شعرنا بین مد التجدید وجزر
التقلی
ألا یاطـــــــائر الــــفردو س إن الشعـــــــر
وجــدان [1]
الشعر صورة من الحیاة ونسل من رحمها ، وهو ترجمان الشعور ، وفیض من توتر الروح وسبحات الوجدان، وكل موضوع من مواضیع الحیاة ،سما أو انحّطٌََُُّّّ مثالیا كان أو واقعیا، وكل همسة أو خفقة قلب أو شرارة انقدحت فی الوجدان هی مجالات الشعر.
ولیس یعنی الشاعر فی شعره بالمثل و القیم العلیا فما هو بفیلسوف ولا داعیة ولا مصلح إنسانی ، وإذا جاء شىء من هذا فی شعره فهو من طریق غیر مباشر وإلا فسدت رسالة الشعر ، ورسالته تجمل فی كلمة فحواها أن الشعر تعبیر عن الوجدان.
إن الشاعر الحقیقی صنو للإنسان الحقیقی فكما لا یكون الشاعر شاعرا إلا إذا امتلك زمام اللغة وتبحر فی بلاغتها وعرف أوزان الشعر وقواعده فلیس هو بشاعر إن خلا قلبه من الحب – حب الكائنات والطبیعة – والسعی إلى إضافة شیء فی المعمار الإنسانی.
ومن ثمة تسقط الدعوة التی یروج لها بعض الناس وهی أن الشعر لا یكون شعرا إلا إذا تضمن الأشیاء العظیمة وحلق فی سماء الفضیلة وماعداه ففحش ومجون.
وفی الواقع فشاعریة الشاعر لا تقاس بنوع الموضوع الذی یتطرق إلیه فی شعره ومن ثمة الحكم بالإبداع أو الرداءة وإنما بطریقة الآداء وكیفیة التصویر ودلالة اللفظ على المعنى وتدفق الشعور كتیار مصاحب للصور الشعریة وهی وحدها العناصر التی یحاسب علیها الشاعر.
وفی تراثنا الشعری القدیم كثیر من المنظوم الذی لیس بشعر، فمنه ما یخلو من صدق الشعور وأكثر شعر المدیح من هذا القبیل وفی دواوین الشعراء الكبار كالمتنبی وأبی تمام والبحتری كثیر من هذه السقطات التی ابتغى بها هؤلاء الشعراء حطام الدنیا مقابل التزییف والقفز على قناعات عقولهم وأحاسیس وجدانهم فالمتنبی الذی قال فی كافور:
قواصد كافور توارك غیره
ومن قصد البحر استقل السواقیا
یعود لیقول فیه :
ومثلك یؤتى من بلاد بعیدة
لیضحك ربات الحداد البواكیا!
ولا لشىء إلا لكونه انتظر إمارة من كافور ولم ینلها:
أبا المسك هل فی الكأس فضل أناله
فإنی منذ حین أغنی وتشرب ؟
فأین هو صدق الشعور الذی انقلب من الضد إلى الضد فی أمد قصیر ولم یسلم شعراء الجاهلیة على علو كعبهم فی الشاعریة من آفة تسىء إلى الشعر وهی آفة التقلید فإذا كان امرؤ القیس قد وقف على الدیار وبكى واستبكى حسب غیره من الشعراء أن علیهم سداد دین لآلهة الشعر لیترصدن خطى الملك الضلیل حتى ولو لم یكن لأحدهم فی سوق الهوى الذیوع وماوقف حقیقة على طلل. ولذا عد أبو نواس شاعرا بحق لأنه قال:
عاج الشقی عن رسم یســـائله
وعجت أسأل عن خمارة البلد
لقد جعل الشعر ترجماناعن وجدانه ولسانا یبین عن حاله، وقد كان أبو نواس رجلا غاص فی الرذیلة إلى الأذقان، ولم تكن حیاته إلا السكر والإمعان فی الفجور وهو یبدع حین یصف عربدته ودعارته ولیس أبدع فی وصف الخمرة وتأثیرها من قوله:
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها
إن مسها حجر مسته ســـــــراء
وحیاة أبى نواس لا ترضی المثل ولا یرضى عنها أهل المروءة ولكن شعر أبی نواس هو فی القمة من حیث استفائه على عناصر الشعر ومكوناته.
والشعر إذا تخلى عن جوهره وسایر مجالا غیر مجاله فقد صفة الشاعریة وتحول إلى نظم وقل مثل هذا عن الشعر الأخلاقی والوعظی المباشر ودیوان الشافعی ولامیة ابن الوردی خیر مثال على هذا.
والشعر موسیقی فی الصمیم فهو على حد تعریف القدماء له الكلام الجمیل الموزون المقفى، وقد حافظ الشعر العربی على نسقه العمودی أحقابا طویلة، واقتضت ضرورة الحیاة وتطوراتها وتباین البیئة من إحداث تجدید فیه دون التخلی عن الأوزان الخلیلیة وأفضل مثال على ذلك الموشحات الأندلسیة واستعمال الأبحر المجزوءة واستحداث التغییر فی بحر بعینه كمخلع البسیط وقد نظم علیة ابن الرومی هجائیته المشهورة:
وجهك یاعمرو فیه طول
وفی وجوه الكلاب طول
ولكن فی العصر الحدیث ونتیجة لاحتكاك الشعراء بالثقافة الغربیة الوافدة وبتأثیر من الشاعر الإنجلیزی توماس إلیوت، ثار لفیف من الشعراء العرب على عمود الشعر، ذلك أنهم رأوا فیه إكراهات وقیود تعیق حریة الشاعر ولعل أهمها تبعیة الشاعر للغة قصد الاستجابة لدواعی الوزن، وعلى الرغم من أن هؤلاء الشعراء بإمكانهم تنویع القافیة كسرا لهذا الغل، إلا أن هذه الحریة فی معتقدهم لا تشفی الغلیل ، فالشعر تیار نفسی مسكون بالرغائب والهواجس والانفعالات مسكوب فی قوالب لفظیة ودرجة الانفعال وحدته هی التی تتحكم فی طول وقصر البیت وهو مایسمونه بالسطر ولقد كان السیاب ونازك الملائكة والبیاتی وصلاح عبد الصبور وخلیل حاوی وأمل دنقل ونزار قبانی خیر من یمثل هذه الحركة التجدیدیة ، التی لاقت معارضة شرسة من قبل المحافظین على عمود الشعر ولعل أبرز المعارضین العقاد ، وله فی ذلك حجة ذكیة تستحق النظر وفحواها أن الشعر حركة ومناورة فی فن محكوم بالقیود (الوزن والقافیة) والشاعر الحقیقی هو الذی یتحرك بخفة ورشاقة دون أن تحد تلك القیود من مرونة حركته، فهو یعبر عن رغائبه وبنات أفكاره ومشاعره أتم تعبیر وأكمل تصویر وكأن تلك القیود غیر موجودة أصلا وله فی ذلك قصیدة طریفة بعنوان " حانوت القیود"
لا ریب أن العقاد قد غالى فی حملته على الشعر الجدید، وقد جانب الصواب حین أحاله على لجنة النثر للاختصاص، فالبحورالشعریة وشكل القصیدة العربیة المتوارثة لیست وحیا منزلا وما على الخلف إلا الاتباع، فلأبناء هذا العصر ثقافتهم وظروف حیاة تختلف عن حیاة آبائهم وعالم یعیشون فیه یمتلأ حركة ونموا ومرونة فمن السخف غض النظر عن كل هذه الأشیاء والركون إلى میراث الأجداد لاستهلاكه دون أن یضیف إلیه الأبناء شیئا جدیدا.
إن فی الشعر الحدیث إنجازات شعریة كبیرة هی ترجمان الشاعر والعصر على السواء وهی قصائد تستحق البقاء حتى وإن كانت الذاكرة قد ألفت حفظ الشعر العمودی وتردید حكم المتنبی وغزلیات امرىء القیس وخمریات الأعشى ومواجد ابن الفارض .
وإن القارىء الحصیف الحی الضمیر ، المرهف الاحساس ، الغنی العقل لیجد فی قصائد من مثل
" دار جدی " و " أنشودة المطر " للسیاب و "الظل والصلیب" لصلاح عبد الصبور ، الفن الكبیر الذی یغذی العقل والوجدان على السواء
و لا أدل على ذلك من هذا المقطع لخلیل حاوی من دیوان " نهر الرماد " :
خـلــنی للبحــــر للریــــــــــح لموت
ینشـــــر الأكـفـان زرقــــــا للغریـق
مبحـر ماتت بعینیه منارات الطریق
مات ذاك الضـوء فی عینیـه مـــات
لا البطولات تنجـیـه و لاذل الصلاة !
فهو مقطع قد تكاثفت فیه الروح الشعریة ، وتعددت فیه صور الضیاع ومشاعر الكآبة و الانسحــاق ، وموسیقاه مناسبة تماما لهذا الغرض أی الأزمة الوجودیة الخانقة التی یحیاها الشاعر .
والشاعر یعتمد تكرار ( فاعلاتن ) من بحر الرمل فی كل سطر حسب حاجته النفسیة:
فاعلاتـــن فاعلاتــــن فعلاتـــن
فاعلاتــــن فاعلاتـــن فاعـلـــن
فاعلاتن فاعلاتـــن فعلاتـــن فاعلن
فاعلاتــــن فاعلاتـــن فاعـلـــن
فاعلاتــــن فعلاتـــن فعلاتـــن فاعـلـــن
فمن غیر المقبول اعتبار هذا الإبداع الشعری المحكم البنیان ،الغنی بالصورالشعریة ،والطاقة الشعوریة المتدفقة من وجدان الشاعرمحالا على لجنة النثر للاختصاص.
وأزمة الشعر الحدیث فی رأینا تأتی من كون الجیل اللاحق لجیل الكبار ( السیاب، الملائكة ،البیاتی، دنقل، عبد الصبور) لم تستقم له الملكة الشعریة ولاتهیأت له أسباب السیطرة على اللغة العربیة ولاتعمق فی دراسة الشعر العربی الكلاسیكی ، ولاتمرس بدراسة المذاهب والنظریات النقدیة الغربیة والشرقیة على السواء، ناهیك عن الجهل التام بالعروض وقواعده والقافیة وأصولها، وأغلبهم یعجز عن إنشاء قصیدة عمودیة، ولذا تراه تحت دعاوى التجدید والحداثة ومابعد الحداثة یحاول إخفاء عورته والتستر على فقره بهذه الرطانات التی یسمیها صاحبها شعرا حدیثا وفی الواقع هی مؤشر الأنیمیا الشعریة والسقوط الفاضح.
ومانحسب أن هؤلاء الكبار الذین أشرنا إلیهم كانوا یعجزون عن النظم حسب أصول القصیدة العمودیة، وللملائكة والسیاب بل ولعبد الصبور قصائد عمودیة، تدل على تمكن هؤلاء الشعراء من القصیدة العمودیة، ولكنها الروح التجدیدیة الوثابة هی التی حدت بهؤلاء الكبار إلى إنتاج شعری جدید شكلا ومضمونا
الشعر صورة من الحیاة ونسل من رحمها ، وهو ترجمان الشعور ، وفیض من توتر الروح وسبحات الوجدان، وكل موضوع من مواضیع الحیاة ،سما أو انحّطٌََُُّّّ مثالیا كان أو واقعیا، وكل همسة أو خفقة قلب أو شرارة انقدحت فی الوجدان هی مجالات الشعر.
ولیس یعنی الشاعر فی شعره بالمثل و القیم العلیا فما هو بفیلسوف ولا داعیة ولا مصلح إنسانی ، وإذا جاء شىء من هذا فی شعره فهو من طریق غیر مباشر وإلا فسدت رسالة الشعر ، ورسالته تجمل فی كلمة فحواها أن الشعر تعبیر عن الوجدان.
إن الشاعر الحقیقی صنو للإنسان الحقیقی فكما لا یكون الشاعر شاعرا إلا إذا امتلك زمام اللغة وتبحر فی بلاغتها وعرف أوزان الشعر وقواعده فلیس هو بشاعر إن خلا قلبه من الحب – حب الكائنات والطبیعة – والسعی إلى إضافة شیء فی المعمار الإنسانی.
ومن ثمة تسقط الدعوة التی یروج لها بعض الناس وهی أن الشعر لا یكون شعرا إلا إذا تضمن الأشیاء العظیمة وحلق فی سماء الفضیلة وماعداه ففحش ومجون.
وفی الواقع فشاعریة الشاعر لا تقاس بنوع الموضوع الذی یتطرق إلیه فی شعره ومن ثمة الحكم بالإبداع أو الرداءة وإنما بطریقة الآداء وكیفیة التصویر ودلالة اللفظ على المعنى وتدفق الشعور كتیار مصاحب للصور الشعریة وهی وحدها العناصر التی یحاسب علیها الشاعر.
وفی تراثنا الشعری القدیم كثیر من المنظوم الذی لیس بشعر، فمنه ما یخلو من صدق الشعور وأكثر شعر المدیح من هذا القبیل وفی دواوین الشعراء الكبار كالمتنبی وأبی تمام والبحتری كثیر من هذه السقطات التی ابتغى بها هؤلاء الشعراء حطام الدنیا مقابل التزییف والقفز على قناعات عقولهم وأحاسیس وجدانهم فالمتنبی الذی قال فی كافور:
قواصد كافور توارك غیره
ومن قصد البحر استقل السواقیا
یعود لیقول فیه :
ومثلك یؤتى من بلاد بعیدة
لیضحك ربات الحداد البواكیا!
ولا لشىء إلا لكونه انتظر إمارة من كافور ولم ینلها:
أبا المسك هل فی الكأس فضل أناله
فإنی منذ حین أغنی وتشرب ؟
فأین هو صدق الشعور الذی انقلب من الضد إلى الضد فی أمد قصیر ولم یسلم شعراء الجاهلیة على علو كعبهم فی الشاعریة من آفة تسىء إلى الشعر وهی آفة التقلید فإذا كان امرؤ القیس قد وقف على الدیار وبكى واستبكى حسب غیره من الشعراء أن علیهم سداد دین لآلهة الشعر لیترصدن خطى الملك الضلیل حتى ولو لم یكن لأحدهم فی سوق الهوى الذیوع وماوقف حقیقة على طلل. ولذا عد أبو نواس شاعرا بحق لأنه قال:
عاج الشقی عن رسم یســـائله
وعجت أسأل عن خمارة البلد
لقد جعل الشعر ترجماناعن وجدانه ولسانا یبین عن حاله، وقد كان أبو نواس رجلا غاص فی الرذیلة إلى الأذقان، ولم تكن حیاته إلا السكر والإمعان فی الفجور وهو یبدع حین یصف عربدته ودعارته ولیس أبدع فی وصف الخمرة وتأثیرها من قوله:
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها
إن مسها حجر مسته ســـــــراء
وحیاة أبى نواس لا ترضی المثل ولا یرضى عنها أهل المروءة ولكن شعر أبی نواس هو فی القمة من حیث استفائه على عناصر الشعر ومكوناته.
والشعر إذا تخلى عن جوهره وسایر مجالا غیر مجاله فقد صفة الشاعریة وتحول إلى نظم وقل مثل هذا عن الشعر الأخلاقی والوعظی المباشر ودیوان الشافعی ولامیة ابن الوردی خیر مثال على هذا.
والشعر موسیقی فی الصمیم فهو على حد تعریف القدماء له الكلام الجمیل الموزون المقفى، وقد حافظ الشعر العربی على نسقه العمودی أحقابا طویلة، واقتضت ضرورة الحیاة وتطوراتها وتباین البیئة من إحداث تجدید فیه دون التخلی عن الأوزان الخلیلیة وأفضل مثال على ذلك الموشحات الأندلسیة واستعمال الأبحر المجزوءة واستحداث التغییر فی بحر بعینه كمخلع البسیط وقد نظم علیة ابن الرومی هجائیته المشهورة:
وجهك یاعمرو فیه طول
وفی وجوه الكلاب طول
ولكن فی العصر الحدیث ونتیجة لاحتكاك الشعراء بالثقافة الغربیة الوافدة وبتأثیر من الشاعر الإنجلیزی توماس إلیوت، ثار لفیف من الشعراء العرب على عمود الشعر، ذلك أنهم رأوا فیه إكراهات وقیود تعیق حریة الشاعر ولعل أهمها تبعیة الشاعر للغة قصد الاستجابة لدواعی الوزن، وعلى الرغم من أن هؤلاء الشعراء بإمكانهم تنویع القافیة كسرا لهذا الغل، إلا أن هذه الحریة فی معتقدهم لا تشفی الغلیل ، فالشعر تیار نفسی مسكون بالرغائب والهواجس والانفعالات مسكوب فی قوالب لفظیة ودرجة الانفعال وحدته هی التی تتحكم فی طول وقصر البیت وهو مایسمونه بالسطر ولقد كان السیاب ونازك الملائكة والبیاتی وصلاح عبد الصبور وخلیل حاوی وأمل دنقل ونزار قبانی خیر من یمثل هذه الحركة التجدیدیة ، التی لاقت معارضة شرسة من قبل المحافظین على عمود الشعر ولعل أبرز المعارضین العقاد ، وله فی ذلك حجة ذكیة تستحق النظر وفحواها أن الشعر حركة ومناورة فی فن محكوم بالقیود (الوزن والقافیة) والشاعر الحقیقی هو الذی یتحرك بخفة ورشاقة دون أن تحد تلك القیود من مرونة حركته، فهو یعبر عن رغائبه وبنات أفكاره ومشاعره أتم تعبیر وأكمل تصویر وكأن تلك القیود غیر موجودة أصلا وله فی ذلك قصیدة طریفة بعنوان " حانوت القیود"
لا ریب أن العقاد قد غالى فی حملته على الشعر الجدید، وقد جانب الصواب حین أحاله على لجنة النثر للاختصاص، فالبحورالشعریة وشكل القصیدة العربیة المتوارثة لیست وحیا منزلا وما على الخلف إلا الاتباع، فلأبناء هذا العصر ثقافتهم وظروف حیاة تختلف عن حیاة آبائهم وعالم یعیشون فیه یمتلأ حركة ونموا ومرونة فمن السخف غض النظر عن كل هذه الأشیاء والركون إلى میراث الأجداد لاستهلاكه دون أن یضیف إلیه الأبناء شیئا جدیدا.
إن فی الشعر الحدیث إنجازات شعریة كبیرة هی ترجمان الشاعر والعصر على السواء وهی قصائد تستحق البقاء حتى وإن كانت الذاكرة قد ألفت حفظ الشعر العمودی وتردید حكم المتنبی وغزلیات امرىء القیس وخمریات الأعشى ومواجد ابن الفارض .
وإن القارىء الحصیف الحی الضمیر ، المرهف الاحساس ، الغنی العقل لیجد فی قصائد من مثل
" دار جدی " و " أنشودة المطر " للسیاب و "الظل والصلیب" لصلاح عبد الصبور ، الفن الكبیر الذی یغذی العقل والوجدان على السواء
و لا أدل على ذلك من هذا المقطع لخلیل حاوی من دیوان " نهر الرماد " :
خـلــنی للبحــــر للریــــــــــح لموت
ینشـــــر الأكـفـان زرقــــــا للغریـق
مبحـر ماتت بعینیه منارات الطریق
مات ذاك الضـوء فی عینیـه مـــات
لا البطولات تنجـیـه و لاذل الصلاة !
فهو مقطع قد تكاثفت فیه الروح الشعریة ، وتعددت فیه صور الضیاع ومشاعر الكآبة و الانسحــاق ، وموسیقاه مناسبة تماما لهذا الغرض أی الأزمة الوجودیة الخانقة التی یحیاها الشاعر .
والشاعر یعتمد تكرار ( فاعلاتن ) من بحر الرمل فی كل سطر حسب حاجته النفسیة:
فاعلاتـــن فاعلاتــــن فعلاتـــن
فاعلاتــــن فاعلاتـــن فاعـلـــن
فاعلاتن فاعلاتـــن فعلاتـــن فاعلن
فاعلاتــــن فاعلاتـــن فاعـلـــن
فاعلاتــــن فعلاتـــن فعلاتـــن فاعـلـــن
فمن غیر المقبول اعتبار هذا الإبداع الشعری المحكم البنیان ،الغنی بالصورالشعریة ،والطاقة الشعوریة المتدفقة من وجدان الشاعرمحالا على لجنة النثر للاختصاص.
وأزمة الشعر الحدیث فی رأینا تأتی من كون الجیل اللاحق لجیل الكبار ( السیاب، الملائكة ،البیاتی، دنقل، عبد الصبور) لم تستقم له الملكة الشعریة ولاتهیأت له أسباب السیطرة على اللغة العربیة ولاتعمق فی دراسة الشعر العربی الكلاسیكی ، ولاتمرس بدراسة المذاهب والنظریات النقدیة الغربیة والشرقیة على السواء، ناهیك عن الجهل التام بالعروض وقواعده والقافیة وأصولها، وأغلبهم یعجز عن إنشاء قصیدة عمودیة، ولذا تراه تحت دعاوى التجدید والحداثة ومابعد الحداثة یحاول إخفاء عورته والتستر على فقره بهذه الرطانات التی یسمیها صاحبها شعرا حدیثا وفی الواقع هی مؤشر الأنیمیا الشعریة والسقوط الفاضح.
ومانحسب أن هؤلاء الكبار الذین أشرنا إلیهم كانوا یعجزون عن النظم حسب أصول القصیدة العمودیة، وللملائكة والسیاب بل ولعبد الصبور قصائد عمودیة، تدل على تمكن هؤلاء الشعراء من القصیدة العمودیة، ولكنها الروح التجدیدیة الوثابة هی التی حدت بهؤلاء الكبار إلى إنتاج شعری جدید شكلا ومضمونا
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 21:38|