الرمزیة المیثولوجیة فی شعر محمود درویش
فی هذه المدینة اللزجة صیفاً
حین تنعطف الى الیمین من الشارع التاسع والخمسین باتجاه المركز الطبی فی
هیوستن ینتابك حزن عمیق، فقبل عام من الآن فی التاسع من آب عام 2008 توفی
الشاعر محمود درویش فی غرفة العنایة المركزة فی مستشفى میموریال هیرمان
الشاخص الآن أمام عینیك، وهناك على یسارك یسترخی متنزه هیرمان الذی تمشى
فیه الشاعر قبل رحیله بأیام. إنها غیمة الحزن الدائمة هذه التی تظلنا نحن
سكان هیوستن كلما مررنا بمنطقة المركز الطبی، وكأنه جرح سیبقى فی ذاكرة
المدینة وذاكرة سكانها العرب الى الأبد، فهنا مات شاعرنا. كم كنا نتمنى أن
یغادرنا سلیماً معافى، ولكن العنایة الإلهیة شاءت أن تنتهی حیاته بین
أیدینا وفی یوم سبت، وكأنه كما الماء انساب من بین أصابعنا ولم ننتبه. لم
نكن سبباً فی وفاته، ولكننا ما زلنا، وربما سنبقى، نحمّل أنفسنا ذنباً لم
نقترفه.
من مآثر محمود الكثیرة أنه یحاصرنی فی شوارع المدن، فقبل ربع قرن أذكر أننی قابلته فجأة فی أحد شوارع موسكو فی منطقة مسارح وسط المدینة، حیث كان أحد المسارح یعلن عن تقدیم مسرحیة المحاكمة المستوحاة من روایة المحاكمة لكافكا. وعندما قرأت اسم كافكا داهمنی محمود فوراً، فقد كان السبب فی بحثی عن أدب كافكا حین ذكره فی قصیدة بیروت (1982):
(ووجدتُ كافكا تحت جلدی نائماً/ وملائماً لعباءة الكابوس، والبولیس فینا)
كان یستفزنی ویتحدانی فی قصائده للبحث عن تلك الشیفرة الثقافیة التی یستودعها فی نصوصه، مثل شیفرة كافكا: ماذا أراد أن یقول؟ ما هو المعنى فی هذا البیت؟ ما علاقة كافكا؟ بل من هو كافكا هذا؟ كنت أسأل نفسی قبل ثلاث سنوات من مداهمته لی فی شارع مسرح الاوبیریت، الأمر الذی دفعنی الى قراءة فرانز كافكا (1883 – 1924) حتى لو كان ذلك باللغة الروسیة.
وهكذا على طول رحلتی مع شعر محمود كان یتحدى ثقافتی ومعرفتی، ویجبرنی على البحث والتقصی عن الرمزیات الثقافیة التی كان یُكثّف بها معانی نصوصه، وأهمها بالنسبة لی كانت الرموز المیثولوجیة. وعلی أن أعترف الآن أمام حضور غیابه الشاهق أنه كان السبب فی شغفی المزمن بالمیثولوجیا والانثروبولوجیا والأركیولوجیا. لهذا ارتأیت أن أكتب عن رمزیة المیثولوجیا فی شعر محمود درویش بمناسبة مرور عام على رحیله، علنی أرد له بعضاً من الجمیل. ولكن قبل البدء أود أن أشیر الى بعض النقاط المهمة، الأولى هی أننی لست بصدد قراءة الرمزیة المیثولوجیة عند محمود قراءة سیاسیة كما فعل بعض النقاد فی دراسة الرمزیة التوراتیة عند محمود، لأن ما یهمنی من محمود هو الابداع الأدبی الشعری، وأنا لا أرى فی شعره بیاناً سیاسیاً وإن كان لقصائده امتداد سیاسی. والثانیة هی أننی سأستخدم مصطلح میثولوجیا كمصطلح شامل یشمل اساطیر الشعوب والقصص الفولكلوریة والدیانات. والثالثة أننی لست بصدد اعطاء نقد أدبی ینتمی الى هذه المدرسة الادبیة أو تلك، وانما بصدد عرض فهمی وانطباعی الشخصیین للرمزیة المیثولوجیة عند محمود، فأنا أصلاً لست متخصصاً فی الأدب وإنما فی أبعد ما یكون عن الأدب: المعادلات التفاضلیة والهندسة والمیاه والبیئة.
فی احدى المقابلات سُئل محمود عن كیفیة قراءته للتوراة فأجاب بأنه "لا ینظر الى التوراة نظرة دینیة وانما یقرأها كعمل أدبی ولیس دینیاً او تاریخیاً". وهنا یكون محمود قد وضع قدمه على المسار الصحیح فی التعامل مع الكتاب المقدس خصوصاً والأدیان والمیثولوجیا عموماً، حیث بامكاننا القول أنه ینتمی الى مدرسة المُقلّین التی ینتمی الیها أصحاب كوبنهاغن وعلى رأسهم استاذ الكتابیات توماس تومسون. وهذا المسار یجعل من محمود مثقفاً وأدیباً بامتیاز كون الأدب یبدأ من ملحمة جلجامش حیث بدأت الحضارة فی سومر، وما الأدب سوى اعادة انتاج المیثولوجیا باستمرار، إنه اعادة التألیف أو التولیف كما یقولون. ولهذا عندما یتحدث محمود فی شعره عن رمزیة میثولوجیة ما فهو لا یتحدث عنها لیتقرب من أصحابها ویتودد الیهم كما ذهب بعض النقاد، وإنما لأنه یُعید تولیف الحكایة بتكثیف المعنى المكتنز فی الرمزیة المیثولوجیة لما تتمتع به من قوة ساحرة وآسرة كونها جاءت من نتاج جمعی قامت به جماعة ما على مدى فترة زمنیة طویلة نسبیاً.
[*الرمزیة التوراتیة *]
إذا ما أردنا أن نتتبع الرمزیة المیثولوجیة عند محمود حسب التصاعد الزمنی لأعماله الشعریة نجد أنه وظفها فی بدایاته الأولى فی مجموعته الشعریة عاشق من فلسطین (1966) فی قصیدة أبی، حیث یقول:
"فی حوارٍ مع العذاب/ كان أیوبُ یشكرُ/ خالقَ الدودِ والسحاب"
حیث نلاحظ هنا أنه كان مطلعاً على الكتاب المقدس، فأیوب الذی یتحدث عنه محمود هو أیوب التوراتی بدلیل استخدامه لكلمة دود التی ترد فی سفر أیوب فی الاصحاح السابع، ولا عجب فی ذلك ففی تلك الفترة كان محمود یعیش فی داخل الأرض المحتلة وكان بحكم دراسته خاضعاً لمنهاج اسرائیل وبرامجها التی كانت تعلم الطلاب أسفار العهد القدیم باللغة العبریة، كما صرح محمود فی احدى مقابلاته. ولكن ما یهمنا هنا هو أن محمود یتعامل مع النص التوراتی فی سفر أیوب معاملة أدبیة، فهو یرى فیه نصاً أدبیاً یعالج ثیمة الصبر والابتلاء والخلاص بالإیمان، فیفكك الشاعر النص من التوراة ویعید تركیبه فی قصیدته بحكم تشابه المعاناة التی یعیشها الشاعر بالمعاناة التی عاشها أیوب (او ما یسمى أدبیاً بالتناص)، وكأنه یعید تولیف الحكایة، لأنه كان واعیاً بأن القصة التوراتیة نفسها لم تكن سوى اعادة تولیف من أدب سابق على العهد القدیم، فاستاذ السومریات، كرامر، قد قام بترجمة صلاة سومریة قدیمة تشبه قصة أیوب، هذه الصلاة السومریة تتحدث عن ما أصبح یُعرف بأیوب البابلی. ولكن لماذا اختار الشاعر توظیف رمزیة ایوب المیثولوجیة؟ الجواب فی نظری هو لما تتمتع به هذه الرمزیة من قوة ساحرة وآسرة، فهی من ناحیة معروفة للكبیر والصغیر بحكم اعادة تولیفها مسیحیاً واسلامیاً وفولكلوریاً، ومن ناحیة ثانیة فإن كثافتها الدلالیة وفرت على محمود الكثیر من الجهد لعرض معاناته، أو كما یقول نقاد الأدب جنّبته الحشو والضجیج اللغوی، فأوصل المعنى المراد بأقصر الطرق وأبلغ الدلالات. هذا بالإضافة الى حمل معاناته الشخصیة والوطنیة الى مستوى العالمیة والانسانیة كون رمزیة أیوب رمزیة عالمیة.
فی مجموعته العصافیر تموت فی الجلیل (1969) فی قصیدة ضباب على المرآة یستضیف محمود النبی إرمیا من التوراة فی عملیة تناص شائكة بعض الشیء تنم عن عمق معرفی بالعهد القدیم:
"لم أجد جسمكِ فی القاموس/ یا مَن تأخذین/ صیغة الأحزان من طروادة الأولى/ ولا تعترفین/ بأغانی إرمیا الثانی.."
فرغم وضوح التناص بین احتلال القدس الفلسطینیة وبین سقوط طروادة الاغریقیة إلا أن هویة إرمیا الثانی تبدو مربكة بعض الشیء، لولا أن الشاعر أسعفنا بإشارته الى الأحزان، وكأنه یتحدث عن مراثی إرمیا، وهی مراثی تبكی سقوط اورشلیم فی قبضة البابلیین عام 586 ق.م. تم جمعها فی نهایة سفر النبی ارمیا كونها لیست لإرمیا نفسه، ولهذا استخدم محمود اسم إرمیا الثانی، وهو تناص داخلی، إن صح التعبیر، مع اشعیا الثانی كما هو معروف لدى فقهاء الكتاب المقدس (بعكس مصطلح ارمیا الثانی الذی لا یستخدمه علماء الكتاب المقدس، بل نحته محمود على ما یبدو من عملیة تناص داخل التوراة نفسها). لقد استفاد الشاعر من رمزیة طروادة ومراثی إرمیا لیُغنی المعنى المراد من النص بكثافة التثاقف أولاً وببلاغة البیاض المتروك للقارئ العارف بقصة كل من حروب طروادة والسبی البابلی ثانیاً.
وبما أننا تطرقنا لذكر النبی أشعیا فلا بد لنا من استعراض توظیف رمزیته فی قصائد محمود، حیث یقول فی قصیدة بیروت (1983):
"أنادی أشعیا/ أخرجْ من الكتب القدیمة مثلما خرجوا/ أزقة أورشلیم تعلّق اللحم الفلسطینی فوق مطالع العهد القدیم/ وتدّعی أن الضحیة لم تغیر جلدها/ یا أشعیا لا ترثِ/ بل أهجُ المدینة كی أحبك مرتین"
ولا شك أن شغف محمود بإرمیا وأشعیا له ما یبرره، فهما من أنبیاء الحصر المحوری كما یقول فقهاء الكتاب المقدس، وقد أحدثا ثورة لاهوتیة فی الفكر الیهودی، وذلك بتطویر مفهوم الألوهة، فلم یعد الإله الاسرائیلی یهوة إلهاً قبلیاً عسكریاً (رب الجنود)، بل أصبح شبیهاً بالله الكونی المحب لجمیع البشر. فهل هذا ما قصده محمود بقوله "اخرج من الكتب القدیمة"؟. إن استضافة محمود لإرمیا وأشعیا تعنی فی ما تعنی رفضه للعسكرة والحروب المقدسة التی تشن باسم الدین والآلهة تماماً كما رفض إرمیا وأشعیا الحروب. وكما فی التناص السابق مع إرمیا یعقد الشاعر هنا تناصاً بین سقوط أورشلیم وبین حصار بیروت، ففی كلا الحالتین دفع الفلسطینی الثمن، لهذا یدعو محمود النبی إشعیا أن لا یرثی أورشلیم كما فعل فی سفره بل یدعوه الى أن یهجو أورشلیم الآثمة (حسب أشعیا) التی تسببت بإثمها بتعلیق اللحم الفلسطینی مرتین (حسب محمود)، مرة فی زمن أشعیا، ومرة فی حصار جیش الاحتلال "الأورشالیمی" لبیروت فی زمن محمود.
ثیمة الاحتلال والتهجیر والأسر (السبی) تأخذ من محمود الكثیر من العنایة فی قصائده، فهو یستحضر قصة السبی البابلی فی عملیة اسقاط على الحاضر، یقول الشاعر فی مجموعة أحبك أو لا أحبك (1972):
"ونغنی القدسَ/ یا أطفال بابلْ/ یا موالید السلاسل/ ستعودون الى القدس قریباً/ وقریباً تكبرون/ وقریباً تحصدون القمح من ذاكرة الماضی/ قریباً یصبح الدمع سنابل/ آه یا أطفال بابل"
فلم یقل الشاعر: ونغنی القدس یا أطفال القدس او فلسطین، بل قال یا أطفال بابل، وهی عملیة قفز فوق الزمن باستحضار الماضی حیث هُجّر أبناء یهودا الكنعانیة الى بابل، وكذا حال الفلسطینی المعاصر. وبما أن أبناء یهودا عادوا من السبی البابلی كذلك سیعود أبناء فلسطین لأنهم سیحصدون القمح من ذاكرة الماضی. والشاعر نفسه عانى من التهجیر والأسر (الاعتقال)، فكان توظیف رمزیة السبی الى بابل خیر تعبیر عن مأساة الشاعر وشعبه. ولا أظن أن محمود قد فاته أن الاسرائیلی المعاصر لا علاقة له بیولوجیاً بأبناء یهودا اللذین تم سبیهم الى بابل، فهو كان واعیاً تماماً لحقیقة أن تاریخ یهودا وثقافتها جزء من التاریخ الفلسطینی وثقافته، كما هو واضح من قوله فی قصیدة بیروت (1983):
"وأحملُ أرضَ كنعان التی اختلف الغزاة على مقابرها/ وما اختلف الرواةُ على الذی اختلف الغزاة علیه"
ففی هذا النص یبدو محمود واعیاً للثقافة الكنعانیة الشاملة وأن الرواة (التألیف والتولیف) لم یختلفوا على ثقافة أرض كنعان، بل الخلاف جاء من تسییس الروایات لصالح مشروع سیاسی استیطانی (الغزاة). وما یؤكد هذا الاستنتاج قول الشاعر فی مجموعة العصافیر تموت فی الجلیل (1969) فی قصیدة بعنوان المزمور الحادی والخمسون بعد المئة:
"والمزامیر صارت حجارة/ رمونی بها/ وأعادوا اغتیالی/ قرب بیارة البرتقال/ صار جلدی حذاء/ للأساطیر والأنبیاء"
فالشاعر یتعامل مع مزامیر داود على أنها مزامیره ومزامیر شعبه، بمعنى أنها من منتجات الثقافة الكنعانیة وإن تم نسبها توراتیاً الى النبی داود، فهذا النسب لیس إلا من أساطیر الأنبیاء، أو هو إعادة تولیف النص الأدبی الكنعانی القدیم، فمن المعروف من الاكتشافات الأثریة فی الساحل الكنعانی الكبیر (من شمال سوریا الى جنوب فلسطین) أن مزامیر داود لیست إلا ابتهالات وأغانی فولوكلوریة كنعانیة قدیمة، وحتى رافدیة تم اكتشاف مثلها فی العراق. إن تعامل الشاعر مع النصوص التوراتیة على أنها نصوص ثقافته واضح فی قوله فی قصیدة شتاء ریتا من مجموعة أحد عشر كوكباً (1992):
"لی حصةٌ من مشهد الموج المسافر مع الغیوم، وحصةٌ/ من سفر تكوین البدایة، حصةٌ من سفر أیوب، ومن/ عید الحصاد"
فهو هنا یجمع سفرین من العهد القدیم، التكوین وأیوب، وعید الحصاد الكنعانی. ویتضح لنا أكثر كیف أن محمود یتعامل مع النصوص الدینیة على أنها نصوص أدبیة یُعید العقل الجمعی إعادة انتاجها باستمرار. یقول محمود بهذا الصدد: "إن النضج الأدبی هو أن نتذكر أسلافنا وأن نشعر بأن وراء هذا النص الشعری أسلافاً.. فی كل شاعر تاریخ الشعر منذ الرعویات الشفهیة الى الشعر المكتوب، من الشعر الكلاسیكی الى الشعر الحدیث". كما یجدر بنا التأكید هنا على عمق معرفة محمود بالكتاب المقدس، فالمزامیر عددها مائة وخمسون مزموراً، الأمر الذی دفع محمود الى تسمیة قصیدته هذه بالمزمور الحادی والخمسون بعد المئة، وكأن الشاعر یصر على التعامل الأدبی مع الكتاب المقدس، فهو من ناحیة یعتبر هذه المزامیر انتاجاً جمعیاً لأجداده الكنعانیین، ومن ناحیة أخرى ها هو الشاعر نفسه یشارك فی هذا الانتاج فیضیف مزموراً جدیداً لمجموعة المزامیر. هذا الوعی الدرویشی بالأدب الكنعانی یقوله محمود بصراحة فی قصیدة مأساة الفضة وملهاة النرجس من مجموعة أرید ما أرید (1990):
(توراة كنعان الدفینة تحت أنقاض الهیاكل بین صور وأورشلیم)
فالتوراة بالنسبة لمحمود عمل أدبی كنعانی یُعید تولیف الحكایات الكنعانیة إیاها مع التركیز على نفس الثیمات والموتیفات الأدبیة التی كانت وما زالت تشغل الحیز الأكبر من فكر الإنسان وانتاجه الدینی الجمعی، إلا أن الشاعر یرفض خطف هذا الأدب الكنعانی من قبل جماعة دینیة معینة، لذلك استخدم كلمة "أنقاض الهیاكل" وما یعنیه ذلك من انهیار عملیة الخطف هذه وانفضاح أمرها، مع الإشارة الى ما تحمله الكلمة من عمل أركیولوجی. وهذا ما یؤكد على علو شأن الرمزیة عند محمود وقوتها، فاستخدامه لـ"أنقاض الهیاكل" كان موفقاً بامتیاز نظراً للإحتقان الهائل للرمز فیها. ولا یكاد القاریء یلتقط أنفاسه من هذه الرمزیة حتى ینهال علیه الشاعر برمزیة أخرى لا تقل إحتقاناً، إنها الثنائی صور وأورشلیم، فمن ناحیة تفصح هذه الثنائیة عن كنعانیة التوراة، ومن ناحیة ثانیة عن كنعانیة الهیكل الأوشلیمی الذی بناه مهندسو صور الكنعانیة (سأتجنب هنا استعمال مصطلح فینیقیا كونه مسمى إغریقی لبلاد كنعان). هذا الوعی نراه أیضاً فی نفس المجموعة الشعریة فی قصیدة ربّ الأیائل یا أبی ربّها، حیث یقول الشاعر:
"فانهضْ یا أبی من بین أنقاض الهیاكل، واكتبْ/ اسمكَ فوق خاتمها كما كتبَ الأوائل، یا أبی، أسماءَهم"
فمحمود هنا یستعمل رمزیة الأب بما تحمله من معانی الجذور المترسخة، داعیاً هذه الجذور أن تنفض عنها ركام الهیاكل لتتضح الحقیقة. وسیدخل محمود فی صراع على ذاكرة المكان كما سیمر معنا لاحقاً.
وتجاوز محمود رمزیة الهیكل الى توظیف رمزیة سلیمان فی قصائده، ففی قصیدة خطبة الهندی الأحمر من مجموعة أحد عشر كوكباً، یقول الشاعر على لسان الهندی الأحمر مخاطباً السید الأبیض:
".. وأشعار كنعان والبابلیین، تنقصُكُم/ أغانی سلیمان عن شولمیت.."
فأغانی سلیمان بالنسبة لمحمود لیست إلا من أشعار الشرق الأوسط القدیم (كنعان وبابل)، وهو هنا یشیر الى سفر نشید الأناشید الذی لسلیمان من العهد القدیم من الكتاب المقدس، وهی مجموعة من أناشید الحب والغزل العذری والفاحش تذكّر علماء المیثولوجیا بأغانی الكنعانیین المعنیة بالخصب، فسلیمان یبدو كإله خصب (بعل الكنعانی) وشولمیت (صیغة المؤنث لسلیمان لغویاً) تبدو إلهة الخصب المؤنثة. وقد اكتشف علماء الآثار صلوات كنعانیة فی أوغاریت تتطابق مع بعض أناشید سلیمان. إلا أن الشاعر یتجاوز استخدام رمزیة سلیمان الثقافیة الكنعانیة الى حالة من التناص الخاص بینه وبین سلیمان فی معرض تفكیر الشاعر بمعنى الموت والحیاة والوجود فی مُطولته الرائعة "الجداریة" (1999)، حیث یبدو محمود مغرماً بسفر الجامعة المنسوب أیضاً لسلیمان، وهو مجموعة من الحكم، یقول الشاعر:
"وكل شیء باطلٌ أو زائل، أو/ زائل أو باطل/ من أنا؟/ أنشیدُ الأناشید/ أم حكمةُ الجامعة؟/ وكلانا أنا../ وأنا شاعرٌ/ وملِك/ وحكیمٌ على حافة البئر"
فمحمود فی الجداریة حین "طار به الموت نحو السدیم" على حد تعبیره یستدعی حكمة سلیمان فی سفر الجامعة، فقد كان سلیمان ملكاً وحكیماً وشاعراً ووصل الى ذروة المجد، إلا أنه فی النهایة اعترف بأن كل شیء باطل وزائل: "باطل الأباطیل یقول الحكیم. باطل الأباطیل، كل شیء باطل" (سفر الجامعة، 1 – 2). وكذلك محمود فی تجربته مع الموت اختار حكمة سلیمان، لهذا یستعمل جملة "باطل، باطل الأباطیل باطل" كلازمة یعید تكرارها فی القصیدة تماماً كما هو الحال فی سفر الجامعة. ویتعمق محمود فی سفر الجامعة أكثر ویعید تولیف بعض من نصوصه بما یخدم تصوره الخاص، وكأنه یشارك فی نسج ثوب الحكمة الشرق أوسطیة، فنراه یقول فی الجداریة:
"عشتُ كما لم یعش شاعر/ ملكاً وحكیماً../ هرمت، سئمت من المجد/ لا شیء ینقصنی/ ألهذا إذاً/ كلما زاد علمی/ تعاظم همّی؟/ فما اورشلیم وما العرش؟/ لا شیء یبقى على حاله/ للولادة وقت/ وللموت وقت/ وللصمت وقت/ وللنطق وقت/ وللحرب وقت/ وللصلح وقت/ وللوقت وقت/ ولا شیء یبقى على حاله../ كل نهر سیشربه البحر/ والبحر لیس بملآن/ لا شیء یبقى على حاله/ كل حی یسیر الى الموت/ والموت لیس بملآن/ لا شیء یبقى سوى اسمی المَذهّب/ بعدی: / "سلیمانَ كان".. / فماذا سیفعل موتى بأسمائهم/ هل یضیء الذهب/ ظلمتی الشاسعة/ أم نشید الأناشید/ والجامعة؟"
هكذا یتعامل محمود مع التوراة والكتب المقدسة تعاملاً أدبیاً، فیرى فیها تولیفات (روایات) قامت بها الجماعة للتعبیر عن همومها وانشغالاتها، وهذه التولیفات لیست إلا اعادة انتاج روایات میثولوجیة سابقة علیها، لهذا اعتبر محمود التوراة جزءاً من تراثه، ورأى أن من مهمته كشاعر ینتمی لأرض فلسطین أن یشارك فی اعادة تولیف الروایات، فكانت الاقتباسات والرمزیات التوراتیة جزءاً من عملیة إعادة التولیف هذه.
[*الرمزیة المسیحیة والاسلامیة *]
فی قصیدة الجداریة وأمام تجربة الموت الرهیبة یقف محمود بین تجربة السید المسیح علیه السلام وتجربة سلیمان الحكیم، فیختار حكمة سلیمان كما مر معنا أعلاه، ربما لأنه وجد صعوبة فی اختیار تجربة قیامة المسیح، ولهذا نراه یقول:
"مثلما سار المسیحُ على البحیرة/ سرتُ فی رؤیایَ. لكنی نزلتُ عن/ الصلیب لأننی أخشى العلوّ، ولا/ أبشّرُ بالقیامة.."
فتجربة محمود بشریة، بعكس تجربة المسیح الإلهیة، لهذا یقول الشاعر فی نفس القصیدة نافیاً عن نفسه امكانیة الخلود على طریقة المسیح:
"وانتظرْ/ ولداً سیحمل عنك روحك/ فالخلود هو التناسل فی الوجود"
ومما لا شك فیه أن شخصیة السید المسیح لها حضور كبیر فی قصائد محمود، فالتشابه كبیر بینهما، فكلاهما من الجلیل، وكلاهما تعرض للإضطهاد، وكلاهما رأى فی الفداء خلاصاً، ولهذا نجد رمزیة المسیح فی قصائد محمود المبكرة، ففی قصیدة قال المغنی من مجموعة عاشق من فلسطین (1966) یقول الشاعر:
"المغنی على صلیب الألم/ جرحه ساطع كنجم/ قال للناس حوله/ كلّ شیء.. سوى الندم/ هكذا متّ واقفاً/ واقفاً متّ كالشجر/ هكذا یصبح الصلیب/ منبراً او عصا نغم/ ومسامیره وتر"
بهذه الطریقة یعید محمود تولیف الحكایة فی عملیة تناص بین فداء المسیح من أجل الخلاص وبین الموت وقوفاً من أجل النصر. إلا أنه بعد سقوط القدس عام 1967 یصبح لمعنى الصلیب بعداً آخراً هو المحبة والعطاء والخیر، كما هو فی قصیدة أغنیة حب على الصلیب من مجموعة آخر اللیل (1967) التی یخاطب فیها مدینة القدس أو مدینة كل الجروح الصغیرة كما یقول فی مطلع القصیدة:
"أحبكِ، كونی صلیبی/ وكونی، كما شئتِ، برجَ حمام/ إذا ذوّبتنی یداك/ ملأت الصحارى غمام"
عملیة التولیف الشعری تنهال على محمود بغزارة فی قصیدة مدیح الظل العالی (1983) التی كتبها عن حصار بیروت، وكأن قساوة الحصار والحرب قد أخرجته عن طوره فإذا بالتولیف وكأنه وحی ینزل علیه من السماء، وذلك بتولیف قرآنی من سورة العلق وانجیلی عن المسیح الفادی الذی سیهدم هیكل جسده ویبنیه فی ثلاثة أیام:
"الله أكبر/ هذه آیاتنا فاقرأ/ باسم الفدائی الذی خلقا/ من جرحه شفقا/ باسم الفدائی الذی یرحل/ من وقتكم.. لندائه الأول/ الأولِ الأول/ سندمر الهیكل/ باسم الفدائی الذی یبدأ/ اقرأ.. / بیروت صورتنا/ بیروت سورتنا"
التولیف القرآنی من سورة یوسف والكتابی من سفر التكوین نجده عند محمود فی قصیدة أخرى بحكم التناص بین قضیته وقضیة شعبه التی تخلى عنها العرب وبین تخلی أبناء یعقوب عن أخیهم الصغیر یوسف بعد أن غدروا به وأودعوه البئر، یقول الشاعرفی قصیدة أنا یوسف یا أبی من مجموعة ورد أقل (1986):
"أنا یوسف یا أبی، یا أبی اخوتی لا یحبوننی، لا یریدوننی بینهم یا أبی، یعتدون علی ویرموننی بالحصى والكلام، یریدوننی أن أموت لكی یمدحوننی، وهم أوصدوا باب بیتك دونی، وهم طردونی من الحقل، هم سمموا عنبی یا أبی... فماذا فعلت أنا یا أبی، ولماذا أنا؟، أنت سمیتنی یوسفاً، وهمو أوقعونی فی الجب، واتهموا الذئب، والذئب ارحم من اخوتی.. أبتِ! هل جنیت على أحد عندما قلت انی: رأیت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر، رأیتهم لی ساجدین"
وفی مرحلة ما بعد بیروت حین یحس الشاعر بأن الكل قد تخلى عنه وعن قضیة شعبه یبدأ حواراً مع الله فینهل من الرموز الانجیلیة كقول المسیح على الصلیب قبل أن یلفظ الروح، فی قصیدة إلهی لماذا تخلیت عنی؟ من مجموعة ورد أقل:
"الهی.. الهی.. لماذا تخلیت عنی؟ لماذا تزوجت مریم؟ لماذا وعدت الجنود بكرمی الوحید.. لماذا؟ أنا الأرملة/ أنا بنت هذا السكون، أنا بنت لفظتك المهملة/ لماذا تخلیت عنی؟ الهی، إلهی لماذا تزوجت مریم؟"
ویسأل الشاعر الله كما سأله المسیح بأن لا یبعد عنه كأس الموت فی قصیدة یطول العشاء الأخیر من نفس المجموعة:
"یطول العشاء الأخیر، تطول وصایا العشاء الأخیر/ أبانا الذی معنا كن رحیماً بنا، وانتظرنا قلیلاً، أبانا/ ولا تبعد الكأس عنا/ تمهل لنسأل أكثر مما سألنا"
إلا أن الشاعر فی مزاج آخر فی قصیدة كتب فیها عن هاجس العودة الى الوطن یحتفی بعودة المسیح ومریم الى العشاء الذی یریده الشاعر أن یُنهی الاحتلال، یقول فی القصیدة الملحمة "مأساة الفضة ملهاة النرجس" من مجموعة أرید ما أرید (1990):
"عاد المسیحُ الى العشاء، كما نشاء، ومریمٌ عادتْ إلیه/ على جدیلتها الطویلة كی تغطی مسرحَ الرومان فینا"
وفی قصیدة الجداریة فی بحث الشاعر عن معنى الخلود یستحضر امتحان الشیطان للسید المسیح كما ورد فی الأناجیل، ولكنه یُسقط هذه الحكایة على نفسه حین كان بین الموت والحیاة، وكأن الاختبار كان له:
"أعلى من الأغوار كانت حكمتی/ إذ قلتُ للشیطان: لا، لا تمتحنّی/ لا تضعنی فی الثنائیات، واتركنی/ كما أنا زاهداً بروایة العهد القدیم/ وصاعداً نحو السماء، هناك مملكتی/ خُذ التاریخ، یا ابن أبی، خذ/ التاریخَ.. واصنع بالغرائز ما تریدُ"
وكما فی الرمزیة التوراتیة فإن محمود ینهل من الرموز المسیحیة والاسلامیة فی عملیة تناص یعید من خلالها كتابة السردیة الشعریة الشرق أوسطیة بما یلائم حاضره وأمانی مستقبله مرتكزاً على الثیمات والموتیفات نفسها، وكأن الحكایة هی نفس الحكایة ولم یتغیر شیء سوى الزمن.
[*الرموز العربیة والرافدیة والمصریة والكنعانیة *]
فی نفس القصیدة السابقة یجمع محمود فی أسطر قلیلة ثقافة شرق المتوسط فی مشهد تخیلی یفترض أن العائدین الى فلسطین یستعیدونه مع عودتهم، إنها تقنیة لربط الاستعادة المادیة بالاستعادة الثقافیة لیغلق الخارطة من النیل الى الفرات:
".. واستعادوا/ ما ضاع من قاموسهم: زیتون روما فی مخیلة الجنود/ توراة كنعان الدفینة تحت أنقاض الهیاكل بین صور وأورشلیم/ وطریق رائحة البخور الى قریش تهبّ من شام الورود/ وغزالة الأبد التی زُفّت الى النیل الشمالی الصعود/ والى فحولة دجلة الوحشی وهو یزف سومرَ للخلود"
هكذا یتنقل الشاعر بین رمزیات الشرق الأوسط القدیم غیر عابئ بالزمن الذی ینحل بین یدیه، فیستدعی ثقافة الأمة من العراق الى مصر وما بینهما، ویدعو القاریء لأن یستعید معه هذه الثقافة، لأن العودة لا تكتمل إن كانت فیزیائیة، بل لا بد لها من استعادة ثقافیة لتكتمل.
فی قصیدته الرائعة بعنوان رحلة المتنبی الى مصر من مجموعة حصار لمدائح البحر (1984) یعقد الشاعر تناصاً بین حاضره وبین الماضی العربی غیر البعید، فیستحضر حكایة المتنبی مع كافور مُطرزاً القصیدة برموز تاریخیة عربیة اسلامیة، حیث یشبه نفسه تارةً بالمتنبی وتارةً بالقرمطی، وكأنه یرثی حال مصر والأمة معها:
"قد جئتُ من حلبٍ، وإنی لا أعود الى العراق/ سقطَ الشمالُ فلا ألاقی/ غیر هذا الدرب یسحبنی الى نفسی.. ومصر/ .. أمشی الى نفسی فتطردنی من الفسطاط../ .. لا مصر فی مصر التی أمشی الى أسرارها/ فأرى الفراغ، وكلما صافحتُها/ شقتْ یدینا بابلُ/ فی مصر كافورٌ وفیّ زلازل/.. هل تتركین النیلَ مفتوحاً/ لأرمی جثتی فی النیل؟/ لا، لن یستبیح الكاهن الوثنی زوجاتی/ ولا، لن أبنی الأهرام ثانیة، ولا/ .. والقرمطی أنا، ولكن الرفاق هناك فی حلبٍ/ أضاعونی وضاعوا.."
إنها نفس الخارطة الجغرافیة الشعریة یرسمها الشاعر فی فترتین زمنیتین مختلفتین من التاریخ العربی، الأولى فی الزمن المیثولوجی الغابر، والثانیة فی الزمن الحقیقی القریب. ولكن ضمن نفس الحدود ما بین مصر والعراق وبلاد الشام. وفی مجموعة سریر الغریبة (1999) یحرر محمود المرأة من رمزیة الوطن فی شعره ویتعامل معها كإمرأة لا أكثر، وفی هذه المجموعة یعقد حواراً مع جمیل بثینة ومع مجنون لیلى فی قصیدتین منفصلتین باحثاً عن معنى الحب عند العرب:
"هل تشرح الحبَ لی ، یا جمیلُ/ لأحفظه فكرةً فكرة؟/ أعرفُ الناس بالحب أكثرهم حیرةً/ فاحترق، لا لتعرف نفسك، ولكن/ لتُشعلَ لیلَ بثینة.."
فی نفس المجموعة یرحل الشاعر عمیقاً فی الزمن فی البحث عن معنى الحب فی الشرق الأوسط القدیم، فیصل الى إنانا، إلهة السومریین، لیجد معنى الحب فی الخصب او فی زفاف السماء والأرض المقدس:
"فلیصقُل الثورُ، ثورُ العراق/ المُجنّح قرنیه بالدهر والهیكل المتصدع/ فی فضة الفجر. ولیحمل الموتُ آلته/ المعدنیة فی جوقة المنشدین القدامى/ لشمس نبوخنصّر. أما أنا، المتحدر/ من غیر هذا الزمان، فلا بد لی/ من حصان یلائم هذا الزفاف. وإن كانَ/ لا بدّ من قمرٍ فلیكن عالیاً.. عالیاً/ ومن صنع بغداد، لا عربیاً ولا فارسیاً/ ولا تدّعیه الإلهات من حولنا. ولیكن خالیاً/ من الذكریات وخمر الملوك القدامى/ لنُكمل هذا الزفاف المقدس، نكمله یا ابنةَ/ القمر الأبدی هنا فی المكان الذی نزّلتهُ/ یداكِ على طرف الأرض من شرفة الجنة الآفلة"
مفهوم الخصوبة، او زفاف الآلهة المقدس، یؤكد علیه محمود فی الثقافة الكنعانیة أیضاَ حیث یستدعی، عناة، إلهة الخصب الكنعانیة، حیث یقول فی الجداریة:
"فغنّی یا إلهتی الأثیرة، یا عناةُ/ قصیدتی الأولى عن التكوین ثانیةً"
مبیناً دور عناة فی استمرار التكوین، او دورات الخصب، حین یتحدى الموت قائلاً له فی نفس القصیدة:
"فماذا یفعل التاریخ، صنوُكَ او عدوك/ بالطبیعة عندما تتزوج الأرضَ السماءُ/ وتذرفُ المطرَ المقدس؟"
عناةُ الكنعانیة هذه سیهیم الشاعر بحبها فی نفس الجداریة لدرجة العبادة مستخدماً مصطلحاً قرآنیاً ولا أجمل "یممتُ وجهی شطرَ" وما یحمله من معانی التعلق والقداسة والعبادة، ولكنه یمم وجهه شطر كنعان، بلاد الإرجوان:
"كلما یممتُ وجهی شطرَ آلهتی/ هنالك، فی بلاد الأرجوان أضائنی/ قمرٌ تُطوّقهُ عناةُ، عناةُ سیدةُ/ الكنایة فی الحكایة.."
فمحمود هنا سومری وكنعانی یشارك فی نسج ثقافة المنطقة بشعره بعملیات اعادة تولیف الملاحم السومریة والكنعانیة، وكأنها مشاركة منه فی النقاش الثقافی حول ثیمات مثل الحب والخصب والموت والحیاة والخلود. وفی نفس الجداریة فی بحثه عن الموت والخلود یستضیف أوزیریس الفرعونی والسید المسیح على قاعدة البعث من الموت، وكأن الشاعر یرید أن یؤكد لنا أن هذه الروایات لیست إلا توالیف لا نعرف مُؤلفها الحقیقی الأولانی، وإنما نقوم كشعب شرق أوسطی بإعادة التولیف لإبراز المعنى والمفهوم:
".. من أنا فی الموت/ بعدی؟ من أنا فی الموت قبلی/ قال طیفٌ هامشی: كان أوزیریسُ/ مثلكَ، كان مثلی. وابنُ مریم/ كان مثلكَ. كان مثلی.."
یجد محمود فی ملحمة جلجامش السومریة، التی یعود تاریخها الى مدینة أوروك فی الألف الثالثة قبل المیلاد، مادةً غنیة لمناقشة ثیمة الموت والخلود فی قصیدة الجداریة، وكأنه یشارك فی اضافات (تولیفات) على هذه الملحمة التی خضعت عبر الزمن الى الكثیر من الاضافات عبر العصور حتى وصلت الى بابل الكلدانیة. فجلجامش ملك اوروك مولود من الإلهة ننسون التی حملت به من ملك أوروك لوجلیندا، فكان ثلث جلجامش بشراً وثلثاه إلهاً. ولكنه كان مشغولاً بتجاوز الموت الى الخلود، فصاحبَ الوحش البری أنكیدو، ومضیا الى غابة حیث سر الخلود. ووصلا إلیها، وظن جلجامش أنه أمسك بسر الخلود. إلا أن الآلهة قررت موت أنكیدو، فمات بین یدی جلجامش الذی اكتشف أن الموت حق وأن الخلود یكمن فی أعمال الانسان:
".. أنكیدو! خیالی لم یعُد/ یكفی لأكملَ رحلتی. لا بدّ لی من/ قوة لیكون حلمی واقعیاً. هاتِ/ الدمعَ، أنكیدو، لیبكی المیتُ فینا/ الحیَّ . ما أنا؟ من ینامُ الآن/ أنكیدو؟ أنا أم أنتَ؟.."
وهكذا أدخل الشاعر نفسه فی نفس التجربة وهو بین حدود الوجود والعدم، ولكنه یخلص لمفهوم الخلود، وكأنها اضافة درویشیة رائعة للملحمة السومریة:
"هزمتكَ یا موتُ الفنونُ جمیعها/ هزمتكَ یا موتُ الأغانی فی بلاد/ الرافدین. مسلّةُ المصریّ/ مقبرةُ الفراعنة/ النقوش على حجارة معبدٍ هزمتكَ/ وانتصرتْ، وأفلتَ من كمائنكَ/ الخلودُ..."
[*الصراع على ذاكرة المكان *]
كان محمود واعیاً للصراع الثقافی على أرض فلسطین بین الذاكرة الفلسطینیة وبین المشروع الثقافی الصهیونی الذی ما انفكّ الى الآن یحاول تجییر ثقافة الأرض لصالحه عبر ربطها بالتوراة من جهة وربط المشروع الصهیونی بیهودا الكنعانیة وثقافتها من جهة أخرى (بما فیها الكتاب المقدس نفسه)، ففی إحدى مقابلاته یقول محمود: "یأخذنی شعوری الى أن الصراع بیننا لیس عسكریاً فقط وأننا نحن مدفوعون الى صراع ثقافی عمیق"، لهذا نجده ومنذ وقت مبكر ینبه فی شعره الى هذا الصراع، فیقول فی قصیدة یومیات جرح فلسطینی التی أهداها الى الشاعرة فدوى طوقان فی مجموعة حبیبتی تنهض من نومها (1970):
"عالمُ الآثار مشغولٌ بتحلیل الحجارة/ إنه یبحث عن عینیه فی ردم الأساطیر/ لكی یُثبت أنی/ عابرٌ فی الدروب لا عینین لی/ لا حرفَ فی سِفر الحضارة"
لا شك أن محمود كان مطلعاً على علم الآثار فی فلسطین والذی كان آنذاك توراتیاً منحازاً، حیث كان جل اهتمام الباحث الآثاری العثور على أی نص او قطعة أثریة لكی یقوم بتأویلها توراتیاً بما یخدم مقولة أرض الآباء الصهیونیة، وهذا التوجه الصهیونی فی علم الآثار سرعان ما انهار مع بدایة الثمانینات من القرن العشرین بسبب الاكتشافات الآثاریة الهائلة التی تتعارض مع اطروحات المشروع الاستیطانی الصهیونی الكولونیالی وتؤكد على كنعانیة الأرض وثقافتها، فقد أكد على ذلك علماء غربیون مثل توماس تومسون فی كتابه "الماضی الخرافی" وكیث وایتلام فی كتابه "اختلاق اسرائیل القدیمة، طمس التاریخ الفلسطینی". وكما قلنا أعلاه فإن الشاعر وجد نفسه منخرطاً فی الصراع على ذاكرة المكان فی شعره، فهو فی نثریة عابرون فی كلام عابر (1987) یستند على الفعل "عبَرَ" لما یحمله من معانی البداوة والمرور الذی لا یستقر، فهم عابرون ومشروعهم كلام عابر:
"أیها المارون بین الكلمات العابرة كدسوا أوهامكم فی حفرة مهجورة، وانصرفوا.."
وفی قصیدة على ساحل البحر الأبیض المتوسط من مجموعة حصار لمدائح البحر (1984) یبحث محمود عن آثار أجداده التی یعرف تماماً أنها مدفونة فی أماكن كثیرة على ساحل المتوسط:
"یا بحرَ البدایات/ یا جثتنا الزرقاء، یا غبطتنا، یا روحنا الهامد بین یافا وقرطاج/ یا ابریقنا المكسور، یا لوح الكتابات التی ضاعت/ بحثنا عن أساطیر الحضارات/ فلم نجد سوى جمجمة الانسان قرب البحر"
ففی تلك الفترة بعد حصار بیروت والخروج منها یبحث الشاعر عن جذوره ومكانه على ساحل البحر الذی حمل شعبه بعیداً، إلا أن جماجم هذا الشعب ستبقى على سواحل هذا البحر تماماً مثل جماجم الانسان الأول التی تم اكتشافها على سفوح الكرمل، والتی ستبقى شاهدة على انتماء الانسان لهذه الأرض. ففی مجموعة هی أغنیة هی أغنیة (1986) یخاطب الشاعر أصحاب المشروع الصهیونی الاستیطانی بأن لا یُتعبوا أنفسهم فی البحث الآثاری لأنهم لن یجدوا ما یدل علیهم:
"ولن تجدوا جثةً تحفرون علیها مزامیر رحلتكم فی الخرافة/ ولن تجدوا شرفةً كی تُطلّوا على الأبیض المتوسط فینا/ ولن تجدوا ما یدل علیكم.."
وفی نفس المجموعة یفضح الشاعر أعمال المشروع الاستیطانی فی تجییر ذاكرة المكان لنفسه ونفیها عن الفلسطینی:
"لصوصُ المدافن لم یتركوا للمؤرخ شیئاً یدلّ علیّ/ ینامون فی جثتی أینما طلع العشب منها، وقام الشبح/ یقولون ما لا أفكر، ینسون ما أتذكر..."
إلا أن هذا الغریب القادم مع المشروع الاستیطانی یبقى غریباً عن ثقافة هذه الأرض وذاكرتها، ولهذا فإنه یجد صعوبة فی التماهی فیها، لهذا تراه یعتمد على جمالیات السرد لكی یثبت حقه فی الأرض، فكلما كتب عن الأرض بشكل أجمل كلما استحق المكان أكثر، من وجهة نظره. ومحمود كان واعیاً لهذه المسألة، فهو یقول فی احدى مقابلاته: "الشاعر الفلسطینی لم یشعر یوماً بأنه محتاج الى تقدیم براهین على حقه بالمكان، وعلاقته بالأرض تلقائیة وعفویة ولا تحتاج الى أی إیدیولوجیا أو تبریر. الشاعر الإسرائیلی الذی یعرف كیف تمّ مشروعه وماذا كان قبل إسرائیل، والذی یعرف أیضاً ان هذا المكان له اسم آخر وسابق هو فلسطین، یبدو هذا الشاعر فی حاجة الى شحذ كل طاقته الإبداعیة من أجل امتلاك المكان باللغة كجزء مكمل للمشروع الاستیطانی". ألهذا أكثر محمود من استدعاء الرمزیات المیثولوجیة فی شعره، ودخل فی ثنایا سردیاتها لیشارك فی نسج هذه الروایات؟ وكأنه یقول للآخر: إنی لا أجد صعوبة فی الاحتفاء بعناة وبعل وإنانا وجلجامش وأوزیریس وأشعیا وأرمیا والمسیح والعذراء وغیرهم، لأنهم جزء من ثقافتی وأنا امتداد لهم، وأستطیع أن ألج روایاتهم بتلقائیة وأشاركهم فی نسج الحكایات، حكایاتنا. فلننظر الى هذا النص الدرویشی الجمیل الذی یذكرنا بملاحم الكنعانیین فی قصیدة ربّ الأیائل یا أبی ربّها من مجموعة أرید ما أرید (1990):
".. منفایَ أرضُ/ أرضٌ من الشهوات، كنعانیةٌ، ترى الأیائل والوعولْ... / لو كنتَ من حجر لكان الطقسُ آخر، یا ابن كنعان القدیم/ لكنهم كتبوا علیكَ نشیدهم لتكون أنت هو الوحید... / سرقَ المؤرخ، یا أبی لغتی وسوسنتی وأقصانی عن الوعد الإلهی/ وبكى المؤرخ عندما واجهته بعظام أسلافی.../ فانهض یا أبی من بین أنقاض الهیاكل واكتبْ/ اسمكَ فوق خاتمها كما كتب الأوائل یا أبی أسماءهم.../ وأنا حزین، یا أبی، سلّم على جدی إذا قابلتهُ/ قبّلْ یدیه نیابة عنی وعن أحفاد بعلٍ أو عناة/ واملأ له ابریقه بالخمر من عنب الجلیل أو الخلیل.."
أما الأبلغ والأجمل من هذا فی الصراع على ذاكرة المكان فهو استحضار محمود لعدة تناصّات من أمكنة مختلفة وأزمنة مختلفة لیقیم الحجة على المشروع الاستیطانی الصهیونی، ففی قصیدة خطبة الهندی الأحمر أمام الرجل الأبیض من مجموعة أحد عشر كوكباً (1992) یخاطب محمود المشروع الصهیونی عن طریق مخاطبة الهندی الأحمر للرجل الأبیض الذی استوطن فی أرضه، مستخدماً رمزیات من میثولوجیا الهنود الحمر:
"لكم ربكم ولنا ربنا، ولكم دینكم ولنا دیننا/ فلا تدفنوا الله فی كتبٍ وعدتكم بأرضٍ على أرضنا/ كما تدعون، ولا تجعلوا ربكم حاجباً فی بلاط الملك... / .. هذه الأرضُ جدّتنا/ مقدسةٌ كلها، حجراً حجراً، هذه الأرض كوخٌ/ لآلهة سكنت معنا، نجمةً نجمةً، وأضاءت لنا/ لیالی الصلاة... / ... تاریخنا كان تاریخها"
فی مجموعة أحد عشر كوكباً یبدو أن الوحی الكنعانی قد سیطر على محمود، فنراه فی معظم قصائد المجموعة مشغولاً بهذا الهم، ناسجاً قصائد كنعانیة كأنها تعود الى شاعر كنعانی مات فی أوغاریت او سفوح الكرمل او بیبلوس جبیل، وكأن ما نقرأه الآن لیس لمحمود وإنما لأحد أسلافنا الذی اكتشف مخطوطاته علماء الآثار، یقول الشاعر فی قصیدة على حجر كنعانی فی البحر المیت:
".. یا غریبُ/ علّقْ سلاحكَ فوق نخلتنا، لأزرع حنطتی/ فی حقل كنعان المقدس.. / خذ نبیذاً من جراری/ خذ صفحة من سِفر آلهتی.. وقسطاً من طعامی/ وخذ الغزالة من فخاخ غنائنا الرعوی، خذ/ صلواتٍ كنعانیة فی عید كرمتها، وخذ عاداتنا/ فی الری، خذ منا دروس البیت.../ واترك أریحا تحت نخلتها، ولا تسرق منامی... / أأتیتَ.. ثم قتلتَ.. ثم ورثتَ... / .. والأنبیاء جمیعهم أهلی، ولكنّ السماءَ بعیدةٌ/ عن أرضها، وأنا بعیدٌ عن كلامی"
هكذا یعترف محمود أن جمیع الأنبیاء هم أهله، وأن ثقافته هی امتداد لكتبهم المقدسة وطقوسهم المقدسة، لهذا قال للغریب: "خذ صفحة من سِفر آلهتی". وفی قصیدة بعنوان سنختار سوفوكلیس من نفس المجموعة یؤكد الشاعر على حقه فی هذه الطقوس:
"وإن كان هذا الخریفُ الخریفَ النهائیّ، فلنختصرْ/ مدائحنا للأوانی القدیمة، حیث حفرنا علیها مزامیرنا/ فقد حفر الآخرون على ما حفرنا مزامیرَ أخرى/ ولم تنكسر بعد... /.. كأن أناشیدنا فی الخریف أناشیدهم فی الخریف/ كأن البلادَ تُلقننا ما نقول.../ ولكن عید الشعیر لنا، وأریحا لنا، ولنا/ تقالیدنا فی مدیح البیوت وتربیة القمح والأقحوان/ سلاماً على أرض كنعان/ أرض الغزالة/ والأرجوان"
[*وفی الجداریة یعید محمود التأكید على حقه فی هذه الطقوس والأعیاد:*]
"فی عید الشعیر أزور أطلالی/ البهیة مثل وشم فی الهویة.. / وفی عید الكروم أعبّ كأساً/ من نبیذ الباعة المتجولین.. خفیفةٌ/ روحی، وجسمی مُثقلٌ بالذكریات وبالمكان"
هذه الذكریات وهذا المكان استحضرها محمود فی المشهد الافتراضی للعودة فی القصیدة الملحمة بعنوان مأساة الفضة ملهاة النرجس كما أسلفنا أعلاه:
"عادوا على أطراف هاجسهم الى جغرافیا السحر الإلهی/ والى بساط الموز فی أرض التضاریس القدیمة:/ جبلٌ على بحر/ وخلف الذكریات بحیرتان/ وساحلٌ للأنبیاء"
هذا الصراع على ذاكرة المكان یختتمه محمود فی قصیدة الجداریة كونه كان بین الوجود والعدم، فربما لأنه كان، شعریاً، على مسافة قصیرة من الموت، فقد استحضر مدینة عكا برمزیتها، كونها أجمل المدن القدیمة أو أقدم المدن الجمیلة كما قال، وعلى جسدها یكتب التاریخ كله، وكأنه یقول لأصحاب المشروع الاستیطانی: هذا هو آخر الكلام عندی:
"لدیّ ما یكفی من الماضی/ وینقصنی غدٌ../ سأسیرُ فی الدرب القدیم على/ خطایَ، على هواء البحر.../ هذا البحر لی/ هذا الهواء الرطب لی/ هذا الرصیف وما علیه/ من خطایَ وسائلی المنوی لی/ ومحطة الباص القدیمة لی.. ولی/ شبحی وصاحبه، وآنیة النحاس/ وآیة الكرسی، والمفتاح لی/ والبابُ والحراس والأجراس لی/ لی حذوة الفرس التی طارت/ عن الأسوار.. لی/ ما كان لی، وقصاصة الورق التی/ انتُزعتْ من الانجیل لی/ والملحُ من أثر الدموع على/ جدار البیت لی.. "
ویرحل الشاعر عنا، وتبقى عكا وسائر أرض كنعان وثقافة المتوسط له، فسلاماً على أرض كنعان، أرض الغزالة والأرجوان.
من مآثر محمود الكثیرة أنه یحاصرنی فی شوارع المدن، فقبل ربع قرن أذكر أننی قابلته فجأة فی أحد شوارع موسكو فی منطقة مسارح وسط المدینة، حیث كان أحد المسارح یعلن عن تقدیم مسرحیة المحاكمة المستوحاة من روایة المحاكمة لكافكا. وعندما قرأت اسم كافكا داهمنی محمود فوراً، فقد كان السبب فی بحثی عن أدب كافكا حین ذكره فی قصیدة بیروت (1982):
(ووجدتُ كافكا تحت جلدی نائماً/ وملائماً لعباءة الكابوس، والبولیس فینا)
كان یستفزنی ویتحدانی فی قصائده للبحث عن تلك الشیفرة الثقافیة التی یستودعها فی نصوصه، مثل شیفرة كافكا: ماذا أراد أن یقول؟ ما هو المعنى فی هذا البیت؟ ما علاقة كافكا؟ بل من هو كافكا هذا؟ كنت أسأل نفسی قبل ثلاث سنوات من مداهمته لی فی شارع مسرح الاوبیریت، الأمر الذی دفعنی الى قراءة فرانز كافكا (1883 – 1924) حتى لو كان ذلك باللغة الروسیة.
وهكذا على طول رحلتی مع شعر محمود كان یتحدى ثقافتی ومعرفتی، ویجبرنی على البحث والتقصی عن الرمزیات الثقافیة التی كان یُكثّف بها معانی نصوصه، وأهمها بالنسبة لی كانت الرموز المیثولوجیة. وعلی أن أعترف الآن أمام حضور غیابه الشاهق أنه كان السبب فی شغفی المزمن بالمیثولوجیا والانثروبولوجیا والأركیولوجیا. لهذا ارتأیت أن أكتب عن رمزیة المیثولوجیا فی شعر محمود درویش بمناسبة مرور عام على رحیله، علنی أرد له بعضاً من الجمیل. ولكن قبل البدء أود أن أشیر الى بعض النقاط المهمة، الأولى هی أننی لست بصدد قراءة الرمزیة المیثولوجیة عند محمود قراءة سیاسیة كما فعل بعض النقاد فی دراسة الرمزیة التوراتیة عند محمود، لأن ما یهمنی من محمود هو الابداع الأدبی الشعری، وأنا لا أرى فی شعره بیاناً سیاسیاً وإن كان لقصائده امتداد سیاسی. والثانیة هی أننی سأستخدم مصطلح میثولوجیا كمصطلح شامل یشمل اساطیر الشعوب والقصص الفولكلوریة والدیانات. والثالثة أننی لست بصدد اعطاء نقد أدبی ینتمی الى هذه المدرسة الادبیة أو تلك، وانما بصدد عرض فهمی وانطباعی الشخصیین للرمزیة المیثولوجیة عند محمود، فأنا أصلاً لست متخصصاً فی الأدب وإنما فی أبعد ما یكون عن الأدب: المعادلات التفاضلیة والهندسة والمیاه والبیئة.
فی احدى المقابلات سُئل محمود عن كیفیة قراءته للتوراة فأجاب بأنه "لا ینظر الى التوراة نظرة دینیة وانما یقرأها كعمل أدبی ولیس دینیاً او تاریخیاً". وهنا یكون محمود قد وضع قدمه على المسار الصحیح فی التعامل مع الكتاب المقدس خصوصاً والأدیان والمیثولوجیا عموماً، حیث بامكاننا القول أنه ینتمی الى مدرسة المُقلّین التی ینتمی الیها أصحاب كوبنهاغن وعلى رأسهم استاذ الكتابیات توماس تومسون. وهذا المسار یجعل من محمود مثقفاً وأدیباً بامتیاز كون الأدب یبدأ من ملحمة جلجامش حیث بدأت الحضارة فی سومر، وما الأدب سوى اعادة انتاج المیثولوجیا باستمرار، إنه اعادة التألیف أو التولیف كما یقولون. ولهذا عندما یتحدث محمود فی شعره عن رمزیة میثولوجیة ما فهو لا یتحدث عنها لیتقرب من أصحابها ویتودد الیهم كما ذهب بعض النقاد، وإنما لأنه یُعید تولیف الحكایة بتكثیف المعنى المكتنز فی الرمزیة المیثولوجیة لما تتمتع به من قوة ساحرة وآسرة كونها جاءت من نتاج جمعی قامت به جماعة ما على مدى فترة زمنیة طویلة نسبیاً.
[*الرمزیة التوراتیة *]
إذا ما أردنا أن نتتبع الرمزیة المیثولوجیة عند محمود حسب التصاعد الزمنی لأعماله الشعریة نجد أنه وظفها فی بدایاته الأولى فی مجموعته الشعریة عاشق من فلسطین (1966) فی قصیدة أبی، حیث یقول:
"فی حوارٍ مع العذاب/ كان أیوبُ یشكرُ/ خالقَ الدودِ والسحاب"
حیث نلاحظ هنا أنه كان مطلعاً على الكتاب المقدس، فأیوب الذی یتحدث عنه محمود هو أیوب التوراتی بدلیل استخدامه لكلمة دود التی ترد فی سفر أیوب فی الاصحاح السابع، ولا عجب فی ذلك ففی تلك الفترة كان محمود یعیش فی داخل الأرض المحتلة وكان بحكم دراسته خاضعاً لمنهاج اسرائیل وبرامجها التی كانت تعلم الطلاب أسفار العهد القدیم باللغة العبریة، كما صرح محمود فی احدى مقابلاته. ولكن ما یهمنا هنا هو أن محمود یتعامل مع النص التوراتی فی سفر أیوب معاملة أدبیة، فهو یرى فیه نصاً أدبیاً یعالج ثیمة الصبر والابتلاء والخلاص بالإیمان، فیفكك الشاعر النص من التوراة ویعید تركیبه فی قصیدته بحكم تشابه المعاناة التی یعیشها الشاعر بالمعاناة التی عاشها أیوب (او ما یسمى أدبیاً بالتناص)، وكأنه یعید تولیف الحكایة، لأنه كان واعیاً بأن القصة التوراتیة نفسها لم تكن سوى اعادة تولیف من أدب سابق على العهد القدیم، فاستاذ السومریات، كرامر، قد قام بترجمة صلاة سومریة قدیمة تشبه قصة أیوب، هذه الصلاة السومریة تتحدث عن ما أصبح یُعرف بأیوب البابلی. ولكن لماذا اختار الشاعر توظیف رمزیة ایوب المیثولوجیة؟ الجواب فی نظری هو لما تتمتع به هذه الرمزیة من قوة ساحرة وآسرة، فهی من ناحیة معروفة للكبیر والصغیر بحكم اعادة تولیفها مسیحیاً واسلامیاً وفولكلوریاً، ومن ناحیة ثانیة فإن كثافتها الدلالیة وفرت على محمود الكثیر من الجهد لعرض معاناته، أو كما یقول نقاد الأدب جنّبته الحشو والضجیج اللغوی، فأوصل المعنى المراد بأقصر الطرق وأبلغ الدلالات. هذا بالإضافة الى حمل معاناته الشخصیة والوطنیة الى مستوى العالمیة والانسانیة كون رمزیة أیوب رمزیة عالمیة.
فی مجموعته العصافیر تموت فی الجلیل (1969) فی قصیدة ضباب على المرآة یستضیف محمود النبی إرمیا من التوراة فی عملیة تناص شائكة بعض الشیء تنم عن عمق معرفی بالعهد القدیم:
"لم أجد جسمكِ فی القاموس/ یا مَن تأخذین/ صیغة الأحزان من طروادة الأولى/ ولا تعترفین/ بأغانی إرمیا الثانی.."
فرغم وضوح التناص بین احتلال القدس الفلسطینیة وبین سقوط طروادة الاغریقیة إلا أن هویة إرمیا الثانی تبدو مربكة بعض الشیء، لولا أن الشاعر أسعفنا بإشارته الى الأحزان، وكأنه یتحدث عن مراثی إرمیا، وهی مراثی تبكی سقوط اورشلیم فی قبضة البابلیین عام 586 ق.م. تم جمعها فی نهایة سفر النبی ارمیا كونها لیست لإرمیا نفسه، ولهذا استخدم محمود اسم إرمیا الثانی، وهو تناص داخلی، إن صح التعبیر، مع اشعیا الثانی كما هو معروف لدى فقهاء الكتاب المقدس (بعكس مصطلح ارمیا الثانی الذی لا یستخدمه علماء الكتاب المقدس، بل نحته محمود على ما یبدو من عملیة تناص داخل التوراة نفسها). لقد استفاد الشاعر من رمزیة طروادة ومراثی إرمیا لیُغنی المعنى المراد من النص بكثافة التثاقف أولاً وببلاغة البیاض المتروك للقارئ العارف بقصة كل من حروب طروادة والسبی البابلی ثانیاً.
وبما أننا تطرقنا لذكر النبی أشعیا فلا بد لنا من استعراض توظیف رمزیته فی قصائد محمود، حیث یقول فی قصیدة بیروت (1983):
"أنادی أشعیا/ أخرجْ من الكتب القدیمة مثلما خرجوا/ أزقة أورشلیم تعلّق اللحم الفلسطینی فوق مطالع العهد القدیم/ وتدّعی أن الضحیة لم تغیر جلدها/ یا أشعیا لا ترثِ/ بل أهجُ المدینة كی أحبك مرتین"
ولا شك أن شغف محمود بإرمیا وأشعیا له ما یبرره، فهما من أنبیاء الحصر المحوری كما یقول فقهاء الكتاب المقدس، وقد أحدثا ثورة لاهوتیة فی الفكر الیهودی، وذلك بتطویر مفهوم الألوهة، فلم یعد الإله الاسرائیلی یهوة إلهاً قبلیاً عسكریاً (رب الجنود)، بل أصبح شبیهاً بالله الكونی المحب لجمیع البشر. فهل هذا ما قصده محمود بقوله "اخرج من الكتب القدیمة"؟. إن استضافة محمود لإرمیا وأشعیا تعنی فی ما تعنی رفضه للعسكرة والحروب المقدسة التی تشن باسم الدین والآلهة تماماً كما رفض إرمیا وأشعیا الحروب. وكما فی التناص السابق مع إرمیا یعقد الشاعر هنا تناصاً بین سقوط أورشلیم وبین حصار بیروت، ففی كلا الحالتین دفع الفلسطینی الثمن، لهذا یدعو محمود النبی إشعیا أن لا یرثی أورشلیم كما فعل فی سفره بل یدعوه الى أن یهجو أورشلیم الآثمة (حسب أشعیا) التی تسببت بإثمها بتعلیق اللحم الفلسطینی مرتین (حسب محمود)، مرة فی زمن أشعیا، ومرة فی حصار جیش الاحتلال "الأورشالیمی" لبیروت فی زمن محمود.
ثیمة الاحتلال والتهجیر والأسر (السبی) تأخذ من محمود الكثیر من العنایة فی قصائده، فهو یستحضر قصة السبی البابلی فی عملیة اسقاط على الحاضر، یقول الشاعر فی مجموعة أحبك أو لا أحبك (1972):
"ونغنی القدسَ/ یا أطفال بابلْ/ یا موالید السلاسل/ ستعودون الى القدس قریباً/ وقریباً تكبرون/ وقریباً تحصدون القمح من ذاكرة الماضی/ قریباً یصبح الدمع سنابل/ آه یا أطفال بابل"
فلم یقل الشاعر: ونغنی القدس یا أطفال القدس او فلسطین، بل قال یا أطفال بابل، وهی عملیة قفز فوق الزمن باستحضار الماضی حیث هُجّر أبناء یهودا الكنعانیة الى بابل، وكذا حال الفلسطینی المعاصر. وبما أن أبناء یهودا عادوا من السبی البابلی كذلك سیعود أبناء فلسطین لأنهم سیحصدون القمح من ذاكرة الماضی. والشاعر نفسه عانى من التهجیر والأسر (الاعتقال)، فكان توظیف رمزیة السبی الى بابل خیر تعبیر عن مأساة الشاعر وشعبه. ولا أظن أن محمود قد فاته أن الاسرائیلی المعاصر لا علاقة له بیولوجیاً بأبناء یهودا اللذین تم سبیهم الى بابل، فهو كان واعیاً تماماً لحقیقة أن تاریخ یهودا وثقافتها جزء من التاریخ الفلسطینی وثقافته، كما هو واضح من قوله فی قصیدة بیروت (1983):
"وأحملُ أرضَ كنعان التی اختلف الغزاة على مقابرها/ وما اختلف الرواةُ على الذی اختلف الغزاة علیه"
ففی هذا النص یبدو محمود واعیاً للثقافة الكنعانیة الشاملة وأن الرواة (التألیف والتولیف) لم یختلفوا على ثقافة أرض كنعان، بل الخلاف جاء من تسییس الروایات لصالح مشروع سیاسی استیطانی (الغزاة). وما یؤكد هذا الاستنتاج قول الشاعر فی مجموعة العصافیر تموت فی الجلیل (1969) فی قصیدة بعنوان المزمور الحادی والخمسون بعد المئة:
"والمزامیر صارت حجارة/ رمونی بها/ وأعادوا اغتیالی/ قرب بیارة البرتقال/ صار جلدی حذاء/ للأساطیر والأنبیاء"
فالشاعر یتعامل مع مزامیر داود على أنها مزامیره ومزامیر شعبه، بمعنى أنها من منتجات الثقافة الكنعانیة وإن تم نسبها توراتیاً الى النبی داود، فهذا النسب لیس إلا من أساطیر الأنبیاء، أو هو إعادة تولیف النص الأدبی الكنعانی القدیم، فمن المعروف من الاكتشافات الأثریة فی الساحل الكنعانی الكبیر (من شمال سوریا الى جنوب فلسطین) أن مزامیر داود لیست إلا ابتهالات وأغانی فولوكلوریة كنعانیة قدیمة، وحتى رافدیة تم اكتشاف مثلها فی العراق. إن تعامل الشاعر مع النصوص التوراتیة على أنها نصوص ثقافته واضح فی قوله فی قصیدة شتاء ریتا من مجموعة أحد عشر كوكباً (1992):
"لی حصةٌ من مشهد الموج المسافر مع الغیوم، وحصةٌ/ من سفر تكوین البدایة، حصةٌ من سفر أیوب، ومن/ عید الحصاد"
فهو هنا یجمع سفرین من العهد القدیم، التكوین وأیوب، وعید الحصاد الكنعانی. ویتضح لنا أكثر كیف أن محمود یتعامل مع النصوص الدینیة على أنها نصوص أدبیة یُعید العقل الجمعی إعادة انتاجها باستمرار. یقول محمود بهذا الصدد: "إن النضج الأدبی هو أن نتذكر أسلافنا وأن نشعر بأن وراء هذا النص الشعری أسلافاً.. فی كل شاعر تاریخ الشعر منذ الرعویات الشفهیة الى الشعر المكتوب، من الشعر الكلاسیكی الى الشعر الحدیث". كما یجدر بنا التأكید هنا على عمق معرفة محمود بالكتاب المقدس، فالمزامیر عددها مائة وخمسون مزموراً، الأمر الذی دفع محمود الى تسمیة قصیدته هذه بالمزمور الحادی والخمسون بعد المئة، وكأن الشاعر یصر على التعامل الأدبی مع الكتاب المقدس، فهو من ناحیة یعتبر هذه المزامیر انتاجاً جمعیاً لأجداده الكنعانیین، ومن ناحیة أخرى ها هو الشاعر نفسه یشارك فی هذا الانتاج فیضیف مزموراً جدیداً لمجموعة المزامیر. هذا الوعی الدرویشی بالأدب الكنعانی یقوله محمود بصراحة فی قصیدة مأساة الفضة وملهاة النرجس من مجموعة أرید ما أرید (1990):
(توراة كنعان الدفینة تحت أنقاض الهیاكل بین صور وأورشلیم)
فالتوراة بالنسبة لمحمود عمل أدبی كنعانی یُعید تولیف الحكایات الكنعانیة إیاها مع التركیز على نفس الثیمات والموتیفات الأدبیة التی كانت وما زالت تشغل الحیز الأكبر من فكر الإنسان وانتاجه الدینی الجمعی، إلا أن الشاعر یرفض خطف هذا الأدب الكنعانی من قبل جماعة دینیة معینة، لذلك استخدم كلمة "أنقاض الهیاكل" وما یعنیه ذلك من انهیار عملیة الخطف هذه وانفضاح أمرها، مع الإشارة الى ما تحمله الكلمة من عمل أركیولوجی. وهذا ما یؤكد على علو شأن الرمزیة عند محمود وقوتها، فاستخدامه لـ"أنقاض الهیاكل" كان موفقاً بامتیاز نظراً للإحتقان الهائل للرمز فیها. ولا یكاد القاریء یلتقط أنفاسه من هذه الرمزیة حتى ینهال علیه الشاعر برمزیة أخرى لا تقل إحتقاناً، إنها الثنائی صور وأورشلیم، فمن ناحیة تفصح هذه الثنائیة عن كنعانیة التوراة، ومن ناحیة ثانیة عن كنعانیة الهیكل الأوشلیمی الذی بناه مهندسو صور الكنعانیة (سأتجنب هنا استعمال مصطلح فینیقیا كونه مسمى إغریقی لبلاد كنعان). هذا الوعی نراه أیضاً فی نفس المجموعة الشعریة فی قصیدة ربّ الأیائل یا أبی ربّها، حیث یقول الشاعر:
"فانهضْ یا أبی من بین أنقاض الهیاكل، واكتبْ/ اسمكَ فوق خاتمها كما كتبَ الأوائل، یا أبی، أسماءَهم"
فمحمود هنا یستعمل رمزیة الأب بما تحمله من معانی الجذور المترسخة، داعیاً هذه الجذور أن تنفض عنها ركام الهیاكل لتتضح الحقیقة. وسیدخل محمود فی صراع على ذاكرة المكان كما سیمر معنا لاحقاً.
وتجاوز محمود رمزیة الهیكل الى توظیف رمزیة سلیمان فی قصائده، ففی قصیدة خطبة الهندی الأحمر من مجموعة أحد عشر كوكباً، یقول الشاعر على لسان الهندی الأحمر مخاطباً السید الأبیض:
".. وأشعار كنعان والبابلیین، تنقصُكُم/ أغانی سلیمان عن شولمیت.."
فأغانی سلیمان بالنسبة لمحمود لیست إلا من أشعار الشرق الأوسط القدیم (كنعان وبابل)، وهو هنا یشیر الى سفر نشید الأناشید الذی لسلیمان من العهد القدیم من الكتاب المقدس، وهی مجموعة من أناشید الحب والغزل العذری والفاحش تذكّر علماء المیثولوجیا بأغانی الكنعانیین المعنیة بالخصب، فسلیمان یبدو كإله خصب (بعل الكنعانی) وشولمیت (صیغة المؤنث لسلیمان لغویاً) تبدو إلهة الخصب المؤنثة. وقد اكتشف علماء الآثار صلوات كنعانیة فی أوغاریت تتطابق مع بعض أناشید سلیمان. إلا أن الشاعر یتجاوز استخدام رمزیة سلیمان الثقافیة الكنعانیة الى حالة من التناص الخاص بینه وبین سلیمان فی معرض تفكیر الشاعر بمعنى الموت والحیاة والوجود فی مُطولته الرائعة "الجداریة" (1999)، حیث یبدو محمود مغرماً بسفر الجامعة المنسوب أیضاً لسلیمان، وهو مجموعة من الحكم، یقول الشاعر:
"وكل شیء باطلٌ أو زائل، أو/ زائل أو باطل/ من أنا؟/ أنشیدُ الأناشید/ أم حكمةُ الجامعة؟/ وكلانا أنا../ وأنا شاعرٌ/ وملِك/ وحكیمٌ على حافة البئر"
فمحمود فی الجداریة حین "طار به الموت نحو السدیم" على حد تعبیره یستدعی حكمة سلیمان فی سفر الجامعة، فقد كان سلیمان ملكاً وحكیماً وشاعراً ووصل الى ذروة المجد، إلا أنه فی النهایة اعترف بأن كل شیء باطل وزائل: "باطل الأباطیل یقول الحكیم. باطل الأباطیل، كل شیء باطل" (سفر الجامعة، 1 – 2). وكذلك محمود فی تجربته مع الموت اختار حكمة سلیمان، لهذا یستعمل جملة "باطل، باطل الأباطیل باطل" كلازمة یعید تكرارها فی القصیدة تماماً كما هو الحال فی سفر الجامعة. ویتعمق محمود فی سفر الجامعة أكثر ویعید تولیف بعض من نصوصه بما یخدم تصوره الخاص، وكأنه یشارك فی نسج ثوب الحكمة الشرق أوسطیة، فنراه یقول فی الجداریة:
"عشتُ كما لم یعش شاعر/ ملكاً وحكیماً../ هرمت، سئمت من المجد/ لا شیء ینقصنی/ ألهذا إذاً/ كلما زاد علمی/ تعاظم همّی؟/ فما اورشلیم وما العرش؟/ لا شیء یبقى على حاله/ للولادة وقت/ وللموت وقت/ وللصمت وقت/ وللنطق وقت/ وللحرب وقت/ وللصلح وقت/ وللوقت وقت/ ولا شیء یبقى على حاله../ كل نهر سیشربه البحر/ والبحر لیس بملآن/ لا شیء یبقى على حاله/ كل حی یسیر الى الموت/ والموت لیس بملآن/ لا شیء یبقى سوى اسمی المَذهّب/ بعدی: / "سلیمانَ كان".. / فماذا سیفعل موتى بأسمائهم/ هل یضیء الذهب/ ظلمتی الشاسعة/ أم نشید الأناشید/ والجامعة؟"
هكذا یتعامل محمود مع التوراة والكتب المقدسة تعاملاً أدبیاً، فیرى فیها تولیفات (روایات) قامت بها الجماعة للتعبیر عن همومها وانشغالاتها، وهذه التولیفات لیست إلا اعادة انتاج روایات میثولوجیة سابقة علیها، لهذا اعتبر محمود التوراة جزءاً من تراثه، ورأى أن من مهمته كشاعر ینتمی لأرض فلسطین أن یشارك فی اعادة تولیف الروایات، فكانت الاقتباسات والرمزیات التوراتیة جزءاً من عملیة إعادة التولیف هذه.
[*الرمزیة المسیحیة والاسلامیة *]
فی قصیدة الجداریة وأمام تجربة الموت الرهیبة یقف محمود بین تجربة السید المسیح علیه السلام وتجربة سلیمان الحكیم، فیختار حكمة سلیمان كما مر معنا أعلاه، ربما لأنه وجد صعوبة فی اختیار تجربة قیامة المسیح، ولهذا نراه یقول:
"مثلما سار المسیحُ على البحیرة/ سرتُ فی رؤیایَ. لكنی نزلتُ عن/ الصلیب لأننی أخشى العلوّ، ولا/ أبشّرُ بالقیامة.."
فتجربة محمود بشریة، بعكس تجربة المسیح الإلهیة، لهذا یقول الشاعر فی نفس القصیدة نافیاً عن نفسه امكانیة الخلود على طریقة المسیح:
"وانتظرْ/ ولداً سیحمل عنك روحك/ فالخلود هو التناسل فی الوجود"
ومما لا شك فیه أن شخصیة السید المسیح لها حضور كبیر فی قصائد محمود، فالتشابه كبیر بینهما، فكلاهما من الجلیل، وكلاهما تعرض للإضطهاد، وكلاهما رأى فی الفداء خلاصاً، ولهذا نجد رمزیة المسیح فی قصائد محمود المبكرة، ففی قصیدة قال المغنی من مجموعة عاشق من فلسطین (1966) یقول الشاعر:
"المغنی على صلیب الألم/ جرحه ساطع كنجم/ قال للناس حوله/ كلّ شیء.. سوى الندم/ هكذا متّ واقفاً/ واقفاً متّ كالشجر/ هكذا یصبح الصلیب/ منبراً او عصا نغم/ ومسامیره وتر"
بهذه الطریقة یعید محمود تولیف الحكایة فی عملیة تناص بین فداء المسیح من أجل الخلاص وبین الموت وقوفاً من أجل النصر. إلا أنه بعد سقوط القدس عام 1967 یصبح لمعنى الصلیب بعداً آخراً هو المحبة والعطاء والخیر، كما هو فی قصیدة أغنیة حب على الصلیب من مجموعة آخر اللیل (1967) التی یخاطب فیها مدینة القدس أو مدینة كل الجروح الصغیرة كما یقول فی مطلع القصیدة:
"أحبكِ، كونی صلیبی/ وكونی، كما شئتِ، برجَ حمام/ إذا ذوّبتنی یداك/ ملأت الصحارى غمام"
عملیة التولیف الشعری تنهال على محمود بغزارة فی قصیدة مدیح الظل العالی (1983) التی كتبها عن حصار بیروت، وكأن قساوة الحصار والحرب قد أخرجته عن طوره فإذا بالتولیف وكأنه وحی ینزل علیه من السماء، وذلك بتولیف قرآنی من سورة العلق وانجیلی عن المسیح الفادی الذی سیهدم هیكل جسده ویبنیه فی ثلاثة أیام:
"الله أكبر/ هذه آیاتنا فاقرأ/ باسم الفدائی الذی خلقا/ من جرحه شفقا/ باسم الفدائی الذی یرحل/ من وقتكم.. لندائه الأول/ الأولِ الأول/ سندمر الهیكل/ باسم الفدائی الذی یبدأ/ اقرأ.. / بیروت صورتنا/ بیروت سورتنا"
التولیف القرآنی من سورة یوسف والكتابی من سفر التكوین نجده عند محمود فی قصیدة أخرى بحكم التناص بین قضیته وقضیة شعبه التی تخلى عنها العرب وبین تخلی أبناء یعقوب عن أخیهم الصغیر یوسف بعد أن غدروا به وأودعوه البئر، یقول الشاعرفی قصیدة أنا یوسف یا أبی من مجموعة ورد أقل (1986):
"أنا یوسف یا أبی، یا أبی اخوتی لا یحبوننی، لا یریدوننی بینهم یا أبی، یعتدون علی ویرموننی بالحصى والكلام، یریدوننی أن أموت لكی یمدحوننی، وهم أوصدوا باب بیتك دونی، وهم طردونی من الحقل، هم سمموا عنبی یا أبی... فماذا فعلت أنا یا أبی، ولماذا أنا؟، أنت سمیتنی یوسفاً، وهمو أوقعونی فی الجب، واتهموا الذئب، والذئب ارحم من اخوتی.. أبتِ! هل جنیت على أحد عندما قلت انی: رأیت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر، رأیتهم لی ساجدین"
وفی مرحلة ما بعد بیروت حین یحس الشاعر بأن الكل قد تخلى عنه وعن قضیة شعبه یبدأ حواراً مع الله فینهل من الرموز الانجیلیة كقول المسیح على الصلیب قبل أن یلفظ الروح، فی قصیدة إلهی لماذا تخلیت عنی؟ من مجموعة ورد أقل:
"الهی.. الهی.. لماذا تخلیت عنی؟ لماذا تزوجت مریم؟ لماذا وعدت الجنود بكرمی الوحید.. لماذا؟ أنا الأرملة/ أنا بنت هذا السكون، أنا بنت لفظتك المهملة/ لماذا تخلیت عنی؟ الهی، إلهی لماذا تزوجت مریم؟"
ویسأل الشاعر الله كما سأله المسیح بأن لا یبعد عنه كأس الموت فی قصیدة یطول العشاء الأخیر من نفس المجموعة:
"یطول العشاء الأخیر، تطول وصایا العشاء الأخیر/ أبانا الذی معنا كن رحیماً بنا، وانتظرنا قلیلاً، أبانا/ ولا تبعد الكأس عنا/ تمهل لنسأل أكثر مما سألنا"
إلا أن الشاعر فی مزاج آخر فی قصیدة كتب فیها عن هاجس العودة الى الوطن یحتفی بعودة المسیح ومریم الى العشاء الذی یریده الشاعر أن یُنهی الاحتلال، یقول فی القصیدة الملحمة "مأساة الفضة ملهاة النرجس" من مجموعة أرید ما أرید (1990):
"عاد المسیحُ الى العشاء، كما نشاء، ومریمٌ عادتْ إلیه/ على جدیلتها الطویلة كی تغطی مسرحَ الرومان فینا"
وفی قصیدة الجداریة فی بحث الشاعر عن معنى الخلود یستحضر امتحان الشیطان للسید المسیح كما ورد فی الأناجیل، ولكنه یُسقط هذه الحكایة على نفسه حین كان بین الموت والحیاة، وكأن الاختبار كان له:
"أعلى من الأغوار كانت حكمتی/ إذ قلتُ للشیطان: لا، لا تمتحنّی/ لا تضعنی فی الثنائیات، واتركنی/ كما أنا زاهداً بروایة العهد القدیم/ وصاعداً نحو السماء، هناك مملكتی/ خُذ التاریخ، یا ابن أبی، خذ/ التاریخَ.. واصنع بالغرائز ما تریدُ"
وكما فی الرمزیة التوراتیة فإن محمود ینهل من الرموز المسیحیة والاسلامیة فی عملیة تناص یعید من خلالها كتابة السردیة الشعریة الشرق أوسطیة بما یلائم حاضره وأمانی مستقبله مرتكزاً على الثیمات والموتیفات نفسها، وكأن الحكایة هی نفس الحكایة ولم یتغیر شیء سوى الزمن.
[*الرموز العربیة والرافدیة والمصریة والكنعانیة *]
فی نفس القصیدة السابقة یجمع محمود فی أسطر قلیلة ثقافة شرق المتوسط فی مشهد تخیلی یفترض أن العائدین الى فلسطین یستعیدونه مع عودتهم، إنها تقنیة لربط الاستعادة المادیة بالاستعادة الثقافیة لیغلق الخارطة من النیل الى الفرات:
".. واستعادوا/ ما ضاع من قاموسهم: زیتون روما فی مخیلة الجنود/ توراة كنعان الدفینة تحت أنقاض الهیاكل بین صور وأورشلیم/ وطریق رائحة البخور الى قریش تهبّ من شام الورود/ وغزالة الأبد التی زُفّت الى النیل الشمالی الصعود/ والى فحولة دجلة الوحشی وهو یزف سومرَ للخلود"
هكذا یتنقل الشاعر بین رمزیات الشرق الأوسط القدیم غیر عابئ بالزمن الذی ینحل بین یدیه، فیستدعی ثقافة الأمة من العراق الى مصر وما بینهما، ویدعو القاریء لأن یستعید معه هذه الثقافة، لأن العودة لا تكتمل إن كانت فیزیائیة، بل لا بد لها من استعادة ثقافیة لتكتمل.
فی قصیدته الرائعة بعنوان رحلة المتنبی الى مصر من مجموعة حصار لمدائح البحر (1984) یعقد الشاعر تناصاً بین حاضره وبین الماضی العربی غیر البعید، فیستحضر حكایة المتنبی مع كافور مُطرزاً القصیدة برموز تاریخیة عربیة اسلامیة، حیث یشبه نفسه تارةً بالمتنبی وتارةً بالقرمطی، وكأنه یرثی حال مصر والأمة معها:
"قد جئتُ من حلبٍ، وإنی لا أعود الى العراق/ سقطَ الشمالُ فلا ألاقی/ غیر هذا الدرب یسحبنی الى نفسی.. ومصر/ .. أمشی الى نفسی فتطردنی من الفسطاط../ .. لا مصر فی مصر التی أمشی الى أسرارها/ فأرى الفراغ، وكلما صافحتُها/ شقتْ یدینا بابلُ/ فی مصر كافورٌ وفیّ زلازل/.. هل تتركین النیلَ مفتوحاً/ لأرمی جثتی فی النیل؟/ لا، لن یستبیح الكاهن الوثنی زوجاتی/ ولا، لن أبنی الأهرام ثانیة، ولا/ .. والقرمطی أنا، ولكن الرفاق هناك فی حلبٍ/ أضاعونی وضاعوا.."
إنها نفس الخارطة الجغرافیة الشعریة یرسمها الشاعر فی فترتین زمنیتین مختلفتین من التاریخ العربی، الأولى فی الزمن المیثولوجی الغابر، والثانیة فی الزمن الحقیقی القریب. ولكن ضمن نفس الحدود ما بین مصر والعراق وبلاد الشام. وفی مجموعة سریر الغریبة (1999) یحرر محمود المرأة من رمزیة الوطن فی شعره ویتعامل معها كإمرأة لا أكثر، وفی هذه المجموعة یعقد حواراً مع جمیل بثینة ومع مجنون لیلى فی قصیدتین منفصلتین باحثاً عن معنى الحب عند العرب:
"هل تشرح الحبَ لی ، یا جمیلُ/ لأحفظه فكرةً فكرة؟/ أعرفُ الناس بالحب أكثرهم حیرةً/ فاحترق، لا لتعرف نفسك، ولكن/ لتُشعلَ لیلَ بثینة.."
فی نفس المجموعة یرحل الشاعر عمیقاً فی الزمن فی البحث عن معنى الحب فی الشرق الأوسط القدیم، فیصل الى إنانا، إلهة السومریین، لیجد معنى الحب فی الخصب او فی زفاف السماء والأرض المقدس:
"فلیصقُل الثورُ، ثورُ العراق/ المُجنّح قرنیه بالدهر والهیكل المتصدع/ فی فضة الفجر. ولیحمل الموتُ آلته/ المعدنیة فی جوقة المنشدین القدامى/ لشمس نبوخنصّر. أما أنا، المتحدر/ من غیر هذا الزمان، فلا بد لی/ من حصان یلائم هذا الزفاف. وإن كانَ/ لا بدّ من قمرٍ فلیكن عالیاً.. عالیاً/ ومن صنع بغداد، لا عربیاً ولا فارسیاً/ ولا تدّعیه الإلهات من حولنا. ولیكن خالیاً/ من الذكریات وخمر الملوك القدامى/ لنُكمل هذا الزفاف المقدس، نكمله یا ابنةَ/ القمر الأبدی هنا فی المكان الذی نزّلتهُ/ یداكِ على طرف الأرض من شرفة الجنة الآفلة"
مفهوم الخصوبة، او زفاف الآلهة المقدس، یؤكد علیه محمود فی الثقافة الكنعانیة أیضاَ حیث یستدعی، عناة، إلهة الخصب الكنعانیة، حیث یقول فی الجداریة:
"فغنّی یا إلهتی الأثیرة، یا عناةُ/ قصیدتی الأولى عن التكوین ثانیةً"
مبیناً دور عناة فی استمرار التكوین، او دورات الخصب، حین یتحدى الموت قائلاً له فی نفس القصیدة:
"فماذا یفعل التاریخ، صنوُكَ او عدوك/ بالطبیعة عندما تتزوج الأرضَ السماءُ/ وتذرفُ المطرَ المقدس؟"
عناةُ الكنعانیة هذه سیهیم الشاعر بحبها فی نفس الجداریة لدرجة العبادة مستخدماً مصطلحاً قرآنیاً ولا أجمل "یممتُ وجهی شطرَ" وما یحمله من معانی التعلق والقداسة والعبادة، ولكنه یمم وجهه شطر كنعان، بلاد الإرجوان:
"كلما یممتُ وجهی شطرَ آلهتی/ هنالك، فی بلاد الأرجوان أضائنی/ قمرٌ تُطوّقهُ عناةُ، عناةُ سیدةُ/ الكنایة فی الحكایة.."
فمحمود هنا سومری وكنعانی یشارك فی نسج ثقافة المنطقة بشعره بعملیات اعادة تولیف الملاحم السومریة والكنعانیة، وكأنها مشاركة منه فی النقاش الثقافی حول ثیمات مثل الحب والخصب والموت والحیاة والخلود. وفی نفس الجداریة فی بحثه عن الموت والخلود یستضیف أوزیریس الفرعونی والسید المسیح على قاعدة البعث من الموت، وكأن الشاعر یرید أن یؤكد لنا أن هذه الروایات لیست إلا توالیف لا نعرف مُؤلفها الحقیقی الأولانی، وإنما نقوم كشعب شرق أوسطی بإعادة التولیف لإبراز المعنى والمفهوم:
".. من أنا فی الموت/ بعدی؟ من أنا فی الموت قبلی/ قال طیفٌ هامشی: كان أوزیریسُ/ مثلكَ، كان مثلی. وابنُ مریم/ كان مثلكَ. كان مثلی.."
یجد محمود فی ملحمة جلجامش السومریة، التی یعود تاریخها الى مدینة أوروك فی الألف الثالثة قبل المیلاد، مادةً غنیة لمناقشة ثیمة الموت والخلود فی قصیدة الجداریة، وكأنه یشارك فی اضافات (تولیفات) على هذه الملحمة التی خضعت عبر الزمن الى الكثیر من الاضافات عبر العصور حتى وصلت الى بابل الكلدانیة. فجلجامش ملك اوروك مولود من الإلهة ننسون التی حملت به من ملك أوروك لوجلیندا، فكان ثلث جلجامش بشراً وثلثاه إلهاً. ولكنه كان مشغولاً بتجاوز الموت الى الخلود، فصاحبَ الوحش البری أنكیدو، ومضیا الى غابة حیث سر الخلود. ووصلا إلیها، وظن جلجامش أنه أمسك بسر الخلود. إلا أن الآلهة قررت موت أنكیدو، فمات بین یدی جلجامش الذی اكتشف أن الموت حق وأن الخلود یكمن فی أعمال الانسان:
".. أنكیدو! خیالی لم یعُد/ یكفی لأكملَ رحلتی. لا بدّ لی من/ قوة لیكون حلمی واقعیاً. هاتِ/ الدمعَ، أنكیدو، لیبكی المیتُ فینا/ الحیَّ . ما أنا؟ من ینامُ الآن/ أنكیدو؟ أنا أم أنتَ؟.."
وهكذا أدخل الشاعر نفسه فی نفس التجربة وهو بین حدود الوجود والعدم، ولكنه یخلص لمفهوم الخلود، وكأنها اضافة درویشیة رائعة للملحمة السومریة:
"هزمتكَ یا موتُ الفنونُ جمیعها/ هزمتكَ یا موتُ الأغانی فی بلاد/ الرافدین. مسلّةُ المصریّ/ مقبرةُ الفراعنة/ النقوش على حجارة معبدٍ هزمتكَ/ وانتصرتْ، وأفلتَ من كمائنكَ/ الخلودُ..."
[*الصراع على ذاكرة المكان *]
كان محمود واعیاً للصراع الثقافی على أرض فلسطین بین الذاكرة الفلسطینیة وبین المشروع الثقافی الصهیونی الذی ما انفكّ الى الآن یحاول تجییر ثقافة الأرض لصالحه عبر ربطها بالتوراة من جهة وربط المشروع الصهیونی بیهودا الكنعانیة وثقافتها من جهة أخرى (بما فیها الكتاب المقدس نفسه)، ففی إحدى مقابلاته یقول محمود: "یأخذنی شعوری الى أن الصراع بیننا لیس عسكریاً فقط وأننا نحن مدفوعون الى صراع ثقافی عمیق"، لهذا نجده ومنذ وقت مبكر ینبه فی شعره الى هذا الصراع، فیقول فی قصیدة یومیات جرح فلسطینی التی أهداها الى الشاعرة فدوى طوقان فی مجموعة حبیبتی تنهض من نومها (1970):
"عالمُ الآثار مشغولٌ بتحلیل الحجارة/ إنه یبحث عن عینیه فی ردم الأساطیر/ لكی یُثبت أنی/ عابرٌ فی الدروب لا عینین لی/ لا حرفَ فی سِفر الحضارة"
لا شك أن محمود كان مطلعاً على علم الآثار فی فلسطین والذی كان آنذاك توراتیاً منحازاً، حیث كان جل اهتمام الباحث الآثاری العثور على أی نص او قطعة أثریة لكی یقوم بتأویلها توراتیاً بما یخدم مقولة أرض الآباء الصهیونیة، وهذا التوجه الصهیونی فی علم الآثار سرعان ما انهار مع بدایة الثمانینات من القرن العشرین بسبب الاكتشافات الآثاریة الهائلة التی تتعارض مع اطروحات المشروع الاستیطانی الصهیونی الكولونیالی وتؤكد على كنعانیة الأرض وثقافتها، فقد أكد على ذلك علماء غربیون مثل توماس تومسون فی كتابه "الماضی الخرافی" وكیث وایتلام فی كتابه "اختلاق اسرائیل القدیمة، طمس التاریخ الفلسطینی". وكما قلنا أعلاه فإن الشاعر وجد نفسه منخرطاً فی الصراع على ذاكرة المكان فی شعره، فهو فی نثریة عابرون فی كلام عابر (1987) یستند على الفعل "عبَرَ" لما یحمله من معانی البداوة والمرور الذی لا یستقر، فهم عابرون ومشروعهم كلام عابر:
"أیها المارون بین الكلمات العابرة كدسوا أوهامكم فی حفرة مهجورة، وانصرفوا.."
وفی قصیدة على ساحل البحر الأبیض المتوسط من مجموعة حصار لمدائح البحر (1984) یبحث محمود عن آثار أجداده التی یعرف تماماً أنها مدفونة فی أماكن كثیرة على ساحل المتوسط:
"یا بحرَ البدایات/ یا جثتنا الزرقاء، یا غبطتنا، یا روحنا الهامد بین یافا وقرطاج/ یا ابریقنا المكسور، یا لوح الكتابات التی ضاعت/ بحثنا عن أساطیر الحضارات/ فلم نجد سوى جمجمة الانسان قرب البحر"
ففی تلك الفترة بعد حصار بیروت والخروج منها یبحث الشاعر عن جذوره ومكانه على ساحل البحر الذی حمل شعبه بعیداً، إلا أن جماجم هذا الشعب ستبقى على سواحل هذا البحر تماماً مثل جماجم الانسان الأول التی تم اكتشافها على سفوح الكرمل، والتی ستبقى شاهدة على انتماء الانسان لهذه الأرض. ففی مجموعة هی أغنیة هی أغنیة (1986) یخاطب الشاعر أصحاب المشروع الصهیونی الاستیطانی بأن لا یُتعبوا أنفسهم فی البحث الآثاری لأنهم لن یجدوا ما یدل علیهم:
"ولن تجدوا جثةً تحفرون علیها مزامیر رحلتكم فی الخرافة/ ولن تجدوا شرفةً كی تُطلّوا على الأبیض المتوسط فینا/ ولن تجدوا ما یدل علیكم.."
وفی نفس المجموعة یفضح الشاعر أعمال المشروع الاستیطانی فی تجییر ذاكرة المكان لنفسه ونفیها عن الفلسطینی:
"لصوصُ المدافن لم یتركوا للمؤرخ شیئاً یدلّ علیّ/ ینامون فی جثتی أینما طلع العشب منها، وقام الشبح/ یقولون ما لا أفكر، ینسون ما أتذكر..."
إلا أن هذا الغریب القادم مع المشروع الاستیطانی یبقى غریباً عن ثقافة هذه الأرض وذاكرتها، ولهذا فإنه یجد صعوبة فی التماهی فیها، لهذا تراه یعتمد على جمالیات السرد لكی یثبت حقه فی الأرض، فكلما كتب عن الأرض بشكل أجمل كلما استحق المكان أكثر، من وجهة نظره. ومحمود كان واعیاً لهذه المسألة، فهو یقول فی احدى مقابلاته: "الشاعر الفلسطینی لم یشعر یوماً بأنه محتاج الى تقدیم براهین على حقه بالمكان، وعلاقته بالأرض تلقائیة وعفویة ولا تحتاج الى أی إیدیولوجیا أو تبریر. الشاعر الإسرائیلی الذی یعرف كیف تمّ مشروعه وماذا كان قبل إسرائیل، والذی یعرف أیضاً ان هذا المكان له اسم آخر وسابق هو فلسطین، یبدو هذا الشاعر فی حاجة الى شحذ كل طاقته الإبداعیة من أجل امتلاك المكان باللغة كجزء مكمل للمشروع الاستیطانی". ألهذا أكثر محمود من استدعاء الرمزیات المیثولوجیة فی شعره، ودخل فی ثنایا سردیاتها لیشارك فی نسج هذه الروایات؟ وكأنه یقول للآخر: إنی لا أجد صعوبة فی الاحتفاء بعناة وبعل وإنانا وجلجامش وأوزیریس وأشعیا وأرمیا والمسیح والعذراء وغیرهم، لأنهم جزء من ثقافتی وأنا امتداد لهم، وأستطیع أن ألج روایاتهم بتلقائیة وأشاركهم فی نسج الحكایات، حكایاتنا. فلننظر الى هذا النص الدرویشی الجمیل الذی یذكرنا بملاحم الكنعانیین فی قصیدة ربّ الأیائل یا أبی ربّها من مجموعة أرید ما أرید (1990):
".. منفایَ أرضُ/ أرضٌ من الشهوات، كنعانیةٌ، ترى الأیائل والوعولْ... / لو كنتَ من حجر لكان الطقسُ آخر، یا ابن كنعان القدیم/ لكنهم كتبوا علیكَ نشیدهم لتكون أنت هو الوحید... / سرقَ المؤرخ، یا أبی لغتی وسوسنتی وأقصانی عن الوعد الإلهی/ وبكى المؤرخ عندما واجهته بعظام أسلافی.../ فانهض یا أبی من بین أنقاض الهیاكل واكتبْ/ اسمكَ فوق خاتمها كما كتب الأوائل یا أبی أسماءهم.../ وأنا حزین، یا أبی، سلّم على جدی إذا قابلتهُ/ قبّلْ یدیه نیابة عنی وعن أحفاد بعلٍ أو عناة/ واملأ له ابریقه بالخمر من عنب الجلیل أو الخلیل.."
أما الأبلغ والأجمل من هذا فی الصراع على ذاكرة المكان فهو استحضار محمود لعدة تناصّات من أمكنة مختلفة وأزمنة مختلفة لیقیم الحجة على المشروع الاستیطانی الصهیونی، ففی قصیدة خطبة الهندی الأحمر أمام الرجل الأبیض من مجموعة أحد عشر كوكباً (1992) یخاطب محمود المشروع الصهیونی عن طریق مخاطبة الهندی الأحمر للرجل الأبیض الذی استوطن فی أرضه، مستخدماً رمزیات من میثولوجیا الهنود الحمر:
"لكم ربكم ولنا ربنا، ولكم دینكم ولنا دیننا/ فلا تدفنوا الله فی كتبٍ وعدتكم بأرضٍ على أرضنا/ كما تدعون، ولا تجعلوا ربكم حاجباً فی بلاط الملك... / .. هذه الأرضُ جدّتنا/ مقدسةٌ كلها، حجراً حجراً، هذه الأرض كوخٌ/ لآلهة سكنت معنا، نجمةً نجمةً، وأضاءت لنا/ لیالی الصلاة... / ... تاریخنا كان تاریخها"
فی مجموعة أحد عشر كوكباً یبدو أن الوحی الكنعانی قد سیطر على محمود، فنراه فی معظم قصائد المجموعة مشغولاً بهذا الهم، ناسجاً قصائد كنعانیة كأنها تعود الى شاعر كنعانی مات فی أوغاریت او سفوح الكرمل او بیبلوس جبیل، وكأن ما نقرأه الآن لیس لمحمود وإنما لأحد أسلافنا الذی اكتشف مخطوطاته علماء الآثار، یقول الشاعر فی قصیدة على حجر كنعانی فی البحر المیت:
".. یا غریبُ/ علّقْ سلاحكَ فوق نخلتنا، لأزرع حنطتی/ فی حقل كنعان المقدس.. / خذ نبیذاً من جراری/ خذ صفحة من سِفر آلهتی.. وقسطاً من طعامی/ وخذ الغزالة من فخاخ غنائنا الرعوی، خذ/ صلواتٍ كنعانیة فی عید كرمتها، وخذ عاداتنا/ فی الری، خذ منا دروس البیت.../ واترك أریحا تحت نخلتها، ولا تسرق منامی... / أأتیتَ.. ثم قتلتَ.. ثم ورثتَ... / .. والأنبیاء جمیعهم أهلی، ولكنّ السماءَ بعیدةٌ/ عن أرضها، وأنا بعیدٌ عن كلامی"
هكذا یعترف محمود أن جمیع الأنبیاء هم أهله، وأن ثقافته هی امتداد لكتبهم المقدسة وطقوسهم المقدسة، لهذا قال للغریب: "خذ صفحة من سِفر آلهتی". وفی قصیدة بعنوان سنختار سوفوكلیس من نفس المجموعة یؤكد الشاعر على حقه فی هذه الطقوس:
"وإن كان هذا الخریفُ الخریفَ النهائیّ، فلنختصرْ/ مدائحنا للأوانی القدیمة، حیث حفرنا علیها مزامیرنا/ فقد حفر الآخرون على ما حفرنا مزامیرَ أخرى/ ولم تنكسر بعد... /.. كأن أناشیدنا فی الخریف أناشیدهم فی الخریف/ كأن البلادَ تُلقننا ما نقول.../ ولكن عید الشعیر لنا، وأریحا لنا، ولنا/ تقالیدنا فی مدیح البیوت وتربیة القمح والأقحوان/ سلاماً على أرض كنعان/ أرض الغزالة/ والأرجوان"
[*وفی الجداریة یعید محمود التأكید على حقه فی هذه الطقوس والأعیاد:*]
"فی عید الشعیر أزور أطلالی/ البهیة مثل وشم فی الهویة.. / وفی عید الكروم أعبّ كأساً/ من نبیذ الباعة المتجولین.. خفیفةٌ/ روحی، وجسمی مُثقلٌ بالذكریات وبالمكان"
هذه الذكریات وهذا المكان استحضرها محمود فی المشهد الافتراضی للعودة فی القصیدة الملحمة بعنوان مأساة الفضة ملهاة النرجس كما أسلفنا أعلاه:
"عادوا على أطراف هاجسهم الى جغرافیا السحر الإلهی/ والى بساط الموز فی أرض التضاریس القدیمة:/ جبلٌ على بحر/ وخلف الذكریات بحیرتان/ وساحلٌ للأنبیاء"
هذا الصراع على ذاكرة المكان یختتمه محمود فی قصیدة الجداریة كونه كان بین الوجود والعدم، فربما لأنه كان، شعریاً، على مسافة قصیرة من الموت، فقد استحضر مدینة عكا برمزیتها، كونها أجمل المدن القدیمة أو أقدم المدن الجمیلة كما قال، وعلى جسدها یكتب التاریخ كله، وكأنه یقول لأصحاب المشروع الاستیطانی: هذا هو آخر الكلام عندی:
"لدیّ ما یكفی من الماضی/ وینقصنی غدٌ../ سأسیرُ فی الدرب القدیم على/ خطایَ، على هواء البحر.../ هذا البحر لی/ هذا الهواء الرطب لی/ هذا الرصیف وما علیه/ من خطایَ وسائلی المنوی لی/ ومحطة الباص القدیمة لی.. ولی/ شبحی وصاحبه، وآنیة النحاس/ وآیة الكرسی، والمفتاح لی/ والبابُ والحراس والأجراس لی/ لی حذوة الفرس التی طارت/ عن الأسوار.. لی/ ما كان لی، وقصاصة الورق التی/ انتُزعتْ من الانجیل لی/ والملحُ من أثر الدموع على/ جدار البیت لی.. "
ویرحل الشاعر عنا، وتبقى عكا وسائر أرض كنعان وثقافة المتوسط له، فسلاماً على أرض كنعان، أرض الغزالة والأرجوان.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 21:45|