ابزار وبمستر

الحنین إلى الأوطان فی شعر المهجریی

الحنین إلى الأوطان فی شعر المهجریی

إذا كان لمصر فضل السبق فی تجدید أدبنا العربی وبعثه فی حلة قشیبة، موفور الصحة، تام العافیة، فقد كانت أرض الكنانة منذ عصر الفاطمیین قبلة العالم العربی الثقافیة والدینیة، ففیها وجد أدباء الشام الحریة والمناخ الملائم للإبداع والنشاط الخصب ونذكر على سبیل المثال-لا الحصر- جرجی زیدان ویعقوب صروف ومی زیادة وغیرهم ولمطبعة بولاق فضل لا ینكر ومزیة لا تجحد فی نشر الأدب والثقافة وتعمیم نورهما على العالم العربی الخارج لتوه من ظلمات العصور الوسطى، المستفیق من سبات عمیق حجب عنه نور العلم وثمرة الفكر وإشعاع الحریة، وكیف یجحد فضل مصر وثلاثة من كبار شعرائها هم الذین أحیوا الشعر العربی؟ ونقصد البارودی وشوقی وحافظ، وثلاثة من كبار كتابها هم الذین بینوا الطریق الصحیح للأدب ووجهوا الناشئة إلى دروب الإبداع حسب المقاییس الفنیة؟ ونقصد العقاد وطه حسین وإبرهیم عبد القادر المازنی. على أن مصر لم تكن فی المضمار فریدة فالشام ردیفتها وصنوها فی التجدید والإحیاء ورسم معالم النهضة الأدبیة الحدیثة ولعل هذا ماعناه شاعر النیل- حافظ إبرهیم- حین قال:

لمصر أم لربوع الشام تنتسـب

هنا العلا وهناك المجد والحسب

ركنان للشرق لازالت ربوعهما

قلب الهلال علیهما خافق یجب

خدران للضاد لم تهتك ستورهما

ولا تحول عن مغناهـما الأدب

أیرغبان عن الحسنى وبینهـما

فی رائعات المعالی ذلك النسب؟

فأدباء الشام- سوریة ولبنان- لهم فی التجدید الید الطولى وتحدیدا أولئك الذین قست علیهم الحیاة فی وطنهم وشظف عیشهم بعد أن جف الضرع واستعصت سبل الرزق، وتأسن الوضع السیاسی بفعل البطش العثمانی، فلم یكن أمامهم من باب یطرقونه غیر باب الهجرة، ولامن سبیل یلوذون بها غیر سبیل الفراق أملا فی عیش رغید وحریة یتعشقونها ومناخ ریاحه لواقح وتربته بلیلة تستنبت بذور الفكر والأدب. وإنها لمنة نحمدها للأقدار ورب ضارة نافعة، فقد كانت تلك الهجرة فأل خیر وبشرى بأدب حی وفكر صحیح وضمیر صاح، ولسنا فی حاجة إلى أن نذكر بقول شاعرنا أبی تمام:

وطول مقام المرء بالحی مخلق

لـدیباجتیه فـاغتـرب تتجـدد

فإنی رأیت الشمس زیدت محبة

إلى الناس أن لیست علیهم بسرمد

فهذان البیتان من محفوظاتنا المدرسیة أتینا على ذكرهما لمجرد الذكرى – والذكرى تنفع المؤمنین-. وإذا ذكر أدب المهجر تبادر إلى الذهن جماعة الرابطة القلمیة فی المهجر الشمالی- أمریكا- والعصبة الأندلسیة فی المهجر الجنوبی- البرازیل والأرجنتین-. وأهل الشام -أحفاد الفنیقیین- معرفون بارتیاد البحار واصطیاد الشمس والكمون للقمر تجری المغامرة فی عروقهم مجرى الدم أو كما قال شاعر النیل عنهم:

بأرض "كولمب" أبطال غطارفـة

أسد جیاع إذا مـاووثبوا وثبوا

رادوا المناهل فی الدنیا ولووجدوا

إلى المجرة ركبا صاعدا صعدوا

أو قیل فی الشمس للراجین منتجع

مدوا لها سببا فی الجو وانتدبوا

سعوا إلى الكسب محمودا وما فتئت

أم اللغات بذاك السعی تـكتسب

ولقد اغتنت أم اللغات بتلك الهجرة المیمونة بالشعر الصافی السلس المنبجس من الوجدان ومن الفكر الحی الصحیح الملقح بالتجارب الغربیة حیث الصناعة والعلم والدیموقراطیة والحریة ودور المرأة الحی الفاعل فی المجتمع، وهذا مانجد صداه فی أدب جبران خلیل جبران ومیخائیل نعیمة وآل المعلوف وجورج صیدح وأمین مشرق ومیشال مغربی وعبد المسیح حداد وجورج صوایا وغیرهم ممن یضیق هذا المقال عن حصرهم. إنما الذی یعنینا فی هذا المقال كیف كان الحنین إلى الوطن وإلى الأم وإلى الحبیبة وإلى الشلة وإلى ذكریات العید، ومرابع زحلة وشواهق صنین ونواعیر حماة وخریر بردى سببا فی هذا الإبداع الخالد المستل من الوجدان، المكتوب بدم الفؤاد، الممهور بشهقة الروح الفاعلة الخلاقة. إن الانسان حین یهاجر یصاب بالفصام كل حسب استعداداته النفسیة وطاقاته الروحیة فقد تكونت شخصیة المهاجر فی وطنه، وتلونت روحه بأطیاف الوطن من دین ولغة وعادات وطرائق معیشة بل ومناخ وتضاریس، فجاء فكره انعكاسا لمحیطه، ثم ترك وطنه للأسباب التی ذكرناها آنفا فإذا به فسیلة أو شجرة تزرع فی تربة غیر تربتها الأولى، إنها عادات جدیدة وطرائق حیاة مستحدثة وفلسفة فی الحیاة غیر الأولى، والمهاجر مجبر على هضم هذا الموضوع وتقبله لینجح فی حیاته-المادیة على الأقل- ولكنه فی الواقع وفی غیاهب اللاوعی تكمن عادات ولغة وأسلوب معیشته الأول فی الوطن الأم هنا تتجلى المعاناة وتتضخم المأساة، وتتشظى الروح فنجد أشلاءها فیما أنتجه أولئك المهاجرون من شعر ونثر هو الدم والدمع بالنسبة لأصحابه وإكسیر البهاء والنقاء لأدبنا الذی غفا فی كهف السجع والتوریة وشعر المناسبات، وأدب الرسائل الإخوانیة المتسمة بالریاء المتسربل بالوقار والكذب المتشح بوشاح الوفاء بالعهد إنها معاناة روحیة وجودیة وضعت صاحبها بین مطرقة الضرورة وسندان الحبیب الأول(الوطن). على حد قول شاعرنا:

كم من منزل فی الأرض یألفه الفتى

وحنینـه أبدا لأول مـنزل

ونحن فی هذا المقال راصدون أشتاتا من تلك المعاناة المتجلیة فی الحنین إلى مراتع الصبا وحضن الأم وسماء الوطن فیما أنتجة أدباء المهجرین- الشمالی والجنوبی- لنرى كیف كان التجدید فی الشكل حین ذابت الأصباغ وتلاشت المساحیق وفی المضمون حین قبر الریاء الماكر والتقلید الأعجم، والإنصراف عن الحیاة وهموم الناس، وتطلیق المسؤولیة الأخلاقیة للأدیب فی مغالبة الفساد ومصارعة الاستبداد وقهر الرجعیة وقهر نرعة الردة إلى عصر المغارة. إن حب الوطن والحنین إلیه والوفاء له هو المطهر من الإثم الذی یشعر به الأدیب إن أصاب حظا من النجاح المادی والمكانة المرموقة فی مجتمعه الجدید، إنه اللاوعی یتخلص من عقدة الذنب التی تسللت إلى نفس الأدیب لرهافة حسه ونبل ضمیره وصفاء فكره. وهاهو زكی قنصل الأدیب السوری الذی ولد بیبرود عام 1917م وهاجرإلى الأرجنتین فهو من جماعة العصبة الأندلسیة یحن إلى مراتع الصبا ومرابع اللهو فی نضارة الطفولة إقرأ هذا المقطع وتذوق جماله الفنی واستشعر شیئا من الأسى وقدر هذا الحنین من الشاعر إلى وطنه: أیها الـعائدون للشام هلا

نفحة من شمـیم أرض النبوه

علم الله كم صـبونا إلیها

واشتهینا تحت الـعریشة غفوه

وتحسس ألم الضلوع، وانظر عبرة الشوق تتحدر من المآقی، وقدر مافی هذا القلب من شوق ومن حنین: یـاعائدین إلـى الـربوع

قـلبی تحـرق للـرجوع

نهنهتـه فـازداد تـحنانا

وعـربـد فی الضـلوع

یـاعائدین إلـى الـحمى

قلـبی به عـطش وجوع

بـالله هـل فی الـمركب

متسـع لملـهوف ولـوع

وحـزمت أمـتعتی فـیا

قلب ارتقب یوم الرجـوع

وهو یحسن وصف أوجاع الغربة وألم البعاد ومكابدة السهاد واسمعه یقول:

ویح الغریب على الأشواك مضجعه

وخبزه من عجین الهم والتعب

یعیش عن ربعه بالجسم مغتربا

وقلبه وهواه غیر مغترب

یستقبل اللیل لا تغفو هواجسـه

ویوقظ الفجر فی لیل من الكرب

یعلل النفس بالرجعى ویخدعها

فهل تحقق بالرجعى أمانیه؟

أما نعمة قازان المولود فی لبنان عام 1908م والذی استقر فی البرازیل وكان من جماعة " العصبة الأندلسیة فهو كصاحبه یذكر التحنان ویقاسی وجع الغربة ویتعشق عهد الطفولة ویتمنى لو تطأ قدمه أرض وطنه لبنان: بـلادی أأستـطیـع نـكراها

إذن فاقلعوا الحب من بزرتی

ولـبـنان أمـی بـه حفنـة

سقـتك السـموات یـاحفنتی

وأهلـی ومـا أقـول بـأهلی

ومـاذا أقـول بمـحبوبـتی؟

أقـول بـقاع الـدنیا حـلوة

وأحـلى بـقاع الـدنیا بقعتی

وكـنت مـع الله فـی قریتی

فصـرت بـلا الله فی غربتی

وكـنت غـنیا مـع الـقـلة

فصرت فقیـرا مـع الكـثرة

ولولا الحبیب وعودی الرطیب

رمانی اللهیب إلـى الشـهوة

ولـولا الـرجاء بعـود الرجا

قـذفت بنفسی إلـى الـهوة

وفی شعر هذا الشاعر بعض الركاكة اللغویة والفقر الفنی كقوله<وماذا أقول بأهلی، وماذا أقول بمحبوبتی؟>. وفی شعر المهجریین وأدبهم بعض الإسفاف والكثیر من ركاكة التعبیر والخروج عن قواعد اللغة-على غیر علم وبصیرة- وهو ما أخذه عمید الأدب العربی الدكتور -طه حسین- على كبیرهم الذی علمهم السحر إیلیا أبی ماضی، ولكن یشفع لهم أنهم لم یتخرجوا من جامعة ولاترددوا على حلقات اللغة والأدب، وزد على ذلك حیاتهم خارج أوطانهم یتكلمون بغیر لغتهم وحسب المرء أن ینتج شیئا من هذا الشعر السلس الراقی ولسانه تعود على الكلام بغیر لغته الشعریة. إنما هی الموهبة والسلیقة والكد الشخصی والعصامیة والتعلق باللغة العربیة والقدرة على قرض الشعر والاسترسال فی النثر كانت العوامل الداخلیة زد علیها هم الغربة ونكدها وحال الشرق وسباته هی التی حدت بهؤلاء إلى البروز فی فن القول شعرا ونثرا. وهاهو الشاعر حسنی غراب الحمصی المولود عام 1899م یتحدث عن وطنه أجمل حدیث كأنه كلام منتزع من سویداء القلب ومن بؤبؤ العین:

أبعد حمص لنا دمع یراق على

منازل أم بنا من حادثات هلع؟

دار نـحن إلیـها كلـما ذكرت

كـأنما هـی من أكبادنا قطع

وملـعب للصبا نـأسى لـفرقته

كـأنه من سواد العین منتزع

وهذا شاعر آخر من فتوح كسروان اللبنانیة شكر الله الجر والمقیم بالبرازیل والعضو فی العصبة الأندلسیة لایخفی تحنانه ولله ما أحلى ذكره لكلمتی الشیح والعرار وهما موحیتان بخصائص الریف الشامی وبلاد العرب عامة اقرأ معی قوله:

ذكـر الأرز بعـد شط مزاره

أی جـرح یسیل من تذكاره

لیس أشهى علـى القلوب وأندى

مـن شذا شیحه ونفح عراره

واقرأ معی هذا البیت الذی یذیب القلب ویقطع الكبد تحسرا فلئن یئس الشاعر من الأوبة إلى بلده فرجاؤه الوحید أن یدفن فی أرضه: إن حـرمنا من نعمة العیش فیه

ما حرمنا من مرقد فی جواره

أما قصة هجرته ومالاقى فی سبیلها من لجاج النفس وشك الضمیر وتردد العقل فقد وصفها أبدع وصف نكتفی منها بهذا المقطع:

ركـبنا من الیم طودایقل الـ

عـباد فـكل إلـى رغبـته

فـیاله مـن مشـهد للـوداع

یـذیب الـحدید على قسوته

فـأم تـضم إلـى قـلـبـها

وحـیدا یـسیر لأمـنیتـه

وأخ یكـفكف دمـع أخـتـه

وزوج یـرفه عن زوجتـه

فیالیت شعری أیحظى المهاجر

فیما یـرجیه مـن هـجرته

ویالیت شـعری أیلقىالمسافر

یـوما سبیـلا إلـى أوبته؟

أم أن اللـیالـی تـزری بـه

فتذرو الفتى الحر فی تربته؟

فـلا أم تبـكی علـى قـبره

ولا أخت تسقی ثرى حفرته؟

وأما نعمة الحاج من غرزوز بلبنان والمقیم بالولایات المتحدة فیزید على أصحابه السابقین فی ذكر الحنین والوفاء للأهل والوطن هم الصحوة والبعث والتجدید فی الحیاة العربیة أدبا وفكرا وأسلوب معاش:

مـا نـسـینا ویشـهد الله أنـا

نـحن بـالروح حیث كـنا

إن بـعدنـا وإن قـربنا فلبنـا

ن سنـاه یشع فینـا ومـنا

نـحن فی الأرض أنجم ونسور

حلت الـعالیات برجاووكنا

هـذه الـنهضة الـحدیثة منكم

قربت منذ نحن بالأمس بنا

قـد نـفحنا ببوقـها وأثـرنـا

نارها والعیون إذ ذاك وسنى

أیـقظتكم مـن الـكرى فهبتم

وأجـدتم تجدیدها فهی أسنى

وازدهـى العمران والعلم والفن

تـراه الـعیون أكمل حسنا

أما شفیق المعلوف شقیق فوزی المعلوف الزحلاوی والمولود عام 1905م والمستقر فی البرازیل ففی قصیدته "بین شاطئین" استهلال لموضوع الحنین بالحدیث عن الوداع والعبرات وخفق الفؤاد:

ذراع مـلاق إثر كـف مودع

تلوحان لی كلتاهما خلف مدمعی

منادیل من ودعت یخفقن فوقهم

فـلا ترهقیهم یـاسفین واقلـعی

بـعدن فـغشاهن مـعی كأننی

أراهن من خلف الزجاج المصدع

ویزید فی هذه القصیدة وصفه لانبهاره بالعمران فی أمریكا وبحضارتها:

خـلیلی بدت جبارة المدن تزدهی

بأعظم ماازدانت به الأرض فاخشع

أدارت علـى الآفاق مشعل عزها

ومدت إلـى الشمس كـف یـوشع

وأعلت بروجا فی الغمام رؤوسها

فما تظفر الحدثـان منـها بـمطمع

مـدینة جن جـود الإنـس نحتها

بـإزمیـل جـبار وحكـمة مـبدع

ثم اسمعه یقول صادقا عن التحنان والوفاء:

أطـل علیكم والمنى تزحم المنى

بصدری وأنتم ملء قلبی ومسمعـی

لـئن تسألوا مافی الجنوب فإننی

حـملت إلـیكم قـلبه خافقا مـعی

ویختم ذلك كله بالمهمة الموكلة إلى أصحابه فی بعث الأدب العربی وإحیاء لغته:

وإن لـواء نـحن قـمـنا نـهزه

خـفوقا على حصن البیان الممنع

لـواء ظـفرتم أنـتم بـاكتسابه ونـحن ركزنـاه بـأرفع موضع

ولا شك أنه یعنی بقوله "ظفرتم أنتم" أدباء مصر وهو ما أشرنا إلیه فی بدایة المقال.

وأما مسعود سماحة المولود فی لبنان عام 1882م والمستقر فی أمریكا فإن حنینه لوطنه ووفاءه له أنطقه بهذین البیتین وهما دعوة إلى الثورة ومقاومة الاستبداد اسمعه یخاطب أهل لبنان:

مشت القرون وكل شعب قد مشى

مـعها وقومك واقفون ونـوم

لـم تـرتفع كف لـصفعة غاشم

فـیهم ولـم یـنطق بتهدید فم

وأما رشید أیوب المعروف بالدرویش والمولود فی نفس قریة میخائیل نعیمة "بسكنتا" بلبنان عام 1872م والذی استقر فی الولایات المتحدة ففی قصیدته المسافر یذكر المخاطرة والهجرة والآمال: دعتـه الأمـانی فخلى الربوع

وصار وفـی الـنفس شیـئ كثیـر

وفی الصدر بین حنایا الضلوع

لـنیـل الأمـانـی فـؤاد كـبیـر

فـحث المطایا وخاض البحار

ومـرت لـیـال وكـرت سـنون

ولم یرجع

ویعد الشاعر القروی رشید سلیم الخوری المولود ببربارة بلبنان عام 1887م والذی عاش فی البرازیل أمتن شعراء الجنوب لغة وأقدرهم على التصرف فی القریض وأجودهم فی تخیر اللفظ الموحی بمرارة الغربة ووحشة الأمل وأمل العودة واقرأ معی هذا المقطع من قصیدة عند الرحیل: نـصحتك یـانفس لا تـطمعی

وقلت حذار فلم تسمعـی

فـإن كـنت تستسهلین الـوداع

كمـا تدعین إذا ودعـی!

خـرجت أجرك جـر الكسیـح

تئنین فی صدری الموجع

ولـما غدونـا بنصف الطریق

رجعت ولیتك لم ترجعی

كفاك اضـطرابا كصدر المحیط

قفی حیث أنت ولاتجزعی

سأقضی بنفسی حقـوق العـلى

وأرجع فانتظری مرجعی

وما أجمله من إیحاء حین یذكر تركه لروحه فی وطنه الأم وحمل جثته إلى المهجر. ویأتی بعد القروی فی متانة اللغة وجودة السبك والتصرف فی القول إلیاس فرحات من كفرشیما فی لبنان والمولود عام 1893م والذی أقام فی البرازیل ولعل هذا المقطع هو من أشهر أشعاره تغنى بها المشرق والمغرب عن وحدة العرب:

إنـا وإن تـكن الشآم دیـارنا

فقـلوبـنا للـعرب بـالإجمال

نهوى العراق ورافدیه وماعلى

أرض الجزیرة من حصا ورمال

وإذا ذكرت لنا الكـنانة خلتنا

نـروى بسـائغ نیلـها السلسال

بـنا ومـازلنا نشاطر أهـلها

مـر الأسـى وحـلاوة الآمال

أما جورج صیدح الدمشقی والذی أقام فی الأرجنتین فلله ما أحلى حدیثه عن حنینه إلى دمشق ووفائه لها وألم البعاد عنها:

أنـا ولیدك یـا أماه كـم مـلكت

ذكراك نفسی وكم ناجاك وجدان

منذ افترقنا نعیم الـعیش فـارقنی

والـهم والـغم أشكـال وألوان

عهد الشباب وعهد الشام إن مضیا

فكل ما أعطت الأیـام حرمـان

وفی قصیدته "المهاجر" وصف للمعاناة النفسیة وتباریح الجوى:

كـیف یرتـاح وتذكار الحمى

كـلما أقعده الـجهد أقامه؟

بـرجه الـعاجی مـن یقطنه

إنـه یقطن بالروح خیامـه

ویبـعث الـمال سلاما للحمى

فالحمى بلا مال یأبى السلامه

قـل لـمن یحمیه فـی غربته

إن مـن أعدائه اللد غـرامه

أما مایلاقیه الفذ من ازدراء فی وطنه وتقدیر فی غیره فقد عبر عنه أجمل تعبیر:

رب أحجار بها الشرق ازدرى

أصبحت فی حائط الغرب دعامه

أما الشاعر المصری الكبیر أحمد زكی أبو شادی (1892-1955م) والذی استقر فی أمریكا وكان من مؤسسی جماعة أبولو التی جددت فی الأدب خاصة الشعر منه وعرفت هذه المدرسة برومنطیقیتها فقد خاطب أمریكا –وطن الحریة-قائلا:

لـجأت إلـیك یـاوطنا تغنى

بـه الأحـرار واعتز الـنشید

فـإنك منبری الحـر المرجى

وبدء نهاری بل عـمر جـدید

وقد كان نزوح أحمد زكی أبی شادی إلى أمریكا هروبا من استشراء الفساد وتعفن الوضع السیاسی وانعدام الحریة ولكنه فی غربته فی العالم الجدید یحن إلى وطنه فاسمعه یقول:

بكى الربیع طروب فی مباهجـه

وقد بكیت أنا حبـی وأوطانـی

أنا الغریب وروحی شاركت بدنی

هذا العذاب بأشواقی وأحزانـی

لی فی ثرى مصر دمع نائح ودم

أذیب من مهجتی اللهفى ونیرانی

تركته مثل غرس الحب ما ذبلت

أزهاره أو أغـاثت روح لهفان

أشمها فی اغترابی حین تلذعنی

ذكرى الشباب وذكرى عمری الفانی

واسمع معی میشال مغربی المغترب فی ساوباولو یتأسف على عمره الضائع هدرا فی بلاد الغربة وینصح شباب العرب بالبقاء فی أوطانهم:

وأناالذی باع الشبیبـة خاسرا

بجلاده وجهاده المتوالـی

أثر النضال على الجبین ترونه

ما الاغتراب سوى حیاة نضال

شطر المهاجر لاتولوا أوجها

كالخاسرین ربوعهم أمثالـی

أوطانكم أولى بكم و بسعیكم

وبما ملكتم من كریم خصال

ولأنتمو أولى بطیب هوائها

وجمالها المزری بكل جمال

ویأتی إیلیا أبو ماضی المولود بقریة "المحیدثة" بلبنان عام 1889م والذی استقر بأمریكا وكان من الأعضاء المؤسسین للرابطة القلمیة فی طلیعة الشعراء الذین تغنوا بالأوطان ووصفوا الحنین إلیها ولوعة البعد عن الخلان، واستذكروا عهد الصبا واقرأ معی هذا المقطع یخاطب لبنان ویناجیه:

وطـن النجوم أنا هنـا

حـدق أتذكر من أنا ؟

أنـا ذلك الـولد الـذی

دنیـاه كـانت هـاهنا

أنا مـن مـیاهك قطرة

فاضت جداول من سنا

كم عانقت روحی رباك

وصـفقت فی المنحنى

وما أجمل قوله لوطنه لبنان یعتذر له فیه عن البعد عنه ویتعلل لذلك بركوب الأخطار والطموح إلى المعالی والنزوع إلى الأمجاد:

لبنان لا تعدل بنیك إذا هم

ركبوا إلى العلیاء كل سفین

لم یهجروك ملالة لكنهم

خلقوا لصید اللؤلؤ المكنون

لما ولدتهم نسورا حلقوا

لا یقنعون من العلا بالدون

إذا فقد كانت الغربة وتباریحها مهمازا للقریحة وجناحا للتحلیق فی سماء الخلق الفنی وقد استفاد أدبنا العربی من هذه الغربة فتجدد وجهه وازدان بهاء ورونقا، وأصبح الشعر على ید هذا اللفیف من الشعراء تعبیرا عن الوجدان، ووصفا لخلجات النفس وخفقات الفؤاد، بلغة صافیة رقراقة متخلصة من أصباغ التكلف وطلاء التصنع، متعالیة عن الحذلقة البیانیة والبهلوانیة الانشائیة، وفی هذا الأدب كثیر من السقطات وسفاسف القول ولكنها لا تلغی أهمیة هذا الأدب بل تجعل أدباءه فی الطلیعة، مع أدباء المشرق الذین تعاونوا یدا بید ویراعا بیراع وتزاوجت خفقات قلب بقلب، وخلجات نفس بنفس، وطموح روح بروح على إخراج أدبنا من سبات الكهوف ونفض غبار القرون الوسطى عن حروفه حتى یصیر كآداب الدنیا، أدب الحیاة بما فیها من صخب ونشاط وهم وترح وفرح وماشئت من أطیاف الحیاة.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 22:12|