إشارات ورموز عربیـــة فی شعر السیــــاب
لقد
صرح السیاب مرة أنه ینتظر المؤلف الحدیث الذی یجمع الرموز العربیة فی شعره
من مظانها المتفرقة كیما یمكن الإفادة منها. ( 1 )
والحدیث عن دور الأسطورة والرمز فی الشعر الحدیث قد یطول بنا إذا تقصیناه ، یقول السیاب فی هذا السیاق :
" هناك مظهر مهم من مظاهر الشعر الحدیث هو اللجوء إلى الخرافة والأسطورة ، وإلى الرموز ، ولم تكن الحاجة إلى الرمز وإلى الأسطورة أمسّ مما هی علیه الیوم ، فنحن نعیش فی عالم لا شعر فیه - أعنی أن القیم التی تسوده قیم لاشعریة ، والكلمة العلیا فیه للمادة لا للروح ، وراحت الأشیاء التی كان فی وسع الشاعر أن یقولها أن یحولها إلى جزء من نفسه تتحطم واحدًا فواحدًا ، أو تنسحب إلى هامش الحیاة .
إذن فالتعبیر المباشر عن اللاشعر لن یكون شعرًا ، فماذا یفعل الشاعر إذا عاد إلى الأساطیر إلى الخرافات التی ما تزال تحتفظ بحرارتها ، لأنها لیست جزءًا من هذا العالم . عاد إلیها لیستعملها رموزًا ولیبنی منها عوالم یتحدى بها منطق الذهب والحدید " ( 2 ) .
وهو یعترف فی مكان آخر أن الرموز والأساطیر تخلص الشاعر من إلقاء كلماته بصورة نثریة وبلا واسطة ، وتضیف تداعیات لشعره . (3 )
ویرى ب . موریه أن هذه الرموز تساعد على خلق موسیقا جدیدة – موسیقا الفكرة – بالإضافة إلى إیقاع الوزن ، وهذا النوع من الموسیقا یشبه التنویعات السمفونیة – إنها عودة لنفس الفكرة التی تؤكد الموضوع الرئیسی للقصیدة ، وبالإضافة إلى التداعیات التی تثیرها هذه الرموز من التاریخ والمیثولوجیا فهی تساعد فی تجسید التشبیهات بصورة حیة ودقیقة أكثر، وتساعد الشاعر أن یكون مراقبًا حیادیًا أقل عاطفة ،وقادرًا على كبح مشاعره ( 4 ) .
ومن خلال ملاحظتنا لرموز السیاب نرى أنه یطعم قصائد بعناصر موحیة ، وهی عنده كالكنوز یلجأ إلیها مقارنًا بین ما كان وبین ما هو كائن ، وهو بها یعمق المعنى وینقل التجربة إلى جو إنسانی یستمد الجذور من التاریخ الفاعل والمحرك . وسنحاول هنا أن نصنفها ونحدد ماهیتها :
1- رموز من السیرة النبویة :
یقول السیاب :
محمد الیتیم أحرقوه فالمساء یضیء من حریقه ، وفارت الدماء ( ص 467 من المجموعة الكاملة 1 للسیاب ) ویقول :
" محمد النبی فی حراء قیدوه ……… ستأكل الكلاب من دم البراق " ( ص 468 )
فهو بهذه الأبیـــات لا ینقل إلینا الجو الدینی كما كان ، بل یقدم لنا صورة العذاب الذی عاناه محمد أكثر مما یجسم صورة النصر . ومحمد فی التاریخ لم یكن شهیدًا – حسب الاصطلاح المتولد فی بعد ، بل كان رمزًا للموقف والنضال . وهو یقول فی ضوء السیرة :
ولا ملأت حراء وصبحه الآیات والسور ( ص 184 )
وحراء هو الغار الذی نزل فیه الوحی على النبی ، بید أن السیاب یخلط بینه وبین غار (ثور ) - وثور فی الطریق إلى المدینة :
هذا حرائی حاكت العنكبوت
خیطًا على بابه ( ص 425 )
والعنكبوت حسب السیرة حاكت خیوطها على غار ثور (5) . وفی قول الشاعر :
وهبّ محمد وإلهه العربی والأنصار إن إلهنا فینا ( ص 402) استعادة لمواقف النصر فی تضامنه مع المغرب العربی ، وهو یشدد على كلمة ( العربی ) وصفـًا للإله حتى یؤكد عروبة المغرب ، أو لیظهر عروبته هو بصورة حادة بعد أن مر بتجربة الشیوعیة . 2- وإشارات التراث العربی القبلی نجد أصداءها عند الشاعر ، ففی قوله :
كما أكلوه إذ جاعوا إلههم……. ( ص400)
إشارة إلى بعض قبائل العرب ( روی أنهم بنو حنیفة ) ، إذ كانوا یصنعون آلهتهم من التمور ، فاذا جاعت القبیلة أكلت ما صنعته .
ویقول الشاعر :
أشم فیه عفن الزمان والعوالم العجیبة
من إرمٍ وعاد ( ص 605 )
وشاعرنا یتعامل مع ( إرم وعاد ) الواردتین فی القرآن الكریم كأنهما دلالة للعفن ، بید أن السیاب یختار فی قصیدة ( إرم ذات العماد – ص 602 ) روایة لقصة إرم - عن صیاد من الجنوب ( جد أبیه ) الذی تحدث عن أیام صباه ، وأنه رأى جنة عاد الضائعة ، ثم اختفت عنه ، وظل یبحث عنها ….وقد حاول السیاب هنا من خلال هذه الأسطورة التعبیر عن حنینه للماضی ، فمن قصص الحب المأثورة یضمّن الشاعر أبیـــاته :
وهی المفلـّیة العجوز وما توشوش عن حزام
وكیف شق القبر عنه أمام عفراء الجمیلة ( ص 318 )
ویعلق السیاب فی حاشیة القصیدة :
" هكذا أصبح اسم الشاعر العاشق عروة بن الحزام عند العامة الذین یروون قصة حبه لعفراء وموته ، ویرددون معانی قصیدته بشعر عامی " .
وتأخذ القصة مسارًا حزینًا وهو غریب على الخلیج ، وإذا كان قد استذكر قصة عروة وحزام فلا بدع أن تجد قصة عنترة وعبلة أصداءها كذلك :
……ذاك عنترٌ یجوب
دجى الصحاری إن حی عبلة المزار ( 604 )
ویعلق عز الدین إسماعیل فی مقاله " الشعر المعاصر والتراث العربی " :
" یستغل السیاب قصة الحب البدوی التی تردد فی التاریخ العربی ، وهی قصة عنتر وعبلة ، وذلك فی قصیدته - إرم ذات العماد - ولست فی حاجة أن أعید هنا ما قلته فی هذا التلاحم بین المأثور والواقع النفسی للشاعر ، فقد وجد الشاعر فی هذه القصة القبلیة توجیهًا نفسیًا كافیًا یجدد لنا المسار النفسی لشعوره الراهن ." ( 6 )
وأبو زید الهلالی - رمز البطولة العربیة الملحمیة له مكان أسطوری فی ثنایا قصائده ، حتى یتوافق مع اندفاعه وحماسه للعروبة :
والأمل الخالق من توثب الصغیر
الف أبی زید تفور الرغوة
من خیله الحمراء ( ص221 )
3- رمو ز من التاریخ العربی :
فی قصیدة ( مرثیة جیكور ) نجد حشدًا من الإشارات التاریخیة ساقها الشاعر فی معرض استهتار ، فهو یرمز للتاریخ بعصر ( تعبان بن عیسى ) ، وربما كان الاسم الأول لیسقط تعبه هو :
لا علیك السلام یا عصر تعبان بن عیسى وهنت بین العهود
ها هو الآن فحمة تنخر الدیدان فیها فتلتظی من جدید
ذلك الكائن الخرافی فی جیكور هومیر شعبه المكدود
جالس القرفصاء فی شمس آذار وعیناه فی بلاط الرشید
یمضغ التبغ والتواریخ والأحلام بالشدق والخیال الوئید
ما تزال البسوس محمومة الخیل لدیه وما خبا من یزید
نار عینین ألقتاها على الشمر ظلالا مذبحات الورید
كلما لز شمره الخیل أو عرى أبو زیده التحام الجنود
شد راحًا وأطلق المغزل الدوار یدحوه للمدار الجدید ( ص 407 )
فالشاعر مل حالة الخواء التی خلص إلیها أخیرًا من جراء مضغ التبغ والتواریخ والأحلام ، وقد لاحظنا حشدًا من الأسماء : الرشید – رمز البذخ ، والبسوس – معركة بكر وتغلب ، ویزید هو الذی أمر الشمر بقتل الحسین ، وكان مرتدیًا ثیابًا حمرًا ، وأبو زید اشتهر بملاحمه….. وفی هذه الإشارات جمیعًا رمز للحرب التی نجتر تفاصیلها بلا جدوى ، وهو یؤكد ثانیة فیقول :
لا علیك السلام یا عصر تعبان بن عیسى وهنت بین العهود !
4 – ومن الصوفیة رأینا الشاعر یستعمل ( ابن حلاج ) ، وهو تحریف للحلاج ( 858م – 932 م ) ، إذ یقول : ویا عهد كنا كابن حلاج واحد
مع الله إن ضاع الورى فهو ضائع (ص 354 ) ویرى د . إحسان عباس أنه استخف بفكرة التألیه ( 7 ) ، وهو هنا لا یدل على عمق إیمانه ، فیقول السیاب : الحسن ال بصری جاب أرض واق الواق ولندنَ الح دید والصخر فما رأى أحسن عیشًا منه العراق (ص301)
فهو یتخیل نفسه الحسن البصری الذی یمكن أن یكون أحد الاثنین أو كلیهما معًا :
1- الحسن البصری الصوفی (ولد فی البصرة 642م – 728 ).
2- الحسن البصری الرحالة الوارد فی قصص ألف لیلة ولیلة ، والباحث عن الكنوز، ویبدو لی من خلال معاینة أن الاحتمال الأول أكثر إقناعًا ، بسبب ارتباط الشاعر بالبصرة ، وبسبب الشعور الدینی الذی لازم السیاب ساعة مرضه . ونحن مع ذلك لا ننكر هنا أن ذكر ( واق الواق ) یدفعنا إلى التفكیر فی الاتجاه الثانی .
* * *
5- فیما وراء التاریخ من أساطیر وقصص دینیة – وأبرز رمز یستعمله الشاعر هو السندباد- صاحب الرحلات السبع ، وفی حیاة السیاب ضیاع ، والسندباد قالب أو قناع یصب فیه الشاعر معاناته واقتحامه وجوَبانه ، فیقول عن نفسه : ……. مثل سندباد یسیر حول بیضة الرخ ولا یكاد ( ص604) ویخاطب زوجته المنتظرة :
وجلست تنتظرین عودة سندباد من السفار ( ص 229 )
وبینما هو :
فلك سندباد ضل فی البحر
حتى أتى جزیرة تهمس فی شطآنها المحار ( ص654) وقصة قابیل وهابیل الواردة فی الكتب المقدسة یستعملها الشاعر رمزًا للشر فی قابیل ، ورمزًا لضیاع الحق لدى هابیل ، وهو یصرخ : قابیل فینا ما تهاوى أخوه ( ص383 ) والشاعر لا یرید أن یكون وریثا لقابیل خوفًا من أن یُسال السؤال الوارد فی التوراة بصورة إنكاریة :
ولا أكون وریث قابیل اللعین سیسألون
لمن القتیل فلا أقول
أأنا الموكل ویحكم بأخی ؟!
……….. إن قابیل المكبل بالحدید
فی نفسی الظلماء ….. ( ص552 ) یرمز هنا إلى قافلة الضیاع ، وهی اللجوء . لكن الفیتوری فی نقده لقصیدة ( قافلة الضیاع ) یذكر أن الأسطورة التی تعتمد علیها القصیدة تختلف اختلافًا جذریًا عن مأساة اللاجئین فی ارتكازها على التجربة .( 8 ) ویرد ذكر قوم یأجوج ومأجوج فی القرآن الكریم على أنهم مفسدون فی الأرض ( سورة الكهف 94 )، لكن الشاعر یستعمل الأسطورة وقد شرحها فی حاشیة ( ص 529 ) أن یأجوج ومأجوج یلحسان السور بلسانیهما كل یوم حتى تصبح فی رقة قشرة البصل ویدركما التعب ، فیقولان " غدًا سنتم العمل " وفی الغد یجدان السور على عهده من القوة والمتانة …..وهكذا حتى یولد لهما طفل یسمیانه ( إن شاء الله ) – فیحطم السور :
یأجوج یغرز فیه من حنق أظافره الطویله
ویعض جندله الأصم وكف مأجوج الثقیله
والسور باق لا یثل وسوف یبقى ألف عام
لكن ( إن شاء الإله )
طفلاً كذلك سمیاه
سیهب ذات ضحى و یقلع ذلك السور الكبیر ( ص529 )
وبعد ، فقد عرضت بعض هذه الرموز والإشارات فی سیاقها ، وأبنت مدى تداخلها فی نسیج السیاب الشعری . ولا شك أن هناك رموزًا أخرى فثقافة الشاعر وقراءاته قد لا تكون مسبورة الغور دائمًا ولدى مختلف القراء المختلفة ثقافاتهم .
إذن ، لتكن هذه جولة استكشافیة فی شعر السیاب وتصادیه مع التراث العربی فی الرموز والأساطیر .
ولمن یهمه الأمر أشیر إلى أننی كنت قد أصدرت كتابًا حول الأصداء القدیمة فی شعر السیاب - كما یتمثل ذلك فی لغة القرآن ، وأسالیب الشعر القدیم ، وقد صدرت الطبعة الثانیة عن مطبعة الحكیم ، الناصرة - ( 2006 ) .
الهوامش
1) عبد الجبار البصری : " دراسة جدیدة فی الشعر العربی المعاصر" ، الآداب ، نوفمبر 1964 ص 4 .
2) " أخبار وقضایا " ، مجلة شعر ، العدد الثالث السنة الأولى ص 111- 113 .
3) ن.م - ص 112
4) همزراح هحداش ( بالعبریة ) ، العددان 1-2 /1968 ، ص 33 .
5) ابن هشام : السیرة النبویة ، ج2 ص 13 .
6) الآداب شهر آب 1956 ص 64 .
7) إحسان عباس : بدر شاكر السیاب ،دار الثقافة ، بیروت – 1969 ، ص267 .
8) الآداب شهر آب 1956 ، ص 64 .
والحدیث عن دور الأسطورة والرمز فی الشعر الحدیث قد یطول بنا إذا تقصیناه ، یقول السیاب فی هذا السیاق :
" هناك مظهر مهم من مظاهر الشعر الحدیث هو اللجوء إلى الخرافة والأسطورة ، وإلى الرموز ، ولم تكن الحاجة إلى الرمز وإلى الأسطورة أمسّ مما هی علیه الیوم ، فنحن نعیش فی عالم لا شعر فیه - أعنی أن القیم التی تسوده قیم لاشعریة ، والكلمة العلیا فیه للمادة لا للروح ، وراحت الأشیاء التی كان فی وسع الشاعر أن یقولها أن یحولها إلى جزء من نفسه تتحطم واحدًا فواحدًا ، أو تنسحب إلى هامش الحیاة .
إذن فالتعبیر المباشر عن اللاشعر لن یكون شعرًا ، فماذا یفعل الشاعر إذا عاد إلى الأساطیر إلى الخرافات التی ما تزال تحتفظ بحرارتها ، لأنها لیست جزءًا من هذا العالم . عاد إلیها لیستعملها رموزًا ولیبنی منها عوالم یتحدى بها منطق الذهب والحدید " ( 2 ) .
وهو یعترف فی مكان آخر أن الرموز والأساطیر تخلص الشاعر من إلقاء كلماته بصورة نثریة وبلا واسطة ، وتضیف تداعیات لشعره . (3 )
ویرى ب . موریه أن هذه الرموز تساعد على خلق موسیقا جدیدة – موسیقا الفكرة – بالإضافة إلى إیقاع الوزن ، وهذا النوع من الموسیقا یشبه التنویعات السمفونیة – إنها عودة لنفس الفكرة التی تؤكد الموضوع الرئیسی للقصیدة ، وبالإضافة إلى التداعیات التی تثیرها هذه الرموز من التاریخ والمیثولوجیا فهی تساعد فی تجسید التشبیهات بصورة حیة ودقیقة أكثر، وتساعد الشاعر أن یكون مراقبًا حیادیًا أقل عاطفة ،وقادرًا على كبح مشاعره ( 4 ) .
ومن خلال ملاحظتنا لرموز السیاب نرى أنه یطعم قصائد بعناصر موحیة ، وهی عنده كالكنوز یلجأ إلیها مقارنًا بین ما كان وبین ما هو كائن ، وهو بها یعمق المعنى وینقل التجربة إلى جو إنسانی یستمد الجذور من التاریخ الفاعل والمحرك . وسنحاول هنا أن نصنفها ونحدد ماهیتها :
1- رموز من السیرة النبویة :
یقول السیاب :
محمد الیتیم أحرقوه فالمساء یضیء من حریقه ، وفارت الدماء ( ص 467 من المجموعة الكاملة 1 للسیاب ) ویقول :
" محمد النبی فی حراء قیدوه ……… ستأكل الكلاب من دم البراق " ( ص 468 )
فهو بهذه الأبیـــات لا ینقل إلینا الجو الدینی كما كان ، بل یقدم لنا صورة العذاب الذی عاناه محمد أكثر مما یجسم صورة النصر . ومحمد فی التاریخ لم یكن شهیدًا – حسب الاصطلاح المتولد فی بعد ، بل كان رمزًا للموقف والنضال . وهو یقول فی ضوء السیرة :
ولا ملأت حراء وصبحه الآیات والسور ( ص 184 )
وحراء هو الغار الذی نزل فیه الوحی على النبی ، بید أن السیاب یخلط بینه وبین غار (ثور ) - وثور فی الطریق إلى المدینة :
هذا حرائی حاكت العنكبوت
خیطًا على بابه ( ص 425 )
والعنكبوت حسب السیرة حاكت خیوطها على غار ثور (5) . وفی قول الشاعر :
وهبّ محمد وإلهه العربی والأنصار إن إلهنا فینا ( ص 402) استعادة لمواقف النصر فی تضامنه مع المغرب العربی ، وهو یشدد على كلمة ( العربی ) وصفـًا للإله حتى یؤكد عروبة المغرب ، أو لیظهر عروبته هو بصورة حادة بعد أن مر بتجربة الشیوعیة . 2- وإشارات التراث العربی القبلی نجد أصداءها عند الشاعر ، ففی قوله :
كما أكلوه إذ جاعوا إلههم……. ( ص400)
إشارة إلى بعض قبائل العرب ( روی أنهم بنو حنیفة ) ، إذ كانوا یصنعون آلهتهم من التمور ، فاذا جاعت القبیلة أكلت ما صنعته .
ویقول الشاعر :
أشم فیه عفن الزمان والعوالم العجیبة
من إرمٍ وعاد ( ص 605 )
وشاعرنا یتعامل مع ( إرم وعاد ) الواردتین فی القرآن الكریم كأنهما دلالة للعفن ، بید أن السیاب یختار فی قصیدة ( إرم ذات العماد – ص 602 ) روایة لقصة إرم - عن صیاد من الجنوب ( جد أبیه ) الذی تحدث عن أیام صباه ، وأنه رأى جنة عاد الضائعة ، ثم اختفت عنه ، وظل یبحث عنها ….وقد حاول السیاب هنا من خلال هذه الأسطورة التعبیر عن حنینه للماضی ، فمن قصص الحب المأثورة یضمّن الشاعر أبیـــاته :
وهی المفلـّیة العجوز وما توشوش عن حزام
وكیف شق القبر عنه أمام عفراء الجمیلة ( ص 318 )
ویعلق السیاب فی حاشیة القصیدة :
" هكذا أصبح اسم الشاعر العاشق عروة بن الحزام عند العامة الذین یروون قصة حبه لعفراء وموته ، ویرددون معانی قصیدته بشعر عامی " .
وتأخذ القصة مسارًا حزینًا وهو غریب على الخلیج ، وإذا كان قد استذكر قصة عروة وحزام فلا بدع أن تجد قصة عنترة وعبلة أصداءها كذلك :
……ذاك عنترٌ یجوب
دجى الصحاری إن حی عبلة المزار ( 604 )
ویعلق عز الدین إسماعیل فی مقاله " الشعر المعاصر والتراث العربی " :
" یستغل السیاب قصة الحب البدوی التی تردد فی التاریخ العربی ، وهی قصة عنتر وعبلة ، وذلك فی قصیدته - إرم ذات العماد - ولست فی حاجة أن أعید هنا ما قلته فی هذا التلاحم بین المأثور والواقع النفسی للشاعر ، فقد وجد الشاعر فی هذه القصة القبلیة توجیهًا نفسیًا كافیًا یجدد لنا المسار النفسی لشعوره الراهن ." ( 6 )
وأبو زید الهلالی - رمز البطولة العربیة الملحمیة له مكان أسطوری فی ثنایا قصائده ، حتى یتوافق مع اندفاعه وحماسه للعروبة :
والأمل الخالق من توثب الصغیر
الف أبی زید تفور الرغوة
من خیله الحمراء ( ص221 )
3- رمو ز من التاریخ العربی :
فی قصیدة ( مرثیة جیكور ) نجد حشدًا من الإشارات التاریخیة ساقها الشاعر فی معرض استهتار ، فهو یرمز للتاریخ بعصر ( تعبان بن عیسى ) ، وربما كان الاسم الأول لیسقط تعبه هو :
لا علیك السلام یا عصر تعبان بن عیسى وهنت بین العهود
ها هو الآن فحمة تنخر الدیدان فیها فتلتظی من جدید
ذلك الكائن الخرافی فی جیكور هومیر شعبه المكدود
جالس القرفصاء فی شمس آذار وعیناه فی بلاط الرشید
یمضغ التبغ والتواریخ والأحلام بالشدق والخیال الوئید
ما تزال البسوس محمومة الخیل لدیه وما خبا من یزید
نار عینین ألقتاها على الشمر ظلالا مذبحات الورید
كلما لز شمره الخیل أو عرى أبو زیده التحام الجنود
شد راحًا وأطلق المغزل الدوار یدحوه للمدار الجدید ( ص 407 )
فالشاعر مل حالة الخواء التی خلص إلیها أخیرًا من جراء مضغ التبغ والتواریخ والأحلام ، وقد لاحظنا حشدًا من الأسماء : الرشید – رمز البذخ ، والبسوس – معركة بكر وتغلب ، ویزید هو الذی أمر الشمر بقتل الحسین ، وكان مرتدیًا ثیابًا حمرًا ، وأبو زید اشتهر بملاحمه….. وفی هذه الإشارات جمیعًا رمز للحرب التی نجتر تفاصیلها بلا جدوى ، وهو یؤكد ثانیة فیقول :
لا علیك السلام یا عصر تعبان بن عیسى وهنت بین العهود !
4 – ومن الصوفیة رأینا الشاعر یستعمل ( ابن حلاج ) ، وهو تحریف للحلاج ( 858م – 932 م ) ، إذ یقول : ویا عهد كنا كابن حلاج واحد
مع الله إن ضاع الورى فهو ضائع (ص 354 ) ویرى د . إحسان عباس أنه استخف بفكرة التألیه ( 7 ) ، وهو هنا لا یدل على عمق إیمانه ، فیقول السیاب : الحسن ال بصری جاب أرض واق الواق ولندنَ الح دید والصخر فما رأى أحسن عیشًا منه العراق (ص301)
فهو یتخیل نفسه الحسن البصری الذی یمكن أن یكون أحد الاثنین أو كلیهما معًا :
1- الحسن البصری الصوفی (ولد فی البصرة 642م – 728 ).
2- الحسن البصری الرحالة الوارد فی قصص ألف لیلة ولیلة ، والباحث عن الكنوز، ویبدو لی من خلال معاینة أن الاحتمال الأول أكثر إقناعًا ، بسبب ارتباط الشاعر بالبصرة ، وبسبب الشعور الدینی الذی لازم السیاب ساعة مرضه . ونحن مع ذلك لا ننكر هنا أن ذكر ( واق الواق ) یدفعنا إلى التفكیر فی الاتجاه الثانی .
* * *
5- فیما وراء التاریخ من أساطیر وقصص دینیة – وأبرز رمز یستعمله الشاعر هو السندباد- صاحب الرحلات السبع ، وفی حیاة السیاب ضیاع ، والسندباد قالب أو قناع یصب فیه الشاعر معاناته واقتحامه وجوَبانه ، فیقول عن نفسه : ……. مثل سندباد یسیر حول بیضة الرخ ولا یكاد ( ص604) ویخاطب زوجته المنتظرة :
وجلست تنتظرین عودة سندباد من السفار ( ص 229 )
وبینما هو :
فلك سندباد ضل فی البحر
حتى أتى جزیرة تهمس فی شطآنها المحار ( ص654) وقصة قابیل وهابیل الواردة فی الكتب المقدسة یستعملها الشاعر رمزًا للشر فی قابیل ، ورمزًا لضیاع الحق لدى هابیل ، وهو یصرخ : قابیل فینا ما تهاوى أخوه ( ص383 ) والشاعر لا یرید أن یكون وریثا لقابیل خوفًا من أن یُسال السؤال الوارد فی التوراة بصورة إنكاریة :
ولا أكون وریث قابیل اللعین سیسألون
لمن القتیل فلا أقول
أأنا الموكل ویحكم بأخی ؟!
……….. إن قابیل المكبل بالحدید
فی نفسی الظلماء ….. ( ص552 ) یرمز هنا إلى قافلة الضیاع ، وهی اللجوء . لكن الفیتوری فی نقده لقصیدة ( قافلة الضیاع ) یذكر أن الأسطورة التی تعتمد علیها القصیدة تختلف اختلافًا جذریًا عن مأساة اللاجئین فی ارتكازها على التجربة .( 8 ) ویرد ذكر قوم یأجوج ومأجوج فی القرآن الكریم على أنهم مفسدون فی الأرض ( سورة الكهف 94 )، لكن الشاعر یستعمل الأسطورة وقد شرحها فی حاشیة ( ص 529 ) أن یأجوج ومأجوج یلحسان السور بلسانیهما كل یوم حتى تصبح فی رقة قشرة البصل ویدركما التعب ، فیقولان " غدًا سنتم العمل " وفی الغد یجدان السور على عهده من القوة والمتانة …..وهكذا حتى یولد لهما طفل یسمیانه ( إن شاء الله ) – فیحطم السور :
یأجوج یغرز فیه من حنق أظافره الطویله
ویعض جندله الأصم وكف مأجوج الثقیله
والسور باق لا یثل وسوف یبقى ألف عام
لكن ( إن شاء الإله )
طفلاً كذلك سمیاه
سیهب ذات ضحى و یقلع ذلك السور الكبیر ( ص529 )
وبعد ، فقد عرضت بعض هذه الرموز والإشارات فی سیاقها ، وأبنت مدى تداخلها فی نسیج السیاب الشعری . ولا شك أن هناك رموزًا أخرى فثقافة الشاعر وقراءاته قد لا تكون مسبورة الغور دائمًا ولدى مختلف القراء المختلفة ثقافاتهم .
إذن ، لتكن هذه جولة استكشافیة فی شعر السیاب وتصادیه مع التراث العربی فی الرموز والأساطیر .
ولمن یهمه الأمر أشیر إلى أننی كنت قد أصدرت كتابًا حول الأصداء القدیمة فی شعر السیاب - كما یتمثل ذلك فی لغة القرآن ، وأسالیب الشعر القدیم ، وقد صدرت الطبعة الثانیة عن مطبعة الحكیم ، الناصرة - ( 2006 ) .
الهوامش
1) عبد الجبار البصری : " دراسة جدیدة فی الشعر العربی المعاصر" ، الآداب ، نوفمبر 1964 ص 4 .
2) " أخبار وقضایا " ، مجلة شعر ، العدد الثالث السنة الأولى ص 111- 113 .
3) ن.م - ص 112
4) همزراح هحداش ( بالعبریة ) ، العددان 1-2 /1968 ، ص 33 .
5) ابن هشام : السیرة النبویة ، ج2 ص 13 .
6) الآداب شهر آب 1956 ص 64 .
7) إحسان عباس : بدر شاكر السیاب ،دار الثقافة ، بیروت – 1969 ، ص267 .
8) الآداب شهر آب 1956 ، ص 64 .
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 21:57|