ابزار وبمستر

متــــرجـــــم عـــربی - دکتر مهدي شاهرخ

الالتزام فی الأدب

 

من المعروف أن الوظیفة الاجتماعیة والأخلاقیة والجمالیة للأدب قدیمة قدم الأدب نفسه، وأن ثمة میلاً إنسانیاً قدیماً ومقیماً للاهتمام بوظیفة الأدب وتوجیهه لمصلحة الفرد والمجتمع والوطن والإنسانیة والمعتقد. ولكنَّ هناك فرقاً بین الإیمان النظری العام بوظیفة الأدب، وهو ما اصطلح على تسمیته بالنظریة الأخلاقیة، ومفهوم الالتزام الحدیث الذی ینبثق من النظریة الأخلاقیة ذاتها ولكنه یتجاوزها متجهاً نحو العمل على تنظیم وظیفة الأدب وتعمیق الوعی بها، وتحدید مسؤولیة الأدیب، وأحیاناً إلزامه بهذه المسؤولیة، انطلاقاً من موقف إیدیولوجی محدد متسم بالوعی النظری. فالالتزام: هو الشكل الواعی المنظم (المؤدلج) للنظریة الأخلاقیة، وهو ـ بهذا المعنى ـ ممارسة حدیثة العهد لا تعود بدایاتها الأولى إلى أكثر من قرن واحد من الزمن، وإن كانت فی التاریخ الأدبی القدیم أشكال من الالتزام غیر المبنیّ على الاتساق الفكری والاستمراریة المنظمة كالتزام الأدب الموقف الدینی فی العصور الوسطى عند الأوربیین، وربما كذلك عند العرب، ولاسیما فی مجالی الشعر الدینی والشعر السیاسی (الأحزاب).

وإذا كان مفهوم الالتزام یرجع إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرین، كما یُستخلص من تنظیرات ثورة (أكتوبر) الاشتراكیة وما سبقها من إرهاصات فی روسیة، فإن استخدام كلمة «الالتزام» بالمعنى الاصطلاحی الحدیث یرجع إلى أوائل أربعینات القرن العشرین، إذ كان المفكر الوجودی الفرنسی جان بول سارتر [ر] أول من بلور مصطلح «الالتزام» للدلالة على مسؤولیة الأدیب، ولتوكید أن الكلام الأدبی لیس مجرد ترویح عن النفس أو تعبیر جمالی، وإنما هو «موقف» یستتبع المسؤولیة.

ولكن ذیوع مصطلح «الالتزام» على ید سارتر یجب ألا ینسینا أبداً أن مفهوم «الالتزام» المنظم یعود إلى أدبیات المذهب الواقعی الاشتراكی الذی یقوم أصلاً على تأكید ارتباط النتاج الأدبی بالبنیة التحتیة (الاقتصادیة ـ الاجتماعیة)، ومن ثم على تأكید رسالة الأدب والفن للعمل فی سبیل التغییر من أجل الحیاة الكریمة والغد الأفضل. وقد اتخذ هذا المفهوم منذ البدء صیغة مذهب أدبی متماسك حمل اسم «الواقعیة الاشتراكیة». وهو حصیلة النظرة الماركسیة إلى الأدب والفن من الناحیة النظریة. كما أنه، من الناحیة العملیة، حصیلة التجربة الأدبیة المعاصرة للأدباء الاشتراكیین فی الاتحاد السوفییتی (سابقاً) والبلدان الاشتراكیة الأخرى وأقطار كثیرة فی العالم. ومفاد هذه النظرة أن الأدب ابن طبقته وعصره، وهو تعبیر عن التطورات الاقتصادیة والاجتماعیة فی العصر، وفی خضم معركة صراع الطبقات لا یستطیع الأدیب أن یقف موقف المتفرج أو أن ینقطع للتأمل المجرد فی برجه العاجی، وإنما هو مطالب بالتجاوب مع نضال الطبقة الكادحة (البرولیتاریة) وأهدافها، وعلیه أن یقف إلى جانب الحیاة ویلتزم مناصرة قوى التقدم والتحرر والثورة، وهكذا یكون الموقف المشترك بین كتاب «الواقعیة الاشتراكیة» هو التزام أهداف الطبقة العاملة والنضال فی سبیل تحقیق الاشتراكیة والعالم الأفضل.

على أن النصوص الأولى للواقعیة الاشتراكیة لا تستخدم كلمة «الالتزام» استخداماً اصطلاحیاً، بل تركز عادة على كلمة «هادف»، ومن هنا كانت أكثر الصفات تكرراً فی السلسلة الطویلة لتحدیدات الأدب الاشتراكی هی كلمة «هادف". ویلاحظ تكرار هذا الوصف لدى واحد من أقدم منظری الالتزام الأدبی الاشتراكی، وهو أناتولی لوناتشارسكی، ففی مقالته المبكرة «حول الواقعیة الاشتراكیة» (1932)، یؤكد أن الواقعیة الاشتراكیة تختلف عن الواقعیة البرجوازیة فی أنها فعالة بذاتها ومدركة لجدلیة الطبیعة والمجتمع، وكذلك ـ وهذا هو المهم ـ فی أنها هادفة، یقول: «ثم إنها هادفة. إنها تعرف ما هو خیر وما هو شر، وتلاحظ أی قوى تعیق الحركة وأی قوى تسهل سعیها المتوتر نحو الهدف الأعظم. وهذا كفیل بإضاءة كل صورة فنیة بطریقة جدیدة سواء من الداخل أم من الخارج. وهكذا یكون للواقعیة الاشتراكیة موضوعاتها لأنها تعطی الأهمیة بدقة لكل ما له قدر من التأثیر فی العملیة الأساسیة لحیاتنا، أی النضال من أجل تحویل كامل للحیاة وفق الخطوط الاشتراكیة». وقد قطع المذهب الواقعی الاشتراكی فی الممارسة والنظریة شوطاً كبیراً وأصبح الیوم یستند إلى تجربة تاریخیة طویلة، ومع هذا التطور یبرز سؤال نظری شدید الأهمیة حول مدى ورود معطیات هذا المذهب فیما یتصل بالثورات التحرریة وأقطار العالم الثالث والمجتمعات الناشئة التی ابتعدت، لظروف تاریخیة اجتماعیة سیاسیة ولتداخل العوامل التی تكوّن الیوم أدبها وثقافتها الوطنیة، عن مفهوم مجتمع الطبقة الواحدة وما یترتب على ذلك من بنى أدبیة وفنیة، وانتهجت منهجاً وطنیاً لا رأسمالیاً فی التنظیم الاقتصادی والاجتماعی، وكذلك انتهجت نهجاً ثقافیاً مبنیاً على الانفتاح والتفاعل سواء مع الموروث الثقافی والأدبی أم مع النتاج العالمی الجدید من العالم الاشتراكی بالدرجة الأولى ولكن من مناطق أخرى فی العالم أیضاً.

كذلك برزت منذ عام 1987 مسائل جدیدة  فی الالتزام الأدبی الاشتراكی نتیجة موجة إعادة البناء (بیریسترویكا)، التی دعت إلى الانفتاح والمرونة وبشرت بمرحلة جدیدة فی فهم الالتزام الأدبی یمكن أن ترجح فیها القیم الجمالیة على قیم المضمون.

وإلى جانب الواقعیة الاشتراكیة، برزت «الوجودیة» فی العصر الحدیث تنادی بالالتزام وتروّج له. وهی تختلف اختلافاً بیناً عن سابقتها الواقعیة الاشتراكیة فی أنها تنأى عن أی منحى أیدیولوجی وتجعل الالتزام نابعاً من وجدان الكاتب الفرد وقناعاته من دون أن یكون هناك معیار واضح لهذا الالتزام. ومن الصعب الكلام عن الوجودیین بالجملة لأن كل علم من أعلامهم له تجربته الخاصة، ومن بینهم جمیعاً یبرز جان بول سارتر أقوى مدافع عن نظریة الالتزام، وللأدب عنده خاصیتان أساسیتان مترابطتان: الالتزام واتخاذ المواقف. وهو یعفی الشاعر من الالتزام لأن الكلمة الشعریة لا تفید معناها الدقیق ومن ثم لا تتضمن موقفاً. وعنده أن حریة الكاتب ضروریة ومنها ینبع الالتزام، والالتزام لا یعنی سطحیة العمل الأدبی ووقوفه عند النصائح المباشرة أو المواعظ، بل یعنی حیویة العمل الأدبی فی ارتباطه بالعصر وملابساته وتوجیه الوعی فیه وجهة إنسانیة مسؤولة وغیر مشروطة.

ومن الواضح أن  هذه الملاحظات تتناول بنقد غیر مباشر ذلك المیل الذی ظهر فی كثیر من الكتابات الواقعیة الاشتراكیة نحو البساطة المتناهیة والمباشرة والتقریریة والمنبریة والبعد عن التساؤل، ولاسیما فی أوضاع سیاسیة معینة فی الاتحاد السوفییتی السابق كالمرحلة الستالینیة سیاسیاً والجدانوفیة ثقافیاً.

إن نظریة الالتزام عند سارتر لم تنبثق جاهزة، وإنما تبلورت بالتدریج عبر تجاربه الحیاتیة والكتابیة، وقد قادته هذه التجارب ابتداء من «طرق الحریة»  Les chemins de la liberté عام 1945، إلى مزید من ارتباط وجهة نظر الضمیر الفردی بالواقع الاجتماعی، وفی سنة 1946 عمل سارتر على تحدید مسؤولیة الأدیب بما یلی:

ـ إنتاج نظرة إیجابیة فی الحریة والتحریر.

ـ أن یتجه الكاتب فی كل حالة من الحالات إلى استنكار العنف من وجهة نظر أفراد الطبقات المضطهدة.

ـ تحدید علاقة صحیحة بین الغایات والوسائل، أی العلاقة بین الأخلاق والسیاسة. (ویركز سارتر على هذه النقطة تركیزاً خاصاً).

ـ أن یرفض الكاتب فوراً استعمال أی وسیلة من وسائل العنف فی تحقیق نظام من الأنظمة أو المحافظة علیه.

ویضیف سارتر: «إن المناداة بالحریة دون أن یكون  ذلك فی سبیل التغییر، المناداة بالحریة لمجرد أن تتمتع لحظة بذاتها إزاء أثر جمیل، ذلك ما یقال عنه: الفن للفن. هذه الطریقة فی المناداة بالحریة المبدعة ضد النفع، ضد تقدم الآلات، ضد الطبقة، إنما هی طریقة فی أن یكون المرء ضد البرجوازیة ومرتبطاً بالبرجوازیة فی آن واحد».

ومع أن هناك دائماً تعدیلات وتغییرات تطرأ على آراء سارتر وزملائه من أصحاب فلسفة الوجود فإن الآراء السابقة یمكن أن تعد أوضح ما قیل فی مجال الالتزام.

ومن المفید فی تقویم الالتزام الوجودی الإشارة إلى أنه لم یصمد كثیراً للتجربة وكان مقتله فی نقطة تمیزه  ذاتها. فقد حاول سارتر مثلاً أن یتجاوز الفلسفتین السائدتین فی عصره، اللیبرالیة البرجوازیة والماركسیة، وأن یشق طریق الالتزام بعیداً عن الإیدیولوجیة. وبالفعل قام بمناصرة الثورات فی كل مكان: فی الجزائر وكوبة وفنزویلة وفییتنام وتعرض من جراء ذلك لاعتداءات متكررة؛ ولكنه سقط فی الامتحان الصعب للقضیة الفلسطینیة، ولم تنفع علاقاته الحمیمة بالمثقفین العرب؛ ولا زیارته المباشرة لفلسطین والمنطقة العربیة فی تحركه ضد الظلم الصهیونی الذی عاناه الشعب الفلسطینی، وهكذا كانت التجارب تضعف أمام أسئلة لا جواب عنها. وحین كتب مذكراته «الكلمات» فی منتصف الستینات كان واضحاً أنه وصل إلى الطریق المسدود فیما یتعلق بالالتزام الأدبی، وتكررت مواقفه الدالة على اقترابه من حافة الیأس من مهمة الأدب والكتابة. وفی عید میلاده الستین مثلاً (15/7/1965) أعلن أن: «إرسال قمح إلى شعب جائع خیر من كتابة مقال فی الأدب، والعمل فی خدمة قضیة سیاسیة محلیة تتعلق بالانتخابات فی فرنسة قد تكون أكثر نفعاً من كتابة الجزء الثانی من نقد العقل الدیالیكتی».

وتنكشف الخیبة على نحو أقوى عند سیمون دو بوفوار[ر] رفیقة حیاة سارتر، وتتسع لتكون خیبة أدبیة عاطفیة سیاسیة شخصیة كما یتضح فی كتابها «قوة الأشیاء"، وهو سیرة ذاتیة، وكذلك كانت الخیبة نهایة الكاتب الوجودی ألبیر كامو[ر] الذی كان تأثیره عظیماً بعد الحرب وحاول أن یلقن الناس علماً أخلاقیاً جدیداً مفاده أن الحیاة البشریة من خلال صخب العالم المعاصر أصبحت ضرباً من المحال، ولم یبق من قیم سوى الصدق والرفض والثورة على الزیف «بعین النسر التی لا تراوغ».

وقد فضل الوجودیون باستمرار القصة والمسرحیة لطرح المشكلات الإنسانیة والمیتافیزیقیة، ومعظمهم تجنبوا البحث النظری الفلسفی المباشر.

والجدیر بالذكر أن موجة الالتزام الوجودیة طغت على الأدب العربی فی الخمسینات وأوائل الستینات من القرن العشرین، وحاول كثیر من الكتاب العرب صیاغة إنتاجهم القصصی على النمط الوجودی، وترجمت معظم المؤلفات الوجودیة، ونشرت فی الصحافة الأدبیة العربیة عشرات المقالات حول الوجودیة وفكرها وأدبها، وكان للأدب العربی فی سوریة نصیب من محاولة الاستفادة من التجربة الوجودیة، وتمثل ذلك بوجه خاص فی الإقدام على المزاوجة القومیة الوجودیة أی فی إضفاء الالتزام الوجودی على الالتزام القومی، وإنطاق الأبطال القومیین فی الأدب القصصی بالمقولات الوجودیة وذلك فی محاولة للتأكید أن الالتزام القومی یجب أن یكون نابعاً من صمیم القناعة الخاصة للفرد الواعی.

وأخیراً لا بد من الإشارة إلى أن الالتزام الأدبی بمفهومه الواسع تلقى رفداً عظیماً من نتاج الأدباء المناضلین ضد الظلم والاحتلال والاستبداد فی أنحاء مختلفة من العالم، ومن أدباء ثورات التحرر الوطنی والاجتماعی، وفی مقدمة هؤلاء: لوی أراغون[ر]، وبابلو نیرودا [ر]، وناظم حكمت [ر]، وفریدریكو غارثیا لوركا [ر].

كما أن الأدب العربی المعاصر رفد مفهوم الالتزام «الطوعی» بدفاق من تجارب الأدب القومی والوطنی والاجتماعی، وأدب المناسبات العامة، مع ما یشوب هذا الأدب من عاطفیة مسرفة وتعلق آنی بالمناسبة، ویمكن القول إن أفضل مثل قُدم فی هذا الباب هو أدب المقاومة الفلسطینیة الذی نجح جزء كبیر منه، فی توفیر الموقف الملتزم ذاتیاً، والإبداع الجمالی ولو نسبیاً، والأفق الإنسانی الرحب.

المراجع:

ـ لوناتشارسكی، «حول الواقعیة الاشتراكیة"، ترجمة حسام الخطیب، الآداب الأجنبیة، ع1، س6 (تموز 1979).

ـ جان بول سارتر، الأدب الملتزم، ترجمة جورج طرابیشی (دار الآداب، بیروت 1965).

ـ حسام الخطیب، سبل المؤثرات الأجنبیة وأشكالها فی القصة السوریة، ط3 (دمشق 1981).



+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:36|
الأدب العربي في العصر الأندلسي

 

    [الأندلس والمغرب وشمالي إفريقية وصقلية]

    الأندلس والمغرب جزءان مترابطان من عالم واحد كان يعرف في القديم عند المشارقة بالمغرب الإسلامي، وقد ظلا يتمثلان طوال العصور الوسطى حضارة واحدة مشتبكة العلاقات في السياسة والفكر والاجتماع. وفي العلاقات البشرية المستمرة من هجرة واختلاط وتزاوج.

    وقد كونت صقلية مع بلاد المغرب وشمالي إفريقية والأندلس وحدة ثقافية ذات طابع خاص جوهره التراث الثقافي العربي الإسلامي، وساعد في حفظه كثرة الانتقال والاتصال.

    وقد أدت الأندلس وصقلية دوراً بارزاً في النهضة الأوربية عن طريق نقل هذا التراث كما يشهد بذلك الباحثون، مما يجعل الحديث عن فضل الحضارة العربية الإسلامية من الوقائع التاريخية الثابتة.

    الأندلس

    الحياة السياسية والاجتماعية في الأندلس

    أطلق العرب لفظ الأندلس AL- Andalus على القسم الذي سيطروا عليه من شبه جزيرة إيبرية (إسبانية والبرتغال) واستقروا فيه زهاء ثمانية قرون (منذ فتحها عام 92هـ/ 711م بقيادة طارق بن زياد وموسى بن نصير، وآخرين، حتى سقوط غرناطة عام 897هـ/1492م) فجاؤوا بلغة حية تأثرت بها اللغتان الإسبانية والبرتغالية، وبمد حضاري حمل عبارة تتصدر معاهد العلم وهي: «العالم يقوم على أربعة أركان: معرفة الحكيم، وعدالة العظيم، وصلاة التقي، وبسالة الشجاع».

    حكم الأندلس مدة ستة وأربعين سنة (92-138هـ/711-755م) ولاة كان يعينهم الخليفة في دمشق، أو عامله على إفريقية، ولما قوض العباسيون صرح الدولة الأموية، فر عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن مروان من الشام في مغامرة طويلة حتى وصل إلى الأندلس سنة 137هـ/755م، واستطاع بحذقه السياسي أن يؤسس إمارة حاضرتها قرطبة Cordoba استمرت من عام 138 حتى عام 300هـ/756-912م، ولقب «بالداخل» و«بصقر قريش».

    وفي عهد عبد الرحمن الثالث الذي لقب «الناصر» وحكم من سنة 300 حتى 350هـ/ 912-961م، تحولت الإمارة إلى خلافة، وفي هذا الدور بلغت الأندلس أوج مجدها السياسي والأدبي ونافست قرطبة بغداد.

    ثم انتثر عقد البلاد، فاستبدّ رؤساء الطوائف بالولايات، وقامت دويلات بلغت العشرين عدّاً عرف حكامها بملوك الطوائف (403-536هـ/1012-1141م) منها الدولة العبادية في إشبيلية، ودولة بني الأفطس في بطليوس، والدولة الجهورية في قرطبة.

    ومع انشغال الحكام بشؤونهم عن تدبير الملك، وازدياد ضغط الإسبان الشماليين على هذه الولايات، فزع الأندلسيون إلى يوسف بن تاشفين (500هـ/1106م) أمير الملثمين (المرابطين) في المغرب، فأنجدهم سنة 479هـ بعد انتصاره في معركة الزلاقة، ثم استقل بحكم الأندلس التي تحولت إلى ولاية تابعة للمغرب في زمن المرابطين والموحدين.

    وبعد هزيمة الموحدين سنة 609هـ/1212م في موقعة العقاب Las Navas de Tolosa التي جرت مع الإسبان، استطاع الإفرنجة أن يستولوا على الحصون والمدائن ومنها قرطبة التي سقطت سنة 623هـ/1235م، بعد أن لبثت خمسمئة وعشرين سنة عاصمة الملك. وحصرت الدولة في مملكة غرناطة التي حكمها بنو نصر (بنو الأحمر)، وشيدوا فيها قصور الحمراء Al- Hambra، وحافظوا على السلطان العربي في الأندلس زهاء قرنين ونصف القرن (635-897هـ/1218-1492م). ثم اتحدت مملكتا قشتالة Castilla، وأرغون Aragon في مواجهة بني نصر، وسقطت غرناطة، وسلم أبو عبد الله الصغير مفاتيح الحمراء إلى المنتصرين.

    كان قوام المجتمع الأندلسي في بداية الأمر من الفاتحين العرب والبربر، وقد وحدت بينهم راية الحرب، والدعوة إلى الجهاد.

    ودخل قسم كبير من أهل البلاد في الإسلام، وتمتع باقي السكان من النصارى واليهود بحياة مطمئنة، ومارسوا شعائرهم الدينية بكل حرية.

    وكان للأندلسيين عناية خاصة باللغة وعلومها وآدابها، إضافة إلى الفقه وعلوم الشريعة، وقد استقدم الخلفاء العلماء من المشرق لينقلوا معهم كنوزهم الأدبية فيتأدب بها الكثيرون. وكان للفقهاء في الأندلس سلطان عظيم لدى الدولة، ولدى عامة الناس.

    واحتلت المرأة في الأندلس منزلة عظيمة، ونالت حظاً وافراً من التعليم، ونبغت في العلوم والآداب والفنون كثيرات: قيل إن مئة وسبعين امرأة بضاحية قرطبة الشرقية كن يعملن يومياً في نقل نسخ من القرآن الكريم بالخط الكوفي، وإن «إشراق العروضية» (القرن الخامس الهجري) كانت تحفظ «الكامل» للمبرد، و«النوادر» للقالي، وكان يعهد إلى النساء بتربية أبناء الأمراء والأغنياء وتأديبهم، فابن حزم تلقى ثقافته الأولى على يد نساء قصر أبيه، وهن علمنه القرآن، وروينه الأحاديث الشريفة، ودربنه على الخط.

    وكانت الشواعر ملمحاً بارزاً من ملامح الشعر الأندلسي لوفرتهن ونبوغهن، وقد ارتبط سحر شعر النساء باسم ولادة (ت484هـ) بنت الخليفة المستكفي (ت 416هـ) فقد غشي منتداها فرسان النظم والنثر، ومنهم ابن زيدون (ت463هـ) الذي نعم بوصلها، وشقي بهجرها، فقال فيها أجمل الغزل وأرقه.

    الأدب العربي في الأندلس  

    الشعر

    فنون الشعر الأندلسي: نظم الأندلسيون الشعر في الأغراض التقليدية كالغزل والمجون والزهد والتصوف والمدح والهجاء والرثاء، وقد طوروا موضوع الرثاء فأوجدوا «رثاء المدن والممالك الزائلة» وتأثروا بأحداث العصر السياسية فنظموا «شعر الاستغاثة»، وتوسعوا في وصف البيئة الأندلسية، واستحدثوا فن الموشحات والأزجال.

    وكان الغزل من أبرز الفنون التقليدية، يستهل به الشعراء قصائدهم، أو يأتون به مستقلاً،وبحكم الجوار أولاً، ولكثرة السبايا ثانياً، شاع التغزل بالنصرانيات، وكثر ذكر الصلبان والرهبان والنساك. كذلك شاع التشبيب بالشعر الأشقر بدلاً من الشعر الفاحم، وكما أن الشعراء جعلوا المرأة صورة من محاسن الطبيعة. قال المقَّري: «إنهم إذا تغزلوا صاغوا من الورد خدوداً، ومن النرجس عيوناً، ومن الآس أصداغاً، ومن السفرجل نهوداً، ومن قصب السكر قدوداً، ومن قلوب اللوز وسرر التفاح مباسم، ومن ابنة العنب رضاباً».

    ولم يظهر المجون الذي يخلط فيه الجد بالهزل في عهد الدولة الأموية في الأندلس لانشغال الناس بالفتوح، من جهة، ولأن الوازع الديني كان قوياً في النفوس، من جهة ثانية. لكن، منذ عصر ملوك الطوائف حتى نهاية حكم العرب في الأندلس، اتخذ بعضهم المجون مادة شعرهم، وأفرطوا فيه إلى حد الاستهتار بالفرائض، مع أنه ظهر في القرن الخامس الهجري في ظل دول الطوائف عدد غير قليل من الشعراء الذين نظموا في الزهد، كأبي إسحق الإلبيري (ت460هـ)، وعلي بن إسماعيل القرشي الملقب بالطليطل، والذي كان أهل زمانه (المئة السادسة) يشبهونه بأبي العتاهية.

    ولئن كان الزهد دعوة إلى الانصراف عن ترف الحياة، فإن التصوف شظف وخشونة وانعزال عن الخلق في الخلوة إلى العبادة. ويتخذ الشعر الصوفي الرمز أداة للتعبير عن مضمونه وحقائقه. ومن متصوفة الأندلس ابن عربي (ت638هـ) وقد لقب «بمحيي الدين» و«بالشيخ الأكبر» وابن سبعين (ت669هـ) وكان يلقب «بقطب الدين».

    وفي المدح حافظ الشعراء على الأسلوب القديم، فاعتنوا بالاستهلال وحسن التخلص، وربما بدؤوا قصائدهم بوصف الخمر أو الطبيعة، أو بلوم الزوجة زوجها لسفره للقاء الممدوح كما في شعر ابن درَّاج القسطلي (ت421هـ)، وهم لم يغرقوا في استعمال الغريب ما عدا ابن هانئ (ت362هـ) الذي حاول تقليد المتنبي.

    ولم يختلف رثاء الأندلسيين عن رثاء المشارقة، فكانوا يتفجعون على الميت، ويعظمون المصيبة، وكثيراً ما كانوا يبدؤون بالحكمة صنيع ابن عبد ربه (ت328م).

    فنون الشعر الأندلسي المتطورة

    الشعر التعليمي: ويراد به الأراجيز والمنظومات التاريخية والعلمية، وهو لا يلتقي مع الشعر الفني الذي يغلب عليه عنصرا الخيال والعاطفة إلا في صفة النظم، ويستقل في الرجز كل شطر بقافية. من الأراجيز التاريخية أرجوزة يحيى ابن حكم الغزال (ت250هـ) شاعر عبد الرحمن الثاني (الأوسط) وهي في فتح الأندلس، وأرجوزة تمام بن عامر بن علقمة (ت283هـ) في فتح الأندلس وتسمية ولاتها والخلفاء فيها ووصف حروبها، وأرجوزة ابن عبد ربه في مغازي عبد الرحمن الثالث، وأرجوزة أبي طالب عبد الجبّار (القرن الخامس الهجري) وكان مواطنوه يلقبونه بالمتنبي وقد قصر شعره على الوصف والحرب والتاريخ، وأرجوزة لسان الدين بن الخطيب (ت776هـ) «رقم الحلل في نظم الدول» وهو تاريخ شعري للدولة الإسلامية في المشرق والأندلس. ويلي كل قصيدة شرحها.

    ومن الأراجيز العلمية أرجوزة ابن عبد ربه في (العروض) وأرجوزة الشاطبي، القاسم بن فيّرة (ت590هـ) في القراءات وعنوانها «حرز الأماني». وألفية ابن مالك (ت بدمشق سنة 672هـ) في النحو، وأرجوزة لسان الدين بن الخطيب المسماة «المعتمدة» في الأغذية المفردة، وأرجوزة أبي بكر محمد بن عاصم (829 هـ) في القضاء وعنوانها «تحفة الحكام في نكت العقود والأحكام»، وتذكر في نطاق الشعر التعليمي منظومة حازم القرطاجني (ت684هـ) وهي منظومة ميمية في النحو عدد أبياتها سبعة عشر ومئتان، وبديعية ابن جابر الضرير (ت780هـ) التي نظمها في مدح الرسول الأعظم e، وضمنها نحو ستين فناً بديعياً، وسماها «الحلة السيرا في مدح خير الورى».

    وصف الطبيعة: ألهبت طبيعة الأندلس الجميلة قرائح الشعراء، فرسموا لوحات شعرية متنوعة أودعوها أخيلتهم وعواطفهم.

    رأى عبد الرحمن الداخل نخلة بالرصافة (شمالي قرطبة)، فلم يصفها في طولها ولا في التفافها ولا في ثمرها، وإنما عقد بينه وبينها شبهاً في النوى والبعد عن الأهل. ووصف ابن عبد ربه الطبيعة بمعناها العام المتمثل في الرياض وأزهارها فخلع على صياغته من نفسه ومهارته ما جعلها مصورة البيئة الأندلسية أدق تصوير وأحلاه. وقد ردد ابن حمديس (ت527هـ) أصوات القدماء في الطبيعة كما ردد أصوات المحدثين، ووصف الخيل والإبل والغيث والبرق، وأقحم عبارات امرئ القيس، ثم حاكى أبا نواس في الدعوة إلى نبذ الوقوف على الأطلال، ودعا إلى الشراب، وكثيراً ما وصف ترحاله وتغربه عن صقلية التي أبعد عنها وهو حدث (471هـ) لما غزاها النورمان.

    تغنى الشعراء الأندلسيون بجمال الطبيعة الأندلسية، فابن سفر المريني يتعلق بالأندلس فيراها روضة الدنيا وما سواها صحراء، وابن خفاجة الذي لقب «بالجنّان» و«بصنوبري الأندلس» يشبهها بالجنة فهو يقول:

يــا أهــل أندلـــس لله دركـــم
           

مــاء وظل وأنهار وأشــــجار

مـا جنة الخلد إلا في دياركـم
   
   

ولـــو تخيرت هذي كنت أختار

    ووصف شعراء الأندلس أقاليم الأندلس وربوعها وصفاً دقيقاً، فحمدة بنت زياد (من شواعر القرن الخامس الهجري) تصف وادي آش Guadix القريب من غرناطة فترسم أكثر من صورة متحركة.

    وبدافع من التطور الحضاري أدخل الأندلسيون إلى قصورهم المنيعة الماء ليملأ البرك في باحتها، ولينتشر من أفواه التماثيل كما في وصف ابن حمديس بركة في قصر المتوكل بن أعلى الناس بإفريقية.

    أما وصف مجالس الأنس فقد بدأ ظاهرة اجتماعية في أخريات الدولة الأموية في الأندلس،ثم أخذت المجالس بالانتشار والشيوع ويغلب على هذا الشعر الارتجال، وفيه وصف للساقي والخمر.

    كذلك رأى الشعراء الأندلسيون في المرأة صورة من محاسن الطبيعة، وقد ألح ابن زيدون في ديوانه على ثنائية ولادة والطبيعة.

    وفي بعض أشعارهم ميل إلى النزعة القصصية، ومن ذلك قول جعفر بن عثمان المصحفي (ت372هـ) في سفرجلة تتبع وصفها مذ كانت تختال على شجرتها إلى أن ذبلت في كف الشاعر.

    ويغلب على الوصف في الشعر الأندلسي التشبيهات والاستعارات ويمثل لها بشعر ابن سهل (ت649هـ)، فقد صور الشاعر الطبيعة فأحسن المزج بين الألوان، وجمع بين الحس المرهف، والملاحظة الدقيقة.

    رثاء الممالك الزائلة: وهو تجربة إنسانية قل نظيرها في الأدب العربي لما اتصف به من حدة وحماسة، وجرأة في نقد المجتمع، ودعوة لاسترجاع ما ذهب.

    لقد رثى المشارقة المدن التي استبيح حماها، كما صنع ابن الرومي حين رثى مدينة البصرة عندما أغار عليها الزنج سنة 255هـ، لكن هذا اللون لم يظهر في الأدب المشرقي كما ظهر في الأدب الأندلسي فناً قائماً بذاته يسير في ثلاثة اتجاهات: الأول هو رثاء المدن التي كانت عامرة فخربت أو ضاعت، ويمثل لـه بشعر أبي إسحق الألبيري يصف إلبيرة Elvira وما أصابها من دمار وخراب. أما الثاني فرثاء الدويلات التي زالت في أثناء الحكم العربي في الأندلس وفيه يعدد الشعراء ما حل بأرباب نعمتهم من أسر أو قتل أو تشريد كما في رثاء ابن اللبانة (ت507هـ) دولة بني عباد، ورثاء ابن عبدون (ت527هـ) دولة بني الأفطس في قصيدته الرائية «البسّامة» وأما الاتجاه الثالث فهو الشعر الذي نظمه أصحابه في رثاء المدن الضائعة مما سقط في يد العدو كما في قصيدة أبي البقاء الرندي (ت684هـ) التي تتوزعها ثلاث فكر هي الاعتبار بزوال الدول، وتصوير سقوط المدن، ثم دعوة المسلمين إلى الجهاد.

    شعر الاستغاثة: ويقوم على استنهاض عزائم ملوك المغرب والمسلمين لنجدة إخوانهم في الأندلس أو التصدي للاجتياح الإسباني.

    وقد أورد المقّري في نفح الطيب قصيدة ابن الأبَّار (ت658هـ) التي استغاث فيها بسلطان تونس أبي زكريا الحفصي سنة 636هـ ومطلعها:

أدرك بخيلك خيــل الله أندلســـا             إن الســبيل إلى منجاتها درســا

   فاستوعبت معظم الاتجاهات والمعاني التي أتى بها شعراء الاستغاثة.

     الموشحات والأزجال:

    أحدث الأندلسيون فناً جديداً يتجاوب مع البيئة التي شاع فيها الغزل والشراب والغناء وهو الموشح الذي يعتمده أكثر من وزن وأكثر من قافية، فيعمد الوشاح فيه إلى ضرب من التنويع والافتنان العروضي.

    نشأ هذا الفن في القرن الثالث الهجري على يد رجلين من قرية قبرة cabra بالأندلس هما: محمد بن حمود الضرير، ومقدم بن معافى، كما قال ابن بسام وابن خلدون. وإن كان بعض الدارسين، ومنهم المستشرقان الإسبانيان خوليان ريبيرا Ribera وغارثيا غومث Garcia Gomez، يرون أن الموشح تقليد لشعر رومانسي كان الإسبان يتغنون به، وقد أبقوا منه الخرجة الأعجمية، فالموشح يتألف من مطلع ومجموعة أدوار وخرجة، فالمطلع هو القفل الأول، أما الدور فيتألف من مجموع القفل والغصن. ويأتي القفل على سمط أو اثنين أو أكثر، وكذلك الغصن، أما الخرجة فهي القفل الأخير من الموشحة.

    نظم الموشح في الأغراض المختلفة، وظهرت أسماء لامعة لوشاحين كان أغلبهم شعراء من أمثال أبي بكر عبادة بن ماء السماء (ت422هـ)، وعبادة القزاز (ت484هـ)، وابن اللبانة (ت507هـ)، والأعمى التُّطيلي (ت520هـ)، وابن بقي (ت540هـ)، وابن زهر الحفيد (ت595هـ)، وابن سهل الإشبيلي (ت659هـ)، وأبي الحسن الششتري (ت668هـ)، وأبي حيان الغرناطي (ت745هـ)، ولسان الدين بن الخطيب (ت776هـ)، وابن زمرك (ت797هـ)، وابن عاصم الغرناطي.

    ولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس، نسجت العامة على منواله بلغة غير معربة قريبة إلى اللغة التي يتكلم بها الناس في مخاطباتهم اليومية ما سموه بالزجل.

    وقد مرت الأزجال بأدوار متلاحقة أولها دور الأغنية الشعبية، ثم دور القصيدة الزجلية، واتسعت الأزجال لأغراض كثيرة كالمديح والغزل والتصوف والوصف.

    ومن أشهر الزجالين ابن قزمان (554هـ)، وله ديوان أزجال كبير ويخلف بن راشد، وكان إمام الزجل قبل ابن قزمان، ومدغلّيس (أحمد ابن الحاج) الذي كان شاعراً وشاحاً، والششتري وقد برع في القصيدة والموشح، وهو أول من استخدم الزجل في التصوف كما استخدم محيي الدين بن عربي التوشيح فيه.

    خصائص الشعر الأندلسي: مر الشعر الأندلسي بأطوار ثلاثة: فكان منذ الفتح حتى أوائل القرن الخامس الهجري يمثل شعر التقليد لأدب المشرق، ولم يكن التقليد عجزاً عن الابتكار، وإنما لشعور الانتماء إلى الأصل كشعر ابن عبد ربه، وابن هانئ وابن شهيد، وابن دراج القسطلي.

    وفي القرن الخامس الهجري جمع الشعراء بين التجديد والأخذ بشيء من التقليد، ويمثل هذا التطور شعر ابن زيدون، وابن عمار،والمعتمد بن عباد، وابن الحداد، والأعمى التطيلي.

    أما في القرن السادس الهجري وما بعده، فقد صور الشعراء بيئتهم، وبرزت العوامل الأندلسية الذاتية كما في شعر ابن حمديس، وابن عبدون، وابن خفاجة، وابن سهل، وأبي البقاء الرندي، وابن خاتمة الأنصاري، ولسان الدين بن الخطيب، وابن زمرك، ويوسف الثالث ملك غرناطة، وابن فركون، وعبد الكريم القيسي البسطي.

    لقد أولع الأندلسيون بكل ما هو شرقي، وفي هذا يقول ابن بسام (ت542هـ): «إن أهل هذا الأفق - يعني الأندلس - أبوا إلا متابعة أهل المشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعتادة رجوع الحديث إلى قتادة، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طن بأقصى الشام أو العراق ذباب. لجثوا على هذا صنماً، وتلوا ذلك كتاباً محكماً».

    وبسبب هذه المحاكاة للمشارقة في أساليبهم ومعانيهم قيل للرصافي ابن رومي الأندلس، ولابن دراج متنبي المغرب، ولابن هانئ متنبي الأندلس، ولابن زيدون بحتري المغرب والأندلس.

    وكانت ظاهرة الانتقاء من التراث من خصائص الأدب الأندلسي، فكانوا يضمنون قصائدهم أقوال السابقين وأشعارهم وأمثالهم وما صادف هوى في نفوسهم.

    كما لقي حب الجديد صدى مستحباً في نفوس الأندلسيين، فلم يتقيد أغلبهم بأساليب الأعراب ومعانيهم وأوصافهم، ولم تكن لغتهم محكمة كلغة المشارقة والأقدمين لبعد صقعهم عن البادية، ولوجود جيل لم يكن عربياً صرفاً، وقد نفروا من الألفاظ الوحشية إلى الألفاظ المأنوسة الرقيقة، وكانت القافية الواحدة، وأوزان العروض الستة عشر ومثلها أكثر المعاني والأساليب المتوارثة قوام الشعر التقليدي في الأندلس.

    أعلام الشعراء: لم يهتم الناس في عصر الولاة بصناعة الأدب لانشغالهم بالفتوح وإن لم يخل العصر ممن نظموا الشعر في بعض المناسبات.

    فقد حفظت المصادر اسم أبي الأجرب جعونة ابن الصمة، وأبي الخطار حسام بن ضرار الذي وفد على الأندلس والياً سنة 125هـ/742م.

    وفي عصر الإمارة نشط الشعر، وكان العدد الأكبر من الأمراء الأمويين في الأندلس شعراء منهم عبد الرحمن الداخل (113-172هـ) وتبدو في شعره رقة الشعر الأموي وجزالته، وقد طرق موضوعات عدة لكنه تعمق في الفخر والحنين.

    كما اشتهر من العامة يحيى بن حكم الغزال، وقد ترك شعراً يصنف في ثلاث مراحل: الأولى: مرحلة الشباب، وتغلب عليها موضوعات الغزل وما يتصل بذلك من دعابة ومجون، وقد سافر إلى بلاد النورمان أيام عبد الرحمن الأوسط فأعجب بملكتهم «تيودورا» وابنها فوصفها في شعره، والثانية هي مرحلة التعقل والأناة، وتغلب عليها موضوعات النقد الاجتماعي، ثم تأتي المرحلة الثالثة وهي مرحلة الزهد التي يذكّر فيها بالموت والفناء.

    وفي عصر الخلافة ظهر ابن عبد ربه الذي طرق الأغراض الشعرية المعروفة، ولما تناهت به السن نظم «الممحصات» وهي قصائد نقض فيها ما قاله في الصبا، فجاء بأشعار تغص بالمواعظ والزهد.

    أما جعفر بن عثمان المصحفي، وقد استخدمه الحكم المستنصر في الكتابة، فهو الحاجب الشاعر الذي فتن بالطبيعة فوصفها، وله أشعار يشكو فيها الزمان. وأما ابن فرج الجيَّاني فقد اشتهر بالكتابة والتأليف، وله أشعار غزلية تمثل الغزل العذري العفيف.

    وأما ابن هانئ، ويقال له الأندلسي تمييزاً له من ابن هانئ الحكمي (أبي نواس)، فقد نشأ بإشبيلية ثم غادرها إلى المغرب لتألب الناس عليه بسبب أفكاره الفلسفية، فلقي جوهراً قائد المعز لدين الله الفاطمي ومدحه، ثم اتصل بالمعز، وغادر معه إلى مصر بعد أن بنى جوهر القاهرة، ثم استأذن بالعودة إلى المغرب لاصطحاب أسرته، لكنه قتل في الطريق فقال المعز لما علم بنبأ قتله: «هذا الرجل كنا نرجو أن نفاخر به شعراء المشرق فلم يقدر لنا».

    وفي مرحلة الحجابة عرفت طائفة من الشعراء عاصر بعضهم المرحلة السابقة كالمصحفي، ولمع آخرون منهم المرواني الطليق (ت400هـ) وكان شاعراً مكثراً. قال عنه ابن حزم «إنه في بني أمية كابن المعتز في بني العباس».

    ومنهم يوسف بن هرون الرمادي (ت403هـ) اشتهر عند الأندلسيين بلقب (متنبي المغرب) لغوصه على المعاني، وفنون شعره هي المدح والوصف والغزل.

    ومنهم ابن دراج القسطلي (نسبة إلى قسطلة دراج من أعمال مدينة جيَّان) وهو يعد من أوفر الأندلسيين نتاجاً، وقد تقلب في ظلال نعمة المنصور بن أبي عامر، وخلد الكثير من غزواته.

    وفي عصر الفتنة كان الشعراء أقل عدداً من شعراء المراحل السابقة، وقد مزج بعضهم الشعر بكثير من النثر لأنهم عملوا في الدواوين، وكان بعض الخلفاء شعراء كالخليفة المستعين.

    من شعراء هذه المرحلة ابن شهيد، وابن حزم.

    شهد ابن شهيد (ت406هـ) عصر الفتنة الذي كان فاصلاً بين توحد الأندلس تحت ظل العامريين (حجّاب دولة بني أمية) وبين ظهور دول الطوائف، وقد ترك آثاراً نثرية وشعرية.

    أما ابن حزم (ت456هـ) فقد ولد بقرطبة سنة 384هـ ونهل من معين الثقافة مبكراً، وكان عالماً بالشعر، وصاحب مذهب حر في النقد، وكان في عصره صوتاً يغاير ما كان عليه جمهرة فقهاء الأندلس (كان المذهب السائد هو مذهب مالك) فقد تمذهب أول حياته بمذهب الشافعي، ثم مال إلى المذهب الظاهري، فاحتج له، وألف فيه، فأمر المعتمد بن عباد بحرق كتبه بتحريض الفقهاء.

    واجتهد ملوك الطوائف في رد قرطبة الغربية إلى المشرق فتشبهوا بخلفاء المشرق، وتباروا في اجتذاب العلماء والأدباء والشعراء.

     من شعراء هذه المرحلة أبو إسحاق الإلبيري وكان فقيهاً زاهداً له قصيدة حرض فيها صنهاجة (قبيلة باديس بن حبوس) على الوزير المتنفذ في غرناطة ابن النغريلة اليهودي، فكانت السبب في قتله. ومنهم ابن زيدون وكان متقدماً في علوم العربية وفي رواية الشعر. أدرك أواخر عهد الدولة المروانية، وخدم دولتي بني جهور في قرطبة، وبني عباد في إشبيلية. أحب ولادة ابنة المستكفي، وتغنى بحبها. ومن فنونه الشعرية الوصف والمدح والاستعطاف والشكوى، ومنهم ابن عمار (ت477هـ) الذي صحب المعتمد بن عباد منذ صباه ثم ساءت العلاقة بينهما، فلقي حتفه على يد المعتمد. له شعرفي الوصف والغزل والمدح والشكوى والاستعطاف.

    ومنهم ابن الحداد الوادي آشي (ت480هـ) صاحب إشبيلية، نفاه يوسف بن تاشفين إلى أغمات في المغرب بعد تغلبه على الأندلس. من فنونه الشعرية الغزل والوصف والشكوى.

    ومنهم ابن اللبانة (نسبة إلى أمه التي كانت تبيع اللبن) اختص بمدح عدد من ملوك الطوائف ومنهم المعتمد.

    من شعراء عصر المرابطين الأعمى التطيلي، وابن خفاجة، وابن الزقاق. نبغ الأعمى التطيلي في الشعر والموشحات، إلا أن شهرته في الموشحات أكثر منها في القصائد.

    أما ابن خفاجة (ت532هـ) فهو شاعر الوصف الأول في الأندلس، وقد لقب بالجنان، وبصنوبري الأندلس. وقد مدح شخصيات معاصرة له.

    وأما ابن الزقاق (ت529هـ) فقد نزع منزع خاله ابن خفاجة في الغزل ووصف الطبيعة، وله مدح ورثاء وهجاء.

    وفي عصر الموحدين سيطر على الناس حب الأدب، وقرض الشعر. فالرصافي البلنسي (ت572هـ) ولد في رصافة بلنسية، وبها قضى شطراً من حياته، ثم تحول إلى مالقة وترسم خطوات أستاذه ابن خفاجة في الوصف والمدح، وله شعر في الحنين.

    وابن مرج الكحل (ت634هـ) كان شاعراً مطبوعاً يغلب على شعره الوصف والغزل. وابن عربي، محيي الدين كان شاعراً ووشاحاً. من آثاره الشعرية ديوانه وترجمان الأشواق.

    وابن سهل الإشبيلي، إبراهيم كان والده يهودياً، وقد أسلم وحسن إسلامه. اشتهر بقوة الحافظة والقدرة على نظم الشعر، وقد ضم ديوانه قصائد في الغزل والوصف والزهد، واشتهر بموشحاته.

    وابن الأبار عرفت أشعاره في موضوعات الوصف والغزل والرثاء، وشعر الاستغاثة.

    ومنهم حازم القرطاجني الذي كان شاعراً ونحوياً وناقداً، وفنون شعره المدح والغزل والوصف. ومن شعراء بني الأحمر: أبو البقاء الرندي، واسمه صالح بن يزيد، اشتهر برثاء الأندلس، وله شعر في المدح والغزل. وابن جزي (ت758هـ) أبو عبد الله محمد بن محمد، وكان كاتباً بارعاً وشاعراً مشهوراً يغلب على شعره المدح، وهو الذي دون رحلة ابن بطوطة وصاغها بقلمه بأمر من أبي عنان المريني سلطان المغرب.

    وابن خاتمة الأنصاري اشتهر مؤلفاً مصنفاً، وشاعراً، وأبرز أغراضه الشعرية التأمل والنسيب والغزل والإخوانيات ووصف الطبيعة، وقد أكثر من التورية في شعره، وجمعها ابن زرقاله تلميذه في مصنف سماه «رائق التحلية في فائق التورية».

    ومنهم لسان الدين بن الخطيب، أبو عبد الله محمد بن عبد الله، ولسان الدين لقب عرف به، كما عرف بذي العمرين، وذي الميتتين، وذي الوزارتين. وقد ولد في لوشة Loja على مقربة من غرناطة - ترك أكثر من ستين مؤلفاً في الأدب والتاريخ والتصوف والطب والرحلات وديوان شعر عنوانه «الصَيِّب والجهام والماضي والكهام». وابن زمرك، وقد شارك في فنون أدبية مختلفة كالكتابة والشعر والموشحات، ويعرف بشاعر الحمراء لأن مقر الحمراء في غرناطة مزدان بشعره.

    ويوسف الثالث (ت820هـ) اشتهر أميراً ثم ملكاً شجاعاً، وشاعراً أصيلاً تبدو في أشعاره الحماسة العارمة والروح الدينية الوثابة. وابن فركون القيسي، وقد أدرك شطراً من القرن الثامن الهجري، وقدراً من القرن التاسع. ومن ممدوحيه يوسف الثالث، وجمع ما قيل فيه في كتاب سماه «مظهر النور الباصر في أمداح الملك الناصر». ترك ديوان شعر فيه المدح والغزل والوصف والإخوانيات والعتاب.

    وعبد الكريم القيسي البسطي من شعراء القرن التاسع الهجري، وكانت ثقافته شرعية وأدبية، ويصور شعره جوانب العصر (أيام الأندلس الخيرة) التاريخية والاجتماعية.

    النثر

    فنون النثر الأندلسي: تعددت فنون النثر العربي في الأندلس، فتناول الأندلسيون ما كان معروفاً في المشرق من خطب ورسائل ومناظرات ومقامات، وزادوا عليها بعض ما أملته ظروف حياتهم وبيئاتهم، وقد شاع فيهم تصنيف كتب برامج العلماء، التي تضمنت ذكر شيوخهم ومروياتهم وإجازاتهم. وكان للكتاب مزية الجمع بين الشعر والنثر والإجادة فيهما.

    الخطابة: كانت الخطابة وليدة الفتح، فقد استدعت الغزوات التي قام بها العرب المسلمون قيام الخطباء باستنهاض الهمم، وإذكاء روح الحماسة للجهاد في سبيل الله.

    ولما تمزقت البلاد، واستحالت إلى دويلات كثيرة، واستعان بعض أصحابها بالأعداء، كان الخطباء يقفون في المحافل العامة للدعوة إلى لم الشمل وترك التناحر.

    ومنذ عصر المرابطين، حتى آخر أيام المسلمين في الأندلس، ظهرت الخطب المنمقة، ومنها التي تتضمن التورية بأسماء القرآن الكريم كما في خطبة للقاضي عياض (544هـ) التي يقول فيها: «الحمد لله الذي افتتح بالحمد كلامه، وبين في سورة البقرة أحكامه، ومد في آل عمران والنساء مائدة الأنعام ليتم إنعامه...».

     الرسالة: كانت الرسالة في القرن الأول من الفتح ذات أغراض محددة أملتها ظروف العصر، وكان لا يلتزم فيها سجع ولا توشية. ثم حظيت كتابة الرسائل بكتاب معظمهم من فرسان الشعر استطاعوا بما أوتوا من موهبة شعرية وذوق أدبي أن يرتقوا بأساليب التعبير وأن يعالجوا شتى الموضوعات، فظهرت الرسائل المتنوعة ومنها الديوانية والإخوانية.

    فمن الرسائل الديوانية رسالة أبي حفص أحمد بن برد (ت428هـ) (المعروف بالأصغر تمييزاً له من جده الأكبر) من كتاب ديوان الإنشاء في دولة العامريين، وقد وجهها لقوم طلبوا الأمان من مولاه. واستخدم فيها الأسلوب الذي يخيف بالكلمة المشبعة بالوعيد.

    ومن الرسائل الإخوانية رسالتا ابن زيدون الهزلية والجدية، ورسالة لسان الدين بن الخطيب إلى صديقه ابن خلدون في الشوق إليه.

    وقد شاع استعمال لفظ «كتاب» عوضاً عن الرسالة، كما ورد في رسالة جوابية كتبها ابن عبد البر (ت458هـ) إلى أحد إخوانه يعبر فيها عن مدى إعجابه بأدبه.

    المناظرة: وهي فن يهدف الكاتب فيه إلى إظهار مقدرته البيانية وبراعته الأسلوبية، وهي نوعان خيالية وغير خيالية.

    فمن المناظرات الخيالية مناظرة بين السيف والقلم لابن برد الأصغر، وقد رمز بالسيف لرجال الجيش، وبالقلم لأرباب الفكر، ثم أجرى الحوار بينهما، وانتهى فيه إلى ضرورة العدل في المعاملة بين الطائفتين.

    ومن المناظرات غير الخيالية ما تجري فيه المناظرة بين مدن الأندلس ومدن المغرب كمفاخرات مالقة وسلا للسان الدين بن الخطيب، وكانت مالقة أيام الدولة الإسلامية من أعظم الثغور الأندلسية، أما سلا فهي مدينة رومانية قديمة في أقصى المغرب، وقد فضل الكاتب مالقة.

    المقامة: وهي نوع من النثر الفني نشأ في المشرق على يد بديع الزمان الهمذاني، ثم حذا حذوه الحريري. وفي الأندلس عارض أبو طاهر محمد التميمي السرقسطي (توفي بقرطبة سنة 538هـ) مقامات الحريري الخمسين بكتاب الخمسين مقامة اللزومية، وهي المعروفة بالمقامات السرقسطية، ولزم في نثرها المسجوع ما لا يلزم. كتب أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الأزدي (ت750هـ) «مقامة العيد» التي استكدى فيها أضحية العيد من حاكم مالقة الرئيس أبي سعيد فرج بن نصر.

    كما ألَّف لسان الدين بن الخطيب مقامات كثيرة منها مقامته في السياسة، وقد بناها على حوار بين بطلين هما الخليفة هارون الرشيد وحكيم فارسي الأصل عربي اللسان، وقد تضمّنت آراؤه وتجاربه الشخصية فيما ينبغي أن تكون عليه سياسة الحكم.

    كتب برامج العلماء: وتضم شيوخ مؤلفيها، وما أخذوه عنهم من الروايات، وما قرؤوه عليهم من الكتب، وما حصلوا عليه من الإجازات.

    واختلفت تسمية البرنامج بحسب المؤلِّفين، فيقال له المعجم، والمشيخة، والفهرس، والثبت، والسند والتقييد.

    ومن هذه الكتب فهرس ابن خير الإشبيلي (ت575هـ)، وبرنامج المجاري (ت862هـ)، وثبت البلوي الوادي آشي (ت938هـ).

    تطور النثر في مختلف أطوار العصر الأندلسي: عرفت في الصدر الأول من الفتح نماذج قليلة من النثر اقتضتها ظروف الفتح، كالخطابة التي تطلبتها مناسبات سياسية ودينية، والكتابة التي اقتضتها ظروف الحكم، وكتابة العهود والرسائل والتوقيعات. وهو نثر تغلب عليه المسحة المشرقية من حيث الميل إلى الجزالة وقوة العبارة وعدم اللجوء إلى المحسنات، ما عدا خطبة طارق بن زياد التي يدور الشك حول نسبتها إليه.

    وفي عهدي بني أمية والطوائف ظهر نوع من النثر المتأثر بنثر الجاحظ، وكان للحكام دور في تشجيع الأدباء على التأليف، وإسناد الوزارة إلى أصحاب الحذق والمهارة، فقد ألف ابن فرج الجيّاني كتاب «الحدائق» وقدمه للحكم المستنصر، وقد انتدب المعتضد العبادي الأديب الشاعر ابن زيدون لرئاسة الوزارة وإمارة الجيش فسمي بذي الوزارتين: وزارة السيف، ووزارة القلم.

    وفي عهدي المرابطين والموحدين ظهرت طائفة من الكتاب عنيت بالكتابة الإنشائية والتأليف في مختلف الأغراض، كما انتشرت في عهد الموحدين المكتبات التي تضم الكتب النفيسة. وعكفت طائفة من الكتّاب على  تأليف كتب جديدة منها «المطرب من أشعار أهل المغرب» لابن دحية (ت633هـ)، أو اختصار القديمة منها «اختصار الأغاني» للأمير أبي الربيع الموحدي (ت604هـ)، أو تدوين رسائل تشيد بما وصلت إليه الأندلس من تقدم ثقافي وازدهار علمي منها «رسالة في فضل الأندلس» للشقندي (ت629هـ).

    وفي عهد بني الأحمر اتسعت النماذج النثرية فصدر عن الكتاب النثر الديواني الذي يضم الرسائل، والكتابات على شواهد القبور، والعلامة السلطانية والنثر الإخواني بين الكتاب وذوي السلطة، أو بين الكتاب أنفسهم، والنثر الوصفي الذي يتناول وصف الشخصيات والاعلام، ووصف المدن والرحلات مثل رحلة البلوي خالد بن عيسى (ت768هـ) وعنوانها «تاج المفرق في تحلية علماء المشرق»، ورحلة القلصادي علي بن محمد (ت891هـ).

    وكثر التأليف في المقامات التي عنيت بتسجيل هموم الحياة، وخرجت عن الكدية والاستجداء إلا في القليل ومنها «مقامة العيد» التي استكدى فيها الأزدي خروف العيد ليرضي زوجته.

    خصائص النثر الأندلسي: على الرغم من تأثّر الكتّاب الأندلسيين بأساليب المشارقة، وطرائقهم الفنية، فقد كانت هناك خصائص امتاز بها نثرهم ولاسيما الترسل، فقد اتخذت رسائلهم في بنائها شكلاً فنياً يختلف في بعض جزئياته عن الرسائل المشرقية التي تبدأ في الغالب بالبسملة والتحميد والصلاة على الرسول الكريم، فصارت تخلو من الاستفتاح المعروف وتبدأ بالدعاء للمرسل إليه، وتعظيمه، أو بالمنظوم، أو بالدخول في الموضوع مباشرة.

    وتنوعت أساليب الإنشاء بتنوع الموضوعات، إلا أنَّ الكتاب حرصوا على الاقتباس من القرآن الكريم والحديث الشريف، وأكثروا من استعمال الجمل الدعائية والمعترضة، وبالغوا في إبراز الصور البيانية، واهتموا باستعمال المحسنات البديعية، وارتقوا بأسلوب التعبير حتى لتبدو بعض رسائلهم وكأنها شعر منثور كما في رسائل ابن زيدون.

    وفي العصور الأخيرة تنوعت أساليب الأداء الفني فاتخذت مستويين: أولهما مستوى الكاتب نفسه كما في نثر ابن الخطيب المُرْسَل، والمسجع، والثاني الاختلاف على مستوى الكتاب، وقد سار في اتجاهين يغلب على الأول الإفراط في الزخرفة اللفظية ورائده إسماعيل بن الأحمر (ت807هـ) في كتبه «نثير الجمان» و«نثير فرائد الجُمان» و«مستودع العلامة». ويغلب على الثاني الميل إلى الأسلوب المرسل، ويبدو في رسالة القاضي أبي الحسن النباهي التي يعدد فيها معايب لسان الدين بن الخطيب، وفي كتاب «الخيل» لعبد الله بن محمد بن جُزَيّ،وقد صدر الكتاب بنبذة عن تاريخ ثمانية من ملوك بني الأحمر، ثم تحدث عن صفات الخيل وأحوالها.

    أعلام الكتّاب في الأندلس: من أبرز أعلام الكتاب في الأندلس:

    ابن عبد ربه (ت328هـ): وكان شاعراً وكاتباً، وله في النثر كتاب «العقد الفريد» الذي قسمه إلى خمسة وعشرين باباً، وجعل لكل بابين منها اسم جوهرة لتقابلهما في العقد، وهو يجمع بين المختارات الشعرية والنثرية، ولأن أكثر مواده تتصل بالمشرق، فقد قال الصاحب بن عباد لما اطلع عليه: بضاعتنا ردت إلينا.

    ابن شهيد (ت426هـ): كان شاعراً وكاتباً. من آثاره النثرية «رسالته في الحلواء» ورسالته المسماة «حانوت عطار» و«رسالة التوابع والزوابع» وهي قصة خيالية يحكي فيها رحلته إلى عالم الجن واتصاله بشياطين الشعراء والكتاب، وقد عرض من خلالها آراءه في اللغة والأدب.

    ابن حزم (ت438هـ): اشتهر شاعراً وكاتباً، ومؤلفاته النثرية كثيرة تتناول شتى الموضوعات في الفقه والأدب والأنساب والتاريخ.

    ابن سيْدَة (ت458هـ): وكان أعلم الناس بغريب اللغة من أشهر مؤلفاته كتابي «المخصص» و«شرح مشكل أبيات المتنبي». وابن عبد البر وكان من أهل قرطبة، واشتهر برسائله التي يغلب عليها الاتجاه السياسي والحديث عن الصداقة والمودة، وقد وصف الشطرنج.

    ابن زيدون (463هـ): وقد افتنَّ برسائله، فكتب الهزلية على لسان ولادة إلى ابن عبدوس يسخر منه كما سخر الجاحظ في رسالة التربيع والتدوير من الكاتب أحمد بن عبد الوهاب وقد ساق ابن زيدون تهكمه في سيول من الأشعار والأمثال وأسماء الرجال، وحرص على تناسق الإيقاع، فكان السجع نائباً عن الأوزان والقوافي. كما كتب الرسالة الجدية يستعطف فيها قلب ابن جهور فيخرجه من السجن، وقد بدأها بالنثر وختمها بالشعر، وهي من حيث القيمة الفنية لا تقل عن الهزلية.

    تمام بن غالب بن عمر (ت436هـ): وهو من أعلام النحويين واللغويين ويعرف بابن التياني نسبة إلى التين وبيعه. من كتبه «الموعب في اللغة» و«تلقيح العين» وقد وجه صاحب دانية Denia، والجزائر الشرقية (جزائل البليار) الأمير أبو الجيش مجاهد العامري (ت436هـ)، وكان من أهل الأدب، إلى أبي غالب أيام غلبته على مرسية، وأبو غالب ساكن بها، ألف دينار أندلسية على أن يزيد في ترجمة كتاب ألفه تمام لأبي الجيش مجاهد فلم يفعل ورد الدنانير وقال: «ولله لو بذل لي ملء الدنيا ما فعلت ولا استجزت الكذب، لأني لم أجمعه له خاصة لكن لكل طالب».

    ومنهم أبو الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى (ت476هـ): المعروف بالأعلم لأنه كان مشقوق الشفة العليا، والشنتمري نسبة إلى شنتمرية من بلاد الأندلس وله شروح على الكتب المشرقية، وعلى دواوين بعض الشعراء الجاهليين.

    ومن كتّاب القرن الخامس الهجري ابن الدبّاغ الذي نشأ في سرقسطة وترعرع فيها، وقد أعلى المقتدر بن هود منزلته لفصاحته وبلاغته. له رسائل يغلب عليها الاتجاه الاجتماعي، وقد جاءت معظم رسائله مملوءة بالشكوى من الزمان.

    ومنهم ابن طاهر (ت507هـ): وقد تناول كثيراً من موضوعات أدب الرسائل وأغراضه بحكم إمارته لمرسية، فكتب في الجهاد والصراع مع الصليبيين وفي موضوعات الرسائل الإخوانية، وفي الفكاهة والهزل.

    ومنهم ابن أبي الخصال الغافقي (استشهد سنة 540هـ): وقد شغل مناصب إدارية في دولة المرابطين، وألف في المقامات، وشارك في نمط من الرسائل عرفت بالزرزوريات.

    ومنهم ابن بسام صاحب كتاب «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة»، وضمنه محاسن أدباء الأندلس من بُعيد الدولة المروانية إلى عصره.

    ومنهم محمد بن عبد الغفور الكلاعي (ت545هـ) وقد ألف كتاب «إحكام صنعة الكلام» في النثر وفنونه.

    ومنهم ابن طفيل (ت581هـ) وكان طبيباً وأديباً وفيلسوفاً اشتهر بقصته «حي بن يقظان» التي تعد من أعظم الأعمال القصصية الفكرية في العصور الوسطى، والهدف منها الوصول إلى معرفة الخالق والإيمان به.

    ومنهم أبو الحجاج بن محمد البلوي (ت604هـ) ويعرف بابن الشيخ، وكان موفور الحظ من علم اللغة والأدب، مشاركاً في النقد والأصول. من مؤلفاته كتاب «ألف باء» وهو أشبه بموسوعة جامعة لفنون الثقافة العامة صنّفه ليتأدب به ابنه عبد الرحيم (ت638هـ).

    ومنهم ابن جبير (ت614هـ) أبو الحسين محمد، وكان شاعراً وكاتباً له الرحلة المشهورة وقد دونها بأسلوب رصين جزل الألفاظ سهل التراكيب وهي من رحلاته المشرقية الثلاث.

    ومنهم محيي الدين بن عربي صاحب المؤلفات الصوفية ومنها «الفتوحات المكية» و«فصوص الحكم». وله «الوصايا».

   وابن الأبّار: ومؤلفاته تربو على خمسة وأربعين كتاباً وصلنا منها «تحفة القادم» و«التكملة» لصلة ابن بشكوال، و«المعجم» و«درر السمط في خبر السبط».

    ومنهم حازم القرطاجي: وكان شاعراً ونحوياً وناقداً، وأشهر كتبه «منهاج البلغاء وسراج الأدباء» الذي يمثل قمة من قمم النقد الأدبي.

    ومنهم أبو الطيب (أبو البقاء) الرندي: وكان أديباً شاعراً ناقداً. من كتبه «الوافي في نظم القوافي» وهو من كتب النقد والبلاغة.

    وابن سعيد (ت685هـ): الذي نظم الشعر وارتحل ودوّن مذكراته، وترك آثار أدبية تدل على ثراء في الموهبة، واستقامة في التعبير. ومن كتبه المطبوعة «المُغرب في حلى المَغرب» و«القدح المُعَلَّى». و«رايات المبرّزين وغايات المميّزين»، و«عنوان المُرقصات والمُطربات»، و«الغصون اليانعة في محاسن شعراء المئة السابعة»، وله «رسالة في فضل الأندلس».

    ومنهم ابن الجيّاب (ت749هـ) وقد تدرج في الخدمة في دواوين بني الأحمر حتى صار رئيس كتاب الأندلس، وتخرج على يديه عدد من أهل العلم والأدب.

    ومنهم لسان الدين بن الخطيب: من آثاره «الإحاطة في أخبار غرناطة» و«اللمحة البدرية في الدولة النصرية» و«نفاضة الجراب في علالة الاغتراب» و«خطرة الطيف ورحلة الشتاء والصيف» و«معيار الاختيار في أحوال المعاهد والديار»، وله رسائل كثيرة جمع قسماً منها في كتابه «ريحانة الكتّاب ونجعة المنتاب».

    أثر الأدب الأندلسي في آداب الغرب

    إن صنوف التأثير الأدبية هي بذور فنية تستنبت في آداب غير آدابها متى تهيأت لها الظروف والأسباب، وهذا ما حصل في اللقاح الفكري بين الأدبين العربي والإسباني الذي وصل إلى مدن فرنسة الجنوبية، ومدن اللورين الكائنة في الشرق عند حدود ألمانية، فوجد فيها تربة خصبة جرى نسغها إلى ألمانية وإنكلترة لتكون ركائز النهضة الأوربية.

    وقد كتب نائب الأسقف في هيتا El Arcipreste de Hita واسمه خوان رويث Juan Ruiz (ق14) «كتاب الحب الشريف» Libro Buen Amor متأثراً بكتاب ابن حزم «طوق الحمامة في الألفة والألاف» في المضمون، وفي طريقة التعبير والسرد، وفي تنويع الشخصيات.

وفي سنة 1919نشر المستشرق الإسباني ميجيل أسين بالاثيوس Miguel Asin Palacios في مدريد نظرية في كتابه «أصول إسلامية في الكوميديا الإلهية» La Escatalogea Musulmana en la Divina Comedia تقول إن الأديب الإيطالي دانتي Dante (1265-1331م) استوحى في ملهاته الأدب العربي، وحادثة الإسراء والمعراج، وكان ملك قشتالة ألفونسو العاشر Alfonso x الملقب بالعالم El Sabio (1253-1284م) قد أمر بنقل كتب العرب إلى القشتالية، فترجم معراج الرسول.

    كذلك غزت المقامات العربية قصص الشطار أو القصة الأوربية الساخرة Bicaresque بنواحيها الفنية وعناصرها الواقعية،وكان لقصة ابن طفيل «حي بن يقظان» أكبر الأثر في قصة «النقّادة» للكاتب الإسباني بلتسار غراثيان Baltasar Gracian (1601-1658م).

    وكان للموشحات والأزجال الأثر الأكبر في شعر «التروبادور» وهم شعراء العصور الوسطى الأوربية ظهروا في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي في جنوبي فرنسة ووسطها، وعاشوا في بلاط الملوك والأمراء يتغنون بالحب، وقد يكون بين شعراء التروبادور ملك أو أمير.

    لقد استقى التروبادور من الشعر الأندلسي نبعاً من الحقائق النفسية عملوا بها وطوروها. فقد صور ابن حزم حبّه الذي لم يكن وليد الساعة، وإنما سرى على مهل واستقر عماده، وبالمقابل فإن دوق أكيتانية غيوم  التاسع (ت1127م) وصف شعوره في حبه وطول انتظاره بقوله: «ليس على الأرض شيء يوازي هذا الطرب، ومن شاء أن يتغنى به كما يستأهل فلا بد أن تنقضي سنة كاملة قبل أن يحقق ما يريد».

    كذلك وجد التروبادور في الشعر العربي رقياً ونضجاً من حيث التنوع في الوزن والصقل والتعبير اللغوي، فحاولوا السير على منواله، ومن ذلك أن متوسط المقطوعات التي تتألف منها قصيدة التروبادور سبع وهو العدد الغالب على الموشح أو الزجل،وأن مجموع الغصن والقفل يسمى عند التروبادور بيتاً، وهو الاسم ذاته في الموشحات والأزجال.

    إن هذا التشابه من حيث البساطة في المعنى، والأوزان والقوافي في الأسلوب، يدل على تأثير التروبادور بالنماذج العروضية والعاطفية في الشعر العربي، وقد انتقل هذا التأثير إلى أوربة فكان للعرب اليد الطولى في إغناء الشعر الأوربي وإترافه برائع الصور والأساليب.

    المغرب والشمال الإفريقي العربي

    الحياة السياسية والاجتماعية في المغرب وشمالي إفريقية

قبل أن يظهر العرب المسلمون على مسرح التاريخ، كان البحرالمتوسط يسمى بحر الروم، وكان البربر في المغرب قوماً وثنيين ظلمهم الروم فثاروا عليهم، واتصل زعماؤهم بالعرب وفاوضوهم في مقاتلة الروم معهم، وقد استغرق الفتح الإسلامي للمغرب نحو سبعين عاماً بدأ ببعث استطلاعي قام به عقبة بن نافع الفهري (21هـ/642م) وانتهى بحملة موسى بن نصير التي أخضع فيها المغرب الأقصى سنة 90هـ/708م، وصارت بلاد المغرب تابعة للدولة الأموية، بل ولاية من ولايات الدولة إلى أن قوض بنو العباس صرح الدولة الأموية سنة 132هـ، فآل المغرب إلى ولاية عباسية.

    ثم قامت دويلات في المغرب الأقصى والأوسط والأدنى. ففي المغرب الأقصى قامت دولة الأدارسة واستمرت حتى القرن الرابع، ثم ظهر المرابطون في القرن الخامس، وبعدها سيطر الموحدون (المصامدة) على بلاد المغرب، ثم انقسمت إلى ثلاث دول: دولة بني مرين في المغرب الأقصى،ودولة بني عبد الوادي (بني زيّان) في المغرب الأوسط، ودولة بني حفص في المغرب الأدنى.

    وصارت القيروان، التي أسسها عقبة بن نافع معسكراً لجنوده، العاصمة الإسلامية الأولى للمغرب العربي، فيها ازدهرت الحضارة التي وضع أسسها وأحكم دعائمها أمراء الدولة الأغلبية، وقد آتت هذه الحضارة أكلها زمن الصنهاجيين في منتصف القرن الخامس الهجري زمن المعز بن باديس بن يوسف (ت453هـ)، وكان أديباً مثقفاً غصّ بلاطه بالأدباء والعلماء منهم ابن أبي الرجال الذي ألف كتاب «البارع في أحكام النجوم» وقد أمر ألفونسو العاشر ملك قشتالة بنقله إلى اللغة القشتالية.

    بعد أن خرّب الأعراب القيروان، لجأ المعز إلى المهدية، واتخذها عاصمة له، ثم ازدهرت مدن أخرى منها تلمسان وبجاية وصفاقس وفاس التي اجتمع فيها علم القيروان وعلم قرطبة، إذ كانت قرطبة حاضرة الأندلس، وكانت القيروان حاضرة المغرب، فلما اضطرب أمر القيروان بعبث الأعراب فيها، واضطربت قرطبة باختلاف بني أمية بعد موت المنصور محمد بن أبي عامر وابنه، رحل عن هذه وهذه من كان فيها من العلماء والفضلاء فنزلوا فاس وتلمسان، كما رحل بعضهم إلى مصر وأقطار أخرى.

    وقد اتخذ المرابطون والموحدون مدينة مراكش دار مملكة لقربها من جبال المصامدة وصحراء لمتونة، لا لأنها خير من فاس. ثم بنى الموحدون مدينة رباط الفتح، وبنوا فيها مسجداً عملوا له مئذنة على هيئة منارة الاسكندرية. وقد كانت مدن المغرب مراكز ثقافية وجسراً عبرت عليه تيارات الثقافة في طريقها من المشرق إلى إسبانية.

    الشعر

    فنونه وخصائصه: الحديث عن الشعر المغربي في عصوره وأقطاره يستنفد صفحات طوالاً، ذلك أنه من الناحية الزمنية يساير الأدب الأندلسي، ثم يستمر بعد سقوط الأندلس إلى العصور الحديثة، وهو من حيث أقطاره يستوعب النتاج الأدبي في المغرب الأدنى والأوسط والأقصى إلى مناطق أخرى مثل شنقيط (موريتانية) وغيرها.

    أصاب الكساد عالم الشعر والأدب في العصور الأولى وفي ظل المرابطين، لأن العصر كان عصر جهاد وكفاح وحرب، وليس عصر ترف ورفاهية، وفي عصر الموحدين كثر الشعراء تحت رعاية الخلفاء والأمراء، وتعددت أغراضهم وفنونهم، واتسعت مجالاتهم، وامتزج المديح بالشعر السياسي. فقد واكب الشعر التطورات العقائدية والاجتماعية التي طرأت على المجتمع في عهد الموحدين، وعبر الشعر عن دعوتهم وما يتعلق بها من مهدوية أو عصمة، وإمامة. وكان الخلفاء يطلبون إلى الشعراء أن ينظموا الشعر في مواضيع تخدم دعوتهم،فتخلصت قصيدة  المدح من  المقدمات التقليدية، وافتتحت بالحديث عن سيرة  المهدي بن تومرت وخليفته عبد المؤمن بن علي.وقد تستهل القصيدة بطريقة الكتابة الديوانية فيذكر فيها التحميد والتصلية على الرسول والترضية عن المعصوم المهدي كما في قصيدة أبي عمر بن حربون في الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن بعد انتصاره على المخالفين المرتدين بالمغرب سنة 563هـ.

    وتنوع الغزل في شعر المغاربة، فكان فيه العفيف والماجن، كما نشط شعر وصف الطبيعة. ولم يكتف الشعراء بجعله مطية لغرض آخر، ومتكأ له، وإنما أفردوا للطبيعة قصائد لوصفها، فصوروا مفاتنها، ووقفوا عند كل جزئية من جزئياتها. ووصفوا الخمر، وافتنّوا في وصف مجالس الشراب والندمان والسقاة، وعبّروا عن تعلّقهم الشديد بها.

    كما لقي فن الرثاء رواجاً لديهم ولاسيما رثاء المدن الأندلسية التي سقطت في أيدي النصارى، وفي رثاء مدنهم التي خربت (القيروان). وازدهر شعر الزهد والتصوف وشعر المدائح النبوية،وممن اشتهر به أبو العباس محمد ابن العزفي السبتي المغربي (ت633هـ).

    ونظم الشاعر المغربي الموشح، فابن غرله الذي اشتهر بعشقه رميلة أخت الخليفة الموحدي عبد المؤمن بن علي نظم الموشح والزجل والمرنم (الزجل الذي يدخله الإعراب)، ومن موشحاته الطنانة الموسومة بالعروس. كما عرف المغاربة «عروض البلد»، وقد ذكر ابن خلدون أن أول من استحدثه رجل من الأندلس نزل بفاس هو أبو بكر بن عمير، فنظم قطعة على طريقة الموشح، ولم يخرج فيها عن مذهب الإعراب إلا قليلاً، فاستحسنه أهل فارس، وولعوا به، ونظموا على طريقته.

    لقد شارك أدباء المغرب في فنون القول شعراً ونثراً، وحكم على التراث الأدبي في المغرب بأنه مطبوع بالطابع الأندلسي في شكله وموضوعه وكان لانتشار المذهب الفاطمي في المغرب أثر في وجود بعض المعاني الفلسفية والجدلية في الشعر كالذي ظهر في شعر ابن هانئ الأندلسي وكان من شعراء المعز لدين الله الفاطمي.

    وقد تخلف شعراء المغرب عن اللحاق بشعراء المشرق ثم الأندلس في قوة الأفكار وعمق المعاني (باستثناء شعراء العصر الفاطمي) لكن شعرهم لم يخل من جمال الصيغ اللفظية وأناقتها، وقد برعوا في الملاءمة بين مواضيع القصائد وأوزانها كما في قصيدة الحصري «يا ليل الصب»، وأكثروا من رثاء المدن المنكوبة، وفي هذا الباب تظهر قوة خاصة في الشعر المغربي وهي قوة التأثير العميق الصادق.

    أعلام الشعراء: من أبرز شعراء المغرب بكر بن حماد (200-296هـ): التاهرتي (نسبة إلى تاهرت بالجزائر)، فنون شعره المديح والهجاء والزهد والغزل والوصف، وقد رحل إلى المشرق وكان من العلماء والرواة.

    تميم بن المعز (337-374هـ): شاعر الدولة الفاطمية، ولد في المهدية بتونس، وتوفي بمصر، أبرز أغراضه الشعرية المديح والغزل والطرد، والرثاء والإخوانيات.

    ابن رشيق القيرواني (390-456هـ): ولد بالمسيلة (الجزائر) ورحل إلى القيروان، وأتم بقية حياته في صقلية، وتوفي بمازر. تعددت جوانبه العلمية والأدبية. له ديوان شعر، ومن مؤلفاته «أنموذج الزمان في شعراء القيروان».

    ابن شرف القيرواني (390-460هـ): الناقد الكاتب الشاعر، له ديوان شعر.

    علي بن عبد الغني الحصري (424-488هـ): يكنى أبا الحسن. برز في علوم القرآن، له الرائية المشهورة في القراءات، وله المعشرات وهي قصائد منظومة على حروف المعجم، كل قصيدة بها عشرة أبيات مبتدأة، ومقفاة بحرف من حروف الهجاء، وله ديوان شعر عنوانه «اقتراح القريح، واجتراح الجريح» وأغلبه في رثاء ابنه عبد الغني. ومن أشهر قصائده «يا ليل الصب متى غده؟» وهي طويلة تقع في تسعة وتسعين بيتاً، وقد عارضها كثيرون لإشراق معانيها وعذوبة ألفاظها.

    تميم بن المعز الصنهاجي (422-501هـ): كان رجل سياسة وعلم. كشفت أشعاره عن مقدرته الشعرية وغزارة إنتاجه الذي يدور أغلبه حول الغزل والوصف والزهد والحماسة.

الأمير أبو الربيع الموحدي (552-604هـ): أحد أمراء الدولة الموحدية جمع بين السياسة والأدب. ترك ديوان شعر عنوانه «نظم العقود ورقم البرود».

    مالك بن المرحَّل (604-699هـ): ولد بمالقة واكتسب شهرة في الأدب والشعر وبرع في علوم كثيرة. له منظومات في القراءات، والفرائض، والعروض، ومخمسات في مدح الرسول الكريم، وشعر في الاستنجاد. توفي في فاس.

    ابن خميس التلمساني (625-708هـ): شاعر عالم رحل إلى سبتة ثم إلى الأندلس، وفي غرناطة التحق بخدمة الوزير أبي عبد الله بن حكيم ثم قتل مع مخدومه.

    الشريف الغرناطي (697-760هـ): ولد بسبتة ونال فيها علماً كثيراً، وقدم إلى غرناطة واستقر بها، ولهذا اشتهر بالغرناطي، وله ديوان شعر.

    وابن زاكور (1075-1120هـ): كان كاتباً وشاعراً ولغوياً - من كتبه «شرح على لامية العرب» وله ديوان شعر مرتب على الأغراض، ونظم موشحات ذكر بعضها في «المنتخب من شعر ابن زاكور».

    ومن شعراء شنقيط أحمد بن محمد بن المختار اليعقوبي المعروف بأحمد بن الطلب، ينتهي نسبه إلى جعفر بن أبي طالب. لقب بيته بالطلب لأنهم أعلم أهل ناحيتهم، فكانت الناس ترحل إليهم في طلب العلم، وكان جيد الشعر.

    النثر

    فنونه وخصائصه

    الكتابة الرسمية: وهي تلك الكتابات الصادرة عن الخلفاء والأمراء والولاة والقادة، وعمودها الكتابة الديوانية التي تختص بالعلامة السلطانية التي يصدرها الخليفة إلى عماله وولاته وقضاته ورعيته، وموضوعاتها متنوعة تكاد تشمل مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والدينية والتاريخية. فمن الموضوعات الاجتماعية والسياسية محاربة الآفات الاجتماعية ومكافحة الظلم والدعوة إلى وحدة الصف وإطاعة أولي الأمر. ومن الموضوعات الدينية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، فقد كتب الفقيه المتصوف ابن عباد الرندي (792هـ) إمام جامع القرويين إلى أبي فارس عبد العزيز المريني مستنكراً تصرفات عماله مع المسلمين.

    ومن الموضوعات التاريخية سجلت الرسائل الرسمية الغزوات والفتوح والحملات العسكرية، وقد كتب المغاربة الرسالة الديوانية بإحكام وروية، واعتنوا بالعبارة واتكأت الرسالة في كثير من ملامحها على الرسالة الديوانية المشرقية، ثم بدأت في العصور المتأخرة تحاول أن ترسم لنفسها ملامح جديدة، فهي تفتتح بالمقام، ثم وصف عظمته، ثم يذكر المتن أو مضمون الرسالة، وقد غلب السجع عليها لتناسب فخامة المقام.

    الكتابة الوصفية: ويقصد بها الكتابات التي كانت تدور حول المناظرات والمفاخرات بين المدن، وبين الأزهار، وبين الأطيار، كما شملت أدب الرحلات (رحلة ابن بطوطة، ورحلة ابن رشيد، ورحلة ابن خلدون).

    واعتمد أغلب الكتاب أسلوب المقامة من حيث التوشية والزخرفة البديعية ومنها السجع، فقد أكد محمد بن عبد الغفور الكلاعي في كتاب «إحكام صنعة الكلام» ضرورة السجع للنثر، واستحسان الإتيان به مع مراعاة الابتعاد عن التكلف فيه حتى لا يثقل على الأذن، وينبو عنه الذوق السليم، كما كتب آخرون بالأسلوب المرسل: صنيع ابن خلدون.

    الكتابة الذاتية: ويدخل ضمنها الكتابة الإخوانية، ومنها الرسائل المتبادلة بين الكاتب وذوي السلطان، وبين الكاتب وإخوانه، كما تندرج فيها المدائح النبوية، والخواطر التأملية، ولاسيما في الرسائل النبوية. فابن خلدون يحدثنا عن سفر أبي القاسم البرجي إلى التربة المقدسة حاملاً رسالة من أبي عنان المريني إلى الضريح الكريم كتبها أبو عنان بخط يده.

    وحرص أغلب الكتاب على العناية بظاهرة الزينة اللفظية، وإن كان بعضهم قد تصدّوا لظاهرة سيطرة البديع على النثر، أو استقبحوا الإكثار منه كما فعل ابن خلدون، فحين تولى ديوان الإنشاء أيام أبي سالم المريني (ت762هـ) فضّل الكلام المرسل على انتحال الأسجاع في الكتابات الرسمية.

    أعلام الكتّاب: جمع المغاربة والأندلسيون بين مزيتي الشعر والنثر، وكان للتأليف شأن عظيم لديهم في شتى العلوم والآداب، ومن أعلام الكتاب:

    إبراهيم بن علي الحصري (ت453هـ): ويكنى بأبي إسحاق، شهر بالحصري نسبة إلى صناعة الحصر أو بيعها، أو نسبة إلى «الحصر» وهي قرية كانت قرب القيروان. نشأ في القيروان في أواخر عهد الفاطميين بإفريقية، وكان له ناد يقصده الأدباء والمتأدبون. من مؤلفاته «جمع الجواهر في الملح والنوادر» و«زهر الآداب» وهو كتاب ذو قيمة أدبية وتاريخية، يشبه «البيان والتبيين» للجاحظ في طريقته.

    علي بن عبد الغني الحصري (ت488هـ): وكان شاعراً وكاتباً وله رسائل أثبتها ابن بسام في «ذخيرته» كنماذج من نثره يخاطب بها أصدقاءه وأعداءه، وهي لا تخرج عن طريقة عصره في أسلوب التحرير المسجوع المرصع بألوان التورية والجناس.

    الشريف الإدريسي: ولد في سنة 493هـ، ودرس في قرطبة، ثم طوّف في البلاد، وانتهى به التجوال إلى صقلية، ونزل على صاحبها روجار الثاني وألف له كتاب «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق»، وفيه شرح لكرة الفضة التي أمر الملك بصنعها، توفي في صقلية سنة 560هـ.

    ابن رشيق القيرواني (ت463هـ): كان شاعراً وكاتباً. اتصل ببلاط المعز في القيروان وتعرف كاتبه أبا الحسن علي بن أبي الرجال فألحقه بديوان الإنشاء الذي كان رئيسه، وقد رفع إليه كتاب «العمدة في صناعة الشعر ونقده».

    ابن شرف القيرواني (ت460هـ): كان كاتباً وشاعراً. ألحقه المعز بديوان المراسلات وجعله من خاصته فانقطع إليه، ونافس ابن رشيق في الحظوة عنده، من مؤلفاته النثرية: رسائل الانتقاد، ورسائل المهاجاة، وابتكار الأفكار.

    أبو الفضل التيجاني (ت718هـ): صاحب الرحلة المشهورة، وكان أعلى الكتبة مرتبة وأسلمهم قافية. له رسالة مشهورة كتبها إلى ابن رشيد الفهري (ت721هـ) صديقه حين نزل بتونس في أثناء رحلته إلى الحج وعودته منه يقول فيها: «أقول والله المسعف المنان: اللهم بلغ صاحبنا وجميع المسلمين إلى أوطانهم وأماكنهم سالمين في النفس والأهل والمال. اللهم كن لهم في حلهم وترحالهم، وسلّمهم ولاتسلمهم..» والرسالة تسجيل لمخاطر الطرق إلى الحج والرحلة في ذلك الزمن.

    الشريف الغرناطي: تولى في الدولة النصرية عدة مناصب مثل كتابة الإنشاء وخطة القضاء والخطابة. ومن تآليفه المشهورة: «رفع الحجب المستورة عن محاسن المقصورة» وهو شرح على مقصورة حازم القرطاجني التي مدح فيها المستنصر الحفصي، وقد جاء الشرح بأسلوب مسجع تحس معه جلال الفكرة وتوقد الذهن.

    ابن خلدون، ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن: ولد بتونس سنة 730هـ، وتوفي في القاهرة سنة 808هـ، كان ينظم الشعر، لكن ملكته تخدشت من حفظ المتون المنظومة في الفقه والقراءات. اعتمد في نثره الأسلوب المرسل مخالفاً أسلوب العصر في الميل إلى السجع من آثاره: «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السطان الأكبر». ويقع في مقدمة وثلاثة كتب، وقد ارتقى بالتاريخ من السرد والقصص الساذج إلى درجة العلم المفلسف، وسجل سيرة حياته بقلمه في آخر جزء من العبر وطبع بعنوان: «التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً».

    الأدب العربي في صقلية:

    الحياة السياسية والاجتماعية:

    صقلية Sicilia جزيرة مقابل ساحل تونس، تبعد عن البر الإيطالي ثلاثة كيلومترات. ضبطها ياقوت في معجمه بثلاث كسرات وتشديد اللام والياء، ولكنه ذكر أن أكثر أهلها يفتحون الصاد، وضبطها ابن دحية بفتح الصاد والقاف، وقال النحوي ابن البر التميمي الصقلي: اسمها باللسان الرومي سَكَّةِ كِلّية وتفسيرها: تين وزيتون، وإلى هذا المعنى أشار ابن رشيق حين مدحها فقال:

أخــت المدينة في اســم لا يشــاركها
           

فيه ســواها من البلدان والتمـــس

وعظّـــم الله معنــــى لفظهـا قســــماً
   
   

قلّد إذا شــئت أهل العلم أو فقـــس
    فتح المسلمون صقلية سنة 212هـ/728م بقيادة الفقيه أسد بن الفرات (ت213هـ) الذي تولّى قضاء إفريقية في عهد الأغالبة، وكانت القيروان (تونس اليوم ) تابعة للخلافة العباسية في بغداد.

    ولما قامت الدولة المهدية في ظل الفاطميين، تأسست دولة الكلبيين في صقلية فبلغت الجزيرة عهدها الذهبي.

    احتلها النورمان بقيادة ملكهم روجار الأول، فهجرها أغلب سكانها إلى مصر والقيروان والأندلس، وكانت عادة الانتقال والارتحال بين الأقطار الإسلامية معروفة أيام المحن، فقد شتتت نكبة القيروان، بعد الخلاف بين الفاطميين والمعز ابن باديس، أهل القيروان وخرج الأدباء والعلماء منها إلى صقلية والأندلس ومصر، وها هنا التاريخ يعيد نفسه بخروج العرب من صقلية بعد انتهاء الحكم العربي فيها الذي استمر لغاية 450هـ.

    تعايش من بقي من المسلمين في صقلية مع النورمان مدة ثلاث وتسعين ومئة سنة، وظلت اللغة العربية إحدى اللغات التي أقرتها الدولة في سجلاتها إلى جانب اللاتينية واليونانية.

    وفي سنة 643هـ احتل الجرمان الجزيرة بقيادة فردريك الثاني الذي نكل بالمسلمين ليدفعهم إلى الجلاء سنة 647هـ/ 1249م، ثم قضى عليهم بتحريض الملك شارل دانجو عام 700هـ/1300م، لكن اللغة العربية لم تمح آثارها، فثمة أسماء كثيرة في صقلية لها أصول عربية.

    الشعر

    اعتمد الشعر الصقلي محاكاة المشارقة والمدرسة الإفريقية في القيروان، وكان تأثيره بالأندلس أقل من تأثيره بإفريقية والمشرق، وقد غذي بالدراسات الإسلامية، ولاسيما الفقه، واللغة، وامتلأ بالألغاز والتلاعب اللفظي بالأسماء، وكان هناك أخذ بأسباب الدين والزهد والتصوف إلى جانب التيار المعاكس المتمثل بالحديث عن الخمر، وبائعها، وشاربها، والتغني بذكر الصليب والزنار.

    وقد شارك بعض الأمراء الكلبيين في النشاط الأدبي ولاسيما الشعري.

    فنونه وخصائصه: في العصر الإسلامي، وصف الشعراء القصور، والمتنزهات، والخمر، وكثر التغزل بأسماء تقليدية مثل سلمى، وسعاد، وبثينة، كما كثرت الرسائل الشعرية نتيجة هجرة الناس من صقلية وإليها.

    أما في العصر النورماني، أو مرحلة التعايش بين العرب والصقليين فالشعر الباقي يمثل اتجاهين: أما الاتجاه الأول فهو الشعر الذي يتصل بالملك النورماني وبلاطه وأبنائه وحاشيته، ومنه قصيدة أبي الضوء سراج في رثاء ولد روجار.

    ويصوّر الاتجاه الثاني الشعر الذي يمثل حياة المسلمين وعلاقاتهم فيما بينهم، وقد انفرد محمد بن عيسى بذكر العيد وحال السرور والتحدث عن الملائكة. وكثيراً ما نفر الناس من الشعر ذي الاتجاه الأول، فقد كان ابن بشرون شاعراً فحلاً أحبه الناس، فأراد الملك روجار الأول أن يضفي على اغتصابه الجزيرة أسمال الشرعية موهماً الناس بقبوله من وجهائهم، فاستدعى ابن بشرون وطلب إليه أن ينشده مديحاً فلما ارتجل الشاعر أبياته ابتعد عنه الناس.

    ولما اطلع العماد الأصفهاني على كتاب ابن بشرون الذي خصص فيه فصلاً لشعراء صقلية قال بعد أن حذف الشعر الذي وجده في مديح الكفار: «واقتصرت من القصيدتين على ما أوردته لأنهما في مدح الكفار، فما أثبته».

    أعلام الشعراء: من شعراء القرنين الرابع والخامس: ابن الخياط الصقلي: أبو الحسن علي بن محمد، كان شاعراً نابهاً أيام حكم الكلبيين في صقلية. يكثر في شعره المدح والغزل ووصف الطبيعة.

أبو العرب مصعب بن محمد بن أبي الفرات القرشي: ولد في صقلية سنة 423هـ، ثم غادرها إلى الأندلس سنة 463هـ مع من هاجر منها إثر الاحتلال النورماني، فلحق بالمعتمد بن عباد، ثم بناصر الدولة صاحب جزيرة ميورقة بعد أن دالت دولة العباديين، وبقي هناك إلى وفاته سنة 506هـ. أهم أغراضه الشعرية المدح وجلّه في المعتمد كما دعا إلى التمتع بمباهج الحياة فقال:

متّع شـــبابك واســـتمتع بجدّتـــه             فهـــو الحبيـــب إذا مــا بان لـم يؤب

     ابن القطاع، أبوالقاسم علي بن جعفر بن علي السعدي: ولد سنة 433هـ بصقلية، ثم هاجر إلى مصر بعد اشتداد ضغط النورمان. كان شاعراً عالماً باللغة والأدب والتاريخ. من مؤلفاته «تاريخ صقلية» و«أبنية الأسماء والأفعال» و«البارع في العروض والقوافي» و«الدرة الخطيرة في المختار من شعراء الجزيرة» وقد اشتمل على مئة وسبعين شاعراً، وعشرين ألف بيت من الشعر. عالج في شعره مجالس الخمر بالوصف والإثارة، وأبدع في الغزل.

    ومن شعراء القرن السادس:

    البَلَّنوبي، أبو الحسن علي بن عبد الرحمن بن أبي البشر: ينسب إلى بَلَّنوبة وهي بُليدة بجزيرة صقلية ذكرها ياقوت تسمى اليوم فيلانوفا Villa Nova كان والده مؤدباً لأبي الطاهر التجيبي (ت445هـ).

    أقام أبو الحسن مدة في صقلية ثم غادرها إلى مصر مع جملة من المهاجرين، وهناك اتصل بعدد من رجال الدولة ومدحهم منهم بنو الموقفي، وابن المدبّر واليازوري (نسبة إلى يازور من قرى فلسطين). فنون شعره كثيرة.

    عبد الجبار بن أبي بكر بن حمديس: ولد في سرقوسة على الساحل الشرقي من صقلية وفيها قضى شطراً من حياته، ثم انتقل إلى تونس في طريقه إلى الأندلس بعد هجرة العلماء من بلده. قصد المعتمد بن عبَّاد واستمر في رعايته إلى أن دالت دولة العباديين، فارتحل إلى إفريقية، وبقي في رعاية بني حمَّاد في بجاية إلى أن توفي سنة 527هـ. اشتهر بشعر الحنين، ووصف الطبيعة.

    النثر

    فنونه وخصائصه: أنتجت صقلية نثراً خصباً يوازي نشاطها في الشعر، فقد نبغ فيها كتّاب، وسعوا أغراض النثر وفنونه، ووضع بعضهم مقامات كانت ذائعة مشهورة منها مقامات «الطوبي» التي بلغ فيها الغاية في الفصاحة.

    كما ألف بعضهم كتباً في تاريخ صقلية وأرخوا لرجال الفكر والعلم و الأدب.

    وظهر عدد من اللغويين والنحويين حاولوا الحفاظ على الفصحى، وتخليصها مما لحقها من تصحيف، ولاسيما في مرحلة التعايش بين العرب المسلمين والصقليين، فقد استمرت السيادة للغة العربية والثقافة العربية الإسلامية بعد أفول نجم السيادة العسكرية والسياسية نحو قرنين من الزمن.

    أعلام الكتّاب: أبو عبد الله محمد بن الحسن الطوبي كاتب الإنشاء: كان له شعر في الغزل والزهد، لكن النثر غلب عليه. وصفه العماد الأصبهاني بقوله: «إمام البلغاء في زمانه».

    أبو حفص عمر بن حسن النحوي: كان إماماً من أئمة النحو، استشهد به وبآرائه ابن منظور (ت711هـ) صاحب معجم لسان العرب.

    ابن البر، محمد بن علي بن الحسن التميمي: من أعلام القرن الخامس، ولد في صقلية، وارتحل في طلب العلم إلى المشرق فنزل مصر وأفاد من الهروي (ت433هـ) وابن بابشاذ النحوي (ت454هـ) وصار إماماً في علوم اللغة والآداب. لما عاد إلى صقلية، استقر بمازر، ثم في بالرمو.

    أبو حفص عمر بن خلف، ابن مكي الصقلي المتوفى سنة 501هـ: ولد في صقلية، ثم هاجر إلى تونس فولي القضاء بها سنة 460هـ. كان شاعراً مجوّداً نظم في أدب المجالس والصداقة، وتغلب على أشعاره معاني الوعظ والإرشاد والحكمة. وكان كاتباً بليغاً اشتهر بتبحره في اللغة، صنّف «تثقيف اللسان وتلقيح الجنان»، وجعله في خمسين باباً، جمع فيه ما يصحف الناس من ألفاظهم وما يغلط فيه أهل الفقه والحديث، وأضاف أبواباً مستطرفة، ونتفاً مستملحة، وقد نقد المغنين لأنهم كانوا يحرصون على أداء النغم ويحرفون النص. ومقصد الكتاب في أعماقه رد اللغة العربية إلى الفصحى. وعدم إقرار المحلية، وقد كانت صقلية ملتقى شعوب، وليست وطناً لشعب
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:35|
الهرمینوطیقا أو علم تأویل الخطابات



توطئة :
النص والخطاب مفهومان معقدان من حیث التأویل والتفسیر ، فسواء كان النص نصا دینیا أم تاریخیا علمانیا فانه یطرح جملة من الصعوبات الكبیرة التی عادة ما تواجه المفسرین أو النقاد كما تواجه طبیعة النص نفسه وعلاقته بالتراث والتقالید لذلك جاءت الهرمینوطیقا كمعرفة علمیة تتناول التفسیر والتأویل فی آن واحد . وقد جاءت بالتحدید فی ظل بؤرة مفهوم بدا یتشكل مع التطور الحضاری هو ما یسمى تحیز الإنسان المعاصر واسقاطاته فی الفهم المسبق. فنجدها تتحول مع مجموعة من العلماء والفلاسفة والمفسرین بعد أن وجدت لنفسها وضعا ابستیمولوجیا ، فبدأت تعنى بالفهم والإدراك . فهی على علاقة جدیدة بالنص من جهة المتلقی ولیس المبدع/ المؤلف.

إن تاریخ الهرمینوطیقا عریق جدا فی الثقافات الإنسانیة ، فقد تناسلت مناهجه وأسالیبه التی كانت تركز على البحث عن المعنى الأصلی إلى البحث عن اثر النص . ظهر التأویل مع سقراط الذی فسر أغانی سیمونیدیس ، تطور لیصبح نظریة لتأویل النصوص المقدسة حیث كان یشار به إلى مجموعة من القواعد والمعاییر التی یجب أن یتبعها المفسر لفهم النص الدینی – الكتاب المقدس- وإذا كان حضوره قویا فی الفكر الكنیسی الغربی ( اصبح نظریة للتفسیر منذ 1654م إلى هذا فی الأوساط البروتستانتیة ) فانه فی الفكر الدینی الإسلامی حضوره لافتا مع علماء المسلمین الذین سخروا علوم الآلة وعلوم العربیة نحوا ولغة ومعجما لخدمة النص الدینی وخاصة مع العلامة الزمخشری وابن كثیر وغیرهم.

بعد ذلك تطورت هذه النظریات لتصبح مع شیلینغ تعبیرا عن المدلولات الفنیة المتشكلة من جدید فی وعی القارئ، وبشكل اكثر دقة، فی نظریة عن الفهم والإدراك عند شلییرماخر خاصة ولاحقا عند دلتای وفی المجال النفسانی مع بوتیبنیا ومع الفلاسفة الوجودیین أضحى جوهرا خاصة مع هایدغر ، وقد اكتسبت قضایا التأویل أهمیة كبیرة فی أعمال ر.انفاردن ، والمدرسة السویسریة وعلى رأسها شتایغر.وقد ابعد البنیویون أمثال تزیفزتان تودوروف ورولان بارث وجاك دریدا وغیرهم هذا المفهوم لانهم تناولوا منهجیة فی التحلیل مشابهة له ( انظر ف.ی.خلیزبف ، التاوبل ، ترجمة عمر التنجی ، مجلة الفكر العربی المعاصر العدد 54-55 جویی-أوت 1988).

اتسع هذا المصطلح فی تطبیقاته، المذكورة أعلاه، وانتقل من مجال تأویل "المقدس" و"الأسطوری" إلى مجالات اجتماعیة وتاریخیة وأنثروبولوجیة وفلسفیة وفكریة وأدبیة وفنیة ، فهو علم قدیم وجدید فی الآن نفسه .

خطاب التأویل بین الفهم والحقیقة النصیة :

عندما نشر جادمیر فیلسوف التاویلیة كتابه "الحقیقة والمنهج" سنة 1960 أثار حوله زوبعة من الجدالات الواسعة التی غطت الساحة الفلسفیة الألمانیة حول التأویل وتأویل الفهم الذی لا یتطلب ،فی نظرهم، هذه المنجیة العلمیة الكبیرة وخاصة أن الفهم والتأویل یرتبطان بالتجربة الشاملة التی تحصل لدى الإنسان عن محیطه الوجودی والكونی . الرهان هنا سیتركز حول تحدید المفاهیم والمنطلقات بوصفها المدخل لفهم اكتساب المعارف والحقائق.سیستقر الحال فی تذویب مناهج العلوم فیما بینها للانصهار فی معنیی الحقیقة والمنهج فی آن. وبالتالی یصبح التأویل كعرفان فلسفی یقارب الحقیقة بطریقة مرنة فی مجال معقد كمجال علوم الروح على وجه الخصوص.( هانز .ج.غادامیر ، خطاب التأویل ، خطاب الحقیقة . ترجمة عمر مهیبل ، الفكر العربی المعاصر عددی 112-113 .صیف شتاء2000).

منطلقات نظریة الهرمینوطیقا هی الفهم النصی فی بعده الخفی والمتجلی والوجودی والعدمی وكل ما یشكل توترا بین العالم والأرض. إن معضلة الفهم حسب عالم الهیرمینوطیقا هی معضلة وجودیة .وتجنبا لسوء الفهم الذی یمكن أن نقع فیه فی تأویلنا للخطابات الدینیة والعلمانیة إنما یثیرها التباعد الحاصل بین الزمان والنص ونقطة البدء حسب جادامیر هو الاهتمام بما یحدث بالفعل فی العملیة بصرف النظر عما ننوی أو نقصد ( نصر حامد أبو زید ، إشكالیة القراءة وآلیات التأویل ، المركز الثقافی العربی ص 37). إنما العبرة من ذلك هو تجاوز إطار المنهج العلمی المنظم وذلك بالاستیعاض عنه بالبحث عن الحقیقة وهذا تجل فلسفی وتاریخی محض. ومفهوم تحلیل الحقیقة بدا یطفو من هذه الزاویة، وتأویل النص التاریخی والفنی أو حتى الفلسفی لا یراد منه المتعة الجمالیة والاستیتیقیة بل تعنی تجربة تلقی العمل بدون أن ننفصل عن وعینا العادی لندخل فی دائرة الوعی الفنی الذی نحتكم إلیه .هذا التلقی لیس متعة جمالیة إذن بل هی عملیة مشاركة وجودیة تقوم عل الجدل بین المتلقی والعمل الذی لا یبدو منفصلا عن عالمنا المعاش فلا ننفصل عن ذواتنا فی الفهم بل نقوی حضورنا فی النص من خلال ما فهمناه من تجربة فنستحضرها وهذا یشكل بدوره انصهارا وحاصلا جدیدا فی المعرفة التی ستساعدنا بشكل اعمق فی عملیة الفهم والتأویل ون هنا یتناسل الفهم فی التأویلات والتفسیرات (بصیغة الجمع).

مفهوم التأویل ، إذن ، هو باختصار " فن الفهم " ، فهم النصوص بصفة خاصة ، یوظف هذا الفهم جمیع مناهج العلوم الإنسانیة المساعدة فی التأویل من خلال ما اصطلح على تسمیته جادامیر " میلاد الشعور التاریخی " .

قدیما كان اثر النص المقدس ینتقل من نص إلى آخر والان للأثر الفنی والأدبی تناصا ثقافیا حاضرا بقوة فی ثقافة النص وتاریخه الاجتماعی والأنثروبولوجی فی المقدس نعطی علوم الروح أساسا تأدیبیا فإذا اطلعنا مثلا على القصص المقدسة وما ترسمه الذهنیة العربیة للنبی سلیمان سنجده فی أسفار العهد القدیم والتی توالدت فیما بعد مع مقدس دینی آخر شخصیة متعددة ولیس واحدا متنوعة الملامح وهذا ما یفسر بخصوبة الخیال الدینی الذی یقلل من شان المعرفة بالعقل الخالص. فما بین الحقیقة والمنهج تتم المساءلة اللامتناهیة فی نسل الدلالات اللغویة والجمالیة التی بدورها تصبح وسیلة أساسیة فی الفهم .

ستتطور نظریة الهرمینوطیقا لتصبح فی وضع نظریة جدیدة فی تفسیر النصوص الأدبیة ، فهی بقدر ما تلفت المتلقی فی فهم دور المفسر بقدر ما تجعل المتلقی فاعلا فی تفسیر العمل الأدبی /النصی . هذه الجدلیة ستكون هی نقطة البدأ الأصیلة للنظر فی علاقة المفسر بالنص لا فی علاقة النصوص الأدبیة، ونظریة الأدب ، وأیضا فی إعادة النظر فی تراثنا الدینی حول تفسیر القرآن ، لنرى كیف اختلفت الرؤى وتناسلت التاویلات التی حطت الرحال بما آل إلیه وضع النص الدینی أو حتى النصوص التراثیة الأخرى فی الوضع العربی الإسلامی الراهن.


+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:34|

الرمزیة

 

الرمزیة le symbolisme حركة أدبیة وفنیة تستقی جذورها البعیدة من الإبداعیة[ر](الرومانسیة) الألمانیة ومن فلسفة هیغل[ر] وشوبنهاور[ر] ومن الحركات الباطنیة التی انتشرت فی أوربا فی القرنین الثامن عشر والتاسع عشر. ظهرت بدایـاتها كحركـة أدبیـة متمیزة فی فرنسا وبلجیكا فی نهایـة القـرن التاسع عشر (1880-1895). وكانت رد فعل على النزعات الواقعیة[ر] والطبیعیة[ر] فی الأدب. فقد شاع لدى الجیل الشاب من الأدباء والفنانین الفرنسیین فی ذلك الوقت قلق روحی اتصف بالملل من الحیاة وبالتقزز من الحضارة المعاصرة. وتألفت إطارات ثقافیة تعبر عن هذا القلق، كعدد من المجلات مثل «الضفة الیسرى الجدیدة» La Nouvelle Rive gauche و«لوتیس» Lutèce، وعدد من الحلقات الأدبیة مثل: «الشُعث» Les Hirsutes، «المتداوون بالماء» Les Hydropathes، و«اللا أبالیون» Les Je-m en-foutistes مكوّنة بمجملها ما یدعى «ما قبل الرمزیة» أو مدرسة «الانحطاط» La Décadence، حیث لم یكن بین الرمزیین من لم یمر بمرحلة التأزم الروحی لهذه الحقبة. ومع حلول العام 1885 بدأ هذا التیار بالانحسار بتأثیر لقاءات «ثلاثاء مالارمیه»[ر] Mallarmé التی كان یجتمع فیها بالشعراء الانحطاطیین الشباب، لیبثهم أفكاره الثوریة فی الكتابة والنظم. وفی عام 1886 نشر أحد هؤلاء الشعراء وهو جان موریاس Jean Moréas فی الملحق الأدبی لصحیفة «الفیغارو» Le Figaro مقالة اعتبرت بمثابة البیان[ر] التأسیسی للرمزیة. وإن كانت المقالة لا تحمل عرضاً نظریاً لمبادئ الحركة فإن أهمیتها تأتی من كونها قد بلورت التیارات الشعریة القلقة الباحثة عن منارة تهتدی بها إلى مصطلح جامع أصبح مصطلح «الرمزیة».

 لم تكوّن الرمزیة مدرسة ذات مذهب واحد محدود، بل عبّرت عن وعی مشترك، ظهر فی مرحلة زمنیة قلقة لدى مجموعة من الشعراء الباحثین عن معنى جدید للحیاة. وقد تأثر الشعراء الرمزیون بشارل بودلیر[ر] وبشعریة إدغار آلَن بو[ر] وبكتابات الفیلسوف السویدی سویدنبورغ Swedenborg والشاعر الفرنسی نـرفـال[ر] Nerval. لكن ثمة قواسم مشتركة فی الرؤى الجمالیة لأولئك الشعراء یمكن عدّها بمثابة الخصائص الممیزة للحركة، مثل الاهتمام الزائد بالخصائص الموسیقیة للغة، وبالأفكار والأحلام على حساب المشاعر والواقع، والبحث عن الموسیقى الصافیة البعیدة عن الغنائیة، والمیل نحو الرموز التی تكوّن قیمة لا تظهر إلاّ لمن یعرف الكلمات معرفة العالم الواثق بعلمه، بحسب ما یرى مالارمیه فی مقدمة كتابه «مبحث الكلام» Traité du verbe عام (1886)، إذ یؤكد على أن المعنى لیس فی الشیء ذاته وإنما فی التأثیر الناجم عنه.

وینضوی تحت رایة الرمزیة شعراء مثل مالارمیه وڤیرلین[ر] Verlaine ورامبو[ر] ولافورغ[ر] Laforgue، ومسرحیون مثل فییه دی لیل آدم Villiers de l’Isle Adam ومتِرلِِنك[ر] Maeterlinck، وروائیون مثل ویسمانس[ر] Huysmans وإدوارد دوجاردان، وأدباء روس مثل ألكسندر بلوك[ر] A.Blok وڤلادیمیر سولوڤیوڤ V.Solovyov. وقد اجتمع هؤلاء على عدّ الرمز سر الشعر الأول، لكنهم اختلفوا حول معنى الرمز بحد ذاته، فمنهم من قال إنه كشفٌ للسر عبر الإیحاء، ومنهم من قال إنه التقابل أو التجانس، ومنهم من رأى فیه عودة إلى الرموز الأسطوریة. كذلك اختلفوا حول تقویم الشعر الحر وحول أصوله ووظیفته. وأدت هذه الخلافات إلى أول انشقاق فی الحركة على ید الناقد رینیه غیل René Ghil الذی ابتعد عن مالارمیه لیكوّن مدرسة شعریة خاصة عرفت باسم «الأدواتیة» instrumentalisme. دخلت الرمزیة بدءاً من عام 1889 مرحلة جدیدة اتسمت باتساع مدى تأثیرها لیغطی مجالات إبداعیة عدیدة. ففی مجال الفكر ظهرت كإمكانیة جدیدة لشرح العالم، تستخدم الشعر أداة للمعرفة كما یبیّن كتابان ظهرا فی السنة نفسها، ففی كتاب «الفن الرمزی» L’Art symboliste یربط جورج فانور Georges Vanor المفهومات الجمالیة التی یدافع عنها الرمزیون بنظرة دینیة باطنیة للكون. فالكون «رمز لعالم آخر»، والشاعر وحده قادر على كشف العلاقة بین العالمین والوصول بالتالی إلى معرفة سر هذا الكون. أما فی «أدب اللحظة القریبة» La Littérature de tout à l‘ heure یطرح شارل موریس Charles Morice صوفیة جدیدة فكرتها الأساسیة أن الفن كهنوت یقود الإنسان إلى الحق الأعلى عبر «الجمیل». ومال الرمزیون إلى الاستغراق فی الأفكار الحالمة لیعبروا عن هواجسهم العاطفیة كما فعل إفرام میخائیل Ephraïm Mikhaël أو عن هروبهم من الحیاة عبر الصیاغات الأسطوریة لدى غوستاف كان Gustave Kahn وآدولف ریتی Adolphe Retté، أو عن تغنیهم بالسعادة ومباهج الحیاة لدى فرنسیس ڤییلی غریفان Francis Viélé-Griffin.

وعلى الرغم من تنبؤ موریاس فی «البیان» بولادة أكیدة لروایة[ر] رمزیة تقوم على رؤیة ذاتیة للواقع، لم یكن تأثیر الرمزیة على النثر واسعاً. وتوجد أمثلة قریبة من أنموذج النثر الرمزی كما تصوره موریاس فی روایة «السكستین» La Sixtine التی كتبها ریمی دی غورمون Remy de Gourmont وكذلك فی بعض روایات موریس بارِس[ر] Maurice Barrès مثل «رجل حر» Un Homme libre و«حدیقة بیرینیس» Le Jardin de Bérénice، وفی روایات مارسیل بروست[ر] Proust.

أما فی المسرح فقد دافع الرمزیون عن نظریة «المسرح الشامل» Théâtre Total التی نادى بها الموسیقی الألمانی ریشارد فاغنر[ر] Wagner، ورأوا أن على الدراما أن تتوجه إلى عقل المشاهد ولیس فقط إلى نظره. وقاموا لتطبیق نظریتهم بتأسیس مسرحین فی باریس هما «مسرح الفن» و«مسرح العمل الفنی»، وقدموا عدداً من الأعمال التی تقترب من أنموذج المسرح الرمزی، مثل مسرحیة فییه دی لیل آدم «آكسِل» Axel، ومسرحیة إدوارد دوجاردان «أسطورة أنطونیا» La Légende d Antonia. ویعد المسرحی البلجیكی موریس متِرلِنك صاحب «الأمیرة مالین» La Princesse Maleine عام (1889)، و«الدخیلة» L’Intruse عام (1891) و«العمیان» Les Aveugles عام (1891) أشهر مسرحی رمزی، لكن یبقى بول كلودیل[ر] Paul Claudel الكاتب الذی أعطى الرمزیة بعدها الحقیقی فی مسرحیته «رأس من ذهب» Tête d’Or  عام (1890).

بدأت الحساسیة الشعریة تتحول فی نهایة القرن التاسع عشر مبتعدة أكثر فأكثر عن اهتمامات الحركة الرمزیة، واعتمد مؤرخو الأدب عام 1895 تاریخاً لخمود الحركة. لكن هذا لا یعنی أنها ماتت تماماً، لأن تعالیمها بقیت حیة فی أعمال بعض كبار الأدباء مثل بول ڤالیری[ر] Paul Valéry الذی أخذ منها استقلالیة الشعر وكمال الصنعة، وبول كلودیل الذی لقّح نظرته الدینیة المتشددة بعض الأفكار الأسطوریة التی كان یتبناها أستاذ الحركة الرمزیة الأول مالارمیه. وظهرت أصداؤها أیضاً فی كتابات إزرا باوند[ر] وتوماس إلیوت[ر] ووالِس ستیفنز[ر] وولیم بتلر ییتس[ر] وجیمس جویس[ر] وڤرجینیا وولف[ر] والأدیب الألمانی ریلكه[ر].

الرمزیة فی الفن

لم تكن الرمزیة یوماً حركة فنیة ثابتة الخصائص بل بدت على الدوام تیاراً متعدد المشارب والرؤى، لا یجمعه إطار محدود. وهذا ما أدى إلى الكثیر من الخلط فی تصنیف الفنانین ضمن تیارها. وكان من نتائج ذلك أن تخلى بعض مؤرخی الفن عن مصطلح الرمزیة واستعاض عنه باسم «ما بعد الانطباعیة» Poste-impressionnisme أو بأسماء بعض مدارسها الفرعیة الأكثر قابلیة للتعیین، مثل مدرسة «جسر آفین» Pont-Aven ومدرسة «النبییّن» Les nabis.

وتعود صعوبة تحدید معالم الحركة إلى سببین رئیسین. السبب الأول هو شدة التباین فی أسالیب عمل الفنانین الذین شكلوا النواة الأولى للحركـة (غوغـان Gauguin، بییـر بوفیس دی شافان Pierre Puvis de Chavannes، غوستاف مورو Gustave Moreau، أوجیـن كارییـر Eugène Carrière، أودیلـون ریدون Odilon Redon …)، إذ على الرغم من اجتماع هؤلاء على أولویة الفكرة على الشكل، ومع رفضهم لكل المدارس الفنیة ذات الخلفیة المادیة (واقعیة أو انطباعیة) لا یمكن استخلاص قواسم تقنیة مشتركة تجمع بین أعمالهم. والسبب الثانی یعود إلى هیمنة الأدباء على الحركة فی طور تكونها الأول، فقد كانت كل الكتابات النظریة الباحثة عن قواعد الرمزیة تعتمد الأدب موضوعاً مركزیاً لها مما لم یتح وضع أحكام معیاریة تفید فی تحدید خصائص الفن الرمزی.

تعود أولى إرهاصات الرمزیة فی الفن إلى عام 1889 حیث ائتلفت حول الفنان غوغان مجموعة من الفنانین الانطباعیین الباحثین عن روح تشكیلیة جدیدة تتجاوز ما آلت إلیه الانطباعیة. وبعد أقل من عام ظهرت فی مجلة «فـن ونقد» Art et critique مقالة للناقد والفنان موریس دینی Maurice Denis تتكلم للمرة الأولى عن الرمزیة فی الفن. ثم تبعتها فی عامی 1891 و1892 مقالات عدة للناقد ألبیر أورییه Albert Aurier فی مجلة «مركور فرنسا» Mercure de France وفی «المجلة الموسوعیة» La Revue encyclopédique، وفیها یحدد الكاتب ما یراه شروط العمل الفنی الرمزی، وهی:

1- أن یكون فكریا لأن هدفه الأسمى التعبیر عن فكرة.

2- أن یكون رمزیا یعبر عن تلك الفكرة بالشكل.

3- أن یكون تولیفیا لیقدم الفكرة بشكل یمكن للجمیع فهمه.

4- أن یكون ذاتیاً لأن موضوع العمل لم یعد موضوعا وإنما إشارة إلى الفكرة التی أدركها الفنان.

5- أن یكون زخرفیاً، وهذه نتیجة طبیعیة ما دامت الشروط السابقة هی نفسها شروط العمل الزخرفی. كما یعطی فی مقالة أخرى تعریفاً مختصراً للرمزیة فیقول: «الرموز هی الأفكار، أما الرمزیة فهی التعبیر عن الأفكار بواسطة الأشكال».

لقد نهضت الرمزیة على قاعدة رفض العالم القائم بكل نتاجاته الفلسفیة والعلمیة والفنیة. وثمة فی كتابات منظری الرمزیة انتقادات عنیفة للوضعیة وللتقدم الصناعی الذی یشوّه الكون وللمدارس الفنیة التی تنصّب الواقع مثالا للجمال، كالمدرستین الطبیعیة والانطباعیة. غیر أن هذا الموقف السلبی من العالم القائم لم یدفع الفنانین الرمزیین نحو القطیعة مع مرجعیاتهم الجمالیة التی تمتد من فنانی عصور قریبة مثل دورر[ر] Dürer وغویا[ر] Goya وواتو[ر] Watteau حتى فن عصر النهضة، ولاسیما فی القرن الخامس عشر. وكذلك لم یترك هذا الموقف السلبی الرمزیة فی وضع تشاؤمی محبط، لذا نرى بعض ممثلیها ینفتحون على الأفكار الاشتراكیة، بینما یمیل آخرون نحو المسیحیة.


+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:33|

السریالیة

 

لیست السریالیة Surréalisme جوهراً یعرّف بذاته، بل هی مجموعة الأفكار والإنتاجات والأفعال والمواقف الخاصة بالمشاركین فی الحركة التی أسسها أندریه بروتون André Breton فی باریس عام 1924 وجمعت نخبة من الكتاب والشعراء أمثال لوی أراغونLouis Aragon، وبول إیلوار Paul Éluard، وأنطونان آرتو Antonin Artaud، وبنجامان بیریه Benjamin Péret، وفیلیب سوبو Philippe Soupault، وروبیر دسنوس Robert Desnos وعرفت باسم الحركة السریالیة. شكّل بروتون محور الحركة والضامن لاستمرارها، فإن ضعفت المجموعة الملتئمة حول الشاعر المنظّر لسبب أو آخر، كما جرى بعید نهایة الحرب العالمیة الثانیة، كان بروتون یعید تشكیلها بمن بقی وفیاً لها، ولا یتردد فی إضافة أعضاء متحمسین جدد. ولم تنحصر السریالیة فی فرنسا بل امتد إشعاعها إلى عدد من الدول الأخرى فتشكلت مجموعات سریالیة وطنیة كان أشهرها المجموعة البلجیكیة التی عارض ناشطوها بروتون فی كثیر من مبادئه، من دون أن یدفع ذلك بسریالیی باریس إلى عدم الاعتراف بهم. كما امتد إشعاعها إلى العالم العربی حیث ظهر أول الأدباء المتحمسین لها فی مصر (ألبیر قصری وجویس منصور) قبل أن تنتقل إلى سوریة (أورخان میسّر) وغیرها من البلدان.

المجموعة السریالیة بریشة ماكس إرنست

1ـ رینیه كریفیل 2ـ فیلیب سوبو 3ـ هانس آرب 5ـ ماكس موریز 6ـ دستویفسكی

 7ـ رافائیل  8ـ تیودور فرنكل 9ـ بول إیلوار10ـ  جان بولان 11ـ بنجمان بیریه

12ـ لویس آراغون 13ـ أندریه بروتون 14ـ یوهانس تیودور بارغلید

15ـ غیورغو دی كیریكور 16ـ غالا إیلوار 17ـ روبیر دسنوس

یعد كتاب «البیان السریالی» (1924) Le Manifeste surréaliste البیان المؤسس للحركة، إلا أن السریالیة لم تولد معه بل تعود إرهاصاتها إلى الروایة السوداء Le Roman Noir فی إنكلترا وإلى الرومنسیة الألمانیة، وإلى المفكرین السباقین فی تحریر اللذة مثل فروید  Freudوالمركیز دی ساد de Sade. ویعترف السریالیون بتأثیر مجموعة من الشعراء فیهم، مثل رامبوRimbaud، ولوتریامون Lautréamont وجاری Jarry، وأبولینیر Apollinaire، إضافة إلى عدد من الفنانین مثل دی كیریكو de Chirico وبیكاسوPicasso.

لایجمع بین السریالیین الأوائل مبدأ شامل، ولا حالات انفعالیة متشابهة. غیر أن حریة الفكر، وما وضعته الحرب العالمیة الأولى من عوائق أمام ممارسة هذه الحریة، كانت هی الخلفیة التی انطلقوا منها كلاً بمفرده. لم یكن هاجسهم الكتابة عن الحرب وأثرها فی حریة الفكر، وإنما كان، منذ البدایة، البحث عن الطرق التی یمكن فیها للفكر ألا یتأثر بالأهوال التی تولّدها الحرب. وعلى هدى كتابات جاك فاشیه Jacques Vaché وقصائد أبولینیر وجدوا أن السخریة والشعر هما الشكلان الأمثلان للتعبیر عن حریة الفكر، بعیداً عن حتمیات الواقع. لكن السریالیة لم تقتصر على المعاییر الشكلانیة لتعبر عن هذه الحریة، بل وضعت أیضا تصوراً عاماً یتناول ذات الإنسان كما یتناول علاقاته مع المجتمع والعالم. وقد كان هذا التصور ناظماً لمجمل المواقف السیاسیة والأخلاقیة التی اتخذتها الحركة وزعیمها بروتون. فالإقصاءات الكثیرة التی تعرّض لها أعضاء كثیرون فی الحركة لا یمكن تفسیرها على أساس جمالی أو شخصی وإنما على أساس سیاسی وأخلاقی.

تتأكد حریة الفكر، فی نظر السریالیین، بمعارضة كل ما یعمل على تقییده وفق مسار محتوم. وهذا ما یعطی لأعمالهم صفة الثوریة والتمرد على كل نظام. ولم یحاول السریالیون التملّص من هاتین الصفتین بل سعوا إلى تعزیزهما من خلال رفضهم لفكرة الإله والوطن وسیادة القانون. ویعبر بروتون عن هذا الموقف فی البیان الثانی للسریالیة الذی نشره ضمن كتابه «الثورة السریالیة» (1929) La Révolution surréaliste حیث یقول: «علینا البدء من الصفر، وكل الأسالیب یجب أن تكون ناجعة لتقویض فكرة العائلة، وفكرة الوطن، وفكرة الدین»، وهذا ما دفع الكثیرین إلى ربط السریالیة ربطاً خاطئاً بالعدمیة Nihilisme والشیطانیة Satanisme.

السریالیة لیست حركة تشاؤمیة، إذ أن هناك أملاً یحفزها ویشجع معتنقیها على البحث عن «الحیاة الحقیقیة» التی وجدوا الإشارة إلى إمكانیتها فی قصائد رامبو. وضمن عملیة البحث هذه كان لا بد للسریالیة من القطع مع النظام الاجتماعی القائم، ففعلت ذلك بدایةً عبر سلسلة من الفضائح المفتعلة فی صیغة رسائل هجاء مثل رسالة بعنوان «جثة» Cadavre بمناسبة وفاة الكاتب أناتول فرانس Anatole France، أو «رسالة مفتوحة إلى كلودیل» Lettre ouverte à Claudel، وبقیت هذه المواقف بعیدة عن الالتزام السیاسی. لكن الأحداث التی كانت تمر بها فرنسا (الحرب فی الهند الصینیة، حرب الریف فی المغرب) دفعت بالسریالیین إلى إعادة النظر فی موقفهم من الفعل الثوری، مما دفع بأحد أعضاء الحركة وهو بییر نافیل Pierre Naville إلى وضع كتاب «الثورة والمفكرون» (1926) La Révolution et les intellectuels یهیب فیه برفاقه السریالیین أن یتجاوزوا الهم الأخلاقی الذی وضعوه أمام أعینهم والانتساب إلى الحزب الشیوعی الفرنسی. ومع أن بروتون كان قد وجّه انتقاداً شدیداً لسیاسة الحزب فی «دفاع مشروع» Légitime défense لم یرفض الفكرة فانتسب هو وأراغون وإیلوار وبیریه وبییر أونیك Pierre Unik إلى الحزب بعد أن كتبوا انتقاداً شدیداً لرفاقهم رافضی الانتساب مثل آرتو وسوبو. لكن اللقاء بین الحركة والحزب لم یعش طویلاً إذ كانت الحركة تصرّ على المحافظة على استقلالها فی حین كان الحزب یصر على رضوخها لأوامره. وغدا الفراق بینهما أكیداً إثر مؤتمر الأدباء عام 1935، وانسحاب أراغون من الحركة.

یُعرِّف بروتون السریالیة فی البیان السریالی بأنها: «الآلیة النفسیة الصرف التی نحاول بوساطتها التعبیر شفاهةً أو كتابةً أو بأی شكل آخر عن النشاط الحقیقی للفكر. هی إملاء فكری متحرر من كل رقابة یفرضها العقل، ومن كل هم جمالی أو أخلاقی»، ویضیف: «إن السریالیة تقوم على الإیمان بوجود حقیقة متعالیة مكونة من أشكال غیر معروفة من الارتباطات». ویظهر هذا التعریف مدى تأثر السریالیة بالتحلیل النفسی، فحسب فروید تكمن الحقیقة العمیقة للفكر الإنسانی فی لاوعیه. والسریالیون یریدون الكشف عن كل ما هو خفی لدى الإنسان. ولا بد لفعل ذلك من التحرر أولا من ضغوطات «الفكر المراقِب» وهذا ممكن لرواد الحركة باللجوء إلى طریقتین فی الكتابة: الكتابة الآلیة الصرف والكتابة الصُدفیة. وتشترك الكتابتان بالابتعاد عن كل بناء لغوی عقلانی. لكن الأولى تكون بإطلاق حریة التعبیر الآلی لما یعتمل فی النفس البشریة (بوساطة الكتابة الحلمیة مثلاً، وضحك المصابین عقلیاً، والهلوسة، وكلام الأطفال…) وتكون الثانیة بانتظار الكشف أو انبعاث الإشراقة المتولدة من التقاء بالمصادفة لم یكن لعقلنا أی دور فی تدبیره. وفی الحالة الأخیرة تتجلى حریة الفكر من خلال مقدرته على إكساب معنىً لأیة مصادفة. وهذا ما یشیر إلیه بروتون فی البیان السریالی بقوله: «من الممكن أن نطلق اسم قصیدة على ما نركّبه من رصف عشوائی لعناوین أو لمقاطع من عناوین جریدة یومیة».

هذا الكشف غیر المنتظر یحدد لدى السریالیین معنى الصورة الجمیلة التی یمكن تعریفها بأنها تقارب حقیقتین لا تجمع بینهما علاقة منطقیة. لكن لیس كل تقارب من هذا النوع منتجاً بالضرورة للجمیل، إذ ثمة عنصر آخر لا بد من توافره فی الجمیل وهو الحیاة. فالسریالیون یرفضون الجمال البارد، المعروض، ویطالبون بجمال مزعزِع، «مثیر للقشعریرة» حسب تعبیر بروتون. الجمال الوحید المقبول سریالیاً هو ذاك الذی «یجعل مشاهده كالمسمار مثبتاً إلى الأرض». لهذا السبب ینفصل الانفعال الشعری لدى السریالیین عن الانفعال الأدبی، ویتجاوزه، لیصبح أقرب إلى الانفعال الإیروسی الجامع بین الروحی والجسدی، الانفعال الذی لا یقبل بالاختزال إلى التعلق العاطفی ولا إلى الإحساس الشبقی.هذا الانفعال هو ما تقدمه صورة المرأة فی الكتابة السریالیة. فالمرأة، كما یقول بروتون فی كتاب «الحب المجنون» L’amour fou هی «انصهار الطبیعی وما فوق الطبیعی فی الموضوع ذاته، وهی تحتل فی كتابات السریالیین مكانة إلهیة یجعل التواجد فی حضرتها مولّدا لانفعال كلی وصاعق لا یعادله سوى الانفعال الذی یولده الجانب الشعوری من التجربة الصوفیة، لا الجانب الدینی الذی لم یقم السریالیون له أی اعتبار یذكر. لقد رفض السریالیون التخلی عن شهوات الإنسان لكن من دون أن یتخلوا، فی الوقت نفسه، عمّا تمثله التجربة الدینیة المستقلة عن أی إیمان بإله خالق ومدبّر، من إیجابیة لحیاة الإنسان، ومن دون أن یقعوا ضحیةً لأی وهم بمصالحة الفكر مع العالم.

غیر أن هذا كله لا یسمح باعتبار السریالیة فلسفةً. فباستثناء جیرار لوغران Gérard Legrand لم یكن أی من السریالیین فیلسوفاً، كما أن فكر السریالیین یغص بالتناقضات. فهم یشیدون بضرورة العمل السیاسی بالتوازی مع إشادتهم بالتجربة الداخلیة، ویجتمع عندهم الحب اللانفعی والمخلص مع السادیة الاستحواذیة والإباحیة، ویدافعون عن ممارسة السحر، فی حین یرفضون مبدأه، والیأس لدیهم منهل للأمل. وفی حین لم یجهد السریالیون لإیجاد حل لهذه التناقضات على صعید التصوّر قبلوا بعیشها، بكل توترها، على صعید الواقع، مقدمین بذلك شهادة على الشروط المتناقضة التی یتمیز بها الإنسان.

 

لیست السریالیة Surréalisme جوهراً یعرّف بذاته، بل هی مجموعة الأفكار والإنتاجات والأفعال والمواقف الخاصة بالمشاركین فی الحركة التی أسسها أندریه بروتون André Breton فی باریس عام 1924 وجمعت نخبة من الكتاب والشعراء أمثال لوی أراغونLouis Aragon، وبول إیلوار Paul Éluard، وأنطونان آرتو Antonin Artaud، وبنجامان بیریه Benjamin Péret، وفیلیب سوبو Philippe Soupault، وروبیر دسنوس Robert Desnos وعرفت باسم الحركة السریالیة. شكّل بروتون محور الحركة والضامن لاستمرارها، فإن ضعفت المجموعة الملتئمة حول الشاعر المنظّر لسبب أو آخر، كما جرى بعید نهایة الحرب العالمیة الثانیة، كان بروتون یعید تشكیلها بمن بقی وفیاً لها، ولا یتردد فی إضافة أعضاء متحمسین جدد. ولم تنحصر السریالیة فی فرنسا بل امتد إشعاعها إلى عدد من الدول الأخرى فتشكلت مجموعات سریالیة وطنیة كان أشهرها المجموعة البلجیكیة التی عارض ناشطوها بروتون فی كثیر من مبادئه، من دون أن یدفع ذلك بسریالیی باریس إلى عدم الاعتراف بهم. كما امتد إشعاعها إلى العالم العربی حیث ظهر أول الأدباء المتحمسین لها فی مصر (ألبیر قصری وجویس منصور) قبل أن تنتقل إلى سوریة (أورخان میسّر) وغیرها من البلدان.

المجموعة السریالیة بریشة ماكس إرنست

1ـ رینیه كریفیل 2ـ فیلیب سوبو 3ـ هانس آرب 5ـ ماكس موریز 6ـ دستویفسكی

 7ـ رافائیل  8ـ تیودور فرنكل 9ـ بول إیلوار10ـ  جان بولان 11ـ بنجمان بیریه

12ـ لویس آراغون 13ـ أندریه بروتون 14ـ یوهانس تیودور بارغلید

15ـ غیورغو دی كیریكور 16ـ غالا إیلوار 17ـ روبیر دسنوس

یعد كتاب «البیان السریالی» (1924) Le Manifeste surréaliste البیان المؤسس للحركة، إلا أن السریالیة لم تولد معه بل تعود إرهاصاتها إلى الروایة السوداء Le Roman Noir فی إنكلترا وإلى الرومنسیة الألمانیة، وإلى المفكرین السباقین فی تحریر اللذة مثل فروید  Freudوالمركیز دی ساد de Sade. ویعترف السریالیون بتأثیر مجموعة من الشعراء فیهم، مثل رامبوRimbaud، ولوتریامون Lautréamont وجاری Jarry، وأبولینیر Apollinaire، إضافة إلى عدد من الفنانین مثل دی كیریكو de Chirico وبیكاسوPicasso.

لایجمع بین السریالیین الأوائل مبدأ شامل، ولا حالات انفعالیة متشابهة. غیر أن حریة الفكر، وما وضعته الحرب العالمیة الأولى من عوائق أمام ممارسة هذه الحریة، كانت هی الخلفیة التی انطلقوا منها كلاً بمفرده. لم یكن هاجسهم الكتابة عن الحرب وأثرها فی حریة الفكر، وإنما كان، منذ البدایة، البحث عن الطرق التی یمكن فیها للفكر ألا یتأثر بالأهوال التی تولّدها الحرب. وعلى هدى كتابات جاك فاشیه Jacques Vaché وقصائد أبولینیر وجدوا أن السخریة والشعر هما الشكلان الأمثلان للتعبیر عن حریة الفكر، بعیداً عن حتمیات الواقع. لكن السریالیة لم تقتصر على المعاییر الشكلانیة لتعبر عن هذه الحریة، بل وضعت أیضا تصوراً عاماً یتناول ذات الإنسان كما یتناول علاقاته مع المجتمع والعالم. وقد كان هذا التصور ناظماً لمجمل المواقف السیاسیة والأخلاقیة التی اتخذتها الحركة وزعیمها بروتون. فالإقصاءات الكثیرة التی تعرّض لها أعضاء كثیرون فی الحركة لا یمكن تفسیرها على أساس جمالی أو شخصی وإنما على أساس سیاسی وأخلاقی.

تتأكد حریة الفكر، فی نظر السریالیین، بمعارضة كل ما یعمل على تقییده وفق مسار محتوم. وهذا ما یعطی لأعمالهم صفة الثوریة والتمرد على كل نظام. ولم یحاول السریالیون التملّص من هاتین الصفتین بل سعوا إلى تعزیزهما من خلال رفضهم لفكرة الإله والوطن وسیادة القانون. ویعبر بروتون عن هذا الموقف فی البیان الثانی للسریالیة الذی نشره ضمن كتابه «الثورة السریالیة» (1929) La Révolution surréaliste حیث یقول: «علینا البدء من الصفر، وكل الأسالیب یجب أن تكون ناجعة لتقویض فكرة العائلة، وفكرة الوطن، وفكرة الدین»، وهذا ما دفع الكثیرین إلى ربط السریالیة ربطاً خاطئاً بالعدمیة Nihilisme والشیطانیة Satanisme.

السریالیة لیست حركة تشاؤمیة، إذ أن هناك أملاً یحفزها ویشجع معتنقیها على البحث عن «الحیاة الحقیقیة» التی وجدوا الإشارة إلى إمكانیتها فی قصائد رامبو. وضمن عملیة البحث هذه كان لا بد للسریالیة من القطع مع النظام الاجتماعی القائم، ففعلت ذلك بدایةً عبر سلسلة من الفضائح المفتعلة فی صیغة رسائل هجاء مثل رسالة بعنوان «جثة» Cadavre بمناسبة وفاة الكاتب أناتول فرانس Anatole France، أو «رسالة مفتوحة إلى كلودیل» Lettre ouverte à Claudel، وبقیت هذه المواقف بعیدة عن الالتزام السیاسی. لكن الأحداث التی كانت تمر بها فرنسا (الحرب فی الهند الصینیة، حرب الریف فی المغرب) دفعت بالسریالیین إلى إعادة النظر فی موقفهم من الفعل الثوری، مما دفع بأحد أعضاء الحركة وهو بییر نافیل Pierre Naville إلى وضع كتاب «الثورة والمفكرون» (1926) La Révolution et les intellectuels یهیب فیه برفاقه السریالیین أن یتجاوزوا الهم الأخلاقی الذی وضعوه أمام أعینهم والانتساب إلى الحزب الشیوعی الفرنسی. ومع أن بروتون كان قد وجّه انتقاداً شدیداً لسیاسة الحزب فی «دفاع مشروع» Légitime défense لم یرفض الفكرة فانتسب هو وأراغون وإیلوار وبیریه وبییر أونیك Pierre Unik إلى الحزب بعد أن كتبوا انتقاداً شدیداً لرفاقهم رافضی الانتساب مثل آرتو وسوبو. لكن اللقاء بین الحركة والحزب لم یعش طویلاً إذ كانت الحركة تصرّ على المحافظة على استقلالها فی حین كان الحزب یصر على رضوخها لأوامره. وغدا الفراق بینهما أكیداً إثر مؤتمر الأدباء عام 1935، وانسحاب أراغون من الحركة.

یُعرِّف بروتون السریالیة فی البیان السریالی بأنها: «الآلیة النفسیة الصرف التی نحاول بوساطتها التعبیر شفاهةً أو كتابةً أو بأی شكل آخر عن النشاط الحقیقی للفكر. هی إملاء فكری متحرر من كل رقابة یفرضها العقل، ومن كل هم جمالی أو أخلاقی»، ویضیف: «إن السریالیة تقوم على الإیمان بوجود حقیقة متعالیة مكونة من أشكال غیر معروفة من الارتباطات». ویظهر هذا التعریف مدى تأثر السریالیة بالتحلیل النفسی، فحسب فروید تكمن الحقیقة العمیقة للفكر الإنسانی فی لاوعیه. والسریالیون یریدون الكشف عن كل ما هو خفی لدى الإنسان. ولا بد لفعل ذلك من التحرر أولا من ضغوطات «الفكر المراقِب» وهذا ممكن لرواد الحركة باللجوء إلى طریقتین فی الكتابة: الكتابة الآلیة الصرف والكتابة الصُدفیة. وتشترك الكتابتان بالابتعاد عن كل بناء لغوی عقلانی. لكن الأولى تكون بإطلاق حریة التعبیر الآلی لما یعتمل فی النفس البشریة (بوساطة الكتابة الحلمیة مثلاً، وضحك المصابین عقلیاً، والهلوسة، وكلام الأطفال…) وتكون الثانیة بانتظار الكشف أو انبعاث الإشراقة المتولدة من التقاء بالمصادفة لم یكن لعقلنا أی دور فی تدبیره. وفی الحالة الأخیرة تتجلى حریة الفكر من خلال مقدرته على إكساب معنىً لأیة مصادفة. وهذا ما یشیر إلیه بروتون فی البیان السریالی بقوله: «من الممكن أن نطلق اسم قصیدة على ما نركّبه من رصف عشوائی لعناوین أو لمقاطع من عناوین جریدة یومیة».

هذا الكشف غیر المنتظر یحدد لدى السریالیین معنى الصورة الجمیلة التی یمكن تعریفها بأنها تقارب حقیقتین لا تجمع بینهما علاقة منطقیة. لكن لیس كل تقارب من هذا النوع منتجاً بالضرورة للجمیل، إذ ثمة عنصر آخر لا بد من توافره فی الجمیل وهو الحیاة. فالسریالیون یرفضون الجمال البارد، المعروض، ویطالبون بجمال مزعزِع، «مثیر للقشعریرة» حسب تعبیر بروتون. الجمال الوحید المقبول سریالیاً هو ذاك الذی «یجعل مشاهده كالمسمار مثبتاً إلى الأرض». لهذا السبب ینفصل الانفعال الشعری لدى السریالیین عن الانفعال الأدبی، ویتجاوزه، لیصبح أقرب إلى الانفعال الإیروسی الجامع بین الروحی والجسدی، الانفعال الذی لا یقبل بالاختزال إلى التعلق العاطفی ولا إلى الإحساس الشبقی.هذا الانفعال هو ما تقدمه صورة المرأة فی الكتابة السریالیة. فالمرأة، كما یقول بروتون فی كتاب «الحب المجنون» L’amour fou هی «انصهار الطبیعی وما فوق الطبیعی فی الموضوع ذاته، وهی تحتل فی كتابات السریالیین مكانة إلهیة یجعل التواجد فی حضرتها مولّدا لانفعال كلی وصاعق لا یعادله سوى الانفعال الذی یولده الجانب الشعوری من التجربة الصوفیة، لا الجانب الدینی الذی لم یقم السریالیون له أی اعتبار یذكر. لقد رفض السریالیون التخلی عن شهوات الإنسان لكن من دون أن یتخلوا، فی الوقت نفسه، عمّا تمثله التجربة الدینیة المستقلة عن أی إیمان بإله خالق ومدبّر، من إیجابیة لحیاة الإنسان، ومن دون أن یقعوا ضحیةً لأی وهم بمصالحة الفكر مع العالم.

غیر أن هذا كله لا یسمح باعتبار السریالیة فلسفةً. فباستثناء جیرار لوغران Gérard Legrand لم یكن أی من السریالیین فیلسوفاً، كما أن فكر السریالیین یغص بالتناقضات. فهم یشیدون بضرورة العمل السیاسی بالتوازی مع إشادتهم بالتجربة الداخلیة، ویجتمع عندهم الحب اللانفعی والمخلص مع السادیة الاستحواذیة والإباحیة، ویدافعون عن ممارسة السحر، فی حین یرفضون مبدأه، والیأس لدیهم منهل للأمل. وفی حین لم یجهد السریالیون لإیجاد حل لهذه التناقضات على صعید التصوّر قبلوا بعیشها، بكل توترها، على صعید الواقع، مقدمین بذلك شهادة على الشروط المتناقضة التی یتمیز بها الإنسان.

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:32|
دیك الجنّ الحمصی
 - عَبْد السَّلام بنْ رَغبان

161 235ه

قراءة جدیدة فی شعره

عبد الإله النبهان

لیْس أصعب من الكلام فی موضوع تعاورته الأقلام وكثرت حوله الدراسات ومصادره واحدة وأخباره متحدة مع شح وقلة وغموض واضطراب، فاسمحوا لی أن أتجاوز حدود البحث التقلیدی المنسق إلى الاسترسال مع الخواطر والأخذ بأطراف الأحادیث، وأرجو أن یكون لكلامی شیء من حسن الواقع فی موضوع كتبه غیری من الباحثین على نحو آخر مغایر.

فی حمص یحبون دیك الجن، وبعضهم یفخر به، ولا فخر، ویعتز ولا اعتزاز. ولعله من الخیر لنا ولدیك الجن أن نراه من بعید... أن نتوهمه... نجماً لامعاً لا نعرف عن حقیقته شیئاً، أو نعرفه مقصفاً خالداً على ضفاف المیماس یفیض متعة ونشوة وحبوراً على توالی الأیام والأحقاب، إن التمتع بالجمیل وتملی الحسن والجمال فی الكائن یتم لنا من غیر تشریح، وماذا یبقى من الحسناء إن أعمل الجراحون مشارطهم فی كل بقعة منها؟ فلیبق دیك الجن دیوان شعر ولكن من غیر دراسة، وشاعراً ولكن من غیر تحلیل، وأسطورة زاهیة من غیر تاریخ... وإلیكم أفكاراً وخواطر لا بحثاً ومراجع فی صمیم دیك الجن وصمیم شعره... أوحتها أشعاره قبل أن توحی بها أقلام دارسیه.

ولعل فقر حمص القدیمة وخواءها من الأدب والأدباء جعل الأنظار تتجه دائماً فی كل مناسبة أو دراسة إلى دیك الجن الذی یعد أهم شاعر نبغ فی هذه المدینة فی تلك العصور، كانت حمص لا شأن لها أیام الدولة العباسیة(1)، وتكاد لا تذكر، باستثناء ذكرها فی عدد من الثورات، ویبدو أن تحول مراكز التجارة والثروة جعل منها ومن غیرها من مدن بلاد الشام آنئذٍ مدناً ثانویة، لذلك كان الشعراء النوابغ والرجال الطامحون یغادرونها إلى المدن المزدهرة فی العراق.

دیك الجن عبد السلام بن رغبان، كتبت عنه دراسات ومحاضرات وخاصة على أقلام أدباء حمص كتب عنه الأستاذ عبد العلیم صافی والأستاذ عبد المعین الملوحی والمرحوم محی الدین الدرویش، والأستاذ مظهر الحجی وضع كتاباً كبیراً عنه ولما ینشر بعد، وكتب غیرهم ممن ستطالع أسماءهم فی الملحق بهذه الدراسة، وآخر من كتب عن دیك الجن فیما أعلم الأستاذ أحمد الجندی، كتب عنه دراسة فی كتابه شعراء من بلاد الشام.

وكل ما كتب عنه حتى الآن مكرر، لأن شعره الذی بین أیدینا قلیل محدود، و المصدر الأساسی للحدیث عنه كتاب الأغانی. وقد وردت نصوص تدل على أن شعره كان مجموعاً حتى القرن السادس: ذكر الیافعی فی مرآة الجنان أن لابن الأثیر صاحب المثل السائر مجموعاً فیه شعر أبی تمام والبحتری ودیك الجن والمتنبی فی مجلد واحد كبیر(2)، وتدل كتب الاختیارات التی وصلتنا ككتاب الأنوار فی محاسن الأشعار (3)، وكتاب نهایة الارب أن دیوانه كان بین أیدیهم، كما تدل على ذلك كتب النقد وخاصة تلك التی أكثرت الاستشهاد بشعره لمقارنته بشعر غیره كالمنصف لابن وكیع (4)... ومع ذلك فإن شعره لم یعثر علیه كاملاً حتى الآن، وكل كتاب من كتب الأدب التراثیة یصدر حدیثاً قد یقدم لنا أبیاتاً لدیك الجن كانت غیر معروفة، وكل هذا یدل على أن دیوانه كان موجوداً وعلى أن الأدباء والنقاد قد اهتموا بشعره على نحو ما منذ القدیم.

لقد قالوا ما قالوه فی لقبه (دیك الجن)، لماذا لقب بهذا اللقب؟ أوردوا قصصاً لن تجد فیها مقنعاً ولا لها دلیلاً، قالوا: إن "دیك الجن"، اسم دویبة فی البساتین. وقد قلبت كتب الحیوان قدیمها وحدیثها وسألت أهل البساتین فی حمص إن كان فی إرثهم اللغوی اسم هذه الدویبة فلم أحظَّ بطائل. وقد أشرت إلى أن كتب التراث الصادرة حدیثاً لا تنی تقدم جدیداً فیما یتعلق بدیك الجن وبغیره. وهكذا كان عندما ظهر كتاب "سرور النفس بمدارك الحواس الخمس"(5). الأصل للتیفاشی والمختصر لابن منظور فقد ذكر دیك الجن وقال إنه لقب بذلك لأنه دعی إلى ولیمة قدم فیها دیك، فرثى الشاعر هذا الدیك فلقب بذلك، ولكن القصة وسأذكرها أن أفادت سبب تلقیبه بالدیك إلا أنها لا تقدم تسویغاً ولا دلیلاً یتعلق بإضافة الجن إلى الدیك. وإلیك القصة:(6).

وقال عبد السلام بن رغبان دیك الجن یرثی دیكاً لأبی عمرو وعمیر بن جعفر كان له عنده مدة فذبحه وعمل علیه دعوة، وبها لقب دیك الجن:

دعانا أبو عمرو عمیر بن عامر *** على لحم دیك دعوة بعد موعد

فقدم دیكاً عدملیاً ملدحاً *** مبرنس أثیاب مؤذن مسجد

یحدثنا عن قوم هود وصالح *** وأغرب من لاقاه عمرو بن مرثد

وقال: لقد سبَّحت دهراً مهللاً *** وأسهرت بالتأذین أعین هجَّد

أیذبح بین المسلمین مؤذن *** مقیم على دین النبی محمد

فقلت له: یا دیك، إنك صادق *** وإنك فیما قلت غیر مفنِّد

ولا ذنب للأضیاف إن نالك الردى *** فإن المنایا للدیوك بمرصد(7).

فإذا كانت هذه الأبیات وأضیف إلیها ما هجا به نفسه وقال أنه على صورة الجنی، استقام لنا تصور ما عن سبب تلقیبه، وإلیك قوله فی نفسه:

أیها السائل عنی *** لست بی أخبر منی

أنا إنسان برانی الله *** فی صورة جنی

بل أنا الأسمج فی العین *** فدع عنك التظنی

أنا لا أسلم من نفسی *** فمن یسلم منی(8).

وینضاف إلى ذلك إلى رثائه للدیك وهجائه لنفسه خروجه فی اللیالی وسكره بین البساتین، ورفع عقیرته بالغناء ومجونه... فربما رشحته هذه الأمور مجتمعة لأن یكون فی نظر أبناء عصره دیكاً من دیوك الجن.

شعره الجمیل، أو قل المتلبس بمسحة من مسحات الجمال، والمشهور... یدور حول حبه لفتاة مسیحیة اسمها (ورد)، وزواجه منها، ثم تلهبه بالغیرة علیها وقتلها، ثم یأتی الندم والرثاء الرقیق... وجمال قصة هذا الحب ونهایته لا یتجلى من سردها على وجه الحقیقة أو ما یقرب منها، ولا فائدة من إقحام المناقشات ذات الطابع الحقوقی فی سیرة شاعر تلبست حیاته بالأسطورة، بل استمدت جمالها وتأثیرها منها، بل إن أسطورة حیاته ربما كانت أدل على طبیعة مزاجه واتجاهات سلوكه والبواعث الدفینة لشعره من كثیر من الحقائق التی یفتش عنها الباحثون عادة. ماذا یفیدنا التحقق من كون زوجه ورد تخونه أو لا تخونه، وإذا كانت تخونه أمع غلامه أم مع شخص آخر... المهم أن مزاج دیك الجن الرجراج. وطبیعته العصبیة كانا مهیأین لارتكاب جریمة قتل، مهما كانت الأسباب والدوافع، كما أنهما مهیأین فی الوقت نفسه للندم والإفراط فیه، وربما من غیر موجب للندم أیضاً.

الذین كتبوا فی سیرته ورصعوها ودونوها بسبك قصصی مشوق جعلوه یحب غلاماً وفتاة فی وقت واحد، فجمعوا بذلك بین جنوح طبیعته إلى الشذوذ وجنوحها إلى الاستواء فی الوقت نفسه، ولكنه استواء یقرب من الشذوذ أو قل إنه متلبس به لا ینفصل عنه، وهو شذوذ یغذوه المجون واللا مبالاة والانحراف، یعضده فی ذلك ویمنحه الاستمراریة سكر دائم تحول إلى إدمان... وإن جملة الأخبار المرویة عنه تؤدی إلى هذا التصور... إلى تصور إنسان عصبی بل مفرط فی عصبیته، مدمن، محصور داخل ذاته، مغرق فی أنانیته، فی تدلیل نفسه وإیثارها بالملذات، وربما كان بعیداً كل البعد عن المشاعر الإنسانیة التی یمكن أن یشارك غیره فیها، أو ینفتح فیها على ذلك الغیر... حتى الندامى من الأصحاب والخلان لا نجدهم فی شعره ولا سیرته... تفكیره أصم مغلق متجه اتجاهاً حدیاً واحداً نحو نفسه ولذاته الحسیة المادیة: نحو الغلام وورد والخمر... ولم تستطع الخمر ولا الحب أن یرقیا به إلى أی مستوى روحی... بل كانا مجرد وسیلة للمتعة التی تساعد على الغرق فی الملذات وعلى الإغراق فی المجون.

إنه مقیم فی مدینة خاملة آنذاك... لم یفكر بالرحلة ولم یوسع آفاقه فی عصر كانت بغداد فیه تعج بالحیاة والازدهار والعلم والشعراء الكبار... وبكل ما تشتمل علیه حیاة فتیة وحضارة ناهضة... بل أقام فی بلده على فقره وحاجته، علل بعضهم ذلك بأنفته من المدیح، ولم یك أنوفاً ولا عزیزاً، إنه مدح بعض الأمراء التافهین جداً بمقاییس ذلك الزمان... إنهم لا یعنون شیئاً إذا قیسوا إلى أمراء بغداد فی ذلك الحین... بل إنهم شبه مسودات عنها... ومدیحه لهم وقبوله لأعطیاتهم أكبر دلیل على أنه كان یكفیه الفتات فی عصر الشعراء الكبار والأعطیات الهائلة والمكافآت الجزیلة.

وقالوا إنه مدحهم لأنه كان یحبهم لأنهم هاشمیون، وكان هو فیما یقال ذا نزعة شیعیة.... ولیس هذا بالتعلیل لأن العباسیین هاشمیون أیضاً، أما كونه ذا نزعة شیعیة فهذا أمر مشكوك فیه ولیس علیه من دلیل إلا مدحه لأولئك الأمراء... فإذا كان دیك الجن قد أخفق فی أن یكون مسلماً عادیاً فكیف یمكن أن یكون شیعیاً، والشیعیة إسلام مع زیادة علیه تتمثل فی الالتفات حول آل علی وحبهم والتشبه بهم و.... الخ، فإذا كان الرجل لا یشعر بأی حب للعرب، بل یصرح بحبه للفرس ویشید بنسبه المختلف فیه، وأصله الذی لا أصل له... وإذا كان یهزأ بمعتقدات المسلمین بما فیهم الشیعة ویعلن تكذیبها فی شعره، وفی سلوكه. فكیف یقال: إن لدیه نزعة شیعیة؟‍‍!...

عللوا ذلك بمراثیه للحسین بن علی و مدحه للهاشمیین، وأرى أن ذلك لیس دلیلاً لسبب بسیط: إن حب الحسین لا یمكن أن یقترن بالزندقة، لأن حب الحسین تشدد دینی إضافی ینبع من حب آل الرسول.... فإذا كان الأصل لدى دیك الجن معدوماً الإسلام وحب العرب فما الحاجة إلى الفراع؟ وتعلیل رثائه للحسین هو أنه كان یتقرب بتلك المراثی إلى أولئك الذین كانوا یقدمون له المال وعندئذٍ یكون السبب اقتصادیاً بحتاً. وقد یكون الرجل من الناقمین على السلطة العباسیة آنذاك وهو شعوبی صارم فلم یجد أمامه سبیلاً للمجاهرة بالعداء إلا رثاء الحسین ومدیح آل علی الذین كانوا قذى فی أجفان العباسیین وشوكة فی جنوبهم، فمدیحه ورثاؤه للإغاظة والاستجداء ولیس حباً ولا مروءة.

حاول أبو العلاء المعری أن یدافع عن عقیدة دیك الجن فی عبارات مقتضبة فحواها أن زندقة دیك الجن ربما كانت لغواً من اللغو، ومن قبل التكثر من الكلام الذی یوحی بالمجون دون أن یدل على الحقیقة المنعقدة فی القلب(9)، ولكننا نجد أبیاته الجمیلة المنسابة التی یعلن فیها عن نفسه وعن عقیدته أصدق دلالة على قلبه من أن تكون مجرد قول عابر:

هی الدنیا وقد نعموا بأخرى *** وتسویف النفوس من السوافی

فإن كذبوا آمنت وإن أصابوا *** فإن المبتلیك هو المعافی

وأصدق ما أبثك أن قلبی *** بتصدیق القیامة غیر صاف(10)

والطریف فی القصة أن تبرئة دیك الجن تكفل بها منام رآه أحدهم: رأى فیه دیك الجن فأخبره أنه كان یتلاعب بذلك ولم یكن یعتقده(11)....

وهذه محاولات باهتة وسخیفة أعنی دفاع المعری وقضیة المنام یدحضها عدد من الحقائق أبسطها: كون الشعر تعبیراً نقیاً عن نفس الشاعر لحظة الإبداع، فدیك الجن كان كما عبر عن نفسه فی أبیاته، على الأقل ساعة قوله هذه الأبیات. ثانیة تلك الحقائق أن دیك الجن لم یكن نسیج وحده فی ذلك الموقف آنذاك، بل إن الشك فی المعتقدات السائدة والأدیان كان منتشراً ومعروفاً، وكانت كتب الزندقة معروفة وشائعة.(12)، فصادفت تلك الدعوات من دیك الجن قلباً متلهفاً لها مشبعاً بحب الفرس والروم، مفعماً بكره العرب.

فتمكنت منه فكان حاله وحالها كما قال الشاعر:

أتانی هواها قبل أن أعرف الهوى *** فصادف قلباً خالیاً فتمكنا(13).

ثم إن دیك الجن عزف على هذا الوتر أكثر من مرة، وسواء أكانت الأبیات التالیه له أو منسوبة له فهی على كلا الوجهین ذات دلالة على أنه كان یلهج بهذا أو عرف عنه هذا اللهج فنسب إلیه ما یشاكله وما یماثله:

أَأَترك لذة الصهباء عمداً *** لما وعدوه من لبن وخمر

حیاة ثم موت ثم بعث *** حدیث خرافة یا أم عمرو(14).

ثالثة تلك الحقائق أن شعوبیة دیك الجن ترشحه لمثل هذا الشك، وأنا هنا لا أرید أن أجعل منه فیلسوفاً متنوراً، وإنما هی بدوات النفس وأفكار العصر وجدت فی نفس دیك الجن وفكره مرتعاً خصیباً وانسجمت مع سلوكه ورقة نسبه وإحساسه بالهوان فی مدینة تتعصب كلها لا للعرب فقط ولكن للیمنیة منهم على وجه الخصوص حتى قیل: أذل من قیسی فی حمص(15)، هذا الهوان الذی ولد فخراً أجوف لا یستند إلى أسس اجتماعیة... فلم یكن أبوه غالب ولا جده صعصعة فبمن یفخر بأبیه رغبان وأهون به أباً، أم بنسبه المنقطع بالولاء وأسقط به نسباً؟‍ لذلك لم یكن أمامه إلا الادعاء، ونموذج الادعاء حی ماثل، فلیس إلا أن یقتبس ویقلد، ویسیر على النهج اللاحب المطروق، فها هو بشار قبله عندما أعیاه الفخر بالآباء والأجداد، وفاته النسب الرفیع یمم وجهه شطر كسرى فجعله عماد فخره وقبلة اعتزازه، ولم یحمل أحد فخر بشار على محمل الجد، بل كان فخره بلیغاً فی دلالته على عقد النقص المستحكمة، وكما سمى بشار الفرس بنی الأحرار، وجعل نفسه ابنهم وسلیلهم كذلك فعل دیك الجن فجعل نفسه حراً لیس بالعربی، واستمع إلى بشار:

هل من رسول مخبر *** عنِّی جمیع العربِ

من كان حیاً منهم *** ومن ثوى فی الترب

بأننی ذو حسب *** عال على ذی الحسب

جدی الذی أسمو به *** كسرى وساسان أبی

وقیصر خالی إذا *** عددت یوماً نسبی

كم لی و كم لی من أب *** بتاجه متعصب

أنا ابن فرعی فارس *** عنها المحامی العصب

نحن ذوو التیجان وال *** ملك الأشم الأغلب(16).

وقارن ما قاله بشار بما قاله دیك الجن فإنك ستجده أی دیك الجن یسیر وراءه خطوة خطوة وعلى نهجه تماماً، حذوك القذة بالقذّة(17)، والنعل بالنعل(18)، وإذا كان بشار شیخاً من شیوخ الشعوبیة العتاد فدیك الجن تلمیذ شدید الإخلاص لمذهب شیخه:

إنی ببابك لاودی یقربنی *** ولا أبی شافع عندی ولا نسبی

إن كان عرفك مذخوراً لذی سبب *** فاضمم یدیك على حر أخی سبب

أو كنت وافقته یوماً على نسب *** فاضمم یدیك فإنی لست بالعربی

إنی امرؤٌ بازل فی ذروتی شرف *** لقیصر ولكسرى محتدی وأبی(19).

فهما فی زعمهما مشتركان فی نسب واحد عجیب، جمع بین الولاء لدولتین لم تتفقا یوماً فی تاریخهما، ولم تهدأ حروبهما، ولم تتهادنا إلا على دخن، ومع ذلك فقد جمع بینهما ووحد شملهما كراهیة بشار للعرب ثم كراهیة دیك الجن من بعده للعرب حتى جعل ولاءه ونسبه فی الدولتین اللتین لم یشبع العرب من الاعتزاز بإسقاطهما حتى یومنا هذا، فكأنه یجعل من نفسه رمزاً للتحدی وللبقاء والاستمرار... فلنصوّر الآن هذا الإنسان الذی یرثی الحسین بن علی سید العرب، ویتباكى علیه، ثم یصرح بصفاقة ما بعدها صفاقة وبرقاعة عجیبة بقوله: فإنی لست بالعربی... ولم یخسر العرب شیئاً ما بخروج دیك منهم، كما أن الفرس أو الروم لم یربحوا شیئاً ذا بال بانتسابه إلیهم.

والحق أن بشار أیضاً لم یكن مخترعاً أو مبتدئاً أو مجدداً بهذا الفخر بالفرس، إذ لاشك أنه أی الفخر بالفرس كان ظاهرة اجتماعیة عبر عنها بشار كما عبر عنها من قبله فی أیام هشام بن عبد الملك إسماعیل بن یسار فی قصیدتین على الأقل مما وصلنا من شعره مما رواه أبو الفرج، بل إن إسماعیل صرح بذلك أمام هشام بن عبد الملك:

إنی وجدِّك ما عودی بذی خور *** عند الحفاظ ولا حوضی بمهدوم

أصلی كریم ومجدی لا یقاس به *** ولی لسان كحد السیف مسموم

أحمی به مجد أقوام ذوو حسب *** من كل قرم بتاج الملك معموم

جحاجح سادة بلج مرزابة *** جرد عتاق مسامیح مطاعیم

من مثل كسرى وسابور الجنود معاً *** والهرمزان لفخر أو لتعظیم

أسد الكتائب یوم الروع إن زحفوا *** وهم أذلوا ملوك الترك والروم

یمشون فی حلق الماذی سابغة *** مشی الضراغمة الأسد اللهامیم

هناك إن تسألی تنبی بأن لنا *** جرثومة قهرت عزّ الجراثیم(20).

وقد غضب هشام علیه أیما غضب وأمر به فغط فی بركة ماء حتى كادت نفسه تخرج ثم أخرج ونفی... قال أبو الفرج: وكان مبتلى بالعصبیة للعجم والفخر بهم، فكان لا یزال مضروباً محروماً مطروداً (21)، وإذا كان فی الأبیات السابقة قد اقتصر على الفخر فإنه فی أبیات أخرى افتخر بالفرس ونال من العرب:

رب خال متوج لی وعم *** ماجد مجتدى كریم النصاب

إنما سمی الفوارس بالفر *** س مضاهاة رفعة الأنساب

فاتركی الفخر یا أُمام علینا *** واتركی الجور وانطقی بالصواب

واسألی إن جهلت عنا وعنكم *** كیف كنا فی سالف الأحقاب

إذ نربی بناتنا وتدس *** ون سفاهاً بناتكم فی التراب(22).

وقد استطردت قلیلاً حول فكرة قدم فخر شعراء الشعوبیة بالفرس وتصریحهم بذلك لتصحیح الفكرة التی ذكرها أحد الذین كتبوا عن دیك الجن وقد أعیاه البحث عن سبق یسجله للشاعر فجعل من هذا التصریح بشتم العرب سبقاً (23)، وكفى دیك الجن مفخرة بذلك.

فدیك الجن إذن بعد كل ما ذكرناه یبدو سائراً على طریق لاحبة عبدها له بشار وذللها ابن یسار، وغذاها حقد قدیم قدم القادسیة غذته على مر العصور والأحقاب، عناصر الصراع الاجتماعی المتنامیة، وشجعه روح الانفتاح الفكری الذی ساد ربوع الدولة آنذاك، والتسامح الذی نظرت من خلاله السلطة إلى مثل هذه النزاعات، زد على ذلك طموحات الفرس بعد أن أصبحت الوزارة حكراً علیهم فی الخلافة العباسیة لمدة مدیدة.

فإذا ما تركنا هذین المحورین اللذین شكلا دعامة هذا الشاعر وهما الشعوبیة والزندقة لننتقل إلى شعره الآخر أو إلى ما برع فیه من هذا الفن أو بالأحرى ما نسب إلى البراعة فیه فماذا تجد؟...

هنا، یجب أن نذكر على سبیل التذكیر أن دیك الجن توفی عام ستة وثلاثین ومائتین أی بعد أبی تمام، كما أنه كان معاصراً لأبی نواس وتوفی بعده، (24)، نذكر هذا لأن فنه الشعری یجب أن یقاس بالنماذج العلیا التی كان الفن الشعری قد بلغها آنذاك على أیدی سدنته الكبار فأین یقع فن دیك الجن قیاساً إلى نمو فن الشعر فی عصره؟...

إذا أخذنا بعین الاعتبار الحادثة الأساسیة فی حیاة دیك الجن والتی فجرت منابع الحزن والندم فی نفسه وهی قتله ل(ورد) فإننا نتوقع أن نجد شعراً حاراً مفعماً بالعواطف متسربلاً بالأحزان متشحاً بالزرقة، بالإضافة إلى صنعة شعریة حاذقة نسب إلیها، أو نسبت إلیه وصنف من أجلها فی المدرسة الشامیة(25)، كما یحلو لبعضهم أن یسمیها، فماذا نجد فی الشعر الذی كان صدى وثمرة لهذه الحادثة؟...

لن نجد فیما وصلنا من شعره قصیدة طویلة حول هذه الحادثة، وإنما هی مقطوعات ونفثات تطول وتقصر، ویمكن أن نمر ببعضها محاولین تقییم شاعریته اعتماداً على نصوصه، ولنأخذ أول مقطوعة تصادفنا فیما سمی بدیوانه:

لیتنی لم أكن لعطفك نلت *** وإلى ذلك الوصال وصلت

فالذی منی اشتملت علیه *** ألعارٍ ما قد علیه اشتملت

قال ذو الجهل: قد حلمت ولا *** أعلم أنی حلمت حتى جهلت

لائم لی بجهله ولماذا *** أنا وحدی أحببت ثم قتلت

سوف آسى طول الحیاة وأبكیك *** على ما فعلت لا ما فعلت(26).

ما أحوج هذا النص فی نظری إلى القول الشارح كما یقول المناطقة! وما أبعده عن عواطف الشعر! وما أشبهه بمعادلات المنطق العقلیة! وما أبعده عن روائع الصنعة وتجلیاتها وتداخل ألوانها وعمق ما اشتملت علیه لدى أبی تمام!...

إن عصبیة دیك الجن ومزاجه وطبیعة حیاته... هذه كلها أمور حریة أن تجعل شعره سمحاً متدفقاً ولاسیما والبواعث قویة ذاتیة، فما بالنا نصطدم بمثل النص السابق وكأنه قطع البازلت التی تملأ ربوع حمص بل ولنأخذ نصاً آخر مناسبته أن ورد زارته فی المنام بعد مقتلها فقال:

جاءت تزور فراشی بعدما قبرت *** فظلت ألثم نحراً زانه الجید

وقلت: قرة عینی قد بعثت لنا *** فكیف ذا وطریق القبر مسدود

قالت: هناك عظامی فیه مودعة *** تعیث فیها بنات الأرض والدود

وهذه الروح قد جاءتك زائرة *** هذی زیارة من فی القبر ملحود(27).

تأمل هذه العواطف المسطحة الخالیة من أی عمق یقابل بها طیف ورد، وانظر إلى تلك الخرقة البالیة التی رقع بها بیته الأخیر والتی تدل على ضیق عطنه بالتعبیر عن عواطفه وعلى سیطرة العقل لدیه سیطرة جافة على عملیة الشعر والإبداع... والنصَّان المتقدمان یخلوان من أی صورة تذكر بله الصورة الجمیلة المؤثرة.

على أن شعره لا یخلو من بعض مقطوعات تشی برقة العاطفة التی تظهر على استحیاء من خلال طبیعة یبدو أنها صلبة جافة متوحشة، لكن هذه المقطوعات لا تضعه إلى جانب الشعراء الكبار:

أشفقت أن یرد الزمان بغدره *** أو أبتلی بعد الوصال بهجره

قمر أنا استخرجته من دجنه *** لبلیتی وجلوته من خدره

فقتلته وله علی كرامة *** ملء الحشا وله الفؤاد بأسره

عهدی به میتاً كأحسن نائم *** والحزن یسفح عبرتی فی نحره

لو كان یدری المیت ماذا بعده *** بالحی حلَّ بكى له فی قبره

غصص تكاد تفیض منها نفسه *** وتكاد تخرج قلبه من صدره(28).

فلعل التأثیر العمیق الذی خلفته الحادثة فی نفسه كان أحیاناً ینفذ قاداً تلك الطبیعة الصلدة التی اتسم بها دیك الجن، مظهراً صورة الإنسان الذی ما عرف إلا مستكناً فی أردیة الصنعة وقد عریت من تلك الألبسة لتعبر عن حزنها بعفویة بعیدة نسبیاً عن قضایا المنطق، وبعیدة أیضاً عن محاولة اختراع الفكرة الجدیدة والتعبیر عنها كیفما اتفق وبعفویة محببة:

بأبی نبذتك بالعراء المقفر *** وسترت وجهك بالتراب الأعفر

بأبی بذلتك بعد صونك للبلى *** ورجعت عنك صبرت أم لم أصبر

لو كنت أقدر أن أرى أثر البلى *** لتركت وجهك ضاحیاً لم یقبر(29).

وفی مثل هذه المقطوعات وهی قلیلة فیما وصل إلینا من شعره یظهر الطبع الشعری لدى دیك الجن، وفیما عداها فالتكلف واضح. وقد علل أحد الدارسین المحدثین اضطراب استعمال دیك الجن للألفاظ وتعقید أسلوبه باضطراب أعصابه ومداومته على السكر، ثم عدم تنقیحه لقصائده (30)، ولا أظن هذه أسباباً مقنعة لأن شعر شعراء كثیرین غیر دیك الجن كان یجب أن یتسم بما اتسم به شعر دیك الجن لاتحاد السبب، فالأمر لا یعود لا إلى سكره، ولا إلى أعصابه، بل یعود فیما أقدر إلى أن طبیعة دیك الجن كانت غیر سمحة بالشعر، شحیحة به إلا فی أویقات ومقیطعات، وكان إذا هم بالشعر غالباً ما ینقلب إلى ناظم لفكرة یحاول ابتكارها أو صیاغتها من جدید فی بضعة أبیات على الأقل، فأنت حینئذٍ معه فی مقلع من مقالع الحجارة أو فی ساعة تدریب على نظم الأفكار فی أوزان، ورصف التشبیهات دون أن تحس وراءها بشیء... خذ هذه الأبیات مثلاً:

والخال فی الخد إذ أشبهه *** وردة مسك على ثرى تبر

وحاجب منك خطه قلم الحس *** ن بحجر البهاء لا الحبر

ما أصبر الشوق بی فأصبرنا *** من حسنت فیه قلة الصبر(31).

فمن ناحیة فنیة نرى أن عناصر الصور فی هذه الأبیات كلها معروفة ومعادة ومكررة، لم یأتِ بها دیك الجن فی صیاغة عاطفیة حمیمة تشعرك بأن فی نفسه شیئاً ما، وإنما هو النظم المحكم الجاف، وموضوعه لا یحتمل الجفاف، إنه الغزل والنسیب الذی یؤدی فیه التصویر الفنی وظیفة رفیعة وهی مساعدة اللغة لتعبر عن عواطف ومشاعر لا یمكن التعبیر عنها على نحو مباشر، وقد لا تنهض اللغة وحدها مجردة عن التصویر بعبء ذلك، وهنا دیك الجن فی تلك الأبیات لم یكتفِ بأن أتى بالصور القدیمة بل خلع علیها من جموده وبرودته، فأتت وكأنها المجسمات الاصطناعیة لیس لها إلا المنظر الخارجی. فإذا خطر له أن یصور انفعاله كما سیفعل فی هذه الأبیات التالیة فإنك لن تجد سوى ردود الفعل المتهافتة لدى هذا الشاعر:

لما نظرت إلی عن حدق المها *** وبسمت عن متفتح النوار

وعقدت بین قضیب بان أهیف *** وكثیب رمل عقدة الزنار

عفرت خدی فی الثرى لك طائعاً *** وعزمت فیك على دخول النار(32).

أظن أنه كان یكفیها منه أن یحبها، أما تعفیر خده دلیلاً على الطاعة والخضوع فهو من الأحادیث الرائجة على ألسن الظرفاء آنئذٍ(33)، ولكن ما علاقة حبها بدخوله النار هذا الدخول الفج، ولماذا لا یكون حبها هو الجنة له... أن الرابط جد ضعیف معنویاً بین صیغة الشرط وما ارتبط بها من جواب، وهذا عائد إما إلى شح عواطفه فلم یكن عنده ما یقوله سوى تردید العبارات التی أبلاها التكرار وأخلقت جدتها الأیام، وأما أنه كان ضیق العطن، ضیق الصدر، یبدأ ثم لا یعرف كیف ینتهی، وكأن ممارسته للشعر تكبت ماكان یعتلج فی نفسه، وتدفع به إلى الاجترار... وإذا أخذنا إحدى الصور التی أعجب بها بعضهم وقال عنها إنها جمیلة وتأملناها، وقارناها بغیرها مما قیل قبلها فإننا نجد أیضاً تخلفاً عن الشعراء الآخرین، وهذه الصورة وردت فی خمریاته، وقد قال الشاعر فی الخمر ما قال، وتعد الأبیات التالیة من أجود ما قاله فی الخمر:

بها غیر معذول فداو خمارها *** وصل بعشیات الغبوق ابتكارها

ونل من عظیم الردف كل عظیمة *** إذا ذكرت خاف الحفیظان نارها

وقم أنت فاحثث كأسها غیر صاغر *** ولا تسق إلا خمرها وعقارها

فقام تكاد الكأس تحرق كفه *** من الشمس أو من وجنتیه استعارها

ظللنا بأیدینا نتعتع روحها *** فتأخذ من أقدامنا الراح ثارها

موردة من كف ظبی كأنما *** تناولها من خده فأدارها(34).

إذا تأملنا البیت قبل الأخیر وهو من الأبیات المحسوبة لدیك الجن، وقارناها بالبیت الذی یقابله من المقطوعة التالیة التی نسبت فی بعض المصادر للمأمون، فإن الفرق سیغدو واضحاً فی طریقة التعبیر عن المعنى الواحد.

وصاحب وندیم ذی محافظة *** سبط الیدین بشرب الراح مفتون

نادمته ورواق اللیل منخرق *** تحت الصباح، دفیناً فی الریاحین

فقلت: خذ، قال: كفی لا تطاوعنی *** فقلت: قم، قال: رجلی لا تواتینی.

إنی غفلت عن الساقی فصیرنی *** كما ترانی سلیب العقل والدین(35).

فقارن بین قوله: ظللنا بأیدینا.... الخ...... وقول الآخر: فقلت: خذ.....الخ....، إنه الفرق بین مباشرة المعنى، ونظمه كما ینظم الشعر التعلیمی، وبین تأدیته على نحو غیر مباشر، یوحی بها إیحاءً ویومأ إلیه إیماء.

وأمر آخر یتعلق بهذه المقطوعة، وهو الخبر الذی نسب إلى أبی نواس قوله لدیك الجن: إنك فتنت أهل العراق بقولك:

موردة من كفِّ ظبی كأنما *** تناولها من خده فأدارها(36).

ولا أحسب أبا نواس إذا صح الخبر إلا مجاملاً لدیك الجن، لأن شعراء العراق ومن وافاهم آنذاك وعلى رأسهم أبو نواس لم یدعوا معنى طریفاً ولا صورة رائعة یمكن أن تخطر ببردها فی أیامهم إلا ألحوا علیها، وبلغ أبو نواس من البراعة فی ذلك مبلغاً عجیباً یخلف دیك الجن وعشرات مثل دیك الجن فی غباره، ففی خمریاته تختلط الأضواء وتتماوج الصور، ویغیب العقل ویثوب، وتصور أدق الحركات والانفعالات، بینما كانت الخمر عند دیك الجن مجرد تبرٍ قد عجن بماء لجین، أو هی زلال، أو هی مسك وعنبر، ولا تقع له على بیت واحد یسامق فیه أبا نواس وإلیك هذه الصور من شعر أبی نواس من غیر تدقیق فی الاختیار:

وصفراء قبل المزج بیضاء بعده *** كأن شعاع الشمس یلقاك دونها

ترى العین تستعفیك من لمعانها *** وتحسر حتى ما تقل جفونها

كأن یواقیتاً عواكف حولها *** وزرق سنانیرٍ تدیر عیونها(37).

أو هذه الصور:

إذا عب فیها شارب القوم خلته *** یقبِّل فی داج من اللیل كوكبا

ترى حیثما كانت من البیت مشرقاً *** ومالم نكن فیه من البیت مغربا(38).

إن ما أتصوره وأظنه أن دیك الجن لم یفتن أهل العراق بقوله، وإنما فتن أبا نواس بظبیه وهما أصحاب بلیة واحدة فمد هذا له شباكه وهو الخبیر، وجامله من حیث حسنت المجاملة، وتلقف الناس بعدهما هذا الخبر أو قل: تلك المجاملة، وذكروها على أنها اعتراف عظیم من أبی نواس بشاعریة دیك الجن، والشاعریة تفرض نفسها ولا یفرضها اعتراف... ومن هذا المنطلق لمع أبو نواس وخبا دیك الجن، لمع الأول لموهبته الفذة، وخبا الثانی لأن موهبته لم تكن متألقة وهاجة، فبعض المقطوعات الجمیلة التی قالها لا ترتفع به إلى مصاف الشعراء الكبار، ولم یكن منهم فی أی فن من فنون الشعر، لقد مدح فیما تعلق بأذیال أبی تمام، وتغزل، وبواعث حبه قویة فما أجاد، وكانت فی حیاته مأساة عمیقة قاتمة جدیرة أن توحی له بعقائل القصائد، ولكن كانت الحصیلة مقطوعات باهتة بالقیاس إلى هول المأساة، وقال فی الخمر ولیته ما قال، فالخمرة التی كانت تغدو رمزاً للروح والحیاة عند معاصریه، أو عند بعضهم بقیت لدیه مجرد شراب كالمسك والعنبر(39).

لقد عاش دیك الجن فی عصر جرت فیه أحداث كبرى جسام... حرب الأخوین: انتصار المعتصم فی عموریة... مروراً بعصر المأمون... وهذه الأحداث كلها لا تجد لها أی صدى فی شعره بینما تجد صدى حادثة فی منتهى التفاهة والسفاهة والخسة وهی قصة الاعتداء على أحد الغلمان فی عاصی المیماس (40)، وكان مهتماً جداً بذلك...."إن الله یحب معالی الأمور ویكره سفاسفها(41).. وكان دیك الجن متعلقاً بهذه السفاسف... مقصراً تجاه فنه وشعره ونفسه، فلا عجب بعد ذلك كله أن أهمل وذكر على الهامش، ولولا جمال الأسطورة التی جعلت تاریخاً له.. وهی قتله ل(ورد) ولغلامه ثم إحراقهما وشرب الخمر من كوزین صنعا من رماد عظامهما... وهذه قصة تلهب الخیال(42)... لما بقی من دیك الجن شیء جمیل یذكر...

لقد كان فی عصره شاعراً من شعراء السفح، أدنى السفح، لم یقترب من القمة ولم یسع إلیها، ولم یسامت أحداً من أصحاب القمم فی أی فن من فنون الشعر، لقد كان خلیقاً أن ینوح على ورد بشعر لم یقل أحد قبله مثله، ولكننا لم نجد شیئاً من ذلك، إنه یسیر فی الدروب المطروقة المذللة، وإذا حاول التجدید أتى بالویلات وقذف بنا فی مقالع الحجارة أو قل: قذفنا بالحجارة....

شیء واحد رائع وجمیل فی سیرة دیك الجن، هو أنه كان أستاذاً لأبی تمام، وربما أفاده بعض الإفادة (43)..؟ ولكن رب تلمیذ فاق أستاذه، وهكذا كان شأن أبی تمام الذی تجاوز دیك الجن وخلفه فی غباره... وتحولت شعوبیة دیك الجن الداكنة إلى عروبة ناصعة فی شعر أبی تمام.. ولعل قصة التلمذة هذه كلها ملفقة أو مموهة... وربما كان اللقاء بینهما لقاء شاعرین لا لقاء أستاذ شاعر وشاعر ناشئ... ومهما یكن من أمر فإن الطریقة الشعریة التی یسمونها المذهب الشامی قد أخذت أبعادها على ید أبی تمام وفی شعره، وتجاوز بها كل التكلف الذی ظهر فی شعر دیك الجن، وحولها من الجمود الصلب إلى الحركة الحیة(44).

قبل أن أختتم هذه الأسطورة لابد من أن أشیر إلى أن الأستاذین الكبیرین عبد المعین الملوحی والمرحوم محی الدین الدرویش قد ذهبا فی تقدیمهما لما جمعاه من شعر دیك الجن إلى أن هذا الشاعر ظلم ولم یعط حقه(45). وإلى أنه كبیر... وما إلى ذلك... وأنا أخشى أنهما كانا یكتبان ما یكتبان تحت وطأة حبهما للشاعر لمجرد كونه حمصیاً أو عاش فی حمص.. إن دیك الجن لم یظلم فقد كتب عنه أبو الفرج الأصفهانی وحسبك بالأغانی شهرة وإشهاراً، وكتبت عنه كتب الأدب المختلفة، ووضع حیث یحسن أن یوضع... فأین الظلم وأین سوء الحظ... لعل الأستاذین كانا یریدان لدیك الجن شهرة ومكانة تماثلان ما كان لأبی تمام أو المتنبی... وما صاحبهما كهذا ولا ذاك لقد قصر فقُصِّر به، ولكن أعطی حقه وفوق حقه... ولو أن شعر دیك الجن عثر علیه من أوله إلى آخره لما رفع من قیمة هذا الشاعر درجة واحدة.. لأن أجمل شعره قد تداولته كتب النقد والمختارات، وما تبقى فهو من سقط المتاع أو ما یوازی سقط المتاع، ولكن المجهول له بریق فلیحلم من یحلم بالعثور على الدیوان.. وقد یقال: أنى لك أن تحكم على أمر وهو فی ظهر الغیب؟ وأقول: إن خبرتنا بتراثنا وطبیعة كتبه تجعلنا نقیس المجهول على المعلوم، وتساعدنا على معرفة قیمة كثیر مما ضاع قیاساً على قلیل مما بقی... وأظن أن فی هذا ما یشجع على إطلاق بعض الأحكام.

هذه جولة حول دیك الجن وشعره، إنها جولة خواطر وتداعی أفكار، لم تقم على أسس البحث المدرسی، ولم تتبن تقسیماته بل ولجت حجرة دیك الجن، وحاولت ولوج نفسه، وحامت حول عصره، ولم تنظر إلیه بعین الحب و الإعجاب والرضا بدافع من عصبیة المدینة أو عصبیة الكتابة عنه، بل كانت قاسیة علیه، شدیدة القسوة، جردته من كثیر من الأقنعة التی أسبغتها علیه كثیر من الدراسات التی غرق أصحابها فی إعجاب مفتعل بكل ما لا یعجب ولا یروق وبعد:

فلیبق دیك الجن أسطورة، ولیبق مقصفاً، لیبق شعراً بلا دراسة، وشاعراً بلا تحلیل...

عبد الإله نبهان.

*حواشی:

(1) انظر تاریخ حمص، ص118، وما بعدها مؤلف الكتاب هو منیر الخوری عیسى أسعد نشرت الكتاب مطرانیة حمص الأرثوذكسیة 1984.

(2) مرآة الجنان 4: 99.

(3) كتاب الأنوار، نشر فی الكویت بتحقیق المرحوم محمد یوسف، فی مجلدین.

(4) نشر تاماً فی دار قتیبة بدمشق بتحقیق الدكتور رضوان الدایة، وینشر الآن منجماً فی الكویت، وظهر منه المجلد الأول بتحقیق الدكتور محمد یوسف نجم 1984.

(5) صدر هذا الكتاب عن المؤسسة العربیة للدراسات والنشر بتحقیق الدكتور إحسان عباس الطبعة الأولى 1980م.

(6) سرور النفس: 116 117.

(7) العدملی: القدیم المسن، الملدح عن اللدح وهو الضرب بالید، وعمرو بن مرثد بن سعد من قیس بن ثعلبة مشهور بكرم الأولاد والسادة الفرسان، معجم الشعراء: 13، بتحقیق عبد الستار فراج.

(8) دیوانه 110، والإحالات إلى الدیوان الذی حققه الأستاذان عبد المعین الملوحی ومحی الدین الدرویش.

(9) رسالة الغفران: 446، الطبعة الخامسة بتحقیق الدكتورة بنت الشاطئ، دار المعارف بمصر.

(10) دیوانه: 66، والأبیات فی دیوان المعانی للعسكری 2: 251. والأول منها فی رسالة الغفران.

(11) رسالة الغفران :446.

(12) انظر تاریخ الإلحاد فی الإسلام للدكتور عبد الرحمن بدوی وخاصة الصفحات المائتین الأولى.

(13) دیوان دیك الجن: 108، ونسب البیت فی روضة المحبین 151 إلى قیس بن الملوح.

(14) دیوانه 47، وذكر المحققان أن صاحب الوساطة رواهما لأبی نواس: وأنهما رویا لغیر هذین الشاعرین أیضاً.

(15) الدرة الفاخرة فی الأمثال السائرة: 1: 207، برقم 273، قال مؤلفه حمزة بن الحسن الأصفهانی المتوفى حوالی سنة 351ه، معلقاً على هذا المثل: فلأن حمص كلها للیمن، لیس بها من قیس إلا بیت واحد، فهم أذلاء. نشر الكتاب بدار المعارف بمصر بتحقیق عبد المجید قطامش. وانظر أیضاً مجمع الأمثال للمیدانی 1: 283. برقم 1496، والمستقصى للزمخشری 1/ 135، برقم 523.

(16) الأبیات مختارة من قصیدة فی دیوانه 1: 337 380، دیوانه بشرح محمد الطاهر بن عاشور نشرته لجنة التألیف والترجمة والنشر بالقاهرة 1950.

(17) قال أبو عبید القاسم بن سلام: "حذو القذة بالقذة"، وهو أن یقدر كل قذة. والقذة: الریشة من ریش السهام على صاحبها سواء. كتاب الأمثال: 149، رقم 424 تحقیق الدكتور عبد المجید قطامش. نشرته جامعة الملك عبد العزیز 1980، وانظر أیضاً المستقصى للزمخشری 2: 61، برقم 228 ومجمع الأمثال 1: 195 برقم 1030.

(18) انظر مجمع الأمثال 1: 195 برقم 1030.

(19) دیوانه: 25.

(20) كتاب الأغانی 4: 423 طبعة دار الكتب المصریة.

(21) الأغانی: 4: 424.

(22) الأغانی: 4: 411.

(23) شعراء من بلاد الشام، 9 أحمد الجندی دار طلاس.

(24) كانت وفاة أبی نواس فی العقد الأخیر من القرن الثانی للهجرة بین الأعوام 195ه أو 196 197 ه وتوفی أبو تمام حوالی سنة 232ه وفی سنة وفاته اختلاف أیضاً.

(25) عمر فروخ: أبو تمام ص 87 ومابعدها، وتجد ذكر دیك الجن فیه فی ص 91.

(26) دیوانه: 28.

(27) دیوانه: 36.

(28) دیوانه 40 41.

(29) دیوانه: 57.

(30) شعراء من بلاد الشام 104 أحمد الجندی.

(31) دیوانه: 48.

(32) دیوانه: 49.

(33) قال ابن أبی عتیق لعمر بن أبی ربیعة بعد أن سمع أبیاتاً منه: أنت لم تنسب بها، وإنما نسبت بنفسك، كان ینبغی أن تقول: قلت لها فقالت لی، فوضعت خدی فوطئت علیه. الأغانی1: 11.

(34) دیوانه: 38 39.

(35) البصائر والذخائر 2: 321، بتحقیق الدكتور إبراهیم الكیلانی دمشق وانظر الكشكول 1/ 266.

(36) مقدمة الدیوان ص 7، والقصة لم ترد فی الأغانی، ووجدتها فی كتاب حیاة الحیوان الكبرى للدمیری 1: 616 دار التحریر بمصر 1965، وفی المختار من حیاة الحیوان ذكرت القصة على أنها جرت بین دعبل ودیك الجن، وكان صاحب حیاة الحیوان قد ذكر المقابلة المزعومة بین دعبل ودیك الجن نقلاً عن ابن خلكان.

(37) دیوان أبی نواس: 20 22.

(38) دیوان أبی نواس: 20 22.

(39) دیوانه: 51.

(40) الأغانی 14: 61، ودیوانه: 58.

(41) قال أبو عبید فی كتاب الأمثال: 165: وروینا فی حدیث: "إن الله یحب الجود ومعالی الأمور ویبغض سفاسفها وانظر الجامع الصغیر 1/ 69 وفیض القدیر للمناوی 2/ 226: "عن إحالات المحقق الدكتور عبد المجید قطامش".

(42) الكشكول 1: 98، تحقیق طاهر أحمد الزاوی ط.مصر 1961.

(43) لم یشر أبو الفرج ولا الصولی إلى أی لقاء بین أبی تمام ودیك الجن وهذا أمر له شأن فی إنكار الحادثة من أساسها. وذكر لقاءهما ابن رشیق فی العمدة 1/ 101 طبعه عبد الحمید.

(44) انظر الدراسة القیمة والفریدة من نوعها التی عقدها الدكتور عبد الكریم الیافی لدراسة فن أبی تمام فی كتابه: "دراسات فنیة فی الأدب العربی".

(45) مقدمة الدیوان. والحق أن هذه النغمة أصبحت شائعة فی حیاتنا الأدبیة، حتى أن بعضهم یثبت على الغلاف فلان؟.. الشاعر المجهول. وقد یكون هذا الشاعر أشهر من نار على علم لدى دارسی الأدب. وأمامی الآن وأنا أثبت هذا التعلیق عنوان طریف هو: أبو الفرج الأصفهانی أدیب مشهور ومغمور فی مجلة عالم الفكر وما أدری كیف یكون مؤلف الأغانی الذی ألفت عنه عدة كتب مغموراً على أی وجه من الوجوه.

ملحق

دیك الجن وما كتب عنه

آ شعره:

1 دیوان دیك الجن الحمصی: جمعه وشرحه الأستاذان عبد المعین الملوحی ومحی الدین الدرویش، وقدما له بدراسة طبع فی مطابع الفجر بحمص 1960، ثم أعاد نشره الأستاذ أحمد الجندی فی دار طلاس 1984.

2 دیوان دیك الجن الحمصی: بتحقیق الأستاذین عبد الله الجبوری وأحمد مطلوب دار الثقافة بیروت 1964.

3 مستدرك على شعر دیك الجن: الأستاذ یحیى زین الدین. نشره فی مجلة مجمع اللغة العربیة بدمشق المجلد 51 ص 151.

4 المستدرك على دیوان دیك الجن: الأستاذ هلال ناجی. مجلة الكتاب العراقیة العدد: 5 السنة الخامسة أیار 1974.

5 دیوان دیك الجن: صنعة الأستاذ مظهر رشید الحجی، ما زال مخطوطاً لدیه وسینشر قریباً.

ب المصادر القدیمة:

1 التراجم:

 كتاب الأغانی لأبی الفرج الأصفهانی 356ه 966م.

 تاریخ دمشق ابن عساكر ت 571 ه 1175م.

 وفیات الأعیان: ابن خلكان ت 681 ه 1282م.

 سیر أعلام النبلاء: الحافظ الذهبی ت 748 ه 1347م.

 عیون التواریخ: ابن شاكر الكتبی ت 1362م.

2 بعض الكتب التی ذكر فیها:

 فی معجم الشعراء للمرزبانی 369 طبعه عبد الستار فراج ذكر المرزبانی محمد بن سلامة ابن أبی زرعة الدمشقی الكنانی، قال: شاعر محسن، وهو ودیك الجن شاعر الشام.

 فی العمدة لابن رشیق 1/ 64 طبعة 1925 وفی 1/ 101 طبعة محیی الدین عبد الحمید: ودیك الجن وهو شاعر الشام، لم یذكر مع أبی تمام إلا مجازاً، وهو أقدم منه، وقد كان أبو تمام أخذ عنه أمثلة من شعره یحتذی علیها فسرقها.

3 من الكتب التی اختارت له:

1 الأشباه والنظائر للخالدیین. نشر بتحقیق المرحوم السید محمد یوسف، القاهرة 1958 1965.

2 أنوار الربیع لابن معصوم طبعة حجریة سنة 1093ه ذكره الأستاذ هلال ناجی فی مستدركه.

3 الأنوار ومحاسن الأشعار للشمشاطی. نشر فی الكویت، بتحقیق المرحوم السید محمد یوسف 1977، وسمعت أنه نشر فی العراق بتحقیق صالح مهدی العزاوی ولم أقف علیه.

4 الحماسة البصریة: البصری؟ طبع فی الهند بتحقیق الدكتور مختار الدین أحمد، ثم صور فی بیروت.

5 دیوان المعانی لأبی هلال العسكری. طبعه القدسی فی مصر سنة 1352ه ثم صور عن هذه الطبعة.

6 الزهرة لأبی بكر الأصفهانی نشره الدكتور لویس نیكل البوهیمی بیروت 1932. ورأیت جزءاً ثانیاً منه صدر فی العراق.

7 سرور النفس فی مدارك الحواس الخمس. الأصل للتیفاشی والتهذیب لابن منظور. نشر بتحقیق الدكتور إحسان عباس. لبنان.

8 فصول التماثیل لابن المعتز، نقل عنه الأستاذ هلال ناجی فی مستدركه وذكر أنه مخطوط.

9 قطب السرور فی أوصاف الخمور للرقیق الندیم. نشره مجمع اللغة العربیة بدمشق، بتحقیق أحمد الجندی وعقب علیه بمقالة نقدیة هامة الأستاذ الشاعر رفیق فاخوری. انظر مجلة مجمع اللغة العربیة بدمشق المجلد 45، ص 181 وما یزال الكتاب بحاجة إلى نظر.

10 محاضرات الأدباء للراغب الأصفهانی طبع فی المطبعة الشرقیة سنة 1326ه.

11 كتاب المشموم للسری الرفاء "سیصدر قریباً بتحقیق المرحوم الأستاذ مصباح غلاونجی"، وقد نشرت مقدمته فی مجلة التراث العربی فی العدد المزدوج 15 16 سنة 1984.

12 المنصف لابن وكیع، نشره محققاً الدكتور محمد رضوان الدایة، بدمشق، وصدر الجزء الأول منه فی الكویت بتحقیق الدكتور محمد یوسف نجم.

13 المصون فی الأدب لأبی أحمد العسكری. نشره محققاً الأستاذ عبد السلام هارون فی الكویت عام 1960، وصدرت له طبعة ثانیة فی القاهرة والریاض سنة 1982 مصححة ومنقحة وفیها فهارس إضافیة. وانظر مقالة نقدیة لطبعته الأول فی مجلة مجمع اللغة العربیة بدمشق المجلد 55 الجزء الثانی.

14 معاهد التنصیص لعبد الرحیم العباسی. طبع فی القاهرة عام 1316 ه ثم نشره المرحوم محمد محیی الدین عبد الحمید.

15 نهایة الأرب للنویری. دار الكتب المصریة. وما زال یصدر تباعاً.

ج الكتب والدراسات المعاصرة.

1 الكتب:

1 دیك الجن الحمصی: البدوی الملثم "یعقوب العودات".

2 دیك الجن الحمصی: نسیب عریضة.

3 دیك الجن والحب المفترس: رئیف خوری منشورات دار المكشوف لبنان 1948 سلسلة أشهر العشاق.

4 دیك الجن الحمصی: دراسة فی شعره مظهر رشید الحجی "مازال مخطوطاً".

2 المقالات والبحوث:

1 أحمد الجندی: خص دیك الجن بدراسة ضمن كتابه "شعراء من بلاد الشام"، دار طلاس دمشق 1984.

2 خلیل مردم بك: خص دیك الجن بدراسة ضمن كتابه "شعراء الشام".

3 سمر الفیصل: مجلة البحث التاریخی حمص العدد الأول.

4 عبد العلیم صافی: مجلة الأمل: "وهی مجلة كان یصدرها المیتم الإسلامی بحمص"، السنة الثانیة الأعداد: 4 5 6 7.

5 عبد المعین الحمصی: محاضرات الموسم الثقافی 1961 1962 وزارة الثقافة دمشق.

6 عبد المعین الملوحی: مقدمة الدیوان بالاشتراك مع المرحوم محی الدین الدرویش.

7 محمد رجب البیومی: مجلة الأمل القاهرة السنة 14 العدد 70.

8 محمد النقدی: مجلة الحدیث حلب 24: 598، 603.

3 كتب التراجم المعاصرة:

1 أعلام الأدب والفن: المرحوم أدهم الجندی.

2 الأعلام "قاموس تراجم" المرحوم خیر الدین الزركلی.

3 أعیان الشیعة: المرحوم محسن الأمین "توفی 1952".

4 معجم المؤلفین: عمر رضا كحالة.           

 

مجلة التراث العربی-مجلة فصلیة تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 20 - السنة الخامسة - تموز "یولیو" 1985 - ذو القعدة 1405
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:31|

التناص

 

التناص inter-textualité مصطلح نقدی، عُرف بدایة فی اللغة الفرنسیة فی الستینات، على ید الناقدة الفرنسیة ـ البلغاریة الأصل ـ جولیا كریستیفا J.Kristeva (1941). ویدل المصطلح على ظاهرة تفاعل النصوص فیما بینها، وتأثیر هذا التفاعل فی إنتاج الدلالة التی یحملها النص الذی یحتوی عملیة التفاعل هذه.

عرف النقد المعاصر مصطلح «التناص»، ولكن التناص فی ذاته قدیم قدم الكتابة، وقد اختلط لدى بعض النقاد المعاصرین بمفهومات أخرى مثل: الاقتباس، التضمین، السرقات. إلا أن هذه المفهومات بعیدة فی جوهرها عن التناص الذی یقصد به أن الكتّاب حین ینشئون نصوصهم ینطلقون من النصوص التی سبق لهم أن تمثلوها التی تتجاور وتتفاعل فیما بینها، وقد ینفی بعض منها الآخر فی نصوصهم الجدیدة. وهذا ینفی فكرة النص المستقل المكتفی بذاته.

إن النصوص  لا تتفاعل بوصفها مجرد نصوص، إنما بوصفها ممارسات دلالیة متماسكة، بوصفها أنظمة علامات متماسكة، لكل منها دلالته الخاصة به، وهذه الأنظمة إذ تلتقی فی النص الجدید، تسهم متضافرة فی خلق نظام ترمیزی code جدید، یحمل على عاتقه عبء إنتاج المعنى أو الدلالة فی هذا النص. وللتناص درجات، هی:

1 ـ التطابق: إن المطابقة فی اللغة تعنی الموافقة والمساواة، والتطابق هو الاتفاق، واصطلاحیاً یعنی التطابق تساوی نصوصٍ ما فی الخصائص البنیویة، وفی النتائج الوظیفیة. ومثال ذلك التقارب الذی یصل إلى حد التطابق بین مسرحیة "القصة المزدوجة للدكتور بالمی» من تألیف الكاتب الإسبانی أنطونیو بویرو باییخو (1916-) ومسرحیة «الاغتصاب» للكاتب السوری سعد الله ونوس[ر] (1939-1996).

2 ـ التفاعل: إن أی نص هو نتیجة لتفاعله مع نصوص أخرى مختلفة عنه تُكیّف بحسب النص المنقولة إلیه مع مراعاة أهداف الكاتب ومقاصده. فقد یكون النص مقتبساً إلا أن غایة الكاتب تجعله یصیغ من تلك النصوص جمیعها نصاً واحداً له دلالاته ورسائله الخاصة به. ومثال ذلك التفاعل بین مسرحیة «الحیاة حلم» للكاتب الإسبانی كالدیرون دی لاباركا[ر] وحكایة «النائم والیقظان» فی «ألف لیلة ولیلة»، وكذلك ملحمة الكاتب الإنكلیزی تشوسر[ر] «مجلس الطیور» (1382) وتأثرها بملحمة «منطق الطیر» للكاتب الصوفی الفارسی فرید الدین العطار[ر] (1140-1230) الذی تأثر أیضاً بکتاب «رسالة الطیر» للكاتب العربی أبی حامد الغزالی[ر] (1058-1111).

3 ـ  التداخل: إذا لم یحقق التداخل والمداخلة الامتزاج أو التفاعل، فإنهما یبقیان دخیلین على النص الأصلی، وإن كانا شبیهین به، مما یخلق صلات محدودة فیما بینها. وهناك الكثیر من نصوص الثقافة العربیة القدیمة، وكذلك بعض النصوص المعاصرة التی فهمت التناص فهماً خاصاً، ضمن ما عُرف بـ «التداخل».

4 ـ التحاذی أو المجاورة: إذا لم توجد صلات وعلائق بین النصوص، فإن وجود بعضها إلى جانب بعض یصیر مجرد مجاورة وموازاة فی فضاء، مع محافظة كل نص على هویته وبنیته ووظیفته.

5 ـ التقاصی أو التباعد: ویقوم على التقابلات بین نصوص مختلفة بعضها عن بعض ولا تنتمی إلى النوع نفسه. ومع أن النقد لم یبت الموضوع فإنه یورد نص أبی العلاء المعری[ر] «رسالة الغفران» ونص دانتی[ر] «الكومیدیا الإلهیة» مثالاً على التقاصی والتفاعل المحتمل فی الوقت نفسه.

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:29|
الأسطورة وعلم الأساطير

 

الأسطورة لغة كل ما يسطر أو يكتب، والجمع أساطير. وفي المعجمات: «الأساطير: الأباطيل والأكاذيب، والأحاديث لا ناظم لها، ومنه قوله تعالى: )إن هذا إلا أساطير الأولين( (المؤمنون83)».

والأسطورة myth في مفهومها الحديث مصطلح جامع ذو دلالات خاصة يطلق على أنواع من القصص أو الحكايا المجهولة المنشأ ولها علاقة  بالتراث أو الدين أو الأحداث التاريخية، وتعد من المسلمات من غير محاولة إثبات، أو هي تصور متخيل عن نشأة أوائل المجتمعات والمعارف في صيغة قصصية شفاهية، وقد تكون الغاية من الأسطورة تفسير بعض العادات أو المعتقدات أو الظواهر الطبيعية، وخاصة ما يتصل منها بالشعائر والرموز الدينية والتقاليد في مجتمع ما.

والأساطير قصص خاصة تروى عن الآلهة أو عن كائنات بشرية متفوقة أو عن حوادث خارقة وخارجة عن المألوف في أزمان غابرة، وقد تتحدث عن تجارب متخيلة للإنسان  المعاصر بغض النظر عن إمكان حدوثها أو تسويغها بالبراهين. فالأسطورة تطرح نفسها على أنها جديرة بالثقة وأنها تسجيل لواقعة أو وقائع حدثت وإن شذت عن المألوف، أو أنها أمر واقع ولكنه خارج عن المنطق والمعقول القابلين للمناقشة والبرهان. وقد درج الناس عامة على أن الأسطورة تحكي أحداثاً خارقة يستحيل إثباتها، وجعلوها على هذا النحو مرادفة للخرافة والحكاية.

أما الميثولوجية mythology التي اصطلح على ترجمتها إلى «علم الأساطير» فمصطلح معرب عن اليونانية، ويطلق على العلم الذي يعنى بدراسة منشأ الأسطورة وتطورها، وبدراسة أساطير الشعوب والعلاقات المتبادلة بين هذه الأساطير، كما يطلق المصطلح على مجموعة الأساطير التي تختص بالتراث الديني فقط.

مكانة الأسطورة ومغزاها

تحتل الأسطورة حيزاً مهماً من تراث الإنسانية ومجتمعاتها كافة، ولا يخلو مجتمع أو حضارة من أساطير ترتبط بتراثهما جنباً إلى جنب مع الأشكال الأدبية والفنية الأولى التي تميز ثقافة ذلك المجتمع كالحكايا والخرافات وقصص التراث والسير الشعبية والموضوعات الفنية المختلفة. ولما كانت موضوعات الأساطير وشخصياتها وأساليب روايتها كثيرة ومتنوعة فمن الصعب إعطاء حكم عام عن طبيعتها. وتدل تفاصيل الأساطير عامة على الكيفية التي يصور فيها شعب ما ثقافته وحضارته. وتأتي دراسة الأساطير على هذا النحو في المرتبة الثانية من حيث الأهمية بعد دراسة اللغة والفنون والفلسفة والعلوم عند الشعوب.

ويختلف الفلاسفة، من جهة، والعلماء المعنيون بالتراث الشعبي، من جهة ثانية، في نظرتهم إلى عالم الأساطير. فالفلاسفة يؤكدون أن الأسطورة عامل مشترك في الفكر الإنساني، في حين يؤكد علماء التراث والاجتماع أن الأساطير تتنوع وتختلف من مجتمع إلى آخر. وبين الطرفين بون كبير ومجال واسع لمختلف التفسيرات. وقد بذلت جهود كثيرة لسبر أغوار المعاني الخفية التي تنطوي عليها الأساطير والغاية منها ومدى تأثيرها في المجتمعات، وما تزال الأساطير دعامة فكرية يستند إليها الدارسون عند بحثهم في شتى فروع المعرفة. وثمة باحثون كثر يرون أن الأسطورة تحكي تاريخاً مقدساً، أو أنها ظاهرة لا يمكن تفسيرها من دون ربط بمقولة الدين، أي لا يمكن تفسيرها حرفياً أو اجتماعياً أو نفسياً أو اقتصادياً فقط. ويقود هذا الاتجاه إلى التفريق الكامل بين الأسطورة وغيرها من الأنواع الأدبية التراثية والنصوص غير المقدسة. ويميل آخرون إلى التعامل مع الأسطورة على أساس النظرة العامة إلى الإنسان التي قد تكون بيولوجية أو نفسية أو غير ذلك. وهذا ما يضع الأسطورة في مرتبة واحدة مع الحكايا والقصص والروايات وغيرها. ومهما تكن النظرة التي يختارها المرء لرسم الأسطورة فإنه قد يفيد من الموازنة بينها وبين غيرها من أنواع التراث غير المكتوب.

يُفسر أكثر الأساطير على أنها من فعل قوى خارقة يلمح إليها تلميحاً من دون ذكرها صراحة، وهي تنسب الوقائع إلى أمور تخرج عن مألوف العالم الطبيعي؛ ولكنها ترتكز إليه في إطار متكامل يجمع بين الحقائق والأمور الخارقة فتبدو متسقة تمام الاتساق.

أما الإطار الزمني الذي تنسب إليه حوادث الأسطورة فمختلف  تماماً عن الزمن التاريخي للتجربة الإنسانية، ويعود في غالب الحالات إلى سالف العصر والأوان. وأما أبطال الأسطورة فمن الآلهة المزعومين أو الكائنات العليا الخارقة أو أوائل البشر والحيوانات والنباتات أو الرجال العظام المتميزين الذين أضفيت عليهم صفات استثنائية. وقد تشترك بعض الأجناس الأدبية الأخرى مع الأسطورة في أحد هذه الملامح أو في أكثر من ملمح ، ولكنها ليست من الأساطير، كالقصص والحكايات والخرافات وحكايا الجن والملاحم وقصص البطولة وغيرها.

الأسطورة والحكاية: الحكاية لغة نقل الحديث ووصف الخبر إطلاقاً من غير تحديد، والجمع حكايا وحكايات. ولكن الحكاية اكتسبت مع الزمن معنى خاصاً فصارت تعني قصة مسموعة أو مقروءة تروى في إطار محدد من الزمان والمكان بأسلوب يحاكي الأسطورة. وتتنوع الحكايات وتختلف باختلاف مغزاها وموضوعها وزمانها ومكانها ودورها في المجتمع الذي اختص بها. فحكايا العلة أو السبب etiolgical tales قريبة الشبه بالأسطورة، وهي حكايات تختص بتفسير الأسباب والعلل والبدايات فتشرح أصل عادة أو تقليد أو ظاهرة ما كأصل العالم أو بدايات البشر أو سبب انتشار الحكمة كما ترويه بعض الحكايا الإفريقية. ويرى كارل كيريني Carl Kerenyi من الاتباعيين أن القصد من مصطلح «العلة» المقابل لكلمة aitia اليونانية الأصل لا يقتصر على شرح السبب، بل يتعداه إلى إيضاح الأحوال الأولية التي أحاطت به. فالعلة في المفهوم الحديث تشرح البدايات، التي ينتج منها كل شيء، وقد يبدو استعمال هذا المصطلح غامضاً لكنه لايطمس الفارق بين حكاية العلة والأسطورة. فحكاية العلة تكون غالباً لتفسير بعض الغوامض أو لمجرد التسلية، وكثيراً ما تكون إضافة متأخرة إلى الأسطورة أو زيادة عليها، ولكنها ليست ملازمة لها بالضرورة. ففي الأساطير الهندية مثلاً حكاية تتحدث عن سبب تلون رقبة الإله «سيفا» باللون الأزرق، وهي توضح كيف يتم الانتقال من الأسطورة إلى حكاية العلة والفارق بينهما. والراجح أن الرواية الأولى لأسطورة «سيفا» كانت تتحدث عن بداية الخلق، وفيها يشرب سيفا السم القاتل من أجل إنقاذ العالم، وتأتي بعدها حكاية تلون عنق الإله بالزرقة نتيجة شربه السم متأخرة في الروايات اللاحقة. وحين يحدث هذا الانتقال في القصص الأسطورية فإنه يخضع لتبديل وتعديل كبيرين لميل حكايا العلة إلى الترفيه وإثارة الاهتمام، ومع ذلك تبقى حكايا العلة مَعْلماً من معالم الأسطورة أو جزءاً منها، ولكنها لا تنافسها في دعوى الحقيقة.

أما حكايا الجن fairy tales فتتحدث عن كائنات خارقة وحوادث غير مألوفة أبطالها كائنات من هذا القبيل. وهي تحاكي الأساطير من بعض الأوجه وتختلف عنها اختلافاً بيناً من أوجه أخرى. والزمن الذي تتحدث عنه هذه الحكايا هو زمن التجربة الإنسانية، وهي تستهل عادة بعبارة «كان ياما كان» أو «في أحد الأيام». وليس لحكايا الجن أثر تعليمي أو تربوي ولو اشتملت في بعض الأحيان على فوائد أخلاقية. ومثلها في ذلك الحكايا الشعبية التي تتحدث عن أشخاص أو حوادث  يشوبها بعض الحقائق، ولكنها تميز من الأسطورة بكونها تروى للتسلية والترفيه مع أنها قد  تشتمل على معجزات وكرامات وحوادث خارقة، أو تتحدث عن شخصيات حقيقية منحت صفات ورد ذكرها في التراث الأسطوري كالسحرة والعرَّافين والغيلان والمذؤوبين والعمالقة وغيرهم.

الأسطورة والخرافة: الخرافة لغة الحديث المستملح الكاذب، أو الحديث الباطل مطلقاً، وبها سمي «خرافة»، وهو رجل من بني عذرة استهوته الجن كما تزعم العرب، فلما رجع أخبر بما رأى منها فكذبوه، حتى قالوا لما لا يُصدّق «حديث خرافة»، وذهبت مثلا، فإذا أُضيفت الألف واللام إلى الاسم صارت مصدراً، وهي الحكاية التي لاصحة لها، وتقابلها كلمة «فابولا» fabula باللاتينية وكلمة «موثوس» muthos اليونانية ومعناها الأحدوثة أو الحكاية، ثم غدت تستعمل للإشارة إلى القصة المختلقة، وهي بعيدة عن الأسطورة التي تنطوي على حقائق لا يمكن إثبات صحتها.

الأسطورة والملحمة وسير الأبطال والقديسين وأصحاب الكرامات: الملاحم epics وقصص البطولة sagas وسير الأبطال legends حكايات تدعي الحقيقة وتروي أحداثها نثراً أو شعراً بأسلوب قصصي يصعب إسناده إلى مؤلف معين، وهي تشتمل على بعض الحقائق التاريخية وبعض الأمور الخارقة التي لم يألفها الناس مثل سير القديسين وسير عنترة والزير سالم وذات الهمة، وهي تبدو من هذه الناحية شديدة الشبه بالأسطورة إلا أن زمن الفعل فيها ومكانه محددان وليسا مطلقين كما في الخرافة وحكايا الجن. أما البطل في هذه القصص فمن الأجداد العظام أو الأولياء وأصحاب الكرامات والقديسين، أو من ذوي الحلم والشجاعة الذين يقومون بأعمال تفوق قدرة البشر العاديين، ويتحلون بأخلاق حميدة وخصال فريدة لا تتوافر لأكثر الناس. وقد يكون في هذا النوع من القصص دور لكائن خارق أو ملاك حارس يساعد البطل وينقذه في ساعة الشدة أو يهيء له سبل النجاح، كما في سيرة سيف بن ذي يزن. وربما كان ذلك الكائن شخصية أسطورية مشهورة يعرفها القارئ أو المستمع، فتختلط السيرة بالأسطورة وتنتحل صفتها وواقعيتها واعتراف المجتمع بها.

تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الأنواع الأدبية التي تحاكي الأسطورة أو تتلبس بها حددتها وجهات نظر علمية غربية ، وقد تخلو منها أو من بعضها أنواع التراث الأخرى عند الشعوب المختلفة، سواء كانت تلك الشعوب بدائية أو متقدمة في مدارج الحضارة. وفي التراث العربي تمييز  واضح بين الأسطورة والخرافة والحكاية والسيرة التي يتناقلها الرواة و«الحكواتية».

وظيفة الأسطورة

للأسطورة وظائف كثيرة ومتنوعة تحددها الغاية منها. وفي مقدمة هذه الوظائف الشرح والتفسير والإخبار؛ إذ تهدف أكثر الأساطير إلى تفسير الظاهرات الطبيعية والاجتماعية والثقافية والبيئية في مجتمع ما وخاصة المجتمعات البدائية. ولا يعني ذلك أن كل الأساطير تحاكي حكايا العلة ، ولكن هذه الوظيفة تحتل مكانة مهمة في التراث الإنساني لأنها تساعد على فهم الأسس التي قامت عليها الأسطورة.

ومن وظائف الأسطورة الأخرى التسويغ والبرهان، فهي تجيب عن الأسئلة التي لها علاقة بطبيعة شعيرة من الشعائر التي يمارسها المجتمع أو عادة من العادات التي تسود فيه. ففي جزيرة سيرام في إندونيسية أسطورة تتحدث عن الحياة والموت كما عرفهما الإنسان. وتزعم الأسطورة أن الإنسان لم يكن يعرف في البدء معنى الحياة والموت والجنس، ولم تكن حياته إنسانية على النحو المعروف، ولم تكن هناك حيوانات أو نباتات حتى ظهرت «هينويل» Hainowele، وهي فتاة جميلة تملك قدرات خارقة وتمنح الهبات لمن تشاء فقتلها الناس في نهاية احتفال مهيب، وكان من نتائج عملية القتل الأولى هذه أن عرف الناس معنى الموت ، وصار للحياة وجود. وتغلب سمة التفاؤل على الأسطورة عند تسويغ أحداثها فتجعلها حية معاشة، وتبدو الشعيرة أو التقليد إحياء لذكرى تلك الأحداث الأولى.

ويسعى علم الأساطير المقارن إلى إيجاد العلاقات التي تربط بين بعض العادات والتقاليد المتأصلة في أكثر المجتمعات، إذ يلاحظ مثلاً اشتراك المجتمعات الزراعية في تقديم الأضاحي والقرابين. أما أكثر الموضوعات التي تطرقها الأساطير شيوعا فهي تلك التي تسوغ شعائر تجدد الحياة والزمن والجنس والحياة بعد ا لموت، فالحبة تموت لتلد السنبلة، والعام الجديد يقوم على رفات العام الماضي، ولا تشذ احتفالات الميلاد عن تلك القاعدة. وقد وجدت الأسر الحاكمة في أكثر الحضارات القديمة مسوغ وجودها وموقعها من المجتمع في الأساطير التي حيكت حولها، وأكثر تلك الأسر يؤكد أن أصوله ترجع إلى عالم الآلهة أو إلى السماء العليا، أو أنها سليلة الشمس أو القمر، وهذا ما تتحدث عنه أساطير الصين واليابان والهند ومصر القديمة وبابل وسومر وشعوب الأنكا والمايا من الهنود الحمر. وقد يكون التركيب الطبقي كله عند بعض الشعوب قائماً على مثل هذه الأسس الأسطورية الموغلة في القدم، ولايوجد مجتمع واحد لاترجع فيه تقاليد الزواج والدفن إلى أصول تتصل بتراثه وأساطيره.

وللوصف في الأسطورة مكانة مميزة ترتبط بأسلوب طرحها الحقائق التي تسمو عن المشاهدة والملاحظة. فقد تصف بعض الأساطير أصل العالم ونهايته والحياة في الفردوس الأعلى بأسلوب لا يمكن للإنسان العادي تصوره أو تلمسه حقيقة، ولعل هذه الوظيفة هي التي تمنح الأسطورة قيمتها التربوية في المجتمعات التقليدية، وعلى هذا النحو تبدو الأساطير نماذج تعليمية نظرية وعملية ، وهي في المجتمعات البدائية الوسيلة الوحيدة لفهم التعاليم المتوارثة في غياب التعليل الفلسفي، وتعبير عن حاجة الإنسان إلى المعرفة. وهذا يعني أن الأسطورة ليست مجرد إرث من الماضي، ولا تنتهي بزوال الثقافات البدائية والحضارات القديمة . ففي كل تراث مجموعة أساطير تؤلف المحور الذي يرتكز إليه ذلك التراث، يضاف إليها مجموعة أساطير يتصل كل منها بقطاع معين من قطاعات المجتمع، أو يختص بوظيفة من وظائفه ويرتبط بالأسطورة الأصل، وغالباً ما تكون هذه الأسطورة الأصل معنية بنشأة الكون cosmogony أو الخلق creation الذي هو سبب الوجود، وكثيراً ما ترتبط حوادث الأسطورة التي يقوم عليها وجود الإنسان بنشأة العالم وأصله. ومن ذلك مثلاً احتفالات تنصيب الملوك في بعض الحضارات القديمة التي تستلهم طقوسها من قصة خلق العالم أو تجدده، ولبعض أساطير الخلق دور مميز في طقوس شفاء المرضى أو دفع الخطر، وما محاولات شفاء المرضى في ممارسات السحرة والأطباء الشعبيين بتلاوة الترانيم  أو التعاويذ التي تتحدث عن أصل الكون إلا جزءاً من هذه الطقوس. ومن ذلك أيضاً استلهام الشعر باسترجاع الأحداث الأسطورية والاستعانة بشيطان الشعر أو آلهة الفن والأدب. والوظيفة الشعرية والفنية للأساطير معروفة في التراث البدائي والقديم، وهي مصدر كل التعابير الأدبية في تلك الحضارات التي لم تكن تعرف التخصص والفصل التام بين الصيغ الفنية. ولاشك في أن للأساطير الجيدة الحبكة والأسلوب أثراً كبيراً في تطور الثقافة والفن في العالم أجمع.

تطور الأسطورة

كان الإنسان البدائي يعيش في مجتمع مؤلف من أقرب أقاربه، ولايعرف من العلاقات الاجتماعية سوى الأسرية منها، ولم يكن يرى فيما يحيط به إلا صورة تلك العلاقة، فالأرض والسماء والنباتات والحيوانات كلها في نظره مجتمع أسري تربطه روابط القربى، و كان يعتقد أن كل هذه الأشياء تفكر وتملك من الذكاء ما يملكه البشر. ويمكن للمرء تلمس هذه التصورات  معممة في أساطير أكثر الشعوب. كذلك كان الإنسان البدائي ينظر إلى الحِرَف كلها نظرته إلى كائن حي عاقل يدير أعمالها ويقوم بها ويعتقد أن لها حارساً يحميها، ومن هنا جاءت النماذج الأسطورية للآلهة الحرفيين والفلاحين والرعاة والمحاربين وغيرهم. فالإله فيليس (الشَعْر) عند السلافيين هو إله القطعان وحامي البيوت والثروة، ودامون عند الكلتيين هو إله المراعي والرعاة، ومثلهما الربة أثينة عند اليونان وإيريش عند الأبخاز، وكذلك آلهة الثمار والنبات والآلهة الحارسة عند شعوب الأزتيك وفي نيوزلندة وفي نيجيرية.

لم يتكون مفهوم الأسطورة عند الشعوب دفعة واحدة، فقد كانت الأسطورة في أنماطها الأولى تقوم على «البُدّية» fetishism وهي الاعتقاد بأن للأشياء أرواحاً تسكنها، أو الاعتقاد بوحدة الشيء والفكر في الشيء نفسه. ثم غلبت «الطوطمية» totemism وهي بدّية المجتمع أو القبيلة ممثلة في شخص مؤسس ذلك المجتمع أو القبيلة، ثم سادت بعد ذلك «الأرواحية» (الأحيائية) animism وهي درجة أعلى في تطور الفكر الإنساني، ومذهب يعتقد بحيوية المادة وأن لكل شيء في الكون،وللكون ذاته، روحاً ونفساً. ومنذ ذلك الحين بدأ الإنسان يميز الفكرة في الشيء من الشيء نفسه.

ومع تطور الفكر المعمم والمجرد ارتقت الأسطورة درجة أخرى في مضمار التطور، وصارت إلى الرمزية ثم إلى الاعتقاد بوجود أب واحد للبشر وللآلهة كلهم مع الاحتفاظ بقدر كبير من البديّة والأرواحية، فغدا زيوس Zeus الأولمبي اليوناني متفوقاً على أسلافه في العالم السفلي، وأصبحت الآلهة خاضعة له بصفتها من ذراريه. ويضفي هوميروس على زيوس الكثير من الملامح القديمة السابقة لعصر الأولمبياد فيبدو شخصية تاريخية معقدة ومتعددة الأشكال. ومثل زيوس في ذلك الآلهة الأعلون خالقو العالم عند شعوب بولينيزية وتاهيتي وشعب الياقوت وكثير من قبائل إفريقية وإن اختلفت أسماؤهم وصفاتهم ووظائفهم ودرجات ألوهيتهم كما تتحدث عنها الأساطير.

ومن الموازنة بين النماذج الأسطورية في العصور التاريخية المختلفة يتبين أن الأسطورة انتقلت تدريجياً من العشوائية إلى الترتيب المتناسق. فقد كانت النماذج الأسطورية في عصر الأمومة بعيدة كل البعد عن الانسجام التشكيلي المتأخر، ومصوغة صياغة خرقاء غير متقنة، إن لم تكن مشوهة، وتصادف فيها الهُولات والمسوخ برأسين أو بثلاثة رؤوس أو أكثر، كما تصادف فيها العجائز الشمطاوات والعمالقة والجبابرة وكل ما لا يخطر على البال من المخلوقات الشريرة والحاقدة. ومن أمثلة ذلك سيدة العالم عند البابليين «تيامات» الشبيهة بالهُولة، والروح القاتلة ذات الساق الواحدة عند شعوب أسترالية والرب أورو المتعطش للدماء في تاهيتي، والجبابرة السبعة أكلة البشر عند هنود أمريكة الشمالية وغيرهم.

وفي عصر الأبوة ظهرت تصورات مستجدة عن شخصيات بطلة تصارع قوى الطبيعة وتنتصر عليها بعد أن كانت لاتقهر، ويظهر الوعي الاجتماعي منظماً في خفايا الأساطير، فتبدو تلك الشخصيات حارسة للمجتمع من أعدائه سواء كان هؤلاء الأعداء من قوى الطبيعة أم من القبائل المجاورة. ومن ذلك مثلاً الإله مردوخ البابلي الذي يقتل الهولة تيامات ويصنع من جسدها السماء والأرض، وكذلك غلغامش البطل الذي قتل الثور المقدس بمعونة إنكيدو، وكانت عشتار قد بعثت بذلك الثور لتدمير أوروك. ومن ذلك أيضا «ميترا» عند الشعوب الإيرانية الذي يصارع الأرواح الشريرة وينتصر على الثور المخيف، و«رع» عند المصريين القدامى الذي يناضل الأفعى «أبوب»، وعند اليونان ينتصر زيوس على الجبابرة والعمالقة والتنين، وينفذ هرقل مآثره الاثنتي عشرة. وفي ألمانية وعند شعوب الشمال يصارع سيغفريد (سيغورد) التنين وينقذ العذراء منه، وفي روسية يصارع إيليا مورامتس الأفعى ويقتلها. ولكن معظم الأساطير المعروفة اليوم كثير التعقيد تراكمت معطياته على مر العصور. فقصة المينوطورMinotaur أو ثور مينوس (هولة نصفها ثور ونصفها إنسان ) في الأساطير اليونانية دليل على أنها نتاج عصور مختلفة، فرأس الهولة الذي يشبه رأس الثور يدل على أن أصل الأسطورة من عصر الأمومة الأول حين كان الإنسان لا يميز نفسه من الحيوان، أما تمثيل المينوطور في النجوم والفلك وكذلك مقتله على يد تيسوسTheseus فيتصلان على الأرجح بعصر الأبوة.

يتضح من دراسة الأساطير المختلفة أن الفكر الأسطوري توصل في مراحله الأولى إلى الربط بين الحوادث التاريخية والظواهر الكونية، ومع انتقال البشر إلى حياة الاستقرار تعزز ارتباطهم بالأرض وتعزز تصورهم لوحدة القبيلة والجنس، وظهرت إلى الوجود عبادة الأسلاف والأساطير التي تروي مآثرهم (الأساطير التاريخية)، ثم حلت محلها أساطير الآلهة والأرباب السابقين (نشأة الكون وأصل الآلهة)، وانتهت محاولات تحري المستقبل والحياة بعد الموت إلى ظهور أساطير «الأخرويات». ولما كانت الأسطورة معنية بالمجتمع فقد كانت لها وظيفة تعريف المجتمع البدائي بما يحيط به، وتفسير المسائل المعقدة التي تصادف البشر، كأن تفسر كيفية خلق الإنسان والكون وسر الحياة و الموت وغير ذلك.

وكانت المجتمعات البدائية في مرحلة تكون الأساطير تملك نوعاً من الإيمان الفطري ووحدة العقيدة، ومع تطور المجتمعات الحضارية القديمة في عهودها الأولى غدت الأسطورة تعبيراً مجازياً عن مختلف الأفكار الدينية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية والفلسفية، ودخلت الفن والأدب من أوسع الأبواب، وصارت لها استخدامات وأشكال متنوعة بحسب وجهات نظر الرواة والكتاب والفنانين وأرباب السياسة والفلسفة، وبحسب اختلاف عصورهم وأساليبهم وإسقاطاتهم، وهذا ما حفظ للأساطير بقاءها وتطورها. وماتزال النماذج الأسطورية إلى اليوم تخدم  آراء السياسيين والأدباء والفلاسفة والفنانين. ولما كانت الأسطورة وسيلة من وسائل فهم ظواهر الطبيعة والحياة الإنسانية على مر العصور، فإن العلم الحديث يرى فيها تاريخاً للصراع بين القديم والحديث، ورواية تحكي قصة الإنسانية وما مر بها من معاناة ومسرات.

علم الأساطير والدراسات المتصلة به

شهد عصر النهضة انطلاقة الدراسات العلمية للأسطورة، ولكن هذه الدراسات اقتصرت حتى القرن الثامن عشر على أساطير تلك العصور التي يدعوها علماء الغرب العصور الكلاسيكية، ويقصدون بها العصور اليونانية والرومانية. وقد ساد الاعتقاد زمناً في عصر النهضة أن الأساطير الدينية الوثنية تحريف للوحي التوراتي. وبعد أن اطلع الغربيون على حضارات مصر والشام والرافدين وبلاد الشرق وشعوب أمريكة وتعرفوا أساطيرها، توافرت لديهم إمكانات القيام بدراسات مقارنة بين مختلف الشعوب. وكان الفيلسوف الإيطالي جامباتستا فيكو (1668-1744م)Giambattista Vico  أول من أعطى الأسطورة مفهوماً تاريخياً، وبين دور مخيلة الإنسان المبدعة في تكوين الأسطورة على مراحل حضارية متتالية، ولكن آراءه لم تؤثر في عصره آنذاك. وفي عصر التنوير[ر] أنكر المفكرون الفرنسيون الدور التاريخي للأسطورة ورفضوا إعطاءها أي قيمة علمية، وعدّوها قصصا طفولية  ونتاج الجهل مثل الخرافة والخُزَعْبل، ومن هؤلاء فولتير وديدرو ومونتسكيو وفونتنيل. في حين وجد الشاعر الاسكتلندي جيمس ماكفرسون[ر] (1736-1796) J.Macpherson وكذلك الفيلسوف الألماني يوهان هيردر[ر] (J.G.von Herder  (1803-1744 في الأسطورة تعبيراً عن الحكمة الشعبية. ومع تغلب الإبداعية (الرومنسية) في مطلع القرن التاسع عشر  وتسليم علماء اللغات بالأصول السنسكريتية لأسرة اللغات الهندية الأوربية، وازدياد الاهتمام بالدراسات المقارنة عادت الأسطورة لتحتل حيزاً مهماً من تلك الدراسات، ونشطت عمليات جمع الأساطير والحكايات والقصص الشعبية والملاحم، وظهرت في ألمانية بدايات ما أصبح يعرف باسم «المدرسة الأسطورية» mythological school التي قادت اتجاها في الأدب يبرز مكانة الأسطورة والأدب الشعبي وأثرهما في هذا المضمار. وكان من رواد هذه المدرسة فريدريخ شلنغ (F.Schelling (1854-1775 وأوغست شليغل (A.Schlegel  (1845-1767 وشقيقه فريدريخ (1724-1829)، والأخوان ياكوب غريم (1785-1863) وفلهلم غريم (1786-1859) J.&V.Grimm. وقد طرحت هذه المدرسة مسألة شعبية الفن والأدب وأثر الأسطورة في ولادتهما، وكان لها أنصار في كل أوربة انقسموا فريقين استند أولهما في إعادة تركيب الفكر الأسطوري إلى علم التأصيل اللغوي etymology (الألمانيان أدلبرت كوهن A.Kuhn وماكس مولر M.Muller والفرنسي ميشيل بريال M.Breal والروسي فيودور بوسلايفF.I.Buslaev) ، واعتمد الفريق الثاني علم القياس analogy في الموازنة بين الأساطير المتشابهة (الألمانيان فلهلم شفارتز W.Schwarz وفلهلم مانهاردت W.Manhardt). وتفرعت عن هذه المدرسة نظريات عدة منها ما يرى في الأسطورة تفسيراً مجازياً للظواهر الفلكية والنوئية، ومنها ما يرى في الأسطورة مرآة للحياة العادية والأرواح الحارسة والشياطين، وهناك كذلك نظرية الأرواحية التي ألبس أنصارها الطبيعة مفهومهم عن الروح. ويأتي في مقدمة هؤلاء: البريطانيون إدوارد تايلور (E.Tylor (1917-1832 وهربرت سبنسر (H.Spencer  (1903-1820 وأندرو لانغ (A.Lang  (1912-1844 والألماني ليو فروبنيوس (Leo Frobenius  (1938-1873 .

كذلك نالت النظرية اللغوية التاريخية في القرن التاسع عشر شعبية واسعة، فقد عرض بوسلايف مبادئ الدراسة التأصيلية للأساطير في مؤلفه «الملامح التاريخية للأمثال والفنون الشعبية الروسية» (1861) كما عرض أناتولي أفاناسف مختلف النظريات التي طرحتها المدرسة الأسطورية في مؤلفه «نظرة السلاف الشاعرية إلى الطبيعة» (1866-1869)، وكان أثر هذه المدرسة كبيرا في توسيع مفهوم علم الأساطير وعنايتها بالتراث الشعبي والأساطير الهندية والإيرانية والألمانية والكلتية (السلتية) والسلافية القديمة، إضافة إلى الأساطير اليونانية والرومانية الكلاسيكية. كما طرحت مسألة شعبية الفن ووضعت أسس الدراسة المقارنة لعلم الأساطير والفنون الشعبية.

تقلص الاهتمام العلمي بالأساطير مع ازدهار نظرية النشوء والتطور في نهاية القرن التاسع عشر، ولكنه عاد إلى الأضواء مع مطلع القرن العشرين على يد علماء الأنتروبولوجية واللغات، وتبع ذلك دراسات نفسية معمقة وتطوير مناهج علم الاجتماع والأنتروبولوجية والدراسات الفلسفية والتاريخية. وأكدت الدراسات الدينية أنه لايمكن فهم «الإلياذة» على أفضل وجه إلا بالنظر إليها على أنها رواية لتاريخ مقدس، ولايمكن تفسيرها حرفياً. وكان للتفسير العقلاني rationalistic للأسطورة أنصاره منذ القدم وإن تنوعت أشكاله ومذاهبه، وهي تفترض جميعها وجود منظومة محددة للفكر الإنساني نتجت منها النصوص الأسطورية، وما التفسيرات المجازية والرمزية إلا أمثلة على ذلك، لأن المجاز قابل للتكيف تماماً بعد وضوح الفكرة، مع أن الأسطورة عادة لا تمثل الأفكار الحقيقية. وهناك باحثون كثر يعزون وجود الأسطورة إلى عامل الخوف، ومنهم دافيد هيوم D.Hume البريطاني، ويمكن أن يدخل هذا العامل في نطاق التفسير العقلاني إذا ما أقر أثر منظومة الوظائف النفسية في هذا المجال. ولكن الشاعر الإنكليزي وليم بليك W.Blake والفيلسوف الألماني جورج هامان G.Hamann يرفضان التركيب العقلاني لفكرة «الدين الطبيعي» أي الدين الذي يفترض أن يكون عاماً للبشر كافة، في حين يؤكد شلنغ في مؤلفه «مدخل إلى علم الأساطير» (1856) وجود «المطلق» في الأسطورة معبراً عنه  بوجه أو بآخر، بيد أن هذا التعبيريشتمل على بعض التناقضات، ومن واجب الفلسفة أن توفق بينها كي تعيد إلى «المطلق» وحدته التي تستعصي على الفهم. ويرى شلنغ أيضاً أن الأسطورة رواية شفوية يجب حل طلاسمها من أجل الوصول إلى مغزاها، وهو يربط الأسطورة باللغة والمجاز، ويرى أنها تترجم  الصلة بين التشخيص الفني في القصة والرغبة في التعبير عن شيء ما. وقد كان اهتمام شلنغ بما وراء الطبيعة مثار جدل كبير واكبته دراسات رومنسية كثيرة أكدت أثر العاطفة في إبداع الأسطورة ووجدت في الأسطورة تعبيراً عن التجربة الإنسانية مع الطبيعة.

احتلت الدراسات المقارنة منذ عصر الإبداعية مكانة مهمة في دراسة الأساطير مع أنها بدأت قبله بكثير، وفي القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين توصل الباحثون إلى إيجاد الكثير من السمات المشتركة بين أكثر من تراث، ووجد المتأخرون منهم  أنهم مضطرون إلى مراعاة أعمال من سبقهم في هذا المضمار، كما أن الدراسات الفلسفية التي تبحث في وظائف الأسطورة تفترض وجود عناصر قابلة للمقارنة في الأساطير المختلفة. فقد وجد مانهاردت في التراث الشعبي عامة منطلقاً لدراسة نشأة الأسطورة ووظائفها، وحاول في مؤلفه «الأسطورة الدنيا» Lower Mythology جمع أكثر المعطيات تجانساً في التراث الريفي الشعبي، تلك التي ظن أنها قد تكون أساسا لنشأة الأساطير. ويعد العالم البريطاني جيمس فريزر (J.Frazer  (1941-1854 والشقيقان غريم والأمريكي ستيث تومبسون Stith Thompson من أكثر جامعي التراث الشعبي شهرة في العالم.

أما عالم الاجتماع الفرنسي مارسيل موس M.Mauss فيرى أن للأسطورة وظيفة اجتماعية شاملة كما هو واضح من الرموز الدينية التي تشتمل عليها، وأنه لا يجوز الانتقاص من أثرها في المجتمع. في حين يؤكد عالم الأنتروبولوجية البريطاني برونيسلاف مالينوفسكي (1884-1942)Bronislaw Malinowski  ضرورة الأسطورة للمجتمع لأهمية الوظائف التي تؤديها فيه، وخاصة المجتمع البدائي، فهي تفسر العادات والأخلاق والذرائع في تلك المجتمعات ونظرتها الجمالية والدينية والمؤسسات التي قامت عليها. وقد اشتهرت هذه النظرية باسم «الوظيفية» Functionalism أو «النفعية» ومبدؤها أن لكل عادة أو تقليد أو شعيرة في المجتمع وظيفة حيوية أو نفعاً يجب إتمامه، وهي جزء من آلة المجتمع. ويعطي علماء الأنتروبولوجية في كل من بريطانية والولايات المتحدة الأمريكية وظيفة الأساطير أهمبة كبيرة، من حيث كونها مرآة تعكس العلاقات الاجتماعية لدى الشعوب.

كذلك كان للأسطورة مكانة خاصة عند علماء النفس، وقال سيغموند فرويد إن لها ارتباطاً وثيقاً باللاشعور، وإنها تعبير غريزي عن الرغبات المكبوتة، وهي تظهر إلى الوجود عندما تتاح لها الشروط المناسبة. ويعتقد فرويد أن الأسطورة ترتبط بالنفسية الطفولية للإنسان. ويخالف كارل يونغ أستاذه الرأي مع تأكيده رمزية الأسطورة وارتباطها باللاشعور، إلا أنها ترتبط باللاشعور الناضج في حياة الإنسان النفسية وباللاوعي الجماعي، فالأسطورة في رأي يونغ تتألف من صور أصيلة ترمز إلى الحكمة والنضج، وتنبع من دوافع نفسية ثابتة تتكرر في حياة الإنسان وتحضه على التفكير في الكائن الأعلى، وفي طبيعة الإنسان التي تنشد الخلود. وينطلق يونغ في رؤيته هذه من نفسية الجماعة، ومن كون الأسطورة وسيلة تعلم وتعليم في المجتمع تتناقلها الأجيال شفاهاً، وهو يؤكد في هذا المجال دور الأسطورة في الأدب والفن ويسلط الأضواء على العلاقة الوثيقة بين علم النفس والفن والأدب، ويرى أن لجوء الأديب والفنان إلى عالم الأساطير يمنح تجربتهما قوة التعبير، ويماثل الأساطير بالتاريخ الذي يستقي الكاتب منه شخصياته، كما أن الأنماط والصور الأسطورية نفسها ليست إلا نتاج خيال مبدع يحتاج إلى ترجمة لغوية. ويثير يونغ بذلك مسألة توسط اللغة بين الأدب والأسطورة، وكل ظاهرة أسطورية قي رأيه هي ظاهرة ثقافية تنحو نحو المثالية، ولايكون لها معنى إلا إذا كانت لها منفعة دينية.

  أما الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي لوسيان ليفي ـ برول Lucien Levy-Bruhl فيطرح في مؤلفه «العقلية البدائية» La mentalité primitive نظرية جديدة عن أصل الأسطورة، وهو يعزوها إلى التفكير البدائي السابق للمنطق، ويرى أن هذا التفكير يرتكز على ما يعرف من ظواهر لم يجد لها تفسيراً منطقياً. في حين يطرح جيمس فريزر نظرية أخرى هي نظرية التطور الثقافي التاريخي للأسطورة، ويوجز في كتابه «السحر والدين» تطور الشعوب نفسياً في ثلاث مراحل تقوم جميعها على الاعتقاد بقدرة الإنسان على التحكم بقوى الطبيعة، وأولى تلك المراحل السحر القائم على السببية الزائفة، ثم الدين ثم العلم القائم على السببية الحقيقية، وكل أسطورة ليست إلا ترجمة مبالغاً فيها لطقس من طقوس السحر القديم أو عبادة من نوع ما. وقد لاقت هذه النظرية قبولاً واسعاً من علماء الاجتماع والأنتروبولوجية وغيرهم، ومنهم مالينوفسكي صاحب نظرية الوظيفية ، وكذلك عالم الاجتماع الفرنسي جورج دوميزيل الذي طبق أسلوب المقارنة في إثبات العلاقة بين الأسطورة واللغة والتنظيم الاجتماعي. ويرى العالم الروماني مرسيا إلياد (Mircea Eliad  (1990-1907 أن الأسطورة حدث ديني يروي قصة مقدسة وأحداثاً جرت في الزمن الأول، وهي تصف مختلف الانحرافات الدرامية لكل ما هو مقدس في العالم. وينفي إلياد عن الأسطورة كل ما هو غير ديني، ويدعو إلى التفريق بين الروايات الصحيحة والروايات المغلوطة في المجتمعات التي ماتزال الأساطير حية عندها، لأن الروايات الصحيحة تحكي كل ما هو مقدس وخارق فعلاً، في حين تتحدث الروايات المغلوطة عن أشياء دنيوية وإن كانت شخصياتها مقدسة، أما الخرافات فتتحدث عن حوادث لم تستطع أن تبدل شيئاً من الطبيعة الإنسانية وإن كان لها تأثيرها في العالم.

يرى الناقد الكندي نورثروب فراي (Northrop Frye (1991-1912 أن الأدب انعكاس للأسطورة وأن الطبيعة منبتها، وهو يربط في كتابه «الأسطورة والمجتمع» (1976) بين الطبيعة والأسطورة والأدب وأثرها كلها في المجتمع، وقد أصبح لآرائه شأن بين الدارسين. فالأسطورة في رأيه محاولة لرؤية الطبيعة من منظور إنساني، والعلاقة بينهما تخضع لنظام محكم متكامل ونظرة شمولية إلى عالم تُمثِّل فيه الآلهةُ الطبيعةَ من منظور إنساني، ويصور فيه الإنسان وأصله وقدره وقدراته من منظور الطبيعة. وهذه المزاوجة بين الطبيعة والشكل الإنساني تصورها الأسطورة بالمقابلة والتشبيه، فهي توازن بينهما وتبرز أوجه الشبه بأسلوب جدلي. ويرى فراي أن الأساطير تختلط بالأدب في كل الحضارات المعروفة، والفرق بين الأسطورة والأدب هو فارق السياق الزمني وليس البنية، والعلاقة بينهما علاقة شكل لا مضمون، وأن النمط الأدبي لا يأتي من الحياة بل من التراث الذي كان أسطورة في الأصل. وهذا ما نادى به توماس ستيرنز إليوت[ر] أيضا في مقولته: «إن أدب عصر ما هو امتداد للتراث الذي يبدأ من هوميروس وينتهي عند ذلك العصر». غير أن فراي لم يقف عند العموميات التي استند إليها إليوت بل عمل على تحديد طبيعة الروابط بين التراث والأدب، وقال إنها تنشأ من المبادىء الأساسية لبنية الأسطورة، وهي التي تؤلف خلفية بنية الأدب، وتتحول من بنية بسيطة إلى كلام إبداعي مغلف بنسيج لغوي، ومع ذلك فإن الأسطورة تظل أوسع مدى من الأدب، وتشتمل على أشياء كثيرة إلى جانب البنية الأدبية، ويبدو أن فراي أراد من كلامه هذا سد ثغرة في نظريته، في الوقت الذي بدأت فيه البنيوية[ر] structuralism تتلمس طريقها في الخمسينات من القرن العشرين في مجالات الأدب واللغة، وسط تقاليد أدبية راسخة بنى عليها فراي آراءه التي أحلته مكانته بين معاصريه. ومع ذلك فقد كان موقف فراي على طرفي نقيض من أنصار البنيوية، وهي نظرية عامة تهدف إلى دراسة أي ظاهرة على أنها مركبة  من عناصر، وكل عنصر منها يحدد مكانة العناصر الأخرى ووظائفها، وتؤلف كل هذه العناصر في مجموعها تركيباً معقداً يسمى البنية. وقد احتلت هذه النظرية مكانة مرموقة في أكثر العلوم الإنسانية، وخاصة اللسانيات والنقد وعلوم النفس والاجتماع والأنتروبولوجية. ومن رواد هذا المذهب عالم الاجتماع الفرنسي كلود ليفي ـ شتراوس (Claude Lévi-Strauss  (...-1908 الذي بحث إمكانية تطبيق طرائق الدراسة البنيوية على الأساطير بالتفتيش عن أوجه الشبه بين أساطير مختلف شعوب العالم، ثم تحديد الروابط المنطقية التي تربط بعضها ببعض. ويزعم البنيويون أن الأسطورة حية في الأدب وتتمتع بأصالة أزلية وقدسية يتوق الإنسان إلى بلوغها وتمثلها ليسترجع أصالته من خلالها. ويرون أن الأسطورة كانت ميداناً لعمليات منطقية لا شعورية تؤكد النظرة الإجمالية للحياة الإنسانية ومظهرها العالمي، وأن اللغة هي المحور الذي تتمحور الأسطورة حوله، وأن وضع نموذج للأسطورة يؤدي إلى جمودها والحد من قدراتها. وهم يرفضون فكرة الاقتصار على ربط الأسطورة بالفكر البدائي(برول) وباللاوعي الجماعي (يونغ) وبالطبيعة (فراي) وبالدين (مرسيا إلياد) لاعتقادهم أن تحديد نشأة الأسطورة يضع حداً لحياتها. ويدحض شتراوس ما جاءت به المدارس المذكورة منطلقاً من مبدأين اثنين، أولهما: أن التسلسل الزمني لأحداث الأسطورة وشخصياتها غير المألوفة يتعارض مع مضمون الأسطورة وما تهدف إليه، إذ يمكن توقع حدوث كل شيء في الأسطورة، ولا يخضع تتابع الأحداث فيها لقاعدة من قواعد المنطق أو الاستمرار. ومع أن الأساطير تبدو عشوائية التركيب فإنها تتوالد بشخصياتها وتفصيلاتها في أماكن مختلفة من العالم. وأما المبدأ الثاني: فهو أن زمن الأحداث في الأسطورة موغل في القدم، ومع ذلك تتداخل هذه الأحداث فيما بينها وتبدو متصلة بالماضي والحاضر والمستقبل، وهذا يعني أن للأسطورة طبيعة تشبه طبيعة اللغة، وهو ما يفسر علاقة الأسطورة بالبنيوية. إذ لا يتضح مغزى الأسطورة من العناصر المفردة التي تتركب منها، بل من الصور المجملة لتلك العناصر، تماما كالبنية اللغوية. وأن ما يميز الأسطورة من غيرها كونها حكاية يمكن لمن يشاء أن يرويها وأن يوجزها أو يطيل فيها بعبارات مختلفة، إذ لا أهمية للشكل هنا مع ضرورة المحافظة على تسلسل الموضوعات الرئيسة فيها. كما أن ترجمة الأسطورة ونقلها من لغة إلى لغة لا يطرح أي مشكلة من المشاكل التي تعترض ترجمة نص أدبي، لأن أهمية الأسطورة لا تنبع من أسلوب النص أو طريقة السرد أو ضبط اللغة، بل من فحوى الحكاية التي ترويها ومغزاها، وهذا ما يحل ـ كما يزعم شتراوس ـ مشكلة النص الأصلي. كذلك فإن تحليل الأسطورة إلى عناصر وإعادة ترتيبها عمودياً وأفقياً وفق مخطط يجمع بين السمات المشتركة لتلك العناصر،

يفسرالكثيرمن غوامضها. وعلى هذا النحو فإن دراسة الأساطير وفق المنحى الجديد الذي تبنته البنيوية تعتمد على عاملين  أولهما: الشكل اللغوي للأسطورة، أي طريقة عرضها (رواية شفوية متناقلة، أو نص ديني مكتوب، أو نص أدبي أو شعر أو غير ذلك) وتفرعاتها (النسخ المختلفة للأسطورة الواحدة)، وثانيهما: الرمز أو المغزى الذي تهدف إليه الأسطورة، ولا يمكن إدراك ذلك إلا بالموازنة بين أساطير الحضارات المختلفة. فلكل أسطورة كيانها الخاص ولكل منها مغزاها الذي يتصل بمنبتها، ولا يمكن فهمها إلا عن طريق بنائها اللغوي، مع تأكيد نظرتها الإجمالية ومظهرها العالمي في الحياة الإنسانية.

دور الأسطورة في الثقافة الإنسانية

احتلت الأسطورة مكانة ذات شأن في جميع مجالات العلوم وكان لها أثر واضح في تطور بعضها وإغنائه، وخاصة العلوم الإنسانية والاجتماعية والتطبيقية.

الأسطورة و اللغة وعلم الاجتماع: للأسطورة صلة مباشرة بالمسائل المتعلقة باللغة لأنها مادة الاتصال الإنساني، كما أنها وثيقة الصلة بالحياة الاجتماعية والتراث. ومع ذلك لايوجد اتفاق بين الباحثين عامة حول طبيعة هذه الصلات، وليس من الصعب معرفة أسباب عدم الاتفاق هذا، وخاصة أن تصنيف اللغات وتفرعاتها والمجتمعات التي تقوم على أساس اللغة يبقى مسألة خلاف، ويتطلب دراسات أكثر تعمقاً مع أن طرائق البحث العلمي الحديث تسمح بإجراء مسح شامل لهذه المسألة.

يرى بعض علماء اللغة أن هناك حاجة إلى علم جامع يدرس الإشارات والرموز الأساسية في المجتمع، وإلى علم نفس جديد يبدأ بدراسة المشكلات التي تحدد طبيعة المعرفة الإنسانية ومعتقدات البشر، وأنه لا يمكن أن تستهل دراسة المجتمع واللغة إلا بما هو محدد في كلام البشر وعلاقاتهم الاجتماعية المثقلة بتراكمات التراث الإنساني، وهذا هو مجال علم الأساطير.

 يمكن هنا إيراد بعض الأمثلة التي تؤكد تنوع العلاقات والروابط بين الأساطير والمجتمعات وتبين مدى تعقيدها. ففي شمال غربي أوغندة والمناطق المتاخمة لها من الكونغو تعيش قبيلة لوغبارا Lugbara والتي تربط نظامها السياسي والاجتماعي ببطلين من الأجداد لهما علاقة بقصة خلق العالم. وتتحدث القصة عن تحدر القبيلة من أجداد أبطال على نحو ما يروى في قصص البطولة. ويلفت الانتباه هنا ربط الماضي الأسطوري والماضي الفعلي بمفهوم واحد ذي معايير غير تاريخية محددة زمنياً. كذلك تتحدث بعض المراجع الأدبية في الصين القديمة عن أشخاص وأحداث تبدو تاريخية في مظهرها؛ ولكنها في الواقع محاولة لوضع أساطير الأولين ضمن إطار تاريخي ينفي عنها صفة الأسطورة. ويلاحظ مثل هذه المحاولة في بعض كتب التاريخ الروماني التي تتحدث عن أصل رومة ومجتمعها وأنماط الحكم فيها، فتبدو وكأنها تأريخ للأساطير الأولى التي تتحدث عن الصلات الهندية الأوربية. ومن هذه الأمثلة أيضاً النظام الطبقي الهندي وأصوله الأسطورية، ومازالت لهذه المؤسسات قوتها المؤثرة في واقع المجتمع الهندي إلى اليوم. ومن هنا يكاد يستحيل التوصل إلى صيغة عامة مشتركة تفسر التأثيرات الأسطورية في مختلف المجتمعات لتنوعها الكبير، وإن كان يسهل فهم دور الأسطورة في كل محاولة لفهم العلاقات الاجتماعية بين الناس، ومن جهة أخرى يرى بعض العلماء أن بحوث التاريخ وثيقة الصلة في الدراسات الحديثة بالتراث الأسطوري عند الأمم والمجموعات البشرية.

الأسطورة وعلم النفس: تنحصر الدراسات التي قام بها فرويد في مجال الأسطورة في محاولته الفصل بين التاريخ الثقافي للمجتمع والمفاهيم القائمة فيه. وكانت الدراسات التي سبقت فرويد تفترض تحليلاً تاريخياً لفهم مراحل تطور الوعي الإنساني، أما فرويد فقد سعى إلى إثبات استقلال النفس الإنسانية عن التاريخ واعتمادها على المفهوم الحيوي (البيولوجي)، ولايبدل في الأمر شيئاً كونه استفاد من وجهات نظر أنتروبولوجية في هذا الصدد (كزعمه مثلاً أن تقديم الأضاحي مرتبط بأول عملية قتل كان الإنسان ضحيتها)، وكان يرى أن التعبير الرمزي عن الشعور بالذنب أو عن قضاء الرغبات لايتحدد بزمن تاريخي؛ ولكنه يحدث في الأساطير كما يحدث في الأحلام. وقد استند فرويد في رؤيته هذه، وبه اقتدى كارل يونغ، إلى نظرية لوسيان ليفي برول الذي ربط الأسطورة بالذكاء الفطري السابق للمنطق. ويرى فرويد أن الأسطورة نمط من التفكير كان شائعاً عند الإنسان القديم ومازال موجوداً لدى الشعوب البدائية التي تزعم وجود شراكة «روحية» مع الأشياء ولا تفصل بين الذات والشيء، ولكنه تعرض للنقد بسبب تفسيره الأساطير من وجهة نظر عقدة أوديب والكبت الجنسي والشعور بالذنب. أما كارل يونغ فيعتقد أن الصور الأسطورية ظاهرة إيجابية مبدعة مناقضاً تقويم فرويد السلبي لهذه الظاهرة، فالصور الأصلية الأولى عنده صور مميزة تنبع من الوعي الجماعي ومن أساس النفس الإنسانية، ولكنها تضع الأساطير خارج نطاق التاريخ. ويتردد ناقدو يونغ في تقبل رأيه حول كون الوعي الجماعي مصدراً أبدياً لفهم الأسطورة.

الأسطورة والعلوم البحتة: تنبه بعض الدارسين إلى أن الأسطورة تعكس أحياناً بعض التغيرات التي تحدث في الواقع، أو تفترض حدوثها. ومع أن الواقع يتبدل في التاريخ فإن ما يتصل بتغيرات هذا الواقع يثير اهتمام الفلاسفة ومؤرخي العلوم، لأن صورة الواقع أساس كل برهان علمي. ويثير الاهتمام هنا التشابه بين وظائف النماذج models في العلوم البحتة والطب وعلم الأحياء والنماذج التي تشتمل عليها الأسطورة أحياناً بوصفها صيغاً لعالم الإنسان. فإذا مثّل جسم الإنسان في الطب بالمكنة، ونُظر إلى الدماغ على أنه حاسوب متطور، فالأمر لا يعدو استعمال نماذج تسهل الفهم، فإذا حاز النموذج القبول غدا من الصعب إحلال شيء آخر محله، وهنا يكمن التشابه بين الأسطورة والعلم مع احتمال وجود خلاف كبير في تفسير القصد من ذلك النموذج. ففي القرن السابع عشر وبعد أن طرح ديكارت نظرياته غدا من السهل الافتراض أن يفسر الكون على أنه مؤلف من جسيمات دقيقة تتحرك وتتجاذب، كذلك فإن النزوع إلى المطلق في أكثر نماذج تاريخ العلوم قريب جدا من الأسطورة، ومع ذلك فثمة فروق كثيرة بين هذين المجالين، فمع أنه من الصعب تبديل النماذج في العلم فإن هذا التبديل ممكن الحدوث وقابل للتكرار، ويحذر العلماء كثيراً من وضع قيود مشددة على النماذج المطروحة في العلوم العصرية، أما الأسطورة فلا تقبل التبديل ليحل غيرها محلها في المجتمع الذي نشأت فيه وأثرت، وإن كان في وسع الغريب عن ذلك المجتمع إدخال بعض التغيير على الأسطورة نفسها أو تبني غيرها. والأكثر من ذلك أن أهمية نماذج العلوم تقتصر على المعنيين بها، وتقتصر وظيفتها على قطاع صغير من المجتمع، وإن تبدلت مكانتها من عصر إلى عصر، أما الأسطورة فيبقى تأثيرها أوسع نطاقاً بكثير. ومع بعد المسافة بين الأسطورة والعلم فقد بين تاريخ العلوم أن العلم الحديث لم يكن كله ثورة على الأسطورة، ولم تزلزل ولادته مكانتها أو تزاحمها. وقد تطرح نظرية في الطب على المستوى الأكاديمي في عصر ما، ثم تنحط مكانتها تدريجياً حتى مستوى الطب الشعبي في عصر آخر، وقد تعود تلك النظرية لتحتل مكانة مرموقة في عصر تال. وقد ظل علماء الطبيعة من اليونان القدماء يحتلون مكانة المؤسسين للعلوم أمداً طويلاً جداً، مع أن بعض وجهات النظر التي طرحوها كانت قريبة جداً من أساطير الخلق في زمانهم، كذلك انغمس رواد العلوم الحديثة من أمثال كبلر ونيوتن ولايبنتز في تتبع مسائل ما وراء الطبيعة التي لم تكن في الواقع إلا مسائل تراثية وأسطورية الطابع. ولعل أوضح مثال على ذلك ما يلمس في نظرية الطبيب الإنكليزي وليم هارفي الذي ربط الدورة الدموية بحركة الكواكب، وكذلك تشبيه داروين لدورة الطمث عند المرأة بالمد في المحيطات. ويرى كثير من المفكرين، وفيهم عالم اللاهوت بول تيليش P.Tilich والفيلسوف كارل جاسبرز K.Jaspers أن البعد الأسطوري أساس في كل علم، فالتفكير ينطلق من الأسطورة أو من عنصر من عناصرها، ويتدرج في تطوره حتى يبلغ درجة العلم والمبدأ. ويلاحظ ذلك بوضوح في علوم الفلك والأحياء والفيزياء وغيرها، ولاتخرج قصص الخيال العلمي التي غدت واقعاً علمياً عن هذا النطاق. وليس أدل على أثر الأسطورة في العلم الحديث من مئات المصطلحات العلمية التي تزخر بها أسرة اللغات الهندية الأوربية والتي اقتبست من مصطلحات أو تسميات أسطورية أغلبها من أصول يونانية أو اسكندنافية قديمة. وأقرب مثال عليها أسماء الكواكب المعروفة مثل: جوبيتير (المشتري) وميركوري (عطارد) وساتورن (زحل) وفينوس (الزهرة) وغيرها.

الأسطورة والدين: تختلف مكانة الأسطورة باختلاف أشكال التراث في المجتمع، ومع أنها قد تتعارض مع بعض التراث الديني إلا أنها تبقى لصيقة به في ذلك المجتمع. ويعتقد جيمس فريزر أنه لما كانت الأساطير علماً بدائياً وظيفته التفسير والتعليل فإن ثمة أساطير وجدت لتفسير بعض الشعائر والطقوس، ذلك أن كثيراً من القصص التي تدخل في نطاق «حكايا العلة» لاتخرج عن كونها نوعاً من الأساطير، وهي تصادف في تراث الشعوب المختلفة. ويرى كثير من مفكري القرن العشرين أن الأساطير في صيغها البدائية ليست أكثر من إعلام بما حدث فعلاً وبما هو مرغوب فيه. وهناك أساطير وجدت لتعليل شعائر محددة. وقد جرت على هذا الأساس دراسات عدة تؤكد الروابط بين الشعائر والأساطير المتصلة بها، ومنها محاولات للبرهان على أن الشعيرة سابقة للأسطورة، وأن الأسطورة وجدت لتفسيرها أو شرح مضمونها أو أنها النص الذي تشتمل عليه الشعيرة. وقد لقي هذا المنحى تأييداً كبيراً بين المفكرين وجرى تطبيقه أول الأمر على الأساطير اليونانية، ثم على عناصر الثقافة اليونانية القديمة كلها كالأدب والفن والفلسفة حتى وصل إلى الكتب المقدسة والملاحم والروايات والقصص الواقعية، واتسع نطاقه فيما بعد حتى شمل الثقافات الأخرى في مشارق الأرض ومغاربها. وسرعان ما انتشرت عدوى هذا التفكير وبولغ فيه حتى صار لكل شعيرة أو طقس أو تقليد أصل يفسره، ومن ذلك مثلاً طقوس الدفن وتلقين الميت وتقاليد الزواج وتقديم الأضاحي واحتفالات التعريف بالأسرار المقدسة في مختلف المجتمعات. بل إن أحد الباحثين الإنكليز حاول إرجاع جميع الوقائع المتصلة بتاريخ إنكلترة في العصور الوسطى إلى طقوس قديمة فيها. وقد ساعدت الدراسات والمعطيات الجديدة التي توصلت إليها علوم الأجناس والسلالات وأصل الإنسان وغيرها من العلوم الإنسانية في إنجاح نظرية الشعائر هذه، فأصبح ممكناً دائماً إيجاد صلة ما بموضوع الأسطورة المطلوب تفسيرها علميا والطقوس والشعائر التي يمارسها مجتمع ما.

إن وجود علاقة ما بين السلوك الشعائري والأساطير أمر يكاد يكون مؤكداً، إلا أن علماء الكتاب المقدس الغربيين يرون ضرورة النظر إلى المواقف الحياتية والتقاليد التي تمارس من زاوية أصولها ونشأتها، وهناك عدد كبير من الباحثين، وأكثرهم من بريطانية والبلاد الاسكندنافية يؤكدون أثر الأسطورة في الطقوس، ويطلق على هؤلاء عادة اسم «مدرسة الشعائر الأسطورية» وتتركز أعمالهم غالباً على دراسة أساطير الشرق القديم والأديان السماوية، ومن النظريات التي أثارت ضجة في هذا الصدد نظرية «البابلية» Babilionisme التي طرحها عدد من المهتمين بالأساطير. وتزعم هذه النظرية أن البابليين هم أصحاب الفضل في وضع علم أصل الكون cosmogony وعلم الفلك، وهم يعدون أساطير البابليين عن الفلك أساس أساطير العالم كله.

 وقد بينت دراسة أساطير الشعوب البدائية و ممارساتها الشعائرية أن المسألة أعقد بكثير مما تفترضه نظرية الشعائر في تفسير الأسطورة، وقد تم دحض الكثير من هذه التفسيرات. ومع ذلك فثمة أساطير كثيرة تفسر شعائر مختلفة وتصفها، ومثل ذلك أساطير كثيرة بعيدة عن الحقائق كل  البعد، وأساطير أخرى لاصلة لها بأي شعيرة أو طقس، والعكس صحيح أيضاً. فالصلة بين الشعائر والأساطير عرضية في غالب الأحيان، وإذا وجدت صلة مؤكدة فليس ثمة برهان على أن إحداهما سبقت الأخرى، وإذا ما أعطت الأسطورة الشعيرة معنى مقبولا فإن الغاية من الشعيرة وأصلها يبقيان لغزاً من الألغاز.

 وكان أصحاب نظرية التطور يرون أن سلوك الإنسان الأول كان غير عقلاني ثم أخذ يكتسب القدرة على التفكير تدريجياً، ورآى آخرون، تحت تأثير الفلسفة الوجودية، أن الأسطورة «حية» وتعيش بين الناس، أما وجهة النظر التي تبدو أقرب إلى الواقع فهي الإقرار بعدم وجود قانون ضابط للعلاقة بين الأسطورة والشعيرة، ومن العسير جداً إثبات أيهما أسبق، وإن محاولة معرفة  ذلك مسألة عقيمة. والأهم من ذلك كله أن مضمون بعض الأساطير التي لها شأن وتتحدث عن أصل العالم يعكس غلبة صيغة ثقافية لتراث ما، إذ يلاحظ أن أساطير مجتمعات الصيد تتحدث عن أصل الطرائد وتقاليد الصيد، في حين تميل المجتمعات الزراعية إلى منح الأولوية إلى الممارسات الزراعية، وتميل المجتمعات الرعوية إلى تفسير تقاليد حياة الرعي، وعلى هذا النحو تصادف في بعض أنواع التراث القديم أساطير تتحدث عن أصل الخليقة والختان وتقاليد المجتمع السرية واستعمال الأقنعة الاحتفالية وصيد الرؤوس وأكل لحوم البشر وجمع المحاصيل وبعض المهن الخاصة. والمقدسات موجودة في كل أنواع التراث الديني وفي كل المجتمعات، ومنها الصور والأيقونات والكتابات المقدسة والتماثيل، وكلها تحمل مسحة أسطورية لأنها تمثل حقائق أو شخصيات مقدسة بطريقة مرئية كما تمثلها الأسطورة بأسلوب الرواية. والرموز الدينية مرتبطة من هذه الناحية بالصيغة الأسطورية ارتباطاً مباشراً لأنها تحكي أشياء غير مألوفة، أما تمثيل الأشكال الإنسانية كما تبدو في الطبيعة فأمر نادر الحدوث، لأن الأشكال غير الطبيعية هي المفضلة دائماً في ممارسة الطقوس وتمثيل الموضوعات التي تتحدث عنها، والأمثلة على ذلك كثيرة في تاريخ الأديان. أما الشخصيات المقدسة الشهيرة عند الإغريق القدماء فاستثناء حتى في دياناتهم، ولكن الأقنعة تتمتع بميزة خاصة في الطقوس الهيلينية كما هو شأنها في تقاليد شعوب أسترالية البدائية وفي الأمريكتين وفي إفريقية وأوربة قبل التاريخ.

 أما النصوص المقدسة فتعتمد بطبيعة الحال على الديانة المعنية، وخاصة الأديان السماوية. ففي العهد القديم كثير من المواد الأسطورية، وتعتمد اليهودية على الأساطير من بعض الأوجه، ولكنها ترفض تمثيل الإله في صور، وكان للأساطير والخرافات اليهودية أثر مهم في تاريخ اليهود وثقافتهم. ويستحق بعضها الدرس والاهتمام لأنها تعد، مهما كان أصلها ومصدرها، جزءاً لايتجزأ من الكتاب المقدس الذي يغذي التراث الثقافي في العالم الغربي بفنونه وآدابه وأساليب تفكيره، ولأن اليهود أسهموا في العصور الوسطى بنقل أساطير الشرق القديم إلى الغرب. والأساطير التي تنسب إلى اليهود ليست كلها من أصل يهودي، بل إن أكثرها مقتبس عمن جاورهم من الشعوب الأخرى، ولكن ما يقتبسه اليهود كان يدمغ عادة بطابع اليهودية ويعدل لتأكيد وصايا ما يعتقدونه وما يريده أحبارهم. ويستعمل أكثر هذه المقتبسات من أجل تثقيف الأطفال دينياً وتربيتهم عليها منذ الصغر فيشبون وقد أشبعوا بها عقائدياً. ويمكن للدارس أن يتقصى المراحل التي مرت بها الأساطير الدينية اليهودية بسهولة بتلمس تأثيرات العصور المختلفة في الأدب اليهودي منذ السبي البابلي والحكم الفارسي الأخميني والعصر الهليني والعصر العربي الإسلامي وحتى العصور الوسطى في أوربة، كما يمكن تلمس التأثيرات الغربية عامة والألمانية خاصة منذ عصر النهضة إلى اليوم في القصص اليهودية المكتوبة بلغة اليديش (اللغة العبرية ـ الألمانية).

أخذت المسيحية عن اليهودية بعض مفاهيمها وتأثرت بها، كما تأثرت بالتراث الإغريقي وأساطيره مع ما أدخل عليها من تعديل وتشذيب، ولكن الكنيسة المسيحية في القرن التاسع عشر فسّرت الأسطورة على أنها استعراض لحقائق معبر عنها في صورة قصة يشوبها الخيال، واستمر أثر هذا التفسير في الأدب الشعبي المتداول حتى اليوم، ولعل هذا هو السبب الذي يدفع الكثيرين من مسيحيي القرن العشرين إلى رفض فكرة احتواء المسيحية على عناصر أسطورية في لاهوتها وممارساتها، وقد تم تحوير كثير من الموضوعات الأسطورية المقتبسة عن اليهودية والحضارة اليونانية بما يتفق والمفهوم المسيحي للتاريخ ومع تطور العقيدة المسيحية، ومن هذه الموضوعات أصل العالم وسقوط الإنسان، والإله في صورة البشر وغير ذلك.

هناك ثلاثة تفسيرات للأسطورة في المسيحية يراها علماء القرن العشرين أولها التفسير التاريخي للأديان، وثانيها التفسير النفسي التحليلي، وثالثها تفسير الخلق والوجود. يتناول التفسير الأول الأسطورة على أنها تاريخ مقدس، ويعد مرسيا إلياد من رواد من يتبنى هذا الرأي الذي يفسر «اختراقات» الكائن الأعلى (أي الرب) لهذا العالم في أشكال وأوجه مختلفة، كالعشاء الرباني والخميس المقدس، ويساعد هذا المؤمنين على فهم أصلهم ومكانتهم في هذا الكون. أما التفسير الثاني فيعرِّف الأسطورة بأنها وصف للأصول الرمزية والصور الناشئة عن اللاوعي التي تساعد الإنسان على تعرُّف أحواله وإدراك طبيعة معاشه. أما التفسير الوجودي الثالث فقد حاز قبولاً واسعاً من علماء الكنيسة. ويرى عالم اللاهوت الألماني رودلف بولتمان أن الأسطورة نوع من أنواع التعبير الذي يستطيع الإنسان فهمه، وإن الصور التي تتضمنها الأسطورة مأخوذة من هذا العالم الذي يختلف اختلافاً تاماً عن مملكة السماء.

أما الإسلام فيرفض الأسطورة رفضاً قاطعاً، ويؤكد سمو الله ووحدانيته ليقطع الطريق أمام أي زخرفات أسطورية، وإن بدرت من بعض المفسرين والدعاة والقصاص الشعبيين محاولات غير مقبولة لتفسير بعض قصص القرآن مستعينين بالمفاهيم والصور التي تتقبلها الأديان الأخرى أو بالتراث القديم وخاصة الإسرائيليات والتفسير التوراتي وبعض التقاليد المسيحية. وتزخر كتب التراث الإسلامي بمثل هذه المحاولات التي تبناها بعض الفقهاء. يضاف إلى ذلك القصص المتخيلة التي أضفيت إلى السيرة النبوية وسيرة آل البيت وكرامات الصحابة وبعض الأولياء الصالحين، وكانت كلها مصادر لحفز الوازع الديني وحض المسلمين على الاقتداء بالسلف الصالح، ويعمل علماء الدين الإسلامي اليوم على دراسة الوسائل التاريخية التي تهدف إلى تخليص التاريخ الإسلامي من الشوائب التي لحقته وتحرير الشخصيات الاسمية مما لحق بهم من أباطيل ونزع الصفة الأسطورية عن الإسلام.

الأسطورة والفن: لم تُعرف أساطير الحضارات القديمة إلا لأنها جزء من تراث مكتوب، وكل ما وصل إلى العصر الحاضر من أساطير اليونان والرومان معدود من التراث الأدبي، أما أقدم مصادر هذا التراث فهي ملحمة هوميروس [ر] الشعرية من القرن الثامن قبل الميلاد. ومع أنه من الصعب التحدث عن وظائف أكثر أساطير التراث الشفهي المتناقل، فقد غدا في وسع العلماء تلمس مكانة تلك الأساطير وأثرها في الأدب والفن، وما يزال العمل العلمي في هذا المجال بعيداً عن الكمال، كما في وسعهم استنباط الموضوعات الأسطورية من الملاحم واستنباط الوظائف الأسطورية للملحمة. فقد كانت ملحمة هوميروس الأساس الذي تقوم عليه التربية في اليونان، كما أن ملاحم الهند المعروفة (المهابهراتا والرامايانا) تقوم مقام الموسوعات الحديثة، وتقدم للدارسين نماذج مختلفة من الوجود الإنساني. وسواء استفاد الأدباء والفنانون من حوافز الأسطورة أم لم يستفيدوا فإن للكلمة المكتوبة والمصوغة صياغة مناسبة سحرها المماثل لسحر الأسطورة.

إن هذه العلاقة التي تربط الأسطورة بالأدب يمكن تلمسها بوضوح في أنواع الفنون الأخرى. ويمكن التأكيد هنا أن العمارة وفن النحت كانا سباقين إلى توثيق الأساطير قبل الأدب بزمن بعيد يصعب تصور بداياته. ويؤكد تاريخ المكتشفات الأثرية المعمارية أولية التثميل الأسطوري فيها، وتعد النصب المقامة من جلاميد الصخر ومنشآت الدفن من أقدم الأوابد المعمارية المعروفة للإنسان، وأشهرها على الإطلاق أهرام مصر ومدافن حكام الصين من أسرة شو (1122-221ق.م). ومع أنه قد يكون من المستحيل استرجاع كل التفاصيل الأسطورية التي أوحت بإقامة مثل هذه المنشآت فإن الثقافات القديمة غنية بالشواهد على التوجه الأسطوري الذي اتخذ الإنسان بمقتضاه مكانه في هذا الكون على أساس الجهات الأربع وقبة السماء والأرض من تحتها، فكانت منطلقه في نشاطه المعماري. ويلخص المعمار الروماني فتروفيوس Vitruvius قواعد البناء في العالم القديم ونظمه المختلفة مشيراً إلى شكل المعابد ووضعها والآلهة المميزين الذين كرست لهم تلك المعابد، ويَعُدّ فتروفيوس العمود الدعامة pillar عنصراً أساسياً فيها لأنه صورة أسطورية لما يربط عالم الإنسان بالسماء، وهذه الصورة موجودة في حضارات الصيد، وظلت حية في العصر الحجري الحديث وفي عصور ما قبل الميلاد. ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن الفصل التام بين العمارة الدينية والعمارة المدنية كما هو معروف في العصور الحديثة لم يكن معمولاً به في الحضارات القديمة، ولايطبق هذا الفصل كاملاً حتى في العصر الحديث، ويمكن أن يلمس بعض المظاهر الأسطورية العامة في المباني المدنية والدينية على حد سواء، كما في مباني البلديات وقصور العدل والمحاكم في أوربة وغيرها، وكما يشاهد في الكنائس وغيرها من دور العبادة أيضاً. وقد أنتجت الهند القديمة وفي العصور الوسطى مؤلفات كثيرة عن العمارة والفن اشتملت على تعليمات مختلفة عن بناء المعابد والمساكن وتخطيط المدن على أساس المفاهيم المتوارثة.

وتعد الأسطورة كذلك أحد الجذور الرئيسية لفن التمثيل، وهذا أمر واضح تماماً في الأدب الكلاسيكي اليوناني لغناه بالموضوعات الأسطورية والعروض المسرحية التي تقدم الأحداث والحقائق بأسلوب يحاكي الأسطورة. وكان المواطنون في مثل هذه المسرحيات يقومون مقام الجوقة. ويؤكد مؤرخ الديانات الأمريكي تيودور غاستر T.Gaster أن فن التمثيل (الدراما) كان في الشرق القديم وليد العلاقات المتبادلة بين الأسطورة والشعائر، وأكثر التمثيل المسرحي في العصور القديمة يرجع في جذوره إلى الأساطير (مسرحيات «نو» في اليابان ومسرحيات  الوايانغ في جاوة وغيرها)، وأن تمييز الغرب اليوم العروض الدينية من عروض المتعة لم يكن له قيمة تذكر في هذا المجال. وقد كان للرقص أولوية في أكثر الفنون التمثيلية التي لها صلة بالتجربة الأسطورية، وهو نوع عالمي من أنواع التعبير، ودوره في الأساطير واضح مع أنه من الصعب جداً فهمه اليوم لأن هذا العصر مطبوع بالعلمانية، وقد ابتعد الرقص كثيراً عن الأسطورة في الأزمنة الحاضرة مع أن الاهتمام بالباليه والرقص الشعبي مازال مستمراً.

ولما كانت الموسيقى مرتبطة بالرقص في وظيفتها الإيقاعية، فهي على علاقة وثيقة بالأسطورة، وكثيراً  ما ينظر إليها في التقاليد الموروثة على أنها إبداع في ملامح أسطورية مع أنها أقل اعتماداً على الأسطورة من بقية الفنون. وقد تستعمل الموسيقى أحياناً، كما هو شأن الأسطورة، في شفاء المرضى بهوس الرقص tarantism (وهو نوع من الهيستيريا ظهر في القرن الخامس عشر في إيطالية واستمر حتى القرن السابع عشر وقيل إنه يشفى بالرقص الجنوني)، ومع أن أكثر أغراض الرقص الديني المرتبط بالموسيقى في التاريخ الغربي الحديث قد تضاءل شأنه فإن الموضوعات الأسطورية في الموسيقى لم تختف بعد كما في الأوبرا والأوراتوريو (الإنشاد الديني).

بعض أنماط الأسطورة

إن تصنيف الأساطير في أنماط معينة على أساس المضمون والوظيفة والغاية صعب جداً، فالمشكلة الكبرى تنصب في تعريف الأسطورة وتأثير هذا التعريف في تصنيفها، والأهم من ذلك اختلاف الرأي حول عَدِّ الأسطورة بعداً دائماً في حياة الإنسانية كلها أو أنها مرحلة ماضية من مر احل تطور الوعي الإنساني. ومع أن أكثر الدارسين يميلون إلى هذا الرأي الأخير فإن الرأي الأول يسترعي الاهتمام في الوقت الحاضر، وإن علم الأنماط أو «النمذجة» typology الذي يبدأ بتعرُّف البعد الأسطوري الدائم في الوجود الإنساني يجنح إلى ترتيب الموضوعات الأسطورية في مراتب محددة وتحديد أولوياتها. ومن ذلك مثلاً تأكيد مرسيا إلياد أولوية حكايات النشأة والأصل، في حين يميل فريدريخ شلنغ إلى القول بأسبقية أساطير الآلهة والألوهية. وعلى هذا فإنه لا يمكن إيجاد معيار حاسم تحدد فيه أنماط الأساطير إلا إذا أمكنت دراسة كل  الأساطير دراسة معمقة، وما يزال الباب مفتوحاً أمام الدراسات اللاحقة في هذا الموضوع. كذلك قد يكون من الصعب وضع قائمة شاملة تضم الموضوعات الأسطورية الكثيرة التكرار، أو اعتماد قائمة بعينها. وفيما يلي بعض الأنماط الرئيسية للأساطير:

أساطير النشأة والأصل: وهي الأساطير التي تتحدث عن أصل الأشياء ونشأة الكون والخلق. وكثيراً ما يستعمل هذان المصطلحان على أنهما مترادفان مع الفارق الكبير بينهما. فنشأة الكون أو أصله أعم وأشمل لأنه يشير إلى أصل لا سابق له، في حين تتحدث أساطير الخلق عن خالق ومخلوق، ولا ينطبق ذلك على بعض أساطير النشأة كتلك التي تزعم أن أصل العالم فيض emanation أو انبثاق ذاتي، وليس من فعل act فاعل. ومع ذلك فإن مصطلح الأصل يستعمل بتحفظ شديد عند الإشارة إلى نشأة الأكوان لأن أصل العالم نادراً ما يحتل نقطة الارتكاز في الرواية الأسطورية، وكثيراً ما يقصد به الأساس أو الأرضية التي قام عليها هذا العالم. أما قصص الخلق في الحضارات البدائية والمتقدمة فتتحدث عن «فعل الخلق» على أنه تشكيل للأرض والعالم الموجودين قبل ذلك الفعل. فالأرض سابقة الوجود في أكثر أساطير «النشأة» البدائية وخاصة في إفريقية، أما الخلق من العدم أو من لاشيء فلا يمكن حدوثه إلا في أعراف الحضارات الأكثر تعمقاً في الفكر الفلسفي. والماء على أهميته لكل الأحياء يحتل مكانة معينة في أساطير آسيا وأمريكة، حيث يغوص الخالق في المحيط بحثاً عن الأرض، ويساعده في بحثه غواص آخر، وقد يتحول هذا الغواص المساعد إلى خصم أو عدو للخالق أو ما يحاكي الشيطان في الحضارات المتقدمة والديانات السماوية. ومن الأساطير ما يعتمد على المثنوية في الخلق أو يسعى إلى تفسير الصراع بين الخير والشر، وفيما إذا كان الشر متأصلاً في الكون من دون أن يكون الخالق مسؤولاً عنه. وثمة أساطير نشأة تتحدث عن «بيضة أصل الكون» cosmogony egg، وهي مألوفة في عالم المحيط الهادئ وبعض أنحاء أوروبة وجنوبي آسيا والهند، ومنها الأساطير التي تتحدث عن ولادة الكون من أبوين the world parents غالباً ما يكونان في صورة السماء والأرض، أو عن كلمة ينطقها الخالق فيخلق الكون كما في بولينيزية مثلاً.

إن «نشأة الكون» أو أصله في أكثر الموروثات الأسطورية هي أساس كل شيء، وبها ترتبط بقية الأساطير، وكل ما يروى عن نشأة الكون له معالم مشتركة عالمياً ويعد تعبيراً عن النزعة الأسطورية عند الإنسان مهما اختلفت القارات والأزمان، وفي كل أسطورة منها حديث عن الأضداد كالسماء والأرض والنور والظلام، وعن أشياء حدثت وتخرج عن نطاق الإدراك ولا يمكن تفسير سببها كالزمن السابق لانفصال الأرض عن السماء، والوقت الذي كان فيه النور والظلمة متداخلين، أي حين كانت الأجزاء الإنسانية التي تؤلف العالم الإنساني مفترضة سلفاً. ثم حدث أن تحققت أو توطدت على النحو المعلوم في الرواية. وقد يعاد تركيب الرواية مرات ومرات مع الارتقاء بها إلى حدود المفهوم والسبب الفعليين.

 ولأن الكون هو عالم الإنسان، فإن أصله مرتبط به، فالإنسان يسكن الأرض لأن الآلهة تريد له ذلك، وقد يرجع في أصله إلى السماء أحياناً. ومن الأساطير ما يعكس الوضع تماماً فيكون الإنسان محور الكون والمركز الذي يدور حوله كما في الفيثاغورية Pythagoreanism (حركة فلسفية صوفية يونانية) والأورفية Orphism (حركة دينية صوفية يونانية) والغنوصية Gnosticism (هرطقة مسيحية مثنوية مقصورة على الخاصة) و التنترية Tantrism (فلسفة هندوسية بوذية تأملية مقصورة على الخاصة). وقد يصعد الإنسان من أعماق الأرض كما في ديانة الزوني Zuni (من الهنود الحمر الأمريكيين)، أو يخرج من صخرة أو شجرة مقدسة، أو يتشكل من أديم الأرض كما في سفر التكوين (الكتاب الأول من العهد القديم) أو من مزيج التراب والدم كما في أسطورة الخلق البابلية.

أساطير الآخرة ونهاية العالم: تتحدث هذه الأساطير عن النهايات التي تقابل «الخلق» أو الابتداء، كما تتحدث عن أصل الموت المقابل للحياة. ومنها ما له صفة خاصة كالأساطير التي تتحدث عن «المخلص» و«المسيح الكذاب» و«الألفيات» (الاعتقاد بمجيء المخلص أو المختار في نهاية كل ألف من السنين). والأساطير التي تتحدث عن الموت وأصله واسعة الانتشار وتتنوع موضوعاتها، ويزعم أكثرها أن الموت لم يكن موجوداً في الأزمنة الأولى، وأنه حدث نتيجة خطأ أو عقاب، أو أنه حدث في مقابل الولادة، وهو أمر ضروري لاستمرار الوجود. ومن الأساطير ما يتحدث عن نهاية العالم نهاية صاعقة كالحريق الجائح الذي يلف العالم والصراع الحاسم مع الشر وهزيمة الآلهة، كما في الأسطورة الألمانية وأساطير نهاية العالم عند الغربيين وأكثر الديانات الشرقية، والتنبؤات كثيرة عن نهاية العالم التي تتحدث عنها حركات دينية مختلفة أو ورد ذكرها في بعض الحوادث التاريخية.

أساطير القضاء والقدر والعناية الإلهية: هناك حالات كثيرة يربط فيها الإنسان مصيره ومصير مجتمعه بظواهر كونية أو طبيعية، وثمة مجال واسع من الوقائع الأسطورية التي تربط بين الحسابات الفلكية (التنجيم) وخضوع الإنسان لقدره. ويؤكد غالب الأساطير سيطرة الآلهة على القدر، فمردوخ رب الأرباب في بابل يملك «حبوب القدر»، وزيوس هو الإله المسيطر عند هزيود Hesiod، ولكنه يصبح عديم القدرة في وجه القدر عند يوربيدس  الذي يستعمل مصطلح «قانون الطبيعة» في شرحه سبب نشوء العالم. وإن وجهات النظر الأسطورية فيما يتصل بالقضاء والقدر والمصير تلقي ظلالها على الموروثات الدينية والاجتماعية التي تتحدث عن العدالة والقانون الإلهي ومشكلة «الجبرية» determinism الفلسفية، والمسائل اللاهوتية المتعلقة بالعصمة الإلهية (براءة الرب من أعمال الشيطان الظاهرة) و«القدرية» predestination. وثمة فارق مهم في الحسابات الأسطورية بين العناية الإلهية في الديانات السماوية وتلك التي تعطي أهمية محدودة للظواهر الكونية كما في البوذية.

أساطير الزمن والأبدية: ترك انتظام الأجرام السماوية وحركتها انطباعاً عظيماً لدى بني البشر في كل العصور، فالسماء صورة مثلى للسمو، ودوران الشمس والقمر والنجوم دوراناً منتظماً يوحي بزمن هو «الأبدية»، يرتقي فيه الإنسان إلى ذلك العالم العلوي ويعيش فيه. والأساطير أو الصور الأسطورية التي تتحدث عن علاقة الأبدية بالزمن وارتباط مصير البشر بالأعداد كثيرة جداً ولعل العدد أربعة هو العدد الأكثر شيوعاً على مر العصور. ويقال في فارس القديمة إن العالم كله يدوم اثني عشر ألف سنة مقسمة على أربع فترات، ينتصر أهورامزدا (سيد الحكمة) في نهايتها على إهريمان (المخادع). وفي سفر دانيال (في العهد القديم) أربع ممالك هي على الترتيب الذهب والفضة والبرونز ومزيج الحديد والطين، وبعدها يقيم الرب مملكته الدائمة. وهذه العصور الأربعة المرتبطة بالمعادن موجودة في كتابات الأقدمين وتصورهم للزمن والتاريخ، وقد طورت اليهودية فكرة الألف سنة بين عصور العالم الأربعة والمملكة الدائمة، ومن هنا جاء مصطلح الألفية، وعبارة «تؤلف ولا تؤلفان». وفي المكسيك القديمة يسبق هذا العالم أربعة عوالم، كما توجد نصوص في الهندوسية والبوذية تتحدث عن منظومة متكاملة من العوالم التي وجدت وانتهت، وتتألف من أربعة عصور (يوغا) يتناقص طولها ويتفاقم الشر فيها. ومن الأعداد الأخرى ذات المغزى في موروثات البشر الثلاثة، والستة، والسبعة، والاثنا عشر، والاثنان والسبعون. وهناك كتابات كثيرة تتحدث عن أرقام كبيرة غالباً يعدها علماء الأنتروبولوجية والفلاسفة مغرقة في الخيال، ولكنها تعكس حسابات وأرصاداً فلكية قريبة من الصحة.

 وتتحدث بعض الأساطير، وخاصة أساطير شعوب «المايا»، عن علاقة الزمن بالفضاء (الكون)، ويدل التراث الأسطوري على أن تجدد العوالم بعد تدميرها ممكن الحدوث، ولا يقتصر ذلك على الهنود أو غيرهم من الشعوب القديمة بل يتعداهم إلى مذاهب أخرى كالأورفية والرواقية عند قدماء اليونان.

أساطير التقمص والتناسخ والتجدد: يتبنى أكثر الأساطير القديمة مفهوم الكون والطبيعة والإنسان وعلاقاتهم بالزمن ودوراته، ويعتقد أهالي أسترالية الأصليون أن الإنسان يتقمص من خلال أمه عند الولادة فيدخل الحياة الدنيوية والزمن المقدس، وفي أثناء جنازته يعود إلى حاله الروحية الأصلية. ويمكن أن ينطبق هذا القول على كثيرٍ من الشعوب البدائية لأن أساطيره تدخل في دورات الزمن، وهناك أساطير خاصة تروى عند التحضير لممارسة بعض الطقوس، وأكثر موضوعاتها تجدد الكون لدوران الزمن وتجدد الإنسان عن طريق الولادة، والتقمص.

وطقوس تحديد جنس المولود إضافة إلى التجدد الموسمي في المناسبات كالنوروز ورأس السنة وغيرها. ودورة الزمن هذه موجودة في كثيرٍ من الموروثات الدينية والفلسفية كالبراهمانية والبوذية والأفلاطونية وغيرها.

أساطير التذكر والنسيان: يزعم بعض الأطباء الشعبين في أمريكة الشمالية أنهم يتذكرون حياتهم السابقة قبل الولادة وهذا مايفتقده بطبيعة الحال أكثر الناس. وثمة أساطير تنحو هذا النحو وتتحدث عن التذكر والنسيان memory and forgetting المتوارثين عند أكثر المجتمعات القديمة. إذ إن معرفة العالم الحقيقي التي تتجاوز الإدراك العادي ليست في متناول كل فرد ولا يتساوى فيها اثنان، وقد تمثل أساطير «التذكر» صورة الحنين الجماعي إلى الماضي. فقبيلة يارورو Yaruros في جنوبي أمريكة تجهل كل شيء عن الزراعة والرعي، وهي واحدة من قبائل كثيرة تعيش في وسط الحضارة الغربية المعاصرة وقد تخلت عن النضال من أجل وجودها الاجتماعي والحضاري، ويبدي أفرادها حماساً للعودة إلى أحضان أمهم العظيمة التي تحكم أرض الأموات. وثمة أساطير تَذَكّر أقل مأساوية من تلك، ولكنها تحتل مكانة مهمة في تراث بعض الشعوب، ولها دلالة عظيمة في تقاليد من يؤمنون بالتقمص أو التناسخ أو التمثّل. فقد يزعم بعض الناس أنهم يتذكرون حياتهم السابقة، وقليل منهم يدعون تذكر البدايات الأولى وفيهم بوذا، أما احتجاب «مايا» (الخداع) في الأساطير الهندية فيمنع الإنسان من تذكر أصله الحقيقي. وتزعم أساطير اليونان أن منيموسين (الذاكرة) Mnemosyne والدة الموزيات Muses (آلهات الشعر والفن والعلم التسع) تعرف كل شيء عن الماضي والحاضر والمستقبل، وهي أساس الحياة كلها والإبداع كله، أما نسيان أصل الأشياء فيعادل الموت غالباً (كما هو شأن نهر الموت ليث Lethe الذي يدمر الذاكرة في الأسطورة اليونانية). كذلك فإن التذكر أو إحياء الذكرى commemoration أو الاسترجاع recollection أجزاء أساسية في بعض الطقوس المسيحية كالمشاركة في العشاء الرباني Communion، وآلام المسيح Passion.

أساطير الكائنات العلوية والآلهة: يشتمل أكثر الأساطير على كائنات علوية أو آلهة سماوية لها صفات ونوعيات وأشكال مختلفة مع تنوع كبير في خصائص تقديسها، والفارق كبير جداً بين الكائن العلوي في أكثر الموروثات القديمة والإله في الأديان السماوية الموحدة. ومع أنه قد تضفى على ذلك الكائن نعوت تجعله «كلي القدرة» أو «كلي العلم» فإن ذلك لا يعني بالضرورة عدم وجود كائنات أخرى متفوقة. و من ذلك مثلاً فيشنو Visnu وسيفا Siva أعظم إلَهين في التراث الهندي، إذ يوصف كل منهما بالتفوق ولكنه لا يحط من شأن الآخر. والسماء مقدسة في كل مكان، إلا أن الكائنات العليا في الأساطير أبعد ما تكون عن أنها ظاهرة سماوية فقط، فهي خالقة العالم وموجدة نظامه وحامية القانون ويُسبُّح بحمدها لأبديتها وألوهيتها. وقد لا يلقى هذا الكائن العلوي الرعاية المناسبة من المخلوقات (العبادة) أو أنه أعفاهم منها، إلا أنه يبقى الملاذ الأخير لها في الأزمات العظيمة. والآلهة العظيمة تُبجَّل لقدرتها الكلية وسلطتها على الحياة (كما في أساطير  الشرق الأدنى والهند القديمين)، وقد يتنازل الإله خالق السماوات عن بعض سلطاته أحياناً لإله آخر له خبرة وتجربة واقعية فيكون رب ظاهرة من ظواهر الكون كالعواصف والأمطار والرعود والبروق، وسلطة ممجدة عند الناس الطيبين.

أساطير المخلصين والقديسين والأبطال ومؤسسي الحضارات: تتناقل بعض المجتمعات أساطير عن شخصيات لم يكن لها يد في خلق العالم، لكنها أكملت بناءه وأحالته إلى وسط ملائم لحياة البشر، أو أنها أبدعت حضارته، أو جلبت إليه الرخاء أو منحته الصحة. ومن هؤلاء ماوي Maui في بولينيزية وبروميثيوس في الأساطير اليونانية وحورس ابن الإله أوزوريس في مصر القديمة. وتكثر كذلك الأساطير التي تتحدث عن المخلص Savior الذي يهتم بخلاص الروح والجسد، ويمنح الأمل بالآخرة والخلاص النهائي حين تنتصر قوى الخير على الشر كما هو الحال في الزرادشتية. ولمؤسسي الديانات أثر مهم في الأساطير الموروثة وأكثرهم أشخاص تاريخيون مثل زرادشت وكونفوشيوس وبوذا وماني وغيرهم. والروايات المتوارثة عن أمثال هؤلاء مملوءة عادة بمعلومات بطولية تحمل الكثير من الملامح الأسطورية مع أنها لا يمكن أن تخرج عن إطار الزمن التاريخي. وقد يقال الشيء نفسه عن كثير من الشخصيات الدينية الأخرى كالقديسين والأولياء الصالحين والكهنة البوذيين والهندوس وغيرهم. وتحتفظ كل الحضارات لذكرى مؤسسيها بشيء من القدسية بل ترفعهم أعلى من مستوى البشر وتحافظ بعناية على تراثهم الذي يشتمل على عناصر كثيرة لها وقع أسطوري، مع أنها تبدو واقعية أو أقرب إلى الواقع، كما يلاحظ من مراجعة نصوص البوذية وتعاليم زرادشت وغيرهما.

أساطير الملوك والنساك والزهاد: لاتوجد أساطير تتحدث عن عبقرية الملوك والحكام إلا في الحضارات التي عرفت نوعاً من الملكية المقدسة، كما هو الحال عند البابليين والآشوريين. وتشير سجلات المعابد عندهم إلى قرابين تقدم لملوكهم، وأناشيد تتحدث عن اتحاد الملك مع الآلهة في «زواج مقدس». وكان ملوك المصريين ينعتون بألقاب إلهية مقدسة، وهي نعوت تدل على ازدواجية منصب الملك الذي هو وسيط بين العالم الإلهي وعالم الإنسان. وهو يمثل كل عالم منهما عند العالم الآخر. والقربان الذي يقدم إلى الملك يكون نفسه تقدمة من الملك إلى الآلهة. وقد ظهرت الأساطير التي تتحدث عن تأثير الملوك في مرحلة متأخرة من تاريخ البشرية، وهي قريبة جداً من أساطير الأبطال مؤسسي الحضارات. ومن أكثر الأساطير إثارة في هذا المجال قصة الاسكندر الأكبر، ومثل ذلك ما يروى عن تمجيد الأباطرة الرومان الذين ادعوا الألوهية. وهناك أساطير كثيرة تراكمت حوادثها حول شخصيات الملوك وأعمالهم حتى صارت أقرب إلى حكايا الجن أو الخرافات مثل أسطورة سيف بن ذي يزن، أو الملك آشوكا في الهند، أو الملك آرثر في إنكلترة. وكذلك القصص التي حكيت عن الامبراطور فريدريك بربروسا ولويس التاسع وشارل الخامس وغيرهم.

أما الروايات التي تروى عن الزهاد والنساك فأقرب إلى قصص البطولة منها إلى الأساطير، ولكن بعضها يتلبس الصفة الأسطورية بخروجه عن المألوف والزمن. وقد يتخذ بعضها طابعاً عالمياً يصلح لكل زمان و مكان كما هو حال القديس فرانسوا في المسيحية.

أساطير التحول: هناك حكايات لا حصر لها تتحدث عن أصل بعض الجمادات أو ممالك الحيوان أو النبات أو النجوم أو غير ذلك من ظواهر الطبيعة، ومعظمها حكايات أو خرافات أكثر منها أساطير. ولكن عدداً غير قليل من الأساطير يتحدث كذلك عن تبدلات طرأت على الأكوان في نهاية الأزمنة البدائية. أو عن طقوس «الابتداء» initiation أو «العبور» passage التي لها صلة بتبدل الكائن البشري أو تحوله.

إن التحول الكوني قد يختص بالعالم الأصلي من دون أن يكون له صلة بالإنسان أو الموت. وأكثر هذه الأساطير متفرع عن أساطير النشأة، وهي تروي أحداثاً نجم عنها تحول في العالم لمصلحة الإنسان كاختراع الزراعة وتدجين الحيوان واستعمال النار. وهناك أساطير أخرى تتحدث عن الانتكاسات في الأزمنة البدائية، ومن ذلك بعض الأساطير التي تنسب عدم استواء الأرض أو تكون الجبال إلى كوارث أو حوادث مؤسفة أو قوى شريرة.

ومن طقوس التحول المتصلة بالأساطير أيضاً طقوس الولادة والأمومة والزواج والوفاة والتعميد والختان، وكلها تبين مدى تأثر الوجود الإنساني بهذه التحولات، فعن طريق الولادة يتحول الجنين إلى شخص ذي كيان، وعندما يبلغ الرشد يصبح عضواً فاعلاً في المجتمع أو محارباً. وفي بعض الحالات يكون التحول أو الانتقال من حال إلى حال كما هو في الأسطورة صعب المنال، فالشامان المكرّس (المؤهل) قادر على تجاوز الاختبارات التي لا يصمد لها الإنسان العادي، وأن يتغلب على عقبات قد تتسبب في موت الآخرين، ويعتقد الشامانيون أنهم يستطيعون العبور من خلال الموت ويهزمونه في طقوس التكريس.

إن ما ذكر من أنماط الأساطير بعيد جداً عن أن يكون شاملاً أو أنه التصنيف الوحيد الممكن. وهناك موضوعات كثيرة أغفلت أو أشير إليها عرضاً كالطوفان وأساطير الطوطمية والأرواح والملائكة الحارسة ومعايير السلوك وغيرها، وكل ذلك مرهون بتعريف الأسطورة وأثره في تحديد أنماطها.

الأسطورة في المجتمع الحديث

طغت في العصور الحديثة محاولات «علمنة» الأسطورة secularization of the myth أي إضفاء الصفة العلمانية عليها، ولكن المشكلة هنا تكمن في تعريف الأسطورة. فإذا كان الرأي أن الأسطورة ليست سوى نتاج ماض ولَّى وانتهى، فسوف يصطدم هذا الرأي بعقبة تحديد اللحظة الأخيرة التي انتهت فيها الأسطورة، وسيكون من المستحيل معرفة متى تحول موضوع أسطوري إلى مجرد موضوع أدبي أو متى توقف إنتاج الأساطير أصلاً. ولعله من الأجدى التفكير بأن الرموز والشعائر والأساطير كلها قابلة للتحويل والتغيير بمرور الزمن، وأن العلمنة ليست إجراء غير قابل للنقض، أو أنها تحدث مرة واحدة تاركة الأساطير خلواً من أي مغزى ديني، بل العلمنة إجراء كثير التكرار، وإن تناوب العلمنة والأسطرة mythification أو الترميز symbolization معلم مميز من معالم التاريخ في كل مراحله. وإذا كان الأدب الملحمي مثال على علمنة الأسطورة، فهو نفسه قد يقوم مقام الأسطورة في بعض وظائفها.

اكتست العلمنة في العصور الحديثة حلة جديدة شديدة التعقيد فرضتها حقائق كثيرة. إذ تمخضت الكشوفات العلمية، وخاصة الفلكية في أواخر العصور الوسطى وعصر النهضة عن تجدد الثقة بقوانين الطبيعة والكون، والاعتقاد المجرد بالإله، وفتحت الروايات الأوهيميرية، التي كانت مظهراً من مظاهر العلمنة، المجال واسعاً لظهور الكتابات التاريخية التي تركزت على الحقائق النفسية والاجتماعية والاقتصادية، كما تعارضت النزعة الطبيعية في الفلسفة مع عالم السماوات وما وراء الطبيعة الذي بنت عليه الثقافات السابقة معارفها، ولم يكن كل ذلك إلا جزءاً يسيراً من الحقائق التي أدت إلى علمنة العناصر الأسطورية في العصر الحديث. وكان أكثر التوجهات شيوعاً عدّ الشخصيات والحوادث التي اشتملت عليها الروايات الأسطورية غير حقيقية، أو أنها ليست على شيء من القدسية. ومع ذلك فقد ظلت الصفة الأسطورية غالبة على الكثير من المظاهر السائدة في المجتمعات الحديثة، مع عدم وجود اتفاق عام حولها. ومن الصعب اليوم تعريف الأساطير التي تؤثر في مجتمع ما في الوقت الحاضر، مع أن أساطير المراحل القديمة والسابقة سهلة التمييز. وليس ذلك بالمستغرب، فقوة الأسطورة تكمن في حضورها لا بإثبات وجودها، ولا تتعرض سلطتها للنقاش وتصبح موضع استفهام إلا إذا تغلبت عليها أسطورة أخرى أشد نفوذاً منها.

 وهنا يجب تمييز مصطلح العلمنة من مصطلح نزع الصفة الأسطورية demythologization. وإذا كان من المسلم به أن تمر كل أسطورة في مرحلة من مراحل العلمنة وتتكيف مع المجتمع الذي تسود فيه، فإن نزع الصفة الأسطورية مصطلح حديث ابتكره عالم اللاهوت الألماني رودلف بولتمن Rudolf Bultmann وعنى به الجهود التي بذلت وتبذل لتخليص الموروثات الدينية من الرواسب الأسطورية، وهي جهود واعية لها علاقة مباشرة بالحوار اللاهوتي والديني في مسيحية القرن العشرين وفي الديانات الأخرى. وقد استعمل عالم الانتروبولوجية البريطاني تايلور من القرن التاسع عشر كلمة «الباقيات» survivals للإشارة إلى ما بقي حياً من عادات ومعتقدات خلفتها المجتمعات القديمة التي كانت تدرك معناها ومغزاها. وقد أصبح هذا المصطلح يدل على أمور لا يستسيغها المجتمع الحاضر ويعدها من مخلفات الماضي الذي زال وانتهى. وثمة رواسب كثيرة مصدرها الأساطير القديمة كالبحث عن الفردوس المفقود والتَطَيُّر وحمل الأيقونات والتمائم وغيرها.

وعلى كل حال فإن الصيغ الأسطورية المقبولة عموماً في المجتمعات الحديثة لا تشتمل على كل عناصر المجتمع أو تلبي احتياجاته كافة، ولا يوجد مجتمع حديث واحد متجانس الأساطير، إذ تسود هذه المجتمعات عناصر أسطورية مستعارة من موروثات أعيد إحياؤها أو من مصادر أخرى. وهي تنفي الرمزية الكونية التي طبعت بطابعها التراث القديم كله، وتختلف توجهاتها الثقافية حيال العالم والكون. وتوفر المنجزات العلميةُ الحديثةُ المادة المناسبةَ للنهوض بأدب جديد يشبه الأساطير تحت غطاء الأخرويات هو أدب الخيال العلمي [ر].

وقد لوحظ في البلاد الغربية التي خبرت حركات العلمنة أن السياسة تقوم اليوم بدور الدين أو الأسطورة في الأزمنة السالفة، ولايعني هذا أن الأسطورة لم تكن سياسية أو اجتماعية في يوم من الأيام، فقد كانت الأسطورة تستعمل في كل الأزمان لمؤازرة الوحدة السياسية في مستوى العشيرة والقرية وفي مستوى الأمة على حد سواء، ولكن الناس في الوقت الحاضر تشغلهم العقائد الاجتماعية والسياسية وتأثيرها في المجتمع، وقد بذلت محاولات واعية للاستفادة من الأسطورة في أغراض السياسة والمجتمع، وأقرب مثال على ذلك محاولات النازية إحياء الأسطورة الجرمانية. كما أن الكثير من المصطلحات السياسية والاجتماعية المتداولة اليوم يحمل في طياته سمات أسطورية لها تاريخ فلسفي معقد كالحرية والمساواة والديمقراطية وغيرها، وهي كثيراً ما توظف لغايات تقارب ما تهدف إليه الأسطورة وتمارسه من تأثير.

محمد وليد الجلاد

 

الموضوعات ذات الصلة

 

الاجتماع (علم ـ) ـ الإنتروبولوجية ـ البنيوية ـ العقيدة (إيديولوجية) ـ اللسانيات.

 

مراجع للاستزادة

 

ـ مرسيا إلياد، مظاهر الأسطورة، ترجمة نهاد خياطة (دار كنعان للدراسات والنشر، بيروت 1991).

ـ ك.ك رانفين، الأسطورة، ترجمة جعفر صادق الخليلي (دار عويدات، بيروت 1981).

ـ إديت هاملتون، الميثولوجية، ترجمة حنا عبود (اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1990).       

ـ جيمس فريزير، أساطير في أصل النار، ترجمة يوسف شلب الشام (دار العلم، دمشق 1988).

ـ  نورثروب فراي، الماهية والخرافة، دراسات في الميثولوجية الشعرية، ترجمة هيفاء هاشم (وزارة الثقافة، دمشق 1992).

 - Roland Barthes, Mythologies, trans. A. Lavers, (New York. Hill and Wang 1972
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 16:56|
 دراسة ادبیة :* حول الشهید فی الأدب العربی.* ابتسام اغفیر.
إننا عندما نتحدث عن الشهید نلج إلی عوالم الجنة والفردوس العظیم ،فنرى الرایات هناك ترفرف خفاقة عالیة فی سماء ذلك الفردوس مضرجة بدماء الشهداء ،وتفوح منها ریاحین المسك والعنبر ،تلوح فی الأفق لتعلن لنا نحن الأحیاء بان الشهداء هم أیضا إحیاء لا یموتون.
* (( حدیث مترامی الأطراف ))
إن الحدیث عن الشهداء فی الأدب العربی حدیث مترامی الأطراف متباعدها ،یحتاج إلی جهد اطلاعی ومقرئ لاشعار وقصائد وقصص وروایات ...وغیرها من ألوان الأدب لنستطیع بعد ذلك لملمت شتات ذلك الكل المبعثر ،فبالبحث والذی حاولت إن یكون دؤوب لاحظت إن مكتبتنا ولنقل اللیبیة تفتقر إلى هذا النوع من الدراسات ، لذلك واجهت صعوبات لابأس بها عند القیام بهذه الدراسة التی أحاول من خلالها عرض مجهود أدبی مبسط یعرض لإسهامات وإبداعات أدباء مخضرمین اوهم غیر ذلك فی هذا المجال ، كما إننی ابذل قصارى جهدی فی إیصال الحلقات التاریخیة ببعضها والتی قد تكون منفصلة ، ولتكن البدایة بالشهید اسماً ولفظاً (( أنه ذلك الإنسان الذی قتل فی سبیل الله ، وسمی كذلك لان ملائكة الرحمة تشهده ، ولانه حی عند ربه حاضره)).
* (( أین الشهید)).
ومن هذا القول التعریفی للشهید نستدرك أن الشهید عرف بهذا المفهوم ،وعلا شأنه ،وارتقت مكانته فی عصر الإسلام وما بعده ونستشهد علی ذلك بقول الله العزیز الحكیم فی كتابه الكریم (( ولاتحسبن الذین قتلوا فی سبیل الله أمواتا بل أحیاء عند ربهم یرزقون )) سورة آل عمران ، وفی الحدیث الشریف عن ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ انه سئل عن قوله تعالى (( ولاتحسبن الذین قتلوا فی سبیل الله أمواتا بل أحیاء عند ربهم یرزقون ..)).فقال:ـ إما قد سألنا عن ذلك ، فاخبرنا إن أرواحهم فی طیر خضر ، تسرح فی الجنة حیث شاءت وتأوی إلی قنادیل معلقة بالعرش ، فاطلع إلیهم ربك اطلاعه ، فقال:ـ هل تستزیدون شیئیا فازیدكم ؟قالوا :ربنا ،وما نستزید ونحن نسرح فی الجنة حیث شئنا؟ ثم اطلع إلیهم الثانیة ، فقال: هل تستزیدون شیئاً فازیدكم ؟ فلما رأوا انهم لم یتركوا ،قالوا : تعید إلینا أرواحنا، حتى نرجع إلى الدنیا ، فنقتل فی سبیلك مرة أخرى)). حدیث حسن صحیح رواه الترمذى.
* (( الشهید فی الأدب العربی ))
لقد كرم الله الشهداء فجعلهم أحیاء عنده یرزقون ، وخّبر الرسول علیه الصلاة والسلام عن حالهم فی جنات الفردوس العظیم ، فبماذا نمجدهم نحن البشر الضئیلین المتواجدین فی دار الباطل وهم فی دار الحق مقیمین ؟ هل یكون غیر الأشعار التی تنظم ، والأقاصیص التی تحكى والروایات التی تروى ، والمقالات التی تنشر فی الصحف ، تحكى عن انتصاراتهم، وتروى بطولاتهم، وتصف صور استشهادهم ؟
فماذا عن الشهید وحقه فی الأدب العربی علی طول رحلته النضالیة تلك التی لم تنتهی ، وانّ لها أن تنتهی مادامت الأرض تستقبل الشهداء من فلسطین تلك البقعة المقدسة فی كل لحظة، وفی كل ثانیة ، إن الملهمة لم تنتهی فكیف یتوقف الإلهام .؟
ولنبداء بتلك الحقبة الزمنیة حقبة ما قبل الإسلام ,ولنقل الشهید ماذا كتب عنه فی عصر ما قبل الإسلام ، ؟هل كان یدعى الشهید ؟ أم كان یدعی القتیل ، الفقید ،الموتور؟
* (( مرثیتی الخنساء والمهلهل ))
لنجیب بالطبع لم یكن الشهید ولم ترد فی قصائد الرثاء التی قیلت ونظمت فی القتلى آنذاك كلمة الشهید، وانما جاء الرثاء حاراً بالغ الأثر والتأثیر ،فیستشعر القارئ وهو یقف أمام النص الشعری انه یعایش الحالة التی یقرأ عنها ،ومن اعظم تلك المرثیات وابلغها أثراً ــ تلك التی شهدها عصر ما قبل الإسلام ــ هی مرثیة الخنساء لأخیها صخراً ، ومرثیة المهلهل ابن ربیعه لأخیه كلیب , فكان من مرثیة الخنساء هذه الأبیات :
* قذى بعینیك أم بالعین عوار... أم أقفرت إذ خلت من أهلها الدار
* كأن عینی لذكراه إذا خطرت ... فیض یسیل علی الخدین مدرارا.
ومن جید شعرها أیضا :
* أعینی جودا ولاتجمدا ... ألا تبكیان لصخر الندى.
أیضا من رثائها:
* إذا قبح البكاء على قتیل... رأیت بكاءك الحسن الجمیلا.
ومن بدیع قولها كذلك:
* یذكرنی طلوع الشمس صخراً...واذكره لكل غروب شمس.
ومن رثاء المهلهل لأخیه كلیب شعر یقول فی مطلعة:
* اهاج قذاء عینی ألا دكار... هدوءاً فالدموع لها انهمار
* وصار اللیل مشتملاً علینا..... كأن اللیل لیس له نهار.
وتجود قریحة شاعرنا الذی أصابته الفجیعة فی أعماق قلبه بأبیات شعریة بدیعة التنسیق والتمازج لیقول محدثاً أخاه:
* دعوتك یا كلیب فلم تجبنی ...وكیف یجیب البلد القفار.
* أجبنی یا كلیب خلاك ذم... لقد فجعت بفارسها نزار.
لیكون ختام قصیدته بأبیات بمثابة عهد قطعه على نفسه للانتقام:ـ
* خذ العهد الأكید على عمری ... بتركی كل ما حوت الدیار.
* ولست بخالع درعی وسیفی ... إلی أن یخلع اللیل النهار.
* (( انطفأت أقلام الشعراء ))
غیر أن ذلك لا یعدو كونه رثاء یعتنقه بعض الشعراء وتطوقه الخصوصیة التی هی شعور الأخ نحو أخیه وما أكثرها عند عرب الجاهلیة ،ولیأتی عصر الإسلام الذی عظم الشهادة والشهداء مدعماً هذه المكانة بالآیات القرآنیة والأحادیث النبویة , ومع هذه المعجزة اللغویة الكبرى ـ معجزة القرآن الكریم ـ انطفأت أقلام الشعراء ، وخمدت قریحتهم ، لان هذه المعجزة هزتهم وشغلتهم كثیراً ،كما أن القرآن أمر بالإقلاع عن الأغراض الشعریة التی كان لها مكانة مرموقة فی الجاهلیة كالهجاء والغزل والرثاء والمدح والاقتصاد فیها، مما سبب ذلك فی خمود حركة الأدب بوجه عام على الرغم من حركات الجهاد التی شهدتها تلك الحقبة الزمنیة من فتوحات إسلامیة فی مختلف مناحی الكرة الأرضیة ، لننتقل بعد ذلك إلی حقبة العصریین الأموی والعباسی والتی بدأت الحركة الأدبیة الشعریة ــ خلالهما ـ تدب فی جسد الشعر لیعاود حیاته التی كان یفخر بها فی فترة ما قبل الإسلام فاقتصر الشعر وانتشر على نطاق المدح للملوك لنیل عطاءیهم ، والغزل الصریح والهجاء وما إلی ذلك من ألوان هذه الأشعار ومن الملاحظ إن هذه العصور لم تظهر فیه ملامح القصة والروایة ،بل انتشرت فیها الرسائل والمقامات والخطب الشفهیة والمكتوبة وبعض الكتابات التی تصف النوادر والطرائف التی انتشرت فی تلك الحقبات الزمنیة المتتابعة.
* (( إشعال نار الحماسة ))
إن الشهید لم یذكر اسمه صریحاً جلیاً وتحدثت عنه القصص والأشعار و الروایات ألا فی العهد الحدیث بعد اندلاع الحروب فی الوطن العربی ،والقیام بالثورات ، وتمرد الجماهیر الكادحة على مستعمری أراضیها ،فعظمت التضحیات بالدماء والأرواح فی سبیل الله والوطن ، وللحفاظ على العرض والشرف ،فلم یلقى الأدباء بدءً من المشاركة فی هذه الثورات والتضحیات ،إلا عن طریق إشعال نار الحماسة المتأججة فی صدور الثوار وتخلید الشهداء وسرد بطولاتهم لتكون خالدة عبر الزمن وتحفیزاً ورفعاً لهمم الأحیاء الثائرین فكان الأدب العربی ثرى وثری جداً بكتاباته عن الشهداء، الذین استعمروا طویلا ،وشردوا طویلاً،وسلبت منهم الأرض والعرض فكان لابد للثائر العربی من الدفاع عن وطنه ،فزخرت البلاد العربیة بالشهداء وزخر معها أدبها فنظمت الأشعار وصیغت الأقاصیص وحیكت الروایات ،فجاء أدبا ثوریاً متمازجاً ومتكاملاً فی إعطاء الشهداء حقهم من الذكر والتمجید.
* (( الشهداء ومكتبة الأدب العربی )).
لقد أثرى الشهداء مكتبة الأدب العربی من المحیط إلی الخلیج .نعم لقد كثرت التضحیات وكثرت معها الملاحم الأدبیة التی تعتز بالشهداء وتفخر بشعب آبی حارب الظلم ولازال یحارب.
ولعلنا ونحن هنا نحاول تفتیت وتحلیل الأدب العربی لكی نقف على نسیجه الفنی و معطیاته الإنسانیة عند تناوله للشهید ، نبحث فی أكوام من الاتساقات الفنیة التی یحاكى بها الأدیب العربی اللحظات الحساسة والتی تحدث التماس بین عوالمه الداخلیة التی تتحطم فی أطرها ماهیات الزمان والمكان وبین الواقع الخارج فی حدوده الموضوعیة ، إن لكل كلمة قیلت فی الشهید فی الأدب العربی لوناً وطعماً ورائحةً اكتسبهاـ عن وعى أو غیر وعی ـ من الأدیب العربی أثناء عملیة الإبداع وما هذا إلا خلیطاً من الاحساسات والتجارب الإنسانیة .
* (( إلیك هناك حیث تموت ))
ترى هل یستطیع أدیب ما أن یكتب عن معاناة لم یعشها أو یشعر بها لا أظن ذلك فكل أدیب هو إنسان عاش ماسأته وماسأة شعبه ولكنه یعبرعن هذه الماسأة وانجراحاته بها بوسائل تضفی علی المعانی ظلال وإیحاءات ،فیرسم بصور من خیال تعابیره واحساساته الحقیقیة , ومن ذلك ما نستفتح به دراساتنا هذه بقصیدة للشاعر الفلسطینی سمیح القاسم بعنوان (( إلیك هناك حیث تموت)) من دیوانه(( دمى على كتفی)).:
رسالتك التی اجتازت إلی اللیل والأسلاك
رسالتك التی حطت على بابی ..جناح ملاك.
أتعلم؟
حین فضتها یدای تنفضت أشواك.
على وجهی ..وفى قلبی..
أخی الغالی .
إلیك هناك .. حیث تموت.
كزنبقة بلا جذور.
كنهر ضیع المنبع.
كأغنیة بلا مطلع كعاصفة بلا عمر.
إلیك هناك حیث تموت كالشمس الخریفیة .
بأكفان حریریة.
إلیك هناك..یا جرحی و یا عاری.
یا ساكب ماء الوجه فی ناری.
إلیك من قلبی المقاوم جائعاً عاری.
تحیاتی وأشواقی.
ولعنة بیتك الباقی .
على الرغم من أن شاعرنا لم یذكر بصریح العبارة الشهادة ولكنه بنبرة خطابیة تعبیریة غیر مباشرة ، وفی حواره الدرامی ذاك یبین لنا إن هذه الأبیات التشبیهیة هی دعوة تحمل فی طیاتها اعمق سمات الصمود والتصدى والإكبار لأخ قابع هناك فی الأرض المحتلة .
* (( الأدب الفلسطینی ))
ویأخذنا بحر السطور لنجد أنفسنا فی مركب نسیر به نحو الأدب العربی الفلسطینی الذی ماكان لینشأ بهذه القوة لولا الاحتلال الصهیونی لفلسطین وقیامه بالمذابح والمقابر لابناء ذلك الصمود الآبی ،لنلتقی بالأدیب المناضل، الأدیب الشهید الذی یقدم رثاء لنفسه قبل أن یموت ، فهل كان یدرى شیئاً عن قدوم موته أم انه كان یعقل أن لامفر من موت مع وحوش غازیة ضاریة جائعة ومتعطشة للدماء العربیة ؟ ، انه كمال ناصر أحد الأدباء الفلسطینیین الذین سقطوا شهداء فی ساحة الورق والقلم ، فصار دمه حبراً ، وجسده ورقاً ، ومقتله إلهامًا، ففی دیوانه (( جراح تغنی )) خاطب أمه قائلاً:ـ بأنه سوف یعانق المنون ذات یوم وانه لامفر من هذا العناق مادام فی سبیل الوطن، فمرحباً به ، فنراه یعزیها ویصبرها ، فیقول :ـ
لاتطرقی ...!
فان جراح الحیاة بصدری.
تعذب صدری .
وان نداء القدر
یلون بالثأر عمری.
ویقذفنی للخطر
ویحیا على خاطری فی عذاب
وینسجنى فی الركاب
فامشى إلی مصرعی
ویمشى آبائی معی.
وتمشى بدربی جراح الشباب.
مصیری ..مصیرك بین الحراب .
وهذا الذهاب؟؟!
ثم ینتقل لیصف حالة مصرعه واستشهاده ، ذلك الثوری المناضل العاشق دوماً لارضه حتى استشهد لاجلها ..إذ انه یقول فی دیوانه السابق:ـ
إلى الذین برعموا فی مقلة الجراح .
واورقوا على رؤى النضال والكفاح.
وصلبوا مصیرهم فی خاطر السلاح.
واستشهدوا ،لیولدوا فی ثورة الصباح.
* ((شیخ الشهداء ))
ولنا بعد ذلك أن نختار أروع ما قاله احمد شوقی اشهر شعراء العربیة فی العصر الحدیث و أقدرهم على التصورات فی قصیدته المشهورة عن شیخ الشهداء عمر المختار والتی یقول فیها:ـ
یا أیها الشعب القریب آسامــع ... فأصوغ فی عمر الشهید رثاء.
أم ألجمت فاك الخطوب وحرقت ... أذنیك حیث تخاطب الإصغـاء.
ذهب الزعیم وأنت باق خالد ... فأنقذ رجالك واختر الزعماء.
أرح شیوخك فی تكالیف الوغى... واحمل على فتیانك الأعباء.
ها نحن نتحد فی الشعور والشعر كعرب فشهیدنا فی لیبیا یرثیه شاعر فی مصر بأروع المرثیات أرسخها فی عقول الناس التی ما انفكت ترددها كلما تر آت لها صورة الشهید عمر المختار ، انه بحبكة درامیة اقرب إلى الحواریة یخاطب الشعوب الحرة الأبیة بأنها یجب أن تنهض بأعباء رسالة الجهاد والاستشهاد بعد ان استشهد قائد هم ویجب على الشباب بعد ذلك أن یكون لهم هذا العلم عبرة.
* (( وامتدت الأرض حتى الجنوب ))
حین یزدان صدرك بالملصقات .
ویصبو إلی جرحك الماء طفلاً.
أخر أزهارك الشهداء
إلی القلب ..حقلاً.
ستكتب:
كان الذی سقط الیوم أصغرهم
ویخرج هذا النهار إلیك.
هذه القصیدة بعنوان الشهداء طالعنا بها الشاعر العربی إبراهیم نصر الله فی دیوانه المعنوّن ب(( وامتدت الأرض حتى الجنوب))، انه الوطن یحكى للعالم عن استشهاد أبناءه لاجله وان الذی سقط الیوم هو ، أصغرهم ،و أجملهم ،وأولهم ،ولكنك یاوطنى لذلك تبتسم سعید بحب أبناءك ، حزین لاجل فقدك لهم ،ولكن هم یحبونك وتحبهم، وهذا واجبهم نحو الأرض الحنون.
* (( من الشعر إلى القصة ))
إن اكثر نتاج العرب فی مجال الأدب كان الشعر فإذا ما رجعنا إلى تراثنا العربی القدیم نفتش فیه عن أرقی الآداب و أكثرها أصالة والتصاقاً بالناس نجده بالطبع الشعر، غیر انه وفی الفترة الأخیرة طغى الحر على الحیاة الحدیثة ما ذلك إلا نتاج الطبیعة الإنسانیة التی صارت تبحث عن أطراف التجربة التی تلقى الضوء على موقعها ، وبذلك صار الشعر ـ الشعر الحر ـ لایمكن أداءه بذلك القالب القدیم الذی تحكمه القافیة والتوازن فی الكلمات ، واستعمال الكلمات صعبة الفهم والتی تحتاج العودة للقوامیس والمعاجم التی تخص اللغة العربیة .. وعلیه فان هذا اللون من الشعر یطلق سراح الشعراء لتعبر قریحتهم عن تجاربهم المریرة بعیداً عن الموسیقى التقلیدیة للشعر.
* ((عائد إلى حیفا )).
ومن قالب الشعر ننتقل لنرى مكانة الشهید فی الأدب القصصی ..لتكون بدایتنا مع قصة (( عائد إلی حیفا)) للكاتب غسان كنفانی.. تلك القصة إلی یحدثنا فیها عن ماسأة شعب عانا من نیر الاستعمار والاحتلال الصهیونی.. قصة أب وأم تركا طفلهما لیس عن قصد ولكن بدافع الحرب والاحتلال المفاجئ لوطنهما..لقد دفعهم الجیش الغازی، و بحر الناس الذی غمرهما إلى الابتعاد عن المنزل الذی تركا فیه طفلهما فها هو یحدثنا ویصف لنا حالهما(( فمضت تشق طریقها بكل مافی ذراعیها من قوة وسط الغاب الذی كان یسد فی وجهها طریق العودة ، محاولة فی الوقت نفسه أن تضیع سعید ، الذی اخذ ـ دون ان یعی ــ ینادی صفیة تارة ، وینادی خلدون تارة أخرى)) .
ثم یسترسل الكاتب لیخبرنا عن عودة الأهل أی الوالدین بعد عشرین عاماً للبحث عن ولدهما المفقود لیجدا أن طفلهما قد تهود واصبح ضابط ببزته العسكریة فی الصفوف الیهودیة، فیعودا بخیبة أمل اكبر من سابقتها ،لتتداخل الأحداث والوقائع داخل وحدة نسیج القصة لنصل فی منتصف القصة ونقرأ (( وفی السادس من نیسان عام 1948 ف جئ ببدر إلى الدار محمولاً على أكتاف رفاقه كان مسدسه مازال فی وسطه أما بندقیته فقد تمزقت مع جسده بقذیفة تلقاها وهو على طریق تل الریش ،وشیعت العجمی جثمان بدر كما یتوجب على الرفاق أن یشیعوا الشهید)).
رغم أن كاتب القصة غسان كنفانی لم یذكر فی بدایة قصته شیئاً عن الشهادة والشهداء ألا إن هذه الفقرة كانت بمثابة رؤیة كاملة وموحدة لحال الفدائیین بفلسطین فی تلك الفترة وانه بسقوط هذا الشهید لم تنتهى أحداث القصة وانما استمرت فی سرد أحداثها التی تتسم بالمرارة ، وان فلسطین مازالت تستقبل الشهداء مادام الیهود على أرضها جاثمون.
* (( الرافضون یموتون وقوفا ))
وفی المجموعة القصصیة 14 قصة من مدینتی للكاتب والأدیب اللیبی كامل المقهور نختار(( قصة الرافضون یموتون وقوفاً)) . و یتحدث لنا كامل المقهور عن بطل قصته وشهیدها بأنه إنسان بسیط ملیئاً بالأمل والطموح یخطط للمستقبل بعین الشباب التی تحمل كل جمیل إلی إن جاء الغزو الإیطالی الفاشیست وحطم تلك الأحلام والآمال ..وبدافع حب الوطن یسقط عاشور بطل القصة شهیداً (( وكان ذلك فی أخر النهار والشمس تقطر بالدم ، وعاشور واقف فی أول الطابور وصدره للجنود ..وكان الضابط ینظر إلیه من فتحة خیمته و فی عینیه تشفّ وخوف ،والترجمان مختبئ وراء الخیمة وظله یرتعش على التراب ..وعندما انطلق الرصاص انكفأ وجه عاشور على الأرض وغاصت جبهته السمراء فی الأرض وصاحت مریم صیحة جریحة )).
لقد اتخذ صاحب القصة ، بطل القصة عاشور كرمز لعدید المناضلین والشهداء فی فترة الاحتلال الفاشستی آنذاك ،وان كل لیبی فی تلك الفترة إنما كان عاشور الرمز.
* ((بطولة شعب )).
إننا حین نسترسل فی الكتابة عن الشهید قد لانجد كتاباً تسعنا فصوله ، فأدبنا العربی ثری وزاخر فی أزمنته الأخیرة بالكتابة عن الشهید .. وكل الوطن العربی من محیطه إلی خلیجه كانت هذه الأحداث ملهمة أدبائه وكتّابه ..ففی قصة (( بطولة شعب)) لمحمود احمد النجار ومحمد رجب البیومى نقراء (( إن هذه القصة تتناول بالتصویر أحداث فترة من فترات هذا الكفاح العربی فی مصر للتخلص من قوى البغی : مظالم الممالیك واستعمار الأتراك ، واحتلال الفرنسیین ..إنها فی حقیقتها تصویر لمظالم مستعمرین وبطولة شعب لقی من عنت الممالیك والأتراك ، فقاوم ذلك بما طبع علیه من فطرة نقیة تنفر من الظلم وتقاومه ، ثم داهمه الاحتلال الفرنسی ، فكانت مقاومته لهذا الاحتلال عنیفة بقدر ماكان فی هذا الاحتلال من عنف ، مقاومة شملت الشعب من أقصاه إلى أقصاه على اختلاف طبقاته وجماعاته، فی كل قریة ومدینة ، فی كل حقل وشارع ، لقد كانت حرباً شاملة دلّت على مافی الشعب من روح أصیلة ، أفزعت المستعمر فلم یستقر به المقام طویلاً حتى حمل عصاه على كاهله ورحل.. إنها قصة تعتمد على وقائع ثابتة، مصدرها المراجع التاریخیة لهذه الفترة ،إنها صفحة فی تاریخ شعب حر،یكللها النصر،ویضیء جوانبها أصالة وعزة ومجد..)) لنقرأ ایضاً فی ختام القصة ..ما حدث به كاتباها عن الشهداء بالقول (( ولم یشأ خلیل إن یذهب إلی بیته قبل إن یتجه خاشعاً دامعاً إلی ضریح (عبد الستار) ..فوجده ینهض تحت شجرة جمیز تظلله بفروعها الممتدة ، وقد تناثرت علیها جماعات العصافیر تؤلف جوقة صادحة ترسل أعذب النغمات فقرأ الفاتحة مع القارئین وهو ینظر إلی الضریح فی إجلال ،ثم ألقى بسمعه إلی قروی یتمتع بروح الشاعر یقول فی تأكید : انظروا یا قوم إلی أعلى الشجرة -لیست هذه عصافیر تتناغم ولكنها أرواح الشهداء تحی روح (عبد الستار) )).
* (( الفدائیین الشباب )).
ومن أمثلة هذه القصص الثوریة كثیرة فی الأدب العربی ومنها قصة الفجر فی عیون الشهداء للمؤلف فوزی طاهر البشتى ، التی تتناول فی عرض قصصی قصیر أحداث نضال الفدائیین الشباب فی ساحات الوغى ضد الاحتلال الإیطالی.
* (( أبواب الموت السبعة ))
((غابت الشمس عن المكان ، غادرت إلی الشواطئ البعیدة حتى غطى جناح الظلام كل الزوایا، وصمتت الریح ثم تسللت إلی البعید عبر البحر الذی یهدر هناك على بعد كیلو متر من المعتقل الكبیر الشائك فی المقرون ، وصمت مهیب ولیل مبهم لا شئ سوی الأنین ، والاه العالیة ، هنا ..وهناك..وهنالك وأخبار تتری عن نهایة المقاومة فی الجبل الأخضر ، وصور إعدام عمر المختار معلقة فی كل مكان وبیانات عن انتصارات عسكریة لجیش أطلق العنان لشهوة القتل والتنكیل وإشباع رغبة رجل دموی یدعى غرسیانى )).
هذه المقتطفة من روایة أبواب الموت السبعة للقاص عبد الرسول العریبى وهى روایة تتحدث عن حالة الشعب العربی اللیبی أبان الاحتلال الإیطالی الفاسشتى وما تعرض له من تنكیل وتعذیب واستشهاد فی ظل أبواب الموت السبعة التی انفتحت علیه من شنق وقتل بالرصاص والمعتقلات والنفى إلی الأوطان المجهولة ، والجوع ، والجلد والظمأ ،فهل من قتل بألوان الموت تلك یعتبر شهید؟ ولما لا مادام العدو هو الذی فعل ذلك ! ومادام ذلك جهاداً فی سبیل الله والوطن.
* (( حتى فی الصحراء))

حتى فی الصحراء البعیدة الشاسعة ، وصل الاحتلال وواجهة أهلها بجسارة ،وقاوم ثائریه بشجاعة، واستشهد الكثیر من الثوار فی معارك المقاومة فكان الذی وصف فابدع ،وسرد فاتقن ، الكاتب الصحراوی و المبدع القصصی إبراهیم الكونی فی روایته الرباعیة(( الخسوف ))، إذ انه تناول فی جزئها الأول المعنوّن ((بالبئر)) بعد وصفه لحال الحرب والمعركة الضاریة الغیر متكافئة بین الفریقین الفرنسیین أهل الصحراء اللیبیین یخبرنا عن حال الشیخ غوما بطل روایته وقائد المعارك الصحراویة ((واستیقظ الشیخ غوما عند الفجر ، توضأ وصلى وانطلق إلی مقبرة الشهداء عند سفح الجبل الشمالی ، وقف أمام قبر الشیخ جبور طویلاً ثم جثا على ركبتیه وقرأ الفاتحة بصوت مسموع ، مكث هناك یسبح ویتمتم بآیات القرآن حتى ارتفعت الشمس ، كان یحجبها جبل الشمال ولكن أشعتها بدأت تداعب قمم جبال الجنوب.))
(( أحلام مستغانمی ))
هكذا هی منزلة الشهید فی الأدب العربی فی الأشعار القصص والروایات وما تحدثنا عنه هو غیض من فیض مما احتواه الأدب العربی من ملاحم تمجیدیة عن الشهید .
ولا ننسى ونحن نتناول الشهید هنا إن نذكر الشهید فی الجزائر فی ثورة الملیون شهید ، ونظراً لان مكتبتنا تفتقر إلی الإبداعات الجزائریة ، غیر إن اشهر ما كتب فی هذا المجال ــ وهو كلام منقول عن مصدر حی من الجزائر ــ كتابات أحلام مستغانمی فی روایتها ذاكرة الجسد ،حیث تحدثت هذه الروایة باستفاضة عن الجهاد الجزائری والشهداء الذین سقطوا فی ساحات معارك ذلك الجهاد ،أیضاً مجموعة قصصیة للطاهر وطار الروائی الجزائری معنوّنة (( الشهداء یعودون هذا الأسبوع)).
* (( جمیلة بوحیرد))
ولاتغیب عن ذاكرتنا فی هذه السطور المجاهدة جمیلة بوحیرد تلك المرأة التی ذاقت من ألوان التنكیل والعذاب مالم تذقه امرأة فی العالم وما ذلك إلا بإیعاز من ضمیرها فی سبیل وطنها.
* خلاصة.
ولنا إن نختم دراستنا هذه بالقول :ـ أن الأشیاء التی تسترعى الانتباه فی مختلف الصور الأدبیة التی تم عرضها هی إن الألفاظ والمعانی من الصور الأدبیة الفنیة الحزینة تصرخ بالمعنى المقصود ، وتتضح فی النبرات الخطابیة لمختلف النصوص الأدبیة الدرامیة .
أستطیع القول فی هذا المضمار إن أدبائنا وشعرائنا وكتّابنا وفقوا توفیقاً كبیراً فی اختیار هذه الصور التی یتصارع فیها الأمل مع الموت لیكبر الأمل وینبت أغنیة ترسلها أوتار قیثار الحیاة.
إن كل أدیب كتب عن ماسأته أو عبر عن ماسأة شعبه إنما كان یعمق ظلال الصور الفنیة الأدبیة فی نفوس وضمائر المتلقین باستخدام التعابیر التی تصور الحزن بأخیلة بالغة التأثیر والأثر.
إنما الشهید هو شئ أصیل فی تراثنا العربی القدیم وأكثره فی الحدیث ویعتبر رافداً مهماً من روافد الهام الأدباء والكتّاب والشعراء ، ولكن وجب علینا فتح عقولنا الثقافیة والفنیة ،وندعو للثورة فی فلسطین تلك الأرض المحتلة التی مازالت تستقبل أرضها یومیاً عشرات الشهداء ، الذین اثرّوا واثروا فی أفئدة الأدباء فكانت القصائد والقصص والروایات عن كل شهید ، صغیر وكبیر فى فلسطین ،ومنها ما قیل فی محمد جمال الدّرة ، ذلك الشهید الذی قتل خلف أباه فكانت النصوص الأدبیة فی تلك الفترة زاخرة بالعطاءات حوله ..وممن كتب حول ذلك الشاعر راشد الزبیر فی قصیدته (( مات الولد)):ـ
هذا الذی عشق الكرامة فاستعز به البلد.
هذا الذی كبرت به الآمال وانتفض الجسد.
وهوى علی ظهر الثرى مثل الشعاع قد اتقد.
من اجل إن یبقى لنا الأقصى وتؤنسنا صفد.
مات الولد
یایها الصقر المسافر كالشهاب وما ابتعـــــد.
افرد جناحی حائم انف السلاسل والوتـــــد.
واعصب جراحك إن من یرجو الشهادة قد حصد.
فاللیل مجبول على غدر وفجرك ماشـــــرد.
إن ماتم عرضه من نصوص أدبیة لا تعدو كونها حبة خردل فی فضاء فسیح من تلك النصوص التی نسجت على هذا المنوال ،و أن كل النبرات الخطابیة تتواءم وتتوافق فی العرض، ولنا إن یقول فی هذا المجال إن كل الأصوات تتشابه عندما تجابه بالقمع والاضطهاد، فما بالك بالقمع والجور والاستشهاد.
إن أدبائنا كتبوا فأبدعوا ،وسردوا فأتقنوا، وقولنا هذا لیس تشدقاً بأمجاد غابرة ، أو كما قالت : ـــــــ إحدى الكاتبات العربیات عندما ترید السخریة من الواقع العربی ..أمجاد یا عرب أمجاد.. لأننا هنا لسنا فی موضع سخریة ،وانما فی موضع تمجید لعطاءات كرّمت عطاءات .
ولا نملك فی ختام دراستنا هذه إلا القول إن العذاب فی أیامنا هذه یجب أن یمس الروح ویجرح الكبریاء ، حتى نستطیع صیاغة النصوص الأدبیة التی تعبر عن عمق الماسأة التی نعیشها بأخیلة شعریة كانت، أو قصصیة أو روائیة ، ولكن ألیس المهم أن نعبر ولا نحتكم للوجوم ولا نتقوقع داخل أنفسنا.؟
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 16:54|
الوصف فی شعر المتنبی
علاءعبدالخالق المندلاوی
كانت شخصیة المتنبی وأوجه شعره المختلفة من أهم عوامل شهرته . قد اتسعت الحركة المتنبئیة اتساعاً عظیماً فشملت العهد العباسی و عهد الانحطاط و عهد النهضة ، وذلك فی الشرق و فی الغرب ،توفر المتنبی على وصف الأخلاق ، وقد انصرف إلى وصف بعض المشاهد الطبیعیة و الحیوانات ، وأكثر من وصف المعارك ، وكان یحرص فی وصفه على التأثیر القوی . وحربیاته حافلة بالقوة تنطلق من كل بیت و لفظة و قافیة ،یقول الناقد أنیس مقدسی . إن المتنبی برغم بعض سقطاته شاعر عظیم. نعم إنه لم ینصرف خاصة إلى الوصف، ولكن شعره عموما وصف بلیغ لعواطفه ولمناقب ممدوحیه وأحوالهم. وهو یمتاز بدقة التعبیر عن الحركات والنزعات،الوصف نوعان حسی وخیالی - تقف إلى نهر فی واد كبیر وترى تدفق المیاه بین تلك الشواهق العظیمة فتأخذك روعة المنظر وتستفز فیك المیل إن كنت شاعرًا إلى وصف ما تراه من جمال وجلال. فإذا أنت تصف أسناد الوادی وما علیها من الأشجار والكروم. وتصف تلك الصخور القائمة وانقضاض الماء من بینها، وقد ترسم ما یتراءى لك فی ذلك الوادی من ألوان تلقیها علیه ظلال المساء أو أشعة الفجر. وربما تعدیت ذلك إلى ما تراه من حیوان هناك - قطعان البقر أو الغنم ترعى فی المروج أو الحقول - ولعلك ترى الفلاح یحرث الحقل، أو تنظر إلى السماء فترى قطع الغمام یسوقها راعی الریح، أو قوافل الضباب تنیخ فوق قمم الهضاب. یؤثر كل ذلك فیك فترسمه بألوان خلابة تستفز فی القارئ عواطف الطرب، وتحبب إلیه رؤیة تلك المشاهد، وهو ما نسمیه الوصف الحسی وهو أن تصور لسواك ما استفز فیك عوامل الاستحسان من المحسوسات على اختلاف أشكالها وألوانها ،أما الوصف الخیالی فنظر فنی إلى ما وراء المحسوسات، فإذا كان الشاعر واسع الخیال لا یقف عندما یقع تحت حسه فقط، بل یتعداه إلى مناطق یفتتحها أمامه الخیال، فیجعل المرئیات أساسا لغیر المرئیات، ویولد من المحسوسات صورا مجردة یرسمها للبشر تأملات وذكریات. یقف مثلا فی قلب الوادی فیسمع فیه نبضات الحیاة ویمر أمامه على صفحات الماء حوادث التاریخ فیذكر الأمم الغابرة والوقائع الماضیة، ویستخلص من ذلك عبر الأیام وعلاقتها بازدهار المدنیات واندثارها وما إلى ذلك مما یستخدم فیه الحس توصلا إلى صور الخیال البعیدة ،وإذا تأملت شعر المتنبی وجدته - كأكثر الشعر العربی - معنیا بالوصف الحسی دون الخیالی. ویتناول المناقب البشریة والمشاهد الطبیعیة والعمرانیة ووقائع الحرب والفروسیة ،المتنبی عبقری نادر ، برع فی رسم الصورة الخاطفة ، الجانبیة ، وتجافى عن التفصیل كما فعل ابن الرومی ، ودارت صوره فی فلك ذاته ، ومطامحه ، وإیثاره وحقده ، وأروع لوحاته تلك التی رسم فیها جریان الدم ، ورنین السیوف ، ولمعان الأسنّة ، وضبح الخیل ، ورهج الغبار ، فی جو من المبالغة یفوق جو الأسطورة الیونانیة فی معظم الأحوال،وهو عادة دقیق جید الدیباجة یثیر العاطفة ویبهجها. ولنر بعض من رسومه الشعریة:  1- المناقب البشریة، ویدخل فیها المدیح والغزل والفخر. أما المدیح (مدح الحی أو رثاء المیت) فمذهبه فی أكثر قصائده ولا یخرج فیه عما ذهب إلیه سواه من وصف مكارم الممدوح وذكر أعماله وصفاته، سداه ولحمته الإطناب والمبالغة، فالممدوح هو المثال الأعلى فی الشجاعة أو الكرم أو علو الهمة والإقدام على العظائم. ویصدق ذلك أیضا على وصفه الغزلی. فإن القطع الغزلیة التی یصوغها مقدمات لقصائده تدور على وصفه لشدة الوجد وأثره فی المحب من سقم وسهاد وعناء وألم. وله فی ذلك ما یعد فنیا من الطبقة الأولى  ، كقوله فی نظرة المحبوب : یا نظرة نفت الرقاد وغادرت                            فی حد قلبی  ما حییت فلولا
كانت من الكحلاء سؤلی إنما
أجلی تمثل فی فؤادی سولا (3)
ومن بدیع فنه أیضا :
بأبی الشموس الجانحات غواربا
اللابسات من الحریر جلاببا
المنهبات    عقولنا   وقلوبنا
وجناتهن   الناهبات   الناهبا
حاولن  تفدیتی وخفن مراقبًا
فوضعن  أیدیهن  فوق ترائبا
وبسمن عن برد خشیت أذیبه
من حر أنفاسی فكنت الذائبا
 وفی فخره وصف دقیق لعواطف نفسه ولتأثیر البیئة فیه، وقلما تجد شاعرًا ترتسم خوالجه فی شعره ارتسامها فی شعر المتنبی. وما دیوانه ولا سیما الفخر والحكم فیه إلا مرآة تعكس لنا نفسیة ذلك الشاعر الكبیر ویبرزها فی أجمل الألوان وأشدها تأثیرا فی النفس. ولا یدانیه فی ذلك إلا أبو تمام، ولكن المتنبی یفوقه فی جمال التعبیر وجلال المطلب ودقة النظر فی الحیاة. المشاهد الطبیعیة والعمرانیة، لیس للمتنبی فی هذا الباب ما لسواه من الوصافین. والغریب أنه اختبر حیاة البادیة والحضر فجاب السهول والجبال وتقلب فی شتى الأمصار، ومع ذلك لا نرى أن مناظر الطبیعة والعمران من أنهار وبحار وجبال وقفار وریاض وقصور وآثار قد أثارت قریحته ودفعته إلى التمتع بوصفها. فها هو مثلا یمر بلبنان ویرى ما فیه من شواهق ووهاد، وما وهبته الطبیعة من جمال یخلب الألباب فلا یذكره إلا عرضا إذ یقول للممدوح بینی  وبین  أبی  على  مثله
شم الجبال  ومثلهن  رجاء
وعقاب لبنان وكیف بقطعها
وهو الشتاء وصیفهن شتاء
لبس الثلوج بها على مسالكی
فكأنها   ببیاضها    سوداء
 والوصف هنا جمیل ولكنه غیر كاف للدلالة على میل خاص فی الشاعر إلى وصف الطبیعة وقد رأى العاصی والأردن وأقام على ضفافهما، وهبط مصروجاور النیل والأهرام، وعرف دجلة والفرات واتحادهما بشط العرب العظیم، ورأى إلى كل ذلك كثیرا من المناظر الخلابة، والمشاهد المثیرة للشعور، ولیس له مع كل ما عرف ورأى وصف یذكر إلا بضعة أبیات فی شعب بوان نظمها فی وصف طریقه إلى شیراز  فقال منها  . غدونا تنفض الأغصان فیها
على  أعرافها  مثل  الجمان
فسرت وقد حجبن الحر عنی
وجئن من الضیاء بما كفانی
وألقى الشرق  منها فی ثیابی
دنانیرا  تفر  من  البنــــــــان
لها   ثمر  تشیر   إلیك   منه
بأشربة    وقفن   بلا    أوان
وأمواه  تصل  بها  حصاها
صلیل الحلی فی أیدی الغوانی
3 - وقائع الحرب والفروسیة وهنا یبلغ شعره الوصفی أعلاه. فالمتنبی فارس، خاض غمرات الحروب وعرف وقائعها، فإذا وصف الكتائب وعراك الأبطال ساق الكلام على سجیته وجاء بالنظم الفائق. وهو یمتاز بتصویر الحركات وما یثیرها من نزعات، فإذا وصف معركة لم یكتف بذكر عظمة الجیوش ومعداتها الحربیة بل نظر نظرًا دقیقًا إلى حركات الفرسان ومضاء خیولهم  ، كقوله :
تبارى نجوم القذف فی كل لیلة
نجوم له منهن ورد وأدهم
یطأن من الأبطال من لا حملنه
ومن قصد المران ما لا یقوم
فهن مع السیدان فی البر عسل
وهم مع النینان فی البحر عوم
وهن مع الغزلان فی الواد كمن
وهن مع العقبان فی النیق حوم ویجری مجرى الوقائع الحربیة أعمال البأس فی الإنسان والحیوان. وفیها أیضا یظهر میل المتنبی إلى وصف الحركة والنزعات الداخلیة، وأهم ماله فی ذلك تصویر الأسد فی قصیدته لابن عمار وقد أصاب ابن الأثیر إذ فضله فی ذلك على البحتری فقال : ” إن معانی أبی الطیب أكثر عددا وأسد مقصدًا” وأساس هذا التفضیل أن المتنبی تفنن فی ذكر الأسد فوصف صورته وهیئته ووصف أحواله فی انفراده وفی هیئة مشیه واختیاله، ووصف خلقه (من بخل وشجاعة) وشبه الممدوح به فی الشجاعة وفضله علیه بالسخاء، ثم أنه عطف على ذكر الأنفة والحمیة التی بعثت
الأسد على قتل نفسه بلقاء الممدوح، وأخرج ذلك فی أحسن مخرج وأبرزه فی أشرف معنى،وإذا تأملت كلام ابن الأثیر فی المتنبی رأیته محمولا على ما ذكرناه لشاعرنا من وصف الحركات والأحوال والنفوذ إلى النزعات النفسیة العمیقة. فانظر كیف ینتقل من وصف هیبة الأسد ولونه وبأسه وعینیه ووحدته فی الغاب إلى وصف حركاته فیقول :
یطأ الثرى مترفقًا من تیهه
فكأنه آس یجس علیلا
ویرد  عفرته  إلى  یافوخه
حتى تكون لرأسه إكلیلا
اما وصف المرأة فی شعر أبی الطیب : أعتقد جازما بأن (المتنبی ) كان شغوفا بالمرأة، متیما فی هواها، یدل على ذلك مفتتح قصائده ومطالعها، التی ینشدها ساعة الاستقرار، فیها الصور الكثیرة فی الغزل بها والتشبیب بصفاتها، غیر أن حیاته التی اختارها ان تكون فی بلاط أبی العشائر، أو سیف الدولة أو كافور، أو غیرهم من الأمراء وعلیة القوم ، تكتم  علیه أن یكتم حبه وأن یلزم حیاة المجد لیصل إلى الهدفیقول الدكتور “سعد شلبی “. فان المتنفس الذی یفصح عن حبه المكتوم هو مطالع بعض قصائده ، ومن نماذج هذا الغزل الذی كان فیه ذ كر المحبوبة لأول مرة . وهی “جمل ” قوله فی قصیدة مدح فیها “شجاع بن محمد الطائی “:
جرى حبها مجرى دمی فی مفاصلی                
فأصبح لی عن كل شغل به شغل
ومن جسدی لحم یترك السقم شعرة
فما  فوقه  الا وفیها  له  فعــــــل
اذا  عذلـــوا  فیهــا  أجبت  بـــأنه
حبیبتا   قلبا   فؤادا   هیا   جمـل
كأن  رقیبا  منك سدى  مسامعی
عن  العذل حتى لیس یدخلها العذل
كأن  سهاد  اللیل  یعشق  مقلتی
فبینهما  فی  كل  هجر  لنا  وصل
أحب  التی  فی البدر منها مشابه
وأشكو  الى  من لا یصاب له شكل
 فهذا المطلع ینبض ببأساء الحب ، وشجن المحب المتهالك الذی أصبح عبرة للمحبین ، فقد أحب حتى ذهب عقله ، وجرى الحب فی عروقه ، فأذهله عن كل شیء ، وأصاب من جسمه كل شیء ، فلا مجال لرجعة عن حبه ، فلا یملك الا الأنین باسمها وصفاتها، وكأن جمالها قد صرفه عن كل عذل ، ذلك الجمال الذی أسهره لیله فلا یكاد ینام . ومطالع (أبی الطیب ) الغزلیة كثیرة ومتعددة. فله فی كل البیئات المكانیة التی قضى بها صفوة حیاته حب ، فالحب لم یفارقه ولم یتعد سنین عمره ، فقصائده التی كتبها فی الشام أو لسیف الدولة أو لكافور، أو التی صاغها وهو فی بغداد أو شیراز أو خراسان كلها تنبض بالحب والإحساس به ، فانظر وصفه للمرأة، فی مطلع قصیدته المدحیة لـ”علی بن منصور” التی یقول فیها :
بأبی الشموس الجانحات غواربا
اللابسات من الحریر جلاببا
المنهبـــات   قلوبنــا   وعقولنــا
وجناتهن  الناهبات  الناهبـــا
الناعمات   القاتلات   الممیتـات
المبدیات  من  الدلال  غرائبــا
حاولن   تفدیتی   وخفن   مراقبا
فوضعن   أیدیهن   فوق  ترائبا
وبسمن  عن  برد  خشیت  أذیبه
من  حر أنفاسی  فكنت  الذائبا (1)
فهذه الأبیات تمتلىء بمعانی الحب ومعرفة الغوانی وطبائعهن ، وما یحدثن من تأثیر. وظاهر تصویر المتنبی للمرأة :سوف أركز هنا على المظاهر الحسیة، والمظاهر الرمزیة لتصویر “المتنبی ” للمرأة مستلهما مطالع القصائد التی جاءت حاملة هذا الاطار .أولا : المظاهر الحسیة :حدد “المتنبی ” المظاهر الحسیة لصورة المرأة التی رسمها فی خیاله ، فطفق تغزلا بها واصفا وجهها ولونها، وشعرها، وقوامها، وعیونها، وغیر ذلك من الصفات . فهی فی لونها بیضاء مشرقة كأنها الدرر فی لمعانه : “لها بشر الدر الذی قلدت به أما وجهها فوصفه بأنه منیر، ساطع ، محیا، یزیل الظلمة فیعید النهار وسط دیاجیر الظلمة ، یقول المتنبی : ولدار بدر قبلها قلد الشهباء                           ووجه یعید الصبح واللیل مظلم
كما أنها كالشمس فی سطوعها، وجمال محیاها، وهی تنثر أشعتها، وضاءة، مشرقة :
كأنها الشمس یعیی كف قاصبة
شعاعها ویراه الطرف مقتربا
وشعرها طویل ، فاحم السواد، وهو جعد، فیه رائحة العنبر ممزوجة بماء الورد یصفه بقوله :
حالك كالغداف ، جثل فحوجی
أثیب جعد بلا تجعید
ذات فرع كأنما ضرب العنبر
فیه بماء ورد وعود
أما عینیها فقد أخذت النصیب الوافر من وصفه ، فقدم فیها أروع فنه الوصفی لأنها المعبرة عن خلجات نفسه الحبیبة، التی تزكیها صفات الجمال الحكلمی ، فاحتلت لذلك مساحة واسعة من غزله . ففی رأیه هناك ثلاثة أنواع من العیون ، أولها ، عیون قاتلة” تمثلها المتنبی فی وجه البدویات الحسان التی تنعم بالبساطة، ولا تعرف المكر والخداع ولكنها ترمی قلوب المحبین دون قصد ولا إدارة بلحاظها القاتلة :
الرامیات لنا ومن توافر
والخاتلات لنا وهن غوافل
 واذ ا جئنا للأوصاف الأخرى الحسیة نجدها تتمثل فی وصف قوام حبیبته فكما یصورها، فهی طویلة” رشیقة، ضامرة البطن ، دقیقة الخصر، ثقیلة الأرداف ، یتمثلها البیت التالی من قوله : وقابلنی رمانتا غصن بانه                        یمیل به بدر ویمسكه حقف اما الظواهر الفنیة فی وصف المتنبی للمرأة : لعل أهم ما سنركز علیه من ظواهر فنیة فی وصف المتنبی  للمرأة، هو عنصر اللغة، وما نجم عنها من استخدامات كثیرة تفرد بها وأصبحت تشكل ظواهر فنیة، فی شعره خاصة، ومن هذه الظواهر استخدام المحسنات البدیعیة  أو ظاهرة ا لأضداد . ولقد شاعت تلك الظاهرة فنیا فی العصر العباسی كما وصفه “شوقی ضیف ” فی كتابه “الفن ومذاهبه  إلا إن  المتنبی ” ألح علیه إلحاحا كبیرا، وأصبحت نتیجة ذلك ملفتة للنظر، فهو یعقبها، ویرصدها، ویحاول أن یمزجها فی مجموعة من الألوان التی یؤثرها فی وصفه . فهو عندما یعثر على البیاض فی إشراق وجه الحبیبة، والسواد فی شعرها الفاحم ، یفیض علیهما من حسه ما یجعلهما أكثر تعقیدا، وأعظم إثارة للنفس.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 16:53|
وحدة القصیدة فی ( عیار الشعر ) - خلیل الموسى

یتضح لنا، من خلال مراجعتنا لكتاب "عیار الشعر" لابن طباطبا(1)، ومن خلال وقوفنا عند النصوص التی تدل من قریب أو بعید على رأیه فی "وحدة القصیدة"، أن لطبیعة الوحدة التی نادى بها هذا الناقد سمات، أهمها:‏

1  الوحدة المنطقیة:‏

تتمیز وحدة القصیدة، عند هذا الناقد الشاعر، بمنطقیة صارمة؛ فعلى القصیدة أن تتسلسل تسلسلاً سببیاً، ویكون المنطق حكماً فیها، فینسق الشاعر أبیاتها ویحكِّم الوعی المنطقی وحده فی ترتیبها، وهو یعول على المعنى فی كل ذلك، ویطبق هذا المعیار على أشطر الأبیات ذاتها، فقد یتطلب منه المعنى أن یغیر شطر بیت بآخر. یقول ابن طباطبا فی ذلك: "وینبغی للشاعر أن یتأمل تألیف شعره، وتنسیق أبیاته، ویقف على حسن تجاورها أو قبحه فیلائم بینها لتنتظم له معانیها، ویتصل كلامه فیها، ولا یجعل بین ما قد ابتدأ وصفه أو بین تمامه فصلاً من حشو لیس من جنس ماهو فیه، فینسى السامع المعنى الذی یسوق القول إلیه، كما أنه یحترز من ذلك فی كل بیت، فلا یباعد كلمة عن أختها ولا یحجز بینها وبین تمامها بحشو یشینها، ویتفقد كل مصراع، هل یشاكل ما قبله؟ فربما اتفق للشاعر بیتان یضع مصراع كل واحد منهما فی موضع الآخر فلا یتنبه على ذلك إلا من دق نظره ولطف فهمه"(2).‏

ویلاحظ على النص السابق اهتمام ابن طباطبا بالمستمع، وهذا ما دفعه إلى أن یهتم بالقصیدة، ولكن اهتمامه، هنا، ینحصر فی معناها وتتالی أفكارها وانبثاق كل فكرة من سابقتها، وهو، فی كل ذلك، یتفقد الشطور ویرتبها ترتیباً منطقیا أكثر مما هو شعری، وكأن السامع لا یتابع من القصیدة إلا معناها.‏

ورؤیة هذا الناقد المنطقیة تجعله یمیز أیضاً بین بناء قصیدة وأخرى، ومعیاره فی ذلك العقل وحده؛ فإذا كانت القصیدة محكمة البناء، متقنة، أنیقة الألفاظ، عجیبة التألیف، بحیث إذا نقضت وجعلت نثراً لم تبطل جودة معانیها، ولم تفقد جزالة ألفاظها، خلدت كالقصور المشیدة، والأبنیة الوثیقة الباقیة على مر الدهور، أما إذا كانت القصیدة مهلهلة البناء مموهة بالزخرف اللفظی، تروق الأسماع والأفهام إذا مرت صفحاً، فإذا حُصِّلت وانتقدت بهرجت معانیها، وزیفت ألفاظها، ومجت حلاوتها، ولم یصلح نقضها لبناء یستأنف منه، فإنها كالخیام الموتدة التی تزعزعها الریاح وتوهیها الأمطار، ویسرع إلیها البلى، ویخشى علیها التقوض(3)، واحتكامه للعقل وحده جعله یرى تسلسل المعانی معیاراً رئیسیاً فی بنیة القصیدة، لذلك جعل النثر نموذجاً، على الشعر أن یحتذیه، فخلود الشعر فی معناه، ومعیاره فی ذلك أن یكون المعنى صحیحاً معافى إذا ما نثرت أبیات القصیدة، وبهذا ابتعد ابن طباطبا ببنیة القصیدة عن إحساس المنطق الداخلی الذی قالت به المدرسة الرمزیة SYMBOLISME والذی یحكم العلاقات الداخلیة فی شرایین القصیدة، كما ابتعد بها عن البنیة العضویة والتسلسل العفوی والخیال الخلاق وعناصر التوتر وجنون النبض، وعن اللحظة المشرقة وصفاء الدیباجة التی نجدها عند البحتری وأترابه، وعن جنون العبقریة والتفرد والخصوصیة التی نجدها فی قصائد المتنبی مثلاً.‏

ولم یكتفِ ابن طباطبا برؤیته المنطقیة وامتثاله الشدید لآراء أرسطو أینما وقعت، وإنما راح یقید الشاعر بقیود لیست من طبیعة الشعر، استقاها من فنون نثریة أخرى كفنّی الخطابة والبلاغة وغیرهما، وهو یرى فی النثر نموذجاً صالحاً لأن یحتذیه الشعراء فی قصائدهم، فإذا قدمنا بیتاً على بیت فی القصیدة دخلها الخلل كما یدخل الرسائل والخطب إذا نقض تألیفها: "فإن الشعر إذا أسس تأسیس فصول الرسائل القائمة بأنفسها، وكلمات الحكمة المستقلة بذاتها، والأمثال السائرة الموسومة باختصارها لم یحسن نظمه، بل یجب أن تكون القصیدة كلها ككلمة واحدة فی اشتباه أولها بآخرها، نسجاً وحسناً وفصاحة وجزالة ألفاظ ودقة معان، وصواب تألیف، ویكون خروج الشاعر من كل معنى یصنعه إلى غیره من المعانی خروجاً لطیفاً.... حتى تخرج القصیدة كأنها مفرغة إفراغاً.... لا تناقض فی معانیها ولا وهی فی مبانیها، ولا تكلف فی نسجها، تقتضی كل كلمة ما بعدها، ویكون ما بعدها متعلقاً بها مفتقراً إلیها".(4).‏

ویلاحظ أن ابن طباطبا لم یكتفِ بالتشدید على الوحدة المنطقیة من حیث المعنى الذی تتعرض له القصیدة، وإنما یشدد منطقیاً، على وحدة المبنى؛ فعلى القصیدة أن تتمیز ب"وحدة النسج"، وأن تكون ككلمة واحدة فی اشتباه أولها بآخرها نسجاً وحسناً وفصاحة، وهذا ما افتقده القدماء، مثلاً، فی قصائد أبی تمام التی اختلفت بعض أبیاتها مع بعض من حیث جودة النسج. وكان من الممكن لدى بعض النقاد السابقین لابن طباطبا أن یتخذوا بعض قواعد البلاغة الخطابیة مقاییس للشعر، أما ابن طباطبا فقد محا الفروق بین القصیدة والرسالة النثریة فی البناء والتدرج واتصال الأفكار، وهو یرى أن "للشعر فصولاً كفصول الرسائل فیحتاج الشاعر إلى أن یصل كلامه على تصرفه فی فنونه صلة لطیفة فیتخلص من الغزل إلى المدیح، ومن المدیح إلى الشكوى، ومن الشكوى إلى الاستماحة... بلا انفصال للمعنى الثانی عما قبله"(5). ومقطع القول الفصل أن "الشعر رسائل معقودة والرسائل شعر محلول"(6). ویظل ثمة فرق بین القصیدة والرسالة، فقد یجوز فی الرسالة أن یُبنى فیها كل فصل قائماً بنفسه، أما القصیدة فلا یجوز فیها ذلك، بل یجب أن تكون كلها "ككلمة واحدة"، نسجاً وحسناً وفصاحة، وهذا لیس فرقاً بین كل قصیدة وكل رسالة، وإنما هو فرق بین القصیدة ونوع معین من الرسائل التی لا تعتمد وحدة البناء. هذا بالإضافة إلى أن ابن طباطبا قد وضع معیاراً آخر للشعر المحكم المتقن، وذلك أنه إذا نقض بناؤه وجعل نثراً لم تبطل فیه جودة المعنى ولم تفقد جزالة اللفظ.‏

وهكذا نجد أن لوحدة القصیدة فی "عیار الشعر"، مفهوماً منطقیاً یرتكز على العقل وحده فی القیاس، والعقل، عند ابن طباطبا، الوحید القادر على أن یهب للقصائد الخلود؛ وذلك بشرط أن تتناسب القصیدة فی ذاتها تناسباً یقوم على تجانس عناصرها منطقیاً. ومأخذنا یتلخص فی أن هذا الناقد قد أهمل أولویة التجربة الشعریة وانحاز إلى العقل انحیازاً كلیاً مما جعل القصیدة صناعة خالصة.‏

2  الوحدة الصناعیة:‏

وإذا ما كان العقل مشرعاً ماهراً. فإن التشریع یحتاج إلى تنفیذ، ویتطلب التنفیذ الصناعة والإتقان، ولذلك یشترط ابن طباطبا أن تكون القصیدة "كالسبیكة المفرغة، والوشی المنمنم والعقد المنظم، واللباس الرائع فتسابق معانیه ألفاظه، فیلتذ الفهم بحسن معانیه كالتذاذ السمع بمونق لفظه، وتكون قوافیه كالقوالب لمعانیه، وتكون قواعد للبناء یتركب علیها ویعلو فوقها".(7).‏

ومما لاشك فیه أن صناعة الشعر عند ابن طباطبا هی الصناعة البدائیة، بمعنى أن الصناعة تشمل مراحل القصیدة كلها منذ أن تكون فكرة إلى أن تصبح حقیقة، وهی بذلك تختلف اختلافاً جذریاً عن الصناعة الشعریة التی نعرفها فی المدرسة الرمزیة، وبخاصة عند ادغار آلان بو وبودلیر ومالارمیه؛ فالصناعة، فی هذه المدرسة، مرحلة متأخرة من مراحل تكوین القصیدة؛ فقد كانت القصیدة، عندهم، تبدأ، أولاً، ضمن إحساس مجهول بنغم غریب مجنون یرتاد كیان الشاعر ویهزه، ویبقى هذا النغم مسیطراً على الحالة الشعریة ETAT POETIQUE حتى المراحل المتأخرة منها، وهذا ما حمل مالا رمیه على القول: "لیس بالأفكار تصنع القصائد، یادیغا، وإنما بالكلمات"(8).‏

أما مرحلة الوعی الصناعیة فهی مرحلة إحساسیة أیضاً، أو هی تقوم على تداعی المنطق الداخلی فی لغة الرمزیین، فقد كان مالارمیه یقتصد الكلمات فیضغطها مما یجعلها تنوء بأثقالها فتتدفق معانی وأنغاماً، وتتفجر هنا وهناك بإشعاعات مركزیة وبأسلوب فرید یطمح إلى رسم أثر الكلمات فی النفوس، ولم یكن همه البحث عن الكلمات النادرة ولا عن الكلمة الجدیدة:"همه الوحید اختصار الكلمات إلى حضورها الدال، بهدف واضح هو"رسم لا الشیء"، لكن الأثر الذی ینتجه. وإذاً لیست قصیدته رسماً لحقیقة ملموسة، ولكنها فن ساحر لمواقد التكثیف والإشعاع فیه حظ راجح"(9). وهذا هو ما فعله ازرا باوند فی قصیدة "الأرض الخراب" لإلیوت(10). أما الشعر عند ابن طباطبا فهو صناعة خالصة، أو هو مادة خارجیة لا علاقة للشاعر بها إلا من قبیل أنه یصنعها؛ فالشاعر: "كالنساج الحاذق الذی یُفوِّف وشیه بأحسن التفویف ویسدّیه وینیّره، ولا یهلهل شیئاً منه فیشینه، وكالنقّاش الرفیق الذی یضع الأصباغ فی أحسن تقاسیم نقشه، ویشبع كل صبغ منها حتى یتضاعف حسنه فی العیان، وكناظم الجوهر الذی یؤلف بین النفیس منها والثمین الرائق ولا یشین عقوده، بأن یفاوت بین جواهرها فی نظمها وتنسیقها"(11). هكذا لا یتعدى مفهوم الشاعر؛ عنده، أكثر من أن یكون نسَّاجاً حاذقاً، أو نقاشاً رفیقاً، أو ناظم جواهر، وهكذا یصبح الشعر صناعة خالصة، أو مادة شبیهة بالمواد الخام فی الصناعات الأخرى، وبخاصة حین یضع تصمیماً لكتابة القصائد، ومخططاً قبل الشروع فی صیاغتها: "فإذا أراد الشاعر بناء قصیدة مخض المعنى الذی یرید بناء الشعر علیه فی فكره نثراً، وأعد له ما یلبسه إیاه من الألفاظ التی تطابقه، والقوافی التی توافقه، والوزن الذی یسلس له القول علیه، فإذا اتفق له بیت یشاكل المعنى الذی یرومه أثبته، وأعمل فكره فی شغل القوافی بما تقتضیه من المعانی على غیر تنسیق للشعر، وترتیب لفنون القول فیه، بل یعلق كل بیت یتفق له نظمه على تفاوت ما بینه وبین ما قبله. فإذا أكملت له المعانی، وكثرت الأبیات وفّق بینها بأبیات تكون نظاماً لها وسلكاً جامعاً لما تشتت منها".(12).‏

ویلاحظ على هذه الفقرة أن للشعر مواد أولیة، منها المعنى والألفاظ والقوافی والأوزان، وتحضیر المواد مرحلة أولى فی تصمیم ابن طباطبا، أما المرحلة الثانیة فهی إثبات كل بیت على غیر تنسیق بل یسجل دون ترتیب، وتحتاج صناعة الشعر، عنده، إلى مرحلة ثالثة، وهی مرحلة تنسیق الأبیات بحسب المعانی والأغراض. ویلاحظ على هذه المراحل جمیعها إهمالها الإحساس الشعری والعبقریة المتوهجة والمنطق الخیالی الداخلی. ویلاحظ الطیب الشریف على هذا التصمیم الذی یقترحه ابن طباطبا للقصیدة، طابع الوصف الذاتی، ویعنی بذلك، أنه یصف منه منهجه الشخصی الذی یسلكه هو فی نظم الشعر(13). ومن ثم فهو یخلو من أی منهج تحلیلی موضوعی لطبیعة التجربة الإبداعیة، بوصفها جهداً فكریاً مركباً، ینزع إلى تحقیق نوع من الوحدة فی إطار أولی یعیشها الشاعر من الداخل. وتفرغ فیه الصور الملائمة لطبیعة المحتوى ینتظمه ذلك التخطیط الأولی، لأن كل جهد فكری یتضمن عدداً مشاهداً أو مضمراً من الصور التی تتدافع وتتزاحم بغیة الدخول فی تخطیط معین(14).‏

ویبدو لنا، أخیراً، أن الصورة الصناعیة لا تفارق مخیلة ابن طباطبا فی عمل الشعر؛ فالشاعر تارة كالنساج الحاذق، وتارة كالنقاش الرفیق، وتارة كناظم الجوهر. ثم إن تصور ابن طباطبا الوحدة فی العمل الفنی كالسبیكة المفرغة من جمیع أصناف المعادن، حتى تخرج القصیدة كأنها مفرغة إفراغاً "صنعة خالصة لا تنبعث فیها حركة من نمو ولا تمازجها حیاة عضویة، تلك هی صورة "الوحدة" عند هذا الناقد الذی لا یعرف التأنی العقلی الواعی فی التقدیر والرصف".(15).‏

یبدو لنا، مما تقدم، اهتمام ابن طباطبا بالصنعة مما أدى إلى إهماله التجربة الشعریة إهمالاً یكاد یكون كاملاً، وكأن تفرد الشاعر عن غیره یتلخص فی توفیر المواد الأولیة، أو ما یسمیه كولردج الخیال الأولی  المعرفة الضروریة. علماً بأن الشعر یحتاج إلى الخیال الثانوی الذی یقدر الشاعر بوساطته على صهر المواد الأولیة فی أتون الذات والتجربة عملاً فنیاً موحداً ذا طعم واحد ونكهة واحدة؛ فالشعر تجربة قبل أن یكون أی شیء آخر، وشعرنا العربی القدیم زاخر بالتجربة الحیویة، وإن كان بعضه لا یعدو أن یكون رصفاً لغویاً باهتاً؛ فالقصیدة، مثلاً، عند امرئ القیس، تعبّر عن تجربة كیانیة حارة، سواء أكانت منظومة قبل یوم دمون حیث اللهو والخمرة والمجون أم بعد یوم دمون حیث المغامرة الصعبة والبحث عن الأب من خلال الثأر الذی لا یتحقق، مما أدى بالشاعر إلى أن یبقى جوالاً باحثاً عن أمر لا یراه یتحقق، عن المستحیل. والقصیدة، عند المتنبی، لا تقل تجربة حارة عن تجربة سلفه؛ فهو الشاعر الطموح الذی ما عرف السكون، إنه شاعر البحث عن المستحیل. ونحن، هنا، وإن رفضنا عقد مقارنة بین رؤیة ابن طباطبا النقدیة لبنیة القصیدة، ورؤیة المدرسة الرمزیة لها، مجبرون على أن نقارن بین نقده وما توصلت إلیه القصیدة العربیة حتى عصره، بدءاً من امرئ القیس حتى شباب ا لمتنبی (ابن طباطبا  ت 322ه/ المتنبی  ت 354ه). مروراً بالشعراء الكبار بشار بن برد وأبی نواس ودعبل بن علی الخزاعی وأبی تمام والبحتری وابن الرومی وغیرهم. وهكذا یبدو لنا أن الشعر بلا تجربة شعر بلا حركة، والحركة نمو وصراع وحیاة، ومن الحركة والنمو والصراع وحدة القصیدة النامیة، وقصیدة غیر عضویة نامیة أقرب إلى أن تكون جثة محنطة منها إلى أی شیء آخر.‏

3  الوحدة الالتصاقیة (التجاوزیة):‏

من خصائص وحدة القصیدة، عنده، أنها "التصاقیة"، ونرى أن سبب تلصیق أبیات القصیدة بعضها ببعض یعود إلى المفهوم الشعری عند هذا الناقد الناظم؛ فالشاعر، عنده، لیس بأكثر من ناظم أو هو صانع شعر. وانطلاقاً من هذا المفهوم أهمل ابن طباطبا الإحساس الجمالی لیهتم بالمنطق، وأهمل التجربة الشعریة لیهتم بالنحت والصناعة، ولذلك ظن أن الشعر الخالد یستطیع أن ینتجه كل من توافرت لدیه الأدوات والتصمیم والمهارة. وكنا قد رأینا أن مراحل تكوین القصیدة، عنده، ثلاث؛ مرحلة جمع الأدوات والتصمیم، ومرحلة تألیف بعض الأبیات وتثبیتها، ثم مرحلة ضم الأبیات بعضها إلى بعض.‏

ویمكننا أن نختصر هذه المراحل الثلاث فی مرحلتین: مرحلة تصنیعیة ومرحلة تلصیقیة (تجاوزیة). وهو، فی المرحلة التصنیعیة، لا ینسق أبیات القصیدة حین النظم، وإنما یصنِّع الأبیات بیتاً فبیتاً، ویحتفظ بكل بیت یتم صنعه، إلى أن تكتمل المعانی التی یریدها، وتنتهی القوافی التی جمعها، وتتراكم إلى جانبه الأبیات. ویبدأ، فی المرحلة الثانیة  المرحلة الالتصاقیة  التجاوریة بترتیب هذه الأبیات، وتنسیقها، وذلك حین یلصق بعضها ببعض، وهو فی ذلك، ینشد وحدة القصیدة، وإذا ما احتاج، فی مرحلته هذه، إلى بیت لاصق، نظمه حین الطلب، ثم عقد بینها وبین ما قبله وما بعده، فیكون لاصقاً لهذه الأبیات ونظاماً لها، وسلكاً جامعاً لما تشتت منها(16).‏

هكذا تظل وحدة البیت هدفاً فی المرحلة الأولى وتألیف القصیدة هدفاً فی المرحلة الثانیة، ویبدو لنا أن " تألیف القصیدة"، غیر "وحدة الحیاة"، التی عبّر عنها برغسون (17). وغیر الوحدة التی تحدث عنها أرسطو فی كتابه "فن الشعر"، وغیر الوحدة العضویة النامیة، وحدة الكائن الحی كما نعرفها جمیعاً فی الرومانتیكیة عند كولردج؛ لأن الكائن الحی لا یولد عضواً منفصلاً عن عضو. والكائن الحی لا یولد صناعیاً، سواء أكانت هذه الصناعة یدویة بدائیة أم آلیة متطورة، وإنما من خلال عوامل داخلیة طبیعیة ذاتیة، ویتحرك، فی نموه، داخلیاً تلقائیاً من خلال الحركة التی یؤدیها الكائن الحی فی ذاته.‏

4  الوحدة التناسبیة أو وحدة التكثر فی القصیدة:‏

ظلت القصیدة، عند ابن طباطبا، على ما هی علیه فی العصر الجاهلی من تعدد فی الموضوعات. وإذا ما كان هذا التعدد، فی القصیدة الجاهلیة، عفویاً وضروریاً وحقیقة فرضتها التجربة وطبیعة العصر؛ لأن الشاعر الجاهلی كان فی تجاربه یعیش على التعدد(مشهد الأطلال  مشهد الرحلة  مشهد الناقة....الخ).(18). فإن بقاءه فی القصیدة العباسیة(19)، بخاصة، أمر یحتاج إلى وقفة، وبخاصة إذا أدركنا أن كثیراً من الشعراء العباسیین رفضوا هذا التعدد فی قصائدهم، لأنه لا یتلاءم مع طبیعة عصرهم، فرفضوا بعض أجزاء القصیدة كمشهدی الطلل والناقة وغیرهما(20). وهذا هو ابن طباطبا یتحدث عن ربط هذه الموضوعات بعضها ببعض وكأنه یعتقد أنه، بفعله هذا، یستطیع أن یحصل على وحدة القصیدة، وإذا ما استهدف الشاعر هذه الوحدة، فما علیه إلا أن "یسلك منهاج أصحاب الرسائل فی بلاغاتهم، وتصرفهم فی مكاتباتهم، فإن للشعر فصولاً كفصول الرسائل، فیحتاج الشاعر إلى أن یصل كلامه على تصرفه فی فنونه صلة لطیفة، فیتخلص من الغزل إلى المدیح، ومن المدیح إلى الشكوى، ومن الشكوى إلى الاستماحة، ومن وصف الدیار والآثار إلى وصف الفیافی والنوق، ومن وصف الرعود والبروق إلى وصف الریاض والرواد، ومن وصف الظلمان والأعیار إلى وصف الخیل والأسلحة، ومن وصف المفاوز والفیافی إلى وصف الطرد والصید، ومن وصف اللیل والنجوم إلى وصف الموارد والمیاه، والهواجر والآل، والحرابی والجنادب، ومن الافتخار إلى اقتصاص مآثر الأسلاف، ومن الاستكانة والخضوع إلى الاستعتاب والاعتذار، ومن الاباء والاعتیاص إلى الإجابة و التسمح، بألطف تخلص وأحسن حكایة، بلا انفصال للمعنى الثانی عما قبله، بل یكون متصلاً به، وممتزجاً معه، فإذا استعصى المعنى وأحاطه بالمراد الذی یسوق القول بأیسر وصف وأخف لفظ لم یحتج إلى تطویله وتكریره"(21).‏

یكفی هذا النص الطویل لأن ندرك أن الوحدة، عند هذا الناقد، متعددة الموضوعات. هذا مما یثبت أن ابن طباطبا لم یأخذ بالوحدة التی جاءت فی كتاب "فن الشعر"، أو هو لم یفهمها تمام الفهم، أو أن الترجمة الركیكة لكتاب "فن الشعر"، قد أساءت فهمه، فالوحدة فی "فن الشعر" ترتكز، قبل كل شیء، على وحدة الموضوع على حین أن وحدة القصیدة فی "عیار الشعر"، تقوم على تعدد الموضوعات، وتلح على التناسب فیما بینها. ونخلص من خلال هذا النص، ومن خلال مابین أیدینا من شعر لابن طباطبا(22). إلى ملاحظة مفادها أن هذا الرجل، فی شعره، أقرب إلى الشعر العباسی المحدث فی لغته وبدیعه وتراكیبه ومعانیه، وفی هیكل القصیدة، ونحن لا نجد فی قصائده، حتى المدحیة منها، أی أثر لمشهد الطلل، أو مشهد الناقة، أو مشهد الصید، أو غیر ذلك، على حین یتحدث فی نقده، عن هذه المشاهد، وكأن ابن طباطبا الشاعر غیر ابن طباطبا الناقد، فهو یختلف فی نهجه الشعری عن تنظیره النقدی.‏

ویبدو لنا أخیراً، ومما تقدم، أن تعدد الموضوعات یسیء إلى وحدة القصیدة وتجربتها، وقد كان بإمكان ابن طباطبا أن یكون أكثر توفیقاً، فی هذه الظاهرة، لو كان أكثر معاصرة لزمانه. أعنی أنه لم یحالفه الحظ حین عاد إلى بنیة قصیدة المدیح فی الجاهلیة لیستنبط منها وحدة القصیدة بشكل عام، فعاد من قصیدة المدح هذه ببنیة القصیدة التقلیدیة وبمفهوم مشوه عن الوحدة إذا ما قسناه بالتطور الذی طرأ على بنیة القصیدة فی زمانه، ویبدو لنا أنه لو عاد إلى بعض القصائد الجیدة التی عاصرها، والتی تتوافر فیها بنیة نامیة، وخیال عضوی خلاق ووحدة موضوع لاستطاع أن یتوصل إلى نتائج أفضل. ویرى الدكتور إحسان عباس أن القصیدة، عند ابن طباطبا، قد تتعدد موضوعاتها، وأن الوحدة فیها قد تكون وحدة بناء وحسب، فتلك هی الغایة الكبرى من هذا التدقیق فی التوالی والتدرج وإقامة العلاقات بین الأجزاء(23). ولما نظر النقاد فی الموروث الشعری وجدوا القصیدة الطویلة معرضاً لتفنن الشاعر، فقد كانت تسمح بتعدد الموضوعات فی بنیتها، ولم یستطع النقاد أن یتنكروا للموروث، حتى لنجد بعضهم یجعل تعدد الموضوعات التی أجاد الشاعر عرضها فی قصیدته علة لاختیارها. ولهذا كان كل حدیث للنقاد عن الوحدة إنما یتم من خلال التكثر، أی كیف تمثل القصیدة وحدة رغم ذلك التكثر؟ فذهب ابن قتیبة إلى القول بالوحدة النفسیة عند المتلقی، أی قدرة الشاعر على جذب انتباه السامع أولاً، لیضعه فی جو نفسی قابل لتلقی ما یجیء بعد ذلك، ویرى الدكتور إحسان عباس أن هذا لا یثبت للقصیدة نفسها وحدة، إذ قد یكون الموضوعان فیها متباعدان حتى فی الجو النفسی العام لدى الشاعر. ثم كأن ابن طباطبا أدرك أن كل هذا الذی قاله ابن قتیبة لا یحقق الوحدة التی یرغب فیها، ولهذا ألح على مبدأین یكفلانها: أولهما مبدأ التناسب  وهذا المبدأ یحقق للقصیدة المستوى المطلوب من الجمال  والثانی هو التدرج المنطقی (وهو یحل محل الترابط المعنوی عند ابن قتیبة)؛ فالقصیدة أولاً كیان نثری ینسج شعراً فی تدرج صناعی خالص، كما ینسج الثوب، مع الحذف فی الربط عند الانتقال، فی داخل القصیدة، من موضوع إلى موضوع.(24).‏

یتبین لنا أخیراً، أن مفهوم الوحدة عند ابن طباطبا مفهوم شكلی صرف، یتجلى فی ربط موضوعات عدیدة ثابتة ربطاً خارجیاً، فیتصل الموضوع بالموضوع اتصال التجاور لا اتصال التفاعل. وهذا الاتصال قریب من التناسب. والتناسب مفهوم خارجی جمالی قریب من مفهوم الوحدة، لكنه لیس الوحدة ذاتها. إنه وحدة النسیج أو تناسب الأعضاء بعضها مع بعض، أی وحدة الشكل. التناسب، إذاً، هو الوحدة التی تجمع عناصر ثابتة. الوحدة التی تجعل من القصیدة جسداً، لكنه لا ینمو ولا یتحرك. جسد جمیل، لكنه بلا دماء. وهذا نتیجة للصناعة التی آمن بها ابن طباطبا وإهماله التجربة التی تدفع الدماء الحارة فی جسد القصیدة. هذه الدماء التی تندفع فی الشرایین، فتكیف الشكل الجسدی مما یؤدی إلى نموه نمواً طبیعیاً ذاتیاً داخلیاً. أما أن نصل بین أطراف القصیدة وصلاً خارجیاً، ونربط موضوعاتها بعضها ببعض. فنحن أقرب إلى أن نكون فی غرف التشریح أو العملیات منا إلى أن نكون فی قصیدة تضج بالحیاة.‏

5  وحدة البیت:‏

لم یكن مفهوم وحدة القصیدة واضحاً تمام الوضوح لدى ابن طباطبا؛ فقد یختلط هذا المفهوم، فی "عیار الشعر"، بوحدة البیت نظریاً وتطبیقیاً. وقد مر معنا أن لصناعة الشعر لدیه مرحلتین؛ یهتم، فی المرحلة الأولى، بصناعة البیت، ویهتم، فی الثانیة، بصناعة القصیدة. وهو، فی الأولى، یعد أدواته الشعریة، ثم یبدأ فی صناعة كل بیت، على حدة، فیثبت ما یصنعه من الأبیات دون ترتیب، ویبدو لنا من ذلك أن الشاعر، عنده، یبدأ بنظم الأبیات نظماً تراكمیاً عشوائیاً؛ فالبیت لا یتناسل من الأبیات التی سبقته، ولیس له أیة علاقة بالأبیات التی تلیه سوى علاقة الوزن والقافیة والمعنى. وتبقى فكرة "البیت المفرد حتى فی المرحلة الثانیة التی لا تتعدى الربط بین الأبیات بسلك، فتكون أقرب إلى "عِقد" منها إلى قصیدة. ویظل ابن طباطبا یهتم بالبیت على الرغم من قوله بالتناسب والوحدة، والنماذج البیتیة التی اعتمدها فی تطبیقه تقطع بعجزه عن تصور الوحدة فی حدود أبعد من المقطع الجزئی المستقل بمعناه، والذی لا یكاد یتجاوز البیتین كثیراً. ولا یعدو أن یكون إدراكه للوحدة فی البیت المفرد ذاته، أحیاناً، نوعاً من التلاعب بالألفاظ، أو العلاقات اللفظیة على الأصح، فی شطرین ینتظمهما بیت یستمد وحدته من تقابل بین معنیین اقتضتهما ضرورة القافیة ومنطقها لیس غیر، فی مثل هذا الشاهد الذی التمسه فی شعر البحتری:‏

فإذا حاربوا أذلوا عزیزاً.‏

وقوله: فیقتضی هذا المصراع أن یكون تمامه: "وإذا سالموا أعزوا ذلیلاً"، وهو اقتضاء القافیة، وعلاقة التضاد بین كل من أذل وأعز، وعزیز وذلیل(25). ویعتقد الدكتور عز الدین اسماعیل أننا نفید، فی الحكم على وحدة القصیدة عند ابن طباطبا من النقد الأوروبی الحدیث فی التفریق بین مفهوم القصیدة الطویلة والقصیدة القصیرة؛ فالقصیدة القصیرة تتمثل فی الغنائیة، أی العاطفة الواحدة المحددة، أما القصیدة الطویلة فیلزمها إلى جانب العواطف المفردة المحددة الكثیرة الفكرة العامة التی تسیطر على الجمیع، وتوجهه. فعلى أساس هذا التفریق یرى عز الدین أننا نستطیع أن نتبین أن القصیدة العربیة  كما صورها لنا ابن طباطبا تصویراً مفصلاً  تمثل القصیدة القصیرة. وهو یقول بعد ذلك "إذا شئنا الدقة قلنا: إنها لا تمثل القصیدة القصیرة ولا الطویلة، وإنما الذی یمثل القصیدة القصیرة منها البیت المفرد: ففی هذا البیت تتمثل عادة العاطفة الواحدة المحددة المستقلة. وحینما لا نتمثل فی القصیدة وحدة البیت، تتمثل لنا هذه العاطفة فی بیتین أو بضعة أبیات، على أقصى تقدیر، ولكنها تظل عاطفة واحدة محددة".(26).‏

ونحن لا نسلم بهذه المقارنة غیر العادلة، فقد تصح المقارنة بین وحدة القصیدة عند أرسطو ومثیلتها عند ابن طباطبا، أما أن نستعیر مقیاسین حدیثین: مفهوم القصیدة القصیرة ومفهوم القصیدة الطویلة، من النقد الأوروبی المعاصر، ونحاول تطبیقهما على نقد ابن طباطبا العباسی فإننا نظلم الرجل ونغمطه حقه.‏

إن عز الدین أو غیره من النقاد یستطیع أن یصل إلى ثغرات واسعة فی نقد ابن طباطبا لوحدة القصیدة. أما المعیار الثانی "الغنائیة" فنعتقد أن عز الدین یطلب من ابن طباطبا أمراً مستحیلاً؛ فالغنائیة من طبیعة القصیدة العربیة منذ القدیم، وهذا أمر لا یعیبها من جهة، ولا یطلب من ابن طباطبا تجاوزه من جهة أخرى. صحیح أن ابن طباطبا كان باستطاعته أن یتجاوز نقاد عصره، فیستنبط من بعض الشعر الغنائی العربی الذی عاصره، وحدة فی الشعور والفكرة والموضوع، ولكن أن نطلب منه أن یجتاز غنائیة القصیدة العربیة، فذلك أمر مستحیل. من هنا نستطیع القول: أن بعض الخطأ الذی وقع فیه بعض نقادنا أنهم قارنوا مقارنة تامة بین وحدة القصیدة عند أرسطو ومثیلاتها عند بعض نقادنا القدامى، فطبیعة الشعر الیونانی فی "فن الشعر" تختلف عن طبیعة الشعر العربی، كما یختلف الإنسان الیونانی عن الإنسان العربی، وأرسطو نفسه قد نفى الشعر الغنائی من كتابه وألحقه بفن الموسیقى. ولكن یجب ألا یفهم من كل هذا القول أننا ننكر إمكانیة الاستفادة، فی وحدة القصیدة، من أرسطو، وإنما نرید أن نقول: إن بعض نقادنا لم یفهموا هذه الوحدة كما جاءت فی كتاب: "فن الشعر"، ولم یجیدوا تطبیقها على شعرنا العربی، وذلك لأنهم لم یحسنوا انتقاء النصوص التی تتوافر فیها هذه الوحدة، ووقع هؤلاء فی التجزیئیة حین اختاروا نصوصاً مجزأة الأوصال وقصائد متعددة الموضوعات، فشوهوا وحدة أرسطو، وأخفقوا فی دفع عجلة الشعر العربی إلى الأمام. ومن هؤلاء ابن طباطبا نفسه، ولابد من أن نقول أخیراً: أن وحدة القصیدة التی نادى بها ابن طباطبا تعثرت فی عروض كثیرة من نظریته وفی كثیر من النصوص التی استشهد بها، فبرزت لدیه وحدة البیت حین برزت عواطف كثیرة مسطحة فوضویة، ذات مستوى واحد وبُعد واحد، نتیجة إهماله التجربة واهتمامه الشدید بالصناعة الشعریة وشواهده المجزأة.‏

*هوامش:‏

(1)  هو محمد بن أحمد أبو الحسن العلوی المعروف بابن طباطبا، شیخ من شیوخ الأدب، وشاعر مولده ووفاته بأصبهان. له كتب، منها: "عیار الشعر"، و"تهذیب الطبع"، و"العروض". وأكثر شعره فی الغزل والآداب العامة. توفی سنة 322ه.‏

ینظر فی ترجمته: المرزبانی، معجم الشعراء،  تحقیق عبد الستار أحمد فراج  مصر  دار إحیاء الكتب العربیة  1960م  ص 427، ویاقوت، معجم الأدباء  مصر  مطبعة دار المأمون  1937 م  17/ 143  144، والقفطی، المحمدون من الشعراء  محمد عبد الستار خان أیم  مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانیة بحیدر آباد الدكن  الهند  ط1  1966 م  1/11، والعباسی، معاهد التنصیص  مصر  المطبعة البهیة  1316ه  1/ 179، وبروكلمان، تاریخ الأدب العربی  ترجمة د.عبد الحلیم نجار  دار المعارف بمصر  ط3  1974م  2/ 100.‏

(2)  عیار الشعر  تحقیق د.طه الحاجری، ود.محمد زغلول سلام  مصر  شركة فن الطباعة  1956م  ص 124.‏

(3)  ینظر فی ذلك المصدر السابق  ص 7.‏

(4)  المصدر السابق  ص 126  127.‏

(5)  المصدر السابق  ص 6.‏

(6)  المصدر السابق  ص 78.‏

(7)  المصدر السابق  ص 4  5.‏

(8) ‏ Leumers , Daniel - Préface - Poésies de Mallarmé - le livre de poche - librairiegénérale hrancaise - Paris - 1977. PV.‏

(9)  Ibid...P.VI‏

(10)  یجب أن نشیر هنا إلى أننا لا نقیم مقارنة بین المدرسة الرمزیة، وإلیوت من جهة، وابن طباطبا من جهة ثانیة، فهذا، إن حصل، إجحاف شدید بحق ابن طباطبا الذی له عصره وبیئته المختلفان عن عصر الرمزیة البیئة التی مهدت لنشوئها، فهی ابنة البورجوازیة الأوروبیة التی أخفقت، علىصعید الواقعین الاجتماعی والسیاسی، فی تحقیق طموحاتها، فاتجهت إلى الأدب للتعویض.‏

(11)  عیار الشعر  ص 5  6.‏

(12)  المصدر السابق  ص 5.‏

(13)  من المعروف أن ابن طباطبا شاعر مثلما هو ناقد، ولذلك سنعود إلى قصیدة من قصائده الطویلة، فی دراسة لاحقة، لنبین، من خلالها، ملامح وحدة القصیدة التی نادى بها، وهل استطاع ابن طباطبا الشاعر أن یكون حریصاً على مفهوم "وحدة القصیدة"، كما جاء فی "عیار الشعر" عند ابن طباطبا‏

(14)  ینظر فی ذلك مقاله: "ابن طباطبا ووحدة القصیدة العضویة"  الآداب  س 9  ع 2  شباط 1961م، ص 79.‏

(15)  عباس، د.إحسان  تاریخ النقد الأدبی عند العرب  مطابع دار القلم  بیروت  ط1  1971م  ص 138.‏

(16)  ینظر فی ذلك: عیار الشعر  ص 5.‏

(17)  هنری برغسون (1859  1941). فیلسوف فرنسی معاصر دافع عن الروحانیة ضد هجمات الوضعیة والمادیة، له: "المحاولة فی درس أوضاع الوجدان". و"المادة والذاكرة"، و"التطور الخلاق"، وغیر ذلك.‏

(18)  سنعود، فی دراسة مستقلة قادمة، إلى قصیدة جاهلیة نتبین فیها ملامح البنیة وصفاتها فیها.‏

(19)  سنبین، فی دراسة قادمة، كیف استطاع بعض الفحول من الشعراء العباسیین أن یتقدموا بالشعر على النقد المعاصر لهم أشواطاً بعیدة.‏

(20)  كثرت هذه الظاهرة فی دیوان أبی نواس، تحقیق أحمد عبد المجید الغزالی  بیروت  دار الكتاب العربی 1953م  یقول:‏

دع الأطلال تسفیها الجنوب وتبلی عهد جدتها الخطوب‏

وخل لراكب الوجناء أرضاً تخب بها النجیبة والنجیب.‏

ص11‏

ویقول:‏

حاشا لدرة أن تبنى الخیام لها وأن تروح علیها الإبل والشاء‏

ص7‏

ویقول:‏

أحسن من سیر على ناقة سیر على اللذة مقصور‏

ص15‏

ویقول:‏

بكیت وما أبكی على دمن قفر وما بی من عشق فأبكی من الهجر‏

ص36‏

ویقول:‏

عاج الشقی على رسم یسائله وعجت أسأل عن خمّارة البلد‏

ص46‏

ویقول:‏

دع الربع، ما للربع فیك نصیب وما إن سبتنی زینب وكعوب‏

ص110‏

ویقول:‏

قل لمن یبكی على رسم درس واقفاً ما ضر لو كان جلس‏

ص134‏

ولیكون معلوماً لدینا أن هذا الشاعر وأمثاله ممن ثاروا على منهج القصیدة لم یثوروا على عناصر ذلك المنهج فی القصیدة الجاهلیة، وإنما یثورون على استمرار بعض أجزاء هذا المنهج فی القصیدة العباسیة على الرغم من أن الحیاة المعاصرة ما عادت بحاجة إلى تلك الأجزاء.‏

(21)  عیار الشعر  ص 6  7.‏

(22)  سنعود إلى دراسة تائیته التی قالها فی مدح أبی الحسین محمد بن أحمد بن یحیى بن أبی البغل، وهو من أعیان عصره، وأحد أصدقاء الشاعر، وهی فی "معجم الأدباء"، 17/ 146  149، ومطلعها:‏

یا سیداً دانت له السادات وتتابعت فی فعله الحسنات‏

(23)  ینظر فی ذلك: تاریخ النقد الأدبی عند العرب  ص 138.‏

(24)  ینظر فی ذلك: المرجع السابق  ص 32  33.‏

(25)  ینظر فی ذلك: الشریف، الطیب  ابن طباطبا وحدة القصیدة العضویة  الآداب  ص 78.‏

(26)  الأسس الجمالیة فی النقد العربی  بمصر  مطبعة الاعتماد  ط1  1955م  ص 366.‏
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 16:52|
ثنائیة الموت والحیاة فی شعر أبی فراس الحمدانی 320 ـ 375هـ ـ 932 ـ 968م ـــ د.أحمد فوزی الهیب

الموت نهایة كل حی مهما طال به البقاء، ولعله الحقیقة الوحیدة التی اتفق علیها الناس جمیعاً رغم اختلاف عقائدهم ومذاهبهم، ورغم اختلافهم على ما بعد الحیاة الدنیا من حیاة أخرویة أو عدم. لذلك نجد الناس جمیعاً یفكرون بالموت بشكل ما، وإن اختلفت نظراتهم إلیه، واختلفت حیواتهم بناء على ذلك، لأنه ـ كما یقول الدكتور بیتر شتاینكرون ـ غریزة كامنة فی أعماق النفس الإنسانیة، كغریزة الحیاة سواء بسواء، فكل واحد منا لدی فی فطرته الغریزتان، وإن كانت غریزة الحیاة واضحة ظاهرة الأثر فی حركاتنا وسكناتنا، بینما الغریزة الأخرى، غریزة الموت، لا تظهر واضحة جلیة إلا لمن أمعن النظر، ولم تخدعه ظواهر الأمور([1">).

وكأن الغریزتین المتضادتین جوادان، أحدهما أبیض ناصع البیاض، والآخر أسود حالك السواد، یتنازعان المرء شداً وجذباً، ولكن الجواد الأبیض یظل فی الغالب فیاض الحیویة، له الكلمة العلیا إلى أن یُغلب على أمره، فینطفئ سراج الحیاة، وتكون الكلمة للجواد الأسود، ولكن یحدث أحیاناً أن تنعكس تلك الآیة تحت ضغط بعض الظروف، فإذا الجواد الأسود هو الغالب منذ البدایة، فینتشر على وجه الحیاة ظل الموت ویندفع المرء فی تیاره([2">).

وعلماء النفس الیوم یعترفون بهذا الازدواج، وإن كان الإنسان العادی یجهل ذلك الوجود المزدوج لغریزتی الموت والحیاة، فهذا فروید یقول بصراحة ووضوح: غایة الحیاة هی الموت. ثم نراه یقرر أیضاً: أن كل إنسان لدیه دافع إلى إعدام نفسه، ولكن هذا الدافع یختلف فی مقداره وقوته باختلاف الأشخاص([3">). وهذا أیضاً تلمیذه وصدیقه (هانز ساخس) یقول أیضاً: إن جمیع مظاهر الحیاة هی نتیجة ذلك التجاذب الذی لا نهایة له بین غریزة الحیاة بانتصاراتها الظاهرة وغریزة الموت بقوتها الساكنة الخفیة التی لا تقهر([4">).

وقوة البقاء التی تلازمنا منذ ولادتنا، غالباً ما تكون من السطوة، بحیث تشل حركة الغریزة المضادة لها، فتبقیها نائمة معطلة. ولكن یحدث فی بعض الأحیان أن تكون قوة الهلاك أشد فی الشخص من قوة البقاء، فینجم عن ذلك ما یمكن أن نسمیه مغامرة أو تهوراً أو مخاطرة أو غیر ذلك، ونصف صاحبها بأنه مغامر أو متهور أو مخاطر، بینما یسمی ذلك فروید غریزة الفناء([5">).

ولعلنا نستطیع اعتماداً على هذه النظریّة أن نفهم بصورة أوضح تحریم الله تعالى للانتحار تحریماً شدیداً على الرغم من إباحته للشهادة بل تشجیعه علیها، لأنها فی سبیل مثل أعلى كالدفاع عن الوطن والأهل وغیر ذلك.

ولعل هذه النظریة تنطبق بشكل ما على أبی فراس الحمدانی([6">)، أو لعله یمثلها خیر تمثیل، إذ نجده والموت رفیقین صدیقین حمیمین، تصاحبا قبل الولادة، وبُعیدها، وبعدها، وظلاّ معاً إلى أن تمكن الحصان الأسود فی داخله أن یسبق الحصان الأبیض، وأن یسدل الستار على مأساة حیاته.

عرف أبو فراس الموت قبل ولادته، إذ ورثه فی صبغیاته (كروموزوناته) من قبیلة تغلب ذات الأمجاد الخالدة التی تمتد جذورها إلى الجاهلیة، حتى قیل: لو أبطأ الإسلام لأكلت بنو تغلب الناس([7">). ومن منا لم یسمع بحرب البسوس بینها وبین بكر، التی استمرت أربعین سنة تأكل الأخضر والیابس وتحصد الرجال([8">)، ومن لم یسمع بأبطالها وشعرائها مثل المهلهل وكلیب وعمرو بن كلثوم وأبیه([9">). وعلى الرغم من خفوت صوت تغلب فی بدایة الإسلام، فقد استرجعته زمن الأمویین، إذ نجده مدویاً لدى كعب بن جعیل والأخطل وأشعارهما([10">). كما نجده أیضاً فی صلیل سیوف الحروب الضاریة بین تغلب وقیس([11">).

وفی زمن الدولة العباسیة ازداد صوت تغلب علواً، لأنه صار یمثل التیار العربی الصافی بین أمواج السیول الأعجمیة الهادرة فی القرن الرابع الهجری، وقد استطاع بنو حمدان التغلبیون أن یبلوا بلاء حسناً فی مساندتهم للخلافة العباسیة حتى تدافع عن نفسها وعن العرب والإسلام ضد الثورات والمؤامرات الداخلیة، وضد الروم وغیرهم من الخارج، وكان فی مقدمتهم سیف الدولة وأخوه ناصر الدولة وأبو فراس([12">).

رأى الحمدانیون أنهم یمثلون العنصر العربی، وأن السبیل لبقائهم هو المجد والبأس والجود وغیرها من المثل العربیة العلیا، ولقد عبر عن ذلك أبو فراس بقوله([13">):

لئن خُلق الأنام لحسْوِ كأسٍ               ومزمار وطنبور وعودِ

فلم یُخلق بنو حمدانَ إلا                              لمجد أو لباس أو لجودِ

هذا ما یخص قبیلة أبی فراس تغلب وبنی حمدان، أما هو نفسه والموت، فقد كانا صدیقین حمیمین منذ البدایة حتى النهایة، لم یفترقا أبداً. فقد شاء القدر أن یسمیه أبوه (الحارثَ)، وأن یُكَنِّیه (بأبی فراس)([14">)، والاسم اسم الأسد([15">)، والكنیة كنیته([16">)، ولكل من اسمه نصیب عامة، لذلك أثر كل من الاسم والكنیة فی حیاته، ولو بصورة غیر مباشرة، تأثیراً كبیراً شجاعة وبسالة وإباء.

كما شاء القدر أیضاً أن یُقتل أبوه، وهو صغیر فی الثالثة من عمره. ومقتل أبیه مأساة مركبة معقدة،لأن قاتله هو ابن أخیه ناصر الدولة، والذی هو فی الوقت نفسه ابن عم أبی فراس، وأخ لولیه ومربیه وولی نعمته وزوج أخته سیف الدولة([17">). إن مقتل أبیه شوكة فی خاصرته ظلت تؤلمه حتى نهایة عمره، إنه لم یستطع نزعها بأن یأخذ بثأره، ولم یستطع أن یشكو أو یتأوه، بل لم یكن یملك إلا أن یقدم آیات الطاعة والتبجیل لقاتل أبیه عندما كانا یجتمعان فی بلاط سیف الدولة بحلب، یدفعه إلى ذلك ولاؤه لولی نعمته سیف الدولة، وولاؤه لأهله الحمدانیین. وهذه المعاناة تركت فی نفسه جراحاً لا یستطیع لها برءاً، وتمزقاً لا یمكن رتقه، وداء لا شفاء منه حتى الموت.

نشأ أبو فراس على الفروسیة فی بلاط سیف الدولة بحلب، بعدما انتقل إلیه من الموصل إثر مقتل أبیه، وتعلم فنون القتال والعلم والأدب وغیر ذلك من صفات الإمارة والفروسیة فیه، ثم ولاه سیف الدولة إمارة منبج عام 336هـ([18">)، وكانت آنذاك ثغراً عربیاً یقف سداً منیعاً فی وجه غارات الروم وأطماعهم من جهة، وثورات الأعراب مثل بنی كلیب وكلاب وقشیر وكعب من جهة ثانیة، واستمر على هذه الحال إلى أن أُسر عام 351هـ أو غیره، وقد اختلف المؤرخون فی ذلك، ولتحقیقه مجال آخر([19">).

استطاع أبو فراس أن یقوم بما تفرضه علیه واجبات الإمارة خیر قیام، فكان دائماً على أهبة الاستعداد لتلبیة ما یطلبه منه سیف الدولة من مهمات لقتال الروم أو الإعراب، ولم یكتف فی حروبه هذه بأن یبلی البلاء الحسن، وإنما نجد غریزة الموت أو غلّوه فی الشجاعة یدفعه إلى أن یتجاوز مرات كثیرة حدود ما تطلبه منه واجبات الإمارة من مواقف، فیخاطر بنفسه، ویعرضَها للهلاك المرة تلو المرة، الأمر الذی أدى إلى وقوعه أسیراً بید الروم، ویؤكد هذا كلام سیف الدولة لأم أبی فراس عندما طلبت منه افتداءه من الأسر، وهو: ولدك ابن عم، وخال أولادی، ولكنی عجزت وأنا أنصحه ألا یترك بنفسه إلى المیدان عند وقوع الحرب، لأنه أمیر سردار (قائد)، ولیس للسردار شجاعة إلا بثباته تحت علمه، وقد فدیته قبل هذا مرتین([20">).

استمر أبو فراس فی الأسر، حتى افتداه سیف الدولة عام 355هـ، وفی فترة أسره لم یبتعد عن الموت، إنما كان یشعر به،  ویتغنى بذكره كل یوم تغنی الحبیب بحبیبه من أول أیام أسره حتى آخرها، فقال فی بدایة أسره([21">):

من كان مثلی لم یبتْ           إلا أسیراً أو أمیرا

لیست تحلُّ سراتُنا               إلا الصدور أو القبورا

وقال أیضاً مخاطباً سیف الدولة بصورة غیر مباشرة([22">):

معللتی بالوصل والموتُ دونَهُ              إذا متُّ ظمآناً فلا نزل القطرُ

فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى                  قتیلك قالت أیهم فهمُ كثر

ویا ربَّ دار لم تخفنی منیعةٍ                طلعتُ علیها بالردى أنا والفجر

وهل یتجافى عنّیَ الموت ساعة             إذا ما تجافى عنّیَ الأسر والضر

هو الموت فاختر ما علا لك ذكره                  فلم یمت الإنسان ما حیی الذكر

وإن متُّ فالإنسان لا بد میّتٌ             وإن طالت الأیام وانفسح العمر

ونحْن أناس لا توسط بیننا                 لنا الصدور دون العالمین أو القبر

إن اللافت للنظر مما تقدم أنه لم یخل بیت من ذكره للموت مرةً أو أكثر، وكأنه فرس جموح كامن فی اللاشعور لدیه، فهل یؤكد ذلك صحة الفرضیة التی ذهبنا إلیها، لأن من أحب شیئاً أكثر من ذكره، وهذه حقیقة لا جدال فیها فی علم النفس. كما قال أیضاً فی رثائه لأمه عندما أتاه خبر موتها وهو فی الأسر([23">):

نُسلَّى عنك أنّا عن قلیل                   إلى ما صرت فی الأخرى نصیرُ

ولم یجعله الأسر یغیر من منهج حیاته بعدما افتداه سیف الدولة، وعیّنه أمیراً على حمص وأعمالها، وأنّى له ذلك!!.. لقد استمر فی اندفاعه نحو الموت كأن شیئاً لم یكن، تدفعه إلیه تلك القوة الغاشمة الخفیة الكامنة فی لا شعوره، والتی كانت تدفعه إلیه قبل أسره، لذلك نجده بعد موت سیف الدولة عام 356هـ([24">)، واستلام ابنه الیافع أبی المعالی سعد الدولة لإمارة حلب([25">)، نجده یتابع سیره فی طریقه الآنفة الذكر بخطى حثیثة، وقد ساعده فی ذلك أن سعد الدولة لم یستطع أن یملأ الفراغ الذی خلّفه والد سیف الدولة بموته([26">)، والذی كان من الممكن أن یملأه أبو فراس، فتوجه سعد الدولة إلیه فی حمص بعد خلاف بینهما، أشعل ناره (قرغویه) غلام سیف الدولة خوفاً من أبی فراس ورغبة منه فی أن یكون الرجل الأول فی حلب، فانحاز أبو فراس إلى بلدة (صدد)([27">)، ونزل سعد الدولة بسلمیة([28">)، وأرسل إلیه قائده قرغویه مع غلمان أبیه وجمعٍ من بن كلاب، فخرج إلیهم أبو فراس، وكان قتال انتهى بمقتله یوم الأربعاء الثامن من جمادى الأولى سنة سبع وخمسین وثلاثمئة، فنزل قرغویه فاحتز رأسه، وحمله إلى سعد الدولة، فشُقَّ علیه لأنه لم یرد ذلك، وبقیت جثة أبی فراس مطروحة بالبریة، حتى كفنه أعرابی ودفنه([29">).

إن هذه النهایة المأساویة المفجعة، تبدو وكأنه كان یتوقعها، ویراها نصب عینیه، ویندفع إلیها اندفاعاً غریزیاً قاهراً لا یملك له رداً، لذلك نجده من قبلُ قد نعى نفسه إلى ابنته، وأوصاها بالصبر، وأن تلتزم بسترها وحجابها عندما تنوح علیه، وان تندبه بأنه لم یُمتّع بالشباب مع أنه زین الشباب، وذلك فی قوله([30">):

أبنیّتی لا تجزعی                  كلُّ الأنام إلى ذهابِ

أبنیّتی صبراً جمیـ               لاً للجلیل من المصاب

نوحی علیّ بحسرة               من خلف سترك الحجاب

قولی إذا نادیتنی                  ووعیتُ عن رد الجواب

زین الشباب أبو فرا             س لم یُمتّع بالشباب

وإذا كان الموت واحداً مهما تعددت أسبابه، فإن أبا فراس قد نظر إلیه من زوایا متعددة، وتحدث عنه أحادیث اتفقت مع هذه الزوایا، ولا غرو فی ذلك، فهو من بنی حمدان الذین رآهم لم یُخلقوا كغیرهم، وإنما خُلقوا للمجد والبأس والجود كما مرّ آنفاً، وهذه الغایات التی خلقوا لها، لیس لها سوى الموت طریقاً، الموت لأعدائهم مكللاً بالذل والعار، والموت لهم مكللاً فی الأول والآخر بالمكرمات والعز، قال([31">):

لنا أولٌ فی المكرمات وآخرُ                وباطنُ مجدٍ تغلبیٍّ وظاهرُ

وهم لا یرضون إلا بواحد من اثنین، لا ثالث لهما، الصدر أو القبر، قال([32">):

ونحْن أناس لا توسط بیننا                 لنا الصدر دون العالمین أو القبرُ

وأن نفوسهم قد هانت فی طلب المعالی، كما قال([33">):

تهون علینا فی المعالی نفوسنا               ومن خطب الحسناء لم یُغْلها المهرُ

إنهم لا یهابون الموت، بل یرحبون به، ویستضیفونه ضیفاً عزیزاً لدیهم، قال([34">):

وفتیانُ صدقٍ من غطاریف وائلٍ           إذا قیل: ركب الموت، قالوا لـه: انزلِ

ودأبهم أیضاً أمران أو دمان اثنان، لا ثالث لهما، دم الرجال للأعداء، ودم الجمال للضیفان، قال([35">)

لِلِقا العد بیضُ السیو            فِ وللندى حمرُ النَّعمْ

هذا وهذا دأبُنا                  یُودى دمٌ، ویُراق دمْ

وقال أیضاً مفتخراً بوالده وأعمامه([36">):

أولئك أعمامی ووالدیَ الذی              حمى جنباتِ المُلك والمُلك شاغرُ

له بِسُلَیمٍ وقفة جاهلیة                      تقرُّ بها فَیْدٌ وتشهد حاجرُ

فلم ترَ إلا فالقاً هام فیلق                  وبحراً لـه تحت العجاجة ماخِرُ

وافتخر أیضاً بعمه الحسین بن حمدان الذی قتل الوزیر العباس بن المعتضدی وفاتكاً([37">)، قال:

وعمِّیْ الذی أردى الوزیر وفاتكاً          وما الفارس الفتاك إلا المجاهرُ

أذاقهما كاس الحمام مُشیَّعٌ                مشاورُ غارات الزمان مُساور

وافتخر أیضاً بعم آخر له هو سلیمان بن حمدان الملقب بالحرون لعظمته بالحرب، فقال([38">):

وعمی الحرون عند كل كتیبة             تخفُّ جبال وهْو للموت صابرُ

واللافت للنظر فی فخره خاصة، وفی شعره عامة، ذلك الإلحاح الشدید على الموت، وما یؤدی إلیه. ولعل هذا یدل ـ فیما یدل ـ على قوة غریزة الموت الكامنة فی لا شعوره وأعماقه وطغیانها. وربَّ معترض یقول: إن كثیراً من الشعراء ذكروا الموت. فنقول: المقصود هو كثرة ذكر الموت، لا ذكره فقط، تلك الكثرة التی زادت عن الخمسین مرة فی دیوانه الذی لا یعد كبیراً إذا ما قیس بغیره من دواوین أمثاله، هی التی مازت الشاعر عن سواه. وإذا وجدنا ـ ولا بد أننا واجدون ـ شعراء آخرین أكثروا من ذكر الموت، فما الذی یمنع من أن یكونوا كأبی فراس فی طغیان غریزة الموت لدیهم وعنفوانها، وأن یسبق حصانها الأسود حصان الحیاة الأبیض عندهم، كما سبقها لدى أبی فراس.

كل ذلك دفعه إلى أن یموت میتة الرجال الكاملی الرجولة الأبطال، فقال([39">):

فإنْ عشنا ذخرناها لأُخرى                وإن متنا فموتات الرجال

ولا بد من أن نتوقف عند هذا البیت ملیاً، وبخاصة عند شطره الأول الذی یؤكد ما ذهبنا إلیه من أن غایته قد كانت الموت، ولیست النجاة التی لا تعدو أن تكون ذخراً ووسیلة توصله إلى موت قادم قریب وسریع.

ولم یناقض فعلُ أبی فراس قولَه، فقد خاض الحروب بشجاعة نادرة، بلا ترس ولا درع، لیس معه سوى سیفه ویده وقلبه، قال([40">):

حملتُ على ورود الموت نفسی            وقلت لعصبتی موتوا كراما

وعذْتُ بصارم وید وقلب                 حمانی أن أُلام وأن أُضاما

ولم أبذل لخوفهمُ مِجّناً                     ولم ألبس حذار الموت لاما

كما وجد أیضاً فی بذل النفس جوداً یفوق الجود بالمال، وشتان ما بینهما، قال([41">):

وندعو كریماً من یجود بماله                ومن یبذل النفس الكریمة أكرمُ

لذلك اتخذ الحرب طعاماً له وشراباً باع فی سبیلها صباه، قال([42">):

فلا تصفنَّ الحرب عندی فإنها              طعامیَ مذْ بعت الصبا وشرابی

ولم یجد فی الموت شراباً فقط، وإنما وجده شراباً عذباً سائغاً لذة للشاربین([43">):

قد عذب الموت بأفواهنا                   والموت خیر من مقام الذلیلِ

كما كان یرى الموت یملأ ما بین المشرقین أمامه، ویرى المعایب خلفه، وهی أصعب عنده من الموت، لذلك خاضه غیر هیّاب ولا وجل، قال([44">):

أرى ملء عینیَّ الردى فأخوضه            إذا الموت قدامی وخلفی المعایبُ

ولم یكتف أبو فراس بذلك، بل نجده قد حل فی السیف، أو حل السیف فیه، وأصبحا معاً كیاناً واحداً، یذكرنا، لولا صرامته وشدته، بنظریة الحلول عند المتصوفة، ولا شك فی أن لهذا دلالاته فیما ذهبنا إلیه، قال([45">):

یا ضاربَ الجیش بی فی وسْط مفرقه                لقد ضربت بعین الصارم العَضُبِ

كما نجده قد توحد أیضاً مع الترس فضلاً عن توحده مع السیف ومع قومه، قال([46">):

وإن حاربوا كنتُ المجنَّ أمامهم            وإن ضاربوا كنت المهند والیدا

وإنه لم یكن یرضى بهزیمة أعدائه، وإنما أوجب على نفسه أن یجعلهم بین قتیل أو أسیر، قال([47">):

فبین قتیل بالدماء مضّرجٍ                  وبین أسیر فی الحدید مكّبلِ

هذه الشجاعة الباسلة والاندفاع الشدید نحو الموت المرةَ تلو المرة جعلت قومه یلومونه على ذلك، ولكنه لم یسمع كلامهم، قال([48">):

أُلامُ على التعرّض للمنایا                  ولی سمعٌ أصمُّ عن الملام

ولعل الذی شجع أبا فراس على ذلك أنه أدرك أن الموت ذو سطوة لا تُرد، ومیعاد لا یُخلف، لا ینفع معه حرص ولا حیلة، فإذا جاء أجلهم لا یستأخرون ساعة ولا یستقدمون، كما قال الله تعالى، قال([49">)::

وإذا المنیة أقبلت لم یثْنها                  حرص الحریص وحیلةُ المحتالِ([50">)

وأنه نهایة كل حی، یتساوى لدیه الأحیاء جمیعاً، قال([51">):

بنو الدنیا إذا ماتوا سواءٌ                  ولو عَمَرَ المعَّمرُ ألف عام

كما أنه (أی الموت) أیضاً لا یفارق الإنسان أبداً، قال([52">):

فمؤجَّلٌ یلقى الردى فی أهله               ومعجَّلٌ یلقى الردى فی نفسهِ

إن أبا فراس كان یرى الموت قتلاً النهایة الحتمیة الوحیدة التی لا مفر منها له ولجمیع الكرام الصید أمثاله، قال([53">):

ولئن قُتلتُ فإنما                  موت الكرام الصید قتلا

وأنّ له أجلاً مسمى لا یتقدم ولا یتأخر، قال([54">):

فإنْ أهلَكْ فعنْ أجلٍ مسمّى                سیأتینی ولو ما بینكنّهْ

ویعتقد أن الإنسان إذا لم یستطع الخلود جسداً، فإنه یستطیعه ذكراً خالداً یخلده بعد موته إلى أبد الآبدین بطولة وكرماً ومروءة ونبلاً ومثلاً، قال([55">):

هو الموت فاختر ما علا لك ذكرهُ                  فلم یمت الإنسان ما حیی الذكرُ

ولا بد فی قوله هذا أن یستوقفنا أسلوب القصر فی أوله (هو الموت) وما فیه من إیحاءات، منها أنه لا یوجد أمام الإنسان مهما طال به العمر أو تعددت به السبل أو طاب له العیش أو غیر ذلك، نقول: لا یوجد أمامه سوى الموت یرقبه وینتظره، كما قال طرفة بن العبد من قبل([56">):

لعمرك إنَّ الموت ما أخطأ الفتى            لكالطِّوَلِ المُرْخى وثِنْیاهُ بالیدِ

إن أبا فراس فی بطولاته وتحدیه للموت أراد أن یضع نفسه الموضع اللائق بها، فالإنسان حیث یجعل نفسه عزاً أو ذلاً، قال([57">):

وما المرء إلا حیث یجعل نفسه             وإنی لها فوق السماكین جاعلُ

ولقد أكد ذلك مرة أخرى لسیف الدولة حیث قال([58">):

ولا أعود برمحی غیر منحطم               ولا أروح بسیفی غیر مختضبِ

حتى تقول لك الأعداء راغمة              أضحى ابن عمك هذا فارسَ العربِ

هكذا كان موقف الشاعر من الموت موقف شجاع راكض إلى حتفه ركضاً لاهثاً سریعاً متكرراً لا یعرف راحة أو بطئاً. ورب قائل یقول: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا كان فی أسره یطل بالفداء ویلح فیه؟. إنه طلب فداءه وألح فی ذلك لا خوفاً ولا جبناً، وإنما كان یأنف أن یموت أسیراً كما یموت الجبناء، ولأنه أراد أن یهرب من موت لا عَناء ولا عزة فیه إلى موت عزیز فی ظلال السیوف كما یموت الأبطال المیامین، ونجد ذلك فی قوله لسیف الدولة([59">):

أنادیكَ لا أنی أخاف من الردى           ولا أرتجی تأخیر یومٍ إلى غدِ

ولكن أنفتُ الموت فی دار غربة            بأیدی النصارى الغُلْفِ میتة أكمدِ

ویرید بالنصارى هنا الروم. ولأنه أیضاً كان یرید العود إلى أمه العجوز لیبرها ویدفع عنها الضیم، قال([60">):

لولا العجوز بمنبجٍ               ما خفتُ أسباب المنیهْ

ولكان لی عما سألـ            ـتُ من الفدا نفس أبیّه

لكن أردتُ مرادها               ولو انجذبتُ على الدنیّه

وأرى محاماتی علیـ             ـها أن تُضامَ من الحمیّه

أمست بمنبجَ حُرةٌ                بالحزن من بعدی حَرِیّه

ورب قائل أیضاً یقول: لماذا اختار أبو فراس الأسر على الموت؟. فنجده قد أجابه أبو فراس على تساؤله هذا من قبل، وهو أنه القدر الذی لا یُرد، فی قوله([61">):

أُسرتُ وما صحبی بعزْل لدى الوغى                ولا فرسی مُهرٌ ولا ربُّهُ غَمْرُ

ولكنْ إذا حُمَّ القضاء على امرئ                      فلیس لـه برٌّ یقیه ولا بحر

ولا شك فی أنه كان یرى الفرار أمام الأعداء أشد من الموت وعاراً كبیراً لا یمكن قبوله، ونجد ذلك فی قوله([62">):

ولما لم أجد إلا فراراً             أشدَّ من المنیة أو حِماما

حملتُ على ورود الموت نفسی            وقلت لعصبتی موتوا كراما

وعذْتُ بصارم وید وقلب                 حمانی أن أُلام وأن أُضاما

وهكذا ظفر أبو فراس بالموت، عانقه عناق الحبیب لحبیبه، بعدما ظل یطلبه طوال عمره، ومنذ یفاعته، طلباً حثیثاً، تدفعه إلیه قوة كامنة عمیقة كاسرة لا تقهر، ولا تعرف كللاً ولا مللاً، حتى ظفر بالموت ظفراً مشرفاً شجاعاً ـ كما كان یرید ـ بضربة سیف أعجمی جبان غادر، بید أن هذه القوة الهادرة القاهرة التی كانت تكمن فی صبغیاته، وتندفع من قلبه الشجاع وروحه الأبیة كالحصان الأدهم الجموح فی صبغیاته، قد لقیت التشجیع كله من قناعته التی لم تعرف التردد، وإرادته التی لم تعرف إلا القوة، فاجتمع ذلك كله، ودفعه بشجاعة نادرة إلى حیاض الموت وعشق المثل الأعلى وخلود الذكر وسیرورة الاسم والأخبار والأشعار عبر القرون، تتناقلها الأجیال العربیة سیرة خالدة ومثالاً یُحتذى جیلاً إثر جیل.

المصادر والمراجع

ـ إعلام النبلاء بتاریخ حلب الشهباء، محمد راغب الطباخ، تصحیح محمد كمال، دار القلم، حلب 1988.

ـ دیوان أبی فارس الحمدانی، دار صادر، بیروت 1990.

ـ دیوان الهذلیین، الدار القومیة للطباعة والنشر، القاهرة 1965.

ـ زبدة الحلب، ابن العدیم، ت: سهیل زكار، دار الكتاب العربی، دمشق 1997.

ـ شرح القصائد السبع الطوال الجاهلیات، ابن الأنباری، ت عبد السلام هارون، القاهرة 1963.

ـ العصر الإسلامی، شوقی ضیف، دار المعارف، القاهرة 1963.

ـ العصر الجاهلی، شوقی ضیف، دار المعارف، القاهرة 1965.

ـ عصر الدول والإمارات (مصر والشام)، شوقی ضیف، دار المعارف، القاهرة 1984.

ـ لا تقتل نفسك، بیتر شتاینكرون، ت: نظمی راشد، دار الهلال، القاهرة، بلا تاریخ.

ـ وفیات الأعیان، ابن خلكان، ت: إحسان عباس، دار صادر، بیروت 1969.

________________________________________

([1">)  لا تقتل نفسك ص 7.

([2">)  المرجع نفسه.

([3">)  المرجع نفسه ص 10.

([4">)  المرجع نفسه ص 7 ـ 8.

([5">)  المرجع نفسه ص 16.

([6">)  هو الحارث بن سعید بن حمدان (320 ـ 357هـ = 932 ـ 968م) أمیر شاعر فارس، ابن عم سیف الدولة الحمدانی أمیر حلب، له دیوان شعر، أشهره الرومیات، وهی قصائد ممیزة، قالها وهو أسیر لدى الروم. (وفیات الأعیان 2/58).

([7">)  شرح القصائد السبع الطوال الجاهلیات ص 369.

([8">)  العصر الأهلی ص 66.

([9">)  شرح القصائد السبع الطوال الجاهلیات ص 371، العصر الجاهلی 65 ـ 66.

([10">)  العصر الإسلامی من 258 وما بعدها.

([11">)  المرجع نفسه ص 261 ـ 262.

([12">)  عصر الدول والإمارات، مصر والشام ص 505 وما بعدها.

([13">)  دیوان أبی فراس ص 97.

([14">)  وفیات الأعیان 2/58.

([15">)  القاموس المحیط باب الثاء فصل الحاء.

([16">)  المصدر نفسه، باب السین فصل الفاء.

([17">)  وفیات الأعیان 2/61.

([18">)  زبدة الحلب 1/119.

([19">)  انظر على سبیل المثال وفیات الأعیان 2/59 وإعلام النبلاء 4/48.

([20">)  أخبار الدول للقرمانی ص 265.

([21">)  دیوان أبی فراس ص 156.

([22">)  المصدر نفسه ص 157 ـ 161.

([23">)  المصدر نفسه ص 163.

([24">)  زبدة الحلب 2/144.

([25">)  المصدر نفسه

([26">)  المصدر نفسه 1/149 وما بعدها.

([27">)  تقع جنوب شرق حمص،وتبعد عنها ستین كیلو متراً تقریباً.

([28">)  بلدة شهیرة قرب حمص أیضاً.

([29">)  وفیات الأعیان 2/61.

([30">)  دیوان أبی فراس ص 55.

([31">)  المصدر نفسه ص 107.

([32">)  المصدر نفسه ص 161.

([33">)  المصدر نفسه.

([34">)  المصدر نفسه ص 212.

([35">)  المصدر نفسه ص 254.

([36">)  المصدر نفسه ص 111.

([37">)  المصدر نفسه ص 108.

([38">)  المصدر نفسه ص 110.

([39">)  المصدر نفسه ص 210.

([40">)  المصدر نفسه ص 266.

([41">)  المصدر نفسه ص 281.

([42">)  المصدر نفسه ص 33.

([43">)  المصدر نفسه ص 246.

([44">)  المصدر نفسه ص 36.

([45">)  المصدر نفسه ص 52.

([46">)  المصدر نفسه ص 90.

([47">)  المصدر نفسه ص 213.

([48">)  المصدر نفسه ص 276.

([49">)  المصدر نفسه ص 223.

([50">)  قوله هذا یذكر بقول أبی ذؤیب الهذلی:

وإذا المنیة أنشبت أظفارها                 ألفیت كل تمیمة لا تنفعُ

(دیوان الهذلیین 3)

([51">)  دیوان أبی فراس 276.

([52">)  المصدر نفسه ص 175.

([53">)  المصدر نفسه 240.

([54">)  المصدر نفسه ص 292.

([55">)  المصدر نفسه ص 160.

([56">)  شرح القصائد السبع الجاهلیات 201.

([57">)  دیوان أبی فراس ص 219.

([58">)   المصدر نفسه ص 52.

([59">)  المصدر نفسه ص83.

([60">)  المصدر نفسه ص 317.

([61">)  المصدر نفسه ص 160.

([62">)  المصدر نفسه ص 266.

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 16:51|
شعر المدیح النبوی فی الأدب العربی - الدكتور جمیل حمداوی

1- مفهوم المدیح النبوی:


المدیح النبوی هو ذلك الشعر الذی ینصب على مدح النبی صلى الله علیه وسلم بتعداد صفاته الخلقیة والخلقیة وإظهار الشوق لرؤیته وزیارة قبره والأماكن المقدسة التی ترتبط بحیاة الرسول صلى الله علیه وسلم ، مع ذكر معجزاته المادیة والمعنویة ونظم سیرته شعرا والإشادة بغزواته وصفاته المثلى والصلاة علیه تقدیرا وتعظیما.

ویُظهر الشاعر المادح فی هذا النوع من الشعر الدینی تقصیره فی أداء واجباته الدینیة والدنیویة، ویذكر عیوبه وزلاته المشینة وكثرة ذنوبه فی الدنیا، مناجیا الله بصدق وخوف مستعطفا إیاه طالبا منه التوبة والمغفرة. وینتقل بعد ذلك إلى الرسول  صلى الله علیه وسلم طامعا فی وساطته وشفاعته یوم القیامة. وغالبا ما یتداخل المدیح النبوی مع قصائد التصوف وقصائد المولد النبوی التی تسمى بالمولدیات.

وتعرف المدائح النبویة كما یقول الدكتور زكی مبارك بأنها فن: "من فنون الشعر التی أذاعها التصوف، فهی لون من التعبیر عن العواطف الدینیة، وباب من الأدب الرفیع؛ لأنها لا تصدر إلا عن قلوب مفعمة بالصدق والإخلاص".

ومن المعهود أن هذا المدح النبوی الخالص لا یشبه ذلك المدح الذی كان یسمى بالمدح التكسبی أو مدح التملق الموجه إلى السلاطین والأمراء والوزراء، وإنما هذا المدح خاص بأفضل خلق ألا وهو محمد صلى الله علیه وسلم ویتسم بالصدق والمحبة والوفاء والإخلاص والتضحیة والانغماس فی التجربة العرفانیة والعشق الروحانی اللدنی.

2- ظهور المدیح النبوی:

ظهر المدیح النبوی فی المشرق العربی مبكرا مع مولد الرسول صلى الله علیه وسلم ، وأذیع بعد ذلك مع انطلاق الدعوة الإسلامیة وشعر الفتوحات الإسلامیة إلى أن ارتبط بالشعر الصوفی مع ابن الفارض والشریف الرضی. ولكن هذا المدیح النبوی لم ینتعش ویزدهر ویترك بصماته إلا مع الشعراء المتأخرین وخاصة مع الشاعر البوصیری فی القرن السابع الهجری الذی عارضه كثیر من الشعراء الذین جایلوه أو جاؤا بعده. ولاننسى فی هذا المضمار الشعراء المغاربة والأندلسیین الذین كان لهم باع كبیر فی المدیح النبوی منذ الدولة المرینیة.

وهناك اختلاف بین الباحثین حول نشأة المدیح النبوی، فهناك من یقول بأنه إبداع شعری قدیم ظهر فی المشرق العربی مع الدعوة النبویة والفتوحات الإسلامیة مع حسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهیر وعبد الله بن رواحة.

وهناك من یذهب إلى أن هذا المدیح فن مستحدث لم یظهر إلا فی القرن السابع الهجری مع البوصیری وابن دقیق العید.

2- مرجعیات المدیح النبوی:

قبل التغلغل فی أعماق شعر المدیح النبوی لابد أن نستقرىء المرجعیات التناصیة المباشرة وغیر المباشرة التی شكلت رؤیة شعراء هذا الفن وخاصة فی القدیم والحدیث، ولا بد من تحدید المتناص أو المصادر الشعریة القدیمة والحدیثة التی اعتمد علیها الشعراء فی نظم قصائدهم النبویة. فتبیان المعرفة الخلفیة ضروریة لفهم النص الشعری قصد خلق انسجامه واتساقه، لأنه بمثابة آلیة إستراتیجیة فی تحلیل النص الأدبی وتفكیكه.

ویتضح بعد قراءة قصائد ودواوین المدیح النبوی عبر تعاقبه التاریخی والفنی أنه كان یستوحی مادته الإبداعیة ورؤیته الإسلامیة من القرآن الكریم أولا فالسنة النبویة الشریفة ثانیا. كما أن هناك مصدرا مهما فی نسج قصائد المدیح النبوی یتمثل فی كتب التفسیر التی فصلت حیاة الرسول صلى الله علیه وسلم تفصیلا كبیرا كما یظهر ذلك جلیا فی تفسیر ابن كثیر على سبیل التمثیل، بله عن كتب السیرة التی تتمثل فی مجموعة من الوثائق والمصنفات التی كتبت حول سیرة الرسول صلى الله علیه وسلم سواء أكانت قدیمة أم حدیثة وأذكر على سبیل المثال: "السیرة النبویة" لابن هشام، وسیرة ابن اسحق و"الرحیق المختوم" لصفی الرحمن، و"السیرة النبویة"لأبی الحسن الندوی، و" السیرة النبویة" لابن حبان، و" الوفاء بأحوال المصطفى" لأبی الفرج عبد الرحمن الجوزی، و"الشفا بتعریف حقوق المصطفى" للقاضی عیاض، و"فقه السیرة" لسعید البوطی، و"فقه السیرة"لمحمد الغزالی، و"السیرة النبویة" لمحمد متولی الشعراوی، و"المنهج الحركی للسیرة النبویة" لمنیر محمد الغضبان، و"السیرة النبویة: دروس وعبر" للدكتور مصطفى السباعی، و"نور الیقین" للخضری بك، و" فی السیرة النبویة: قراءة لجوانب الحذر والحمایة" للدكتور إبراهیم علی محمد أحمد، و" ملخص السیرة النبویة" لمحمد هارون...

4- تطور المدیح النبوی فی الشعر العربی القدیم:

أول ما ظهر من شعر المدیح النبوی ما قاله عبد المطلب إبان ولادة محمد صلى الله علیه وسلم، إذ شبه ولادته بالنور والإشراق الوهاج الذی أنار الكون سعادة وحبورا، یقول عبد المطلب:

وأنت لما ولدت أشرقت *** الأرض وضاءت بنورك الأفق

فنحن فی ذلك الضیاء وفی *** النور وسبل الرشاد نخترق

وتعود أشعار المدیح النبوی إلى بدایة الدعوة الإسلامیة مع قصیدة "طلع البدر علینا"، وقصائد شعراء الرسول صلى الله علیه وسلم كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وكعب بن زهیر صاحب اللامیة المشهورة:

بانت سعاد فقلبی الیوم متبول *** متیم إثرها لم یفد مكبول

وقد استحقت هذه القصیدة المدحیة المباركة أن تسمى بالبردة النبویة؛ لأن الرسول صلى الله علیه وسلم كسا صاحبها ببردة مطهرة تكریما لكعب بن زهیر وتشجیعا للشعر الإسلامی الملتزم الذی ینافح عن الحق وینصر الإسلام وینشر الدین الربانی.

ونستحضر قصائد شعریة أخرى فی هذا الباب كقصیدة الدالیة للأعشى التی مطلعها:

ألم تغتمض عیناك لیلة أرمدا *** وعاداك ماعاد السلیم المسهدا

ومن أهم قصائد حسان بن ثابت فی مدح النبی الكریم صلى الله علیه وسلم عینیته المشهورة فی الرد على خطیب قریش عطارد بن حاجب:

إن الذوائب من فهر وإخوتهم *** قد بینوا سنة للناس تتبع

ولا ننسى همزیته المشهورة فی تصویر بسالة المسلمین ومدح الرسول صلى الله علیه وسلم والإشادة بالمهاجرین والأنصار والتی مطلعها:

عفت ذات الأصابع فالجواء *** إلى عذراء منزلها خلاء

ومن أهم شعراء المدیح النبوی فی العصر الأموی الفرزدق ولاسیما فی قصیدته الرائعة المیمیة التی نوه فیها بآل البیت واستعرض سمو أخلاق النبی الكریم وفضائله الرائعة، ویقول فی مطلع القصیدة:

هذا الذی تعرف البطحاء وطأته *** والبیت یعرفه والحل والحرم

وقد ارتبط مدح النبی صلى الله علیه وسلم بمدح أهل البیت وتعداد مناقب بنی هاشم وأبناء فاطمة كما وجدنا ذلك عند الفرزدق والشاعر الشیعی الكمیت الذی قال فی بائیته:

طربت وما شوقا إلى البیض أطرب *** ولا لعبا منی وذو الشوق یلعب

ویندرج ضمن هذا النوع من المدح تائیة الشاعر الشیعی دعبل التی مدح فیها أهل البیت قائلا فی مطلعها:

مدارس آیات خلت من تلاوة *** ومنزل حی مقفر العرصات

ویذهب الشریف الرضی مذهب التصوف فی مدح الرسول صلى الله علیه وسلم وذكر مناقب أهل البیت وخاصة أبناء فاطمة الذین رفعهم الشاعر إلى مرتبة كبیرة من التقوى والمجد والسؤدد كما فی دالیته:

شغل الدموع عن الدیار بكاؤنا *** لبكاء فاطمة على أولادها

ویقول أیضا فی لامیته الزهدیة المشهورة التی مطلعها:

راجل أنت واللیالی نزول *** ومضر بك البقاء الطویل

وللشاعر العباسی مهیار الدیلمی عشرات من القصائد الشعریة فی مدح أهل البیت والإشادة بخلال الرسول صلى الله علیه وسلم وصفاته الحمیدة التی لاتضاهى ولاتحاكى.

ولكن یبقى البوصیری الذی عاش فی القرن السابع الهجری من أهم شعراء المدیح النبوی ومن المؤسسین الفعلیین للقصیدة المدحیة النبویة والقصیدة المولدیة كما فی قصیدته المیمیة الرائعة التی مطلعها:

أمن تذكر جیران بذی سلم *** مزجت دمعا جرى من مقلة بدم

أم هبت الریح من تلقاء كاظمة *** وأومض البرق فی الظلماء من إضم

وقد عورضت هذه القصیدة من قبل الكثیر من الشعراء القدامى والمحدثین والمعاصرین، ومن أهم هؤلاء الشعراء ابن جابر الأندلس فی میمیته البدیعیة التی استعمل فیها المحسنات البدیعیة بكثرة فی معارضته الشعریة التی مطلعها:

بطیبة انزل ویمم سید الأمم *** وانشر له المدح وانثر أطیب الكلم

ومن شعراء المدیح النبوی المتأخرین الذین عارضوا میمیة البوصیری عبد الله الحموی الذی عاش فی القرن التاسع وكان مشهورا بمیمیته:

شدت بكم العشاق لما ترنموا *** فغنوا وقد طاب المقام وزمزم

ومن الشعراء الذین طرقوا غرض المدیح النبوی الشاعر ابن نباتة المصری، فقد ترك لنا خمس قصائد فی المدیح النبوی كهمزیته التی مطلعها:

شجون نحوها العشاق فاءوا *** وصب ماله فی الصبر راء

ورائیته التی مطلعها:

صحا القلب لولا نسمة تتخطر *** ولمعة برق بالغضا تتسعر

وعینیته التی مطلعها:

یادار جیرتنا بسفح الأجرع *** ذكرتك أفواه الغیوث الهمع

ولامیته التی مطلعها:

ما الطرف بعدكم بالنوم مكحول *** هذا وكم بیننا من ربعكم میل

والمیمیة التی مطلعها:

أوجز مدیحك فالمقام عظیم *** من دونه المنثور والمنظوم

5- شعر المدیح النبوی فی الأدب المغربی والأندلسی:

إذا انتقلنا إلى الأدب المغربی لرصد ظاهرة المدیح النبوی، فقد كان الشعراء المغاربة سباقین إلى الاحتفال بمولد النبی صلى الله علیه وسلم ونظم الكثیر من القصائد فی مدح الرسول صلى الله علیه وسلم وتعداد مناقبه الفاضلة وذكر صفاته الحمیدة وذكر سیرته النبویة الشریفة وذكر الأمكنة المقدسة التی وطئها نبینا المحبوب. وكان الشعراء یستفتحون القصیدة النبویة بمقدمة غزلیة صوفیة یتشوقون فیها إلى رؤیة الشفیع وزیارة الأمكنة المقدسة ومزارات الحرم النبوی الشریف، وبعد ذلك یصف الشعراء المطیة ورحال المواكب الذاهبة لزیارة مقام النبی الزكی، وینتقل الشعراء بعد ذلك إلى وصف الأماكن المقدسة ومدح النبی صلى الله علیه وسلم مع عرضهم لذنوبهم الكثیرة وسیئاتهم العدیدة طالبین من الحبیب الكریم الشفاعة یوم القیامة لتنتهی القصیدة النبویة بالدعاء والتصلیة.

ومن أهم الشعراء المغاربة الذین اشتهروا بالمدیح النبوی نستحضر مالك بن المرحل كما فی میمیته المشهورة التی یعارض فیها قصیدة البوصیری المیمیة:

شوق كما رفعت نار على علم *** تشب بین فروع الضال والسلم

ویقول فی قصیدته الهمزیة مادحا النبی صلى الله علیه وسلم :

إلى المصطفى أهدیت غر ثنائی *** فیا طیب إهدائی وحسن هدائی

أزاهیر روض تجتنى لعطارة *** وأسلاك در تصطفى لصفاء

ونذكر إلى جانب عبد المالك بن المرحل الشاعر السعدی عبد العزیز الفشتالی الذی یقول فی إحدى قصائده الشعریة:

محمد خیر العالمین بأسرها *** وسید أهل الأرض م الإنس والجان

أما القاضی عیاض فقد خلف مؤلفات عدیدة وقصائد أغلبها فی مدح الرسول صلى الله علیه وسلم والتشوق إلى الدیار المقدسة كما فی قصیدته الرائیة:

قف بالركاب فهذا الربع والدار *** لاحت علینا من الأحباب أنوار

ومن شعراء الأندلس الذین اهتموا بالمدیح النبوی وذكر الأماكن المقدسة لسان الدین بن الخطیب الذی یقول فی قصیدته الدالیة:

تألق "نجدیا" فاذكرنی" نجدا" *** وهاج لی الشوق المبرح والوجدا

ومیض رأى برد الغمامة مغفلا *** فمد یدا بالتبر أعلمت البردا

6- المدیح النبوی فی العصر الحدیث:

من یتأمل دواوین شعراء خطاب البعث والإحیاء أو ما یسمى بشعراء التیار الكلاسیكی أو الاتجاه التراثی فإنه سیلفی مجموعة من القصائد فی مدح الرسول صلى الله علیه وسلم تستند إلى المعارضة تارة أو إلى الإبداع والتجدید تارة أخرى. ومن الشعراء الذین برعوا فی المدیح النبوی نذكر: محمود سامی البارودی وأحمد شوقی وحافظ إبراهیم ومحمد الحلوی وآخرین كثیرین...

فمن قصائد محمود سامی البارودی قصیدته الجیمیة التی یقول فیها:

یا صارم اللحظ من أغراك بالمهج *** حتى فتكت بها ظلما بلا حرج

مازال یخدع نفسی وهی لاهیة *** حتى أصاب سواد القلب بالدعج

طرف لو أن الظبا كانت كلحظته *** یوم الكریهة ما أبقت على الودج

وهذه القصیدة هی فی الحقیقة معارضة لقصیدة الشاعر العباسی الصوفی ابن الفارض التی مطلعها:

ما بین معترك الأحداق والمهج *** أنا القتیل بلا إثم ولا حرج

ومن قصائد محمود سامی البارودی فی المدیح النبوی قصیدته" كشف الغمة فی مدح سید الأمة" وعدد أبیات هذه القصیدة 447، ومطلع القصیدة هو:

یا رائد البرق یمم دارة العلم *** واحْدُ الغمامَ على حی بذی سلم

ومن الشعراء الآخرین الذین نظموا على منوال البردة الشیخ أحمد الحملاوی فی قصیدته التی سماها كذلك ب "منهاج البردة" ومطلعها:

یا غافر الذنب من جود ومن كرم *** وقابل التوب من جان ومجترم

ویحذو أحمد شوقی حذو البارودی فی معارضة الشعراء القدامى فی إبداع القصائد المدحیة التی تتعلق بذكر مناقب النبی وتعداد معجزاته وصفاته المثلى كما فی همزیته الرائعة التی مطلعها:

ولد الهدى فالكائنات ضیاء *** وفی فم الزمان تبسم وثناء

ویقول فی مولدیته البائیة:

سلوا قلبی غداة سلا وتابا *** لعل على الجبال له عتابا

ومن أحسن قصائد أحمد شوقی فی مدح الرسول صلى الله علیه وسلم قصیدته المیمیة التی عارض فیها قصیدة البردة للبوصیری ومطلع قصیدة شوقی هو:

ریم على القاع بین البان والعلم *** أحل سفك دمی فی الأشهر الحرم

ومن الشعراء المغاربة المعاصرین الذین مدحوا النبی صلى الله علیه وسلم نذكر الشاعر المراكشی إسماعیل زویریق الذی خصص كتابین لسیرة الرسول صلى الله علیه وسلم تحت عنوان: "على النهج" یعارض فیهما شعراء المدیح النبوی. ومن القصائد التی نظمها فی المدح نذكر القصائد التالیة:

1- قصیدة "بانت سعاد" التی یعارض فیها قصیدة كعب بن زهیر:

بانت سعاد فما للحزن تمهیل *** الدمع منسجل والجسم مهزول

2- قصیدة" البردة یا شاكی البان" یعارض فیها قصیدة البوصیری:

یاشاكی البان كم فی البین من سقم؟ *** شكواك تنساب لحنا دافق الألم

3- قصیدة "المرتجیة" كما فی مطلع قصیدته الجیمیة التی یعارض فیها القصیدة "المنفرجة" لابن النحوی:

إن ضاق الأمر فلا تهج *** فغدا قد یأتی بالفرج

4- قصیدة "فی رحاب المدینة" التی عارض فیها قصیدة الهمزیة للبوصیری:

هاتها، ما للنفس عنها غناء *** جابنی الشوق حین عز الدواء

5- قصیدة "السینیة فی مدح خیر البریة"، التی عارض فیها الشاعر سینیة البحتری، ومطلع القصیدة هو:

یجهر البین ما تخفى بنفسی *** فسقانی كأس الشجا بعد كأس

6- قصیدة "كل مدیح فیه مختصر" وهی رائیة الروی ومطلعها:

رأیت كل مدیح فیه مختصرا *** فما تعد سجایاه وتختصر

7- قصیدة "الدالیة فی الرد على من أساء إلى الرسول برسوماته الكاریكاتوریة" عارض فیها دالیة أبی العلاء المعری ومطلعها:

أما أعنى الذی رسموا الفؤادا *** فما للصمت یلزمنی الحیادا

7- خصائص المدیح النبوی مضمونا:

من أهم ممیزات المدیح النبوی أنه شعر دینی ینطلق من رؤیة إسلامیة، ویهدف إلى تغییر العالم المعاش وتجاوز الوعی السائد نحو وعی ممكن یقوم على المرجعیة السلفیة بالمفهوم الإیجابی. كما أن هذا الشعر تطبعه الروحانیة الصوفیة من خلال التركیز على الحقیقة المحمدیة التی تتجلى فی السیادة والأفضلیة والنورانیة. ویعنی هذا أن المدیح النبوی یشید بالرسول صلى الله علیه وسلم باعتباره سید الكون والمخلوقات، وأنه أفضل البشر خلقة وخلقا، وهو كذلك كائن نورانی فی عصمته ودماثة أخلاقه. لذلك یستحق الممدوح كل تعظیم وتشریف، وهو أحق بالتمثل واحتذاء منهجه فی الحیاة، كما أن عشق الرسول صلى الله علیه وسلم فی القصیدة النبویة یتخذ أبعادا روحانیة وجدانیة وصوفیة.

ویلاحظ على الغزل الموجود فی كثیر من القصائد النبویة أو المولدیة أنه غزل یتجاوز النطاق الحسی الملموس إلى ماهو مجازی وإیحائی. أی ینتقل هذا الغزل من النطاق البشری إلى نطاق الحضرة الربانیة.

ویسافر شعر المدیح النبوی فی ركاب الدعوة المحمدیة وشعر الفتوحات الإسلامیة لیعانق التیارات السیاسیة والحزبیة فیتأثر بالتشیع تارة والتصوف تارة أخرى. ولن یجد هذا الشعر استقراره إلا مع شعراء القرن التاسع الهجری مع البوصیری وابن دقیق العید. بید أن شعر المدیح النبوی سیرتبط فی المغرب بعید المولد النبوی وشعر الملحون والطرب الأندلسی لیصبح فی العصر الحدیث شعرا مقترنا بالمعارضة فی غالب الأحیان.

وعلى أی حال، یتمیز المدیح النبوی بصدق المشاعر ونبل الأحاسیس ورقة الوجدان وحب الرسول صلى الله علیه وسلم طمعا فی شفاعته ووساطته یوم الحساب. وما حب الرسول فی القصیدة المدحیة إلا مسلك للتعبیر عن حب الأماكن المقدسة والشوق العارم إلى زیارة قبر الرسول صلى الله علیه وسلم والوقوف على جبل عرفات والانتشاء بكل الأفضیة التی زارها الحبیب أثناء مواسم العمرة والحج.

8- خصائص المدیح النبوی شكلا:

تستند أغلب قصائد المدیح النبوی إلى القصیدة العمودیة القائمة على نظام الشطرین ووحدة الروی والقافیة واعتماد التصریع والتقفیة فی المطلع الأول من القصیدة.

وتتسم القصائد النبویة والمولدیة الحدیثة ذات النمط الكلاسیكی أو التراثی بتعدد الأغراض والمواضیع على غرار الشعر العربی القدیم، والسبب فی هذا التعدد هو معارضة القصائد الأصلیة كقصائد البوصیری وقصائد ابن الفارض وقصیدة كعب بن زهیر وغیرها. وهذه المعارضة تدفع الشاعر إلى انتهاج نفس البناء والسیر على نفس الإیقاع والروی والقافیة واستخدام نفس الألفاظ والأغراض الشعریة. ومن ثم، فالقصیدة النبویة تتكون على مستوى البناء من المقدمة الغزلیة ووصف المطیة ومدح الرسول صلى الله علیه وسلم والتصلیة والدعاء والاستغفار والتوبة. وهذا ما أفقد المدیح النبوی الوحدة الموضوعیة والعضویة على الرغم من وجود الاتساق اللغوی على مستوى السطح الظاهری والانسجام على مستوى العمق الدلالی.

وفیما یخص الإیقاع الخارجی، تعتمد قصائد المدیح النبوی على البحور الطویلة الجادة التی تتناسب مع الأغراض الجلیلة الهامة كالمدیح النبوی والتصوف الروحانی والتشیع لآل البیت، لذلك یستعمل شعراء المدیح النبوی البحر الطویل والبحر البسیط والبحر الكامل والبحر الوافر والبحر الخفیف. وبعد البحر البسیط من أهم البحور المفضلة لدى شعراء المدیح النبوی ولدى شعراء المعارضة. ومن المعلوم أن البردة التی نظمها الشاعر البوصیری كانت على البحر البسیط، لذلك أصبحت هذه القصیدة نموذجا یقتدى به فی الشعر العربی الحدیث من قبل شعراء المدیح النبوی موضوعا وإیقاعا وصیاغة.

ومن أهم القوافی التی استعملت كثیرا فی الشعر النبوی المیم والسین واللام والتاء والهمزة والجیم. وهی قوافی صالحة وطیعة لرصد التجربة الشعریة المولدیة أو النبویة أو الصوفیة الروحانیة ماعدا قافیة الجیم التی تثیر جرسا خشنا ونشازا شاعریا.

وعلى مستوى الإیقاع الداخلی، فشاعر المدیح النبوی یستعمل بكثرة ظاهرة التصریع والتوازی الصوتی والتكرار الإیقاعی والجمع بین الأصوات المهموسة والأصوات المجهورة. وینسجم هذا الإیقاع الشعری بكامله مع الجو الموسیقی والنفسی والدلالی للقصائد المدحیة.

وتمتح اللغة الشعریة ألفاظها المعجمیة فی قصیدة المدیح النبوی من حقل الدین وحقل الذات وحقل العاطفة وحقل الطبیعة وحقل المكان وحقل التصوف. كما یمتاز المعجم الشعری بالجزالة وفخامة الكلمات وقوة السبك ورصانة الصیاغة وهیمنة المعجم التراثی وغلبة الألفاظ الغریبة غیر المألوفة. لذلك یغلب الجانب التراثی والبیان السلفی على هذا الشعر الدینی كتابة وتعبیرا وصیاغة.

ویستخدم هذا الشاعر المادح لرسول الله صلى الله علیه وسلم الجمل الفعلیة الدالة على التوتر والحركیة والجمل الاسمیة الدالة على الإثبات والتأكید، ونجد كذلك المزاوجة بین الأسالیب الخبریة والإنشائیة قصد خلق الوظیفة الشعریة بمكوناتها الإیحائیة والمجازیة. وغالبا ما یستوجب مكون السیرة وسرد المعجزات الأسلوب الخبری، بینما یفترض تدخل الذات وإظهار المشاعر والانطباعات الانتقال من أسلوب إنشائی إلى آخر حسب السیاقات المقصدیة والوظیفیة.

ویشغل شعر المدیح النبوی الصور الشعریة الحسیة القائمة على المشابهة من خلال استخدام التشبیه والاستعارة، والاستعانة بالصورة المجاورة عبر المزج بین المجاز المرسل والكنایة الإحالیة فی التصویر والبیان. ویمكن أن تتخذ الصور البلاغیة ذات النطاق الحسی طابعا رمزیا خاصة فی المقاطع الصوفیة العرفانیة. ویتراوح البدیع فی المدیح النبوی بین العفویة المطبوعة والتصنع الزخرفی فی القصائد المدحیة البدیعیة التی نظمت فی العصور المتأخرة كما عند ابن جابر الأندلسی فی میمیته البدیعیة.

وینتقل الشاعر تداولیا فی قصائده المدحیة من ضمیر المتكلم الدال على انفعالیة الذات والانسیاق وراء المناجاة الربانیة والاستعطاف الذاتی إلى ضمیر المخاطب أو الغیاب للتركیز على الممدوح وصفا وإشادة وتعظیما.

خاتمة:

ویتضح لنا - مما سبق ذكره - أن شعر المدیح النبوی شعر صادق بعید عن التزلف والتكسب، یجمع بین الدلالة الحرفیة الحسیة والدلالة الصوفیة الروحانیة. كما یندرج هذا الشعر ضمن الرؤیة الدینیة الإسلامیة، ویمتح لغته وبیانه وإیقاعه وصوره وأسالیبه من التراث الشعری القدیم. مما أسقط هذا الشعر فی كثیر من الأحیان فی التكرار والابتذال والاجترار بسبب المعارضة والتأثر بالشعر القدیم صیاغة ودلالة ومقصدیة.

وعلى الرغم من ذلك، فقد استطاع بعض الشعراء أن یتفوقوا فی شعر المدیح النبوی كمحمود سامی البارودی وأحمد شوقی والشاعر المغربی إسماعیل زویریق فی مجموعته الشعریة الطویلة المتسلسلة" على النهج...".

وعلیه، فالمدیح النبوی شعر دینی یركز على سیرة النبی صلى الله علیه وسلم وفضائله النیرة، وقد رافق هذا الشعر مولده وهجرته ودعوته، كما واكب فتوحاته وحب آل البیت فانصهر فی شعر التصوف لیصبح فنا مستقلا مع البوصیری وابن دقیق العید. وفی العصر الحدیث، ارتبط هذا الشعر بالمناسبات الدینیة وعید المولد النبوی، وفی نفس الوقت خضع لمنطق المعارضة المباشرة وغیر المباشرة.

بید أن السؤال الذی یتبادر إلى أذهاننا: إلى أی مدى یمكن الحدیث عن المدیح النبوی فی الشعر المعاصر، أی فی قصیدة التفعیلة والقصیدة النثریة؟ وهل ثمة حضور لشخصیة الرسول صلى الله علیه وسلم بالصورة التی وجدناها فی الشعر التراثی القدیم أو الشعر البیانی الحدیث أم بصورة أخرى مخالفة؟ هذا ما سنعرفه فی مقالات لاحقة إن شاء الله.

-------------------------------

ملاحظة:

جمیل حمداوی، صندوق البرید 5021 أولاد میمون، الناظور، المغرب

jamilhamdaoui@yahoo.fr

www.jamilhamdaoui.net

------------------------------

الهوامش:

- انظر الدكتور زكی مبارك: المدائح النبویة فی الأدب العربی، منشورات المكتبة العصریة، صیدا بیروت، الطبعة الأولى 1935، ص:17؛

- الدكتور عباس الجراری: الأدب المغربی من خلال ظواهره وقضایاه، مطبعة النجاح الجدیدة، الدار البیضاء، ط2، 1982م، ص:141؛

- نفس المرجع السابق، ص:142؛

- لسان الدین بن الخطیب: الإحاطة فی أخبار غرناطة، تحقیق: محمد عبد الله عنان، مكتبة الخانجی بالقاهرة، ط1، 1975م، ج3، ص:314-315؛

- محمد بن تاویت: الوافی بالأدب العربی فی المغرب الأقصى، ج1، دار الثقافة، البیضاء، الطبعة 1، 1982، ص:339-340؛

- عبد العزیز الفشتالی: شعر عبد العزیز الفشتالی، جمع ودراسة وتحقیق: نجاة المرینی، ص:420-428؛

- القصیدة من مخطوطة بالخزانة العامة بالرباط فی مجموع من ورقة 166-168، رقم:744؛

- لسان الدین بن الخطیب: دیوان لسان الدین بن الخطیب، تحقیق: الدكتور محمد مفتاح، المجلد1، دار الثقافة، البیضاء، ط1، 1989، ص:346-350؛

-انظر إسماعیل زویریق: على النهج، الجزء 1، ط1، 2004م، مطبعة ولیلی، مراكش؛ وانظر كذلك: على النهج، الجزء2، مطبعة ولیلی، مراكش، الطبعة1 سنة2006م؛

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 16:49|
البنیویة وما بعد البنیویة

 

البنیویة Le structuralisme تیار فكری انبثق فی أوربة فی بدایة القرن العشرین، وبلغ أوج ازدهاره فی ستینات القرن العشرین، وشمل العلوم والفنون والآداب واللغة.

وأساس هذا التیار نظریة مفادها، أن العالم لا یتألف من عناصر أو وحدات ذات وجود مستقل أو منفرد، وإنما من وحدات توجد ضمن بنیة أو نسق عام یضبط علاقاتها المتبادلة لتكتسب معنى وقیمة، إضافة إلى خاصیتها الفردیة. وتفقد هذه الوحدات معانیها وأهمیتها خارج إطار هذا النسق أو البنیة. ولا یبحث البنیویون فی خصائص الوحدات والأجزاء أو محتواها، وإنما فی علاقة الأجزاء فیما بینها بقصد الكشف عن وحدة العمل الكلیة أو النسق. وتعتمد هذه النظریة التی طبقت فی جمیع المجالات، وخاصة فی العلوم الإنسانیة والفیزیائیة، على ثلاث مقولات رئیسیة هی: الكلیة والتحول والضبط الذاتی. والكلیة نظام شامل من العلاقات المتبادلة بین جمیع الوحدات التی تنتمی إلیه، وتستمد منه معناها وقیمتها. فاللغة بنیة كلیّة، أو نسق من العلاقات الدلالیة والصرفیة والنحویة، یحدد معانی الكلمات ووظائفها. فكلمة mouse، وهی وحدة فی بنیة اللغة الإنكلیزیة الكلیّة، تعنی «فأراً» فی هذه اللغة وحدها، بمقارنتها بالكلمات التی تنتمی إلى المجموعة الوظیفیة ذاتها، كالكلب والبقرة والقطة؛ فإذا أخرجت من هذه البنیة تفقد هذا المعنى، ما لم یكن لها معنى آخر فی نسق لغوی آخر، إذا كان صوتها یوحی بهذا المعنى؛ وهذا نادر، ولا یكون إلا مصادفة.

أما التحول فهو نظام تتمتع به البنیة، على ثباتها، لیساعد فی إیجاد معانی وتركیبات متجددة دائماً، لكن ضمن قواعدها الثابتة والضبط الذاتی لكل وحدة فیها. فمثلاً إن أی كلمة فی اللغة لها وظیفة ثابتة ضمن البنیة الكلیة، كأن تكون اسماً، أو فعلاً أو نعتاً، ولكن یمكن أن ترد هذه الكلمة فی عدة تشكیلات وتركیبات تحول معناها بشرط أن تحافظ على وظیفتها. فكلمة cat فی الإنكلیزیة وهی اسم، ولا یمكن أن تأتی بوظیفة فعل إلا بخرق القانون العام للبنیة، ولكنها تأتی فی عدة تركیبات. وضمن هذا التحول أیضاً، یمكن لهذه الكلمات أن تكتسب معانی جدیدة حسب تبدل العلاقات بعضها ببعض وحسب التغیرات التی تطرأ على استخدام اللغة فی مجتمعاتها لتكسبها مدلولات جدیدة. وهنا یأتی الضبط الذاتی لیحافظ على وظیفة الوحدات وعلاقتها ببعضها ضمن ضوابط ثابتة داخل النسق العام.

البنیویة فی اللغة

یعد اللغوی السویسری فردیناند دی سوسور[ر] F. de Saussur واضع الأسس العملیة للبنیویة الألسنیة. ففی «محاضرات فی الألسنیة العامة» (1915) Cours de linguistique générale  میز دی سوسور اختلافاً بین ثلاثة مستویات داخل النشاط اللغوی: اللسان Langue وهو المظهر الأوسع للنشاط اللغوی لأنه یشمل المقدرة الإنسانیة على الكلام؛ واللغة Language وهی نظام یستخدمه الناس لتولید المحادثة؛ والكلام Parole وهو الشكل الفردی الخاص فی استعمال اللغة. ویعد تعریف دی سوسور للّغة بأنها «نظام لا یعرف إلا ترتیبه الخاص» أول توصیف للّغة كبنیة. وقد وضع دی سوسور مجموعة من الأدوات المفهومیة أسهمت فی وصف ذاك النظام، وكان لها الأثر الكبیر فی تطویر المنهج البنیوی بوجه عام.

 1ـ التزامن synchronie والتزمّن diachronie: التزامن هو دراسة حال اللغة والعلاقة بین عناصرها فی مرحلة زمنیة محددة من دون الاهتمام بتطورها التاریخی، ویقوم على اعتبار اللغة كلاً متماسكاً إلى حد ما. أما التزمّن فهو دراسة اللغة فی تطورها من خلال التغیرات التی تطرأ علیها. فالحاجة قائمة فی العلوم إذن للتفریق بین محورین: محور أفقی (محور المعیّة) الذی یهتم بالعلاقات القائمة بین عناصر تتواجد فی الوقت نفسه، ومحور شاقولی (محور التعاقب)  الذی یهتم بتغیر العناصر والعلاقات بینها فی أوقات متعاقبة. وقد اهتم دی سوسور بالتزامن لدراسة اللغة، ولیس بالتزمن.

2ـ العلاقات التركیبیة syntagmatique والعلاقة التبادلیة paradigmatique: العلاقات التركیبیة هی تلك التی تقیمها وحدة ألسنیة ما مع الوحدات الأخرى فی المستوى نفسه لتشكل تركیباً (مثل العلاقات التی تقیمها الكلمات لبناء جملة)؛ أما العلاقات التبادلیة فهی تلك التی توجد بین وحدات تقوم بالوظیفة نفسها ویمكن إبدالها فیما بینها.

3 ـ العلامة signe: رأى سوسور أن اللغة نظام «علاماتی» ولیس منتوجاً تاریخیاً، وأعاد تعریف العنصر الرئیس للبنى اللغویة فأطلق علیه تسمیة علامة ثم بیّن أن لهذه العلامة ماهیة مزدوجة، أی أنها كلٌّ مركب یربط بین صورة سمعیة (الدالّ) وتصور ذهنی (المدلول)  ولا یسبب أحدهما وجود الآخر، ولكن یعتمدان  على بعضهما فی تشكیل علامة تعد عنصراً فی بنیة اللغة ككل. أما العلاقة التی تربط بینهما فهی علاقة خطیة واعتباطیة، أی إن اختیار هذه الصورة السمعیة حاملاً لذاك التصور الذهنی هو أمر مفروض على مستخدمی اللغة نفسها فی إطار بنیة اللغة التی تسهم فی حیاة الناس فی مجتمعاتهم.

تطورت البنیویة الألسنیة تطورا كبیرا بعد دی سوسور، وذلك فی ثلاثة مناح أساسیة هی:

 1ـ مدرسة براغ[ر]: تركزت التوجهات الأساسیة لهذه المدرسة حول المظاهر الصوتیة للّغة. وكان من أشهر أقطابها الروسیان نیكولای تروبتسكوی[ر] N.Trubetskoï ومن أشهر كتبه «مبادئ التصویتیة»، ورومان یاكوبسون[ر] R.Jakobson الذی اشتهر إلى جانب دراساته فی الألسنیة بدراساته فی الشعریة La poétique التی شرح فیها نظریته حول العلاقات الدیالكتیكیة فی اللغة وفی اللسان، وعرضها بشكل محدد فی دراسته المشتركة مع كلود لیفی شتراوس[ر] C.Levi-Strauss حول قصیدة «الهررة» لبودلیر[ر]، وكذلك فی كتابه «مسائل فی الشعریة» (1973) Questions de poétique وقد كان لشتراوس كبیر الأثر فی إرساء قواعد التحلیل اللغوی.

 2ـ المدرسة الوظیفیة الفرنسیة: وأهم ممثلیها أندریه مارتینیه A.Martinet الذی ركز دراساته على التصویتیة فی «اقتصاد التغیرات التصویتیة» (1955) ، و«مبحث فی التصویتیة التزمنیة» (1955) وعلى مفهوم «التمفصل المزدوج». وإیمیل بنفینست[ر] Benveniste فی كتابه «مسائل فی الألسنیة العامة» (1966) Problèmes de linguistique générale.

3ـ  مدرسة كوبنهاغن: وأهم أعلامها لویس یلمسلیف  (1899 - 1965) L.Hjelmslev  الذی طوّر مفاهیم دی سوسور وسعى إلى تأسیس علم للدلالة sémiotique قائم على وجود تشابه فی بنیة الشكل والمضمون.

البنیویة فی الأدب

تطورت مناهج التحلیل البنیوی فی الأدب انطلاقاً من النظرة إلى النص الأدبی كمظهر من مظاهر اللغة، ما یجعل بالإمكان دراسته بوساطة الشبكات أو البنى المستعملة فی دراسة اللغة: بنى نحویة، خطابیة، صوتیة، لیصبح بذلك نسق اللغة نموذجاً للنقد. وقد طبق البنیویون التحلیل البنیوی على الأجناس والأشكال والأسالیب الأدبیة لمعرفة كیف تعمل وكیف تركب ضمن نسق لغوی ذی نظام ثابت ومتغیر فی الوقت نفسه ضابط النصوص الأدبیة، وطبق هذا النظام على بنیة  الروایة، ولم یكن التطبیق على المعنى الذی یقدمه النص الأدبی بل على البنیة التی یخضع لها النص لیولد المعنى. وذهب البنیویون إلى إظهار العمل الأدبی نموذجاً أو منتجاً یمثل هذه البنیة. وكان لدراسة لیفی شتراوس للأسطورة وبنیتها أكبر الأثر فی تطویر نظریة النقد البنیوی فی الأدب، إذ سلط الضوء على أسطورة أودیب مثلاً، بأن تناولها وقسّمها إلى أحداث صغیرة épisodes mythèmes تتكرر، ویعاد تركیبها وتشكیلها ضمن شبكة ذات بعدین متضادین لیستخرج منها التقابلات المهمة ذات الدلالة التی یُفترض أن الأسطورة تدور حولها، لیس حسب التسلسل الزمنی أو التراكم الحدثی وإنما الدلالی البنیوی لها. فأحداث الأسطورة مهما كان عددها تُصنف حسب البنیة التی تحكمها إلى أعمدة أربعة تبعاً للمعاییر التالیة: الإفراط فی تقدیر صلات القرابة (أودیب یتزوج یوكاستا)، الحط من قدر صلات القرابة (أودیب یقتل أباه)، قتل الوحوش (أودیب یقتل الهولة)، صعوبة الوقوف بانتصاب (لایوس أعسر، لابداكوس أعرج). وهكذا فجمیع الأساطیر تتبع نظاماً بنیویاً واحداً ولكن تظهر فی أشكال متعددة ومتكررة.

وهكذا یوظف النص الأدبی نموذجاً یوضح البُنى والمعاییر التی تحكمه، ویعتمد فی هذا على مبدأ القطبیة الثنائیة أو الثنائیات الضدیة binary oppositions التی یُبنى على أساسها الإطار الذی یولد المعنى ویُحصر ضمنه مثل: الطبیعة/ الحضارة، الذكر/ الأنثى، الحیاة/ الموت، المفتوح/ المغلق، الخیر/ الشر.

وقد أسهم یاكوبسون أیضاً فی دراسته للنص الأدبی واللغة المستخدمة للكتابة باكتشاف قوانین جدیدة تحكم النص، فعارض النظرة السائدة حول معاییر الروایة الأدبیة التی تقول بأن الروایة الأدبیة تتقدم زمنیاً من خلال تطور الأحداث فیها، وبأنها لاتخضع لقانون التزامن وإنما التزمن فقط؛ وقدم طرحاً جدیداً بأن اللغة الأدبیة موجودة فی فضاء محدد ترتبط فیه عناصرها ببعضها أفقیاً، كما العلاقة بین المركبات والكلمات التی تؤلف جملة؛ وشاقولیاً بعلاقة تبادلیة تسمح للكلمات التی تنتمی إلى الفئة الوظیفیة نفسها بأن تحل محل بعضها فی الجملة. فهناك إذاً محور شاقولی یختار فیه الأدیب الكلمات ثم یركبها حسب المحور الأفقی فی فضاء بنیوی یولد النص الأدبی الروائی الذی تضبطه معاییر وقوانین بنیة هذا الفضاء. وفقاً لهذا یظهر النص تبعاً لنظامه اللغوی ولیس لإرادة المؤلف، وعلى الباحث أن یسبح فی فضاء النص لیكشف البنیة الحقیقیة عن طریق التناص[ر] intertextualité، وما یضعه المؤلف هو نصوص مكتوبة سلفاً لنظام أو نسق للكتابة مسبق الصنع.

  ولقد أجریت أولى المقاربات البنیویة للأدب فی روسیة. فهناك من جهة دراسة فلادیمیر بروب  (1895-1970) V.Propp عن الحكایات الشعبیة فی روسیة: «مورفولوجیة الحكایات الشعبیة» (1928) Morphology of the Folktale، وفیها یعالج مئة حكایة من الحكایات الشعبیة ویدرس كل حكایة على حدة بصفتها بنیة متفردة، لیستنتج أن شخصیات الحكایات متغیرة لكن وظائفها «أی ما تفعله الشخصیة من وجهة نظر أهمیتها فی مجرى الحدث» تبقى ثابتة ومحدودة، ونجد من جهة أخرى الدراسات التی كتبت فی المدة الممتدة بین 1915 و1930 ولم تعرف فی أوربة إلا فی الستینات تحت اسم الشكلانیة Formalisme الروسیة. ومن بین واضعی هذه الدراسات تتمیز أسماء توماشفسكی (1890-1957) B.V.Tomasjevski، وآیخنبوم (1886-1959) B.M.Eichenbaum ، وشكلوفسكی (1893ـ) V.V.Chklovski، وتینیانوف (1894-1943) V.V.Tynyanov، وفینوغرادوف (1895-1969) V.V.Vinogradov، كما تدخل فی سیاق هذه المقاربات كتابات الناقد میخائیل باختین[ر] M.Bakhtin «فرانسوا رابلیه[ر] والثقافة الشعبیة إبان النهضة» (1965) ، و«شعریة دستویفسكی» (1929)، و«علم جمال الروایة ونظریتها» (1965)، و«جمالیة الإبداع اللغوی» (1979)، و«الماركسیة وفلسفة اللغة» (1929). وقد وجدت دراسات بروب ورثة لها فی النقد البنیوی الفرنسی لدى كل من الجیرداس جولیان غریماس (1917- 1986) A.J.Greimas وكلود بریمون (1929-) Cl.Bremond  وتزفیتان تودوروف  (1939-) T.Todorov.

 اهتم الناقد اللیتوانی الأصل غریماس، بوجه خاص، بعلم الدلالة فی مؤلفاته «علم الدلالة البنیوی» (1966) و«أبحاث فی علم الدلالة» (1970)، و«علم الدلالة والعلوم الاجتماعیة» (1976)  فوضع مجموعة من المفاهیم التی تسمح باستشفاف البنیة الأساسیة للمعنى. وقد نظم هذه المفاهیم فی مخطط نمطی قابل للتطبیق على أی نص سردی. وتابع بریمون فی «منطق الحكایة» (1973)  الارتباط المنطقی للوظائف التی تتضمنها كل حكایة لیحدد الإمكانات البنیویة لترابط السرد تبعا لمنظومة ارتقاء وانحطاط، مما یسمح له بوضع تصنیف للمقاطع السردیة. أما تودوروف فقد استخلص من دراساته للأدب العجائبی فی «مدخل إلى الأدب العجائبی» (1970) Introductionla littérature fantastique الهیكلیة البدئیة العمیقة التی تُبنى علیها نصوص هذا الجنس الأدبی.

إلى جانب هذه التصدیات البنیویة لقضایا عامة فی الأدب هناك مقاربات ترد على ما أخذه نقاد البنیویة على منهجیتها من عدم صلاحیتها لقراءة النصوص الفردیة. ومن أهم ما أنتج فی هذا المضمار أعمال رولان بارت[ر] R.Barthes مثل دراسته «اس/ زد» (1970) S.Z التی یقدم فیها قراءة نقدیة عملیة لقصة «العربی» لبلزاك[ر]، ودراسة تزفیتان تودوروف «قواعد دیكامیرون» (1969) Grammaire du Décaméron عن كتاب بوكاتشو[ر]، وجیرار جینیت (1930ـ) G.Genette فی الجزء الثالث من كتاب «أشكال 3» (1972) Figures III الذی یقدم فیه دراسة منهجیة لروایة «البحث عن الزمن المفقود»A la recherche du temps perdu لمارسیل بروست[ر]، ویعد هذا الكتاب المرجع الأساسی للدراسات السردیة. وبهذه المقاربات وصلت البنیویة إلى مرحلة ما بعد البنیویة.

البنیویة فی العلوم الإنسانیة

سبق نجاح البنیویة فی مجالات العلوم الإنسانیة نجاحها فی مجالی الأدب واللغة وخاصة فی علم الإناسة Anthropology، إذ بیّن الإناسی الفرنسی كلود لیفی ـ شتراوس أن الرفع التفصیلی للممارسات الاجتماعیة یسمح باستخلاص البنى الخفیة التی تحدد هذه الممارسات، وهذا ما أثبته فی عدید من كتبه مثل «علم الإناسة البنیوی» (1955) Anthropologie Structurale، «النیئ والمطبوخ» (1964) Le cru et le cuit، «من العسل إلى الرماد» (1966) Du miel aux cendres. ومن المحطات المهمة فی مقاربة البنیویة للعلوم الإنسانیة أعمال لوی آلتوسیر (1918-1990) L.Althusser الذی ینطلق فی كتابیه «من أجل ماركس» و«قراءة رأس المال» الصادرین عام 1965 من البنى الاقتصادیة والاجتماعیة التی یدرسها ماركس فی «رأس المال» لیصل إلى نظریته فی التطبیق العملی «البراكسیس» Praxis سیرورةً للتحولات المستقلة، وأعمال میشیل فوكو (1926 - 1984) M.Foucault «الكلمات والأشیاء» (1966) Les mots et les choses و«أحفوریات المعرفة» (1969) L’Archéologie du savoir وفیها یرى أنه لتطور العلوم الإنسانیة یجب التخلی عن تراكمات الأنظمة الإنسانیة التی تدل على انحطاط الإنسان أكثر من رقیه، وعلى جهله أكثر من وعیه، وتدمر هذا الإنسان وما حوله، بسبب الإیدیولوجیات التی هی مجرد أوهام وأباطیل یخلقها فتقیده.

ما بعد البنیویة

بدأت البنیویة فی الانهیار فی أوائل السبعینات من القرن العشرین، وظهر مكانها فی فرنسة ما اصطلح على تسمیته «ما بعد البنیویة» Post-structuralisme. وكان رولان بارت وجاك دیریدا Jacques Derrida أهم فلاسفتها. وكان بارت قد تحول عن البنیویة إلى ما بعد البنیویة، وانتقل فی دراسته من أهمیة الكاتب فی تركیب النص الأدبی باعتماد معاییر وبنى جاهزة الصنع إلى دور قارئ النص فی تولید معانی جدیدة لا نهایة لها. وجاء هذا فی مقالته «موت كاتب» (1968) La mort d’un auteur التی أعلن فیها استقلالیة النص وحصانته ضد أی تقیید له بمعاییر أو بحدود مضمونة أو بحدود ما قصده الكاتب منه، فیصبح القارئ بهذا هو المنتج للنص ولمعان متجددة فیه. یؤكد بارت فی كتابه «متعة النص» (1975) Le plaisir du texte أنه فی غیاب الكاتب تصبح عملیة إیجاد تأویلات للنص عملیة عبثیة لا نهایة لها، لكنها ممتعة، وتأتی المتعة من امتلاك النص  لإمكانات «اللعب» بالمعانی. ولكن هذا لا یعنی تخلیاً فوضویاً عن كل القیود، وإنما تفكیكاً déconstruction وهدماً منظمین لإنتاج معان أخرى، وكأن القارئ یعید كتابة النص، فیصبح منتجاً له ولیس مستهلكاً، وهذا أساس المذهب التفكیكی، الذی طوره دیریدا، وهو أساس «مابعد البنیویة».

كان لمقالة دیریدا الشهیرة «البنیة والدال واللعب فی خطاب العلوم الإنسانیة» (1966)  أكبر الأثر فی الخطاب ما بعد البنیوی، إذ شكك فیها بأسس البنیویة بقوله: «لكی لا تنهار یجب أن یكون لها مركز خارج هذه البنى»، ووجود هذا المركز یدحض فكرة البنیویة ویظهر تناقضها من الداخل. وهو یرى أن هذا المركز غیر ثابت، فمثلاً إذا نظرنا إلى المتضادات الثنائیة على أنها الأحجار التی تشكل البنى، نرى أنها تعمل بصورة نسقیة هرمیة Hiérarchique إذ تسیطر واحدة على الأخرى وتتمایز عنها (مثل ثنائیة ذكر/ انثى)، ولكن إذا قلبت علامة التمایز هذه یتولد منطق تفكیكی یهدم البنیة ویهز استقرارها لیعید خلق معان جدیدة دائمة التغیر.

وإضافة إلى دیریدا كان فوكو[ر] Foucault ولاكان Lacan، فی مجال التحلیل النفسی، ناشطَین فی حركة مابعد البنیویة على الرغم من أنهما كانا فی البدایة بنیویین، إذ طرح فوكو فی كتاباته نظریته بأن أی نظام علاماتی لا یمكن أن یعمل بمعزل عن علاقات السیطرة التی تربط المفاهیم ببعضها L’inconscient، وطرح لاكان أن اللاوعی ولید اللغة ولیس العكس.

وفی حین یرى البنیویون أن الإنسان لا یملك وسیلة للوصول إلى الحقیقة إلا عبر اللغة وبنیتها ولیس العكس، فإن ما بعد البنیویین یرون أنه من المستحیل الوصول إلى الحقیقة، حتى عبر اللغة، فكل شیء تابع «لمیتافیزیقیة الوجود» والدال الكلامی مائع یسبح دائماً بعیداً ومتحرراً عن المدلول. وبهذا تصبح اللغة مائعة قابلة «للانزلاق» و«للانسكاب»، والعلامات تتركب عشوائیاً، لأنها تملك دینامیكیة لا تظهر إلا فی النص المكتوب، حیث تعید تشكیل وخلق معان جدیدة ضد المعنى الظاهر، ولاسیما أن النص یبقى بعد موت الكاتب، فیعمل النص ضد ذاته. وهكذا لا یمكن لمعانی الكلمات أن تكون ثابتة، فالكلمات مشوبة بعكوساتها، مثلاً: لا یمكن إدراك «اللیل» إلا بالرجوع لمفهوم «النهار». وقلب العلامة بین المتضادات یؤدی إلى عدم استقرار اللغة الذی هو أساس فلسفة «ما بعد البنیویة» التی تركز على قراءة النص ضد نفسه، والبحث عن «لاوحدته» بدل وحدته، وعما كتب فیه فی «اللاوعی» بدل الظاهر السطحی.

وقد تأثر ما بعد البنیویین بفلسفة نیتشه[ر] وهایدغر[ر] فروید[ر] الذین رأوا فقدان «المركز» فی عالمنا الفكری، بالمقارنة مع عصر النهضة Renaissance الذی كان الإنسان فیه هو المركز به یقاس كل شیء؛ فإنسان القرن العشرین فقد هذا «المركز» فی عملیة عدم تمركز Décentralisation، بسبب الأحداث السیاسیة مثل الحرب العالمیة التی كانت نهایة الوهم  بأن أوربة هی مركز الحضارات والثقافات، أو بسبب ثورة الاكتشافات العلمیة مثل التوصل إلى نظریة النسبیة[ر] Relativité التی قضت على مفهوم أن الوقت والزمان مطلقان مركزیان، أوبسبب الثورة الفكریة والفنیة مثل حركة الحداثة[ر] فی الفن والأدب التی رفضت الانسجام فی الموسیقى والسرد الزمنی ووحدة النص فی الروایة. ففی العالم ما بعد البنیوی لا یوجد مركزیة ثابتة للأشیاء ولا نقاط ثابتة مطلقة، فالكون الذی نعیش فیه لا تمركزی ونسبی فی طبیعته، وهذا یعطی حریة «اللعب» بخلق مراكز جدیدة متغیرة باستمرار إلى مالا نهایة. وهكذا لا توجد حقائق أكیدة، وإنما تفسیرات وتأویلات، لا یمكن لأی منها أن یدعی الصحة  أو السیطرة أو الثبات. ولا یزال هناك جدل كبیر حول إذا ما كانت «ما بعد البنیویة» امتداداً للبنیویة أم ثورة علیها، ومع أن ما بعد البنیویة سیطرت وتفوقت على البنیویة إلا أنها یمكن أن تُعد مجرد مراجعة وصیاغة جدیدة لها.

 

حسان عباس، ریما حكیم

 

مراجع للاستزادة:

 

ـ جان ماری أوزیاس وآخرون، البنیویة، ترجمة میخائیل مخول (وزارة الثقافة، دمشق 1972) .

ـ جون ستروك، «البنیویة وما بعدها ـ من لیفی شتراوس إلى دیریدا»، ترجمة محمد عصفور، عالم المعرفة 206 (الكویت 1996).

ـ روبیرت شولز، البنیویة فی الأدب، ترجمة حنا عبود (اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1984).

ـ لیونارد جاكسون، بؤس البنیویة ـ الأدب والنظریة البنیویة، ترجمة ثائر دیب (وزارة الثقافة، دمشق 2001).

ـ ولیم رای، المعنى الأدبی ـ من الظاهراتیة إلى التفكیكیة، ترجمة یوئیل یوسف عزیز (دار المأمون، بغداد 1987).

- JEAN PIAGET, Le Structuralisme, PUF (Paris 1968).

- JEAN-MARIE AUZIAS, Clefs pour le structuralisme, Seghers ( Paris 1971).

- OSWALD DUCROT et autres, Qu‘ est-ce que le structuralisme, Seuil ( Paris1968).
- TERENCE HAWKES, Structuralism and Semiotics ( London, 199
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 16:48|
الخیال الأدبی


 

یعرف الخیال عامة بأنه القدرة العقلیة على التجریب واستكشاف الجدید، وعلى البناء والتشكیل والمحاكاة والربط باستخدام صور ذهنیة تحاكی الطبیعة، وإن لم تعبر عن شیء موجود فی الواقع. وهو القوة التی تحرك المخیلة والإبداع والرؤى والفكر وتؤسس من ثم للفرضیات. وهو یختلف عن المخیلة fancy التی تستحضر الصور الذهنیة التی تسجلها الذاكرة وتتصرف بها بالتركیب والتحلیل والزیادة والنقصان والحذف والدمج، لتنتج تركیبة جدیدة، معقولة أو غیر معقولة لحد الغرابة، فتغدو عندها فانتازیا fantasia. ومن تعریفات الخیال أیضاً أنه قدرة الفنان على إسقاط مشاعره على موقف أو شخصیة أو مكان أو فكرة إسقاطاً ینتج من التفاعل المتعاطف مع أی منها، وهو الملكة التی تمكن الذهن من إبداع رموز للمفهومات المجردة، والمرادف الشعری أو الفنی للحدس الصوفی.

وقد اختلف الفلاسفة والنقاد والكتاب فی تعریف كلمة «الخیال» وتفسیرها وتحدید مفهومها، وسبب هذا الجدل هو أنها مصطلح معرفی إدراكی cognitive یتخذ معانی عدة باختلاف المضامین ونظریات المعرفة. فثمة من یرى أن الحواس تسیطر على الخیال، ومن یرى أنه تابع للأحاسیس، وهناك من یرجعه إلى العقل، إلا أن هناك إجماعاً على أهمیة الخیال فی الأدب، وإن اختلف النقاد والأدباء، كلٌ وفق انتمائه، فمنهم من وجد أن الخیال مصدر إلهام للأدب عموما، والشعر خصوصاً، إلا أن أهمیته لا تتعدى الإلهام الأولی للفكرة، ثم یتولى العقل عملیة التألیف الأدبی. ومنهم من رأى أن الخیال هو أساس الشعر موضوعاً ولغة، وأنه یحتل مرتبة أسمى من العقل.

كان أفلاطون[ر] أول من أعطى أهمیة للخیال فی الأدب، إذ رأى أن الشاعر الذی یستخدم الخیال مبدع یتمتع بوحی إلهی، وهو كالعاشق فی جنونه وجموحه، كما وصف أرسطو[ر] الخیال بأنه «العملیة التی تُتمثل عبرها الصور الذهنیة»، وأنه شكل من أشكال الذاكرة ومصدر للإلهام، وقد اتفق معظم الفلاسفة والكتاب الأفلاطونیین الجدد والنقاد والكتاب الاتباعیین إبان عصر النهضة على أهمیة الخیال فی الإبداع، لكنهم أكدوا على ضرورة إخضاعه للحكمة والعقل، لضبط عملیة الإبداع باستخدام المحاكاة والصور والرموز، بهدف التثقیف والإمتاع وخلق عالم أجمل من العالم الواقعی. فالخیال أساسی فی كل عملیات التفكیر، لذا فهو یعزز الإبداع، ولكن لیس له علاقة خاصة به، ولا یشكل أساساً للأدب، وإنما هو أحد وسـائل الإلـهام وأمر واقع فیه، بما أن الأدب نمط من أنماط الفكر. ورأى هوراسـیوس[ر] Horatius أن عملیة الإبداع الأدبی تبدأ باستخدام الخیال لاكتشاف الفكرة أو الموضوع، ثم وضع هذه الفكرة فی صیغة أو قالب أحد الأجناس الأدبیة المتداولة، واختیار اللغة والكلمات المناسبة للتعبیر عنها. وبهذا یكون الخیال لدى الاتباعیین الرومان جزءاً من عملیة التألیف والإبداع التی تأتی ضمن قوالب وأنساق جاهزة تضبط جموح أو انفلات هذا الخیال.

سادت هذه النظریات فی الخیال حتى العصور الوسطى وعصر النهضة فی أوربا القرن السادس عشر، حین بدأ النقاد یعرِّفون الخیال من حیث تضاده مع العقل، إذ عدوه أساساً لاكتساب التصور الشعری والإدراك المعرفی والدینی والروحانی. فمیز دانتی[ر] بین الخیال كوهم وبین الخیال السامی الذی رأى فیه مرادفاً للإبداع الفنی والشعری. ورأى شعراء عصر النهضة أن الشاعر یلاحظ بوساطة الخیال ما لا یشاهده الشخص العادی، فیخلق رموزاً جدیدة، لیصبح الأدب والفن أكثر من مجرد محاكاة أو إعادة ترتیب وتشكیل للعالم الخارجی. وقد عدَّ فرانسیس بیكون[ر] F.Bacon الخیال إحدى ملكات العقل الأساسیة الثلاث: الذاكرة والخیال والعقل، «فالتاریخ یرجع للذاكرة والشعر یرجع للخیال والفلسفة ترجع للعقل»، لكنه أكد أن هذه یجب أن توظف توظیفاً عملیاً ذرائعیاً یخدم الإنسان. واستخدم توماس مور[ر] «الخیال» فی وصف المدینة الفاضلة (الیوتوبیا).

وقد شدد الاتباعیون الجدد فی القرنین السابع عشر والثامن عشر، من أمثال راسین[ر] وكورنیّ [ر] ودرایدن[ر]، على كون الإبداع عملیة آلیة (میكانیكیة) تتبع نظاماً معیناً یسهم فیها الخیال ویضبطها العقل والحكمة. وقد أكد الفیلسوف الإنكلیزی هوبز[ر] T.Hobbes فی كتابه «لویاثان»Leviathan  ت (1651) أن الخیال والمخیلة شیء واحد یبدآن من الحواس ثم یتحولان إلى صور ذهنیة تسكن المخیلة، تتوالى وتتلاشى تارة وتتدفق تارة أخرى لتخلق تركیبات جدیدة، فیصبح الخیال والمخیلة واحداً مع الذاكرة، ومن هذه الصور یستحضر الكاتب موضوعاته الجدیدة. والخیال عند هوبز هو التجربة التی «تولد الذاكرة، والذاكرة تولد المحاكمة التی تعطی قوة وبنیة الشعر، والخیال یعطی الشعر تمیزه وزینته» لأنه یبیّن التشابهات بین الأشیاء، فی حین یستكشف العقل الفوارق. ووصف جوزیف أدیسون[ر] الخیال فی كتابه «مباهج الخیال» The Pleasures of the Imagination ت(1712) بأنه الملكة التی تستحضر الصور المرئیة كما تتلقاها الحواس وتعید ترتیبها، وأرجعه إلى العملیة التی تحدث وفقها محاكاة الواقع، إلا أنه لم یتفق مع هوبز بأن على الكاتب أن یستخدم خیاله بحكمة لیجد تشابهات بین الأشیاء، بل رأى أنه لابد للكاتب أن یضیف شیئاً من الإمتاع الأدبی بإیجاده تشابهات غیر مألوفة.

تأثر الشعراء الإبداعیون (الرومنسیون) فی أواخر القرن الثامن عشر وبدایة التاسع عشر، بفلسفة كَنت [ر] Kant، وفیشته[ر] Fichte وشِلینغ[ر] Schelling وهیغل[ر] Hegel. واتجه الإبداعیون فی أوربا ولاحقاً فی أمریكا إلى الخیال اللامحدود واللانهائی، وصار الخیال عندهم مساویاً للحكمة وقد یتفوق علیها لیصبح شكلاً من أشكال الوعی الإنسانی، فاستخدم بلیك[ر] ووردزورث[ر] مثلاً خیال الطفل، وأعطیا له أهمیة تفوق عقل البالغ، لبساطته وعمقه ونقائه. وتأثر الإبداعیون أیضاً بشكسبیر[ر] نموذجاً، واتبعوا منهج روسو[ر] فی الطبیعة، ونبذوا أی تقید بأحكام وقوالب أدبیة جاهزة. ویعد الشعر الإبداعی أهم حقل فی دراسة دور الخیال فی الأدب، ففی الخیال یكمن جوهر العمل الأدبی، إذ یخاطب الشعر ملكة الخیال عند الإنسان ولیس عقله، ویتفاوت فی القوة والخصب من شاعر إلى آخر. ویرى بلیك أن الخیال هو الحقیقة والأبدیة والدیمومة، فعالم الخیال لا نهائی یرى فیه الشاعر العالم فی حبة رمل، فی حین یرى وردزورث أنه من خلال الرؤى والخیال یستطیع الشاعر اكتشاف حقیقة الوجود التی تتجلى فی الإله. وقد یجمح الخیال عند بعض الشعراء لدرجة یصعب فهم شعرهم وماهیة الرموز التی یستخدمونها.

وتعد نظریات كولردج[ر] Coleridge من أهم النظریات فی الخیال لكونه شاعراً وناقداً، وقد جاءت نظریته التی تحدث عنها فی كتابه «سیرة أدبیة» Biographia Literaria ت(1817) تطویراً لفكرة الاتباعیین الجدد عن قدرة الشاعر على الربط والمقارنة ونقداً لها فی الوقت ذاته. فقد رأى أن نظریة الاتباعیین فی الخیال تشكل جزءاً من عملیة منظمة تجعل العقل البشری تابعاً سلبیاً لعملیات میكانیكیة تركیبیة تخلو من الإبداع، ورأى أن یكون عقل الشاعر فی نشاط دائم، وهو قادر على الخلق لیضیف للأدب بعداً خاصاً. ولهذا كان كولردج أول من فرق بین الخیال والمخیلة متأثراً بفلسفة شِلینغ وفیشته، فالخیال هو ملكة عضویة تخلق وتشكل وتصوغ، والمخیلة هی الشكل القدیم للتخیل الذی یعید استحضار صور من الذاكرة ویعید تركیبها وتشكیلها بطریقة جدیدة، وربما غیر معقولة، ولكن لیست خلاقة. وهی بهذا جزء من الذاكرة تستقی مادتها مما تشاهده ومن محاولة ربطه بعضه ببعض. وربط الصور والأفكار هو أحد وظائف الشعر، ولكنه لا یكفی للإبداع، فالخیال المبدع لا یكتفی بإعادة الترتیب وإنما ینصهر ویذوب ویتوحد تماماً فی عملیة الإبداع والأحاسیس والعاطفة والتأمل لیظهر حقیقة من حقائق الوجود ولیخلق واقعاً جدیداً، فهو برأی كولردج القوى الخلاقة التی تربط بین الإحساس والفكر لتعطی للفن والأدب تفوقاً وتمیزاً خاصین بهما. وبینما یحاول الخیال التوحد مع التجارب الحسیة لإعادة خلق حقیقة الوجود كما یجب أن یكون، تبقى المخیلة مجرد نمط للذاكرة متحرر من قیود الزمان والمكان لیركب تشكیلات جدیدة من أرشیف الذاكرة، ولذا تدخل المخیلة فی أعمال الفانتازیا ولیس فی الخیال الأدبی. وكما قالت الناقدة الفنیة لیزلی ستیفن فإن المخیلة تعالج التشابهات السطحیة، أما الخیال فإنه یتعامل مع عمق الحقیقة التی تحدد هذه التشابهات. ففی مسرحیة شكسبیر «الملك لیر» نجد أن الألم العمیق الذی یحس به الأب الملك یجعله ینشر هذا الإحساس العمیق بالعقوق ونكران الجمیل لیشمل عناصر الطبیعة كلها.

وهناك كثیر من الشعراء والروائیین ممن اهتموا بالخیال مثل وردزورث وكولردج وبلیك وبرنز وبایرون وساثی وكیتس وهیزلیت Hazlitt وشِلی Shelley فی إنكلترا، وهاینة وغوته وشیلر فی ألمانیا، وهوغو وموسیه وروسو وبودلیر فی فرنسا، وبوشكین فی روسیا، ولیوباردی Leopardi فی إیطالیا، ومیكییفیتش فی بولندا، وإدغار آلن بو وإمرسون فی أمریكا، والشعراء الأندلسیون والمتصوفون وكذلك الشعراء العرب الحدیثون الذین تأثروا بكولردج ووردزورث.

وكان للخیال أهمیة كبیرة فی الفكر الأندلسی، فقد عُرف الشعراء الأندلسیون من مثل ابن شهید[ر] وابن سهل[ر] وابن زیدون[ر] وابن خفاجة[ر] بشعرهم المتمیز ببراعة التصویر والاندماج فی الطبیعة ووصف مناظرها الخلابة من خلال اللغة والتصویر والتشخیص. وقد یندمج الخیال والمخیلة والفانتازیا لخلق عمل أدبی أو فنی، كما فی «رسالة الغفران» لأبی العلاء المعری[ر] التی حاول فیها ارتیاد عالم الغیب مطلقاً العنان للخیال واللغة وللعلاقات بین الأزمنة والأمكنة ولتذویب الفواصل بین الكائنات والجمادات، كما اكتسب الخیال عند الصوفیین أهمیة بالغة، فأصبح عند ابن عربی[ر] محوریاً فی إبداع النصوص التی تتطلب كتابتها برأیه تعطیل المنظومة الفكریة الذهنیة المنطقیة لیتسنى للخیال ممارسة دوره ووظیفته الأساسیة، ألا وهی «التحرش بالمحال».

اشتهر بعض أدباء المهجر مثل جبران خلیل جبران[ر] وإیلیا أبو ماضی[ر] باللجوء إلى الخیال لإنتاج رموز شعریة تزخر بالصور والمعانی، ولجأ آخرون إلى التجربة الباطنیة والمفاهیم الجمالیة والتحرر فی الأسلوب والانفعالات، ومالوا إلى التحدث عن خلجات النفس ومناجاة الطبیعة، واتسمت أعمالهم بطابع الذاتیة والفردیة والتأمل والغیبیة والتصوف والرجوع إلى الماضی والهرب من الواقع. وفی حین اكتفى البعض من الخیال باستخدام الصور المجازیة بقلیل من التعمق، فقد تجاوزه آخرون وصولاً إلى سبر أغوار العقل الباطن والتوجه نحو الغموض والإبهام والرمزیة المفرطة فی بعض الأحیان، ودمج الحلم بالیقظة والوعی باللاوعی، كما فعل أمین نخلة وجبران، الذی نقل القارئ بخیاله إلى جو النبوءة، وكذلك محمود درویش والصیرفی وبدر شاكر السیاب، الذی عبّر عن واقع مأسوی عاشته بلاده، بصورة تكاد تكون كشفاً عبقریاً عن واقعها المستقبلی أیضاً. ویضفی هذا التمازج بین الحقیقة والخیال على الشعر غنى فی قوة الرمز وبعداً فلسفیاً وملحمیاً وأسطوریاً. ولابد من التمییز بین الفن القصصی الذی یسعى إلى خلق عالم من المخلوقات الغریبة فی فضاء متحرر من قیود الزمان والمكان بهدف الإبهار والإمتاع والإثارة، كما فی الفانتازیا، وبین الفن القصصی الذی یخلق عالماً جدیداً، بقوة الخیال والمخیلة، بهدف البحث عن الحقیقة.

وفی حین انحسرت قیمة الخیال أمام قوى الواقعیة الصارمة والمادیة المتطرفة المعاصرة والتقدم التكنولوجی فقد انبرى كثیرون للدفاع عنه، ومنهم میخائیل نعیمة الذی نادى بإعادة الاعتبار إلى الخیال بوصفه برزخاً یصل بین القیم الروحیة المیتافیزیقیة التی هی أساس التجربة الشعریة وتلك التی تحكم الوجود المادی.

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 16:47|
لهجه مصری را با استفاده از کتاب عالی و بی نظیر "کلمیني عربي" ياد بگير!
این مجموعه شامل یک کتاب مفصل همراه با فایلهای صوتی همه گفتگوها و تمرینهاست . بهتون قول می دهم که با کمی تلاش می توانید لهجه مصری را با این کتاب یاد بگیرید.
لینکهای دانلود:



دانلود کتاب و برنامه اجرا کننده آن

دانلود فایلهای صوتی درسها (1)
دانلود فایلهای صوتی درسها (2)
دانلود فایلهای صوتی درسها(3)
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 12:34|

آموزش مكالمه زبان پيمزلر كه در مورد آموزش زبان انگليسي در ايران به نام روش زبان نصرت شناخته شده است يكي از قوي ترين و كاملترين روشهاي موجود در زمينه فراگيري زبان مي باشد . آموزش مكالمه زبان بصورت كلمه به كلمه و تكرار كلمات همراه با گوينده و ساختن جمله با كلمات بيان شده در حافظه موقت قرار گرفته و تكرار در ادامه دروس و يادآوري آنها در فواصل زماني تعيين شده باعث مي گردد اطلاعات از حافظه موقت به حافظه اطلي منتقل گردد و محفوظات ماندگار شوند . آموزش بيش از 34 زبان زنده دنيا بدون نياز به معلم و بدون نياز به قلم و كاغذ و بدون نياز به نوشتن يكي ديگر از مزاياي اين روش است. در اين روش با صرف زمان حداكثر روزي يك ساعت بعد از گذشت 90 روز آموزش هر زبان را به راحتي فرا خواهيد گرفت. فايل دروس به فرمت صوتي مي باشد و در تمامي دستگاههاي بخش صدا ( وي سي دي خانگي - دستگاه پخش سي دي ماشين و يا خانه - MP3 پلير - و ... ) و كامپيوتر قابل اجراء مي باشد. بر پايه ی تحقيات يک زبانشناس و محقق دانشگاه يو سی ال ای طراحی شده. مهمترين وجه تمايز اين متد از ديگر روشها :ياد آوری بين زمانی مندرج ( بر پايه ی قوای ذهنی و به خاطر سپری اطلاعات جديد در بزرگسالان)، اصل پيش بينی (پرسش از دانشجو بر اساس آموخته های جديد). برنامه بر پايه ی يادگيری زنده: بکار گرفتن دانشجو در موقعيتهای روزمره و واقعی برای يادگيری و تمرين آموختهاست درست بمانند اينکه در کشور بيگانه حضور فيزيکی داريد. بر اساس اين روش در هر زبانی يک هسته ی کلامی وجود دارد که با فراگيری مجموعه ی لغاتی که بيشترين و ضروريترين کاربرد را در هر زبانی دارند ميتوان بی آنکه مغز را با لغات غير ضروری و اطلاعات غير کاربردی انباشته کد زبان را آموخت.

دانلود کتابچه همراه(4.5 مگابایت)
multiupload or mediafire or Download

آموزش مقدماتی گرامر عربی
Arabic Grammar.hlp 148.37 KB


دانلود فایلهای صوتی (در سه بخش)
Part1 (39 MB)
mediafire OR multiupload OR click here

Part2 (58 MB)
mediafire OR multiupload OR click here

Part3 (45 MB)
mediafire OR multiupload OR click here

Egyptian self-taught Arabic

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 12:31|

این مجموعه حاوی چند درس صوتی (بدون کتاب) آموزش لهجه عراقی است. کیفیت درسها و مباحث موجود در آن بسیار خوب و برای علاقه مندان به این لهجه ضروری است 


حجم: 19 مگابایت
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 12:30|

اين برنامه درعين رايگان بودن بسيار عالي و پركاربرد است. با استفاده از اين برنامه كه در محيط فلش اجرا مي شويد مي توانيد حدود 1000 لغت پركاربرد عربي را به صورت تصويري و با تلفظ وا‍ژه عربي و ترجمه انگليسي آن ياد بگيريد. لغتهاي موجود در برنامه بر اساس موضوع به 25 دسته طبقه بندي شده اند . مانند: شغلها، ميوه ها ، غذا ها، سبزيجات، لباسها، اعضاي بدون و....
اين برنامه ساخت سايت المدينة العربية بوده و استفاده از آن رايگان مي باشد.




+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 12:28|

مژده به علاقه مندان به یادگیری لهجه عراقی - کتاب آموزش لهجه عراقی + فایل صوتی هر درس!


این کتاب از بهترین کتابهای آموزش لهجه عراقی است و همانطور که قبلا هم گفته بودم از آن برای آموزش لهجه عراقی به سربازان خارجی قبل از اعزام به عراق استفاده می شود.
دانلود در ادامه مطلب


دانلود مستقیم از پرشین گیگ

دانلود فایلهای صوتی (394 مگابایت در 5 قسمت)

part1: http://www.megaupload.com/?d=6CGRNO8T

part2: http://www.megaupload.com/?d=ZRFJ39MM

part3: http://www.megaupload.com/?d=M13ICIN1

part4: http://www.megaupload.com/?d=NH8CBZS0

part5: http://www.megaupload.com/?d=OYW315XQ

متاسفانه این سایت در بعضی سرورها مسدود شده است.
لطفا  سایتhttp://muplg.com/ را امتحان کنید. در صفحه اصلی این سایت آدرس لینک مورد نظرتان را در قسمت Megaupload link کپی کرده و سپس روی دکمه download it کلیک کنید.

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 12:26|
یک کتاب بسیار عالی و بی نظیر آموزش لهجه مصری است. این کتاب توسط دو تن از استادان دانشگاه آمریکایی قاهره به نامهای مونا کمال و أحمد حسنین به زبان انگلیسی تالیف شده است و به علت درسها و روش آموزشی عالی آن به زبان روسی هم ترجمه گردیده است. این کتاب دارای 20 درس است و از ویژگی های ان داشتن تمرینات عملی و درسهای آموزش دستورزبان لهجه مصري است.
علاوه بر آن، این کتاب دارای یک سی دی است که در آن فایلهای صوتی همه درسها قرار داده شده است.
پس پیش بروید مصری ها!




دانلود کتاب (انگلیسی-عربی)
حجم 2.96 MB




دانلود فایلهای صوتی (انگلیسی-عربی)
هر دو قسمت را دانلود کنید
بخش اول فایل فشرده سی دی صوتی
یا
دانلود از zshare
*****
 بخش دوم فایل فشرده سی دی صوتی
221 مگابایت


دانلود از مگا آپلود
 یا
دانلود از depositfiles
یا
دانلود از zshare




برای اجرای فایل کتاب نیاز به برنامه WinDjView دارید که از لینک زیر قابل دانلود است

Download WinDjView


+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 12:24|
معجم عربی عربی جاوا برای موبایل
از طریق لینک زیر می توانید مجموعه ای از بهترین قاموسهای عربی -عربی جاوا قابل استفاده در انواع گوشی ها ی تلفن همراه را دانلود کنید. این مجموعه عبارت است از معجمهای : المعجم الوسیط ، مفردات راغب، صحاح و چند معجم دیگر که به صورت کتابچه الکترونکی ساخته شده است. تقسیم این معاجم بر اساس حروف الفبا نیز استفاده از آنرا آسانتر کرده است. تعدادی از این معجمها را امروز می توانید از لینک زیر دانلود کنید و بقیه آنها را در روزهای آینده در وبلاگ قرار خواهم داد.




+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 12:22|
مطالب جدیدتر
مطالب قدیمی‌تر