماء من البحر منها آنیة الذهب والفضة والصدف، والزجاج والخزف والماء واحد فی نفسه، وتختلف الجودة فی الأوانی المملوءة بالماء، باختلاف جنسها لا باختلاف الماء (مقدمة، ص 1325).‏

(12) نجد أشكال الشك عند المعتزلة والمعری وأبی نواس الذی یقول:‏

دع عنك لومی فإن اللوم إغراء وداونی بالتی كانت هی الداء‏

وقل لمن یدعی فی العلم فلسفة حفظت شیئاً وغابت عنك أشیاء‏

(13) قد أكون مضطراً فی هذا المكان إلى شرح موقفی من جدوى الشك فی سیر البشر إلى الأمام. وابتداء من شكوك مونتسكیه الفرنسی بدأت الثقافة الأوروبیة أو الغربیة تتقدم فنیاً وفلسفیاً وتیكنولوجیاً، الشك هو ما یحركنا فی بحثنا عن الذات والعلم.‏
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 19:40|