حافظ الشیرازی والتراث العربی
أسرار الإبداع فی شاعریته
شمس الدین محمد المعروف حافظ الشیرازی والملقب بلسان الغیب وترجمان الأسرار من أعظم شعراء الغزل فی الأدب الفارسی بل الأدب العالمی.
تاریخ ولادته على أفضل تقدیر عام 726ه/1325م وتاریخ وفاته على أفضل تقدیر أیضاً عام 791ه/1388 أو 1389 وعلى هذا یكون قد عاش نحواً من خمس وستین سنة. وتزیّن حیاته زهاء ثلاثة أرباع القرن الثامن الهجری والقرن الرابع عشر المیلادی.
وإذا كانت المدن ترسخ وجودها على الأرض بالاتساع والعمران واستمرار البقاء فإن بعضها یؤكد خلوده فی غمار الزمان بأبنائه العظام. ولاشك أن شیراز تدین بشهرتها الواسعة الآبدة لعلمائها الكبار وعارفیها الفضلاء ولكنها تدین بشهرتها خاصة لولدیها العالمیّین العظیمین سعدی فی القرن السابع الهجری وحافظ فی القرن الثامن.
ولد حافظ فی هذه المدینة من أب كان یشتغل بالتجارة. وكان أصغر أولاده الثلاثة. وتوفی الوالد وتفرق الأخوة. وبقی الابن الصغیر شمس الدین محمد مع والدته فی شیراز. وتذكر الموسوعة الإسلامیة نقلاً أنه كان له أخت أیضاً.
اشتغل حافظ فیما یروى حین كان صغیراً أجیر خباز: فكان یفیق فی غلس اللیل لیقوم بعمله حتى الفجر. فإذا فرغ اشتغل بالعبادة. ثم انصرف إلى حلقات بعض العلماء الأعلام فی مدینته یأخذ عنهم علوم عصره شأن الفتیان الذین تفتحت قلوبهم وبصائرهم على محبة العلم والتفقه فیه.
وأقبل خاصة على دراسة علوم الدین واللغة العربیة والفارسیة وبرع فی ذلك كله، وحفظ القرآن الكریم وهو فتى فوصف بالحافظ، حتى غدا هذا الوصف لقباً له شُهِر به وتمسك هو به حتى جعله اسماً له یزهى به. بل كان یعزو الفضل فی لطف شعره وسحر بیانه إلى ما یرمز إلیه هذا اللقب.
وله بیت من الشعر الفارسی یفید هذا المعنى:
ما رأیت ألطف من شعرك یا حافظ بالقرآن الذی یكنّه صدرك
وقد أجاد اللغة العربیة إجادة تامة واطلع على التآلیف العربیة التی كانت متیسرة ورائجة فی بلده شیراز.
درس "الكشاف عن حقائق التنزیل" لأبی القاسم جار الله الزمخشری (متوفى 538) و "المصباح" فی النحو للإمام ناصر بن عبد السید المطرزی، (متوفى 610) و "طوالع الأنوار من مطالع العلوم" فی البلاغة وفی بقیة العلوم للعلامة سراج الدین یوسف أبی یعقوب السكاكی (متوفى عام 626).
ونلاحظ أن هؤلاء المؤلفین جمیعهم من إیران وخوارزم. وأحدهم وهو البیضاوی أبو الخیر ناصر الدین عبد الله بن عمر نسبته إلى البیضاء وهی مدینة بإقلیم فارس قریبة من شیراز تدعى الیوم تل بیضا، اسمها عربی مفرد فی فارس، دعاها بهذا الاسم الجنود العرب الذین عسكروا فیها بعد إذ حصنوها حین حاصروا اصطخر زمن الفتح الإسلامی. وكانت قلعتها تستبین من بعد ویرى بیاضها وهی تقع فی شرق الوادی الجمیل شعب بوان.
وإنما توافرت كتب أولئك المؤلفین بفضل انتشار الوراقة ولقرب العهد بها ولتدریسها جیلاً بعد جیل. هذا وتسلسل التعلیم والروایة عن العلماء والإجازات التی تخرج الطلاب النبهاء متواصلة فی تلك الحضارة الواسعة لشرف العلم والعلماء فیها.
وقد نشأ حافظ وشهر بعلمه واطلاعه على العلوم العربیة والآداب العربیة والفارسیة وسمی معلماً فی مدرسة شیراز. وهو قد أحب مدینته حب سلفه سعدی لها، ولكنه لم یقم على خلاف سعدی بأسفار طویلة ما عدا سفراً قصیراً إلى بندر هرمز وسفراً آخر إلى مدینة یزد وزیارة لقبر علی الرضا فی مشهد. وقضى سائر عمره فی شیراز التی تَمَلَّى أرضها وسماءها وكان طوال حیاته هزارها الذی تغذى جناها وسلسالها وغنى جمالها أجمل غناء. وقد دفن فیها وغدا ضریحه مزار الناس ومرتاد المعجبین بشعره وغزله.
شیراز مدینة بنیت أو جددت فی أثناء خلافة عبد الملك بن مروان وأثناء حكم الحجاج بن یوسف الثقفی للعراق. ویروى أن أول من بناها محمد بن یوسف أخو الحجاج ولاّه أخوه على إقلیم فارس فبنى هذه المدینة كما یروى أن محمد بن القاسم ابن أبی عقیل وهو ابن الحجاج وفاتح الهند هو الذی بناها.
كانت معسكراً للمسلمین لما حاصروا مدینة اصطخر ثم جدد حكامها عمارتها وغدت مدینة عربیة إسلامیة كالدرة فی إقلیم فارس وورثت مجد العاصمة القدیمة اصطخر. وقد ازدهرت فی القرن الرابع الهجری حین اتخذها البویهیون مستقراً لهم وقاعدة لملكهم فی فارس. وبلغت فی زمن عضد الدولة فناخسرو ابن ركن الدولة شأواً عظیماً من العمران. وقد قصدها أبو الطیب المتنبی حین أرسل إلیه بعد وفادته على ابن العمید عضد الدولة یستزیره فحظی عنده وفاز ببعض أمانیه ومدحه بمدائح خالدة منها قصیدته التی یصف بها شعب بوان وقد مر به فی طریقه إلیه.
ثم أهملت شیراز وفقدت مكانتها حین انتقلت السلطة السیاسیة إلى البقاع الشمالیة من إیران. ولكنها مع ذلك بقیت وما زالت حتى الآن كالحدیقة الغناء الحافلة بالریاض والورود ولاسیما الورد الجوری هو صنو الورد البلدی أی الورد الدمشقی الذی سارت شهرته فی العالم أجمع. والنعت الجوری نسبة إلى مدینة جور القریبة من شیراز وهی التی بدّل اسمها عضد الدولة فجعله فیروزا باد وقد نسب إلى شیراز جماعة كثیرة من العلماء فی كل فن وكذلك جماعة من الزهاد والصوفیة أشهرهم أبو عبد الله محمد بن خفیف الشیرازی شیخ الصوفیة إذ ذاك. ولكثرة الصوفیة والزهاد فیها دعیت "برج الأولیاء". كما أنه نبغ فیها بعد حین من الزمان وفی بدایة العهد الصفوی فلاسفة مشهورون من أبرزهم صدر الدین الشیرازی الملقب "ملاّ صدرا" الذی انتهى إلیه العرفان.
تغنى بشیراز سعدی فی القرن السابع الهجری، ثم تغنى بها حافظ فی القرن الثامن الهجری. وقد بلغ تغنیه بها غایة الرقة والعذوبة وهی عنده فی التشبیه كالخال على خد الأقالیم السبعة.
وربما كان من الطرف ومن المفید أن نستجلی بعض محاسن شیراز فی زمن حافظ نفسه. فلقد عاصره ابن بطوطة (703/1304-779/1377) وزار فی ثنایا رحلته الواسعة الطویلة شیراز. وقد دخلها فی سنة 727 (كان حافظ یحبو أو طفق یمشی فی العام الأول من عمره) ویقول فیها: "وهی مدینة أصیلة البناء، فسیحة الأرجاء، شهیرة الذكر، منیفة القدر، لها البساتین المونقة والأنهار المتدفقة والأسواق البدیعة والشوارع الرفیعة. وهی كثیرة العمارة متقنة المبانی عجیبة الترتیب. وأهل كل صناعة فی سوقها لا یخالطهم غیرهم. وأهلها حسان الصور، نظاف الملابس، ولیس فی الشرق بلدة تدانی مدینة دمشق فی حسن أسواقها وبساتینها وأنهارها وحسن صور ساكنیها إلا شیراز. وهی فی بسیط من ارض تحف بها البساتین من جمیع الجهات وتشقها خمسة أنهار أحدها المعروف بركن آباد (تغنى به حافظ) وهو عذب الماء، شدید البرودة فی الصیف سخن فی الشتاء، فینبعث من عین فی سفح جبل هنالك یسمى القُلَیْعة. ومسجدها الأعظم یسمى بالمسجد العتیق وهو من أكبر المساجد ساحة وأحسنها بناء. وصحنه متسع مفروش بالمرمر. ویغسل فی أوان الحر كل لیلة. ویجتمع فیه كبار أهل المدینة كل عشیة، ویصلون به المغرب والعشاء. وبشماله باب یعرف بباب حسن یفضی إلى سوق الفاكهة. وهی من أبدع الأسواق. وأنا أقول بتفضیلها على سوق باب البرید من دمشق.
وأهل شیراز أهل صلاح ودین وعفاف وخصوصاً نساءها. وهن یلبسن الخفاف ویخرجن ملتحفات متبرقعات فلا یظهر منهن شیء. ولهن الصدقات والإیثار. ومن غریب حالهن أنهن یجتمعن لسماع الواعظ فی كل یوم اثنین وخمیس وجمعة بالجامع الأعظم. فربما اجتمع منهن الألف والألفان بأیدیهن المراوح یروحّن بها عن أنفسهن من شدة الحرّ. ولم أر النساء فی مثل عددهن فی بلدة من البلاد".
ویشید الرحالة ببعض المشاهد التی رآها فی شیراز كمشهد أحمد بن موسى أخی علی الرضا بن موسى بن جعفر الصادق ومشهد الإمام الولی أبی عبد الله بن خفیف كما یشیر إلى ضریح الشاعر الكبیر سعدی فیها. لقد قابل ابن بطوطة بین شیراز عاصمة ولایة فارس إذ ذاك ودمشق عاصمة بلاد الشام فی حسن الأسواق والبساتین والأنهار، ولاسیما بین سوق الفاكهة فی الأولى وسوق باب البرید فی الثانیة. وتلك مظاهر تتبدل مع الزمان فی التنظیم وشكل العمران. ولكنه أغفل منظراً طبیعیاً مشتركاً یضم الاثنتین وهو دائم وسافر للعیان وهو أن كلتیهما مستلقیة على سفح جبل. أما شیراز فعلى سفح جبل "الله أكبر" وأما دمشق فعلى سفح جبل قاسیون. ویروى أن تسمیة جبل شیراز كذلك أن طائفة من الأولیاء والصوفیة لما قدموا إلیها وأطلوا من أحد شعاب الجبل راعهم المنظر فهتفوا جمیعاً: الله أكبر.
على أن محاسن شیراز تعرضت فی القرن الثامن الهجری لعواصف سیاسیة وحروب داخلیة دامیة.
ذلك أنه لما انقرض مغول إیران أو الایلخانیون عمد بعض القادة والولاة إلى إعلان استقلالهم فی ولایات إیران. فنشأت فیها دویلات محلیة مستبدة تقیم حكمها على أساس روابط السرة فكانت تتنافس وتتطاحن وبقیت كذلك حتى فاجأها تیمورلنك فی نهایة القرن الثامن بغزواته وفتوحاته المدمرة.
حوصرت هذه المدینة فی زمن حافظ نحو خمس مرات وتداول حكمها الأمراء والملوك من تلك الأسر فكانت الحیاة الاجتماعیة فیها بین مدّ وجزر وشدة ویسر تتعرض حیناً لوابل من الدماء وتزخر تارة بالمحافل والأعیاد، تتراخى العادات والأعراف فیها طوراً، ویسودها التقشف والزهادة طوراً آخر، وتتلاطم فیها السلطات تلاطم الأمواج فی البحر المزبد ولم یكن هذا البحر سوى صحراء إیران وهضابها وسهولها وواحاتها.
أما حافظ فشق طریقه فی قرض الشعر ولمع فیه عَلَماً مجلیاً، وكان یراقب صروف الحیاة دون أن یتورط فی تیاراتها ولا فی صروفها المفاجئة. فلا نجد فی شعره إلا إشارات خاطفة تزید فی بیان براعته وجمال قریضه. ویجهد شراح دیوانه فی تعیین من تشیر إلیه من ملوك وما تلمح من حوادث أو وقائع.
وقد شهد وهو فی ریعان شبابه كیف استولى أبو إسحاق اینجو(1) على شیراز مرة ثانیة سنة 743 ولبث حاكماً لها عشر سنوات حتى سنة 754 ویروى أن هذا السلطان كان شاعراً وكان محباً للعلم، وكان كریماً فتح أبوابه للناس جمیعاً من شریف ووضیع وفقیر ورفیع، وكان یمیل إلى اللهو والسلم والحیاة الرخیة.
وقد تمكن مبارز الدین محمد مؤسس دولة المظفریین أن یهزم أبا إسحاق حین داهمه على أبواب شیراز ففر إلى أصفهان واحتمى بها حتى سنة 758 حین وقع أسیراً فی أیدی آل المظفر فسیق إلى شیراز التی حكمها من قبل فأعدم فی میدانها وأدرج مبارز الدین شیراز وأصفهان فی عداد مملكته.
واتسم حكم مبارز الدین فی شیراز بالقسوة وشدة التمسك بالدین والزهد والورع وقد ائتمر علیه أبناؤه فقبضوا علیه سنة 759 وسملوا عینیه وتوزعوا مملكته بینهم فكان إقلیم فارس الذی عاصمته شیراز من نصیب ابنه الشاه شجاع وقد أشار حافظ فی مقطوعة له إلى هذه الحادثة. فهو یحذر المرء من الركون إلى الدنیا وصروفها وینوه بالملك الغازی القوی مبارز الدین ثم یقول ما معناه: سمل عینیه من كان ینیر له الدنیا إذا وقعت عیناه علیه.
والمشهور أن الشاه شجاعاً على خلاف أبیه رفع الحظر على الحانات وأباح للناس سبل اللهو. وقد خلفه على شیراز ابنه زین العابدین. لكن أبناء الشاه شجاع تطاحنوا وما زالوا یتطاحنون حتى غشیهم صلیل السیوف فی جیش تیمور فأبادهم جمیعاً.
شهر حافظ بدیوانه الذی ترجم إلى سبع وعشرین لغة. فیه نحو سبعمائة قطعة من الشعر منها ما یقرب من خمسمائة مصوغة فی هذا الضرب من الشعر الفارسی الذی یدعى بالغزل. وقد طارت شهرة غزله فی الآفاق داخل إیران وخارجها حتى أن الشاعر الألمانی الشهیر غوتی قد عدّه أحد الأعمدة التی قام علیها صرح الآداب العالمیة. هذا وقسم من أشعاره ملمّع أی ورد بعض أبیاته بالعربیة. وقد نسب إلیه شعر بالعربیة ولكنه لا یرتفع إلى مستوى شعره بالفارسیة. والذی نظنه أن الشعر الذی نظمه بالعربیة ینبغی أن یكون أكثر من الذی وصل إلینا نظراً لتضلع حافظ من هذه اللغة ومعرفة آدابها معرفة عمیقة. وربما ضاع فی المحن وفی غبار الزمن. وقد أطلق الشاعر عبد الرحمن جامی (817/1414-898/1492) فی كتابه "نفحات الأنس" على حافظ لقب لسان الغیب وترجمان الأسرار وفسره بأن صاحب هذا اللقب كشف عن كثیر من الأسرار الغیبیة والمعانی الحقیقیة التی التفّت بألبسة المجاز. وهی مع ذلك خالیة من التكلف والاضطراب. وهذا كله یدل على أن أشعار حافظ كانت تهز الناس وتطربهم أیما طرب وتبعث فی نفوسهم نشوة عمیقة.
إن التمكن من الثقافتین العربیة والفارسیة أفاد حافظاً فی قریضه وبلاغته. وقد أشار فی غزلیته رقم 28 إلى استفادته من البلاغة العربیة. فهو یقول ما معناه: "لیس من الأدب التمدح وإظهار الفضل أمام الحبیب. ولهذا فلسانی صامت ولكن فمی حافل ببلاغة العرب".
هذا وربما كان القارئ یود أن یطلع على بعض ما وصل إلینا من شعره العربی. فنحن نثبت له هذه القطعة:
ألم یأنِ للأحباب أن یترحموا وللناقضین العهد أن یتندموا
ألم یأتهم أنباء من بات بعدهم وفی قلبه نار الأسى تتضرم
فیا لیت قومی یعلمون بما جرى على مرتجٍ منهم فیعفوا ویرحموا
حكى الدمع عنی والجوانح أضمرت فیا عجباً من صامت یتكلم
أتى موسم النیروز واخضرت الربا ورقق خمر والندامى ترنموا
بنی عمنا جودوا علینا بجرعة وللفضل أسباب بها یتوسم
شهور بها الأوطار تقضی من الصبا وفی شأننا عیش الربیع محرم
أیا من علا كل السلاطین سطوة ترحم جزاك الله فالخیر مغنم
لكل من الخلان ذخر ونعمة وللحافظ المسكین فقر ومغرم
وها أنذا أختار بعض الأبیات العربیة التی وردت فی قصیدة له ملمعة:
سلیمى منذ حلت بالعراق ألاقی من نواها ما ألاقی
ربیع العمر فی مرعى حماكم حماك الله یا عهد التلاقی
مضت فرص الوصال وما شعرنا وإنی الآن فی عین الفراق
نهانی الشیب عن وصل العذارى سوى تقبیل وجه واعتناق
دموعی بعدكم لا تحقروها فكم بحر تجمَّع من سواقی
على أن العصر الثامن الهجری مع ما خامره من فتن واضطراب فی مختلف أرجاء العالم الإسلامی الواسع لم ینفك عن متابعة الازدهار اللغوی والأدبی والعلمی وعن التقدم فی أكثر مظاهر المدینة. ذلكم أن عناصر المدینة من سیاسة وإدارة واقتصاد وعلوم وفنون لا تجری فی تطورها على نسق واحد. وإذا شئنا أن نستعمل تعبیراً اجتماعیاً حدیثاً قلنا إن المتغیرات الحضاریة والاجتماعیة لا تتبع فی تغیرها المستمر خطاً بیانیاً واحداً. بل لكل منها خط بیانی فی تطوره وإن كانت جمیعاً تلفها حضارة واحدة. وهكذا نجد فی هذا العصر مع اضطرابه وفتنه وقلاقله من قل أشباههم وندر أمثالهم. وحسبنا هنا أن نشیر إلى ثلاثة من معاصری حافظ ومواطنیه ممن بلغوا القمة فی علومهم.
ولد عبد الرحمن عضد الدین الایجی (860؟/1281؟-756/1355) بایج من نواحی شیراز. ولی القضاء وغدا إماماً فی المعقولات وفی أصول الفقه وفی المعانی والبیان والنحو وأنجب تلامیذ عظاماً. من كتبه المشهورة "المواقف فی علم الكلام".
وولد مجد الدین أبو طاهر محمد بن یعقوب الشیرازی الفیروزأبادی (729/1329-816/1413) فی بلدة كارزین القریبة من فیروزآباد التی أشرنا إلیها آنفاً. وقد درس فی شیراز، ثم بغداد، ورحل إلى دمشق وبیت المقدس ثم زار القاهرة ومكة والهند ثم رجع إلى مكة وبقی فیها مدة ثم زار تیمور فی شیراز حین دخلها فاتحاً. وقد عرف تیمور مكانته فأكرمه غایة الإكرام، ثم خرج إلى الیمن. ولما دخل زبید سنة 796 تلقاه الملك الأشرف إسماعیل من الدولة الرسولیة وبالغ فی إكرامه وبقی فیها حتى وفاته نحو عشرین سنة وتولى قضاء الیمن كله. وقد تزوج الملك الأشرف ابنته وكانت رائعة فی الجمال فنال بذلك منه زیادة البر والرفعة وألّف فی زبید قاموسه المحیط المشهور الذی هو ركن من أركان اللغة العربیة. ومن المعلوم أن الشعوب الإسلامیة كان یتزوج بعضها من بعض. وأعلى الكفاءات فی الزواج هی العلم. ومجد الدین قد ولد فی فارس ولكنه كان ینتسب إلى أبی بكر الصدیق ویصف نفسه بالصدیقی.
وولد السید الشریف علی بن محمد الجرجانی (740/1340-813/1413) فی بلیدة من نواحی جرجان فی شمالی إیران. ولكنه التحق فی سنة 779 بخدمة الشاه شجاع الذی جعله أستاذاً فی مدرسة "دار الشفاء" فی شیراز. وربما كان زمیلاً لحافظ لبعض الوقت. أخذه تیمور فی سنة 789 حین دخل شیراز للمرة الأولى إلى سمرقند. ولكنه استطاع الرجوع إلى شیراز بعد وفاة تیمور عام 807 وتوفی السید الشریف فی السنة التی توفی فیها الفیروزأبادی. من أشهر كتبه "التعریفات" وله أیضاً كتاب "شرح المواقف" أی مواقف الایجی.
على أن بلاد العرب وبلاد الإسلام كلها كانت تتألق بالعلماء والشعراء والمؤلفین فی هذا العصر كما فی العصور الأخرى. ونحن نرغب فی إیراد أسماء بعض الأعلام إشارة إلى هذه الكثرة الزاخرة إذ ذاك نذكرهم حسب تواریخ وفیاتهم الهجریة. وكأننا نتغنى بهم:
الإمام ابن تیمیة (728) والسلطان المؤرخ أبو الفداء (732)، وشهاب الدین النویری صاحب "نهایة الأرب فی فنون الأدب" (733) وابن فضل الله العمری صاحب كتاب "مسالك الأبصار فی ممالك الأمصار" (748) وشمس الدین الذهبی الحافظ المؤرخ (748) والشاعر عمر بن الوردی (749) والشاعر الكبیر صفی الدین الحلی (750) وابن قیّم الجوزیة (751) وابن هشام النحوی (761) وصلاح الدین الصفدی (764) وابن شاكر الكتبی (764) وابن كثیر المحدث والمؤرخ صاحب كتاب "البدایة والنهایة" (774) ولسان الدین الخطیب الغرناطی الأندلسی (776) ومسعود بن عمر التفتازانی (793) أبعده تیمورلنك إلى سمرقند كما أبعد الشریف الجرجانی إلیها، وعبد الرحمن بن خلدون صاحب المقدمة والتاریخ المشهورین الذی رحل إلى مصر فأكرمه سلطانها الظاهر برقوق ثم قدم دمشق عند محاصرة تیمورلنك لها وقابل الطاغیة على أبوابها(808).
وقد قدمنا هذا العرض لبیان اشتباك الصروف السیاسیة والحربیة وتقدم العلوم والآداب الدائب فی ظلال تلك الصروف وفی دیاجیها. ویصعب على الباحث حین یتناول علماً من الأعلام ولاسیما مثل حافظ ألاّ ینوّه بذلك التقدم الدائب وذلك الاشتباك المؤسف.
لقد مضى على وفاة حافظ ستمائة عام. وتخلیداً لذكراه أقیم مهرجان تكریم له فی دمشق لإلقاء أضواء جدیدة على أدبه وثقافته وشعره ألقى كاتب هذه السطور فیه بحثاً حول أسرار الإبداع فی شاعریة حافظ وهو البحث الآتی.
* * *
من الصعب على الباحث أن یُمْسِك بأسرار كشفٍ علمی یدرسه أو إلهام شعری یتأمله. ولكنه یستطیع أن یوضح تلك الأسرار ما تسنّى له الإیضاح. ومن الصعب أیضاً أن یتلمس الباحث عبقریة الشاعر إذا كان غیر مختص بلغة الشاعر وآداب قومه، ولكن هاتین الصعوبتین قد یجدهما الدانی القریب كما یجدهما القاصی البعید. وقدیماً قیل: "شدة القرب حجاب"، وقد یرى البعید ما لا یراه القریب. ولكنّا نقول أیضاً: "شدة البعد غیاب"، وقد یرى القریب ما لا یراه البعید. وفرق كبیر بین أن تسمع خفقات قلب الحبیب وهو فی یدیك وعلى وسادتك وأن تتصور تلك الخفقات مجرد تصور، وكذلك فرق كبیر بین أن تقرأ الشاعر فی لغته فتسمع هجسات نفسه وأن تقرأه فی ترجماته فتغیب عنك تلك الهجسات الخفیة. ومع ذلك فربما یتاح لنا مع قربنا من حافظ فی ترجماته وبعدنا عنه فی لغته الأصلیة أن نحاكیه لماماً ولیس دائماً ولو فی شأن من الشؤون. أولیس هو الملقب بلسان الغیب وترجمان الأسرار؟! فلا یعوزنا بحافز حبّه وعاصف الإعجاب بعبقریته أن نتكلم على إبداعه وأن نترجم أسرار هذا الإبداع إلى العربیة، حتى للمختصین بدراسة هذا الشاعر العظیم...
إن الشعر كبقیة الفنون یتألف من عناصر عدة متباینة وعناصره هی الألفاظ والإیقاع والوزن والقافیة والنغم الذی ینساب بین ذلك كله والمعانی المختلفة حقیقیة ومجازیة ورمزیة، والإیحاءات التی تواكب المعانی وتحفّ بها والتی تطلق الفكر فی آفاق شتى ثم یأتی فوق ذلك كله ائتلاف تلك العناصر المتعددة والتحامها فی صیغة مُثْلى علیا متقنة الأداء رائعة التأثیر لا یمكن تصور صیغة أعلى منها فی موضوعها المفرد الذی یضم تلك العناصر ضمّ الأم لولدها الوحید..
والباحثون فی شعر حافظ متفقون جمیعاً على عذوبة ألفاظه وبعده عن الكلمات النابیة والعبارات الواهیة ومجمعون على ما فی هذا الشعر من إیقاع مؤثر ینجذب إلیه القلب ویطرب له السمع وتهش له النفس، إذ یصور نزعاتها الحسیة والعلویة معاً، وتبتهج به الروح إذ یحلق بها فی جو من الأحلام والآمال والحریة والصفاء والإبداع، هذا كله ینوّه به علماء اللغة الفارسیة وزعماء الأدب الفارسی...
أما نحن فنرید أن نعالج بعضاً من معانیه التی نزعم أن التفنن فی سبكها وفی تلوینها من أسرار إبداعه. هذه الأسرار قد لا یدركها الحساد الشانئون فیلخصونها فی جملة من الأغراض المتكررة المتباینة، وذلك على مثال ما یروى من أن سلطان شیراز الشاه شجاعاً كان ینظم الشعر ویرید أن تبلغ أشعاره ما بلغته أشعار حافظ من الشهرة وبعد الصیت وكمال الصنعة وإحسان الأداء، فاستدعاه یوماً وانتقد غزلیاته قائلاً: "إن واحدة من غزلیاتك لا تجری على نهج واحد من أولها إلى آخرها بل إننا نجد فی الغزل الواحد بعض الأبیات فی وصف الخمرة وبعضها فی التصوف والباقی فی التغزل بالحبیب، وهذا التلون والتنوع فی أغراض الغزل لا یجیزها البلغاء والفصحاء". وقد صعب على حافظ أن یشرح له أسرار صناعته، ومن المعلوم أن الشعراء یقولون أشیاء جمیلة دون أن یدركوا كیف یقولونها كما قرر قدیماً سقراط زعیم فلاسفة الیونان، فلم یجد حافظ ما یرد به على الشاه شجاع خیراً من أن یوافقه على ما ذهب إلیه وأن یختم عبارته بلون من الثقة بالنفس والسخریة اللاذعة فقال: "إن ما قاله مولای هو عین الصدق ومحض الصواب، ومع ذلك فإن أشعار حافظ یتردد إنشادها فی الآفاق على حین لا تتجاوز أقوال غیره من الشعراء أبواب شیراز"...
وعندنا أن هذا التفنن فی مختلف الأغراض فی غزلیة واحدة یحكی صیاغة جوهرة من الماس فریدة، فهو یعرض ألواناً من العواطف الجمیلة كما یعرض الموشور البلوری ألوان الطیف السبعة حین یجتازه النور الأبیض، ألوان الطیف هذه تبهج البصر كما تبهج تلك الأغراض الفنیة المصوغة صوغاً متقناً وملهماً حاسة السمع العقلیة الفنیة، فتطرب الفكر بإحكامها وإتقانها على مثال الموسیقى البولیفونیة الجمیلة الممتعة.
ثم إن هناك أموراً أخرى لابد من جلائها لبیان ذلك الإبداع.
ذلك أن شعر حافظ یختلف دارسوه وشراحه فی حقیقة مقاصده أكان یرید بالخمرة بنت الكرم وبالأحباء بنات شیراز الشهیرات بالجمال والإغراء ذوات العیون السود السابیة والثغور النقیة والقدود المائسة وضفائر الشعر المسبلة على الكتفین والحدیث الناعم والشذا الفاغم أم یرید معانی روحانیة ومجالی ربانیة یحار فی تأملها الدرویش الصوفی ویغرق فی لآلائها فكر الشاعر الحكیم. أوكان حافظ یلازم حقاً خمارات المجوس وأدیرتهم أم كان یرمز بها إلى الظواهر المادیة التی كان یتجاوز أشكالها وسقاتها وراحها إلى ما وراء ذلك من لُبانات مثالیة عالیة؟... إن ذلك الإبهام یسبغ على أشعار حافظ صفة الرمز. وللرمز الشاعری الملائم للطبع مزایا كثیرة... منها أن الرموز متصلة بالحالات النفسیة التی یرید الشاعر أن یصورها أو یوحی بها ویشیر إلیها. ذلك أن معانی الألفاظ الحقیقیة تحیط بالفكرة وتحصرها وتحدها، ولكن المعانی الرمزیة تطلق الفكر فی جو من التأمل وتحمله على بُراقها فی رحلات بعیدة، وتتیح له أن یكشف عن رؤى بدیعة تتنوع حسب الطبع والمیول والثقافة والسریرة... وهذا یجعل السامع أو القارئ یشعر بجذل لذیذ خفی حین یتوهم أنه یشارك الشاعر فی تحری تلك الرؤى الطریفة وفی تبصرها. إن الوضوح التام یحرم الفكر من غبطة الحزر التدریجی. أما الإیحاء والغموض فهما الغایة المنشودة وهما السر المخامر للرمز. الوضوح التام یجعل الفكر یقف عند رؤیة المرء سطح البحر ولكن الرمز یحفزه على الغوص فی أعماق اللجج لالتقاط اللآلئ. الوضوح التام ینظر أیضاً إلى صفحة القبة الزرقاء فی النهار فیراها جمیلة حقاً بلونها السماوی اللازوردی، ولكن الرمز ینظر إلیها فی لیلة صافیة فیجعل الفكر یُشْدَهُ بتأمل نجومها وكواكبها وبروحها ویحاول السفر بعیداً فی أجوائها الساحرة الشاسعة..
إن هذا الذی قدمناه لا یكفی. بل نزید أن الحب والوجد والكأس والشراب والحبیب والربیع والخضرة والریاحین كلها أمور یمیل إلیها الطبع ویأنس بها القلب وتستلذها الفطرة الإنسانیة، ولهذا قرنها الشعراء منذ القدیم بأشیاء مستحبة وملذوذة أو شبهوها بها، فالوجد یشبه النشوة والحب یشبه السكر والشراب بحسب ألوانه یذكر بالورد أو الیاقوت ورائحة التفاح أحیاناً وغیرها... كما أنهم شبهوا وجه الحبیب بالقمر أو الشمس وثغره بالدر وقوامه بالغصن وشذاه بالعبیر، وما إلى ذلك من صور شعریة فاتنة، ثم إن الربیع یحكی شباب العمر، وتكاد الخضرة والبساتین والریاحین تمثل الجنان. وقد نستعمل فی علم البیان المشبه به مكان المشبه فتلك هی الاستعارة والمجاز ویضاف إلى ذلك الكنایة والتلمیح وما إلى ذلك من وسائل التعبیر التی تضفی ستاراً على المقصود الحقیقی ولكنها تلمح به أو تشف عنه، وذلك هو جوهر الرمز الشعری. ولكن هذا رمز ندعوه من الدرجة الأولى. فإذا صعدنا درجة أعلى واعتمدنا تلك الاستعارات لا لأجل ما تدل علیه فی عالم الواقع من حبیب إنسانی وخمر مادیة وكأس بلوریة ولا ما تحاكیه فی عالم الشعر من شمس أو قمر أو ورود أو عقیق أو لازورد بل لتشیر إلى معالم علویة كالحب الإلهی والنشوة بهذا الحب، وكحنین النفس إلى القیم العلیا مشابهاً لعشق الفراشة للنور ثم التغنّی بالضیاع وخلع العذار فی هذا العشق السامی، فإن ذلك رمز ندعوه من الدرجة الثانیة وهو أكثر عمقاً وأشد شفوفاً عن أبعاد متعددة وعن عوالم متفاوتة الصور كالعالم المادی والعالم الشاعر والعالم الروحانی منظمةً ومرتبةً على مستویات ثلاثة وما إلى ذلك من آفاق واسعة حرة مستجیبة للتأویل وغنیة بالصور والأحلام...
ربما یعمد الشاعر إلى مثل هذا الرمز المتعدد الدرجات ولكنه لا یأتی بالشعر العجاب. ذلك أن المهم لا حشد المعانی ولا لطافة الألفاظ ولا حساب الوزن والإیقاع، ولا غیرها من العناصر.
وإنما المهم تألیف ذلك كله تألیفاً معجزاً مبتكراً بدیعاً لا یعلو علیه تألیف فی موضوعه ولا تستطیع أن تناله بالتغیر والتبدیل وهذا هو سر الإلهام وحقیقة الإبداع، وهذا ما نظن أن حافظاً قد بلغ الأوج فیه والاحتفاظ به. لم یكن أحد یدرك إذ ذاك أن ذلك الصبیّ الخباز سوف یصنع بشعره أطیب أصناف الحلوى الحسیة والروحیة لیقدمها إلى العالم أجمع. یضاف إلى ذلك أن لسان الغیب كما أصبح یدعى لم یقبع فی برج عاجی ولا كان بعیداً عما یجری فی مجتمعه ویقع بمدینته من ضغوط اجتماعیة ومن عنف ومحن وطوارئ محزنة، فكان فی شعره یعمد إلى التلمیح فی الحین بعد الحین ویشیر ولو من بعید إلى تلك الظروف الاجتماعیة، حتى إن شراحه یجهدون فی إرجاع كل تلمیح إلى حادث مسمى. ولا غرو فی ذلك فقد كان ذا قلب إنسانی بكل ما فی لفظ الإنسانی من معنى شریف وخلق سام، فهو یكره التزلف ویبغض النفاق والریاء ویندد بالاستبداد وینوه بالحریة والنقاء. قلبه عامر بحب بلده شیراز برج الأولیاء وبحب غیدها، طافح بحب أمته، بل بحب الإنسانیة كلها. وهو إذا ظهر فی شعره بمظهر الماجن المستخف بالعرف فلكی ینكر التعصب وینادی بالحریة الفكریة والمعاشیة، ویجذب الأنظار نحو الفقراء والدراویش، ویتمشى مع عواطفهم. أولیس ینكر على الشعراء انسیاقهم فی مظاهر الترف بلا طائل ولا فائدة حین لا یبالون فقر الفقراء ولا حاجة المحتاجین؟! من المعلوم أنه كان متمكناً من العلوم العربیة ومن العلوم الدینیة كما سلف حتى إنه كان یدرّس تفسیر الكشاف فی مدرسة شیراز ویُحَشّی علیه إلى جانب حفظه القرآن. وهو یدرك تماماً جمال بیتی أبی نواس فی قطعته الفنیة الجمیلة المشهورة:
تدار علینا الراح فی عسجدیة حبتها بأنواع التصاویر فارس
قراراتها كسرى وفی جنباتها مها تدریها بالقسیّ الفوارس
فهو لا یمر بها دون تعلیق، لا نجده ینكر على الماجن شرابه ولكنه یندد بهذه الكأس العسجدیة التی لا لزوم لها فی السكر إذ یستطیع الماجن أن یحتسی الراح فی كوب بسیط وأن یوزع الذهب فی تلك الكأس العسجدیة على الفقراء:
أیها المحتسی بكأس ابن هانی بنت كرم كمثل لَعلٍ مذاب
أفلا جدت بالنضار على من ألصق الدهر أنفه بالتراب
على حد ترجمة الشاعر السوری محمد الفراتی لهذین البیتین.
وهو أیضاً یندد بأصحاب القصور الذین أعماهم الغنى المادی عن الغنى الروحی. فإذا هم عاشوا فی قصور مشیدة فالدراویش أغنى منهم روحیاً إذ یبیتون فی قصر الكون یتملكون ما فیه تملكاً روحیاً حین یعون ما فیه من جمال ومحاسن ومجالی لا تنفد، ذلك أن التملك المادی وَهْم إذ لا نملك على وجه البسیطة شیئاً عند التحقیق، وهذا حین تغنى الشعراء الدراویش أمثال حافظ بجمال الحبیب وسحره یشعرون بغناهم الروحی إذ یتملكون الأشیاء تملكاً ممتعاً آخر غیر التملك المادی، فهو إذ یتغنون بجمال الحبیب یستطیعون أن یقدموا له هدایا سنیة مما یتملكون من الكون فیهبون له أشهر البلاد وأوسعها مثل سمرقند وبخارى بل یستطیعون أن یهبوا له أكثر من ذلك، وهنا لابد من الوقوف عند هذه النادرة:
عاش حافظ الشیرازی لیرى تیمورلنك یدخل مدینة شیراز سنة تسع وثمانین وسبعمائة ویروى أن تیمورلنك لما دخل المدینة وكان قد قرأ شعر حافظ وأعجب به استدعاه إلیه ولامه على بیت فی غزلیته ذات الرقم (3) وكانوا یتغزلون بالجمال الهجین التركی الشیرازی ومعنى البیت "لو أن ذلك التركی الشیرازی یأخذ قلوبنا بإشارة من یده لوهبت له كُرْمى خاله الأسود سمرقند وبخارى".
قال له تیمور: "إنی سخَّرت أكثر الربع المسكون بحد السیف وأنت الیوم تهب سمرقند وبخارى وهما موطنای الألیفین لخال أسود على وجنة تركی شیرازی".
ولكن الشاعر أراد أن یحوّل نظر الفاتح الشكس عن غناه الروحی الذی یعتدّ به إلى حالته المادیة المزریة فی الفقر والدروشة فأجابه: "بسبب هباتی الخاطئة هذه تجدنی یا مولای أقضی حیاته فیما أنا فیه من عدم ومسكنة"...
هذا وقد قالت العرب قدیماً: "من ألف فقد استَهْدَف" أی من ألف كتاباً أو شعراً أو غیرهما فقد عرض تألیفه للنقد.
وقد انتُقد حافظ حین بدأ غزلیة له مُلَمَّعَة هی الأولى فی دیوانه بأحد بیتَیْ شعر متواریین فی سواد الكتب العربیة ولا یكاد یعرفهما إلا المختصون بالأدب العربی منسوبین إلى یزید بن معاویة وهذان البیتان هما:
أنا المسموم ما عندیَ تریاق ولا راقی
أدر كأساً وناولها ألا یا أیها الساقی
ویدافع الشاعر الفارسی أهلی شیراز عن حافظ فی هذا الاستهلال فیقول ما معناه: "رأیت حافظاً فی المنام ذات لیلة فقلت له: یا فریداً فی فضلك وعلمك كیف استحللت شعر یزید بن معاویة وأبحت لنفسك استخدامه مع ما لك من فضل وكمال، لا حد لهما. قال حافظ: ألم تعرف السر بعدُ؟ ألیس مال الكافر حلالاً للمسلم".
ومع ذلك فإن أدیباً وشاعراً آخر هو الكاتبی النیشابوری لم یقبل هذا العذر ورآه واهیاً فكتب ما معناه: "إنی لأعجب كثیراً من تصرف خواجه حافظ ویعجز عقلی عن فهمه إذ ما هی الحكمة التی رآها فی شعر یزید فأوردها فی دیوانه الأول؟ حتى لو فرضنا أن مال الكافر حلال للمسلم ولم نعارض فی هذا الشأن لعددنا عیباً كبیراً فی اللیث أن یخطف اللقمة من فم الكلب".
إن هذه اللقمة من فم الكلب تحولت بكیمیاء الفن إلى حلیة ذهبیة ساحرة حین تناولها ترجمان الأسرار واستهل بها غزلیته الفاخرة الملمعة. وهذا شأن الصوفیة یأخذون كل ما یجدونه فی عالم الواقع ویقلبون معدنه الخسیس إلى معدن شریف؟ أولسنا نذكر كیف كان ینادی البقال: یا سعتر بری فقلبه الصوفی إلى اسعَ تَرَ برّی. وشاعت تلك الغزلیة بذلك الاستهلال العربی البسیط القوی الإیقاع عند جمیع من شدا شیئاً من اللغة الفارسیة والتركیة والعربیة والأوردیة وغیرها. أذكر مصادفتی لكاتب تركی حدیث فی استانبول منذ ثلاث سنین لا یعرف العربیة، فما أن رأیته حتى ابتدرنی بهذا الاستهلال وهو یعرف أنی عربی. وكذلك شاعت هذه الغزلیة فی طاجكستان وأفغانستان وغیرهما من البلدان. ولقد هزنی إیقاع هذا البیت لما سمعته فی أرض غیر عربیة وبقی یعتمل فی نفسی حتى هذه المناسبة فی إحیاء ذكرى حافظ. فدفعنی هذا الإیقاع الیوم إلى أن أجاری مؤلف الغزلیة الرائعة بروحه وأفكاره لعلی أجلو صوراً من براعته وأغراضه لا تبدو على حقیقتها فی الترجمات العربیة. وقد خرجت عن شروط الغزل الفارسی فتجاوزت عدد الأبیات التی ینبغی أن تراوح عادة بین الثمانیة والخمسة والعشرین. ولعل روح حافظ الفنیة التی ترفرف بیننا الآن ترضى عن هذه الصناعة:
"ألا یا أیها الساقی أدر كأساً وناولها"
وأغرق مشكلات العیش فی الصهبا وأبطلها
إذا ضاقت بك الدنیا بورد الكأس جَمِّلها
ودعنی أنا والحسنا مع الصهبا أغازلها
وإن ناءت بك الأوزا ر للرحمن أوكلها
فؤادك بالهوى مُضْنى وروحك بالطلا وَلْهى
ویا ربی على الفقرا ء سحب العفو أسبلها
ملأت قلوبهم عشقاً حیارى فی الهوى بُلْها
* * *
دجا الدهر ومازلنا على فلْك الهوى نسری
ونحمل رایة العشا ق من عصر إلى عصر
ومن قطب إلى قطب ومن قطر إلى قطر
دعاة الحب فی الدنیا وفی الأخرى وفی الحشر
سكارى منذ أن كنا بلا كأس ولا خمر
أتتنا نشوة الصهبا ء قبل القطف والعصر
سرى تأثیرها فی الرو ح مثل النور فی الفجر
فَجَدِّدْ نشوة سلفت ونفسك لا تحمّلها
* * *
ألا أیها الدرویش حسبك كوبك الملآن
وزهدك فی حطام العیش والرحمة والرضوان
فلا تحفل بما قالوا وما یجری ولا ما كان
فكم حلّ على شیرا زمن بَغْی ومن طغیان
وزال البغی والباغی وغاب الملك والسلطان
ولكن بقی النسری ن والنرجس والریحان
ألیست هذه دار ك برج العلم والعرفان
صلاتك حینما لیلى تجیء إلیك أجّلْها
* * *
تؤاخذنی على عاری ومجدی هو فی عاری
وما عاری حبی وصهبائی وقیثاری
وتهیامی بذات الشفة الحمراء كالنار
وما داری زوایا النسك بل حانة خمار
أنا السكران لكنّی أرجی رحمة الباری
یدارون الملوك وأنت ربات البها داری
لباسهم الریاء وأنت من ثوب الریا عاری
ذنوبك أیها العاصی بماء التوبة اغسلها
* * *
عجیب أمر هذا الشع ر طفلٌ عمرهُ لیله
یطوف العالم المعمو ر یقطع وعره سهله
ویمضی خالداً فی كل قلب ملهباً شعله
وكم من علة یأسو وكم ینقع من غلّه
كأن الله قد ألقى على تكوینه ظله
فیا وجدی إلى ثغر ال حبیب كأنه فِلَّه
ویا ظمئی إلى الصهبا ء تمسح لاعجی كلّه
فهیّا یا شقیق الرو ح نحو الحان ندخلها
* * *
خلاف الأهل أضنانی وإبلیس هو الجانی
وما شان بهاء العب ش إلا الحاسد الشانی
وما أحلى تلاقی الأه ل فی حب وإحسان
فیا للشمل ضموّه لندفع كل عدوان
ألیس المسجد الأقصى أسیر قطیع ذؤبان
ألا إن سلام الأر ض نیروزی وبستانی
فیا رحمن كن معنا وبارك صلح إخوانی
ویا رباه رحماك عقود الصلح أكملها
* * *
أدر كأساً وناولها ألا یا أیها الساقی
حمیّا الكأس والمحبو ب زادا نار أشواقی
رعاكِ الله یا شیرا ز أنت ضیاء آماقی
زكوتِ ربیع آفاق وفُزْتِ نعیم عشاق
أنا المجنون یا لیلى أنا المسقیّ والساقی
أنا كأسی وصهبائی أنا سمی وتریاقی
شرابی ما به صحوٌ جنونی ما له راقی
جذوری فی الثرى غرقى وجذعی سامق راقی
وتلك الشمس میقاتی وهذی الأرض أوراقی
وأكتب بالشعاع الحلو ألحانی وأذواقی
إذا أفنتنی الأیّا م شعری خالد باقی
* * *
تحیاتك یا یافی إلى شیراز أرسلها
هنالك بیت أسرا رك للعشاق فَصِّلْها
مزایاك التی فی القلب ویحك لا تبدلها
"متى ما تلق من تهوى دع الدنیا وأهملها"
* * *
بعض المراجع:
(1)معجم البلدان: یاقوت الحموی.
(2)رحلة ابن بطوطة: المسماة تحفة النظار فی غرائب الأمصار وعجائب الأسفار –المكتبة التجاریة مصر 1938-1357,
(3)مهذب رحلة ابن بطوطة: وقف على تهذیبه وضبط غریبه وأعلامه، أحمد العوامری بك ومحمد أحمد جاد المولى بك القاهرة 1937.
(4)الموسوعة الإسلامیة.
(5)Encyclopedia
(6)الموسوعة البریطانیة.
(7)تاریخ الأدب الفارسی: ج1 تألیف إدوارد براون وترجمة د.أحمد كمال الدین حلمی –جامعة الكویت 1984.
(8)حافظ الشیرازی: تألیف إبراهیم أمین الشواربی –مطبعة المعارف ومكتبتها بمصر 1944.
(9)الأدب الفارسی فی أهم أدواره وأشهر أعلامه: د.محمد محمدی –منشورات قسم اللغة الفارسیة وآدابها 1967 فی الجامعة اللبنانیة بیروت.
(10)من روائع الأدب الفارسی: د.بدیع محمد جمعة –طبعة ثانیة- دار النهضة العربیة بیروت 1983.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 22:13|