أثر عباس محمود العقاد فی سید قطب ومنهجه
الكاتب د.هدى محمد قزع
شاءت الأقدار أن یلتقی سید قطب بعباس محمود العقاد فی مجالسه العلمیة والثقافیة ، وكان لهذا اللقاء أثر بارز على ثقافته وفكره وأدبه.
ولم یكن اللقاء الشخصی بینهما هو الجامع الوحید ، فهما تشابها فی أشیاء عدة صدفة ، من مثل نشأتهما فی البیئة المصریة ، فالعقاد من أسوان ، وسید من قریة موشة فی أسیوط ، وهما أدیبان وشاعران وناقدان ، وكلاهما كان عضوا فی حزب الوفد ثم تركه ، وكل منهما لم یوفق فی حیاته الاجتماعیة والعاطفیة ، فهما أمضیا حیاتیهما دون زواج ، رغم محاولة سید الخِطبة إلا إن محاولته باءت بالفشل ومن یقرأ روایته "أشواك" یستبین هذا .
أما صلة سید قطب الشخصیة بالعقاد فقد بدأت منذ مشارف حیاته حینما قدم إلى القاهرة ، وزار مكتبته والتقى فیه ، وثمة أسباب مساعدة على هذا اللقاء منها إقامته أثناء دراسته الثانویة فی بیت خاله " أحمد حسین عثمان" فی القاهرة ، الذی كان على معرفة وصلة بالعقاد ، إضافة إلى قرب مكان سكنه منه ، وسحر شخصیة العقاد ، ومكتبته الضخمة ومجالسه التی وجَد فیها سید قطب بعض ضالته.
ولایخفى على أحد أن العقاد كان علما بارزًا فی الثقافة والأدب، , وأنه أسس مدرسة وشاركه فیها بعض الأدباء لفترة من الزمن مثل عبد القادر المازنی ، وعبد الرحمن شكری، وتتلمذ علیه فی هذه المدرسة عدد من التلامیذ أظهرهم سید قطب.
وقد جاهر سید بتتلمذه على العقاد ، ومن دلائل وفائه لهذه التلمذة أنه قرأ جل ما كتب العقاد من كتب ومقالات وشعر وأبحاث ودراسات ، ثم حرص على عرض ما قرأ فی الصحف والمجلات ، فهو تحدث عن العبقریات وعن الصدیقة بنت الصدیق وعن عرائس وشیاطین وعن شاعر الغزل وعن هذه الشجرة فی مقالات نقدیة اتشحت بسمة التقدیر لقیمة ما خط أستاذه.
وكثیرًا ما سعى لإبانة معالم مدرسته فقال: " هی مدرسة فی الأدب ، كما أنها مدرسة فی الحیاة ، یلتقی فیها تلامیذها على سنن واضح ، ونهج صریح ، ویجدون فیها تفسیرًا معینا للحیاة والفنون ، یشتمل نوع الإحساس ، ولون التفكیر ، وطریقة التعبیر، بل یشتمل فوق ذلك قواعد المنطق والسلوك ، وتقویم الأشیاء والأشخاص ، وتقدیر الحوادث والأعمال . وهی مدرسة متبلورة ، واضحة السمات ، لا یجد الناقد مشقة ولا عسرا فی اختیار عنوان لها ، یمثل ویلخص أكبر ما تستطیع العنوانات تمثیله وتلخیصه : هی مدرسة المنطق الحیوی . والنسبة هنا إلى الحیاة وإلى الحیویة جمیعًا..إلى الحیاة : لأن مرد الحكم على كل قول وكل عمل ، هو ما تقوله الحیاة ، وما تصنعه . وإلى الحیویة : لأن مرد الحكم على كل قول وكل عمل ، هو باعثه ، ومدى الحیویة فی هذا الباعث.أستاذ هذه المدرسة الأعظم ، هو الحیاة ذاتها "(1) .
وجهِد سید فی استبانة جوانب من شخصیة العقاد وحدثنا عن بعض هذا الجهد فقال:" ولقد رقیت إلى محاولة استیعاب العقاد _وأفلحت إلى مدى_ على درجٍ من دراسات شخصیة جمة . لیست دراسة الأدب العربی ولا اللغة العربیة إلا أولى خطواتها . دراسات تشمل كل ما نقل إلى اللغة العربیة _ على وجه التقریب _ من الآداب الإفرنجیة : قصة وروایة وشعرًا .ومن المباحث النفسیة الحدیثة : نظریات العقل الباطن ، والتحلیل النفسی والمسلكیة . ومن المباحث الاجتماعیة والمذاهب القدیمة والحدیثة , ومن مباحث علم الأحیاء _ بقدر ما استطعت _ وما نشر عن داروین ونظریته ، ومن مباحث الضوء فی الطبیعة والتجارب الكیماویة ، وما استطعت أن أفهمه عن أینشتاین والنسبیة ، وتحلیل الذرة وعلاقته بالإشعاع " (2).
و شدت شخصیة العقاد نفس سید قطب له، ودفعته فی أحیان كثیرة إلى التعصب ، والغیرة العلمیة علیه ، وقال مصرحا بهذا : " أنا لا أنكر أننی شدید الغیرة على هذا الرجل ، شدید التعصب له ؛ وذلك نتیجة فهم صحیح لأدبه ، واقتناع عمیق بفطرته ، لا یؤثر فیه أن تجف العلاقات الشخصیة بینی وبینه فی بعض الأحیان " (3) .
وفی هذا القول غلو وإفراط یخرج حكم سید على العقاد من الموضوعیة . فمثلًا بعد وفاة "أحمد شوقی" أراد طه حسین أن یطری على العقاد فأطلق علیه لقب "أمیر الشعراء" . فاعترض علیه سید قطب قائلًا : " ورأیی أن هذا اللقب غیر لائق بالعقاد ! لأن المسافة بینه وبین شعراء العربیة فی هذا العصر أوسع من المسافة بین السوقة والأمراء... قد یكون هناك كُتَّاب یتقاربون مع العقاد .ولكن لیس هناك شعراء فی لغة العرب ، یتقاربون مع العقاد.ولقد كنت هممت بإصدار بحث عن الشعراء المعاصرین ، ونظرت فی أدب جمیع الشعراء الأحیاء _ وأنا بینهم _ ولكن عاقنی عن إصدراه أننی لم أجد نقاط اتصال بین العقاد الذی سأكتب عنه أولًا ، وبین جمیع الآخرین من الشعراء .الفرق هائل جدًا ، وأكبر مما یتصوره الأكثرون ، بین طاقة هذا الشاعر ، والطاقات الأخرى. وسیغضب لقولتی هذه كثیر من أصدقائی الشعراء المعاصرین ، ولكنهم لیسوا أكرم علیّ من نفسی ، وأنا حسن الظن بشعری _ ولیعذرنی أنصار مبدأ التواضع _ولكننی حین أضعه أمام شعر العقاد یتلاشى ، وتحتبس نفسی عن التعبیر ، حتى یسكن صدى شعر العقاد فی نفسی " (4) .
ودفعه غلوه إلى عد العقاد شاعر العالم أجمع ، إذ قال : "نحن لا ننصفه حین نتحدث عن اللغة العربیة وحدها ، ولكننا نقول ذلك مؤقتا ، لأنها اللغة التی نستطیع الحكم على آدابها ، حكمًا نملك أدلته كلها ، ونجزم فیها بالصواب . وإلا فبین یدی معربات كثیرة ، لشعراء من الغرب مشهورین معروفین ، مثل بیرون وشیلی وألفرید دی موسیه وفكتور هوجو لا أرى فیها من تعدد الجوانب الصادقة الأصیلة ، ما أراه فی غزل العقاد وشعره عامة" (5).
ونتج عن غلوه فی تقدیر العقاد ، وجود خصوم له من الأدباء الذین هاجموه بشدة ، واتهموه بأنه مقلد له فی كل ما ذهب إلیه من فِكَر .ومن بین خصومه "صلاح ذهنی" الذی دارت بینه وبین سید قطب معركة أدبیة . وقد قال سید عن اتهام صلاح ذهنی له ، وردّه علیه " وثالثة الشتائم فی القائمة : أننی ظِل العقاد فی الظهیرة ! فلأكرر هنا ما قلته من قبل للدكتور مندور : إننی أفهم المسائل على نحو غیر الذی یفهمه بعض " شبان" الجیل . إننی لا أحاول إنكار تلمذتی للعقاد ، لأن لدی ما أقوله وما أبدعه وراء ذلك ، فلست أخشى على وجودی حین أعترف بهذه الأستاذیة ، وهی حق ، فلا یسمح لی خلقی أن أنكرها أشد الإنكار ، وأن أبرأ منها كل البراءة ، كما كان الأستاذ صلاح یصنع ویتشنج حین یقال : إنه من تلامیذ تیمور" (6).
وكانت أعنف المعارك الأدبیة ، التی هاجمه فیها خصومه بشدة ، تلك التی دارت على صفحات مجلة الرسالة ، حول أدب العقاد والرافعی ، وقد بدأها سید قطب بكلام له عن أدب الرافعی، فرد علیه تلامیذ الرافعی ، منهم : محمد سعید العریان ، ومحمود شاكر، وعلی الطنطاوی، ومحمد أحمد الغمراوی .
و دافع سید قطب عن العقاد بكل كتبه وندواته ، و أفاد من هذا الدفاع عندما كان العقاد فی توافق مع حزب الوفد ، الذی كان له وزنه فی ذلك الوقت ، فاشتهر سید وشاع ذكره بالنبوغ ، حیث قدمه العقاد إلى مجلات الوفد وصحفه ورجاله ، فشارك فی ذلك بفاعلیة . ولكن العقاد انفض عن حزب الوفد وهاجمه ، فحاربه رجال الحزب وتلامیذه ، وتحول الكتاب عن مدح العقاد ، والكتابة عنه فی الصحف والمجلات . أما سید قطب فقد ظل وفیًا لأستاذه ولم یتوانى فی الدفاع عنه ومهاجمة خصومه ، وكان من الطبیعی أن یتحمل أعباء هذا الدفاع " أما الدفاع عن العقاد فیكلفنی التعرض لغضب الكثیرین من ذوی النفوذ فی هذه الوزارة _ وفی كل وزارة _ ومن بینهم كثیر من رؤسائی، فی وزارة المعارف نفسها ، لأن العقاد رجل لم تبق له قولة الحق صدیقًا من السیاسیین ، وكثیر ممن یظهرون صداقته یكنون له غیر ذلك ، لأنهم ینْفُسون علیه شموخه واعتداده بنفسه ، وتعالیه على الضرورات .ویكلفنی خصومة الأدباء من المدرسة القدیمة والحدیثة على السواء .فأما أولئك ، فسبب سخطهم معروف ، وأما هؤلاء ، فلأنهم ینفسون على العقاد أن یعطیَه ناقد بعض ما یستحق من تقدیر . ومن لا یعرف هذه الحقیقة ، فأنا _ وقد أتاحت لی الظروف الاطلاع على داخلیة كثیر من الصحف والأدباء _ أعرف ذلك، وأعرف أن الكلمات التی یقدَّر فیها العقاد لا تجد طریقها سهلًا للظهور فی الصحف ، على اختلاف أهوائها ونزعاتها السیاسیة ، واختلاف المشرفین علیها من الأدباء وغیر الأدباء.ویكلفُنی خصومة كثیر من ناقصی الرجولة __وهم أعداء العقاد الطبیعیون __ وكثیر من ناقصی الثقافة ، الذین لا یفهمون العقاد ، فیحمِّلونه تبعة عدم فهمه ، ولا یكلِّفون أنفسهم عناء الدرس والثقافة !وكثیر من مغلقی الطِّباع ، الذین یستغلقون أمام كل أدب حی .وكثیر وكثیر ممن یؤلِّفون أكثریة القراء فی هذا البلد المنكوب ..وقد یفهم هؤلاء النفعیون ، أن للعقاد الآن نفوذًا ننتفع به ، فلهؤلاء أقول: إن للعقاد نفوذًا نعم ، ولكنه لا یستخدمه فی قضاء المصالح ، وتنفیذ الأغراض...وذلك بغض النظر عن طبیعتی الخاصة ، فی الانتفاع بنفوذ الأصدقاء ، ذلك الانتفاع الذی یبدو غیر مفهوم ، حینما كنت أناصر العقاد وهو خصم الوزارات القائمة ، وأوقِّع على ما أكتبه بإمضائی الصریح ، فی أحرج الأوقات ..." (7) .
ولكن لا بد من إنصاف سید قطب لأن غلوه هذا لم یستمر ، ، إذ تحول لتقویم فكر العقاد وأدبه . فانتقد دیوان " هدیة الكروان" مع دیوانین آخرین ، هما دیوان صالح جودت والینبوع لأحمد زكی أبو شادی ، وكان ذلك فی مقاله النقدی فی " الأهرام " الأدبیة عام 1933م .
قال سید قطب عن ذلك المقال ، وعن المأخذ الذی أخذه على العقاد فی دیوانه وغیره ، وعن أثر ذلك النقد على العقاد ، وعن رده علیه: " فأما هدیة الكروان فقلن عنها : إنها منتهى النضوج الفنی للعقاد، وإنها سلمت من بعض أشیاء ، كانت تغض من الجمال الفنی الكامل ، لبعض شعر العقاد ، وهی ما أسمیته قسوة القالب ، وعنیت به أن یَحْتَجنَ الشعورُ الطلیق فی ثوبٍ أضیقَ وأقسى مما یلائم هذا الشعور الطلیق "(8) .
...فأما العقاد ، فهوساخط حانق، ساخط لأنی جمعت بینه وبین أبی شادی فی مقال . وحانق لأن أقول شیئا عن قسوة القالب فی بعض شعر العقاد ، وأقابلُه فیعلن هذا السخط ، وهذا التبرم .إنه لا یسلم بقسوة القالب فی بعض شعره ، ولا یبیح لی أن أوجه هذا النقد له.لأن منشأه هو قصوری عن فهم شعره ، وإن على الناقد أن یرتفع لمستوى الشاعر ، ولیس على الشاعر أن یهبط لمستواه . وكان العقاد مهتاجًا ، ولكننی كنت هادئ الأعصاب...وذكرت له أن الناقد الذی یكتب محاضرته عن دیوان وحی الأربعین للعقاد ، فیفهم دقائقه فهمًا یرضى عنه العقاد ، لا یقصر عن فهم هدیة الكروان وهی أسهل من وحی الأربعین . وافترقنا ، وفی نفس العقاد شیء أحسه ، ولكننی آسف له ، وإن كنت لا أنوی التأثر به " (9) .
وقد حدث سید قطب أحمد فؤاد الأهوانی عن طبیعة صلته بالعقاد ، ، وعن مخالفته لبعض آرائه فی الشعر والأدب فقال: " وحتى العقاد ، وصلتی بشخصه معروفة ، وصلتی بأدبه أوثق مرات من صلتی بشخصه _ ولو فهم الكثیرون غیر هذا_ كتبت عنه فی كل مرة بالعقیدة الفنیة التی أعتقدها . وقد یبدو فیما كتبته أخیرًا عن العقاد الشاعر فی كتب وشخصیات أننی أختلف معه فی بعض الأحیان ، على تعریف الشعر وتذوقه ، وعلى النظرة إلى العاطفة وأطوارها .ولكنه اختلاف الرأی والإحساس ، الذی لا بدّ أن یقع بین شخصیة وشخصیة، متى تبلورت الشخصیتان ، وظهرت معالمهما واضحة ، ولو كانتا شخصیتی التلمیذ والأستاذ "(10) .
وانتقد سید قطب فهم العقاد للشعر والأدب فی ثلاث مقالات موجزة ، جعلها بعد ذلك فی كتابه "كتب وشخصیات" .و خصص مقالة أخرى مطولة خاصة لنقد شعر العقاد ، جعلها فصلًا من الكتاب ، هی " العقاد الشاعر وأعاصیر مغرب" (11) .
قال فیها " فی وضح النهار یعیش العقاد قمته حین تبلغ الحیویة تدفقها ، فتجرف المنطق الواعی ، وتغطی علیه ...فأما حین یضعف هذا التدفق ، فیتجرد الشعر من اللحم والدم ، ویخیّل إلیك أن مكانه لیس هنا فی الدیوان ، ولكنه هناك فی كتبه بین التأملات الفكریة والقضایا المنطقیة "(12).
وبدأ سید قطب ینفك تدریجیًا عن مدرسة العقاد ،إلى أن أعلن تخلیه عنها ، وكان ذلك فی عام 1948 ، حیث نشر مقالًا فی مجلة الكتاب ، فی نقد دیوان لزومیات مخیمر للشاعر أحمد مخیمر أحد تلامیذ العقاد ، قال فیه :" لقد آن لنا أن نفهم الشعر ، لا على طریقة مدرسة شوقی وحافظ والمنفلوطی ، ولا على طریقة مدرسة العقاد وشكری والمازنی...فكلتاهما مرحلتان من مراحل التطور ، قامتا بدوریهما فی النهضة ، وآن أن یخلفهما فهم للشعر جدید .لقد قامت أولاهما ، على أساس أن الشعر جزالة تعبیر ، وجلجلة إیقاع ، وابتداع أخیلة ، وبراعة تناول، ومقدرة وأداء...وعلى الإجمال مهارة صناعة تعبیریة وتخییلیة ، ولا شیء وراء ذلك ، مما له علاقة بصمیم النفوس ، وحقائق الشعور ..وقامت أخراهما على أساس أن الشعر صور حیاة ، وخلجات نفوس ، وسمات شخصیات ، وحقائق شعور ...وهذا كله صحیح . ولكن هذه المدرسة عند التطبیق العملی لفهمها للشعر ، كانت طاقتها الشعریة أقل من تصورها للشعر ، فجاء نتاجها الشعری_فی عمومه_ ناقص الحرارة ، غیر مكتمل الشاعریة . وظلت _إلا قلیلاً _تمتح من تصورها الواعی للشعر ، قبل أن تفیض من شعورها الكامن فی الضمیر..لم تفرق هذه المدرسة فی نتاجها بین الفكرة الشعریة والإحساس الشعری..." (13) .
أما إعلانه الخروج على المدرسة العقادیة ، ففی قوله: " ولست أنكر فتنتی فترة طویلة من العمر بهذه المدرسة كفكرة ، وفتنتی بنتاجها الأدبی كشعر ، وتأثری بها ، إلى الحد الذی أنفقت فیه شطرًا من عمری ، وأنا أقول الشعر ، لا أفرق فیه بین الفكرة الجمیلة الشعریة ، أعتنقها مذهبا ، والإحساس الجمیل الشعری ، ینبض به شعوری ، ویعیش انفعالًا غامضًا فی ضمیری..ولم أجد نفسی إلا منذ عامین اثنین ، أنتبه إلى الفارق الأصیل بین الفكرة الجمیلة ، والشعور الجمیل .وأجد للشعر مذاقًا آخر ـ غیرر ما سبق لی أن أحسسته ، فی نحو خمسة عشر عامًا أو تزید "(14).
وأبرز الأسباب التی دعت سید قطب إلى مجاوزة مدرسة العقاد ضعف الناحیة الروحیة فی منهج العقاد ، وهذا ما صرح به لأبی الحسن الندوی عندما التقى به فی القاهرة سنة 1951 :" إن نفسی لم تزل متطلعة إلى الروح وما یتصل بها ، وكنت فی صغری مشغوفًا بقراءة أخبار الصالحین وكراماتهم ، ولم تزل هذه العاطفة تنمو فی نفسی مع الأیام.والأستاذ العقاد رجل فكری محض ، لا ینظر إلى مسألة ، ولا یبحث فیها إلا عن طریق الفكر والعقل . فذهبت أروی نفسی من مناهل أخرى، هی أقرب إلى الروح . ومن ثم عنیت بدراسة أشعار الشرقیین ، كطاغور وغیره "(15) .
ومن الأسباب الأخرى استجابة العقاد لبعض الضغوطات السیاسیة بعدما امتد به العمر ، قال سید قطب للندوی :" إنی كنت أعتقد أن مثل العقاد فی عقله الكبیر ، وشخصیته العظیمة ، لا یخضع للضرورات والملابسات ، كالحكومة والسلطة ، ولكنه سالَمَها"(16) .
وبادل العقاد تلمیذه الجفاء بسبب اتجاهه الجدید ، ومیله إلى العمل الحركی الإسلامی المتمثل فی حركة الإخوان المسلمین ، وقد كتب عام 1946م مقالًا فی مجلة الرسالة بعنوان "إرادة الغفلة" ، كان یعنی فیه سید قطب ، ویعده صاحب الغفلة الذی اختار طریق السذاجة وجانب إعمال عقله وفكره وذهنه " (17) .
وكتب سید قطب فی مقالة بعض العبارات الكاشفة عن صلته القدیمة بالعقاد ، وعن موقفه منه بعد ذلك: " ودعونی الآن أصارحكم بتجربتی الخاصة ، التی تركت فی نفسی ذات یوم مرارة . ومن أجل هذه المرارة لم أكتب عنها من قبل ، حتى صفت روحی منها ، وذهبت عنی مرارتها ، وأصبحت مجرد ذكرى ، قد تنفع وتعظ ...لقد كنت مریدًا بكل معنى كلمة المرید ، لرجل من جیلكم ، تعرفونه عن یقین . ولقد كنت صدیقًا أو ودودًا مع الآخرین من جیلكم كذلك .لقد كتبت عنكم جمیعًا بلا استثناء .شرحت آراءكم ، وعرضت كتبكم ، وحللت أعمالكم ، بقدر ما كنت أستطیع .ثم جاء دوری...جاء دوری فی أن أنشر كتبًا ...لقد جاء دوری...متأخرًا كثیرًا ؛لأننی آثرت ألا أطلع المئذنة من غیر سلَّم ، وأن أتریث فی نشر كتب مسجلة ، حتى أحس شیئًا من النضج الحقیقی ، یسمح لی أن أظهر فی أسواق الناشرین ...وأنا الیوم أحمد الله ، على أننی خططت طریقی بنفسی مستقلًا ، وبجهدی خالصًا ...لم یأخذ بیدی عظیم ، ولم یقدمنی إلى الناس أستاذ"(18) .
وبقی سید یبتعد عن العقاد ، ویزداد ابتعاده عنه ، كلما زاد اقترابه من القرآن والعمل مع الإخوان المسلمین ،وصار یتمیز بفهم خاص للقرآن ، وكان فی تفسیره "الظلال" یصوب بعض أفكار العقاد الخاطئة ، من مثل مناقشته له وهو یفسر سورة هود ویعقب على قصة نوح .إذ اتخذ هذه الفرصة لیصحح بعض ما أورده العقاد فی كتابه " الله" (19).
والحدیث عن تصویباته یطول ، لذلك أكتفی بالإشارة إلى نیة سید قطب تألیف كتاب "تصویبات فی الفكر الإسلامی المعاصر" یخصصه للأخطاء الفكریة المعاصرة التی یقع فیها المفكرون فی كتابتهم عن الإسلام ، وعلى رأسهم العقاد.
إذا یمكن تلخیص لقاء سید قطب بالعقاد وما ترتب علیه من آثار وتطورات فی منهجه الفكری والأدبی والسیاسی بالآتی : لقد بدأ سید قطب تلمیذَا للعقاد ثم أعجب بأستاذه وأحبه حبًا جما، ثم ترجم حبه بطریقة صوفیة فأصبح مریدًا، وآل به الحال لاعتناق مذهب أستاذه فتبنى منهجه و جمیع أفكاره ودافع عنها، وهذا التعمق فی المذهب أضاء فی نفسه شرارة الخشیة من الفناء الكامل فی أستاذه ، فحاول الانفكاك ما استطاع إلى ذلك سبیلًا ، وأصبح له فهمه الخاص فی كثیر من المسائل الأدبیة والفكریة والسیاسیة ، فخالف مذهب العقاد وصوّب أخطاءه وأبان عن وجه الحق الذی یرتضیه فی بعض المسائل الدینیة والعقائدیة ، وكانت هذه المخالفة سببا فی جفوة العقاد له ، وعدم اعترافه بقَدْرِه فی أغلب ما خاض من مجالات ، ولم یحمل سید قطب فی نفسه سوى المرارة والإصرار على استكمال مشواره مؤمنًا بأن الحق یعلو على كل شیء وأن الحقیقة والمعرفة لا تنحصر فی مذاهب ولا أشخاص.كان یقول رحمه الله :"إن كل كلمة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان ، أما الكلمات التی ولدت فی الأفواه ، وقذفت بها الألسنة ، ولم تتصل بذلك النبع الإلهی ، فقد ولدت میتة ، ولم تدفع بالبشریة شبراً واحداً إلى الأمام. إن أصحاب الأقلام یستطیعون أن یصنعوا شیئاً كثیراً ، ولكن بشرط واحد : أن یموتوا لتعیش أفكارهم ، وأن یطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم ، وأن یقولوا ما یعتقدون أنه حق،ویقدموا دماءهم فداء لكلمة الحق . إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثاً هامدة ، حتى إذا متنا فی سبیلها أو غذیناها بالدماء انتفضت حیة وعاشت بین الأحیاء ..".
----------------
هوامش المقالة :
(1) مجلة الرسالة ، السنة الثانیة عشرة ، مج2، ع551، 1944، ص91 .
(2) المصدر نفسه ، السنة السادسة ، مج1 ، ع257 ، 1938، ص937.
(3) نفسه ، السنة السادسة ، مج1 ،ع251، 1938، ص692.
(4) نفسه، ص694.
(5) نفسه ، السنة السادسة، مج2 ، ع268، 1938، ص1380_1381.
(6) نفسه ، السنة الثانیة ، مج2 ، ع594 ، 1944، ص1035.
(7) نفسه، السنة السادسة ، مج2 ، ع280، 1938، ص1866.
(8) مجلة الأسبوع ، مج3، ع35، 25/7/1934م ، ص22.
(9) نفسه ، ص22_23.
(10) مجلة الرسالة ، السنة الرابعة عشرة ، مج2 ، ع683، 1946، ص874.
(11) كتب وشخصیات ، سید قطب ، دار الشروق ، بیروت ، ط3، 1983، ص84، 102.
(12) نفسه، ص84.
(13) مجلة الكتاب، مج5، ج2، 1948، ص248.
(14) نفسه ، ص249.
(15) مذكرات سائح فی الشرق العربی ، أبو الحسن علی الحسنی الندوی ، مؤسسة الرسالة ، بیروت، ط2، 1975 ص96.
(16) نفسه ، ص96.
(17)انظر: مجلة الرسالة ، السنة الرابعة عشرة ، مج1، ع663، 1946، ص289_291.
(18) مجلة الثقافة ، السنة الثالثة عشرة ، ع663، 1951، ص8.
(19) انظر: فی ظلال القرآن، سید قطب ، دار الشروق ، بیروت، ط17 ، مج4، ص1882_1885.