ابزار وبمستر

الرفض فی الشعر الحدیث
الرفض فی الشعر الحدیث

إذا كان لا بد من كلمة تقال فی شعر التفعیلة أو الشعر الحدیث كما یحلو للبعض تسمیته تكون مفتاحه أو تلخص مساره أو مضمونه فلن تكون تلك الكلمة غیر كلمة الرفض، إنه شعر استهل مشواره الإبداعی بالتمرد على عمود الشعر الكلاسیكی، ولئن حاول بعض الشعراء المحدثین التجدید فی الشعر باطراح التقلید والتكلف اللغوی بانتقاء اللفظ البراق والحرص على الصدق الفنی والتأكید على التجربة الوجدانیة شأن الرابطة القلمیة وجماعة الدیوان وجماعة أبولو فإن رواد الشعر الحدیث رفضوا هذا الموقف مصرین على الثورة حریصین على سلوك مسلك فی الشعر فرید من نوعه لا یكتفی من التجدید بما سلف ذكره، بل یرفض عمود الشعر ویتمرد على القافیة لأنها تخنق روح الإبداع وتؤكد تبعیة الشاعر للغة فضلا على الإصرار على روح التقلید و رتابة الماضی.

تكبیر النصتصغیر النصنص فقط

وهكذا فالشعر الحدیث استهل رفضه بالثورة على القالب الشعری زاعما أن القالب التقلیدی لا ینسجم مع روح العصر و لا یلبی الاحتیاجات الفكریة و الجمالیة المستجدة خاصة و عصرنا هو عصر العلم والدیموقراطیة والحریة الإنسانیة – حریة الفكر و المعتقد – وعصر حصلت فیه المرأة على حقوقها ناهیك عن تأثیر الإحتكاك بالثقافة الأوروبیة التی تدمر روح الجمود لحساب روح الإبتكار وتؤكد على المضمون الإنسانی و تحرص على احترام فردیة الإنسان وتمیز كیانه الفكری و الإیدیولوجی والتی هی فی النهایة خلاصة التجربة الدیموقراطیة المنبثقة عن الثورة الفرنسیة و إعلان حقوق الإنسان هذه القیم التی تمثلها شعراؤنا المحدثون وتبنوها كقناعات فكریة ومن ثمة تبلور الرفض وتحتمت الثورة كصرخة عمیقة تزلزل الروح موقظة إیاها من سبات عمیق وخدر فكری زین للإنسان العربی أوهام الماضی على أنها حقائق وفی مقدمتها فكرة تاریخیة عمیقة تداولتها الأجیال على أنها مسلمة لا یأتیها الباطل من بین یدیها ولا من خلفها وهی فكرة المركزیة ونعنی بها اعتقاد العربی أنه مركز التاریخ ودرة الوجود وحامل لواء الحقیقة وما عداه فذیل أو هو على الهامش، لا هو فی العیر و لا هو فی النفیر وقد انتهت تلك الأفكار بالعربی إلى إدانة العقل و تبنی التقلید وانتشار الثقافة الفقهیة على حساب الثقافة العلمیة ووئدت الحریة و أجهز على الروح الإنسانیة فی المرأة وهمشت أحقابا طویلة كما استبد الحاكم وعبث بالإنسان وبالمال العام فعمت الجهالة وانتشرت الفوضى وترسخت الطبقیة و أصبحت الحیاة العربیة إلى تاریخ الحملة الفرنسیة على مصر عام 1798 حیاة عبثیة مجردة من القصدیة انتهت بالعالم العربی إلى الوقوع فریسة سهلة بین مخالب القوى الاستعماریة الفرنسیة و الإنجلیزیة خاصة كنتیجة حتمیة لتراكمات العصور السابقة بظلالها القاتمة.

فهذه الأفكار شكلت القناعة الراسخة لدى شعراء الرفض فی شعرنا الحدیث وحركت فی نفوسهم وضمائرهم مشاعر السخط والتمرد بحثا عن حریة افتقدوها فی رحاب مجتمع غارق فی دیاجیر الجهالة والعماء، وكانت أولى بوادر هذا الرفض و إرهاصاته هی رفض القالب الشعری القدیم لأنه اهتم بالقشور على حساب اللباب و بالزیف على حساب الحقیقة و بالمصلحة الفردیة على حساب المصلحة الجماعیة والتی تنأى بالشاعرعن دروب الحریة و تلقی به فی قرار العبودیة حارمة خلایاه من التجدد فی رحاب الطبیعة والزمان فرواد الشعر الحدیث إذا أخرجوا الشعر من القمقم الذی وضعه فیه الخلیل منذ القرن الثانی الهجری واضعا عنه أغلال القافیة هادما حیطان البیت ذی الشطرین المتساویین واضعا هندسة جدیدة وتصمیما آخر هو صنو الحریة و ابن التلقائیة لا ابن التكلف یتمشى وحدة الانفعال و زخم الأفكار و فردانیة الـتأمل، إنه شعر هو الذی یضبط الموسیقى و یتحكم فیها و لیست هی بالمتحكمة فیه فالسطر یطول أو یقصر حسب حدةالشعور و أهمیة اللحظة وموقف الشاعر منها وفی الصمیم یحتفی هذا الشعر بالموسیقى الداخلیة لا بالموسیقى الخارجیة و یكون النص الشعری فی النهایة رؤیا وموقفا فردانیا للشاعر من الوجود فی تداخل مظاهره وتفاعل عناصره وذلك ما یجعل من الشعر موقفا من العالم و إعادة صیاغة له تتجاوز واقعه الموضوعی إلى علاقته الجدلیة بالذات الشاعرة و اندغام تلك الذات فی هذا الواقع وفق صیغة إنسانیة ولیست میكانیكیة و فی المحصلة أنسنة الوجود لا وصفه خارجیا وهذا هو الإنجاز الأول الذی حققه الشعر الحدیث فی رفضه لكل ما غدا دوغمائیا جاهزا أثر الماضی فیه أطغى من أثر الحاضر ولا عجب أن یبدأ الرفض من القالب الشعری ذاته وفی رفض النموذج الخلیلی باعتباره مرحلة من مراحل التاریخ الثقافی والجمالی للأمة العربیة.

ولعل أكبر الرافضین فی الشعر الحدیث " أدونیس" ورفضه إنسانی یشمل قیم الوجود وواقع الأمة فی ماضیها و حاضرها وتجلیات هذا الواقع فی السیاسة والفكر والدین والعلاقات الاجتماعیة یقول الشاعر

أفتت العالم كی أمنحه الوجود

ضاربا بعصای الصخر حیث ینبجس الرفض

یغسل جسد البسیطة

معلنا طوفان الرفض

معلنا سفر تكوینه

وللطوفان دلالة خاصة ذلك أنه مصطلح دینی تداولته الكتب السماویة وهو یعنی اجتثاث الواقع و سحقه إیذانا بمیلاد عالم جدید لأن ذلك الواقع انتهى إلى العقم و إلى الجدب والتصالح معه لا یجدی ثم یأتی المصطلح التوراتی الثانی " سفر التكوین " الذی یعنی البدایة الأولى والخلق من جدید، وكأنه الواقع الذی تدنس أخلاقیا بدلیل كلمة " یغسل " فی السطر الثالث والتی تعنی عقم الواقع وعطالته وتجرده من القیم الإنسانیة والحریة حجر الزاویة فیها والتی ابتذلتها المؤسسات الرسمیة السیاسیة والدینیة والثقافیة، فغدا الإنسان رقما فی العالم لا حزمة من المشاعر والرؤى والمواقف الفردیة التی تتأكد بها إنیته میزته عن باقی الموجودات و أدونیس ( علی أحمد سعید ) الشاعر السوری المعاصر أكثر الشعراء إثارة للجدل و الاهتمام فی ذات الوقت ذلك أنه شاعر ملغز حلزونی الفكر لا یعطی سره للمراودة الأولى بل یظل محتفظا بسحره وبضبابیته فی ذات الوقت مع الاحتفاظ بقیمته كشاعر صاحب رؤیا وموقف ذاتی من العالم یلخص الأزمة الوجودیة لكل واحد منا إذا ضرب بعصا ه الصخر حیث ینبجس الرفض وقرر أن یتمرد على الدوغمائیات الدینیة و السیاسیة بالمعاییر الأخلاقیة بحثا عن عالم إنسانی لا یكون الواحد منا فیه رقما بل ینطوی فیه العالم الأكبر.

من أنت ؟

من تختار یا مهیار ؟

أنى اتجهت

الله أو هاویة الشیطان

هاویة تذهب أو هاویة تجئ

والعالم اختیار

لا الله أختار و لا الشیطان

كلاهما یغلق عینی

هل أبدل الجدار بالجدار ؟ فإذا قیل: إن العالم اختیار فالشاعر یثور على هذه الكلمة لأنها تعنی الاختیار ا لقسری الذی هو اضطرار مادام الإختیار یقود إلى مسلكین عالم الله وعالم الشیطان و فی النهایة یتقلص حجم الحریة الإنسانیة و یصیب الإنسان مسخ فیصبح كأنه فأر تجارب لا یمكنه أن یسلك إلا أحد المسلكین مسلك الإیمان و التسلیم والقول بأنه لیس فی الإمكان أبدع مما كان ومسلك التمرد و العصیان الذی غدا رتیبا تقلیدیا لأنه مسلك مرسم ومنظر له سیاجاته وحدوده فی الفكر و الشعور و كلا المسلكین یرفضهما الشاعر لأنهما یحدان من نظرته الإنسانیة وطابعه الفردانی وتأملاته فی آفاق بكر وعوالم لم تطأها قدم انسان من قبل وترى الشاعر فی نظرته إلى الوجود یصر على المسلك الإنسانی فهو یرفض المیتافیزیقا لأنها ارتبطت فی اللاوعی بالقهر والرهاب وربما القمع المترسبة عواقبه فی الوجدان من مغبة العصیان وارتكاب الخطیئة بالأكل من الشجرة المحرمة والخوف من فواجع القدر والباحث عن دروب الحریة وآفاق الإنسانیة لابد له أن یرفض كرفض الشاعر البعد الرأسی ویصر على البعد الأفقی لیتأله الناسوت ویتأنسن اللاهوت وهو ما توحی به كلمة " انحناء" فی هذا المقطع:

مات إله كان من هناك

یهبط من جمجمة السماء

لربما فی الذعر والهلاك

فی الیأس والمتاه

یصعد من أعماق الإله

فالأرض لی سریر وزوجة

والعالم انحناء

وإذا كان الرفض فی المقطع الأول هو رفض وجودی وفی الثانی میتافیزیقی فهو فی المقطع الثالث سیاسی، والسیاسة لها سیاجها الدوغمائی و أطرها القهریة ومؤسساتها القمعیة و آصارها اللانسانیة فتختصر الإنسان إلى حزمة من الغرائز أو تجعله ككلب" بافلوف" رهین المنعكسات الشرطیة بین مؤثر و استجابة ولعل المثقف العربی أكثر المثقفین تحملا لأعباء السیاسة وقهرها ولا انسانیتها فهی هرم كبیر یجثم على الصدر و یكتم الأنفاس حجارتها ازدادت صلادة مع كر الدهور منذ الأمویین وإلى الآن ومؤسساتها أطر للتضلیل و التدجین ولذا یرفضها الشاعر ویرفض دوغمائیتها مؤثرا دور المنبت الذی لا أرضا قطع و لا ظهرا أبقى

ولكن هذا المنبت وبحكم انسانیته و بطبعه الاجتماعی وروابطه الإنسانیة أقوى من أن یظل من الأوابد فالإنفصال عن المجموع ما هو إلا جری وراء السراب فی الحقیقة، والإنسان یستمد بقاءه من الجماعة فهو یحیا فیها و بها وهی التی تلهمه الثورة والتمرد وتعزز فیه ذاتیته وتشحذ ذهنه للبحث عن اللباب والمضمون الإنسانی فی العلاقات الاجتماعیة وفی أشكال الإنتاج و الرافض یظل یترنح بین قطبی الاتصال و الانفصال أی هو المتصل المنفصل و المنفصل المتصل

ترید وننی أن أكون مثلكم

تطبخوننی فی قدر صلواتكم

تمزجوننی بحساء العساكر وفلفل الطاغیة

ثم تنصبوننی خیمة للوالی

و ترفعون جمجمتی بیرقا

آه یا موتى ؟ تعیشون كالبلاط

یفصلنی عنكم بعد بحجم السراب

لا أستطیع أن أحیا معكم

لا أستطیع أن أحیا إلا معكم

و یأتی كذلك فی طلیعة الشعراء المحدثین الرافضین الشاعر اللبنانی خلیل حاوی ولعل موته منتحرا بعد غزو إسرائیل للبنان و اجتیاح بیروت عام 1982 تعبیر عن رفضه السیاسی ذلك الرفض الذی كان صرخة فی وجه الأنظمة العربیة القابلة للواقع المملى علیها الراضیة بالتدجین القانعة من الصراع بالتطبیع إنه رفض للهزیمة وعد م اعتراف بشرعیة الواقع الذی صارت إسرائیل طرفا فاعلا فیه ورفض للأنظمة العربیة الفاقدة للشرف وللعذریة والتی أسلمت فلسطین لمصیرها التراجیدی وتهاونت فی قضیة لبنان و سكتت عن احتلال الجولان و انتهت مصر لقمة سائغة بعد اتفاقیات كامب دیفید كل هذه الجروح لم تندمل فی روح الشاعر و ضمیره الذی اقتنع بأن كل شىء فی العالم العربی قد أجدب و أصیب بخصاء فكری و أخلاقی ووجدانی بما فیه الحیاة الثقافیة ورأى أن المعادل الموضوعی لهذا المأزق الوجودی هو الموت فرحل بإرادته تعبیرا عن حالة رفض كلا نی للواقع وعدم اعتراف بشرعیته و فی شعر خلیل حاوی نقع على هذا الرفض بغیر عناء كبیر ففی قصیدته " ضباب و بروق " نقع على حالة یأس تام استسلم لها الشاعر وحالة عطالة انتهى إلیها و لا أدل على ذلك من استخدام كلمة "المقهى" الموحیة بالعطالة وأما حالة الجدب والخصاء والیأس فتعبر عنها فی هدا المقطع كلمة " البوم و أما لفظة" النسر" فدلالتها هی الشموخ و الكبریاء إنها كلمات مشبعة بالرفض ومضمخة بالیأس:

ضجة المقهى ضباب التبغ

مصباح و أشباح یغشیها الضباب

ویغشى رعشة فی شفتی السفلی

یغشى صمت وجهی ووجومه

أفرخ البوم

ومات النسر

فی قلبی الذی اعتاد الهزیمة

والشاعر لا ینسى أن یذكرنا بأحلامه الماضیة ولعلها الشبابیة حین كان طالبا فی جامعة كمبردج، وكیف كان الحلم ناصعا بغد عربی مشرق ووحدة عربیة ونهضة فكریة و علمیة و أدبیة و اندحار للفكر الصهیونی المتطرف فی بلادنا و تلاشی لكل التیارات العمیاء المتطرفة الدینیة و السیاسیة فی عالمنا العربی وقد جد الشاعر و اجتهد باحثا عن المعرفة التی سیوظفها فی خدمة هذا الحلم و عن النور الذی سینیر به حلكات الطریق مضحیا بمصلحته الشخصیة لحساب مصلحة المجموع:

طالما جعت افترست الجمر

أتلفت الیالی

أتقی ماأشتهیه وأهاب

وأطیل الجوع حتى ینطوی الجوع

على موت الرغاب

ثم جاءت ساعة الحقیقة وانجلى الواقع على قبض الریح وحصاد الهشیم فلا الوطن تحرر ولا العدو انحدر ولا المجتمع تقدم وانتهى الشاعر نازفا بالدماء كأنه أحد أبطال التراجیدیا الإغریقیة كأنه برومیثیوس بعدأن بدأ مشواره كأحد أبطال السیر الشعبیة وكأنه أبو زید الهلالی، وهو فی الأخیر رفض لایصنع شیئا ولا یغیر واقعا غیر حفظ الكرامة الإنسانیة وصیانتها عن الإبتذال لقاء أی عرض من أعراض السیاسة أو الرفاه وإذا كان الأمر كذلك فلا جرم أن تدمر الذات إنقاذا لها من مزید من المعاناة الصامتة:

فی جبال من كوابیس التخلی والسهاد

حیث حطت بومة سوداء تجتر السواد

الصدى والظل والدمع جماد !

وأما الشاعر الكبیر عبد الوهاب البیاتی ذلك الشاعر الذی طوف فی الدنیا منفیا ومشردا من موسكو إلى مدرید وإلى دمشق فقد جسد فی شعره وفی حیاته حالة الرفض للقهر السیاسی واستبداد الحكام وحالة الرفض لكل السلطات الدنیویة والدینیة كالإكلیروس الدینی والمؤسسات السیاسیة والثقافیة الرسمیة لأنها تمارس الإكراه على الحریة الإنسانیة وتعتدی على الكرامة البشریة وقد امتد رفض البیاتی هذا إلى الإعجاب برافضین من تاریخنا العربی ومن العالم الغربی، فمحی الدین بن عربی الشاعر الأندلسی صاحب فلسفة وحدة الوجود والفتوحات الملكیة كان فی تصوفه وفی حبه رافضا للثقافة السائدة والتدین الساری متبنیا موقفا إنسانیا فریدا لا علاقة له بما هو جاری العمل به فی الواقع،وقد نال هذا الشاعر احترام وحب البیاتی إلى درجة أنه أوصى أن یدفن إلى جواره فی دمشق.

ویمتد إعجاب البیاتی إلى شاعر كبیر من إسبانیا هو فریدیریكو غارسیا لوركا وهو فی الشعر الإسبانی شاعر رافض ورفضه أدى إلى موته مقتولا على أیدی قوات فرانكو دیكتاتور إسبانیا.

لقد رفض لوركا الثقافة الرسمیة التی تنص على مركزیة أوربا وهامشیة العالم الآخر كما رفض النظریة التی تربط التفوق بلون البشرة والدم، وترجع تقهقر إسبانیا الصناعی والعلمی قیاسا إلى فرنسا وألمانیا إلى الوجود العربی أیام الأندلس، فقد رفض هذا الشاعر البدیع أن یعتبر الوجود العربی الإسلامی فی إسبانیا احتلالا حال دون تقدم شبه الجزیرة الإیبیریة، بل اعتبره وجودا حضاریا أفاد اسبانیا عمرانیا وعلمیا وفكریا وفنیا لم یحسن الإسبان فیما بعد احتضانه وتمثله فكانت همجیة فرناند وإیزابیلا وجنودها التی صنعت فضائح وفضائع یندى لها جبین الإنسانیة وقد عبر لوركا عن مواقفه هذه شعرا وفی لقاءاته الصحفیة إلى درجة إقلاق النظام الحاكم فأعدمته قوات فرانكو تخلصا منه ومن مواقفه.

إذا وجد البیاتی فی هذا الشاعر صدیقا كما وجد ذلك فی شاعر المتصوفة وصوفی الشعراء محی الدین بن عربی والبیاتی یرفض تخاذل المثقف فی السكوت على ظلم الحاكم والتعلل لذلك بقوة السلطان وجبروته وحاجات النفس والتمادی فی هذا الموقف المتخاذل إلى درجة التحول من سیف یناضل ضد القهر والعماء إلى مروحة تجلب للحاكم النسیم العلیل لقاء اتقاء شره والظفر بمغانم الدنیا !

ولقد كان الشاعر مؤمنا أن الثقافة الحقة یجب أن یتحلى الموصوف بها بصفة النضال ضد الطبقیة والرجعیة والتخلف والقهر لحساب النهضة والحریة والكرامة خاصة والمجتمع العربی فی المنعطف لم یخرج إلى آفاق العلم والحریة والإبداع الرحبة كغیره من شعوب العالم المتمدن.

إنه یرفض المثقف المتحول إلى حزمة من الغرائز تنشد الإشباع فی البلاط ساكتة عن جرائم السلطان مؤثرة المصلحة الفردیة على حساب مصلحة الجماعة فهو یقول عن المثقف:

یداعب الأوتار

یمشی فوق حد السیف والدخان

یرقص فوق الحبل

یأكل الزجاج

ینثنی مغنیا سكران

یقلد السعدان

یركب فوق متنه الأطفال فی البستان

یخرج للشمس إذا مدت إلیه یدها اللسان

یكلم النجوم والأموات

ینام فی الساحات !

فهذا المثقف الذی كان یفترض فیه أن یكون طلیعیا تحول إلى بهلوان یجید الریاء والتلاعب بمشاعر الأمة وخداعهم والتمویه علیهم، لقد صار كالدرویش رمزا للسذاجة والغفلة وقد غدا الأمر هزأة فهو ینام فی الساحات ویكلم الأموات ویتعامل بغباء مع قیم الثورة والحریة والعطاء فیخرج للشمس إذا مدت إلیه یدها اللسان ! ونأتی فی خاتمة المقال إلى شاعر مثیر للجدل لاتكف الألسن عن تداول اسمه وتردید شعره فهو فی المحدثین كأبی الطیب فی القدماء إنه الشاعر السوری نزار قبانی فقد كانت حیاته هو الآخر تجسیدا لمبدأ الرفض وكان شعره بلورة له وذهابا به إلى أقصى المعمورة صراخا وتشهیرا به، وأما رفضه فیتجلى فی موقفه من المرأة ومن الحب حین رفض روایة المؤسسة الرسمیة الملیئة بالنفاق والتحایل والقهر والكذب والسادیة واحتقار الكرامة الإنسانیة المتجلیة فی الأنوثة وفی الحط من قدرها وتلخیصها فی میزاتها الجنسیة لأنه مجتمع الكوالیس، یبطن غیرما یظهر ویرى الحب جریرة والحدیث عنه دعارة ولا یرى مانعا من ممارسته فی الخفاء ألا إنه مجتمع منحط حین یأتی الرجل والمرأة كلاهما فعلا واحد فیرى الرجل بطلا والمرأة مومسا، وقد جسد هذا الرفض فی انتقامه للأخت المنتحرة التی رفضت هی الأخرى زواجا قسریا مفضلة الموت علیه بالتشهیر بالحب وبنعیمه وبالتغنی بمواطن الفتنة فی المرأة وفی الإعلاء من شأن الأنوثة منذ صدور دیوانه الأول" طفولة نهد" الذی تحول تحت ضغط المؤسسات الرسمیة الوصیة إلى " طفولة نهر"

وأما الرفض السیاسی فللشاعر فیه صولات وجولات منذ صدور" هوامش على دفتر النكسة"، وقد كان الشاعر فضاحا للمواقف المتخاذلة مشهرا بها لا یهادن ولا یسالم معتبرا جبن الساسة وتخاذلهم بل ونفاقهم هو الذی أسلم فلسطین إلى أعدائها ورهن مستقبل كامل البلاد العربیة وفی قصیدته المشهورة التی بعث بها إلى جامعة الدول العربیة بتونس والتی عنوانها" أنا متعب بعروبتی" یتجلى هذا الرفض فی حالة من الثورة العارمة والإنفعالات الحادة المعبرة عن عمق الجرح ونزیفه ولقد كتبها الشاعر على الطریقة العمودیة لیرد على مؤسسة رسمیة بقالب شعری رسمی نظر له الخلیل لایعوزه التحكم فیه والسیطرة علیه وقد كان تأثیر هذه القصیدة مدویا لأنها صادفت هوى جمیع العرب وعبرت عن مكنون ضمائرهم فمن رفض طغیان الساسة:

من أین یأتی الشعر یا قرطاجة

والله مات وعادت الأنصاب؟

من أین یأتی الشعر حین نهارها

قمع وحین مساؤنا إرهاب؟

سرقوا أصابعنا وعطر حـروفنا

فبأی شىء یكتب الكتاب ؟

والــــحكم شرطی یسیر وراءنا

فنـكهة خــــبزنا استجواب



إلى رفض استبداد المؤسسات الثقافیة وممثلیها من الشعراء خاصة:

من أین أدخل فی القصیدة یاترى

وحدائق الشعر الجمیل خراب؟

لـــــم یبق فی دار الــبلابل بــلبل

لا الــبحتری هنــا ولا زریــاب

شعراء هذا الیوم جـــنس ثـــالث

الـــــقول فوضى والكلام ضباب

اللاهثون على هـــوامش عمرنا

سیان إن حضروا وإن هم غابوا

إذا لقد كان الشعر الحدیث بتمثله لمبدأ الرفض شعرا تقدمیا وإنسانیا وكان هؤلاء الشعراء الأعلام فرسان الكلمة ورجال الموقف نأوا بالشعر عن قصور الحكام ونزهوا الشعر عن تضمنه العربدة المحببة إلى قلوب الجماهیر، لقد طوحوا به فی آفاق الإنسانیة الرحبة، والتزموا حقا- كما یلح جون بول سارتر على فكرة الإلتزام فی الأدب وعلى ضرورة تأمیمه- بقضایا الوطن وتاریخه العریق وحاضره التعس ومستقبله المرهون بلا خطابیة فجة أو إیدیولوجیة مقیتة فحافظ شعرهم على طراوته ونكهته الوجدانیة ومضامینه الفكریة والإنسانیة، وقد ساعدهم على ذلك نفس شعری قوی لا یخمد وروح تجدیدیة عنیدة لا تقهر ولا تخبو نارها، ووعی بالواقع فی علاقاته المتشابكة خاصة مع الغرب سیاسة وثقافة بل وقوتا، فجاء هذا الشعر فی صیغته الحدیثة شعرا انسانیا – على الرغم من عثراته ونقائصه-وقد أثبت قوته وشبابه وحصانته وأنه قادر على اكتساح المنابر الثقافیة وضم المریدین والأشیاع رغم تمرده على الذاكرة والخطابیة ورنة الترنم، وهو رد حاسم على كل المشككین فی جدوى الشعر الحدیث.

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 21:58|