ابزار وبمستر

متــــرجـــــم عـــربی - دکتر مهدي شاهرخ
التجدید العروضی الغنائی فی شعر الموشحات الأندلسیة

احتاجت الدولة العربیة فی الأندلس إلى قرنین أو ثلاثة قرون من تأسیسها حتى تستقر أركانها وتثبت دعائمها. وعندئذ مال الناس إلى الترف واللهو فی حیاتهم، وكان من آثار ذلك انتشار الغناء ودواعی الطرب، وزیادة الاهتمام بالألحان، والموسیقا وآلاتها.

ولاشك أن لهذه الحال الاجتماعیة أثراً كبیراً فی نشأة الموشحات وشیوعها، لأن الموشحات عامة تدخل فی إطار الاتجاه الشعبی الذی هیأ له نمو الشخصیة الأندلسیة وإسهام الأندلسیین فی إنشاد الشعر والإصغاء إلى ألحانه فی مجالسهم وأسمارهم.

وهذه الصلة الوثیقة بین الموشحات والغناء تبدو فی اعتماد لغة الموشحات على الألفاظ الرقیقة الغزلة الهزازة والمعانی الطریفة، على ما فیها من سطحیة، وبموضوعاتها التی تناسب جو الغناء والمرح من غزل ووصف خمر وطبیعة ساحرة عرفت بها بلاد الأندلس ومرابعها العامرة.

وعلى الرغم من قوة الصلة بین الموشحات وبین الموسیقا وطریقة الغناء، فإننا لا نعلم شیئاً عن النظریة الإیقاعیة التی قامت علیها الموشحات، ولا عن كیفیة أدائها وتلحینها وإنشادها، ولكن الراجح أنها كانت تصاغ على نهج معین لتتسق مع النغم المنشود، وأنها كانت تغنى بطریقة فردیة، لا بطریقة "الكورس"، وأن الوشاح هو الملحن غالباً، وقد یكون غیره. أما المغنی فهو شخص آخر. وأغلب الظن أن بواكیر الموشحات عاشت زمناً بین الناس مسموعة لا مقروءة. ولم یعمد أحد إلى تدوینها فی بادئ الأمر. ولیس معنى ذلك أن الموشحات جمیعاً كانت تغنى، إذ لا شك أن كثیراً منها نظم لغیر غرض الغناء والتلحین، ولاسیما تلك التی لا تتصل مناسبتها ولا موضوعها بهذا الجانب: كالهجاء والرثاء والزهد.

وهذا كله یعنی أن الموشح فن أندلسی أصیل ابتدعه العرب فی ظل ظروف اجتماعیة خاصة، وهذا ما أكده المؤلفون العرب من أندلسیین ومشارقة، كابن خلدون فی مقدمته، وابن بسام فی ذخیرته، وابن دحیة فی "المطرب"، والمقری فی نفح الطیب، وابن سناء الملك فی "دار الطراز"، وغیرهم، وإن كانت هناك أقوال یسیرة تنسب ظهور بدایات هذا الفن إلى المشارقة.

أما الأثر المتبادل بین فن الموشحات وشعر التروبادور Troubaours، فما زال یفتقر إلى مزید من المناقشة والتثبت والتمحیص، وإلى القول الفصل فی مدى التأثیر والتأثر بینهما(2). فالموشحات إذن هی عربیة الأرومة، وفن جدید فی الشعر الأندلسی، لأن البیئة فی الأندلس كانت مواتیة للتجدید أكثر من المشرق، ویمكن أن نحدد الموشح بأنه قالب شعری عربی وشكل مستحدث للقصیدة شذ فیه الأندلسیون عن مأثور نظامها الموسیقی الموروث فی الوزن الواحد، والقافیة الواحدة، إلى نظام آخر یحمل خصائص معینة.

وأهم هذه الخصائص –مما یدخل فی نطاق بحثنا هذا- خروج الموشح على نظام القافیة الواحدة فی القصیدة، واللجوء إلى التنویع فی القوافی والتوزیع الإیقاعی وفق نسق معین یجعل الموشح حقاً أشبه بالوشاح المزین المزركش الذی رصعته الجواهر المتلألئة، وزینته الزخارف والنمنمات الملونة، فضلاً عن "الخرجة" التی تأتی فی خاتمة الموشح زینة أخرى متمیزة، عندهم، بخصائص ینبغی للوشاح مراعاتها.

ومن هذا المنطلق، منطلق التجدید العروضی الإیقاعی، والموسیقی الغنائی، نشیر إلى أن الوشاحین الأندلسیین –على كثرتهم- لم یبینوا لنا بصورة واضحة قواعد الموشح وأسس بنائه ومصطلحاته، وإن كنا نجد هنا وهناك بعض الإشارات إلى أصول هذا الفن. وربما كان ابن سناء الملك، المصری، (608ه/1212م) أول من حاول أن یحدد قواعد هذا الفن الشعری وأوزانه، ویبیّن لنا خصائصه وطرق نظمه، وذلك فی كتابه القیّم "دار الطراز فی عمل الموشحات". وتكونت نتیجة لذلك كله جملة من التقسیمات والتصنیفات التی حملت مصطلحات مختلفة، ومتضاربة فی دلالاتها أحیاناً. إلا أننا سنقتصر على أیسرها وأقربها منالاً، مما لا یتعب القارئ فی استیعابه وتفهمه:

إن أهم أقسام الموشح وعناصره هی: القفل، والبیت، والغصن، والخَرْجة. وهذا ما نوضحه فی بعض مقاطع الموشح التالی لابن زُهر الأندلسی (595ه/1199م):

حَیِّ الوجوه المِلاحا

وحیِّ نُجلَ العیونْ

هل فی الهوى من جُناحِ

أم فی ندیمٍ وراحِ؟

رام النصیحُ صلاحی

وكیف أرجو صَلاحا

بین الهوى والمجون؟

أبكی العیونَ البواكی

تذكارَ أختِ السِّماكِ

حتى حَمامُ الأراكِ

بكى شجونی وناحا

على فروعِ الغصونْ(3)

افتتح هذا الموشح بالبیت الأول وهو المطلع، ویسمى قفلاً. وهو على البحر المجتث (مستفعلن فاعلاتن) بضرب مقصور (فاعلاتن). وعلى وزنه هذا، وقافیتی صدره وعجزه توالت بعده الأقفال كلها، ویضم هذا الموشح ستة أقفال، یبدأ بقفل وینتهی بقفل، ویسمى عندئذ "التام".

والأقفال أساسیة فی الموشح، وبدونها لا تكون المنظومة موشحاً، وهی الوحدة الأولى فیه. ویسمى كل شطر من شطری القفل: غصناً.

أما الوحدة الثانیة فی الموشح فهی التی تلی القفل، وتتألف هنا فی موشح ابن زهر من ثلاثة أشطر أو أغصان وزن كل منها (مستفعلن فاعلاتن) أیضاً، تسمى بمجموعها "بیتاً". وعددها خمسة "أبیات". وهی جمیعاً تتفق فیما بینها فی الوزن ولكنها تختلف فی القوافی. وهذا النظام هو الغالب فی الموشح عامة، وهو المسمى "بالتام" ویكون مؤلفاً –كما نرى- من ستة أقفال، وخمسة "أبیات". وكلها ذات وزن عروضی واحد. فإذا لم یبدأ بقفل، بل ب "بیت"- وهذا قلیل- سمی الموشح "أقرع".

ولا یقتصر القفل فی الموشح على بیت شعری واحد ذی شطرین أو غصنین، بل قد یكون أكثر من ذلك، وكذا "البیت" بین القفلین یمكن أن یكون مؤلفاً من عدة أغصان، تكتب على نسق شاقولی (عمودی)، أو أفقی فی سطر واحد.

أما "الخَرْجة" فهی القفل الأخیر من الموشح –كما قال ابن سناء الملك فی كتابه "دار الطراز"- وإذا كان القفل الأول فی الموشح لیس عنصراً رئیسیاً، فإنه فی غایة الأهمیة عندما یكون فی خاتمة الموشح، وهو الذی یعرف بالخَرْجة، وهی ركن أساسی یولیه الوشاحون عنایة خاصة، ولها شروط تنسجم مع جو الطرب والغناء المواتی للموشحات.

والموشح، بعد هذا، بأقفاله و"أبیاته" وأغصانه وخرجته یؤلف وحدة كاملة مترابطة فیما بینها فی المعنى، كما الأبیات كلها فی القصیدة العربیة الموروثة، وهذا التقسیم الاصطلاحی الإیقاعی لأجزاء الموشح لا یعنی أنها منفصلة فیما بینها من حیث الأفكار والمعانی.

وبعد هذه الوقفة عند أجزاء الموشح وعناصره التی تؤلف بنیته ووحدته، یحسن بنا أن نتحدث عن وزنه العروضی أو التفعیلی، ومدى ما فیه من تجدید أو تقلید فی هذا الجانب. وفی هذا السیاق الغنائی القائم على التلحین والوزن یمكن أن نقسم الموشحات إلى خمسة أقسام:

1-قسم یلتزم بالبحور الشعریة الستة عشر الموروثة، التزاماً تاماً، من حیث أوزانها المعروفة، أما فیما عدا ذلك فإنها تختلف فی شكلها الفنی وتوزیعها الإیقاعی عن شكل القصیدة، وقلیل من الوشاحین من یلتزمون بنظام الشطرین وحده فی الموشح –على طریقة القصیدة العربیة –لكنهم حتى فی هذه الحالة یحافظون على طریقة الأقفال و "الأبیات" دون مراعاة الخرجة.

ومن هذا القبیل موشحة ابن سهل الإشبیلی (649ه/1251م) التی بدأها بقفل مؤلف من أربعة أشطر، على بحر الرمل:

هل درى ظبیُ الحِمى أنْ قد حمَى

قلبَ صَبِّ حلّه عن مكنسِ؟

فهو فی حَرٍّ وخفْقٍ مثلما

لعبتْ ریحُ الصَّبا بالقَبس

وختمها بهذا القفل الأخیر:

قلتُ، لمّا أن تبدّى مُعْلَما

وهو من ألحاظِهِ فی حَرس

أیُّها الآخِذُ قلبی مَغْنَما

اجعلِ الوصلَ مكانَ الخُمُس

وما بین القفلین، الأول والأخیر، تأتی "الأبیات" وعددها خمسة، على وزن الرمل أیضاً، ولكن قوافیها تختلف من "بیت إلى آخر" وكل بیت مؤلف من ستة أشطر، وأوّلها بعد المطلع (القفل الأول) وقافیته راء ساكنة:

یا بدوراً أشرقتْ یومَ النوى

غرراً تَسلكُ بی نهجَ الغرَرْ

ما لنفسی فی الهوى ذنبٌ سوى

منكم الحسنُ، ومن عینی النظَرْ

أجتنی اللذّاتِ مكلومَ الجَوى

والتذاذی مِن حبیبی بالفِكَرْ(4)

ثم تتوالى "الأبیات" بین الأقفال على هذا النسق.

وأما النوع الآخر من الموشحات الجاریة على الأوزان الموروثة فإن الوشّاح لا یلتزم نظام الشطرین المتقابلین، بل ینوع فی بناء الموشح من حیث الالتزام بالشطرین معاً فی الأقفال، وبشطر واحد أو أكثر فی "الأبیات".

ومثال ذلك موشح ابن زُهر الأندلسی (595ه/1199م) وهو موشح تام على بحر الرمل، ذو ستة أقفال وخمسة "أبیات"، وكل بیت مؤلف من ثلاثة أشطار، والقفلان الأولان یأتیان على النمط التالی، مع القفل الواقع بینهما، وتتبعهما بقیة الأقفال والأبیات على النمط نفسه، مع اتفاق فی قافیة الأقفال، واختلاف فی قوافی "الأبیات":

أیها الساقی إلیك المشتكى

قد دعوناكَ وإن لم تسمعِ

وندیمٍ هِمتُ فی غُرّتهِ

وبشربِ الراح من راحتِه

كلما استیقظَ من سكرتهِ

جذبَ الزقّ إلیه واتّكا

وسقانی أربعاً فی أربعِ(5)

2-قسم یظهر فیه التجدید على استحیاء، وهو ما یفعله بعض أصحاب الموشحات من ابتعاد موشحاتهم قلیلاً عن البحر التقلیدی، وذلك بتعدیل بعض تفعیلاته، أو إدخال شیء من الزیادة أو النقصان فی حركاته وكلماته، أو فی تقفیة حشو الأبیات فی موضع معین للتزیین والزخرفة، ومثال ذلك الموشح التام –الذی سبق- لابن زهر وأوله:

حَیّ الوجوهَ المِلاحا

 وحَیِّ نُجل العیونْ

هل فی الهوى من جُناحِ

أو فی ندیمٍ وراح؟

رام النصیحُ صلاحی

وكیف أرجو صَلاحا

بین الهوى والمجونْ؟

فهذا الموشح یقوم فی أصله على وزن البحر المجتث (مستفعلن فاعلاتن)، ولكن ابن زُهر لم یبق الضرب فی الأقفال كلها على فاعلاتن بل جعله "مقصوراً" بحذف ساكن السبب الخفیف فی آخره وتسكین ما قبله فصار (فاعلاتْ = فاعلانْ). وهذا التغییر لا وجود له فی وزن المجتث الموروث.

ومن هذا القبیل موشح أبی بكر بن بقی (540ه/1145م) وأوله:(6)

یا ویحَ صبٍّ إلى البرق

له نظَرُ

وفی البكاء معَ الوُرْقِ له وطرُ

من أجل بُعدٍ عن صَحْبی

بكیتُ دمَا

كم لی هنالكَ من سِرْبِ

ووصْلِ دُمى

وعسكرُ اللیلِ فی الغربِ

قد انهزَما

والصبحُ قد فاضَ فی الشرقِ

له نهَرُ

وسال من أنجُمِ الأُفْقِ دمٌ كدِرُ

فهذا الموشح من وزن البسیط التام، ولكن الوشّاح التزم قافاً مكسورة فی وسط الحشو من شطری الأقفال جمیعاً، وبذلك بناها على أربع قوافٍ یُتوقّف عندها فی القراءة أو الإنشاد بما یجعل القفل خارج البحر البسیط من حیث الظاهر.

أما "الأبیات" فقد جعل أغصانها شطراً من البحر البسیط، ولكنه جعل لكل غصن قافیتین (ب +ما) بحسب الظاهر مع أن تفعیلات الغصن كلها متتابعة فی الوزن (مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن) ثم نوّع هذه القوافی فی سائر أغصان "الأبیات" ضمن الموشح كله.

3-ونوع ثالث من الموشحات الموزونة، وهو ما اشترك فیه أكثر من وزن واحد، ویكون ذلك بإحدى طریقتین:

آ- استخدام بحر واحد فی موشح واحد كامل، وذلك بتوظیف حالاته المختلفة من زحافات وعلل، وأعاریض وأضرب، وتام ومجزوء، ومشطور ومنهوك ضمن الموشح نفسه، لا یخرج فی ذلك كله عن بحر واحد داخل الموشح المنشود، كأن تأتی أشطار على الرمل التام، وأخرى على مجزوء الرمل.. أی یتفاوت عدد التفعیلات وأشكالها.

ب- أن یجمع صاحب الموشح بحرین اثنین فی موشح واحد بحیث یأتی بأشطرٍ على بحر ما، تام، أو مجزوء، أو منهوك، ثم یعدل عنه فی أشطر تالیة إلى بحر آخر مختلف التفعیلات، وذلك فی حال تنقله من القفل إلى البیت. أما الأقفال أو الأبیات فیبقى كل منها ملتزماً وحدة البحر مع نظائره فی الموشح نفسه، من أقفال و"أبیات"، إضافة إلى وحدة القافیة بین الأقفال، أو فی حشو الأقفال و "الأبیات" المقفّاة" فی حشوها. ومثال ذلك موشح للأعمى التُّطیلی (القرن 3ه = 9م) یقول فیه(7):

المطلع (القفل الأول)

ضاحكٌ عن جُمانْ

سافرٌ عن بَدرِ

ضاق عنه الزمانْ

وحواهُ صَدری

* *

البیت الأول

آهِ مما أجِدْ

شفّنی ما أجِدْ

قام بی وقَعدْ

باطشٌ مُتَّئدْ

كلّما قلتُ قدْ

قال لی: أینَ قد؟

* *

القفل الثانی

وانثنى خوطَ بانْ

ذا مَهَزٍّ نَضْرِ

عابثَتْهُ یَدانْ

للصَّبا والقَطْرِ

وهكذا دوالیك..

وقد جاءت التفعیلات فی هذا الموشح على الوجه التالی:

المطلع (القفل الأول)

فاعلن فاعلانْ

فاعلن مفعولنْ

فاعلن فاعلانْ

فعلن مفعولنْ

البیت الأول:

فاعلن فاعلن

فاعلن فاعلن

فاعلن فعِلن

فاعلن فاعلن

فاعلن فاعلن

فاعلن فاعلن

القفل الثانی:

فاعلن فاعلانْ

فاعلن مفعولنْ

فاعلن فاعلانْ

فاعلن مفعولنْ

4-وقسم من الموشحات له أوزان وتفعیلات خاصة یدركها السامع عند القراءة أو السماع، ویستعذبها الذوق ولكنها لا تنطبق على شیء من أوزان الشعر العربی الموروثة.

وقد حاول بعضهم حصر الأوزان والتفعیلات التی بُنی علیها هذا النوع من الموشحات وجهدوا فی أن یردّوها إلى نظام الأوزان العروضیة التی حصرها الخلیل الفراهیدی ومَن بَعدهُ فی البحور الستة عشر، وفروعها، حتى أوصلوها إلى نحو 150 وزناً أو بحراً مخترعاً، لا عهد للشعر العربی بها، ولكن محاولاتهم هذه اتسمت بشیء كبیر من التكلف والافتعال، فضلاً عن أنها لم تستقص أوزان الموشحات كافة، فما زالت هناك موشحات خارج تلك الأوزان ولكن الإیقاع فیها –على كل حال- هو عربی خالص، وتفعیلاتها متناسقة مع اختلاف تنویعاتها، وإن كانت لا یمكن أن تنتمی إلى بحر معین كالبسیط أو مجزوء الكامل.. الخ فالوزن العربی لم یُقفل بابه على مر العصور، ولیس هناك ما یحول بین الشاعر المجدّد وبین استخراجه ما یریده من أوزان، إذا جرى فی الاستخراج على قاعدة سلیمة فی التقفیة والإیقاع.

ومثال هذا النوع قول ابن اللَّبانة (507ه/1113م):

القفل الأول

كم ذا یؤرّقنی ذُو حَدقِ

مَرضَى صِحاحِ

لا بُلینَ بالأرَقِ(8)

البیت الأول

قد باح دمعی بما أكتمُه

وحنَّ قلبی لِمنْ یَظلِمُهُ

رشَا تمرَّن فی "لا" فَمُهُ

كم بالمُنى أبداً ألثِمُه

القفل الثانی

یفترُّ عن لؤلؤٍ فی نَسقِ

منَ الأقاحی

بنَسیمهِ العَبِقِ

وجاء الوزن فیه على الوجه التالی:

القفل (1)

مستفعلن فعِلن مفتعلن

مستفعلن متفْعلن مفاعلَتن

البیت (1)

مستفعلن فاعلن مفتعلن

متفْعلن فاعلن مفتعلن

متفعلن فعلن مفْتعلن

مستفعلن فعلن مفتعلن

القفل (2)

مستفعلن فاعلن مفتعلن

متفْعلن مفتعلن مفاعلتن

5-والقسم الخامس والأخیر من الموشحات ما لیس له وزن یدركه السمع عند قراءته أو إنشاده، ولا یوزن إلا بالتلحین وذلك بمد حرف، وقصر آخر أو خطف حركته، وإدغام حرف فی حرف، وغیر ذلك من فنون التلحین.

وهذا النوع –كما قال ابن سناء الملك –لا یدخل شیء منه فی أوزان العرب، وهو النمط الذی یسود أكثر نماذج الوشاحین فی الأندلس، وعدده لا یقع تحت حصر، ولا یستقصیه إحصاء، لأنه قائم على التلحین فقط، ولا میزان له إلا الضرب على العود أو النفخ فی الأرغن، ولا ضابط له سوى النغم والإیقاع عن طریق مد الصوت بالإنشاد والغناء، أو قصره وحبسه، حتى ینسجم مع اللحن العام الذی یسود الموشح المغنّى.

وهذا یؤكد التلازم والتواشج الوثیق بین التوشیح والغناء، وما كان من هذا النمط فإنه لا یعلم صالحه من مختله إلا بمیزان الغناء والتلحین الذی یجبر كسره، ویقوّم معوجّه، ویردّه صحیحاً. ولكن هذا لا یمنع من ورود بعض الكلمات أو التراكیب فیه موزونة أحیاناً على بعض التفعیلات.

ومثال هذا النوع قول ابن القزاز فی مطلع موشح له(9):

رُحْ للراح وباكِرْ

بالمُعْلَمِِ المَشُوفْ

غَبوقا وصَبوحْ

على الوتَرِ الفصیحْ

لیس اسمُ الخمرِ عندی

مأخوذاً فاعلَمْ

إلاّ مِن خاءِ الخَدِّ

ومیمِ المَبْسِمْ

وَراءِ ریقِ الشَّهْدِ

العاطِرِ الفَمْ

فكُنْ للهم هاجِرْ

وصِلْ هذی الحُروفْ

كی تَغدو وتَروحْ

بجسمٍ فیه رُوحْ

* * *

أخیراً، إن الموشحات فن شعری أندلسی، وهو فن جدید مستقل بمفرده، ونماذجُه المختلفة لا تتفق مع القصیدة الشعریة الموروثة فی جوانب كثیرة، أبرزها الشكل، واللغة، والقافیة، والوزن، كما أنها تتصل اتصالاً قویاً بفن الموسیقا وطرائق الغناء فی الأندلس.

ولاشك أن هذا الفن اكتسب على مدى الأیام قیمة كبیرة، ومكانة سامیة فی میدان الغناء والطرب، حتى إنه استهوى المشارقة، فراح عدد منهم ینظم الموشحات كابن سناء الملك، وابن نُباتة المصری، وصفی الدین الحلی، وتابعهم آخرون حتى العصر الحدیث كالشاعر أحمد شوقی الذی نظم موشحته "صقر قریش" على طریقته الخاصة، وقبله سلیمان البستانی فی ترجمته لإلیاذة هومیروس، فبرهنا بذلك على مطاوعة هذا الفن لنظم الملاحم.

وبذلك تكون الموشحات الأندلسیة منعطفاً بارزاً فی مسیرة الشعر العربی، لأنها أول محاولة تجدیدیة فی الشعر العربی على الإطلاق، والذی عرف بتقالیده الفنیة الراسخة، وعراقة تلك التقالید وقوتها، لذلك لو لم یكن للموشحات إلا أنها كسرت هذا الطوق، وانطلقت منه إلى نظام شعری جدید، لكفى أن تلتفت إلیها الأنظار، ویُبحث عن دواعیها ونتائجها، وإن كان هذا النظام الجدید مرتبطاً بإطار التقفیة والتنویع فی الوزن والإیقاع الموسیقی، وتنوع الأجواء الفنیة الخارجیة دون أن یتعداها إلى المضمون المرتبط برؤیا الشاعر إلى الوجود، والمتصل بمنابع الثقافة الفكریة، وآرائه فی الحیاة الاجتماعیة، وسبر أغوار النفس.

ولاشك أن فن التوشیح كان نقطة انطلاق حثیث إلى السیر فی طریق التجدید العروضی والإیقاعی النغمی فی الشعر العربی الحدیث الذی بدأ یتحرر من رتوب القافیة، ویخرج على توازن الأشطار فی القصیدة العربیة، ویبتعد عن التكلف والتصنع فی اللغة والأسلوب، مما ساعد على ولوج الشعراء مجالات أخرى فی فنون القول: كالقصص الشعریة، والملاحم، والأدب التمثیلی، وكذلك كان فن التوشیح مرتكزاً للتجدید فی الشعر التفعیلی المعاصر، وأنماطه الإیقاعیة المختلفة عند الشعراء فی المشرق وفی المهجر، من أمثال خیر الدین الزركلی، وخلیل مردم والأخطل الصغیر، وعمر أبو ریشة، ونازك الملائكة، وفدوى طوقان، وصلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطی حجازی، وعبد الوهاب البیاتی، والیاس فرحات، والشاعر القروی، وفوزی المعلوف وشفیق المعلوف وغیرهم.

المصادر والمراجع

1-أبو نواس الأندلس، ابن سهل الإسرائیلی: محروس منشاوی الجالی- القاهرة 1986م.

2-الأدب الأندلسی: مصطفى الشكعة –بیروت 1983م.

3-أدباء العرب: بطرس البستانی –بیروت 1937م

4-تاریخ الأدب الأندلسی "عصر الطوائف والمرابطین": إحسان عباس –بیروت 1962م,

5-تاریخ الأدب العربی (الجزء الخامس): عمر فروخ –بیروت 1982م.

6-دار الطراز فی عمل الموشحات: ابن سناء الملك –تح. جودة الركابی- دمشق 1977م.

7-دراسات أدبیة فی الشعر الأندلسی: سعد إسماعیل شلبی –القاهرة 1972م.

8-دیوان ابن سهل الأندلسی: جمعه وشرحه: أحمد حسنین القرنی –القاهرة 1926م.

9- دیوان الأعمى التُّطیلی: تح. إحسان عباس- بیروت 1963م

10-الشعر فی عهد المرابطین والموحّدین بالأندلس، محمد مجید السعید –بیروت 1985م.

11-الشعر والبیئة فی الأندلس: میشال عاصی- بیروت 1970م.

12-فی الأدب الأندلسی: جودة الركابی –دمشق 1955م.

13-مقدمة ابن خلدون: عبد الرحمن بن خلدون- طبعة دار الشعب –القاهرة

14-ملامح الشعر الأندلسی: عمر الدقاق –بیروت 1972م.

15-موسیقا الشعر العربی: محمود فاخوری –حلب 1981م.

16-الموشحات والأزجال: مصطفى عوض الكریّم –القاهرة 1965م.

________________________________________

* مدرّس فی كلیة الآداب بجامعة حلب.

(2) ممّن تناول هذا الموضوع بالبحث: میشال عاصی فی كتابه "الشعر والبیئة فی الأندلس" ص112-114 وسعد إسماعیل شلبی فی كتابه "دراسات أ دبیة فی الشعر الأندلسی" ص90-95.

(3) ملامح الشعر الأندلسی، د.عمر الدقاق، ص 355.

(4) دیوان ابن سهل الأندلسی: جمعه أحمد حسنین القرنی –القاهرة 1344ه، 1926م، ص 53-55.

(5) أدباء العرب: بطرس البستانی 3/77، وتاریخ الأدب العربی: د.عمر فروخ 5/540.

(6) ملامح الشعر الأندلسی: د.عمر الدقاق، ص341.

(7) دیوان الأعمى التطیلی: تحقیق د.إحسان عباس –بیروت 1963م. ص253.

(8) الموشحات والأزجال: مصطفى عوض الكریّم –ص55.

(9) الموشحات والأزجال، مصطفى عوض الكریّم، ص54.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 22:8|
القواسم المشتركة بين الأدبين العربي والفارسي


حدود وأبعاد ومنهج:

لم يعرف التاريخ الإنساني التقاء أكثر غنىً وشمولاً من التقاء العرب والإيرانيين على مستويات عديدة سياسية واجتماعية؛ وفكرية وثقافية؛ فلسفية ودينية؛ أدبية وفنية, لغوية وبلاغية...

وترجع علاقة التفاعل الوطيدة إلى عصور تاريخية عريقة تجسدت في الحياة والفن والأدب... إذ تجلى في الأدبين العربي والفارسي مفاهيم التصور الديني والفلسفي الممزوجة ببحر العزة والعظمة الإلهية؛ والموشاة بكل المودة والمحبة على الصعيد الاجتماعي. فقد برزت أشكال التمازج الحضاري منذ البعثة المحمدية لتؤكد مفهوم الوصول "إلى المساواة بين الشعوب على السلطة القائمة, وعلى الثقافة العربية الإسلامية"(1) من خلال علاقة الرحمة والتقوى والعدل، لا من خلال العرق والجنس واللون.

وليس هذا غريباً ولا بدعاً من القول فقد تأسس ذلك في النفوس كما لدى البحتري إذ قال في مدح عبيد الله بن خرداذبة(2):

إِنْ كان من فارسٍ في بيتِ سُؤْدَدِها *** وكنتُ من طيِّئٍ في البيت ذي الحَسَبِ

فلم يَضْرِنا تنائي المَنْصِبَيْن وقد *** رُحْنا نَسيبين في خُلْق وفي أَدبِ

فالقواسم المشتركة بين الأدبين العربي والفارسي إنما انبثقت من التمازج المشترك بين الشعبين العربي والإيراني منذ العصور التاريخية ثمَّ ازدادت إحكاماً وارتقاء حضارياً بعد الإسلام, إذ دخل أبناء إيران فيه طوعاً وإرادة ورغبة؛ وانصهروا في بوتقة تعاليمه ومبادئه... وعملوا على نشرها...

ولما كانت العربية لغة القرآن والدين الجديد الذي اعتنقوه أقبلوا على تعلّمها وإتقانها كأهلها. وقد تضافر إلى هذا رغبة علمية جامحة وملحة في خدمة الحضارة الإسلامية... صار كثير منهم يتقن اللسانين حديثاً وكتابة. ومن ثمَّ أخذوا ينقلون بوساطة اللغة العربية كثيراً من معارفهم القديمة المكتوبة بلغاتها الأصلية؛ في التاريخ والفن والطب والكيمياء والفلك واللغة والحساب والأدب... وقد شاركهم في هذا عدد من علماء العرب والبلدان المفتوحة الأخرى...

وحينما كانت القواسم المشتركة بين الأدبين العربي والفارسي تزداد اتساعاً وتنوعاً كانت تتخذ لنفسها أنماطاً عدة عب‍ّرت عنها المصادر التي استندت إليها؛ بمثل ما تركزت في الترجمة والتأليف الأدبي والبلاغي... ومن ثمَّ وجدت بأشكال وموضوعات محددة في كليهما...

وبناء على ذلك كله كان لزاماً علينا أن نلجأ إلى مبدأ الاختيار والإيجاز والتكثيف في معالجة القواسم المشتركة التي يقوم عليها البحث... لأنَّ الحديث عنها كلها يحتاج إلى مجلدات كثيرة, علماً أن بعض الدارسين قبلنا سبقنا إلى ذكر نتف منها كما نلمسه عند محمد غنيمي هلال الذي اتكأ عليه كل من جاء بعده.

ولما كان القرآن الكريم هو أهم المصادر آثرنا أن نتوقف عند قصةٍ واحدة من قصصه؛ مع إيماننا اليقيني بأن هناك مصادر أخرى لتلك القواسم كالسُنَّة المطهرة, والأحداث التاريخية والاجتماعية, والكتب الدينية والفلسفية والتاريخية, مثل كتاب الشاهنامه للفردوسي الطوسي, وتاريخ الطبري, وتاريخ ابن الأثير؛ وكتب أدب الرحلات, وأدب التصوف الذي تصدره من الإيرانيين الغزالي وجلال الدين الرومي.

ولعل هذا ينقلنا إلى حركة الترجمة وأثرها في إطلاق تفاعل أدبي بين العرب والإيرانيين لا يضاهيه في عناصر الالتقاء ما نجده عند غيرهم, كما وقع في كتاب (كليلة ودمنة) ورباعيات الخيام والمقامات, ممَّا اخترناه. ولهذا عقد ابن خلدون في مقدمته فصلاً عن "حملة العلم في الإسلام" فوجد أكثرهم من الإيرانيين(3).

ومن هنا نتوقف عند القواسم المشتركة اللغوية والفنية في الأدبين كالألفاظ والمصطلحات والأساليب والاقتباس الحرفي والأوزان والقافية والقصة... فكلها مثلت ملامح مشتركة في الأدب العربي والإيراني. وهي الملامح التي تحققت في موضوعات تعاور عليها الأديان, وكيف تغيّرت وظائفها في بعض الاتجاهات الأدبية, كما نجده في قصص الحب العذري؛ ولا سيما حكاية ليلى والمجنون, وموضوع وصف الأطلال والممالك الزائلة.

فعظمة المادة وتنوعها لم يترك لنا المجال إلا أن نتبنى المنهج الذي أشرنا إليه... وسنتوقف عند القرآن الكريم؛ باعتباره أعظم مصدر التقى عليه المسلمون, وعند واحدة من قصصه؛ وهي قصة المعراج.

1 القرآن الكريم؛ قصة المعراج النبوي:

أكدت مبادئ الدين الحنيف العودة الأصيلة والنبيلة إلى الهويّة الإنسانية دون تشويه للذات الفردية وللانتماء الاجتماعي والبيئي والوطني... وهذا حمل الناس قديماً وحديثاً على اعتناق الإسلام؛ لأنه يتفق مع الفطرة والعقل معاً... ثمَّ ارتبطوا بحبل الله المتين, وطفقوا يبنون الحضارة الإسلامية التي تنشد التقدم والحق والعدل...

وقد جسَّد القرآن الكريم شكلاً ومضموناً قواسم مشتركة عظمى بين المسلمين، ليس من جهة العقيدة والعبادة والتبرك فقط، بل من جهة أنه كتاب معجز في أساليبه وأفكاره وأخباره وقصصه... وهذا ما جعلهم ينصهرون في آياته ولغته، يقتبسون منها ما وسعهم الجهد؛ أو يضمّنون أفكارهم العديد من أفكارها؛ أو ينتهجون طرائقه في التأليف والكتابة والإبداع...

ولما كان مقام الاحتذاء بالنص القرآني عظيم الحجم وكثير التنوع رغبنا في الوقوف عند قصة المعراج النبوي التي احتفل بها الأدب العربي والفارسي, وجعلها "منطلقاً إلى فضاء الفكر الأرحب؛ حيث تعالج مسائل فلسفية أو صوفية أو أدبية أو وطنية"(4)؛ فكانت توظف توظيفاً مجازياً يؤدي الغرض الذي يرمون إليه. وهذا لا يعني أن الأدب العربي والفارسي لم يحفل بغيرها, ولا سيما قصة يوسف () وزليخا التي شاع أمرها في الأدب الفارسي(5).

وتتلخص قصة المعراج بأن النبي الكريم عرج إلى السموات السبع يصحبه جبريل () هادياً ومرشداً... وقد رأى () في السماء الأولى (آدم) وفي الثانية (يحيى وعيسى) وفي الثالثة (يوسف) وفي الر ابعة (إدريس) وفي الخامسة (هارون) وفي السادسة (موسى) وفي السابعة (إبراهيم) عليهم صلوات الله أجمعين. وكان () قد رأى في كل سماء أشياء تأسس في ضوئها جملة من الأوامر والنواهي...

ومن ثمَّ انتهت رحلة المعراج إلى سِدْرة المنتهى على وفق قوله تعالى: لقد رأى من آيات ربه الكبرى (النجم 53/18).

فالوقوف بين يدي الحضرة الإلهية كان المرحلة الأخيرة في قصة المعراج ثمَّ العودة إلى الأرض...

ولسنا الآن في صدد الحديث عن أول من تأثر بقصة المعراج وعمن تناولها وإنما في صدد إثبات أنها غدت مدار التقاء أدبي وفكري وفلسفي بين الأدبين العربي والفارسي...فالأديب الإيراني فريد الدين العطار (545 627ه) ترجم في كتابه (تذكرة الأولياء) أول معراج صوفي لأبي يزيد البسطامي طيفور بن عيسى؛ الملقب بسلطان العارفين؛ (ت 261ه). وقد كتبه البسطامي بالعربية في إطار رؤية منامية يتخيل فيها الطريق إلى الله. أمَّا الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا (338 428ه) فقد ألف (رسالة الطير) ورأى أنه "يطير مع الطيور وأن الطريق مليء بالصيادين الذين تمكنوا من الإيقاع بالطيور فطارت الطيور وعبرت الكثير من الصعاب ومنها ثمانية جبال وكان هدفها الوصول إلى المليك الذي يخلصها من الشباك"(6).

وتحظى الطيور بلقاء الملك ويخلصها من الشباك وتعود أدراجها...

وبهذا يلتقي ابن سينا مع البسطامي في الحديث عمَّا يستوجب على السالك الصوفي أن يفعله في حياته ليصل إلى مقام المشاهدة والالتقاء بالحضرة الإلهية.

ومن هنا نشير إلى رسالة (التوابع والزوابع) لابن شُهَيد الأندلسي أبي عامر أحمد بن أبي مروان عبد الملك بن مروان (382 426/992 1034م)...

وفيها عقد رحلته إلى العالم الآخر وهو يرمي إلى مفاضلة أنداده ومنافسيه من الأدباء والوزراء وأهل السياسية والانتقاص منهم ونقدهم وإظهار مناقبه... وفيها عرض لعدد من الشعراء وتوابعهم في وادي عبقر, فضلاً عن بعض الأدباء والنقاد كعبد الحميد الكاتب والجاحظ وبديع الزمان...(7) وبهذا فهي رحلة إلى العالم الآخر, صاحب فيها أبو عامر هادياً له يتمتع بصفات خارقة.

وتتوافق رسالة التوابع والزوابع مع قصص المعراج ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري (363 449ه) بأنها رحلة معراجية إلى العالم الآخر, بعد أن اجتمع فيها اثنان يرشد أحدهما الآخر ويبين له سبيل الحق... وبعد الوصول إلى مقام الشهود في قصص المعراج وإلى الجنة أو النار في رسالتي الغفران والتوابع والزوابع تنتهي الرحلة بالعودة إلى عالم الوجود.

فرسالة الغفران تجعل من ابن القارح قائداً للرحلة, وإن كانت شخصية السارد (أبي العلاء) لا تغيب في كثير من الأحيان عنها. ويزور فيها الجنة والنار ويقابل الشعراء والأدباء والقرّاء والنحويين وغيرهم فيسأل أحدهم عن سبب دخوله النار أو دخوله الجنة, وبمَ غُفر له؟. ويشبهها في هذا البناء رحلة الموبد الزرادشتي (أرده ويراف) إلى الجحيم والأعراف والجنة, ولعل المعري تأثر بها(8) إنْ كان يعرف الفارسية, وهو مستبعد. ويبقى الفرق بين رسالتي المعري وابن شهيد وقصص المعراج في الأدب العربي والفارسي أنهما تعبير عن الذات بخلاف الأخرى التي تحقق للصوفي ما يصبو إليه من مشاهدة أو اتحاد.

وإن كانت قصص المعراج في الأدب الفارسي عديدة مثل (سير العباد إلى المعاد) لسنائي الغزنوي (ت 545ه) و(رسالة الطير) لحجة الإسلام زين العابدين أبي حامد محمد بن محمد الغزالي (450 505ه) فإننا سنتوقف عند منظومة (منطق الطير) لكبير مشايخ التصوف الفارسي فريد الدين العطار (545 627ه)؛ إذ عُدّ ثالث ثلاثة فيه بعد جلال الدين الرومي وسنائي الغزنوي...

ومنظومة (منطق الطير) المبنية على المزدوج/المثنوي في قالب شعري قصصي؛ تعد من أعظم ما نظم في الأدب الصوفي خاصة؛ إذ بلغت (4650 بيتاً) وكان قد نظمها سنة (583ه)(9). ولعل فيما يدل عليه مصطلح المثنوي أنه بني على المقابلة الثنائية شكلاً ومعنى؛ في الإيمان والاعتقاد بالجنة والنار, والليل والنهار...

وليست مهمة البحث عرض طبيعتها وماهيتها فقد انعقدت فُصول في كتب شتّى لهذا الغرض؛ ولكن مهمته الأصلية إثبات أن فريد الدين العطار تأثر على نحو كبير برسالة الطير لكل من ابن سينا والغزالي, في الوقت الذي اتفق فيه مع رسالتي الغفران والتوابع والزوابع في منطلق الرحلة, وهو المنطلق الذي قامت عليه قصة المعراج النبوي في استصحاب هادٍ ومرشد.

وإذا كان ابن سينا قد عبَر جبالاً ثمانية لمقابلة الملك فإن الأودية والطرق عند الغزالي وسنائي والعطار سبعة, وهي ترمز إلى المقامات السبعة في التصوف, وطرقها...

وإذا كان سنائي الغزنوي قد اتفق مع ابن سينا والغزالي والعطار في تجاوز الطيور للوديان والجبال فإنه اتفق مع رسالة الغفران ورحلة الموبد الزرادشتي في كونه رافق مرشده وهاديه في رحلته إلى الجنة والأعراف والنار...

وكان العطار قد نظم الرحلة على ألسنة طيور حقيقية كالهدهد والنَّهْس والصقر وغيرها؛ ولم يختر إلا طيراً خرافياً واحداً هو (السِّيْمُرغ) ورمز فيه إلى ملك قوي... وتعني (سي) ثلاثين (مُرغ) الطائر, أي الثلاثين طيراً. وهو عند الإيرانيين بمنزلة العنقاء عند العرب. وهنا نثبت أن الغزالي استخدم العنقاء في (رسالة الطير) على حين استعمل مصطلح (الطيور) لأنواعها كلها...

وما يعنينا هنا أن الأودية السبعة: وادي الطلب والعشق والمعرفة والاستغناء والتوحيد والحَيْرة وأخيراً وادي الفقر والغناء كناية عن السموات السبع في قصة المعراج النبوي, على حين ترمز إلى المقامات السبعة عند أهل التصوف كمراحل لتصفية أرواحهم ليحظوا في نهاية المطاف بعد اجتياز الوادي السابع (الفقر والغناء) بالحَضْرة الإلهية.. علماً أن الهدهد يرمز إلى جبريل, والسيمرغ يرمز إلى ملك قوي صابر يتجلى في المرآة عن توحده مع الله. فهو يمثل الطيور الثلاثين التي سلكت الأودية السبعة ووصلت إلى جبل (قاف) وحظيت بلقاء الحضرة الإلهية.

وهذا يعني أن السالك من المتصوفة الطيور قد صمم على قطع الأودية؛ مهما كانت صعوباتها ووعورتها لأنَّ اليأس لا يتسرب إلى نفوس المؤمنين(10) لينتهي به المطاف في مقام الشهود إلى التجلي والاتحاد...

أمَّا منظومة (جاويد نامه) أي (رسالة الخلود) للمفكر الإسلامي الكبير محمد إقبال (1873 1938م) التي كتبها بالفارسية عام (1932م) فقد ترجمها إلى العربية محمد السعيد جمال الدين، وفيها نرى جلال الدين الرومي هادياً ومرشداً لمحمد إقبال الذي تاقت نفسه للعروج والاتجاه إلى الله وحده بعد اجتياز الزمان والمكان من خلال أفلاك سبعة ليصل إلى جنة الفردوس... ويشكو إقبال "تشتت العالم الإسلامي لضعف في نفوس المسلمين, وبسبب مصائب الاستعمار والشيوعية" ثمَّ يرى أن العالم الإسلامي أصيب بحالة موت ولن ينقذه منها إلا عالم القرآن الكريم(11).

وقد وقع التجلي الإلهي في معراج إقبال بعد انتهاء الرحلة إلى مقام الشهود عن طريق العشق الإلهي...

ومن بين القواسم المشتركة بين رسالة الخلود ورسالة الغفرانِ محاكمةُ الزنادقة؛ فإذا كان المعري قد حاكم بشاراً وأمثاله فإن محمد إقبال حاكم ثلاثة من الزنادقة حين وصل إلى فلك المشتري وهم المنصور الحلاج, والشاعر الهندي أسد الله غالب وشاعرة المذهب البابي في إيران قُرّة العين الطاهرة التي أُعدمت سنة (1852م) لاعتناقها هذا المذهب... أمَّا التقاؤهما بالمعراج النبوي فتجسد بعدم الرضا بهذا العالم ولا بد من التوجه أبداً إلى الذات الإلهية... وهي الفكرة التي يلتقي فيها الصوفي الكبير محيي الدين محمد بن علي بن محمد بن عربي (560 638ه), ولا سيما في كتابه المخطوط (الإسرا إلى المقام الأسرى). ويعد أحد الكتب في تزكية النفس, وفيه أفاد من قصة المعراج النبوي, بمثل ما أفاد منها عدد من أدباء الغرب كما نراه في (الكوميديا الإلهية) للشاعر الإيطالي دانتي (1265 1331م), و(الفردوس المفقود) للشاعر الإنكليزي ملتون (1608 1674م)(12).

وفي ضوء ذلك كله ثبت لنا أن قصة المعراج النبوي أحدثت حركة أدبية عظيمة, وأثرت الخيال الخصب للشعراء والأدباء في الأدبين العربي والفارسي فكانت قاسماً مشتركاً عظيماً بينهما...

وهذا يجعلنا ننتقل إلى مظهر آخر من مظاهر العلاقة الوطيدة بين الأدبين ويتمثل في الترجمة والتأليف.

2 الترجمة والتأليف:

ليس المقصود في هذا المقام أن نتحدث عن الترجمة باعتبارها تعني نقل الكلام من لغة إلى أخرى؛ أو أن اللغة الأقوى تؤثر في الأضعف... وإنما المقصود ما أنتجته الترجمة من تكوين قواسم مشتركة عديدة بين العرب والإيرانيين على الصعيد الاجتماعي والسياسي والثقافي والأدبي... وقد حمل أعباء ذلك كل من أبناء الشعبين على السواء, فأكدوا عظمة التفاعل المتبادل بينهم وأتاحوا للأدباء والباحثين والشعراء الاطلاع على ثقافة الشعبين؛ فازدادت إبداعاتهم غنىً وارتقاء... وربَّما أحدثت بعض الكتب المترجمة حركة أدبية عظيمة الأشكال والأفكار والموضوعات والمؤلفات, علماً أن كثيراً من الأدباء والمؤرخين والفقهاء واللغوين صاروا من أصحاب اللسانين العربي والفارسي, ألفوا فيهما ونظموا الأشعار بمثل ما ترجموا منهما... فابن سينا مثلاً ألّف كتباً بالعربية منها (الشفاء والقانون والإشارات) وكتباً بالفارسية منها (دانشنامه علائي) وله شعر عربي كقصيدة (النفس) وثنتان وعشرون قطعة من الشعر الفارسي... وأبو الريحان البيروني كتب نسختين من كتابه (التفهيم لأوائل صناعة التنجيم) واحدة بالعربية والأخرى بالفارسية... أمَّا الشاعر الصوفي الشهير سعدي الشيرازي (ت 691ه) فله أشعار بالفارسية, وقصائد بالعربية منها قصيدته في رثاء بغداد على إثر تخريبها بيد المغول سنة (656ه)(13).

وإذا كنا سنأتي على ذكر عدد آخر في الأشكال الأدبية المشتركة بين الأدبين العربي والفارسي فإننا سنشير بإيجاز إلى كتابين أحدثا حركة التقاء كبرى بينهما وهما كتاب (كليلة ودمنة) لعبد الله بن المقفع (106 142ه) ورباعيات الخيّام؛ لعمر الخيام, وكلاهما إيرانيان من أصحاب اللسانين.

أمَّا (كليلة ودمنة) فهو أشهر الكتب التي ترجمها ابن المقفع سنة (133ه) وكان رأس المترجمين العشرة؛ فضلاً عن أنه ألف في العربية عدداً من الكتب مثل (الأدب الصغير, والأدب الكبير, واليتيمة في الرسائل) كما ترجم من الفارسية عدداً آخر لم يصل إلينا منها شيء حتَّى الآن, ومنها (خُداي نامه في السِّيَر, وآيين نامه: القواعد والرسوم, والتاج في سيرة أنو شروان)(14).

ويعد كتاب (كليلة ودمنة) أحد الكتب التي قرّبت بين الأدبين العربي والفارسي في الوقت الذي أحدث فيهما حركة فنية وفكرية... وكان ابن المقفع قد ترجمه عن الفارسية القديمة (الفهلوية) التي نُقل إليها من اللغة الهندية؛ ولما ضاع الأصل الفارسي والهندي صارت الترجمة العربية أصلاً ولا سيما أن ابن المقفع أضاف إليها بعض الأبواب..., وأشهر من ترجمها بعد ذلك إلى الفارسية أبو المعالي نصر الله (سنة 539ه) ثمَّ ترجمت غير مرّة إلى الفارسية وغيرها من اللغات العالمية(15).

وإذا كانت قصص مشهد الحيوان معروفة في الشعر الجاهلي فإن السرد القصصي لكليلة ودمنة يختلف كل الاختلاف عمَّا هو في مشاهد الحيوان تلك, فضلاً عن أن ابن المقفع تصرّف في أسلوب السرد ومعانيه بما يتوافق والذوق العربي...

ومن ثمَّ فإن كثيراً من الأدباء واللغويين أخذوا ينقلون منها حكايات وأمثالاً كما نجده في (عيون الأخبار) لابن قتيبة, أو يؤلفون على منوالها كما حُكي عن كتاب (القائف) للمعري الذي ما زال مفقوداً, وكتاب ابن الهبّارية في الشعر (الصادح والباغم) الذي طُبع مرات عدة, وغيرهما(16).

وإذا كان الدكتور طه حسين قد أعجب بجودة عبارات كليلة ودمنة؛ فإن كثيراً من الأدباء احتذوا ابن المقفع في الكتابة والأساليب وغزارة المعاني, واقتباس الأمثال والحكم من أ فواه البهائم والطير ومن ثمَّ نسجها في أشكال شعرية ونثرية... فأبان بن عبد الحميد اللاحقي نظم كليلة ودمنة شعراً ولكن منظومته ضاعت ونظمها عدد آخر مثل سهل بن نوبخت عام (165ه)(17).

ولم تقتصر العلاقة بين الأدبين العربي والفارسي على الأدب القديم وإنما امتدت إلى الأدب الحديث. وكان أنوار سهيلي قد ترجم (كليلة ودمنة) إلى الفارسية, ومن ثمَّ ترجمت إلى الفرنسية فتأثر بها لافونتين (1621 1695م) وحاكاها, ثمَّ تأثر الأدب العربي الحديث بها, إذ ترجمها من العرب المحدثين محمد عثمان جلال (ت 1898م)؛ فقد ضمّ كتابه (العيون اليواقظ في الحكم والأمثال والمواعظ) كثيراً من حكاياتها وأفكارها..., واتسمت حكاياته بالإيجاز واستخدام بعض الألفاظ العامية فضلاً عن تأثره بحكايات لافونتين... ومن أبرز التقاطع بين حكايات محمد عثمان جلال والشعر الفارسي أنه نظمها على فن المزدوج/المثنوي عند الإيرانيين؛ في وحدة القافية بين البيتين دون التزامها في القصيدة كلها كما في قصة (الثعلب مقطوع الذنب)(18).

وفي هذا المقام لا ننسى أن نشير إلى أمير الشعراء أحمد شوقي الذي كتب خمسين قطعة على لسان الحيوان تؤكد تأثره بحكايات (كليلة ودمنة) وأفكارها كقصيدته (الثعلب والديك), ومنها تظاهرُ الثعلب بالتقوى والصلاح, وتخلّيه عن كل مكائده وفتكه بالطيور...(19). وإذا كانت الخرافات والأساطير إحدى نقاط الالتقاء بين العرب والإيرانيين فإن كليلة ودمنة جمعت هذا إلى جوانب أخرى.

وليس هناك كتاب يتفوق على (كليلة ودمنة) إلا رباعيات الخيام لأبي الفتح غياث الدين عمر بن إبراهيم الخيام النيسابوري (430 526ه) التي نظمها بالفارسية, فضلاً عمَّا قيل: إنَّ له أشعاراً حسنة بالعربية والفارسية؛ وكذلك كتب بالعربية (مقالة في الجبر والمقابلة) و(رسالة في الوجود) وغيرها(20)؛ فهو أحد أصحاب اللسانين...

ولعل مقام البحث ومنهجه يتأبّى عن الإفاضة برباعيات الخيام وترجماتها؛ وما قيل في شأنها وشأن صاحبها, فقد تكفلت فيه دراسات شتى شرقاً وغرباً... ولكننا نتوقف عند قيمة الرباعيات باعتبار ما انتهت إليه من بناء علاقة كبرى بين الأدب الفارسي والأدب العربي ولا سيما الحديث.

وإذا كان كتاب (جَهار مقاله) للعروضي السمرقندي أقدم وثيقة تاريخية عُنيت بالخيام وفلسفته وطبه وفلكه فإن صاحب حواشي ذلك الكتاب قد أثبت رباعية للخيّام, كما أثبت كتاب (فردوس التواريخ) رباعية لا بأس بها...(21).

ثمَّ وثّق المحققون له رباعيات تراوحت بين (16 و56) وربَّما زاد عددها, فاشتهرت به كما اشتهر بها فأضيفت إليه (رباعيات الخيام) علماً أن فن الرباعيات معروف منذ أواخر القرن الثالث الهجري لدى الشعراء الإيرانيين, ونظم عليه مثلاً شهيد البلخي (ت 325ه) والرودكي السمرقند (ت 329ه) والدقيق الطوسي (ت 368ه) وغيرهم(22).

ولعل التقاء الرباعيات بفنون عربية كالمشطرات والمربعات والمخمسات لم يكن عرضاً علماً أنها نظمت على وزن الهزج وغيره... وإن تفردت عنها بتكرار المعاني وتفتيق الأفكار... أمَّا التقاؤها بالأدب العربي الحديث فقد كان معنياً؛ إذ أحدثت الرباعيات نشاطاً أدبياً وفكرياً ونفسياً عظيماً, في الوقت الذي دلت على نزوع عقلي امتزج بحس مرهف, وبعاطفة شفافة في معالجتها للبحث عن سر الوجود: الحياة/الموت.

ولهذا فإن ترجماتها العربية زادت على خمس عشرة ترجمة منذ ترجمة وديع البستاني لها سنة (1912م) عن الترجمة الإنكليزية التي قام بها فيتز جيرالد عن الفارسية؛ سواء كانت ترجمة شعرية أم نثرية؛ فضلاً عن دراسات كثيرة وأبحاث أكثر عدداً. وإذا كان البستاني قد أحال الرباعية إلى سباعية فإن ترجمته دفعت من يتقن الفارسية إلى ترجمتها عنها مباشرة كما دفعت الناس إلى تعلم الفارسية لينقلوا الرباعيات عنها كما حدث مع الشاعر أحمد رامي...

ولا مراء في أن ترجمة أحمد الصافي النّجفي تتميز بشفافية عالية سكب فيها روحه ورؤاه؛ فقرَّب الرباعيات إلى الذوق العربي, وما سبقه في هذا إلا أحمد رامي الذي كان يقع تحت تأثير أحزانٍ وهموم لفقده أحد ذويه حين ترجمها سنة (1924م).... دون أن ننسى صوت أم كلثوم الذي أشاع بين العامة عدداً من الرباعيات من ترجمة أحمد رامي(23).

ولا نرتاب لحظة واحدة في أن فلسفة الخيام في الرباعيات تتقاطع في بعض ملامح منها بما نجده عند الشاعر المعري؛ ولا سيما ما يدور حول مفهوم الوجود ودورة الحياة؛ فالإنسان من تراب وسيعود إليه(24), أو حول مبدأ الشك واليقين(25)... ويبدو أن هذا كله امتد إلى شعر إيليا أبي ماضي ولا سيما قصيدته (الطلاسم) التي أنشدها بعد أن اطلع على ترجمة فيتز جيرالد للرباعيات, ومنها(26):

جئت لا أعلم من أين؛ ولكني أتيت

ولقد أبصرت قدّامي طريقاً فمشيت

وسأبقى ماشياً إنْ شئت هذا أم أبيت

كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟

لست أدري.

ولما انطلق الخيام من المبدأ المادي باعتباره شرطاً لوجود العالم وهو بخلاف الموجود الأزلي القديم رأينا إيليا أبا ماضي يحذو حذوه في غير ما مكان من قصيدته السابقة(27).

ولم يقتصر الأمر على المعري وأبي ماضي بل امتد أيضاً إلى جماعة الديوان كعباس محمود العقاد (1889 1984م) الذي بدأ أولى مقالاته عن الرباعيات سنة (1908م) وأتبعها بدراسات أخرى فضلاً عن معارضته إياه برباعيات أخرى؛ وعبد الرحمن شكري (1886 1958م) الذي ترجم ثلاث رباعيات وكتب عنها؛ وإبراهيم عبد القادر المازني (1890 1949م) الذي كان أكثر تأثراً بالرباعيات من صاحبيه, وردَّ عن الخيام تهمة النزعة الأبيقورية ونزعة التصوف(28).

ولعل ما أرسته رباعيات الخيّام من قواسم مشتركة بين الأدبين العربي والفارسي فناً وأسلوباً, فكراً ونقداً يدفع بنا إلى إحياء مؤسسات مشتركة بين العرب والإيرانيين لترجمة آدابهما وتراثهما ومؤلفاتهما المختلفة في كل اتجاه... فلماذا لا نجدّد روح (بيت الحكمة) الذي أنشئ في العصر العباسي في بغداد؟!!

ونكتفي بما أشرنا إليه دون أن ننسى عوامل الالتقاء الأخرى التي أدت ازدياد التقارب بين العرب والإيرانيين, وتمازجهما في الحياة والفكر... ويعد الجاحظ (ت 255ه) أحد الأدباء الذين مارسوا ذلك قولاً وفعلاً... فلما أهدى كتابه (الحيوان) إلى الوزير ابن الزيات أهدى (البيان والتبيين) إلى قاضي القضاة ابن أبي دؤاد, وكتاب (الزرع والنخيل) إلى إبراهيم بن العباس الصولي...

ومن يقرأ كتابه (البخلاء) الذي قدمه إلى أحد الأعيان يجد تمازجاً حضارياً فكرياً واجتماعياً مدهشاً سيق بأسلوب أدبي طريف لكل من بخلاء العرب والفرس(29).

وفي نهاية هذا الاتجاه من الترجمة والتأليف لا يمكننا أن نغفل التنويه بفضل المقامات الأدبية التي نشأت عند العرب وأبدعها بديع الزمان الهمذاني (ت 398ه) وأبي محمد القاسم بن علي الحريري (446 516ه) ثمَّ انتقلت إلى الأدب الفارسي على يد القاضي أبي بكر حميد الدين عمر بن محمود البلخي (ت 559ه). وقلَّد في مقاماته المقامات العربية أسلوباً ومادة؛ وإن ظهر فيها تأثير الروح الفارسية كالتفنن في الأساليب, وسميت بأسماء بعض مناطق فارس كالمقامة البلخية, والسجستانية, والأذربيجانية والجرجانية والأصفهانية وغيرها... دون أن ننسى أن مقامات الحريري تقاسمت الروح الفارسية في الموضوعات والأساليب مع المقامات الفارسية؛ علماً أن حميد الدين كان أكثر تأثراً بها... وقد عرض لذلك عدد من الدارسين والباحثين(30).

ولعل أهم ما فعلته المقامات من تقاسم مشترك بين الأدبين العربي والفارسي, ومن ثمَّ في الحياة, أن استخدام الألفاظ العربية قد كثر على الألسنة, وشاع استعمال أنماط من التراكيب العربية الكاملة في سياق ما يستدعيه موضوع ما...

ونكتفي بما ذكرناه لننتقل منه إلى القواسم المشتركة في اللغة والأشكال الفنية وفي بعض الموضوعات الأدبية...

3 القواسم اللغوية والفنية

يعدُّ الالتقاء الحضاري اللغوي والبلاغي والأسلوبي والفني من أبرز وجوه التفاعل بين الأدبين العربي والفارسي منذ القديم؛ وذلك لعظمة التمازج التاريخي والاجتماعي بين الشعبين العربي والإيراني.

فمن منا ينسى استنجاد ملك اليمن سيف بن ذي يزن (ت 50 ق.ه) بكسرى أنوشروان (ت سنة 1 ق. ه) لطرد الأحباش, فأسرع إلى تلبية رغبته؟ وظل لهذه الحادثة التاريخية أصداؤها في الحياة والأدب؛ وممن أشار إليه البحتري (ت 284ه) في قوله(31):

أَيّدوا مُلكنا وشدُّوا قواه *** بكُمَاة تحت السَّنَوَّر حُمْسِ

وأعانوا على كتائب أَرْيا *** طٍ بطَعْن على النحور ودَعْسِ

ومن ثمَّ ما جمعت حادثة تاريخية بين الشعبين كتلك التي جرت أحداثها بعد الإسلام بمقتل سبط رسول الله () الحسين بن علي () في كربلاء, فألهبت عواطف الأدباء والشعراء فكانت مصدراً ثراً للأدبين.

ونكتفي بهذين المثالين لنثبت القواسم المشتركة في اللغة ألفاظاً ومصطلحات وتراكيب وصوراً... فكان أبناء العربية يتداولون الألفاظ الفارسية ويتعلمون لغتها, بمثل ما كان أبناء إيران يسعون منذ القديم إلى تقليد الحياة العربية؛ ويتعلمون لغتها ويقرضون أشعارها... وكلّنا يذكر أن الملك الساساني بَهْرام كَور (جور) أرسله أبوه إلى الحِيْرة, ليقوم النعمان بن المنذر على تربيته وتعليمه العربية... وقد تمَّ له ذلك؛ وقيل: إنه تجاوز تعلم اللغة وقرض الشعر... وكذلك كان الشاعر عدي بن زيد وابنه زيد مترجمين لكسرى أنوشروان, وظهرت كثير من الألفاظ الفارسية في شعره وشعر غيره كطرفة بن العبد وأعشى بني قيس...(32)

وكان عدد من العرب قد سمَّوا أبناءهم وبناتهم بأسماء فارسية مثل (قابوس) بن النعمان بن المنذر, ودختنوس بنت لقيط بن زُرَارة, فضلاً عن تسمية بعض بطون قبائلهم بتلك الأسماء, كالأَسْبذيين الذين ينتسبون إلى (أَسْبذ). وهو لفظ مأخوذ من كلمة فارسية (أسب) وتعني (الفَرس) وذكر ذلك طرفة في قوله(33):

خذوا حِذْركم أهل المُشَقَّر والصَّفا *** عبيدَ اسْبَذٍ والقرضُ يُجْزى من القرضِ

وفي ضوء ذلك يمكننا أن نستدعي شاهداً واحداً من شعر الأعشى ليؤكد عظمة دوران الألفاظ الفارسية على ألسنة الأدباء والناس في العصر الجاهلي؛ وهو قوله(34):

لنا جَلَّسان عندها وبَنفسجٌ *** وسيْسَنْبرٌ والمَرْزجوشُ مُنَمْنَما

وآسٌ وخِيريٌّ ومَرْوٌ وسوسن *** إذا كان هِنْزَ مَنْ ورحت مُخَشَّما

وشاهَسْفِرم والياسمين ونرجسٌ *** يُصبّحنا في كل دَجْن تَغَيَّما

ومُسْتقُ سينين ووَنٌّ وبَرْبَط *** يجاوبه صَنْج إذا ما ترنَّما

فأصل (جَلّسان) في الفلاسية: (كَلشن) و(بنفسج: بنفشه) و(سيسَنْبر: سيسنمر) و(مرزجوش: مرزن كَوشَ) و(شاهسفرم: شاه سبرغم) و(ياسمين: ياسمن) و(وَنّ: وَنَكَث) و(بربط: بربت) و(صنج: جَنكث) على حين اتفقت العربية والفارسية بالألفاظ الأخرى (آس, خيري, سوسن؛ مستق).

ويبدو لي أن لفظ (ناهد) ومعناه الفتاة التي برز ثدياها انتقلت إلى الفارسية بالمعنى ذاته, وورد استعمالها في كتاب (الأَفستا)؛ أما أستاذ اللغات القديمة في جامعة طهران (بَهرام فره وش) فذهب إلى العكس(35).

ثمَّ جاء الإسلام؛ فاستعمل القرآن الكريم عدداً من الألفاظ الفارسية المعربة مثل (سُنْدس واستبرق, ومَرْجان ومسك؛ وزنجبيل, وسِجِلّ وسُرَادق...).

ولما انتشرت اللغة العربية بانتشار الدين الجديد ازداد دوران الألفاظ العربية على الألسنة وصارت لغة الآداب الفارسية في كثير من العلوم والفنون وتغلغلت في كل مجال؛ ثمَّ في كل كتاب فارسي... وهذا أكثر شهرة من أن يقف الباحث عنده؛ فلو تصفح أحدنا أي كتاب في الشعر أو غيره لتأكد له ذلك... فضلاً عن أسماء الكتب؛ والعنوانات العربية, وعن وضع المعاجم اللغوية الفارسية على غرار المعاجم العربية. ولعل أقدم معجم فارسي هو (لغة الفرس) لعلي بن أحد الأسدي الطوسي (ت 465ه).

وامتد الأمر إلى المصطلحات اللغوية في الأدب والفن والعمارة والفقه والحديث وعلوم القرآن والفلسفة والتصوف... وهذا ميدان عريض لا يحدُّ, وهو ما يجعلنا ننتقل إلى استمرار استعارة العرب للألفاظ الفارسية من العامة والخاصة ولا سيما في العصر العباسي... وشاعت في الحياة والأدب كأسماء الأعياد والنرد وغيرها, كما نراه في شعر البحتري, ومنه قوله(36):

يرمي فما يشوي ويقتل من رمَى *** بسِهامِ لا هَدَفٍ ولا بُرْجاسِ

ويتردد في شعر البحتري مثلاً ألفاظ فارسية لأعلام وأماكن وجماعات وغير ذلك...، ولم يقتصر الأمر على ذلك فهناك من أدخل في شعره ألفاظاً فارسية على سبيل التملّح كقول العُمَانيّ للرشيد يمدحه(37):

لمّا هوى بين غياض الأُسْدِ *** وصار في كفِّ الهِزَبْر الوَرْدِ

           آلى يذوق الدَّهْرَ آبِ سَرْدِ       

والتملح في لفظ (آب سَرْد) وآب: يعني (الماء) وسَرْد: يعني (البارد).

ومن هنا ننتقل إلى بعض الأساليب اللغوية والبلاغية التي تبادلها الأدبان العربي والفارسي... فقد كثر اقتباس القوالب اللغوية والأسماء بعينها؛ سواء كان ذلك من لغة القرآن والحديث أم لغة الأدب وعلوم اللغة وغيرها, فضلاً عن استبدال بعض المصطلحات بما يوازيها معنى ولفظاً, فالمزدوج هو المثنوي عند الفرس, والتجنيس المطلق يطلق عليه لدى البلاغيين الفرس (المتشابه)(38) وعلوم البلاغة ومصطلحاتها وشواهدها عند العرب نجدها بدقائقها في كتاب (حدائق السحر في دقائق الشعر) لرشيد الدين البلخي.... أمَّا كتاب (أنوار البلاغة) لمحمد هادي بن محمد صالح المازندراني أحد علماء المسلمين في القرن الحادي عشر فقد تأثر كثيراً بكتابي (المطول) و(المختصر) للتفتازاني(39).

وأساليب البلاغة ومصطلحاتها التي تبادلها الأدباء والبلاغيون والنقاد كانت تشكل قاسماً مشتركاً كبيراً بين الأدبين؛ علماً أن الأدب الفارسي أفاد في هذا الشأن من الأدب العربي... فلن يبلغ الأديب شأواً بعيداً إذا لم يكن على دراية بها... ولم يقع الاختلاف إلا في أساليب قليلة؛ فلما فضّل الشعراء العرب صنعة (التصريع, والترصيع, والإيجاز والتكثيف) فضّل الشعراء الفرس صنعة (السؤال والجواب؛ وتفريع الأفكار) كما رآه الوطواط(40).

وهذا يفرض علينا الإشارة السريعة إلى الأساليب الفنية الأدبية التي غدت قاسماً مشتركاً بين الأدبين... فلما شاع إنشاد الأشعار باللغتين العربية والفارسية أخذ الشعراء ينظمون الشعر مزاوجين بينهما؛ فإما أن يكون شطر لكل منهما وإما أن يكون بيت وأطلق على هذا الصنيع (المُلَمَّعات) وهذا ما نجده عند الشاعر حافظ الشيرازي (ت 791ه)؛ إذ يستهلّ أشهر مُلمَّعة عند العرب والفرس بقوله من الهزج(41):

ألا يا أيها الساقي *** أَدر كأساً وناولها

كه عشق آسان نمود *** أوّل ولى افتاد مشكلها

وترجمة البيت الفارسي: إنَّ الحب سهل وممتنع في أوله ولكن متاعبه تكمن فيما بعد... ومن يتأمل البيت الأول يستشف أنه متأثر فيه بأبيات ليزيد بن معاوية... فالاستشهاد بنصٍّ كامل لم يعد مقتصراً على القرآن والحديث بل انتقل إلى الشعر العربي, وهو ما عرف بالاقتباس اللفظي ويعرف اليوم في النقد الحديث بالتناص اللفظي... وهذه الظواهر من الاشتراك الأدبي "أشهر وأرحب من أن نمثل لها ببضعة أمثلة. ونكتفي بأن نقرر أنها تكثر في الأجناس" الأدبية الفارسية والعربية المستحدثة(42). فالكتابات الديوانية والرسائل الديوانية والعلمية, والتوقيعات والتعليقات كلها انتقلت من بلاد فارس إلى العربية, وأفادت من أساليبهم الفنية فيها, ولا سيما العناية بالمقدمات والإطناب, والشرح في أنواع من الرسائل... وغدا ذلك كله قاسماً عاماً في الأدبين العربي والفارسي ابتداءً من عهد عبد الملك بن مروان, وخلفائه. وكان عبد الحميد الكاتب الفارسي الأصل تلميذاً بارعاً لسالم مولى هشام بن عبد الملك؛ فقدّم للأشكال الفنية والكتابية في الأدب العربي خدمات جُلَّى(43).

أمَّا ما يتعلق بوصف الخمر التي أولع بها أبو نواس وأمثاله في العصر العباسي فقد تطور كثيراً نتيجة التأثر بطبيعة حياة اللهو والأدب الفارسي(44)؛ على الرغم من أن العرب منذ القديم كانوا يتفنّنون في أوصافها كالأعشى.

ومن ثمَّ فقد أخذت الخمر اتجاهاً جديداً دخل في باب التصوف الذي اشتهر به العرب والفرس على السواء... ودخلت ألفاظ الخمر في باب الرموز الصوفية ودرجاتها عند عدد من شعراء الطرفين, بل إنَّ أبا نواس ارتقى في درجات عشقها ارتقاء المتصوفة في مقاماتهم.

ولعل فيما أشرنا إليه كفاية عن هذه الأنماط الفنية الأدبية لدى العرب والإيرانيين شكلت عظمة الالتقاء فيما بينهم... بيد أن المرء لا يمكنه أن يهمل ما يتعلق بالأوزان والقافية, وهو حديثنا الأخير في القواسم الفنية المشتركة لننتقل بعدها إلى الموضوعات لنوجز القول فيها.

وقد تناول باحثون عديدون ما يتصل بالأوزان والقافية في الشعر؛ فرأوا أن الأدب الفارسي القديم لم يعرف إلا الملاحم التي نظمت على بحر المتقارب المزدودج/المثنوي (وقد ظهر أول ما ظهر في الفارسية الحديثة بعد الفتح في شعر دقيق المتوفى عام (230ه/940م) الذي بدأ نظم (الشاهنامه) وفي شعره كثرت الرباعيات والمنظومات المثنوية من بحر الرمل والخفيف؛ كما بدأ نظم (كليلة ودمنة) أيضاً في مثنوي بحر الرمل"(45).

ومن ثمَّ نتبين أن الوزن لم يأخذ طريقه إلى الأدب الفارسي قبل القرن الثالث الهجري, ولا عرف القافية الواحدة, وإن وقعت في الشعر الفارسي الإسلامي في المزدوج والرباعيات, والقصيدة العادية... والملمعات... وهذا يعني أن الأوزان والقافية انتقلت من الأدب العربي إلى الأدب الفارسي؛ وغدت قاسماً مشتركاً بينهما. ويقع (المتقارب) في الدرجة الأولى عند الشعراء الإيرانيين؛ ويليه الهزج والرمل والخفيف, على حين ندر استعمال بقية الأوزان؛ علماً أن الطويل والكامل والبسيط ثمَّ الوافر والسريع والمتقارب أكثر شيوعاً في الأدب العربي من البحور السابقة...

ويظن الدكتور محمد غنيمي هلال أن الإيرانيين ربَّما عرفوا في العصور القديمة قبل الإسلام أوزاناً شعبية قريبة من الهزج أو من الرجز(46)؛ وهما بحران مستعملان بكثرة في الشعر العربي منذ القديم...

وليس هناك مراء في أن الأدب الفارسي أنتج فن (المثنوي) ذي القافية الواحدة بين مصراعي البيت الواحد دون باقي القصيدة؛ كما أبدع فن (الرباعي) المكون من أربع شطرات ذات قافية موحدة, وكل رباعية مستقلة بذاتها عمَّا قبلها وبعدها... وإن كان العرب قد عرفوا المشطرات والمربعات والمُخَمّسات, ثمَّ أبدعوا الموشحات ذات النهج الجديد في البناء والقافية, وهي التي أثرت في نشأة شعر التروبادور الأوربي. وما يشبه الموشحات إلا فن الزجل, وكلاهما فن شعبي(47) يعالج موضوعات مختلفة كالمدح والغزل, على حين تحاول الأناشيد الدينية المشتركة أنْ تعالج موضوعات صوفية.

هكذا يسلمنا الحديث إلى سمة عالمية مشتركة بين آداب الأمم المختلفة بما فيها الأدب العربي والفارسي وهي سمة القصة والسرد؛ وإذا كان أول ظهور لها في النثر اليوناني القصصي, علماً أن هناك عناصر قصصية في ملاحم اليونان وبعض أشعار العرب القدماء وسير ملوك فارس وحكمائها فإن أول ظهور لها في النثر العربي والفارسي كان في العصر الحديث وقبلها ظهرت المسرحية والمقالة باعتبارهما فنين جديدين.... اللهم إذا استثنينا من ذلك قصص الفروسية والعشق, والسِّيَر الشعبية كسيرة عنترة وسيرة كسرى أنو شروان وأمثالهما؛ وقصة ألف ليلة وليلة, وحي بن يقظان...(48)

وبناء على ما تقدم كله يتضح لدينا بعض القواسم المشتركة اللغوية والفنية الأدبية والأسلوبية بين الأدب العربي والفارسي... وهي تلزمنا بتكثيف الكلام على الموضوعات من جهة المضمون أو الفكرة...

4 الموضوعات المشتركة

هناك موضوعات أدبية عدة تبادلها الأدبان العربي أو الفارسي, أو انتقلت من أحدهما إلى الآخر, ثمَّ رجعت إليه بصورتها الفكرية الجديدة؛ لتغدو قاسماً مشتركاً بينهما؛ وكانت في كل مرة تتخذ وظائف جديدة على نحو كبير.

ولعل موضوع وصف الطبيعة الجامدة والمتحركة, ووصف الممالك الزائلة والأطلال الدارسة من الموضوعات المشتركة والمهمة بين الأدبين العربي والفارسي... وتطور موضوع الأطلال كما هو في العصر الجاهلي إلى وصف الآطام والحصون والقصور الخربة؛ كإيوان كسرى, والصروح الرومانية القديمة أو الآثار الإسلامية التي تهدمت... وغدت موضوعات الوصف في هذا الاتجاه تحمل بُعداً عاطفياً ذاتياً, ووطنياً في بعض الأحيان...(49)

وإذا كان البحتري قد بكى إيوان كسرى ووصفه وصفاً رائعاً, وكأنه ببكائه يبكي خراب هذه المباني العظيمة؛ كما نجده في سينيته المشهورة؛ ومطلعها(50):

صنْتُ نفسي عمّا يُدنِّسُ نفسي *** وترفَّعْتُ عن جَدا كلِّ جِبْسِ

ثمَّ عارضه فيها أحمد شوقي في العصر الحديث ورثى آثار العرب في الأندلس, ثمَّ بكى أمجاد العرب الغابرة في قصيدته, ومطلعها(51):

اختلاف النهار والليل يُنْسي *** اذكرا لي الصِّبا وأَيَّامَ أُنسي

ومن قبلُ حذا حذوه الشاعر الإيراني منو جهري أحد شعراء القرن الخامس الهجري فوقف على الأطلال حين مدح عظيماً من العظماء, وكذلك فعل الشاعر الإيراني الآخر خاقاني وهو أفضل الدين إبراهيم بن علي الشيرواني المتوفى نهاية القرن الثاني عشر الميلادي, ووصف إيوان كسرى(52).

وأخيراً نتوقف عند موضوع الحب العذري, وبخاصة قصة عشق قيس بن الملوح؛ مجنون بني عامر؛ لليلى العامرية... فهي من أعظم القصص في الأدبين العربي والفارسي في موضوع الحب والتدله والحرمان... وإذا كانت قصة المجنون عند العرب تجسد أخباراً مثيرة تناقلها الناس؛ فإنها لقيت لدى أدباء إيران رواجاً لا نظير له؛ ثمَّ اتّخذت شكل العمل الأدبي المتكامل بعد أن كانت مجرد أخبار متفرقة تعبر عن الحرمان والعذاب والمعاناة والعشق. وكان فضل الريادة في هذا للشاعر الإيراني (نظامي الكنجوي 530 595ه). وقد نظم قصة (ليلى والمجنون) في (4700) بيت عام (584ه) في أربعة أشهر(53).

ومن ثمَّ كان الحب العذري منطلقاً إلى الحب الصوفي في الأدب الفارسي؛ وهذا ما ظهر في صنيع (نظامي) ثمَّ نسج أحمد شوقي مسرحيته (مجنون ليلى) على منوال ما حيك عن المجنون في الأدب الفارسي الذي نقل إلى التركية؛ التي كان شوقي يجيدها(54).

وهذا لا ينسينا أن الأدب الصوفي نفسه "نشأ في الأدب العربي وعني به الكتاب عناية فائقة, ثمَّ نقل بعد ذلك إلى الأدب الفارسي, فعُني به الكتاب؛ ثمَّ انتقلت تلك العناية إلى الشعراء. وهكذا دخل عليه تطور في الأدب الفارسي حتَّى جاء وقت غلبت فيه التأليفات الصوفية الشعرية على النثرية في الأدب الفارسي؛ على حين كان العكس في الأدب العربي؛ إذ ظلت الغلبة للمؤلفات الصوفية النثرية على المؤلفات الشعرية الصوفية"(55).

ويعد الشاعر الإيراني جلال الدين الرومي: محمد بن محمد البلخي (604 672ه) من أعظم شعراء التصوف الإسلامي. وقد حدثنا عن طريق السالكين المملوءة بالمصاعب والدم, وهو يقص علينا عشق المجنون... وينتهي إلى ذكر عدد من مقامات الصوفية في قصيدته (شكوى الناي). فالناي لديه رمز للروح التي كانت في عالم الذر, فلمّا تجلى الله للروح سكنت الجسد(56). وهي في ثمانية عشر بيتاً افتتحها بالمثنوي, فقال:(57)

بشنو أين نى جون شكايت في كند *** ازجدا بى ها حكايت في كند

والمعنى: استمع للناي كيف يقص حكايته. إنه يشكو آلام الفراق. وترجمها محمد الفراتي شعراً فقال:

اسمع النايَ مُعْرِباً عن شكاتِهْ *** بعد أن بات نائياً عن لِداتِهْ

ووظّف الشاعر الكبير محمد إقبال حكاية المجنون في الأدب الصوفي الحديث في قوله(58):

ما زال قيسٌ والغرام كعهده *** وربوعُ ليلى في ربيع جمالها

وهضاب نجدٍ في مراعيها المها *** وظباؤها الخفرات ملءُ جبالها

والعشق فيّاض وأُمَّة أحمد *** يتحفّز التاريخُ لاستقبالها

هكذا أدّى العشق العذري والحرمان فيه إلى إثارة خيال المتصوفة, وأوقد ذاكرتهم فأبدعت أفكاراً شتى دخلت العرفان الفارسي من الباب الواسع, ومن ثمَّ أخذت تنتقل إلى الأدب العربيّ فنتج عنها قواسم مشتركة فناً وفكراً.

وهذا ما ينطبق على موضوعات أخرى كأغراض المدح والغزل وغيرهما. إذ يضيق المجال بهذه الموضوعات لو تتبعناها؛ وحسبنا ما وقفنا عنده ممَّا يؤكد عظمة الالتقاء بين الأدبين العربي والفارسي؛,,, ولعل هذا يطرد من نفوسنا أي استشعار بالفرقة والعداوة؛ لأنَّ المودة والمحبة كانت وراء ذلك التمازج قبل أن تكون الأحداث التاريخية والاجتماعية وراء عملية التقارب والتمازج لنعيد إلى ذاتنا جوهرها الأصيل الذي أسسه قوله تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس فنحن شعبان في أمة واحدة...

المصادر والمراجع

(1) إبداع ونقد قراءة جديدة للإبداع في العصر العباسي د. حسين جمعة دار النمير دمشق 2003م.

(2) الأدب المقارن د. محمد غنيمي هلال دار العودة بيروت ط5 د/ت.

(3) الأعلام خير الدين الزركلي دار العلم للملايين بيروت ط7 1986م.

(4) إيليا أبو ماضي: شاعر المهجر الأكبر زهير ميرزا نشر دار اليقظة العربية ومطبوعات المطبعة التعاونية اللبنانية بيروت ط2 1963م.

(5) تاريخ الأدب في إيران إدوارد براون ترجمة إبراهيم أمين الشواربي دار السعادة مصر 1954م.

(6) تاريخ الترسل النثري عند العرب في العصر الأموي د. محمد المقداد مكتبة الفرسان الكويت 1997م.

(7) تأثر جماعة الديوان برباعيات الخيام د. يوسف بكار أبحاث ندوة (العلاقات الأدبية واللغوية العربية الإيرانية) اتحاد الكتاب العرب دمشق 1999م.

(8) ترجمان البلاغة بالفارسية لمحمد بن عمر الرادوياني به تصحيح واهتمام أحمد آتش جاب دوم, شركت انتشارات أساطير تهران 1362 ه. ش.

(9) حدائق السحر في دقائق الشعر رشيد الدين محمد بن محمد بن عبد الجليل العمري البلخي المعروف بالوطواط ترجمة د. إبراهيم الشواربي 1945م.

(10) دراسات في الأدب المقارن د. بديع محمد جمعة دار النهضة العربية بيروت ط2 1980.

(11) ديوان الأعشى تحقيق د. محمد محمد حسين المكتب الشرقي بيروت 1968م.

(12) ديوان البحتري شرح د. محمد التونجي دار الكتاب العرب بيروت ط2 1999م.

(13) ديوان حافظ الشيرازي تصحيح د. حسين إلهي خط غلام حسين أمير خاني انتشارات سروس تهران 1374 ه. ش.

(14) ديوان طرفة بن العبد دار صادر بيروت, والبيت المستشهد به لا يوجد إلا في هذه الطبعة من طبعات الديوان.

(15) ديوان أبي نواس تحقيق أحمد عبد المجيد الغزالي دار الكاتب العربي بيروت د/ت.

(16) رباعيات الخيام بين الأصل الفارسي والترجمة العربية د. عبد الحفيظ محمد حسن كلية العلوم جامعة القاهرة ط1 1989م.

(17) رباعيات عمر الخيام ترجمة أحمد الصافي النجفي دار طلاس دمشق ط5 1998م.

(18) رباعيات عمر الخيام ترجمة الشاعر الأردني عَرار: مصطفى وهبي التل تحقيق د. يوسف بكار مكتبة الرائد العلمية عمّان الأردن ط2 1999م.

(19) رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد الأندلسي تحقيق بطرس البستاني دار صادر بيروت 1967م.

(20) رسالة الغفران لأبي العلاء المصري تحقيق د. بنت الشاطئ (عائشة عبد الرحمن دار المعارف بمصر ص 8 1990م.

(21) الشاهنامه لأبي القاسم الفردوسي ترجمة سمير مالطي دار العلم للملايين بيروت ط2 1979م.

(22) شرح مقامات بديع الزمان الهمذاني تأليف محمد محيي الدين عبد الحميد دار الكتب العلمية بيروت 1979م.

(23) شروح سقط الزند تحقيق مصطفى السقا ورفاقه الهيئة المصرية العامة للكتاب نسخة عن طبعة دار الكتب المصرية 1945م.

(24) شكوى الشكوى: تأملات في قصيدة (شكوى الناي) د. عيسى علي العاكوب ضمن أبحاث ندوة العلاقات الأدبية انظر رقم 7.

(25) الشوقيات أحمد شوقي المكتبة التجارية الكبرى بمصر 1970م.

(26) الظواهر المسرحية عند العرب علي عقلة عرسان اتحاد الكتاب العرب دمشق ط3 1985م.

(27) العلاقات العربية الإيرانية: الاتجاهات الراهنة وآفاق المستقبل مجموعة من الباحثين مركز دراسات الوحدة العربية بيروت ط1 1996م.

(28) فرهنك وازهاي فارسي عربي إي بهرام فره وش تهران 1968م.

(29) قصة الأدب الفارسي حامد عبد القادر مكتبة نهضة مصر القاهرة 1951م.

(30) القيان والغناء د. ناصر الدين الأَسد دار المعارف بمصر القاهرة ط2 1968م.

(31) كشف اللثام عن رباعيات الخيام لأبي النصر مبشر الطرازي الحسيني دار الكاتب العربي ط1 القاهرة.

(32) لسان العرب لابن منظور دار صادر بيروت 1955 1956م.

(33) ليلى والمجنون للشاعر الفارسي نظامي الكنجوي ترجمة عائشة عفة زكريا دار المنهل للطباعة والنشر دمشق 2001م.

(34) مختارات من الشعر الفارسي د. محمد غنيمي هلال الدار القومية للطباعة القاهرة 1965م.

(35) مروج الذهب للمسعودي تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد المطبعة التجارية الكبرى بمصر ط 4 1964م.

(36) المعجم في معايير أشعار العجم بتصحيح محمد قزويني ومدرس رضوي جاب سوم كتابفروشي تهران 1360ه. ش.

(37) المقامات الأدبية لأبي محمد الحريري مطبعة مصطفى البابي الحليب مصر ط5 1950م.

(38) مقدمة ابن خلدون دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان ط4 د/تا.

(39) ابن المقفع بين حضارتين د. حسين جمعة منشورات المستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق 2003م.

(40) يوسف وزليخا لعبد الرحمن الجامي ترجمة عائشة عفة زكريا دار المنهل للطباعة والنشر دمشق 2003م.

________________________________________

(*)باحث وأستاذ في كلية الآداب في جامعة دمشق.

(1) العلاقات العربية الإيرانية: الاتجاهات الراهنة وآفاق المستقبل 113.

(2) ديوان البحتري 1/146.

(3) انظر مقدمة ابن خلدون 451 453.

(4) دراسات في الأدب المقارن 99 وانظر الظواهر المسرحية عند العرب 491 588.

(5) انظر مثلاً (يوسف وزليخا) لعبد الرحمن الجامي.

(6) انظر دراسات في الأدب المقارن100 والظواهر المسرحية عند العرب 523.

(7) انظر رسالة التوابع والزوابع 72 74 والظواهر المسرحية 276 وما بعدها.

(8) انظر رسالة الغفران 129 و132و139 141 والأدب المقارن 230 والظواهر المسرحية عند العرب 518 520 و525 وإبداع ونقد 135 136.

(9) انظر دراسات في الأدب المقارن 115 117.

(10) انظر دراسات في الأدب المقارن 143 150.

(11) انظر المرجع السابق 105 ومختارات من الشعر الفارسي 445.

(12) انظر الأدب المقارن 149 158 والأعلام 6/281 والظواهر المسرحية عند العرب 519 521 و525.

(13) انظر دراسات في الأدب المقارن 84 86.

(14) انظر ابن المقفع بين حضارتين 65 165 والظواهر المسرحية عند العرب 391 وما بعدها.

(15) انظر دراسات في الأدب المقارن 172 وما بعدها و194 وما بعدها والأدب المقارن 183 187.

(16) انظر دراسات في الأدب المقارن 186 192.

(17) انظر المرجع السابق 178 و187.

(18) انظر المرجع السابق 205 207 والأدب المقارن 189 193.

(19) انظر الشوقيات 4/150 والأدب المقارن 193 195.

(20) انظر كشف اللثام عن رباعيات الخيام 9 11 و27 و64 65.

(21) انظر المرجع السابق 70 87.

(22) انظر رباعيات الخيام بين الأصل الفارسي والترجمة العربية 38 و41 و68 و124.

(23) انظر كل ما ورد أعلاه في المرجع السابق 67 68 وما بعدهما و124 و295 وما بعدها.

(24) انظر المرجع السابق 143 144 وشروح سقط الزند 974 975.

(25) انظر مثلاً رباعيات الخيام بين الأصل الفارسي والترجمة العربية 318 ورباعيات عمل الخيام ترجمة النجفي 43 و77.

(26) إيليا أبو ماضي 193.

(27) انظر المرجع السابق 193 ورباعيات عمر الخيام ترجمة عرار 65.

(28) تأثر جماعة الديوان برباعيات الخيام 67 وما بعدها.

(29) انظر مقدمات كتب الجاحظ المذكور ة في المتن؛ وفي مواضعها.

(30) انظر دراسات في الأدب المقارن 223 وما بعدها و247 وما بعدها, وتاريخ الأدب في إيران 2/439 وما بعدها والأدب المقارن 200 و261 والظواهر المسرحية عند العرب 437 وما بعدها وعُد إلى المقامات الأدبية للحريري؛ وشرح مقامات بديع الزمان الهمداني, وتأمل فيهما.

(31) ديوان البحتري 2/635.

(32) انظر القيان والغناء 45 والشاهنامه 151 و153 و161 ومروج الذهب 1/161.

(33) ديوان طرفة بن العبد 66 وانظر لسان العرب (أسبذ دخدنس قبس).

(34) ديوان الأعشى 329.

(35) انظر فرهنك وازهاي فارسي عربي إي ص 3.

(36) ديوان البحتري 2/638 والبُرْجاس: غرض في الهواء يُرْمى به.

(37) انظر المعجم في معايير أشعار العجم 418 وترجمان البلاغة 11.

(38) انظر المرجعين السابقين والصفحات نفسها, ثمَّ انظر حدائق السحر 18 وما بعدها.

(39) انظر الأدب المقارن 284 285.

(40) انظر حدائق السحر 18.

(41) ديوان حافظ الشيرازي 33.

(42) انظر الأدب المقارن 284.

(43) انظر تاريخ الترسل النثري 434 و438 441 و445.

(44) انظر ديوان أبي نواس (ف) وما بعدها, وانظر فيه باب الخمريات الفهرس 731 746.

(45) انظر الأدب المقارن 269 270 وراجع فيه 265 268 ودراسات في الأدب المقارن 73.

(46) انظر الأدب المقارن 267 268.

(47) انظر الأدب المقارن 270 273.

(48) انظر المرجع نفسه 201 203 و220 223 و240 246.

(49) انظر الأدب المقارن 195 197 وقصة الأدب الفارسي 1/193.

(50) ديوان البحتري 2/631 وانظر الأدب المقارن 198.

(51) الشوقيات 2/45 وانظر الأدب المقارن 199.

(52) انظر الأدب المقارن 199.

(53) انظر ليلى والمجنون نظام الكنجوي 3 14 ودراسات في الأدب المقارن 291 293 و307.

(54) انظر دراسات في الأدب المقارن 333 وما بعدها و342 وما بعدها.

(55) دراسات في الأدب المقارن 25 26.

(56) شكوى الشكوى: تأملات في قصيدة شكوى الناي 50 51.

(57) المرجع نفسه والصفحة ذاتها.

(58) المرجع نفسه 60.

مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 97 - السنة الرابعة والعشرون - آذار 2005 - آذار 1425
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 22:7|

أَبو تَمّام

 

أبو تَمّامٍ حَبِیْبُ بنُ أَوْسٍ الطّائیّ، مِنْ أَساطِیْن الأَدَبِ وأُمرائِه، وعَلَمٌ فی الشِّعْر أَغَرُّ أَبْلَجُ، حَفّاظَةٌ له، ذوّاقَةٌ فی تَخَیُّرِ أَشْعار العرب وانْتِخابِها، آیَةٌ فی تَصَیُّدِ الجِیاد الحِسان مِنْها، ومَأْثَرَةٌ جَلِیْلةٌ مِنْ مَآثِرِ طَیِّئ، الّتی یَتَحَدَّرُ مِنْ أَصْلابِها، علا شانِئیْه بالشِّعْرِ والأَدَب، فغَمَزُوْهُ فی الحَسَبِ والنَّسَبِ، وزاد على ذلك غُلاتُهم فجَعلوه رُوْمِیَّ الأَرُومَةِ والمَحْتِد، نَصْرانِیَّ المِلَّةِ، وسَمَّوا أَباه «تدوس» أو «تیودوس»، وقد أَعانَهم حَبِیْبٌ على نَفْسِهِ برِقَّةِ دِیْنِه وتَخَفُّفِهِ فیه، عِلاوةً على سَدِّهِ أَبوابَ الرِّزْقِ علیهم حَیاتَه، واحْتِسائِهِ الصَّهْباء، وإِتْیانِه اللَّهْوَ فی الجَهْر والخَفاء، ومَیْلِه إلى ظاهرِ الطَّرَبِ واللَّعِب، حتّى شَكَّ فیه مُحِبُّوْه، وخَالَطَ أَفْئِدَتَهم رَیْبٌ لم تَنْقَشِعْ عنها سَحائِبُه.

وُلِدَ فی قریة جاسِم، مِنْ أَعْمال حَوْرانَ بسوریَة، وشَبَّ بها، لیس تَمِیْزُهُ مِنْ أَتْرابِه خِلالٌ ظاهرةٌ إِلاّ أنّه «كان أَسْمَرَ طُوالاً فیه حُبْسَةٌ وتَمْتَمَةٌ یسیرةٌ، حُلْوَ الكَلامِ فَصِیْحاً، كَأَنّ لَفْظَهُ لَفْظُ الأَعْراب»، وهو مع ذلك قَبِیْحُ الإِنْشادِ للشِّعْر، غَیْرُ مُحْسِنٍ فیه، ممّا أَحْوَجَه ـ بعد أنْ صَعِد نَجْمُه ـ إلى اتِّخاذِ غُلامٍ له، حَسَنِ الإِنْشاد للشِّعر، كان یُفَرِّقُ ما جَمَّعَ حَبِیْبٌ مِنْ قَوافیه، على ذَوِی الحُظْوَة والجَاه، المُصْغِیَةِ أَفْئِدَتُهم إلیه، حتّى قَطَعَتْ صِلاتُهُم لِسانَه، ومَلأَتْ هِباتُهُم وعَطایاهم فاه.

أَمّا بعد أَنْ خَرَجَ إلى النّاس ببِضاعَتِهِ، وعَظِیماتِ سَجایاه، فقد آمَنَ الخَلْقُ بمَواهِبَ فَذّةٍ رُزِقَها، وخِصالٍ عالیةٍ وُهِبَها، أَنْبَهَتْه بینهم نَباهَةً لَم یَخْمُل بعدها ذِكْرُه أَو یَسْقُطْ صِیْتُه، مِنْها: غَزارَةُ عِلْمِهِ، وسَعَةُ معرفتِه، وحُسْنُ اختیاراته ومُنْتَخَباته، مع حِدَّةِ ذكاءٍ، وحُضُورِ بَدِیْهةٍ، وسُرْعَةِ جَوابٍ، حتّى إنّه كان یُبادرُ المُتَكَلِّمَ بالجواب قبل انْقِضاء كلامِه، كأَنَّما اطَّلَعَ على سِرِّه، فعَلِمَ ما سیقول؛ مِنْ ذلك أَنَّه مَدَحَ الأَمیرَ أَحْمدَ بنَ المُعْتَصِم بقصیدتِه السِّیْنِیَّةِ، الّتی یقول فیها:

أَبْلَیْتَ هذا المَجْدَ أَبْعَدَ غایَةٍ

                  فِیْهِ، وأَكْرَمَ شِیْمَةٍ ونِحاسِ

إِقْدامَ عَمْرٍو، فی سَماحَةِ حاتِمٍ

                  فی حِلْمِ أَحْنَفَ، فی ذَكاءِ إِیاسِ

وكان أبو یُوسُفَ یَعْقُوبُ بنُ الصباح الكِنْدِیّ الفیلسوفُ حاضرًا؛ فقال ـ مُخاطبًا أبا تَمّام ـ: «الأَمیرُ فوقَ مَنْ وَصَفْتَ». فأَطْرَقَ أبو تَمّام هُنَیْهَةً، ثمّ ارْتَجَل قائلاً:

لا تُنْكِرُوا ضَرْبِیْ لَهُ مَنْ دُوْنَهُ

                  مَثَلاً شَرُوداً فی النَّدَى والبَاسِ

فاللهُ قَدْ ضَرَبَ الأَقَلَّ لِنُوْرِهِ

                  مَثَلاً مِنَ المِشْكاةِ والنِّبْراسِ

ولمّا تَلَقَّفوا القصیدةَ مِنْ یَدِه لم یُصِیْبوا فیها هذین البیتین، فعَجِبوا من سرعة فِطْنَتِه، واتِّقادِ قَرِیْحَتِه، وقولِه الشِّعر على السَّجِیّة، كأَنّما یُمْسِكُ بیَدَیْهِ أَزِمَّةَ القَوافی أَجْمَعِینَ.

أوّل ما نَشَرَ فضائلَ أبی تَمّام المَطْوِیَّة فی صدره، طَیَّ السِّجِل، سُبابٌ وتَهارشٌ نَهَضَا بینه وبین الشَّاعرِ المِصْریّ یُوسُفَ السَّرّاجِ، إِبَّانَ رحلته إلى مِصْر، شَهَراهُ وأَشْخصا ذِكْرَهُ عند الأُمَراءِ والوُلاة فی كلّ صُقْعٍ، ثمّ عَلِق قلبُه التَّسْفارَ والتَّطْواف فأَنْضى مَطِیّتَه فیهما، فوَفَدَ على المَأْمون بالعراق مادِحًا، ثمّ اسْتَقْدَمَه المُعْتَصِمُ بعده إجلالاً لقَدْرِه، وإِعظامًا لشأْنه، وقَدِم خُراسان فمَدَح بها عبدَ الله بنَ طاهر بن الحُسین، ووَصَل إلى إِرْمِیْنِیَة فمَدَح خالدَ بنَ یزید، فما زال هذا دَأْبُهُ،  یُشَرِّقُ تارةً ویُغَرِّبُ أُخْرى، ولِسانُ حالِه یقول:

بالشّامِ أَهْلِیْ، وبَغْدادُ الهَوَى، وأَنَا

                  بِالرَّقْمَتَیْنِ، وبِالفُسْطاطِ إِخْوانِی

وكان فی حَلِّهِ وتَرْحالِه یجودُ بقوافٍ عَظُمَتْ صُدورُها بحُبٍّ جَمٍّ للعُرُوبَةِ وأَعْلامِها، وناءتْ أَعْجازُها بمَعانٍ إسلامیَّة جلیلةٍ، أظْهرُها وأَعْلاها ـ وكلّها ظاهرٌ عالٍ ـ ما جاء فی كلمته البائِیَّة فی فَتْحِ عَمُّورِیَّة.

انْمازَ شعرُ أبی تَمّام من غیره بغَلَبَة المعانی المُخْتَرعة علیه، وظهورِ نَفَسِ التّجدید فیه، فضلاً عن بُرُوزِ الصَّنْعة غیرِ المُتَكَلَّفَة، والتَّفَنُّنِ فی تطویعها دون مَشَقَّةٍ أَو إِنْعام نَظَر؛ أَعانَ حَبِیْبًا على ذلك حِسٌّ مُرْهَفٌ، ونَفْسٌ شاعرةٌ تَوّاقَةٌ إلى اخْتِراع المعانی، تَتَعَشَّق الجدیدَ وتَهْفُو إلیه؛ قال البُحْتُری عن سَعْی مُعَلِّمِه إلى تولید المعانی: «أبو تَمّام أَغْوَصُ على المعانی، وأنا أَقْوَمُ بعمود الشِّعر». وقال ابن الرُّومیّ: «أبو تمّام یطلب المعنى ولا یُبالی باللّفظ». ومن المعانی المُبْتكرة الّتی لم یُسْبَق إلیها حَبِیْبٌ، بل وَرَدَها صَفْواً لا كَدَر فیه، ثمَ ألْبَسها حُلىً قَشِیْبةً زاهِیَةً، تَسُرّ النّاظرین، قوله:

وإِذا أَرادَ اللهُ نَشْرَ فضِیْلَةٍ

                  طُوِیَتْ أَتاحَ لَهَا لِسانَ حَسُوْدِ

لَوْلا اشْتِعالُ النَّارِ فِیْمَا جَاوَرَتْ

                  مَا كانَ یُعْرَفُ طِیْبُ عَرْفِ العُوْدِ

وقوله:

لا تُنْكِرِیْ عَطَلَ الكَرِیْمِ مِنَ الغِنَى

                  فَالسَّیْلُ حَرْبٌ للمَكانِ العَالِی

وقوله:

یا أَیُّها المَلِكُ النَّائی بِرُؤْیَتِهِ

                  وجُوْدُهُ لِمَراعِی جُوْدِهِ كُثُبُ

لَیْسَ الحِجَابُ بِمُقْصٍ عَنْكَ لِی أَمَلاً

                  إِنَّ السَّماءَ تُرَجَّى حِیْنَ تُحْتَجَبُ

وآثارُ الصَّنْعَةِ فی شعر أبی تمّام ظاهرةٌ ظُهورًا لافِتًا، تُرَى فی بَدْو القصائد، وتَرِدُ فی تَضاعِیفِها، فمِنْ أَظْهَرِ ما یَفْجَؤُ النّاظرَ فی شعره خُرُوجُهُ على إِلْف العرب، مِنَ الابْتِداء بالوقوف على الأطلال والدِّمَن، ومُخاطَبَة صُواها، والبُكاء على رَحِیل ظَعائِنِها، إِذ كان یَهْجُم على المعنى المَنْشود فیُمُسكه بَتلابِیْبِه مِنْ دون أَنْ یَتَحَوَّجَ إلى تُكَأَةٍ لُغَوِیّة یَسْتَنِد إلیها، أو شَفاعةٍ مَنْ إِلْفِ الشّعراء قبله یَلُوْذُ بها، فهذه كلمته فی فَتْح عمُّورِیَّة بدأها بقوله:

السَّیْفُ أَصْدَقُ إِنْباءً مِنَ الكُتُبِ

                  فی حَدِّهِ الحَدُّ بَیْنَ الجِدَّ واللَّعِبِ

وقَصَد فیها ما یُوائِمُ المُقام مِنْ دون أنْ تُلْهِیَهِ المُقَدّمة، أو تَصرفَه عن غرضه، فأصابه، وذهب یَنْشُدُ الجناس (بین الحَدَّین) والطّباق (بین الجِدّ واللَّعِب) فاقْتادهما، وعَزَّزهما بقوله:

بِیْضُ الصَّفَائِحِ لا سُودُ الصَّحائِفِ فی

                  مُتُوْنِهِنَّ جَلاءُ الشَّكِ والرِّیَبِ

ومِنْ أَمْلَح ما وَرَد فی كلامه مِنَ التَّدْبِیْج، قوله فی رثاء مُحمّد بن حَمِیْد الطُّوسِیّ:

تَرَدَّى ثِیابَ المَوْتِ حُمْراً فَما دَجا

                  لَهَا اللَّیْلُ إِلاَّ وهْیَ مِنْ سُنْدُسٍ خُضْرُ

فجَمَعَ بین الحُمْرة الّتی عنى بها القَتْل، والخُضْرَةِ الّتی عَنى بها ثِیاب الشّهداء؛ أی إِنّه لم یَنْقضِ یومُه حتّى أُبْدِلَ بثیابِه المُلَطّخَةِ بالدّمِ ثیابَ أهل الجنّة. وهذا ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ تَصَرُّف حَبِیْبٍ فی ثقافته، وسَعة اطّلاعه، غَیرَ أنّه إذا اعْتاصَ علیه معنًى مِنَ المعانی، أو حار فی تَطْوِیعه، فإنّه یلُوذُ بالكلام غَیْرِ المفهوم، ویَحْتَمِی بالغُمُوضِ وعُسْرِ التَّأویلِ، فإِذا سأله سائلٌ: لِمَ لا تَقول ما یُفْهَم؟ أجابه بقوله: وأنْتَ، لماذا لا تَفْهم ما یُقال؟!

تَصَدَّرَ أبو تَمّام مَجالسَ الشِّعْرِ، فلم یُصِبْ شاعرٌ مِنْ شعراء عصره فُسْحَةً فیها إلاّ بقَدْرِ ما یُصِیْبُ مِنْ رِضاهُ عنه، ولاسیّما مجالسِ الفَخْرِ والحَماسَة والأَمادِیْح ـ فإِنْ ذَهِل حَبِیْبٌ أَو تَغافَل عمَّنْ زاحَمَه، فلیس فی غیرِ الغَزَلِ والتَّشْبِیْب لَهُ نَصِیْب ـ واحْتَلَّ المَحَلّ الأَوّل بین شعراء عصره وأُدبائه، أهَّلَته لذلك قَرِیْحَتُه المُتَّقِدَة، وغَزارَة محفوظاته؛ إِذْ نَخَلَ أشعار العرب فی الجاهلیّة والإسلام، واسْتَظْهَرَ نُخالَتَها، فحفظ منها أربعةَ عشرَ أَلْف أُرْجُوزَةٍ مِنْ أراجِیْزِهم غیرَ القصائد والمَقاطِیْع، وتَلَقَّف أسالیبَ التّجدید ـ فوق ما رُزِق منها وأَصاب ـ مِنْ دیوانَی المُفْلِقَین المَطْبُوعَیْن، أبی نُواسٍ ومسلم بن الولید، وكان مُدِیْمًا للنَّظر فیهما، وحین سأله بعضُهم فی ذلك، قال: هما اللاَّتُ والعُزَّى.  

وازَنَ النّقاد بین شعر حَبِیْبٍ وأشعارِ طَبَقَتِه، فذهب فریقٌ من الفُرَقاء إلى تفضیله على سائر الشّعراء، فهذا الصّولیّ یقول: «مَنْ تَبَحّرَ شعرَ أبی تمّام وَجَدَ كلَّ محسنٍ بعده لائذًا به». وقال المُبَرِّد: «ما یَهْضِمُ شعرَ هذا الرّجل إلاّ أحدُ رجلین: إمّا جاهلٌ بعِلْمِ الشّعر ومعرفة الكلام، وإمّا عالمٌ لم یَتَبَحَّرْ شعرَه، ولم یسمعه». وذهب آخرون، فیهم دِعبل الخُزاعِیّ، إلى غَمْطِ أبی تمّام مكانته، وازْدِراءِ عبقریّتِه، وكان دِعْبِلٌ، إذا سُئِلَ عنه، قال: «ثلثُ شعره سَرِقَة، وثلثه غَثٌّ، وثلثه صالح». أمّا ابن الأعرابی فقد أَنَكَرَ على حَبِیْب قَوافِیْه جَمْعاء، فقال:«إن كان هذا شعراً فما قالته العرب باطلٌ».

وفی المُوازَنة بین أبی تمّام والبُحْتُری والمُتَنَبّی نُصِیْبُ آراءً مُتباینةً یَنْظِمها قولُ الشَّرِیْف الرّضیّ: «أمّا أبو تمّام فخطیبُ مِنْبَر، وأمّا البُحْتُرِی فواصِفُ جُؤْذُر، وأمّا المُتَنَبِّی فقائدُ عَسْكر».

قضى أبو تمّام وهو والٍ على برید المَوْصِل، حیث ولاّه علیه مَمْدُوحُهُ الحَسَنُ بنُ وَهْب ـ وكان وَجِیْهًا مُقَدّمًا، وكاتِبًا شاعرًا ـ ودُفِن بها، فرثاه الشّعراء والكتّاب والوزراء، وأعاد له الحَسَنُ بن وَهْب مَدائِحَه مَراثیَ، فقال مِنْ كلمةٍ له:

سَقَى بِالمَوصِلِ القَبْرَ الغَرِیْبَا 

                  سَحائِبُ یَنْتَحِبْنَ لَهُ نَحِیْبَا

فَإِنَّ تُرابَ ذاكَ القَبْرِ یَحْوِیْ

                  حَبِیْبًا كان یُدْعَى حَبِیْبَا

خَلّف أبو تمّام ابنًا له شاعراً، هو تمّام الّذی یُكْنَى به، أَوْرَثَه ظُرْفَه كلَّه، وبعضَ شعره، فكانوا یستضْعفون شعره، ویسْتَمْلِحون حدیثَه إذا تَكَلَّم، ویقولون: «یا بُعْدَ ما بینَه وبین أبیه، إِنْ لم یكنْ معه شِعْرُ أبیه، فمعه ظُرْفُه».

ترك أبو تَمّام تَصانِیْفَ جلیلةً أَثْرَتِ المكتبة العربیّة وأَغْنَتها، أَجَلُّها مُنْتخباته، الّتی بدا فیها أَشْعرَ منه فی شعره ـ على قوّة شعره وجَزالتِه، وعُلُوِّ صَنْعَته ـ فمِنْ رائقِ ما انْتَخَبَ: «دیوانُ الحَماسَة»، الّذی كَسَرَه على عشرةِ أبوابٍ: الحَماسة، والمَراثِی، والأَدَب، والنّسِیْب، والهجاء، والأَضْیاف والمَدِیْح، ثمّ ذَیَّله بالصّفات وما اختاره منه، والسَّیْر والنُّعاس، والمُلَح، ومَذَمَّة النِّساء، غَیرَ أَنّه حَبا باب الحَماسةَ ما یُربی على ثُلُثِ مُخْتاراتِهِ مِنْ أَشْعارِ العرب، ثمّ بالَغَ فی حِبـائِهِ فصَدَّرَ به كتابَه وجعله عُنْوانًا له، تَغْلیْبًا له على سائر أغراض الشّعر. و«كتاب الوَحْشِیَّات» ـ الحَماسة الصُّغْرَى ـ وهو مَقاطِیْعُ لا تُعْرف، أَغلبُها للمُقِلِّیْن مِنَ الشّعراء أو المَغْمورین منهم، وهو دون صِنْوِه الحَماسة فی حُسْنِ الاختیار وجَوْدَة الانْتِقاء. و«مختار أشعار القبائل»، وقف علیه البَغدادی صاحب الخزانة، ثمّ حُجِب فیما حُجِبَ من نفائسَ وقلائد، وهو أَصْغَرُ من دیوان الحماسة. و»نقائض جریر والأَخْطل»، ولیس له البَتَّة؛ قال المَیْمَنی عن نِسْبَته: «إنّ بعض المُتأَخّرین فی زَمَنِ الأَتْراك لمّا رأى عنوانه غُفْلاً عن ذِكْر المُؤلِّف، زاد بخطِّه الفارسی تألیف الإمام الشّاعر الأدیب الماهِر أبی تمّام»، وهو اختلاقٌ منه قبیح». ثمّ رَجّح ـ وَفْقًا لِمَا جاء فی فهرست النّدیم ـ أن یكون للأصْمعیّ، فضلاً عن ورود كنیته أبی سعید غیر ما مَرَّة فی مَتْنِه. و«دیوان شعره» وكلُّ تَصانِیْفِهِ السّالفة مطبوعٌ.

 

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 22:6|
صورة الدكتور محمد إقبال فی الأدبیات العربیة


یحتاج الحدیث عن الدكتور محمد إقبال إلى اختصاصیین فی اللغات الأوردیة والفارسیة والإنكلیزیة، وفی الفلسفة والشعر والسیاسة والعقیدة، لیتمكنوا من الإحاطة بجوانب عبقریته. ولست واحداً من هؤلاء الاختصاصیین، ولا أعتقد أنه یحق لی خداع أحد بذكر بعض ما هو معروف متداول عن هذا الفیلسوف الشاعر العظیم. وسأعترف، بادئ ذی بدء، بأننی غیر راض عن بعض ما قرأته فی اللغة العربیة عن إقبال. ولعل عدم الرضا هو الشیء الوحید الذی یحق لی امتلاكه دون أن ینازعنی فیه الآخرون. لكنه، دون شك، لیس المسوغ الرئیس لما أقدمه هنا. ولأعترف أن سبب عدم الرضا هو المسوغ المقبول عندی. وهذا السبب كامن فی أننی جمعت ما كتب عن الدكتور محمد إقبال فی الأدبیات العربیة، مجلات كانت أم كتباً أم محاضرات أم كلمات فی ندوات تكریم هذا الرجل الفذ. جمعت ما ضمته الأدبیات العربیة لأتعرّف الصورة التی رسمتها هذه الأدبیات لرجل ذاع صیته فی الشرق والغرب. وما إن فرغت من القراءة حتى اكتشفت التباین بین الصورة التی كان علیها الرجل فی الواقع والصورة التی رأیتها مجسدة فی الأدبیات العربیة. وكنت مؤمناً أن هذا الفیلسوف الشاعر أكبر بكثیر من الملامح التی رسمتها له الأدبیات العربیة. فرحت أحاول التنبیه على ما تضمه هذه الأدبیات من جوانب الصورة الإقبالیة، سواء أكانت هذه الجوانب تتعلق بحیاته أم كانت تتعلق بمؤلفاته وفلسفته وشعره، انطلاقاً من صلته بالعرب وسعیه إلى معالجة مشكلاتهم.‏

أول ملامح الصورة الإقبالیة فی الأدبیات العربیة ما یتعلق بحیاة إقبال ومؤلفاته. فقد لاحظت أن المقالات(1) التی نشرت عنه طوال خمسین سنة من عام 1935 حتى عام 1985 انصرفت كلها تقریباً إلى ترجمة حیاته وسرد مؤلفاته، وخصصت بعض خواتیمها أو جانباً منها لحدیث عام عن فلسفته أو شعره. وكنت أتساءل دوماً: أما تكفینا مقالة واحدة للإلمام بحیاة هذا الرجل؟ غیر أن الإجابة عن هذا السؤال لم تكن هینة. إذ إن مقالة واحدة تكفی فی العادة للإلمام بحیاة الدكتور محمد إقبال إذا كانت دقیقة. وما قرأته لم یكن كذلك على الرغم من سعی الكاتبین إلى الدقة وإیمانی بصدق نیاتهم.

فقد قرأت أنه ولد عام 1876(2)، كما قرأت أنه ولد فی عام 1873(3). فقلت، وأنا أعلم أنه ولد عام 1877، لعل ذلك من قبیل الشائع فی كتب التراجم. فالناس یهتمون بالأعلام بعد نبوغهم، ویفوتهم فی هذه الحال زمن ولادتهم، وقلما فاتهم زمن وفاتهم(4). وربما كان الاختلاف عائداً إلى أن زمن ولادة إقبال لم یكن یعرف تسجیل الموالید بدقة، أو أن هناك تصحیفاً فی المراجع التی عاد إلیها الكتاب العرب. وربما كان هناك سبب آخر، إلا أن الاختلاف فی زمن الولادة یبقى أمراً بسیطاً. وما هو أكثر أهمیة أن حیاة محمد إقبال شهدت تطورات عدة، أبرزها الفترة التی تلت عام 1908. لكن المرء یقرأ فی الأدبیات العربیة شیئاً كثیراً عن إقبال دون أن یرافق ذلك توضیح لهذه التطورات. ومسوغ الإشارة إلى هذا الأمر كامن فی أن العرب معنیون بما آل إلیه تفكیر إقبال فی أمرهم. فقد آلمه خضوعهم للمستعمر الغربی، وتخلفهم، وفرقتهم، ومن ثم راح یدعوهم إلى الثورة. أو قل: راح یدعوهم إلى جوهر فلسفته الثوریة. لكن الأدبیات العربیة سكتت عن هذا الأمر(5) وكأنه لم یكن الشغل الشاغل لمحمد إقبال طوال ثلاثین سنة فی المرحلة الثالثة من حیاته (بین 1908-1938).‏

كذلك الأمر فی مؤلفات محمد إقبال. فقد توزعتها ثلاث لغات، هی: الأوردیة والفارسیة والإنكلیزیة. إلا أن الأدبیات العربیة ترجَّحت فی نسبة هذا الكتاب أو ذاك إلى الأوردیة أو الفارسیة، والشعر خاصة. كما ترجحت فی توثیق طباعة بعض الكتب، إضافة إلى تباین بسیط فی ترجمة عنواناتها إلى اللغة العربیة. فمن قائل أن "رموز بیخودی" مقالة فلسفیة، إلى قائل أنها دیوان شعری. ومن قائل أن "أسرار خودی" صدر عام 1915، إلى قائل أنه صدر عام 1916(6). ومن قائل أن "أسرار خودی" تعنی بالعربیة "أسرار الذات"، إلى قائل أنها تعنی "الأسرار الذاتیة"، وبین الترجمتین فرق فی المعنى. ویكاد التباین فی الترجمة یشمل غالبیة مؤلفات إقبال(7).‏

أخلص من ذلك إلى أن تقدیرنا محمد إقبال یفرض علینا التدقیق فی ترجمة حیاته وسرد مؤلفاته، بغیة مساعدة القارئ العربی على تعرف حیاة هذا الفیلسوف ومؤلفاته، ومنعاً للخلل فی الصورة التی نرسمها له. ومن ثم أعتقد أن المقالات التی كررت الحدیث عن سیرة حیاة إقبال وسردت مؤلفاته، كلها أو بعضها، كانت تشعر دائماً أن ما سبقها لم یف هذه الحیاة حقها ولم یسرد المؤلفات بدقة. لذلك راحت غالبیة هذه المقالات تخصص جانباً منها لهذه الحیاة وتلك المؤلفات. وهذا یقود إلى ما بدأت به من أن مقالة واحدة تكفی للإلمام بحیاة إقبال ومؤلفاته إذا كانت دقیقة. وفی ذلك فلیتنافس المتنافسون العرب.‏

الأمر الثانی اللافت للنظر فی الأدبیات العربیة هو إهمال مزج جانبین هامین فی شخصیة محمد إقبال، هما اهتمامه بالوطن العربی وفلسفته الثوریة. وأذكّر هنا أننی لست مؤهلاً لتحلیل فلسفة إقبال. غیر أن المرء ما یفتأ یلاحظ أن الاختصاصیین نصوا على أن فلسفته تستند إلى ثلاث رواجب هـــی(8): جهاد النفس –الإنسان مسؤول- العشق. ولهذه الرواجب الثلاث صلة وثیقة بما كان العالم الإسلامی عامة، والوطن العربی خاصة، یعانیان منه فی النصف الأول من القرن العشرین. فهما محتلان متخلفان مجزآن تعتمل فیهما الأدواء والمفاسد، فما السبیل إلى خلاصهما من ذلك وعودتهما إلى الحضارة والرقی ورفعة الشأن؟.‏

إن السبیل، بإیجاز، هو محاربة الإنسان ما یعتمل فی دخیلته من ذاتیة مفرطة، وتحطیمه أغلاله التی زیّنها له وهم الحریة، وإیمانه أنه مسؤول، وأن واجبه یدفعه إلى أن یندمج بالشعب ویشاركه كفاحه من أجل إزالة التخلف والأوضاع الطبقیة الفاسدة والظلم والتسلط، كی یتمكن المسلمون عامة، والعرب خاصة، من تحریر وطنهم المغتصب، وجعل الإنسان فیه عزیزاً حراً كریماً. "فإقبال وجیله من المجددین جابهوا بجرأة مشكلة الحضارة الحدیثة، وضعوا الفرد المسلم والعربی وجهاً لوجه أمام مسؤولیته"(9).‏

أجل، كان الشرق متخلفاً والغرب متقدماً. لكن هذا الغرب فی رؤیة إقبال "زاخر بالحركة مجرد من المبادئ الخلقیة الأصلیة، فقیر بالحب والإیمان. سخر الطبیعة لأغراضه، ولكنه أخفق فی محو البؤس الإنسانی"(10). لذلك رغب إقبال فی أن یجمع الشرق بین الحب والعقل. ولكن، هل هذا ممكن دون تهیئة فكریة لمواجهة حدید الغرب ورصاصه ولؤمه ودخانه(11)؟ لابد من العشق إذن. ما العشق؟ إنه الطاقة التی تحطم القیود. فإذا عشقت مقصداً تمنیته فإن غیره لا یرضیك ولا یقنعك(12). علیك أن تعد العدة من أجل تحقیق هذا المقصد. لكن حرب العدو الخارجی لا یقل شأناً عن حرب العدو الكامن فی نفس كل إنسان. بل إن حرب التشتت والهوى والنزعات الفاسدة فی نفس الفرد ینتج عنها توحد النفوس وسیادة النظام، مما یجعل التغلب على العدو الخارجی سهلاً. ویحق للمرء هنا القول إن جوهر فلسفة إقبال الثورة كان قادراً على خدمة الوطن العربی لو التفتت الأدبیات العربیة إلى هذا المزج بین اهتمامات العرب وحالهم وطبیعة الفلسفة الثوریة لإقبال. لو وضحت الأدبیات العربیة أن العرب مطالبون بالتخلی عن الحسد والتشتت والتفرقة، والعودة إلى أساس حضارتهم الأخلاقی، لجعلهم ذلك وحده قلباً واحداً قادراً على مقارعة المستعمر الذی احتل بلادهم وجعل عزیز قومهم ذلیلاً.‏

خاطب إقبال العرب خاصة، والمسلمین عامة قائلاً لهم: "إنكم الآن تجتازون أدق مرحلة، وتمرون بأصعب دور فی حیاتكم السیاسیة. فعلیكم أن تحتفظوا بالارتباط الشامل والاتحاد القویم فی العزائم والجهود، وفی الوسائل والغایات. إننی لا أستطیع أن أخفی عنكم شعوری بأنكم فی سبیل تدارك هذه الحال الخطرة لابد من أن تناضلوا فی كفاح الحریة. ولا سبیل إلى محاولة أخیرة لكسب سیاسی إلا حیث تكون العزائم عزماً واحداً، والقلوب المتباعدة قلباً واحداً. وأن تتركز مشاعركم حول مطلب لا تختلفون علیه. إنكم تستطیعون ذلك، وبالقوة إن شاء الله، یوم تتحررون من القیود النفسیة، وحین تضعون أعمالكم الفردیة والاجتماعیة فی میزان ما تنشدونه من الأهداف العالیة والمثل الرفیعة"(13). هذا الخطاب الواضح المحدد الذی یشیر إلى جهاد النفس ومسؤولیة الإنسان وعشقه حریة شعبه وأمته لم یترجم إلى اللغة العربیة فی أثناء خضوع الوطن العربی للاستعمار الغربی، وإنما ترجم فی أخریات عام 1985. وكأن الأدبیات العربیة فی أیام الاستعمار غافلة عن هذا التفكیر الإقبالی فی حال الأمة العربیة، وارتباطه الوثیق بما عانى منه العرب أفراداً وجماعات على المستویات النفسیة والاجتماعیة والسیاسیة. ویخیّل إلیّ أن إقبالاً لمس عزوف العرب عما خاطبهم به، فقال عام 1925، أو نحو ذلك: "ولكن العرب لا یعرفون شیئاً عن نغماتی الشجیة". یرید من ذلك صدى المعرفة الحقیقیة لشعره عند العرب كما نص صدیقة الوفی أبو النصر أحمد الحسینی الهندی(14).‏

أما شعر محمد إقبال فكان المعبر عن فلسفته. غیر أن الأدبیات العربیة لم تشر إلى شیء یتعلق بالمراحل التی قطعها شعره، وهی مراحل تتفاوت قوة وضعفاً. وقارئ هذه الأبیات یخیل إلیه أن شعر الدكتور إقبال واحد ما دام الكتاب یستشهدون به دون تفریق وتوضیح. وقد نص السید أبو النصر أحمد الحسینی الهندی قبل ثلاث سنوات من وفاة إقبال على أن الشعر الذی كتبه صدیقه إقبال مرّ بثلاث مراحل:‏

أ-مرحلة الطلبة وتنتهی هذه المرحلة عام 1905. یمتاز شعره فیها بسعة الخیال وابتكار المعانی، لكنه مجرد من دقة الفكر والتعمق. یجد القارئ فیه روح الحب ونشدان الجمال والترحیب بالعشق، لكنه فی النهایة تعبیر عن مرحلة الأمل بشیء غیر معلوم. فإقبال فی هذه المرحلة یتوق إلى المجهول الذی لم یتضح فی فكره بعد.‏

ب-المرحلة الثانیة هی مرحلة الزمن الذی عاش فیه فی أوربة بین 1905-1908 وهذه المرحلة أقل إنتاجاً، وأكثر إبرازاً لأثر مشاهداته فی أوربة. غیر أن روح الحب وطلب الجمال والترحیب بالعشق تبقى متجلیة فی شعر هذه المرحلة. وقد أضیف إلیها بدء علو أفكاره واتساعها، حتى أن اللغة الأردیة التی كان ینظم بها شعره- وهی لغة حدیثة آنذاك- ضاقت عنه فمال إلى النظم بالفارسیة.‏

ج-المرحلة الثالثة هی المرحلة التی تلت عودته من أوربة، أی بعد عام 1908 ففی هذه المرحلة حلّت السكینة والطمأنینة فی روح الشاعر محل التوقان والاضطراب، كما خف سلطان المحبة والجمال وحل محله توق إلى الحكمة والكمال، وقد جادت قریحة الشاعر فی هذه المرحلة فأصدر سبعة دواوین شعریة. كما تمكن من إبراز معالم فلسفته فی شعره وإیصالها إلى العالم أجمع. وكانت الأدبیات العربیة مطالبة بإبراز هذه المرحلة وتوضیحها لأنها أكثر التصاقاً بهموم العرب وتوجهاً إلیهم. ذلك أن شعر إقبال فی هذه المرحلة عبّر عن روح المسلم الشرقی الثائر ذی الحماسة الواضحة، فی حین تساجلت فی عشره روح المحبة والجمال والعشق فی المرحلتین الأولى والثانیة. إنه القائل فی هذه المرحلة یخاطب العرب:‏ كل شعب قام یبنی نهضة وأرى بنیانكم منقسما‏ فی قدیم الدهر كنتم أمة لهف نفسی كیف صرتم أمما‏

وقد نصت سمر العطار على أن إقبالاً "نصیر الحریة فی كل مكان، ینشد البعث لأمم الأرض قاطبة. وشعره سجل حافل بالأحداث التاریخیة والسیاسیة. فلقد واجه موسولینی برأیه فی قوة وحزم، وبسط له مغزى الحكم الدیكتاتوری. وحذر العالم من مكائد الیهود وأحابیلهم، ودحض مزاعمهم حینما كانوا یدّعون ملكیة فلسطین"(15) إلا أن الأدبیات العربیة عزفت عن تقدیم شعره إلى القارئ العربی على هذا النحو من التطور، وآثرت الحدیث العام عن هذا الشعر.‏

وقبل ذلك كله آثرت غالبیة الأدبیات العربیة تقدیم شعر إقبال منثوراً. وما كان نثر الشعر محل اهتمام القارئ العربی. إذ جرت العادة لدى غالبیة المترجمین على تقدیم الشعر الأجنبی منثوراً بعد خلعه من ثوبه الفنی(16). والشعر –كما هو معروف- عصی على الترجمة، یؤثر فی القارئ بلغته، فإذا نقل إلى لغة أخرى فقد معظم أثره. وقد لاحظ المرء فی أثناء قراءة شعر إقبال أن هناك من سرد معنى الأبیات الشعریة، وأن هناك آخرین غامروا بنظمها حسب وزن من الأوزان العربیة. ولعل أقدم المغامرین هو الدكتور عبد الوهاب عزام الذی ترجم كثیراً من شعر إقبال ونشره فی مجلة الرسالة(17)، كما نشر ثلاثة من دواوینه(18). حتى أن صادق آئینه وند عدّ إقبالاً واحداً "من كبار شعراء الفارسیة المعدودین". وأضاف أنه "نجم من نجوم سماء العرفان اللامعة الذین نادوا بالمعرفة والحریة والنضال والجهاد، وحددوا أهداف الأمة الإسلامیة ودفعوا الشعوب للحركة، مثل مولوی وحافظ وعراقی والحلاج وسعدنی، ممن قوّموا النفس الإنسانیة عن طریق وتحدید ذاتها وإمكاناتها وأهدافها الوجودیة وحدائها إلى مقامها المحمود فی الدنیا والآخـــرة"(19). أما أوزان الشعر التی نظم فیها إقبال مثل "مثنوی" و "قصیدة" و "رباعی" و "قطعة" و "مسدس" فلم تتح للقارئ العربی فرصة الاطلاع علیها، مما حرمه من أداة التعبیر التی استخدمها إقبال وبزّ فیها أقرانه.‏

ولا تنتهی القضیة هنا، ذلك أن إغفال التطور الشعری المواكب للتطور الفكری عند إقبال جرّ معه إغفال عرض الشعر المعبر عن الفلسفة الثوریة للرجل، والاهتمام بالشعر المعبر عن العشق وروح المحبة وطلب الجمال(20). أی أن المترجمین العرب اهتموا بترجمة شعر المرحلتین الأولى والثانیة بأكثر من اهتمامهم بشعر المرحلة الثالثة المواكبة لرسالة إقبال وضوحاً وعمقاً. فقصیدة "فلسطین" التی دعا فیها العرب إلى "الوقوف صفاً واحداً من أجل إحباط مؤامرات الصهیونیة العالمیة، ودحض الافتراءات الیهودیة وتفنید عزائم الصهیونیین وأفكارهم الإجرامیة"(21) صدرت فی دیوانه "بال جبریل" الصادر عام 1935. وقد ترجم الدكتور عزام الدیوان إلى اللغة العربیة بعد عامین(1937)، ولكن أحداً من العرب لم ینبه علیها فلم یكتب لها الذیوع والانتشار. كما عرض عبد المعین الملوحی ما یعتقد المرء أنه آخر التطورات الفكریة عند إقبال.

أقصد قصیدته "لینین أمام الله"(22). وهذه القصیدة –كما یقول الملوحی- "لم تكن تبدلاً فی اتجاه تفكیره كما قالت مجلة الثورة الأفریقیة، ولكنها على الأكثر كانت تعمیقاً لهذا التفكیر. بل إن هذه القصیدة لم تكن القطعة الأولى والأخیرة التی یفضح فیها مساوئ الرأسمالیة، ویدل على مواضع الشر فی الحضارة الغربیة، ولكنها كانت أكثر دلالة على إدراكه لهذه المساوئ، وأكثر إلحاحاً على ضرورة هدم الوضع الاجتماعی المتعفن لبناء مجتمع إنسانی شریف وحدیث"(23). لقد فرح أستاذنا الملوحی بهذه القصیدة حین قرأها فی مجلة الثورة الأفریقیة وترجمها ونشرها غیر كاملة، وأعلن آسفاً أنها لم تصله كاملة(24)، على الرغم من أنها إحدى قصائد دیوان "بال جبریل" أیضاً، وقد ترجمها الدكتور عبد الوهاب عزام كاملة إلى اللغة العربیة عام 1937 حین ترجم الدیوان المذكور. وهذا هو المقطع الأخیر من القصیدة:‏

    هلموا فأیقظوا فی العالم الفقراء‏
    هزوا أركان قصور الأغنیاء‏
    أدفئوا دماء العبید بنار الثقة والإیمان‏
    هبوا للعصفور قوة یصارع بها الشاهین‏
    یوم سیادة الشعوب یقترب‏
    فی خطوات حثیثة‏
    لتتهدم صروح الماضی أینما كانت‏
    لتحترق كل سنبلة فی الحقل‏
    لا تكونوا طعاماً للفلاح‏
    الحضارة الحدیثة‏
    مصنع ینفخون فیه الزجاج‏
    املؤوا صدر شاعر الشرق بغضب نبیل‏
    یسحق به هذا المصنع سحقاً.‏

هذه القصیدة تعزز الرأی الصائب الذی ذكره عبد الكریم الیافی. فإقبال "لم یتخل عن مضامین التراث التی وعاها، ولا رفض قیم الحضارة الحدیثة التی اطلع علیها، وإنما كان وفیاً لمطالب الحیاة المستجدة، أمیناً على خزائن التراث الرفیعة. وإذا لهج بعض الفلسفات الفنیة الحدیثة بفكرة الالتزام فإنَّا لنجد فنه من أوله إلى آخره ملتزماً بحب الإنسان والسعی لإسعاده أیان كان. ینوه برفعته، ویشید بسموه، ویوجهه إلى أنبل الغایات وأعلى المقاصد. وهو فی أسالیب تعبیره عن ذلك لا یقطع الصلة بین تشوف الحاضر وصور الماضی"(25) تلك هی الأصالة عند إقبال. إنها النسغ الذی جعله یواكب الحضارة الحدیثة، فلا ینعزل عن الأفكار الثوریة التی سادت العالم فی العشرینیات والثلاثینیات، ولا یركن إلى المجد الذی حققه شعره، ولا إلى المكانة الفكریة والاجتماعیة التی احتلها بدأبه وإخلاصه وفلسفته.‏

یخلص المرء من الحدیث السابق إلى أن الأدبیات العربیة عُنیت بحیاة إقبال وشعره وفلسفته، إلا أنها قدمت فی أحایین كثیرة ملامح عامة عن هذه الأمور الثلاثة، وعنیت فی أحایین قلیلة بجانب من هذه الجوانب. ولم تصل فی الحالات كلها إلى تقدیم صورة شاملة لحیاته وشعره وفلسفته. ویجب أن یستثنی المرء من هذا الحكم شریحة من المثقفین العرب، درست حیاة إقبال وشعره وفلسفته بشیء غیر قلیل من الدقة، وألّفت عدداً من الكتب حوله، وترجمت بعض دواوینه. أذكر من هذه الشریحة الدكتور عبد الوهاب عزام رحمه الله. فقد ألف كتاباً عنوانه "محمد إقبال سیرته وفلسفته وشعره"، وترجم ثلاثة دواوین، ونشر عدداً من المقالات فی مجلة الرسالة. وأذكر أیضاً حمید مجید هدو والصاوی علی شعلان ومحمد حسن الأعظمی ونجیب الكیلانی وعلی حسون وعباس محمود الذی ترجم كتاب إقبال "تجدید التفكیر الدینی فی الإسلام".‏

غیر أن جهود هذه الشریحة تبقى فردیة فی النهایة، وتبقى الفئة القارئة العربیة بعیدة نسبیاً عن هذه الجهود التی توزعتها السنون الخمسون الماضیة، دون أن یرفدها تخطیط لترجمة أعماله الكاملة النثریة والشعریة، وتعریف الأجیال العربیة الجدیدة بصاحبها. ولا عجب، بعد ذلك، أن تتكرر فی مقالات الكتّاب العرب وكتبهم أغلاط فی ترجمة حیاة إقبال. وبعدٌ عن توثیق المراجع العربیة التی تحدثت عنه، وأحكام عامة حول شعره، وعزوف عن تحلیل طبیعة ارتباطه بالعرب وطبیعة ارتباط العرب به. ولا نقلل من أهمیة الجهود العربیة حین نقول إن الغرب قدّر إقبالاً أكثر من تقدیر العرب له. فقد ترجم حسین دانش شعره إلى اللغة التركیة، وكتب مقالات كثیرة عن دیوانه بیام مشرق(26). كما تُرجم إلى الروسیة دیوان "أسرار خودی". وترجم دایشو روسو إلى الألمانیة مقدمة بیام مشرق، وكتب فیشر فی مجلة إسلامیكا مقالات كثیرة عن هذا الدیوان الذی ترجمه بعد ذلك هانسی مائنیكه. وأنشئت فی ألمانیة جمعیة لنشر مبادئ إقبال والتعریف بشعره. كذلك الأمر فی إیطالیا وإنكلترة. فقد نشر الدكتور اسكاریا الإیطالی كثیراً من المقالات عن إقبال، وترجم نكلسون دیوان "أسرار خودی" وجزءاً من بیام مشرق إلى الإنكلیزیة، وكتب المستشرق براون عن أسرار خودی مقالات فی مجلة الجمعیة الآسیویة. كما ألف العالم الأمریكی میكنزی كتاب "یقظة الهند" كان لإقبال فیه حیز كبیر.‏

وإذا كان اهتمام الغرب بهذا الفیلسوف الشاعر ینم عن مكانته، فإن العرب مطالبون بتقدیره أكثر من الغربیین لمكانته ولاهتمامه الخاص بهم. بل لأنه رأى نفسه واحداً منهم لجامع العقیدة بینهما. إن صورة الدكتور محمد إقبال فی الأدبیات العربیة ترضی الذین یملكون معرفة عامة بمكانة هذا الرائد فی الشعر والفلسفة والثورة. لكن هذه الصورة لا ترضی أولئك الذین غاصوا فی بحر علومه ورأوا لآلئه. ولعلنا نرضی هؤلاء الاختصاصیین بترجمة الأعمال الكاملة لإقبال، ونضع بین یدی الباحثین ثبتاً بما كتب عنه فی اللغة العربیة، تمهیداً لدراسته وتقدیم مواهبه وعبقریته وعظمته إلى القارئ العربی بموضوعیة.‏

الهوامش: ‏ (1)من أجل الابتعاد عن التعمیم أقول أن المراد هنا هو المقالات التی عثرت علیها فی المجلات التالیة: الرسالة (القاهرة) –الثقافة (دمشق)- التراث العربی (دمشق). وفی الكتب التی ضمت محاضرات الاحتفال بذكراه، كذكرى محمد إقبال (دمشق 1964)، ونداء إقبال (دمشق 1985).‏

(2)انظر ص1415 من: الهندی، السید أبو النصر أحمد الحسینی –الدكتور محمد إقبال –مجلة الرسالة- س3- العدد 113-2 أیلول 1935.‏

(3)انظر ص11 من: هدو، حمید مجید –إقبال الشاعر والفیلسوف والإنسان- مطبعة الفرى- النجف 1963. وص 9 من: مقدمة ذكرى محمد إقبال (مقالات الاحتفاء بإقباء فی دمشق 1964)، وفی هذه الصفحة أنه ولد فی 22 شباط، وورد فی أدبیات أخرى أنه ولد فی التاسع من تشرین الثانی. وانظر أیضاً ص45 من: العطار، سمر –إقبال الشاعر (محاضرات الاحتفال بذكرى محمد إقبال)- دار الفكر 1964 ‏ (4)اتفق الذین ترجموا حیاة الدكتور محمد إقبال على أنه توفی عام 1938.‏

(5)یستثنى من هذا الحكم الدكتوران یوسف عز الدین وعبد الكریم الیافی. فقد أشاروا إلى حال الأمة العربیة فی أثناء حدیثهما عن إقبال، من غیر أن یلوما الأدبیات العربیة على إهمالها ربط دعوة إقبال بما كانت علیه الأمة العربیة من تخلف وتجزئة وخضوع للمستعمر الغربی انظر ص10 من: الیافی، د.عبد الكریم –محمد إقبال فیلسوف الذات وشاعر العشق- مجلة التراث العربی- دمشق- العدد 23- نیسان 1986. وص6 من المقدمة التی كتبها الدكتور یوسف عز الدین لكتاب: إقبال الشاعر والفیلسوف والإنسان لحمید مجید هدو- مطبعة الفرى- النجف 1963. والملاحظ أن مقدمة المحاضرات التی احتفلت بذكرى إقبال فی دمشق عام 1964 أشارت إلى هذا الأمر أیضاً. والملاحظ أن مقدمة المحاضرات التی احتفلت بذكرى إقبال فی دمشق عام 1964 أشارت إلى هذا الأمر أیضاً. انظر ص7 من: ذكرى محمد إقبال- دار الفكر- دمشق 1964.‏

(6)كذلك الأمر فی دیوان "مسافر". فقد ذكرت الأدبیات العربیة تاریخین هما 1933 و 1934. ودیوان "رموز بیخودی" الذی ذكرت له تاریخین هما 1918 و1923.‏

(7)لاحظ أن "بیام مشرق" ترجم رسالة المشرق ورسالة الشرق. وأن "رموز بیخودی" ترجم أسرار نفی الذات والرموز الذاتیة. وأن "جاوید نامة" ترجم رسالة الخلود والرسالة الخالدة. ‏ (8)اعتمدت، هنا، على رسالة الدكتور عبد الكریم الیافی –محمد إقبال فیلسوف الذات وشاعر العشق –المرجع السابق نفسه. ‏ (9)انظر ص44 من: طعمة، د.جورج –فلسفة إقبال (محاضرات الاحتفال بذكرى إقبال فی دمشق)- دار الفكر- دمشق 1964.‏

(10)انظر ص11 من: الیافی، د.عبد الكریم- محمد إقبال فیلسوف الذات وشاعر العشق. ‏ (11)المرجع السابق نفسه- ص10.‏

(12)المرجع السابق نفسه- ص14. وانظر أیضاً ص1623 من: الهندی، السید أبو النصر أحمد الحسینی- الدكتور محمد إقبال- مجلة الرسالة-

س3- العدد 18-7 تشرین الأول 1935. انظر خاصة قوله: "أن الشیء الذی یقوی الأنانیة هو العشق فی مفهومه المطلق، ومعناه جذبك الشیء أو طلبك إیاه لتجعله جزءاً من نفسك. وأسمى صورة له هو ما یمكن صاحبه من خلق القیم والغایات، ویدفعه إلى السعی فی تحقیقها وبلوغها". ‏ (13)من خطبة إقبال فی الحفل السنوی للرابطة الإسلامیة مدینة "الله آباد" عام 1930. وقد اخترنا عبارات من هذه الخطبة بتصرف. (انظر نص الخطبة فی ص37 وما بعد من: الكتاب الوثائقی الذی أعده محمد برویز عبد الرحیم بمناسبة ذكرى میلاد إقبال، وأصدرته السفارة الباكستانیة فی دمشق 1985.‏

(14)انظر ص1415 من: الهندی، السید أبو النصر أحمد الحسینی –الدكتور محمد إقبال- مجلة الرسالة- س3- العدد 113-2 أیلول 1935 ‏ (15)انظر ص57 من: العطار، سمر-إقبال الشاعر (محاضرات الاحتفال بذكرى إقبال فی دمشق) –دار الفكر- دمشق 1964.‏

(16)أشار حمید مجید هدو إلى هذا الأمر الهام. انظر ص183 من: إقبال الشاعر والفیلسوف والإنسان. ‏ (17)ترجم الدكتور عزام مقطوعات من دیوان رسالة الشرق فی مجلة الرسالة –س3- العدد 80-14 كانون الثانی 1935. ومقطوعات من دیوان رموز بیخودی فی المجلة نفسها –العدد 85-18 شباط 1935. ومقطوعات من رباعیاته شقائق الطور فی المجلة نفسها –العددان 87 و 88- 4 آذار و 11 آذار 1935.‏

(18)الدواوین التی ترجمها الدكتور عزام هی: بیام مشرق (رسالة الشرق) 1951 –ضرب كلیم (شریعة موسى) 1937- أسرار خودی (أسرار الذات)؟ ‏ (19)انظر ص22 من: وند، صادق آئینه- الیقظة الإسلامیة فی فارسیات إقبال- مجلة التراث العربی- دمشق –س6- العدد 23- نیسان 1986.‏

(20)انظر نموذجاً لذلك فی مقالة "عود إلى محمد إقبال" للدكتور عبد الوهاب عزام –مجلة الرسالة- س2- العدد 53-9 تموز 1934. ومقالة "محمد إقبال" للدكتور عزام نفسه –مجلة الرسالة –س2- العدد 56-30 تموز 1934. والمقالتان تضمان ترجمة بعض شعر إقبال المنشور فی دیوانیه "أسرار خودی" و "رموز بیخودی". وكان الدكتور عزام –رحمه الله- ترجم فی مجلة الرسالة نفسها عام 1933 نبذاً من دیوان بیام مشرق. ‏ (21)انظر ص190 من: هدو، حمید مجید- إقبال الشاعر والفیلسوف والإنسان. ‏ (22)عرض الأستاذ عبد المعین الملوحی قصیدة إقبال إلى لینین فی كلمته التی ألقاها فی مناسبة مرور مائة عام على ولادة الشاعر، وألقاها فی المؤتمر العالمی الذی عقد فی لاهور عام 1977، بین 2-8 كانون الأول. وقد نشر نص الكلمة مع القصیدة فی مجلة الثقافة –دمشق-تموز 1980. ثم ذكر نصها فی محاضراته: "محمد إقبال شاعر الإسلام وفیلسوف الثورة". انظر ص43 وما بعدها من: نداء إقبال- دار الفكر- دمشق 1986. ‏ (23)انظر ص16 من: الملوحی، عبد المعین- محمد إقبال شاعر الإسلام وفیلسوف الثورة- المرجع السابق نفسه. ‏ (24)انظر ص56 من: الملوحی، عبد المعین –محاضرات نداء إقبال (الاحتفال بذكرى إقبال فی دمشق) دار الفكر –دمشق 1986.‏

(25)انظر ص18 من: الیافی، د.عبد الكریم –محمد إقبال فیلسوف الذات وشاعر العشق- المرجع السابق نفسه. ‏ (26)استمدت الأفكار الخاصة بصدى إقبال فی العالم من مقالة السید أبو النصر أحمد الحسینی الهندی، فی مجلة الرسالة –العدد 117-30 أیلول 1935.‏ ملحق(1)‏
محطات فی حیاة الدكتور محمد إقبال


- ولد فی مدینة سیالكوت (الباكستان) فی التاسع من تشرین الثانی عام 1877، وتوفی فی الحادی عشر من نیسان عام 1938، الموافق 20 صفر 1357هـ.‏
- درس فی كلیة سیالكوت، وتتلمذ فیها على مولانا میرحسن أحد كبار علماء الدین واللغتین الفارسیة والعربیة.‏
- التحق بكلیة الحكومة فی لاهور عام 1895، ونال منها الإجازة فی الفلسفة B.A ثم شهادة الماجستیر M.A. عام 1897 فی الفلسفة الإسلامیة. وتتلمذ فی هذه الكلیة على المستشرق توماس أرنولد.‏
- درس فی جامعة كامبردج فی إنكلترة، ونال منها إجازة فی الفلسفة عن موضوع: ازدهار علم ما وراء الطبیعة فی بلاد فارس.‏
- درس فی جامعة میونیخ فی ألمانیة، ونال منها شهادة الدكتوراه فی الفلسفة عن الموضوع السابق نفسه.‏
- درس فی جامعة لندن فی إنكلترة، ونال منها شهادة المحاماة.‏
- أجاد الإنكلیزیة والفرنسیة والألمانیة والفارسیة والأوردیة، وعرف العربیة والسنسكریتیة.‏
- نظم الشعر بالأوردیة والفارسیة.‏
- عمل أستاذاً للفلسفة والسیاسة المدنیة فی الكلیة الشرقیة فی لاهور، وأستاذاً للفلسفة واللغة الإنكلیزیة فی كلیة الحكومة فی لاهور. ورفض بعد أن رجع من أوربة عام 1908 مناصب الحكومة، واختار الحیاة الحرة، ومارس مهنة الإرشاد القانونی.‏
ملحق(2)


مؤلفات الدكتور محمد إقبال

‏ الشعر: ‏ أ- الدواوین المنظومة باللغة الأوردیة: ‏
- بانك درا (جلجلة الجرس) 1924.‏
- مسافر 1934.‏
- بال جبریل (جناح جبریل) 1935.‏
- ضرب كلیم (شریعة موسى) 1937.‏

الدواوین المنظومة باللغة الفارسیة: ‏
- أسرار خودی (أسرار الذات) 1915 (على القافیة المزدوجة- المثنوی)‏
- رموز بیخودی (أسرار نفی الذات) 1918. (على القافیة المزدوجة- المثنوی)‏
- بیام مشرق (رسالة الشرق) 1923.‏
- زبور عجم (أناشید فارسیة) 1929‏
- جاوید نامه (رسالة الخلود) 1932.‏
- بس جه باید كردای أقوام مشرق. (ماذا یجب أن نعمل یا أمم الشرق) 1936.‏
- سرود رفته (أنشودة الماضی) 1959.‏

الدواوین المنظومة باللغة الأوردیة والفارسیة:

- أرمغان حجاز (تحفة الحجاز) 1938 (طبع بعد وفاته) ‏ ترتیب كتابة الدواوین: ‏ بانك درا- أسرار خودی- رموز بیخودی- بیام مشرق- زبور عجم- جاوید نامه- مسافر- بال جبریل ضرب كلیم- بس جه باید كردای أقوام مشرق- أرمغان حجاز- سرود رفته- "طُبع الدیوان بعد وفاته وضم الشعر الذی لم تضمه الدواوین السابقة).‏
النثر:


- علم الاقتصاد (باللغة الأوردیة) 1903.‏
- ازدهار علم ما وراء الطبیعة فی فارس (رسالة الدكتوراه) 1908.‏
- تجدید التفكیر الدینی فی الإسلام 1930.‏
- رسائل إقبال إلى محمد علی جناح 1944 (طبع بعد وفاته)‏
- خطب إقبال وبیاناته 1944 (طبع بعد وفاته)‏
- رسائل إقبال 1944 (طبع بعد وفاته)‏
ملحق (3)



الكتب التی ألفت عن إقبال باللغة العربیة ‏

   1. محمد إقبال، سیرته وفلسفته وشعره عبد الوهاب عزام آخر طبعات الكتاب: دار القلم 1960.‏
   2. فلسفة إقبال والثقافة الإسلامیة فی الهند وباكستان الصاوی علی شعلان –محمد حسن الأعظمی دار إحیاء الكتب العربیة 1950
   3. إقبال الشاعر الثائر نجیب الكیلانی الشركة العربیة للطباعة والنشر 1959.‏
   4. روائع إقبال أبو الحسن علی الحسنی الندوی دار الفكر –دمشق 1960.‏
   5. إقبال الشاعر والفیلسوف والإنسان حمید مجید هدو مطبعة الفرى- النجف 1963.‏
   6. فلسفة إقبال علی حسون دار السؤال –دمشق 1985.‏

ملحق (4)



الكتب والدواوین التی ترجمت إلى اللغة العربیة ‏

   1. أسرار الذاتیة ترجمة عبد الوهاب عزام دار المعارف –مصر‏
   2. رسالة الشرق ترجمة عبد الوهاب عزام 1951 مجلس إقبال- الباكستان‏
   3. ضرب كلیم ترجمة عبد الوهاب عزام 1937 جماعة الأزهر –مصر‏
   4. درر من شعر محمد إقبال أمیرة نور الدین‏
   5. تجدید التفكیر الدینی فی الإسلام ترجمة عباس محمود‏

ملحق (5)



كتب عن إقبال تضم محاضرات الاحتفال بذكراه ‏

   1. محمد إقبال- مجموعة مقالات لكبار الكتاب والأدباء العرب- القاهرة 1956.‏
   2. شاعر الإسلام محمد إقبال- مجموعة مقالات لأدباء سعودیین- السعودیة 1957.‏
   3. ذكرى محمد إقبال- مجموعة المقالات فی الاحتفال بإقبال فی دمشق 1964 (دار الفكر- دمشق 1964).‏
   4. نداء إقبال- مجموعة المحاضرات والقصائد فی مؤتمر إقبال فی دمشق 1985. (دار الفكر- دمشق 1986).‏
‏‏‏‏‏‏

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 22:5|
سعدی الشیرازی شاعر الانسانیة
 صادق خورشا
 

 
اشارة:

وهو من رعیل الخریجین الأوائل فی كلیة الآداب بجامعة فؤاد الأول , حینما كانت الفارسیة تدرس فی ) معهد اللغات الشرقیة ) التابع لكلیة الآداب . وقد دَرَّس فی البدایة بكلیته التی تخرج منها , وما لبث أن أنتقل للعمل فی ( كلیة دار العلوم ) بالقاهرة , وفی جامعة الكویت وكانت هذه أول مرة تُدرس فیها اللغة الفارسیة وآدابها هناك , واستمر فی العمل بجامعة الكویت حتى آخر لحظة فی حیاته .
وقد خلف لنا الدكتور هنداوی العدید من الأبحاث والمؤلفات القیمة الممتعة فی الأدب الفارسی وكانت باكورة أعماله هی كتابه سعدی الشیرازی ( شاعر الإنسانیة ) عصره ودیوانه البوستان . وقد تناول هذا الكتاب تاریخاً حافلاً بالحوادث فی القرن السابع الهجری . وهو العصر الذی عاش فیه الشاعر ( سعدی ) , فتناول أحداثه السیاسیة العامة والخاصة –فی الأقلیم والدولة – وكذلك فصل الحدیث عن الحركة العلمیة والمواكبة لهذا العصر , وأوضح مدى انعكاس كل هذا على تكییف حیاة الشاعر ,وأثره فی إنتاجه ثم انتقل بعد ذلك للحدیث عن شخصیة (سعدی ) ومذهبها فی الحیاة , وحقق وقارن الآراء والخلافات التی تدور حولها .
ثم عدد إنتاجه محاولاً استخلاص بعض أفكار الشاعر) سعدی ( وآراؤه ومذهبه . وأخیراًَ فی الباب الثالث أفرد الحدیث عن دیوان (البوستان ) .
وقد أختار الدكتور ( الهنداوی ) البوستان من إنتاج الشاعرجمیعه لأنه أهم كتاب یعرض للدراسة الأخلاقیة , ویوضح كثیراً من مذاهب الشاعر , وآرائه .
والحقیقة ، أن قراءة هذا الكتاب تعد متعة , فعلى سبیل المثال نجد فی الباب الثانی دراسة واقعیة وتحقیق علمی حول شخصیة , سعدی الشیرازی ، فقد تتبع هنداوی أطراف حیاته من البدایة حتى النهایة , وفصل فی كثیر من الخلافات حول مسائل هامة تعد موضوع جدل ومناقشة مثل النسب والتاریخ المیلاد وغیر ذالك .
أما فصل الحضارة ، فقد أكد فیه الدكتور ( الهنداوی ) على حقیقة - وربما لأول مرة تتناول لهذا المنظور- وهی أن المغول كانوا أهل حضارة ولم یعادوها بالمعنى الذی عرف عنهم ، ووصف بعض المظاهر الحضاریة المدللة على نظریته .

أما دراسته التحلیلیة لدیوانه كانت عوضا عن الترجمة الصامتة وهو یرى من منطلق إیمانه بالدكتور طه حسین ونظریته فی هذا الموضوع ، أن الترجمة وحدها ترضى حاسة الأدیب قبل أن تسد حاجة الباحث العلمی , فالترجمة , هنا هی عمل تكمیلی لا أساسی
وقد شملت هذه الدراسة التحلیلیة تحلیل المقامات وما تحتویها من أفكار ‘ ثم تحلیل القصة التی تدور حول شخوص تاریخیة أو على السنة الحیوان ... ولأنه قرر تعیین حدود القصة قبل الولوج إلى أفكارها ومواضیعها فقد وضع الجداول , وأتبع تحلیل القصة بالإشارة الی الأفكار العامة التی نادى بها الشاعر فی مختلف قصص الباب كله
وهو یؤكد أنه اختار أقوى القصص – بلا منازع – وعرضها للتحلیل فی معرض إثباته للشاعر وآرائه . ونثبت هنا إحدى القطع التی تتعرض لوصفه تعالى , فیجتمع فیها وصفه بالقدم , والقدرة , والخلق ثم فی بیان عجز الإنسان عن إدراك كنهه .

ان العالم متفق على إلهیته
لكنه عاجز عن كنه ماهیته
لم یعرف البشر شیئاً وراء جلاله
لم یدرك البصر منتهى جماله
ولن یبلغ طائر الوهم أوج ذاته
ولن تترك ید الفهم , أطراف صفاته .

ومما یناسب باب العشق الصوفی :
تأمل فی مرآة قلبك
تحصل تدریجیاً – على صفاء نفسك
لعل رائحة من ا لعشق تسكرك
فتصیر طالباً لعهد (الست).

ومن القطع الجمیلة ، القطعة الخامسة من نسخة (سودی ) وعنوانها (فی معنى أهل المحبة ) وتتردد فی هذه القطعة عقیدة الفناء فی الله وقد وردت فی ترجمة هنداوی فی ص 402 :

لا تنتظر أن یكون لی صبر بدونه !
ولا یمكن أن یكون لی قربى بغیره !
لیس عندی محل الصفاء , ولا قدرة على الصبر
ولا مكان للبقاء , ولا قدم للفرار .
لا تقل لی ولّ وجهك عن هذا الباب !
ولو وضعوا رأسی - كالوتد- فی الأطناب
ومنذ ذلك الوقت , الذی طلبنی فیه حبیبی
لم تبق لی معرفة مع أحد غیره
ولأقسمن بحقه ! حین ظهر لی ما فیه من جمال
فكل ماسوا ه , بدا لی ! كأنه خیال .
وان كنت حبیباً , فلا تتحدث عن نفسك
فأنه شرك أن تجمع بین الحبیب , وبین نفسك .

والحقیقة ان صلة الدكتور ( هنداوی ) بشاعر الإنسانیة لم تنتهی عند هذا الحد , لانه كان قد ترجم فی بدایة رحلته مع (سعدی) أشعار كثیرة , وقد تحدث معه الدكتور طه حسین بهذا الصدد واتفقا على أن تؤجل عملیة نشر هذه الترجمة فی مرحلة أخرى وعلیه فقد انتقى الأشعار الخاصة ببحثه وضمنها عمله الأول ، وقد قام بدراسة وافیة مستفیضة عن ( البوستان) وعن موضوعا ته ونسخه والشروح الفارسیة والتركیة التی تمت علیه , وكذلك أبوابه وحكایاته ثم ترجم كتاب البوستان كاملاً فی مجلدین واستطاع أن ینقل لنا الأشعار الخالدة محافظاً على المعانی و الفكرة وبأسلوب سلس دقیق .
وبعد هذه الرحلة مع ( شاعر الإنسانیة) وجد ( هنداوی) ان هناك من الروائع الخالدة التی كتبها الشاعر , لابد وأن یطلع علیها القارئ العربی فقام بترجمة ( الكلستان) وذلك تحت عنوان ( الروضة ) وقد صدر ضمن سلسلة روائع الأدب الفارسی –مكتبة الأنجلو المصریة – القاهرة عام 1955 م . وقد قام بتحقیق النص الفارسی وقدمه للقارئ العربی واضعاً تحت یدیه الأصل الفارسی المحقق المصحح مع الترجمة العربیة ، وجدیر بالذكر أن وزارة المعارف الإیرانیة منحت الدكتور ( هنداوی) وسام المعارف عام 1953 م وذلك تقدیراً له على جهوده وأبحاثه القیمة فی مجال الأدب والثقافة الإیرانیة .

وقد صدر الدكتور ( هنداوی) نسخة البوستان – الطبعة الأولى – صورة هذا الوسام , وكذلك صورة لتهنئة الجامعة له بحصوله علیه .
ومن أعماله القیمة كذلك ( المعجم فی اللغة الفارسیة ) وهو یحتوی قرابة 20ألف كلمة واستعمال وتركیب مع مقابلة دقیقة على أوثق المعاجم الحدیثة وسوف نترك ( الدكتور عبد الوهاب عزام ) , یحدثنا عن هذا المعجم :
( عنى التلمیذ الصدیق الدكتور محمد الهنداوی , بوضع معجم مختصر , اعتمد فیه على أوثق المعاجم الفارسیة والإنكلیزیة . وهو معجم صغیر یمد الطالب بحاجته ویسعفه بطلبه ... وقد عكف على العمل فیه سنین ولقی فیه من المشقة ما یلقى من یعانی مثل هذا العمل، وهو عمل لم یسبق إلیه فی اللغة العربیة ) .
وقد استعان فی تدوین معجمه أولاً بالدكتور ( عبد الوهاب عزام ) عندما كان مدیراً لمعهد للغات الشرقیة بجامعة فؤاد الأولى وقد طلب منه ان یقابل معجمه على معجم فارسی بحت و تخیر له معجم (نوبهار) أو معجم (برهان قاطع ) . ولكن هذا التعاون والمشاركة العلمیة توقفت بعد فترة إذ انشغل الدكتور عزام بمنصب عمادة فی كلیة الآداب . فاستعان الدكتور هنداوی بالسید ( كاظم آزرمی) الملحق بالسفارة الإیرانیة آنذاك وكان قد أسند إلیه العمل فی تدریس اللغة الفارسیة وآدابها بمعهد اللغات الشرقیة . اقترح علیه السید كاظم الآزرمی مقابلة معجمه على قاموس( فرهنك نفیسی) وقد تم ذلك بالإضافة إلى مقابلته مع معجم ( steingass) كما استعان الدكتور هنداوی بعد أن ثقلت أعباء السید كاظم الآزرمی , بالأستاذ الدكتور (أحمد ترجانی زادة) الأستاذ بجامعة تبریز و الموفد إلى مصر وقد انتدبته كلیة الآداب بجامعة فؤاد الأول للتدریس بمعهد اللغات الشرقیة
وقد قام الدكتور محمد موسى (الهنداوی ) كذلك بترجمة كتاب عن تاریخ الأدب فی إیران تحت عنوان (تاریخ الأدب الفارسی ) والكتاب من تألیف الدكتور( رضا زاده شفق ) وعنوانه بالفارسیة (تاریخ أدبیات در إیران ) وهو بهذه الترجمة یعّرف العدید من أدباء وشعراء الفارسیة عبر العصور المختلفة بعد الإسلام . والكتاب یعد تكملة لما قام به الدكتور الشواربی من ترجمته لكتاب ( تاریخ الأدب فی إیران من الفردوسی إلى السعدی ) والتی ترجمها عنه ( ادوارد براون ) .

و من أعماله الجلیلة بالاشتراك مع الدكتور فؤاد الصیاد والأستاذ صادق نشأت ، ترجمته الجزء الأول من المجلد الثانی من كتاب (جامع التواریخ ) وكان ذلك بتكلیف من وزارة الثقافة والإرشاد القومی ( الإدارة العامة للثقافة ) ویحتوی هذا الجزء على فترة من أهم فترات تاریخ المغول وهی فترة حكم (هولاكو) وكذلك مقدمة المؤلف ( رشید الدین فضل الله ) وكذلك مقدمة ( كارتر یر ) المستشرق الفرنسی الكبیر الذی قام بنشر الكتاب وقد ترجم كذلك (یوسف وزلیخا) المنسوب للشاعر الكبیر ( الفردوسی ) و( نصائح الملوك ) للغزالی وأیضاً ( نصائح الملوك ) لسعدی .
ونختم حدیثنا عن الدكتور ( محمد موسى هنداوی ) بمقطوعة لشاعر الإنسانیة ، قام بترجمتها (هنداوی) وهی رقم ( 815) وتحتل الصفحة ( 251) والترجمة :

سواء أكان المرء عبداً ... یحمل الأحمال على أم ناصیته
أویسامی الفلك فی علوه ... وتدنو منه رأسه
ففی اللحظة التی تنتهی فیها حیاته
یغدر الصفاء ... والشقاء ... رأسه ...
إن الغم والسرور ... لیس لهما الدوام
ولكن یبقى ثواب العمل الطیب ... والاسم العظیم
إن الكرم هو الدائم ... ولیس الدوام للتاج والتخت
فأعط !! فإن العطاء بقاء !! یا سعید البخت !!
وأخیرا نذكر فهرساً لمؤلفاته وهی :

---------------------------------------------------------------------------

1 – تاریخ الأدب الفارسی .
2 – سعدی الشیرازی ( شاعر الإنسانیة ) .
3 – المعجم فی اللغة الفارسیة .
4 – بوستان ( الجزء الأول ).
5 – كلستا ن أو الروضة ( الجزء الأول ) .
6 – جامع التواریخ لرشید الدین فضل الله .
7 – بوستان ( الجزء الثانی ) .
6 – السامی فی الاسامی للمیدانی صاحب الأمثال . بالاشتراك .
9 – كلستا ن أو الروضة ( الجزء الثانی ) .
10 – بوستان (الأجزاء الأخیرة ) .
 
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 22:4|
الرفض فی الشعر الحدیث

إذا كان لا بد من كلمة تقال فی شعر التفعیلة أو الشعر الحدیث كما یحلو للبعض تسمیته تكون مفتاحه أو تلخص مساره أو مضمونه فلن تكون تلك الكلمة غیر كلمة الرفض، إنه شعر استهل مشواره الإبداعی بالتمرد على عمود الشعر الكلاسیكی، ولئن حاول بعض الشعراء المحدثین التجدید فی الشعر باطراح التقلید والتكلف اللغوی بانتقاء اللفظ البراق والحرص على الصدق الفنی والتأكید على التجربة الوجدانیة شأن الرابطة القلمیة وجماعة الدیوان وجماعة أبولو فإن رواد الشعر الحدیث رفضوا هذا الموقف مصرین على الثورة حریصین على سلوك مسلك فی الشعر فرید من نوعه لا یكتفی من التجدید بما سلف ذكره، بل یرفض عمود الشعر ویتمرد على القافیة لأنها تخنق روح الإبداع وتؤكد تبعیة الشاعر للغة فضلا على الإصرار على روح التقلید و رتابة الماضی.

تكبیر النصتصغیر النصنص فقط

وهكذا فالشعر الحدیث استهل رفضه بالثورة على القالب الشعری زاعما أن القالب التقلیدی لا ینسجم مع روح العصر و لا یلبی الاحتیاجات الفكریة و الجمالیة المستجدة خاصة و عصرنا هو عصر العلم والدیموقراطیة والحریة الإنسانیة – حریة الفكر و المعتقد – وعصر حصلت فیه المرأة على حقوقها ناهیك عن تأثیر الإحتكاك بالثقافة الأوروبیة التی تدمر روح الجمود لحساب روح الإبتكار وتؤكد على المضمون الإنسانی و تحرص على احترام فردیة الإنسان وتمیز كیانه الفكری و الإیدیولوجی والتی هی فی النهایة خلاصة التجربة الدیموقراطیة المنبثقة عن الثورة الفرنسیة و إعلان حقوق الإنسان هذه القیم التی تمثلها شعراؤنا المحدثون وتبنوها كقناعات فكریة ومن ثمة تبلور الرفض وتحتمت الثورة كصرخة عمیقة تزلزل الروح موقظة إیاها من سبات عمیق وخدر فكری زین للإنسان العربی أوهام الماضی على أنها حقائق وفی مقدمتها فكرة تاریخیة عمیقة تداولتها الأجیال على أنها مسلمة لا یأتیها الباطل من بین یدیها ولا من خلفها وهی فكرة المركزیة ونعنی بها اعتقاد العربی أنه مركز التاریخ ودرة الوجود وحامل لواء الحقیقة وما عداه فذیل أو هو على الهامش، لا هو فی العیر و لا هو فی النفیر وقد انتهت تلك الأفكار بالعربی إلى إدانة العقل و تبنی التقلید وانتشار الثقافة الفقهیة على حساب الثقافة العلمیة ووئدت الحریة و أجهز على الروح الإنسانیة فی المرأة وهمشت أحقابا طویلة كما استبد الحاكم وعبث بالإنسان وبالمال العام فعمت الجهالة وانتشرت الفوضى وترسخت الطبقیة و أصبحت الحیاة العربیة إلى تاریخ الحملة الفرنسیة على مصر عام 1798 حیاة عبثیة مجردة من القصدیة انتهت بالعالم العربی إلى الوقوع فریسة سهلة بین مخالب القوى الاستعماریة الفرنسیة و الإنجلیزیة خاصة كنتیجة حتمیة لتراكمات العصور السابقة بظلالها القاتمة.

فهذه الأفكار شكلت القناعة الراسخة لدى شعراء الرفض فی شعرنا الحدیث وحركت فی نفوسهم وضمائرهم مشاعر السخط والتمرد بحثا عن حریة افتقدوها فی رحاب مجتمع غارق فی دیاجیر الجهالة والعماء، وكانت أولى بوادر هذا الرفض و إرهاصاته هی رفض القالب الشعری القدیم لأنه اهتم بالقشور على حساب اللباب و بالزیف على حساب الحقیقة و بالمصلحة الفردیة على حساب المصلحة الجماعیة والتی تنأى بالشاعرعن دروب الحریة و تلقی به فی قرار العبودیة حارمة خلایاه من التجدد فی رحاب الطبیعة والزمان فرواد الشعر الحدیث إذا أخرجوا الشعر من القمقم الذی وضعه فیه الخلیل منذ القرن الثانی الهجری واضعا عنه أغلال القافیة هادما حیطان البیت ذی الشطرین المتساویین واضعا هندسة جدیدة وتصمیما آخر هو صنو الحریة و ابن التلقائیة لا ابن التكلف یتمشى وحدة الانفعال و زخم الأفكار و فردانیة الـتأمل، إنه شعر هو الذی یضبط الموسیقى و یتحكم فیها و لیست هی بالمتحكمة فیه فالسطر یطول أو یقصر حسب حدةالشعور و أهمیة اللحظة وموقف الشاعر منها وفی الصمیم یحتفی هذا الشعر بالموسیقى الداخلیة لا بالموسیقى الخارجیة و یكون النص الشعری فی النهایة رؤیا وموقفا فردانیا للشاعر من الوجود فی تداخل مظاهره وتفاعل عناصره وذلك ما یجعل من الشعر موقفا من العالم و إعادة صیاغة له تتجاوز واقعه الموضوعی إلى علاقته الجدلیة بالذات الشاعرة و اندغام تلك الذات فی هذا الواقع وفق صیغة إنسانیة ولیست میكانیكیة و فی المحصلة أنسنة الوجود لا وصفه خارجیا وهذا هو الإنجاز الأول الذی حققه الشعر الحدیث فی رفضه لكل ما غدا دوغمائیا جاهزا أثر الماضی فیه أطغى من أثر الحاضر ولا عجب أن یبدأ الرفض من القالب الشعری ذاته وفی رفض النموذج الخلیلی باعتباره مرحلة من مراحل التاریخ الثقافی والجمالی للأمة العربیة.

ولعل أكبر الرافضین فی الشعر الحدیث " أدونیس" ورفضه إنسانی یشمل قیم الوجود وواقع الأمة فی ماضیها و حاضرها وتجلیات هذا الواقع فی السیاسة والفكر والدین والعلاقات الاجتماعیة یقول الشاعر

أفتت العالم كی أمنحه الوجود

ضاربا بعصای الصخر حیث ینبجس الرفض

یغسل جسد البسیطة

معلنا طوفان الرفض

معلنا سفر تكوینه

وللطوفان دلالة خاصة ذلك أنه مصطلح دینی تداولته الكتب السماویة وهو یعنی اجتثاث الواقع و سحقه إیذانا بمیلاد عالم جدید لأن ذلك الواقع انتهى إلى العقم و إلى الجدب والتصالح معه لا یجدی ثم یأتی المصطلح التوراتی الثانی " سفر التكوین " الذی یعنی البدایة الأولى والخلق من جدید، وكأنه الواقع الذی تدنس أخلاقیا بدلیل كلمة " یغسل " فی السطر الثالث والتی تعنی عقم الواقع وعطالته وتجرده من القیم الإنسانیة والحریة حجر الزاویة فیها والتی ابتذلتها المؤسسات الرسمیة السیاسیة والدینیة والثقافیة، فغدا الإنسان رقما فی العالم لا حزمة من المشاعر والرؤى والمواقف الفردیة التی تتأكد بها إنیته میزته عن باقی الموجودات و أدونیس ( علی أحمد سعید ) الشاعر السوری المعاصر أكثر الشعراء إثارة للجدل و الاهتمام فی ذات الوقت ذلك أنه شاعر ملغز حلزونی الفكر لا یعطی سره للمراودة الأولى بل یظل محتفظا بسحره وبضبابیته فی ذات الوقت مع الاحتفاظ بقیمته كشاعر صاحب رؤیا وموقف ذاتی من العالم یلخص الأزمة الوجودیة لكل واحد منا إذا ضرب بعصا ه الصخر حیث ینبجس الرفض وقرر أن یتمرد على الدوغمائیات الدینیة و السیاسیة بالمعاییر الأخلاقیة بحثا عن عالم إنسانی لا یكون الواحد منا فیه رقما بل ینطوی فیه العالم الأكبر.

من أنت ؟

من تختار یا مهیار ؟

أنى اتجهت

الله أو هاویة الشیطان

هاویة تذهب أو هاویة تجئ

والعالم اختیار

لا الله أختار و لا الشیطان

كلاهما یغلق عینی

هل أبدل الجدار بالجدار ؟ فإذا قیل: إن العالم اختیار فالشاعر یثور على هذه الكلمة لأنها تعنی الاختیار ا لقسری الذی هو اضطرار مادام الإختیار یقود إلى مسلكین عالم الله وعالم الشیطان و فی النهایة یتقلص حجم الحریة الإنسانیة و یصیب الإنسان مسخ فیصبح كأنه فأر تجارب لا یمكنه أن یسلك إلا أحد المسلكین مسلك الإیمان و التسلیم والقول بأنه لیس فی الإمكان أبدع مما كان ومسلك التمرد و العصیان الذی غدا رتیبا تقلیدیا لأنه مسلك مرسم ومنظر له سیاجاته وحدوده فی الفكر و الشعور و كلا المسلكین یرفضهما الشاعر لأنهما یحدان من نظرته الإنسانیة وطابعه الفردانی وتأملاته فی آفاق بكر وعوالم لم تطأها قدم انسان من قبل وترى الشاعر فی نظرته إلى الوجود یصر على المسلك الإنسانی فهو یرفض المیتافیزیقا لأنها ارتبطت فی اللاوعی بالقهر والرهاب وربما القمع المترسبة عواقبه فی الوجدان من مغبة العصیان وارتكاب الخطیئة بالأكل من الشجرة المحرمة والخوف من فواجع القدر والباحث عن دروب الحریة وآفاق الإنسانیة لابد له أن یرفض كرفض الشاعر البعد الرأسی ویصر على البعد الأفقی لیتأله الناسوت ویتأنسن اللاهوت وهو ما توحی به كلمة " انحناء" فی هذا المقطع:

مات إله كان من هناك

یهبط من جمجمة السماء

لربما فی الذعر والهلاك

فی الیأس والمتاه

یصعد من أعماق الإله

فالأرض لی سریر وزوجة

والعالم انحناء

وإذا كان الرفض فی المقطع الأول هو رفض وجودی وفی الثانی میتافیزیقی فهو فی المقطع الثالث سیاسی، والسیاسة لها سیاجها الدوغمائی و أطرها القهریة ومؤسساتها القمعیة و آصارها اللانسانیة فتختصر الإنسان إلى حزمة من الغرائز أو تجعله ككلب" بافلوف" رهین المنعكسات الشرطیة بین مؤثر و استجابة ولعل المثقف العربی أكثر المثقفین تحملا لأعباء السیاسة وقهرها ولا انسانیتها فهی هرم كبیر یجثم على الصدر و یكتم الأنفاس حجارتها ازدادت صلادة مع كر الدهور منذ الأمویین وإلى الآن ومؤسساتها أطر للتضلیل و التدجین ولذا یرفضها الشاعر ویرفض دوغمائیتها مؤثرا دور المنبت الذی لا أرضا قطع و لا ظهرا أبقى

ولكن هذا المنبت وبحكم انسانیته و بطبعه الاجتماعی وروابطه الإنسانیة أقوى من أن یظل من الأوابد فالإنفصال عن المجموع ما هو إلا جری وراء السراب فی الحقیقة، والإنسان یستمد بقاءه من الجماعة فهو یحیا فیها و بها وهی التی تلهمه الثورة والتمرد وتعزز فیه ذاتیته وتشحذ ذهنه للبحث عن اللباب والمضمون الإنسانی فی العلاقات الاجتماعیة وفی أشكال الإنتاج و الرافض یظل یترنح بین قطبی الاتصال و الانفصال أی هو المتصل المنفصل و المنفصل المتصل

ترید وننی أن أكون مثلكم

تطبخوننی فی قدر صلواتكم

تمزجوننی بحساء العساكر وفلفل الطاغیة

ثم تنصبوننی خیمة للوالی

و ترفعون جمجمتی بیرقا

آه یا موتى ؟ تعیشون كالبلاط

یفصلنی عنكم بعد بحجم السراب

لا أستطیع أن أحیا معكم

لا أستطیع أن أحیا إلا معكم

و یأتی كذلك فی طلیعة الشعراء المحدثین الرافضین الشاعر اللبنانی خلیل حاوی ولعل موته منتحرا بعد غزو إسرائیل للبنان و اجتیاح بیروت عام 1982 تعبیر عن رفضه السیاسی ذلك الرفض الذی كان صرخة فی وجه الأنظمة العربیة القابلة للواقع المملى علیها الراضیة بالتدجین القانعة من الصراع بالتطبیع إنه رفض للهزیمة وعد م اعتراف بشرعیة الواقع الذی صارت إسرائیل طرفا فاعلا فیه ورفض للأنظمة العربیة الفاقدة للشرف وللعذریة والتی أسلمت فلسطین لمصیرها التراجیدی وتهاونت فی قضیة لبنان و سكتت عن احتلال الجولان و انتهت مصر لقمة سائغة بعد اتفاقیات كامب دیفید كل هذه الجروح لم تندمل فی روح الشاعر و ضمیره الذی اقتنع بأن كل شىء فی العالم العربی قد أجدب و أصیب بخصاء فكری و أخلاقی ووجدانی بما فیه الحیاة الثقافیة ورأى أن المعادل الموضوعی لهذا المأزق الوجودی هو الموت فرحل بإرادته تعبیرا عن حالة رفض كلا نی للواقع وعدم اعتراف بشرعیته و فی شعر خلیل حاوی نقع على هذا الرفض بغیر عناء كبیر ففی قصیدته " ضباب و بروق " نقع على حالة یأس تام استسلم لها الشاعر وحالة عطالة انتهى إلیها و لا أدل على ذلك من استخدام كلمة "المقهى" الموحیة بالعطالة وأما حالة الجدب والخصاء والیأس فتعبر عنها فی هدا المقطع كلمة " البوم و أما لفظة" النسر" فدلالتها هی الشموخ و الكبریاء إنها كلمات مشبعة بالرفض ومضمخة بالیأس:

ضجة المقهى ضباب التبغ

مصباح و أشباح یغشیها الضباب

ویغشى رعشة فی شفتی السفلی

یغشى صمت وجهی ووجومه

أفرخ البوم

ومات النسر

فی قلبی الذی اعتاد الهزیمة

والشاعر لا ینسى أن یذكرنا بأحلامه الماضیة ولعلها الشبابیة حین كان طالبا فی جامعة كمبردج، وكیف كان الحلم ناصعا بغد عربی مشرق ووحدة عربیة ونهضة فكریة و علمیة و أدبیة و اندحار للفكر الصهیونی المتطرف فی بلادنا و تلاشی لكل التیارات العمیاء المتطرفة الدینیة و السیاسیة فی عالمنا العربی وقد جد الشاعر و اجتهد باحثا عن المعرفة التی سیوظفها فی خدمة هذا الحلم و عن النور الذی سینیر به حلكات الطریق مضحیا بمصلحته الشخصیة لحساب مصلحة المجموع:

طالما جعت افترست الجمر

أتلفت الیالی

أتقی ماأشتهیه وأهاب

وأطیل الجوع حتى ینطوی الجوع

على موت الرغاب

ثم جاءت ساعة الحقیقة وانجلى الواقع على قبض الریح وحصاد الهشیم فلا الوطن تحرر ولا العدو انحدر ولا المجتمع تقدم وانتهى الشاعر نازفا بالدماء كأنه أحد أبطال التراجیدیا الإغریقیة كأنه برومیثیوس بعدأن بدأ مشواره كأحد أبطال السیر الشعبیة وكأنه أبو زید الهلالی، وهو فی الأخیر رفض لایصنع شیئا ولا یغیر واقعا غیر حفظ الكرامة الإنسانیة وصیانتها عن الإبتذال لقاء أی عرض من أعراض السیاسة أو الرفاه وإذا كان الأمر كذلك فلا جرم أن تدمر الذات إنقاذا لها من مزید من المعاناة الصامتة:

فی جبال من كوابیس التخلی والسهاد

حیث حطت بومة سوداء تجتر السواد

الصدى والظل والدمع جماد !

وأما الشاعر الكبیر عبد الوهاب البیاتی ذلك الشاعر الذی طوف فی الدنیا منفیا ومشردا من موسكو إلى مدرید وإلى دمشق فقد جسد فی شعره وفی حیاته حالة الرفض للقهر السیاسی واستبداد الحكام وحالة الرفض لكل السلطات الدنیویة والدینیة كالإكلیروس الدینی والمؤسسات السیاسیة والثقافیة الرسمیة لأنها تمارس الإكراه على الحریة الإنسانیة وتعتدی على الكرامة البشریة وقد امتد رفض البیاتی هذا إلى الإعجاب برافضین من تاریخنا العربی ومن العالم الغربی، فمحی الدین بن عربی الشاعر الأندلسی صاحب فلسفة وحدة الوجود والفتوحات الملكیة كان فی تصوفه وفی حبه رافضا للثقافة السائدة والتدین الساری متبنیا موقفا إنسانیا فریدا لا علاقة له بما هو جاری العمل به فی الواقع،وقد نال هذا الشاعر احترام وحب البیاتی إلى درجة أنه أوصى أن یدفن إلى جواره فی دمشق.

ویمتد إعجاب البیاتی إلى شاعر كبیر من إسبانیا هو فریدیریكو غارسیا لوركا وهو فی الشعر الإسبانی شاعر رافض ورفضه أدى إلى موته مقتولا على أیدی قوات فرانكو دیكتاتور إسبانیا.

لقد رفض لوركا الثقافة الرسمیة التی تنص على مركزیة أوربا وهامشیة العالم الآخر كما رفض النظریة التی تربط التفوق بلون البشرة والدم، وترجع تقهقر إسبانیا الصناعی والعلمی قیاسا إلى فرنسا وألمانیا إلى الوجود العربی أیام الأندلس، فقد رفض هذا الشاعر البدیع أن یعتبر الوجود العربی الإسلامی فی إسبانیا احتلالا حال دون تقدم شبه الجزیرة الإیبیریة، بل اعتبره وجودا حضاریا أفاد اسبانیا عمرانیا وعلمیا وفكریا وفنیا لم یحسن الإسبان فیما بعد احتضانه وتمثله فكانت همجیة فرناند وإیزابیلا وجنودها التی صنعت فضائح وفضائع یندى لها جبین الإنسانیة وقد عبر لوركا عن مواقفه هذه شعرا وفی لقاءاته الصحفیة إلى درجة إقلاق النظام الحاكم فأعدمته قوات فرانكو تخلصا منه ومن مواقفه.

إذا وجد البیاتی فی هذا الشاعر صدیقا كما وجد ذلك فی شاعر المتصوفة وصوفی الشعراء محی الدین بن عربی والبیاتی یرفض تخاذل المثقف فی السكوت على ظلم الحاكم والتعلل لذلك بقوة السلطان وجبروته وحاجات النفس والتمادی فی هذا الموقف المتخاذل إلى درجة التحول من سیف یناضل ضد القهر والعماء إلى مروحة تجلب للحاكم النسیم العلیل لقاء اتقاء شره والظفر بمغانم الدنیا !

ولقد كان الشاعر مؤمنا أن الثقافة الحقة یجب أن یتحلى الموصوف بها بصفة النضال ضد الطبقیة والرجعیة والتخلف والقهر لحساب النهضة والحریة والكرامة خاصة والمجتمع العربی فی المنعطف لم یخرج إلى آفاق العلم والحریة والإبداع الرحبة كغیره من شعوب العالم المتمدن.

إنه یرفض المثقف المتحول إلى حزمة من الغرائز تنشد الإشباع فی البلاط ساكتة عن جرائم السلطان مؤثرة المصلحة الفردیة على حساب مصلحة الجماعة فهو یقول عن المثقف:

یداعب الأوتار

یمشی فوق حد السیف والدخان

یرقص فوق الحبل

یأكل الزجاج

ینثنی مغنیا سكران

یقلد السعدان

یركب فوق متنه الأطفال فی البستان

یخرج للشمس إذا مدت إلیه یدها اللسان

یكلم النجوم والأموات

ینام فی الساحات !

فهذا المثقف الذی كان یفترض فیه أن یكون طلیعیا تحول إلى بهلوان یجید الریاء والتلاعب بمشاعر الأمة وخداعهم والتمویه علیهم، لقد صار كالدرویش رمزا للسذاجة والغفلة وقد غدا الأمر هزأة فهو ینام فی الساحات ویكلم الأموات ویتعامل بغباء مع قیم الثورة والحریة والعطاء فیخرج للشمس إذا مدت إلیه یدها اللسان ! ونأتی فی خاتمة المقال إلى شاعر مثیر للجدل لاتكف الألسن عن تداول اسمه وتردید شعره فهو فی المحدثین كأبی الطیب فی القدماء إنه الشاعر السوری نزار قبانی فقد كانت حیاته هو الآخر تجسیدا لمبدأ الرفض وكان شعره بلورة له وذهابا به إلى أقصى المعمورة صراخا وتشهیرا به، وأما رفضه فیتجلى فی موقفه من المرأة ومن الحب حین رفض روایة المؤسسة الرسمیة الملیئة بالنفاق والتحایل والقهر والكذب والسادیة واحتقار الكرامة الإنسانیة المتجلیة فی الأنوثة وفی الحط من قدرها وتلخیصها فی میزاتها الجنسیة لأنه مجتمع الكوالیس، یبطن غیرما یظهر ویرى الحب جریرة والحدیث عنه دعارة ولا یرى مانعا من ممارسته فی الخفاء ألا إنه مجتمع منحط حین یأتی الرجل والمرأة كلاهما فعلا واحد فیرى الرجل بطلا والمرأة مومسا، وقد جسد هذا الرفض فی انتقامه للأخت المنتحرة التی رفضت هی الأخرى زواجا قسریا مفضلة الموت علیه بالتشهیر بالحب وبنعیمه وبالتغنی بمواطن الفتنة فی المرأة وفی الإعلاء من شأن الأنوثة منذ صدور دیوانه الأول" طفولة نهد" الذی تحول تحت ضغط المؤسسات الرسمیة الوصیة إلى " طفولة نهر"

وأما الرفض السیاسی فللشاعر فیه صولات وجولات منذ صدور" هوامش على دفتر النكسة"، وقد كان الشاعر فضاحا للمواقف المتخاذلة مشهرا بها لا یهادن ولا یسالم معتبرا جبن الساسة وتخاذلهم بل ونفاقهم هو الذی أسلم فلسطین إلى أعدائها ورهن مستقبل كامل البلاد العربیة وفی قصیدته المشهورة التی بعث بها إلى جامعة الدول العربیة بتونس والتی عنوانها" أنا متعب بعروبتی" یتجلى هذا الرفض فی حالة من الثورة العارمة والإنفعالات الحادة المعبرة عن عمق الجرح ونزیفه ولقد كتبها الشاعر على الطریقة العمودیة لیرد على مؤسسة رسمیة بقالب شعری رسمی نظر له الخلیل لایعوزه التحكم فیه والسیطرة علیه وقد كان تأثیر هذه القصیدة مدویا لأنها صادفت هوى جمیع العرب وعبرت عن مكنون ضمائرهم فمن رفض طغیان الساسة:

من أین یأتی الشعر یا قرطاجة

والله مات وعادت الأنصاب؟

من أین یأتی الشعر حین نهارها

قمع وحین مساؤنا إرهاب؟

سرقوا أصابعنا وعطر حـروفنا

فبأی شىء یكتب الكتاب ؟

والــــحكم شرطی یسیر وراءنا

فنـكهة خــــبزنا استجواب



إلى رفض استبداد المؤسسات الثقافیة وممثلیها من الشعراء خاصة:

من أین أدخل فی القصیدة یاترى

وحدائق الشعر الجمیل خراب؟

لـــــم یبق فی دار الــبلابل بــلبل

لا الــبحتری هنــا ولا زریــاب

شعراء هذا الیوم جـــنس ثـــالث

الـــــقول فوضى والكلام ضباب

اللاهثون على هـــوامش عمرنا

سیان إن حضروا وإن هم غابوا

إذا لقد كان الشعر الحدیث بتمثله لمبدأ الرفض شعرا تقدمیا وإنسانیا وكان هؤلاء الشعراء الأعلام فرسان الكلمة ورجال الموقف نأوا بالشعر عن قصور الحكام ونزهوا الشعر عن تضمنه العربدة المحببة إلى قلوب الجماهیر، لقد طوحوا به فی آفاق الإنسانیة الرحبة، والتزموا حقا- كما یلح جون بول سارتر على فكرة الإلتزام فی الأدب وعلى ضرورة تأمیمه- بقضایا الوطن وتاریخه العریق وحاضره التعس ومستقبله المرهون بلا خطابیة فجة أو إیدیولوجیة مقیتة فحافظ شعرهم على طراوته ونكهته الوجدانیة ومضامینه الفكریة والإنسانیة، وقد ساعدهم على ذلك نفس شعری قوی لا یخمد وروح تجدیدیة عنیدة لا تقهر ولا تخبو نارها، ووعی بالواقع فی علاقاته المتشابكة خاصة مع الغرب سیاسة وثقافة بل وقوتا، فجاء هذا الشعر فی صیغته الحدیثة شعرا انسانیا – على الرغم من عثراته ونقائصه-وقد أثبت قوته وشبابه وحصانته وأنه قادر على اكتساح المنابر الثقافیة وضم المریدین والأشیاع رغم تمرده على الذاكرة والخطابیة ورنة الترنم، وهو رد حاسم على كل المشككین فی جدوى الشعر الحدیث.

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 21:58|
بین العربیة و الفارسیة - مقارنة لغویة


لا بد لنا من الذكر بدایة أن التواصل بین الشعوب القاطنة فی فارس و الجریرة العربیة وبلاد الرافدین لم ینقطع أبدا منذ بدایة التاریخ بل أن التكامل بین جمیع القبائل القاطنة فیها كان كبیرا ، و انه قد اشتد و توثق بعد رسالة محمد ( ص) – أو ما یسمیه المؤرخین الحضارة الإسلامیة.

لقد نظر العدید من الباحثین إلى هذا التقارب من وجهتی نظر متطابقتین فی المضمون ، مختلفتین فی المبنى و التسمیة - فجاءت أبحاثهم تحوی العدید من الأدلة التی تدل على التقارب ، القسم الأول القدیم منها اعتبر أن اللغة العربیة اقترضت من الفارسیة ألكثیر و أن الفارسیة اقترضت من العربیة أكثر حتى بات من الصعب الحكم على مبتدأ الكلمات هل كان فارسی قدیم أم عربی قدیم ، و القسم الثانی الحدیث الذی یعتبر أن جمیع اللغات من سامیة وهندیة أوروبیة و حامیة هی فی الأصل لغة واحدة .

تكبیر النصتصغیر النصنص فقط

بین العربیة و الفارسیة

لا بد لنا من الذكر بدایة أن التواصل بین الشعوب القاطنة فی فارس و الجریرة العربیة وبلاد الرافدین لم ینقطع أبدا منذ بدایة التاریخ بل أن التكامل بین جمیع القبائل القاطنة فیها كان كبیرا ، و انه قد اشتد و توثق بعد رسالة محمد ( ص) – أو ما یسمیه المؤرخین الحضارة الإسلامیة.

لقد نظر العدید من الباحثین إلى هذا التقارب من وجهتی نظر متطابقتین فی المضمون ، مختلفتین فی المبنى و التسمیة - فجاءت أبحاثهم تحوی العدید من الأدلة التی تدل على التقارب ، القسم الأول القدیم منها اعتبر أن اللغة العربیة اقترضت من الفارسیة ألكثیر و أن الفارسیة اقترضت من العربیة أكثر حتى بات من الصعب الحكم على مبتدأ الكلمات هل كان فارسی قدیم أم عربی قدیم ، و القسم الثانی الحدیث الذی یعتبر أن جمیع اللغات من سامیة وهندیة أوروبیة و حامیة هی فی الأصل لغة واحدة .

لذلك جاء تسمیة المباحث فی هذا المقال تبعا لهذا التقییم قدیم و حدیث.

قبل أن نبدأ بعرض مقارن لحیثیات التقارب بین العربیة و الفارسیة لا بد لنا من أن نبحث فی معنى اسم فارس – ما هو أصله من أین أتى لنقیم على ذلك البناء المتین لمعنى الوجود الفارسی فی الاسم و اللغة.

مقارنة بین المباحث القدیمة و الحدیثة فی كلمة فارس :

من موسوعة وایكیبیدیا نقتطع : فارس هو الاسم التاریخی للمنطقة التی قامت علیها الإمبراطوریات والدول الفارسیة والتی تشكل الیوم إیران. تقع الإمبراطوریة الفارسیة شرق شبه الجزیرة العربیة. تأسست الإمبراطوریة الفارسیة عام 559 ق.م. بواسطة قورش.

التاریخ الإیرانی قبل الآریین

سكنت المنطقة عدة شعوب قبل مجیء الفرس الآریین إلیها. أهم تلك الشعوب:

حضارة عیلام هی واحدة من أول الحضارات فی المنطقة، ولا ینتمی شعبها إلى الشعوب الهندو-أوربیة، بل البعض یعتقد بأن أصولهم عربیة. وتتواجد فی إقلیم عربستان ومحافظة إیلام. استمرت الحضارة بین عامی 2700 قبل المیلاد و 539 قبل المیلاد. والعیلامیون شعب سامی اندمج لاحقاً مع بعض القبائل العربیة التی سكنت الاحواز.

المانیون أحد الشعوب القدیمة التی استوطنت الأراضی التی تعرف حالیا بأذربیجان الإیرانیة فی الفترة مابین القرن العاشر قبل المیلاد و القرن السابع قبل المیلاد. لم یكونوا من الشعوب الهندو-أوربیة. ویعتقد البعض أنهم یشكلون نواة شعب الأكراد.

من المباحث الحدیثة :

اسم فارس من الفرز و الفرق:

فارس – الفرز ، و الفرس – الفرسیین هم الفرزیین فی التاریخ ( مبحث حدیث )

بالمقارنة بین مشرق جزیرة العرب و مغربها نرى منطقتین أفریقیا تقع فی الفرق الغربی من جزیرة العرب ( الموطن الذی انطلق منه البشر و انتشروا فی الأرض ) أما فارس فإنها تقع فی الفرق الشرقی منها – و إذا كنا قد حللنا فی مقال سابق ( الجغرافیا و اللغة العربیة )

اسم أفریقیا من مصدر عربی وهو كلمة فرق ، فإن تسمیة الفرق الغربی لا بد وأن ینطبق علیها المثل عینه .

ونعود إلى عمق تاریخ البشر فنرى فی التوراة ، شعب ذكرته التوراة بأنه یشترك فی السكن مع الكنعانیین ( قنعان – یقطان ) و الحثیین ( حشیین – عدنان ) و الاموریین ( حمیر ) و الیبوسیین ( قحطان و یبوس – اثیوبیا ) - وهذا الشعب هو الفرزیین.

و نجد فی التوراة ، بالنص المعتمد من الیهود و المترجم إلى العربیة الآتی :

1. و قال الله أیضا لموسى هكذا تقول لبنی إسرائیل یهوه اله آبائكم اله إبراهیم و اله اسحق و اله یعقوب أرسلنی إلیكم هذا اسمی إلى الأبد و هذا ذكری إلى دور فدور

2. اذهب و اجمع شیوخ إسرائیل و قل لهم الرب اله آبائكم اله إبراهیم و اسحق و یعقوب ظهر لی قائلا إنی قد افتقدتكم و ما صنع بكم فی مصر

3. فقلت أصعدكم من مذلة مصر إلى ارض الكنعانیین و الحثیین و الاموریین و الفرزیین و الحویین و الیبوسیین إلى ارض تفیض لبنا و عسلا

4. فإذا سمعوا لقولك تدخل أنت و شیوخ بنی إسرائیل إلى ملك مصر و تقولون له الرب اله العبرانیین إلتقانا فالآن نمضی سفر ثلاثة أیام فی البریة و نذبح للرب إلهنا

و لقد حققت ذلك فی كتاب رحلات الأنبیاء فی جزیرة العرب مبینا أن موسى ذهب ببنی إسرائیل من مصر إلى جزیرة العرب عبر البحر الأحمر لیقیموا العید و یحجوا إلى بكة- مكة ، من هنا فإن الفرزیین الذین ورد ذكرهم فی التوراة هم ( الفارسین – الفرس ) الذین كغیرهم من سكان البلاد المجاورة للجزیرة العربیة كانوا یحجون إلیها فی المواسم ، فیستقر قسم منهم فیها ( لأسباب عدة )

ونستطیع أن نؤكد انطلاقا من هذا التحلیل أن كلمة فارس– من مصدر فرز حیث أن حرف الزین یقلب و یلطف إلى سین شأنه شأن كل الكلمات المنهیة بحرف السین فی العربیة وهناك عدد غیر قلیل من الكلمات العربیة – فردوس – سندس – قدموس – طوروس و عدد كبیر من المدن ، نابلس طرابلس طرسوس ترسیس ، وجمیعها منتهیة بحرف السین الذی هو فی الأصل لاحقة التعریف العربیة المخففة من (ذی) إلى س .

من هذا المنطلق یمكننا ان نقول ان اللغة الفرسیة القدیمة ( التی تعود الى عیلام و ربما ابعد من ذلك فی التاریخ ) هی عربیة فی منشأها و تطورها فی جمیع مراحلها ، مما یجعل الفارسیة أیضا نموذج عن تطور معین للعربیة فی اتجاه الشرق كله. إن هذا التحلیل الحدیث للعلاقة بین العربیة و فارس من حیث الجغرافیا و التسمیة ، یقابله التحلیل التقلیدی القدیم الذی لا بد من عرضه لكی ندخله فی المقارنة فی النهایة وأترك للقارئ الحكم .

نبذة عن اللغة الفارسیة :اللغة الفارسیة هی لغة هندو اوروبیة، یتحدث بها فی إیران وطاجكستان وافغانستان وفی بعض المناطق فی الهند و باكستان . تكتب بالخط العربی بإضافة 4 حروف: گ، پ، ژ، چ . و یسمیها بعض متكلمی اللغة الفارسیة بالفارسیة الدریة ( فارسى درى ) فی أفغانستان كما تسمى بالتاجیكیة (فی تاجكستان)، أثرت اللغة الفارسیة على بعض اللغات مثل: التركیة العثمانیة والأوردو، و اللغة العربیة كما تأثرت بشكل كبیر باللغة العربیة .

اللغات الإیرانیة القدیمة

وهی اللغات التی سادت فی المرحلة الأولى من تاریخ اللغة الفارسیة و ذلك منذ بدایة نشأتها حتى القرنین الرابع و الثالث قبل المیلاد و من بینها اللغة الفارسیة القدیمة وهی اللغة المحكیة و الرسمیة فی عهد الملوك الاخمینیین و قد كتبت بالخط المسماری حفظت بعض النقوش المسطرة بهذه اللغة فی كتابات داریوش الكبیر على صخور ( بیستون) و فی غیرها من الاثار المعروفة و جمیعها نقشت بالخط المسماری السومری…اضافة لهذه اللغة فقد ساد فی هذه المرحلة ما یسمى باللغة الابستاقیة و هی اللغة التی كتب بها الابستاق (اوستا) كتاب زردشت المقدس لدى الزردشتیین وهو الأثر الوحید الذی بقی مكتوبا بهذه اللغة.

یقول الباحث الإیرانی یوسف عزیزی: "ازدهرت اللغة الفارسیة وترعرعت فی أحضان الأبجدیة العربیة بعد الفتح الإسلامی لإیران. وقدمت شعراء ومتصوفین ومفكرین عظاماً، خلافاً لما قبل الاسلام حیث لم تقدم اللغة البهلویة ـوهی لغة البلاط عند الأكاسرةـ أی اسم بارز فی مختلف مجالات المعروفة وخاصة والأدب. و یبدو ان اللغة الفارسیة استعارت من اللغة العربیة الكثیر من تراكیبها و مفراداتها و لاحقا استفادت من اللغة المغولیة عند سیطرة الإمبراطوریة المغولیة و من ثم التركیة .

بالمقابل دخلت العربیة العدید من المفردات العربیة خاصة تلك المتعلقة بالتنظیمات الإداریة التی اقتبست عن الفرس. ویضیف الباحث الإیرانی یوسف عزیزی: "لقد أثرت الثقافة العربیة فی الثقافة الفارسیة، عبر العصور. وكان للأدب العربی تحدیدا، تأثیر مهم فی الادب الفارسی كما وكان للغة العربیة أیضا، دور فی إغناء اللغة الفارسیة بالمفردات المتعددة. فهناك نحو 60% من اللغة الفارسیة مفردات عربیة، أو عربیة الجذور. و یمكن القول أن تأثیر اللغة العربیة فی اللغة الفارسیة، یشبه تأثیر اللغة الرومانیة فی اللغة اللاتینیة. و كونی باحثا فی الادب الفارسی، وفی الادب العربی، باستطاعتی القول ان الادب الفارسی لم یكن له وجود بارز قبل الاسلام، وقد أصبح له هذا الوجود، وهذا البروز بعد الاسلام، فنتیجة لتمازج الثقافتین الفارسیة و العربیة، الذی انتج عندنا شعراء و مفكرین وأدباء كبارا، مثل حافظ الشیرازی و سعدی الشیرازی و ناصر خسرو البلخی وفی مجال الفلسفة الملا صدرا و ابن سینا و الفارابی و الغزالی.

و یبدی ادی شیر (رئیس اساقفه الكنائس الكلدانیه) فی كتابه «الالفاظ الفارسیه المعربه» دهشته لنفوذ الفارسیه الی هذ الحد فی اللغه العربیه، رغم ان الفارسیه من فصیله اللغات الآریه، فی حین لم تؤثر فی العربیه لغات سامیه من فصیله العربیه نفسها كالسریانیه و الرومیه و القبطیه و الحبشیه. و الارتباط اللغوی كما نعرف بین اللغات ذات الاصل الواحد اسهل من اللغات ذات الاصول البعیده [1].

و لیس هناك من سبب مقنع لتفسیر هذه الظاهره سوی ان الاسلام قد قارب بین اللغتین و عمل علی احداث هذ التأثیر المتبادل العجیب. [2]

ونستنبط من دراسه الكتب العربیه و الفارسیه ان بعض المفردات الفارسیه قد دخل العربیه قبل الاسلام بمئات السنین، لكن یصعب تشخیص هذه المفردات و ذلك للتغییرات الكبیره التی طرأت علی الفارسیه. و كمثال علی صعوبه ذلك التشخیص یضرب بهرام فره وشی استاذ اللغات القدیمه فی جامعه طهران مثالاً علی ذلك (14) فیقول ان كلمه «ناهد» التی تعنی الیوم بالعربیه الفتاه الكاعب، نجدها تعطی المعنی نفسه فی كتاب الایرانیین القدماء ای «الافستا»،

فهل یعنی هذا ان العرب قد اخذوها عن الفارسیه، ام الفرس اخذوها عن العربیه؟

على هذا المنوال درج الباحثون فی الخوض بالعلاقة بین اللغة العربیة و الفارسیة عبر العصور ، متحیرین فی العدید من الكلمات هل اخذها العرب عن الفرس أم ان الفرس اخذوها عن العرب.

حتى وصلنا الى العصر الحدیث حین بدأ ت فی البحث عن الحقیقة بالنظر الى هذا الموضوع و غیره من التداخل بین اللغات من زاویة حادة و بافق اوسع .

فبعد الدراسات المستفیضة التی اثبتت أن اللغات الهندیة الاوروبیة – و السامیة و الحامیة و غیرها هی فی الاصل تنتمی الى لغة واحدة تظهر جلیة فی مفردات كل تلك اللغات من تمازج و تماثل حتى فی الضمائر

ولو علمنا أن ( I , Ieo , Ya , Je ) هی فی الاصل ضمیر عربی هو إیای و أن رفض – ( تلفظ رفظ ) لتبین لنا أن Refuse ایضا تنتمی إلى لغة واحدة قدیمة فی الاصل مشتركة بین جمیع هذه اللغات .

و إن كان ما یبرره الباحثون من دخول الكلمات العربیة الى عدد كبیر من اللغات ، منها الفارسیة ، بإنتشار الإسلام بینها ، إلآ أن بعض المفردات تجعلنا نقف مشدوهین أمامها – لا نستطیع أن نجزم الى أی لغة تنتمی هذه المفردة فی الأصل.

من هذه المفردات كلمة ، سراط – صراط التی هی كلمات Strade Straight, Street , Strada فی لغات أخرى ، و كلمة ستان التی شرحتها فی مقال سابق و التی هی اختصار لكلمة إستیطان ، و التی اصبحت Estate , State الت تعنی الوطن و المقاطعة

ومنها كلمة قسطاس ( قسطا ذی ) – ذی القسط التی نراها فی Justice , Just واصل كل هذه الكلمات بعد ان بینا تكوینها هو العربیة القدیمة.

من هذا المنطلق سوف احاول ان اسرد بعض المفردات المشتركة بین الفارسیة و العربیة بالرغم من أن 60 % من الفارسیة الحدیثة ( عربیة واضحة ) فإن الـ 40 % الباقیة منها یمكن إرجاعها الى العربیة بعد شرح و تصرف ، معزیا ذلك الى لغة مشتركة بینها فی عمق التاریخ – هذه اللغة على التحقیق هی العربیة القدیمة ، نظرا لأننا إن تمحصنا فی تاریخ كل من اللغتین الفارسیة و العربیة لتبین لنا أن الفارسیة قد تبدلت كثیرا ( وهی تنتقی من العربیة القدیمة ما یلائمها ) بینما العربیة حافظت على مبناها الذی یعود الى 1900 ق. م. على اقل تقدیر ( كما بین ذلك انیس فریحة فی كتابة اساطیر اوغاریت ، والذی اعتمد على النصوص الموجودة فی مكتشفات أوغاریت من الالواح الحجریة).

المبحث الأخیر: هل صحیح ؟ ما یقوله اللغویون فی تحدید فارسیة الألفاظ العربیة تبعا لترتیب الحروف ؟ و سوف أصحح بین القوسین

وابین بطلان هذه المقولة التی یقولون فیها :

تمتاز المفردات العربیة عاده ببعض الخصائص التی یمكن من خلالها تشخیص المفردات الفارسیة المعربة إلی حد ما، ومنها:

فی مفرده عربیه واحده:

- لا یأتی حرف الـ (ج) و حرف الـ (ق) معاً. ( وحرف الجیم هو حرف متبدل فی جمیع العائلات اللغویة إما إلى ی و إما إلى ق – و لا تصح هذه المقولة على اللهجات العربیة )

- لا یأتی حرف الـ (ص) مع حرف الـ (ج). ( راجع سابقا)

- لا یأتی حرف الـ (ط) و حرف الـ (ج) الا اذا كانت المفرده اسماً لشخص او موضع. ( راجع سابقا)

- لا یأتی حرف الـ (ن) بعد حرف الـ (ز). ( مزن و مازن - أأنتم أنزلتموه من المزن )

- لا یأتی حرف الـ (ز) بعد حرف الـ (د) او الـ (ب) او الـ (س) او الـ (ت). ( و المقصود بها مهندز – و مهندس و فردس و قابس و سندس )

- لا یرد حرفان متشابهان بینهما الف. ( باب - دجاج – شاش – زقاق – زجاج – مداد – مساس – إمام -)

مما سبق نفهم ان المفرده العربیه اذا وجدت فیها احدی الخصائص اعلاه، فهی معربه و لیست اصیله

فهل احد یستطیع أن یجزم بالأدلة القاطعة أن الكلمات التی وضعت ضمن الأقواس لیست عربیة ؟

والأمر الثانی الذی لا بد من اللفت إلیه وهو ان الحروف إنما هی رسم الألفاظ ، و اللفظ متغیر من قریة إلى أخرى حتى فی اللغة الواحدة ، فاعتمادنا على مقولة ترتیب الحروف لا معنى له إطلاقا فی علم اللغات المقارن لأن المقارنات أصلها فی اللفظ .

و بخلاصة هذا البحث استخلص ان اللغة الفارسیة القدیمة و الحدیثة لا تختلف عن غیرها من لغات العالم ، و أنها تطور متعدد المراحل للغة العربیة القدیمة و الكلمات الموجودة فیها هی إما عربیة على التحقیق و إما عربیة بعد تدقیق.

لقد وضعت جدولا فی ملف وورد لبعض الكلمات لتسلیط الضوء على الطریقة التی إعتمدها الباحثون للاستدلال على فارسیة الكلمات - بعد تفكیك رموزها و اعادتها الى أكثر من كلمة فارسة - هذا الملقف یوجد ربطا.

المراجع :

التأثیر المتبادل بین الفارسیة و العربیة – عبد الرحمن العلوی
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 21:58|
إشارات ورموز عربیـــة فی شعر السیــــاب



لقد صرح السیاب مرة أنه ینتظر المؤلف الحدیث الذی یجمع الرموز العربیة فی شعره من مظانها المتفرقة كیما یمكن الإفادة منها. ( 1 )

والحدیث عن دور الأسطورة والرمز فی الشعر الحدیث قد یطول بنا إذا تقصیناه ، یقول السیاب فی هذا السیاق :

" هناك مظهر مهم من مظاهر الشعر الحدیث هو اللجوء إلى الخرافة والأسطورة ، وإلى الرموز ، ولم تكن الحاجة إلى الرمز وإلى الأسطورة أمسّ مما هی علیه الیوم ، فنحن نعیش فی عالم لا شعر فیه - أعنی أن القیم التی تسوده قیم لاشعریة ، والكلمة العلیا فیه للمادة لا للروح ، وراحت الأشیاء التی كان فی وسع الشاعر أن یقولها أن یحولها إلى جزء من نفسه تتحطم واحدًا فواحدًا ، أو تنسحب إلى هامش الحیاة .

إذن فالتعبیر المباشر عن اللاشعر لن یكون شعرًا ، فماذا یفعل الشاعر إذا عاد إلى الأساطیر إلى الخرافات التی ما تزال تحتفظ بحرارتها ، لأنها لیست جزءًا من هذا العالم . عاد إلیها لیستعملها رموزًا ولیبنی منها عوالم یتحدى بها منطق الذهب والحدید " ( 2 ) .

وهو یعترف فی مكان آخر أن الرموز والأساطیر تخلص الشاعر من إلقاء كلماته بصورة نثریة وبلا واسطة ، وتضیف تداعیات لشعره . (3 )

ویرى ب . موریه أن هذه الرموز تساعد على خلق موسیقا جدیدة – موسیقا الفكرة – بالإضافة إلى إیقاع الوزن ، وهذا النوع من الموسیقا یشبه التنویعات السمفونیة – إنها عودة لنفس الفكرة التی تؤكد الموضوع الرئیسی للقصیدة ، وبالإضافة إلى التداعیات التی تثیرها هذه الرموز من التاریخ والمیثولوجیا فهی تساعد فی تجسید التشبیهات بصورة حیة ودقیقة أكثر، وتساعد الشاعر أن یكون مراقبًا حیادیًا أقل عاطفة ،وقادرًا على كبح مشاعره ( 4 ) .

ومن خلال ملاحظتنا لرموز السیاب نرى أنه یطعم قصائد بعناصر موحیة ، وهی عنده كالكنوز یلجأ إلیها مقارنًا بین ما كان وبین ما هو كائن ، وهو بها یعمق المعنى وینقل التجربة إلى جو إنسانی یستمد الجذور من التاریخ الفاعل والمحرك . وسنحاول هنا أن نصنفها ونحدد ماهیتها :

1- رموز من السیرة النبویة :

یقول السیاب :

محمد الیتیم أحرقوه فالمساء یضیء من حریقه ، وفارت الدماء ( ص 467 من المجموعة الكاملة 1 للسیاب ) ویقول :

" محمد النبی فی حراء قیدوه ……… ستأكل الكلاب من دم البراق " ( ص 468 )

فهو بهذه الأبیـــات لا ینقل إلینا الجو الدینی كما كان ، بل یقدم لنا صورة العذاب الذی عاناه محمد أكثر مما یجسم صورة النصر . ومحمد فی التاریخ لم یكن شهیدًا – حسب الاصطلاح المتولد فی بعد ، بل كان رمزًا للموقف والنضال . وهو یقول فی ضوء السیرة :

ولا ملأت حراء وصبحه الآیات والسور ( ص 184 )

وحراء هو الغار الذی نزل فیه الوحی على النبی ، بید أن السیاب یخلط بینه وبین غار (ثور ) - وثور فی الطریق إلى المدینة :

هذا حرائی حاكت العنكبوت

خیطًا على بابه ( ص 425 )

والعنكبوت حسب السیرة حاكت خیوطها على غار ثور (5) . وفی قول الشاعر :

وهبّ محمد وإلهه العربی والأنصار إن إلهنا فینا ( ص 402) استعادة لمواقف النصر فی تضامنه مع المغرب العربی ، وهو یشدد على كلمة ( العربی ) وصفـًا للإله حتى یؤكد عروبة المغرب ، أو لیظهر عروبته هو بصورة حادة بعد أن مر بتجربة الشیوعیة . 2- وإشارات التراث العربی القبلی نجد أصداءها عند الشاعر ، ففی قوله :

كما أكلوه إذ جاعوا إلههم……. ( ص400)

إشارة إلى بعض قبائل العرب ( روی أنهم بنو حنیفة ) ، إذ كانوا یصنعون آلهتهم من التمور ، فاذا جاعت القبیلة أكلت ما صنعته .

ویقول الشاعر :

أشم فیه عفن الزمان والعوالم العجیبة

من إرمٍ وعاد ( ص 605 )

وشاعرنا یتعامل مع ( إرم وعاد ) الواردتین فی القرآن الكریم كأنهما دلالة للعفن ، بید أن السیاب یختار فی قصیدة ( إرم ذات العماد – ص 602 ) روایة لقصة إرم - عن صیاد من الجنوب ( جد أبیه ) الذی تحدث عن أیام صباه ، وأنه رأى جنة عاد الضائعة ، ثم اختفت عنه ، وظل یبحث عنها ….وقد حاول السیاب هنا من خلال هذه الأسطورة التعبیر عن حنینه للماضی ، فمن قصص الحب المأثورة یضمّن الشاعر أبیـــاته :

وهی المفلـّیة العجوز وما توشوش عن حزام

وكیف شق القبر عنه أمام عفراء الجمیلة ( ص 318 )

ویعلق السیاب فی حاشیة القصیدة :

" هكذا أصبح اسم الشاعر العاشق عروة بن الحزام عند العامة الذین یروون قصة حبه لعفراء وموته ، ویرددون معانی قصیدته بشعر عامی " .

وتأخذ القصة مسارًا حزینًا وهو غریب على الخلیج ، وإذا كان قد استذكر قصة عروة وحزام فلا بدع أن تجد قصة عنترة وعبلة أصداءها كذلك :

……ذاك عنترٌ یجوب

دجى الصحاری إن حی عبلة المزار ( 604 )

ویعلق عز الدین إسماعیل فی مقاله " الشعر المعاصر والتراث العربی " :

" یستغل السیاب قصة الحب البدوی التی تردد فی التاریخ العربی ، وهی قصة عنتر وعبلة ، وذلك فی قصیدته - إرم ذات العماد - ولست فی حاجة أن أعید هنا ما قلته فی هذا التلاحم بین المأثور والواقع النفسی للشاعر ، فقد وجد الشاعر فی هذه القصة القبلیة توجیهًا نفسیًا كافیًا یجدد لنا المسار النفسی لشعوره الراهن ." ( 6 )

وأبو زید الهلالی - رمز البطولة العربیة الملحمیة له مكان أسطوری فی ثنایا قصائده ، حتى یتوافق مع اندفاعه وحماسه للعروبة :

والأمل الخالق من توثب الصغیر

الف أبی زید تفور الرغوة

من خیله الحمراء ( ص221 )

3- رمو ز من التاریخ العربی :

فی قصیدة ( مرثیة جیكور ) نجد حشدًا من الإشارات التاریخیة ساقها الشاعر فی معرض استهتار ، فهو یرمز للتاریخ بعصر ( تعبان بن عیسى ) ، وربما كان الاسم الأول لیسقط تعبه هو :

لا علیك السلام یا عصر تعبان بن عیسى وهنت بین العهود

ها هو الآن فحمة تنخر الدیدان فیها فتلتظی من جدید

ذلك الكائن الخرافی فی جیكور هومیر شعبه المكدود

جالس القرفصاء فی شمس آذار وعیناه فی بلاط الرشید

یمضغ التبغ والتواریخ والأحلام بالشدق والخیال الوئید

ما تزال البسوس محمومة الخیل لدیه وما خبا من یزید

نار عینین ألقتاها على الشمر ظلالا مذبحات الورید

كلما لز شمره الخیل أو عرى أبو زیده التحام الجنود

شد راحًا وأطلق المغزل الدوار یدحوه للمدار الجدید ( ص 407 )

فالشاعر مل حالة الخواء التی خلص إلیها أخیرًا من جراء مضغ التبغ والتواریخ والأحلام ، وقد لاحظنا حشدًا من الأسماء : الرشید – رمز البذخ ، والبسوس – معركة بكر وتغلب ، ویزید هو الذی أمر الشمر بقتل الحسین ، وكان مرتدیًا ثیابًا حمرًا ، وأبو زید اشتهر بملاحمه….. وفی هذه الإشارات جمیعًا رمز للحرب التی نجتر تفاصیلها بلا جدوى ، وهو یؤكد ثانیة فیقول :

لا علیك السلام یا عصر تعبان بن عیسى وهنت بین العهود !

4 – ومن الصوفیة رأینا الشاعر یستعمل ( ابن حلاج ) ، وهو تحریف للحلاج ( 858م – 932 م ) ، إذ یقول : ویا عهد كنا كابن حلاج واحد

مع الله إن ضاع الورى فهو ضائع (ص 354 ) ویرى د . إحسان عباس أنه استخف بفكرة التألیه ( 7 ) ، وهو هنا لا یدل على عمق إیمانه ، فیقول السیاب : الحسن ال بصری جاب أرض واق الواق ولندنَ الح دید والصخر فما رأى أحسن عیشًا منه العراق (ص301)

فهو یتخیل نفسه الحسن البصری الذی یمكن أن یكون أحد الاثنین أو كلیهما معًا :

1- الحسن البصری الصوفی (ولد فی البصرة 642م – 728 ).

2- الحسن البصری الرحالة الوارد فی قصص ألف لیلة ولیلة ، والباحث عن الكنوز، ویبدو لی من خلال معاینة أن الاحتمال الأول أكثر إقناعًا ، بسبب ارتباط الشاعر بالبصرة ، وبسبب الشعور الدینی الذی لازم السیاب ساعة مرضه . ونحن مع ذلك لا ننكر هنا أن ذكر ( واق الواق ) یدفعنا إلى التفكیر فی الاتجاه الثانی .

* * *

5- فیما وراء التاریخ من أساطیر وقصص دینیة – وأبرز رمز یستعمله الشاعر هو السندباد- صاحب الرحلات السبع ، وفی حیاة السیاب ضیاع ، والسندباد قالب أو قناع یصب فیه الشاعر معاناته واقتحامه وجوَبانه ، فیقول عن نفسه : ……. مثل سندباد یسیر حول بیضة الرخ ولا یكاد ( ص604) ویخاطب زوجته المنتظرة :

وجلست تنتظرین عودة سندباد من السفار ( ص 229 )

وبینما هو :

فلك سندباد ضل فی البحر

حتى أتى جزیرة تهمس فی شطآنها المحار ( ص654) وقصة قابیل وهابیل الواردة فی الكتب المقدسة یستعملها الشاعر رمزًا للشر فی قابیل ، ورمزًا لضیاع الحق لدى هابیل ، وهو یصرخ : قابیل فینا ما تهاوى أخوه ( ص383 ) والشاعر لا یرید أن یكون وریثا لقابیل خوفًا من أن یُسال السؤال الوارد فی التوراة بصورة إنكاریة :

ولا أكون وریث قابیل اللعین سیسألون

لمن القتیل فلا أقول

أأنا الموكل ویحكم بأخی ؟!

……….. إن قابیل المكبل بالحدید

فی نفسی الظلماء ….. ( ص552 ) یرمز هنا إلى قافلة الضیاع ، وهی اللجوء . لكن الفیتوری فی نقده لقصیدة ( قافلة الضیاع ) یذكر أن الأسطورة التی تعتمد علیها القصیدة تختلف اختلافًا جذریًا عن مأساة اللاجئین فی ارتكازها على التجربة .( 8 ) ویرد ذكر قوم یأجوج ومأجوج فی القرآن الكریم على أنهم مفسدون فی الأرض ( سورة الكهف 94 )، لكن الشاعر یستعمل الأسطورة وقد شرحها فی حاشیة ( ص 529 ) أن یأجوج ومأجوج یلحسان السور بلسانیهما كل یوم حتى تصبح فی رقة قشرة البصل ویدركما التعب ، فیقولان " غدًا سنتم العمل " وفی الغد یجدان السور على عهده من القوة والمتانة …..وهكذا حتى یولد لهما طفل یسمیانه ( إن شاء الله ) – فیحطم السور :

یأجوج یغرز فیه من حنق أظافره الطویله

ویعض جندله الأصم وكف مأجوج الثقیله

والسور باق لا یثل وسوف یبقى ألف عام

لكن ( إن شاء الإله )

طفلاً كذلك سمیاه

سیهب ذات ضحى و یقلع ذلك السور الكبیر ( ص529 )

وبعد ، فقد عرضت بعض هذه الرموز والإشارات فی سیاقها ، وأبنت مدى تداخلها فی نسیج السیاب الشعری . ولا شك أن هناك رموزًا أخرى فثقافة الشاعر وقراءاته قد لا تكون مسبورة الغور دائمًا ولدى مختلف القراء المختلفة ثقافاتهم .

إذن ، لتكن هذه جولة استكشافیة فی شعر السیاب وتصادیه مع التراث العربی فی الرموز والأساطیر .

ولمن یهمه الأمر أشیر إلى أننی كنت قد أصدرت كتابًا حول الأصداء القدیمة فی شعر السیاب - كما یتمثل ذلك فی لغة القرآن ، وأسالیب الشعر القدیم ، وقد صدرت الطبعة الثانیة عن مطبعة الحكیم ، الناصرة - ( 2006 ) .

الهوامش

1) عبد الجبار البصری : " دراسة جدیدة فی الشعر العربی المعاصر" ، الآداب ، نوفمبر 1964 ص 4 .

2) " أخبار وقضایا " ، مجلة شعر ، العدد الثالث السنة الأولى ص 111- 113 .

3) ن.م - ص 112

4) همزراح هحداش ( بالعبریة ) ، العددان 1-2 /1968 ، ص 33 .

5) ابن هشام : السیرة النبویة ، ج2 ص 13 .

6) الآداب شهر آب 1956 ص 64 .

7) إحسان عباس : بدر شاكر السیاب ،دار الثقافة ، بیروت – 1969 ، ص267 .

8) الآداب شهر آب 1956 ، ص 64 .
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 21:57|
مختارات شعریة فی وصف طبیعة حماة وعاصیها و نواعیرها :
یقول الشیخ عبد الغنی النابلسی :
والناس یدعونه العاصی هناك وقد أطاع قهرا على حكم المقادیر
عصى فلم یسق أرضا من حدائقهم إلا بحیلة وسواس النواعیر
وفیما یلی بعض ما قاله الشعراء القدامى والمحدثون فی حماة وعاصیها ونواعیرها.
یقول مجیر الدین بن تمیم :
أیا حسنها روضة ضاع نشرها فنادت علیه فی الریاض طیور
ودولابها كادت تعد ضلوعه لكثرة ما یبكی علیها یدور

وناعورة قد ألبست لحیائها من الشمس ثوبا فوق أثوابها الخضر
كطاووس بستان تدور وتنجلی وتنفض عن اریاشها بلل القطر
ودولاب روض كان من قبل أغصنا تمیس فلما غیرتها ید الدهر
تذكر عهدا بالریاض فكله عیون على أیام الصبا تجری

وناطقة كلما حركت ولیست بناطقة فی السكون
تـئن إذا دار دولابها فتطرب سامعها بالأنین
وتبكی ولیست بمجزومة بكاء المحب الكئیب الحزین
فتنطق بالصوت لا من فم وتقذف بالدمع لا من جفون
كأن لها میتا فی الثرى فأدمعها همع فی كل حین
إذا زمرت أطربت نفسها فغنت بمختلف اللحون
غناء یرقص كیزانها فیظهر فیهن وثب المجون

تأمل إلى الدولاب والنهر إذ جرى ودمعهما بین الریاض غزیر
كأن نسیم الروض قد ضاع منهما فأصبح ذا یجرى وذاك یدور
ناعورة مذ ضاع منها قلبها ناحت علیه بأنة وبكاء
و تعللت بلقائه فلأجل ذا جعلت تدیر عیونها فی الماء

ویقول ابن نباتة المصری :
أحسن بها ناعورة فی روضة عن جعفر یروی الهناء ربیعها
هذا ولیس یعد موج دموعها وتعد من فرط السقام ضلوعها

وناعورة قالت وقد ضاع قلبها وأضلعها كادت تعد من السقم
أدور على قلبی لأنی فقدته وأما دموعی فهی تجرى على جسمی

وناعورة قسمت حسنها على واصف وعلى سامع
وقد ضاع نشر الربى فغدت تدور وتبكی على الضائع

ویقول أبو تمام الحجام الأندلسی :
وذات شدو ومالها كلم كل فتى بالكؤوس حیاها
وطار لوح لها فأوقفها كلمحة العین ثم أجراها
كأنها قینة وقد قوطعت تسمع من قال دونها واها

ویقول سلیمان بن حسان النصیبی :
كم نعرت بالحمى ناعورة حنینها كالربط الناعر
فتارة تحسبها قینة تردد الزمر مع الزامر
وتارة ثكلى جرى دمعها فی مستهل والف ماطر
كأنما كیزانها أنجم دائرة فی فلك دائر

ویقول أبو الفرج الموفقی :
ناعورة تحسب فی صوتها متیما یشكو إلى زائر
كأنما كیزابها عصبة أصیبوا بریب الزمن الواتر
قد منعوا أن یلتقوا فغدا أولهم یبكی على الآخر

ویقول بدر الدین بن لؤلؤ الذهبی : وروضة دولابها إلى الغصون قد شكا
من حین ضاع نشرها دار علیها وبكى

ویقول عبد السلام المصری :
وروضة دولابها دائر موله من فرط أشجانه
فكله من وجده أعین تبكی على فرقة أغصانه

وقال ابن عبد السلام الدمشقی :
ودولاب روض قد شجانا أنینه وحرك منا لوعه ضمنها حب
ولكنه فی بحر عشق جهالة یدور على قلب ولیس له قلب

ویقول محمد كمال السراج :
وما من ناعورة وتئن دوما لتشبه مهجتی بالحزن یوما
سقم أضلاعها بالعد تحكی ضلوعی من فراق الإلف سقما
ولكن الأنین وبث شكوى یخفف ما بها وأذوب كتما
وأبكی من لظى نار بقلبی على ألمی وذی تبكی من ألما
وإن مدامعی من ذوب جسمی یجمدها الهوى فتجود نظما
وإن دموعها ماء قراح به تحیا وإن نثرته جما

ویقول ابن القضامی :
وذات شجو أسالت مدامعا لم تصنها
تبكی بفرط دموع ویضحك الروض منها


و یقول محمد بن الحسین الطاوی :
لحنینها حن الفؤاد التائق وبكى الكئیب المستهام الوامق
أنت أنین مغرب عن إلفه ودموعها مثل الجمان سوابق
تبكی ویضحك تحت سیل دموعها زهر تبسم نوره وشقائق

ویقول أبو المعالی سعد بن علی الوراق :
رب ناعورة كأن حبیبا فارقته فقد غدت تحكینی
أبدا هكذا تدور وتبكی بدموع تجری وفرط حنین

ویقول ابن حجة الحموی :
هوای بسفح القاسمیة والجسر إذا هب ذاك الریح فهو الهوى العذری
وفقری إلى رشف الرضاب الذی حلى من النهر حلى سائل الدمع فی النحر
یروق امتداد الجسر والقصر فوقه فیحلو طباق العیش بالمد والقصر
وقد أصبحت تلك الجزیرة جنة أ لم تنظروا الأنهار من تحتها تحری
تفوق عیون الزهر فوق شطوطها عیون المها بین الرصافة والجسر
وعاص رحیب الصدر قد خر طائعا ودولابه كالقلب یخفق بالصدر
وقد أشبه الخنساء نوحا وأنة وها دمعه قد جاء یبكی على صغر
فیا جیرة العاصی إذا ذقت ماءكم أهیم كأنی قد ثملت من السكر
ولولا بقایا طعمه فی مذاقی لما ظهرت هذی الحلاوة فی شعری

ویقول الشیخ عبد الغنی النابلسی :
ألا أیها الساری بعزم وهمة لنحو حماة زرت فی غایة الأجر
فلیست حماة فی الورى غیر جنة ألم تنظر الأنهار من تحتها تجری
بتنا على النهر فی قمر المسرات وللنواعیر أنات برنات
فوق المطیع لنا العاصی الذی انبسطت میاهه باضطرابات وموجات
سقى حماه وحیا الله جیرتها من بلدة أشبهت روضات جنات
والجسر بالقرب منا كالصراط بدا ونحن فی غرفة ذات ارتفاعات

وللشیخ عبد الغنی النابلسی فی حماة والعاصی شذرات شعریة أخرى منها:
إن حماة بلدة شریفة ریح الصبا طاب بها مهبه
من جاءها صادف فیها ما اشتهى و إنما حماته تحبه

عاصی حماة هو النهر الذی عذبت میاهه قد عصا فی حسن تقدیر
شرابه لم تدر أیدی السقاة به إلا على حسن أصوات النواعیر

لله نهر به حماة زهت فلذة العیش حسن وادیها
حماته لم تزل مطیعة بشربها منه وهو عاصبها

ویقول ابن سعید الأندلسی :
حمى الله من شطی حماة مناظرا وقفت علیها السمع والفكر والطرفا
تغنی حمام أو تمیل خمائل وتزهو میاه تمنح الواصف الوصفا
یلومون أن أعصی التصون والنهى بها وأطیع الكاس واللهو والقصفا
إذا كان فیها النهر عاص فكیف لا أحاكیه عصیانا وأشربها صرفا
وأشدو إلى تلك النواعیر شدوها وأغلبها رقصا وأشبهها عزفا
تئن وتذری دمعها فكأنما تهیم بمرآها وتسألها العطفا

ویقول الشیخ صباح
حماة التی ما مثلها بلد لكل دان من الأهلین أو قاصی
ترق قلبا لأحوال الغریب لها حتى نواعیرها تبكی على العاصی

ویقول صفی الدین الحلی:
أطعت داعی الهوى رغما عن العاصی لما نزلنا على ناعورة العاصی
والریح تجری رضاء فوق جدولها والطیر ما بین بناء وغواص
وقد تلاقت فروع الدوح واشتبكت كأنما الطیر فیها فوق أقفاص

ویقول الصافی النجفی :
هذی حماة مدینة سحریة وأنا امرؤ بجمالها مسحور
یا لیت شعری ما أقول بوصفها وحماة شعر كلها وشعور
یا لیت أنی كنت فیها طائرا وعلى المناظر كلهن أطیر
إن قصر الإنسان فی تعمیرها فمن الطبیعة كلها معمور
أنی مشیت فجنة وخمائل أو أین سرت فأنهر وجسور
حتى خرائبها تلوح كأنها لجلالها السامی البهی قصور
یا لیت أنی كنت فیها طائرا وعلى المناظر كلهن أطیر
لو كنت أبصر كلها للثمتها وودت كلی أعین وثغور
وكأن شهب الأفق جن بها الدجى نزلت بصاحبها الجمیل تدور
وإذا تموج ماؤه رقصت به شهب السماء فعمهن حبور
وترى النجوم تصادمت وتكسرت قطعا كما یتكسر البلور
وكأن نجما راح یلثم ثانیا حتى تمازح أوجه وغور

ویقول حسن الرزق عن طاحونة الغزالة وناعورة الجسریة :
ودولاب رأى حسن الغزالة فرام وصالها فأبت وصاله

ویقول علاء الدین بن غانم :
حماة فی بهجتها جنة وهی من الغم لنا جنة
لا تیأسوا من رحمة الله فقد أبصرتم العاصی فی الجنة

ویقول بدر الدین الحامد عن الناعورة والعاصی :
الدهر بین یدیك دان عجبا لشأنك أی شان
أفنى الجبال وما له بك یا ولیدته یدان
أترى أخذت على الزما ن وصرفه عهد الأمان
عاصیك یغسل مطرفیـ ــك وأنت فی ظل الجنان
عیناك من قبل المسیـ ـح وأمه نضاحتان
ما أنت یا لدة الخلو د تكلمنی فالوقت حان
وإذا الظلام بدا وألـ قى فوق وادیك الجران
مثلت عفریتا یزمــ ــجر محنقا ما بین جان
فالأشوس الصندید إن لقاك فی الأسحار هان
نــــاعورة دوارة عاصی حماة بها یزان
أمواه عاصیها تقلـ ــبها فهل هی خیزران
ولها قبیل الفجر تـر جیع یردده المكان
خلدت على مر العصو ر فلن تبید ولن تهان

ویقول مخاطبا أحمد شوقی عند زیارته بلاد الشام :
أرأیت مثل بلادنا جمالا ما بین مدن زرتها ونواح
وهناك عند أبی الفدا عاص بها یطفی أوام الظامئ الملتاح

ویقول عن العاصی :
تحدرت فی الأحقاب من عهد آدم أما یرعك الدهر تترى عجائبه
إذا ما انقضى جیل وودع آخر تولیت جیلا فی الحیاة تصاحبه
كأنك فی هذا الوجود مخلد رویدك فالتخلید أعیت مطالبه
أتذكركم حلت حماك فیالق تناوئ من یزری بها وتحاربه
إذا أنت رافقت العصور ولم تزل تصارع آذی الفنا وتغالبه
ألا أیها العاصی بحسبك ما جرى فذلك ماض ودعتنا مثالبه

ویقول منذر لطفی :
بلد طیب وشعب أصیل نهر ضاحك ودنیا بتول
ذاك وادی حماة نبع الجما لات تلفت فكل حسن دلیل
ریشة تبدع الرسوم العذارى ألق غامر وظل ظیل

ویقول ولید قنباز :

وحماة لؤلؤتی الجمیلة كلما قلبتها فی ناظری تتألق
أفقان هذا الكون أفق أخضر غرقت حماة به وأفق أزرق
فی جنة للعاشقین فمن رأى قلبا بأجمل جنة یتحرق

ویقول عدنان قیطاز عن الناعورة :
بنت الزمان وأنت آیة صنعه من ذا الذی أغراك بالدوران
من عهد آدم لم تزل هتانة عیناك ما فترت عن الهملان
و لم الأنین وأنت فی وادی حما محفوفة بالروح والریحان

ویقول میخائیل بطرس عن العاصی :
أمن السما العلیا هبطت إلى الثرى أم من هضاب الدیر ماؤك قد جرى
یا نیل سوریة وبهجة شعبها من أی عهد سلت فیها كوثرا


ویقول صلاح الدین الصفدی :
لقد نزلنا على العاصی بمنزلة زانت محاسن شطیه حدائقها
تبكی نواعیره العبرى بأدمعها لكونه بعد لقیاها یفارقها

ویقول أحد الأعراب :
باتت تحن وما بها و جدی وأحن من وجد إلى وجد
ودموعها تحیا الریاض بها ودموع عینی أحرقت خدی

ویقول أحدهم :
ناعورة فی النهر أبصرتها تشوق الدانی والقاصی
قد نبهتنا للهدى والتقى لأنها تبكی على العاصی

ویقول آخر :
أیها السائل عنی سلبوا العادة منی
كنت أسقى وأغنى صرت أسقی وأغنی

وأخر :
وإنی على نفسی لأجدر بالبكا إذا كانت الأخشاب تبكی على العاصی


وآخر :
وناعورة أنت فقلت لها اقصری أنینك هذا زاد للقلب فی الحزن
فقالت أنینی إذ ظننتك عاشقا ترق لحال الصب قلت لها إنی

وأخر :
ناعورة فی سیرها ولهانة وحائرة
الماء فوق ظهرها وهی علیه دائرة

وأخر :
أبدى لنا الدولاب قولا مع ندى لما رآنا قادمین إلیه
إنی من العجب العجاب كما ترى قلبی معی وأنا أدور علیه

وأخر :
ناعورة قالت لنا بأنینها قولا ولا تدری الجواب علیه
كم فیی من عجب یرى مع أننی أبدا أسیر ولا أفارق مضجعی
لا راس فی جسدی وقلبی ظاهر للناظرین وأعینی فی أضلعی

وآخر :
إنما الدولاب فی دوره یهیم من شوق وأشجان
ینوح حزنا ویرى باكیا بأعین تهمی على البان

وآخر :
لقد كنت غصنا فی الریاض منعما أمیس ونصبی أمان فی الخفض
فصیرنی صرف الزمان كما ترى فبعضی لما لاقیت یبكی على بعضی

وآخر :
لله دولاب یفیض بجدول فی روضة قد لأینعت أفنانا
فكأنه دنف یدور بمعهد یبكی ویسأل فیه عمن بانا
ضاقت مجاری جفنه عن دمعه فتفتحت أضلاعه أجفانا
   

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 21:56|

*تجدُّدُ موسیقا الشِّعْرِ العربیِّ الحدیث
بین التفعیلة والإیقاع*


* "ولم یَقصرِ اللهُ العلمَ ، والشعرَ، والبلاغةَ على زمنٍ دون زمنٍ،

ولا خصَّ به قوماً دون قومٍ.
بل جعل ذلك مشتركًا مقسومًا بین عباده فی كل دهْرٍ،
وجعل كل قدیم حدیثاً فی عصره ".
(ابن قتیبة: الشعر والشعراء)*
*

*
*تمهید:

فی بحثی هذا عن تجدد موسیقى الشعرالعربی الحدیث أهدف إلى أمرین:
أولهما : محاولة الوقوف على أثر هذه الموسیقا فی تطویر الشعر، وتجدد أشكاله
وتعدد صوره. ، إیجابا(بتحققها) ، كما فی :الموشحات والمخمسات والرباعیات ،
والمواویل، والمزدوجات ،وصولا إلى الشعر الحر(التفعیلة)، و سلبا (بغیابها)
كما فی قصیدة النثر(الإیقاع).


والثانی : الكشف عن فاعلیة هذه الموسیقا فی بناء القصیدة ، وتشكیلها تشكیلا
فنیا خاصا. بما یجعل من الموسیقا مدخلا للولوج إلى فهم البنیة والدلالة.
ولهذا حاولت ألا أكتفی برصد صور التجدید وظواهره ، بل كنت أعنى بالكشف عن
أسباب لجوء الشاعر إلى إیثار صورة ما للتعبیر عن تجربته ، كما رأیت فیما
أسمیته ظاهرة الالتفات العروضی . وهو أن یبدأ الشاعر بنمط من أنماط الشعر
أو بحر من البحور ، ثم یأخذ فی غیره لدلالة یقصدها.


ووصف شعرٍما بأنه حدیث وصف زمنی لا یوحی بحكم قیمة فرب حدیث أفضل من قدیم
ورب حدیث فی وقته یوصف بعد ذلك بالانحطاط ؛ فالشعر الذی كتب إبان عصور
الانحطاط الأدبیة كان فی وقته حدیثا !
لهذا صدرت البحث بكلمة ابن قتیبة المنصفة :
"ولم یَقصرِ اللهُ العلمَ ، والشعرَ، والبلاغةَ على زمنٍ دون زمن، ولا خصَّ بها قوماً
دون قومٍ. بل جعل ذلك مشترَكاً مقسوماً بین عباده فی كل دهر، وجعل كل قدیمٍ
حدیثاً فی عصره ". (ابن قتیبة: الشعر والشعراء)

أما المراد بالحدیث هنا وصفا للشعر فللدلالة على محاولات التجدید فی
الموسیقا الشعریة قبیل النصف الثانی من القرن العشرین المیلادی حیث بدأ
التجدید فی القصیدة الحدیثة یتجاوز المعانی والصور والأفكار إلى تجارب فنیة
تتصل بالتشیكل الموسیقی ، فبدأت محاولات الشعر المرسل و الشعر المنطلق
والشعر الحر والشعر المنثور ، وصولا إلى قصیدة النثر أو قصیدة الإیقاع .

أما أهم اتجاهات التجدید ومدارسه فی عصرنا الحدیث فهی: مدرسة الإحیاء،
وجماعة الدیوان، وجماعة أبولو ومدرسة المهجر، ثم جماعة مجلة شعر.

ثم عرفت موسیقا الشعر وبینت أهمیتها من حیث هی عنصر واحد من عناصر بناء
الشعریتضافر مع سائر العناصر فی بناء النص الشعری وتشكیله.
وهی عنصر مهم كاشف عن جانب من جوانب أسرار البناء الفنی .
وقد استعملت مصطلحات الموسیقا والوزن، والإیقاع وقد وصلت إلى معادلة یمكن
تصویرها على النحو التالی:
الموسیقا الشعریة = الوزن + الإیقاع
فالوزن وحده یعنی النظم ، وهو إذا خلا من الإیقاع یقع فی التنافر، والإیقاع
وحده لا یحقق الموسیقا الشعریة بل هو عنصر من عناصرها ، یحقق الانسجام الذی
یكون فی الشعر كما یكون فی النثر. هو خصیصة من خصائص الكلمة الفصیحة فی
النثر والشعر جمیعا، كما یقول ابن أبی الإصبع : " وهو أن یأتی الكلام
متحدرا كتحدر الماء المنسجم، سهولة سبك وعذوبة ألفاظ، حتى یكون للجملة من
المنثور والبیت من الموزون وقع فی النفوس وتأثیر فی القلوب ما لیس
لغیره"(تحریر التحبیر : 480)

أما مناقشتی لبدائل التفعیلة فی تصویر الوزن فقد كانت فی إطار علم العوض،
أعنی فی إطار تصویر أوزان القصیدة العربیة الأصیلة، ولم تكن على مستوى
الإبداع ، ولهذا صرحت بأن حواری فی هذا البحث لم یكن مع المبدعین فللمبدع
ما كان مبدعا أن یختار ما یناسب تجاربه ورؤاه ، ولكن كان نقاشی مع علماء
الموسیقا الشعریة من جهة ، ومع نقاد قصیدة النثر المنافحین عنها من جهة أخرى.

أما عن ترجیحی لاتخاذ التفعیلة أساسا لتصویر الوزن العروضی للقصیدة العربیة
فمبنی على إدراك اتساقها مع طبیعة اللغة العربیة ذاتها بصفتها لغة
اشتقاقیة. ثم لدقتها وموضوعیتها فی هذا التصویر ، فلا یختلف اثنان فی
التعبیر عن صورة الوزن إذا هما لجأا إلى التفعیلة بینما إذا لجأ نفر إلى
اتخاذ غیرها كالنبر أو المقاطع وجدت بینهم اختلافا كثیرا.

ولیس ترجیحی للتفعیلة نفیا لاستعمال غیرها من الوسائل الصوتیة معها ، بل
أرى أهمیة الاستئناس بتلك الوسائل على ألا تكون بدیلا للتفعیلة بل مساعدا
لها، للوقوف على أسرار موسیقا الشعر.

ولیس نقدی لبعض مقولات نقاد هذه القصیدة الجدیدة رفضا لها بل هو نقاش معهم
یهدف إلى محاولة تحریر المفاهیم النظریة حولها، ومنها مفهوم مبدأ التعویض.
الذی احتل مكانة كبیرة لدیهم.

وقد رأیت أن مفهوم التعویض لدى نقاد قصیدة النثر (الإیقاع)

وقد أفرزت هذه المدارس أنماطا عدة بقی منها فی المشهد الشعری ثلاثة أنماط
ما یزال لها مبدعوها ونقادها والمتذوقون لها وربما وصل الإعجاب بأحدها إلى
درجة التعصب ورفض ما عداها، وهی:

أولا: الشعر الأصیل: وهو المحافظ على الشكل الموسیقی للقصیدة العربیة
القدیمة مع التجدید فی إطارها من حیث ابتكارصور جدیدة ، والتنویع فی نظام
التقفیة .
ویطلق علیه كثیرون تسمیات غیر منهجیة مثل:
• الشعر التقلیدی: وهی تسمیة توحی الانتقاص إذ تنسبه إلى التقلید ، وسوف
ترى أن كل نمط یبدأ جدیدا وینتهی إلى التقلید فی الشكل. فمن الظلم ان یسمى
تقلیدیا .
• الشعر الخلیلی: وهی أیضا تسمیة خاطئة ، لأن هذا الشعر موجود من قبل
الخلیل كما عبر الشاعر:
قد كان شعر الورى صحیحا من قبل أن یخلق الخلیل
ومن المعروف أن العلماء زادوا على الخلیل بحرا مشهورا هو المتدارك ، كما
زادوا صورا عروضیة مبتكرة عما قرروا الخلیل كل هذا فی إطار هذا الشعر. فعلم
العروض من أكثر العلوم قابلیة للتجدید والتطویر منذ نشأته.

• الشعر العمودی أو (العامودی) : أطلقوا هذا الاسم ظانین أن العمود مرتبط
بالشكل العروضی وهو خطأ؛ لأن عمود الشعر مرتبط بالمعنى واللفظ والتحام
البناء فی الأساس .
• شعر الشطرین : وهی كذلك تسمیة غیر دقیقة لأن من هذا الشعر شعرا یُؤلف على
شطر واحد كالشعر الجاری على المشطور والمنهوك من البحور.
• شعر البیت: وأرى أنها تسمیة مقبولة من حیث الوزن ؛ لأنه من الممكن النظر
إلى البیت بصفته وحدة موسیقیة تمثل معظم الخصائص الموسیقیة للقصیدة، أما
إذا كان المراد بها أن البیت وحدة القصیدة بعامة فهی مرفوضة ، فالقصیدة
العربیة القدیمة وحدة واحدة كما یوضح عبد القاهر قائلا: "ولكن البیت إذا
قطع عن القطعة كان كالكعاب تفرد عن الأتراب، فیظهر فیها ذل الاغتراب".
(أسرار البلاغة : 206)
فبان من هذا وغیره من نصوص التراث خطأ أن یكون البیت وحدة القصیدة.

على أن لیس فی تسمیته بالأصیل انتقاص لغیره من الأنواع المبتكرة، فهذه
الأشكال إنما هی فروع عنه، دون أن یلغی احدهما الآخر.

ثانیا: الشعر الحر:
وقد شاع هذا المصطلح رغم عدم دقته ، بل برغم ظلمه له ولأصحابه حتى اتهمه
معادوه بأنه متحرر من الوزن والقافیة ، وسموه أیضا بأنه شعر سائب، مما جعل
شاعرا منهم كصلاح عبد الصبورأن یقسم لهم : "موزون والله العظیم".
ولكن أدرك الدرس العروضی والنقدی خطأ هذا المصطلح فی التعبیر عن المراد به،
فذهب إلى تسمیته بشعر التفعیلة.
وقد بان من البحث أن شعر التفعیلة وفق توفیقا واضحا فی تفجیر الطاقات
الموسیقیة التراثیة فی القصیدة مدركین قیمة التفعیلة والقافیة فی تشكیل
القصیدة تشكیلا موسیقیا موحیا .

ثالثا: قصیدة النثر: وقد وقف كثیر من الرافضین لها عند التناقض الظاهر فی
المصطلح وقد دعوت هنا إلى تجاوز الجدل حول هذا الأمر لأنه من الممكن النظر
إلیه على أنه تقیید للقصیدة بأنها نثر ، كما فی مصطلح (اسم الفعل) لدى
النحاة لقسم من أقسام الكلم فی العربیة ، وهو لیس متناقضا.
وحتى لو سلمنا بعدم دقة المصطلح فقد كان مصطلح الشعر الحر غیر دقیق وبالرغم
من هذا نجح هذا اللون من الشعر نجاحا كبیرا .

على أن من الدارسین من حاول إیجاد مصطلحات بدیلة ، أرى أقربها إلى الاشتقاق
والدلالة مصطلح (النثیرة) ویجمع على نثائر؛ فهو أفضل من تسمیات مقترحة مثل:
النسیقة، والعصیدة ، وكلها بعیدة عن الدلالة على هذا النمط ، ولا سیما
مصطلح : النثعیرة التی یأبها الاشتقاق . ویمجها الذوق.

ومن التسمیات تسمیة الشاعرعز الدین المناصرة لها بأنها القصیدة الخنثى .
وأنا أرفض مثل هذه التسمیات لأنها غیر موضوعیة.

وقد استعملت فی البحث مصطلح (قصیدة الإیقاع ) فی مقابل (قصیدة التفعیلة)
على فرض أن هذه القصیدة قد تخلت عن التفعیلة ولجأت إلى الإیقاع، وقد ناقشت
هذا الفرض.
والإیقاع یختلف عن الموسیقا فهو جزء من كل ، ولیس تحقق الإیقاع فی قصیدة
النثر تعویضا عن الموسیقا الغائبة فقد أكد كثیر من الباحثین أن الإیقاع
یكون فی النثر كما یكون فی الشعر.

وقد حاول نقاد هذه القصیدة البحث عن أسباب هذا الإیقاع ورصدها، والتقنین له
من خلال طرح التساؤل:
لقد وفق الخلیل فی رصد موسیقا الشعر العربی ، ونجح ابن سناء الملك فی كشف
القوانین الموسیقیة للموشحات ، واهتدت نازك الملائكة فلماذا لا یأتی مكتشف
لإیقاعات قصیدة النثر فیعمل لها ما عمله الخلیل وابن سناء ونازك.
وأرى أن مهمة هذا المكتشف المنتظر صعبة إن لم تكن مستحیلة؛ لأن الذی ساعد
هؤلاء السابقین أنهم تعاملوا مع أشكال لها موسیقاها رغم تنوعها. أما قصیدة
النثر فما تزال تبحث عن إیقاعها المرتجى . ومن یدری ربما وصلت إلیه یوما
فلا تضطر نقادها إلى تكلف القول فی بدائل غیر مجدیة.

لم یكن نقاشی هنا مع شعراء قصیدة النثر؛ لأن للمبدع - ما كان مبدعا - أن
یختار النمط الذی یناسب تجربته ورؤیاه ، وإنما كان حواری مع نفر من نقاد
هذه القصیدة یفتعلون خصومة بینها وبین الأنماط الأخرى ، كما لاحظت فی خطاب
الناقد الكبیر صلاح فضل الذی یتحدث عنها بلغة ثوریة حربیة، مع ان هذه
الخصومة لیست حاضرة فی أذهان كثیرین من مبدعی قصیدة النثر، مثل نزیه أبو
عفش الذی یبدع أیضا فی قصیدة التفعیلة ، ومثل الشاعر عماد الغزالی الذی عاد
إلى النبع فی دیوانه "لا تجرح الأبیض"


وبعد فأرجو أن تكون كلمتی تلك التی أثارتها شجون موسیقا الشعر وتجددها
وتجلیاتها حضورا وغیابا ، وأن تكون دعوة لنبذ التعصب، ومحاولة التعایش
الإیجابی بین الأنماط الثلاثة ولنذكر أن شعر التفعیلة لم یلغ الشعر الأصیل
بل تعایشا معا تعایشا أفاد كلیهما. وما زالا حاضرین فی المشهد الشعری ولن
یضیرهما أن تنجح قصیدة النثر فی اتخاذ مكان لها فی المشهد الشعری معهما، بل
لا ضیر للثلاثة فی أن یصدر شكل رابع جدید ؛ لأننا لا بد أن ندرك أن قصیدة
النثر لیست نهایة التاریخ الأدبی.*
**
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 21:55|
مناقشة نقاد قصیدة النثر:


أثار مصطلح قصیدة النثر منذ مولده أو بالأحرى اجتلابه إلى البیئة العربیة
العدید من النقد أبرزه ملاحظة التناقض بین طرفی المصطلح ، ویرى الدكتور عبد
القادر أن هذا المصطلح یثیر مفارقة واضحة بین طرفی القصیدة والنثر فیقول :
" وقد أثارت المفارقة الواضحة بین طرفی المصطلح " القصیدة والنثر " - وما
زالت تثیر- كثیرا من الجدل ".(57)
وأرى أن على النقد تخطی ذلك الجدل ؛ لأن هذا اصطلاح، ولا مُشاحَّة فی الاصطلاح
كما علمنا علماؤنا الأوائل.
كما یجب ألا ننسى أن الشعر الحر أیضا قام على مصطلح غیر دقیق ، ولم ینته
الشعر الحر بسبب ذلك.
وقد نشأت مصطلحات أخرى مهدت فی العربیة لهذا النوع مثل :
"الشعر المنثور الذی یعرفه أمین الریحانی قائلا: : " یدعى هذا النوع من
الشعر الجدید.
بالإفرنسیة Vers Libres وبالإنكلیزیة Free Verse - أی الشعر الحر الطلیق-
وهو آخر ما اتصل إلیه الارتقاء الشعری عند الإفرنج وبالأخص عند الإنكلیز
والأمیركیین. فشكسبیر أطلق الشعر الإنكلیزی من قیود القافیة. وولت وتمن
Walt Waiman الأمیركی أطلقه من قیود العروض كالأوزان الاصطلاحیة والأبحر
العرفیة. على أن لهذا الشعر الطلیق وزنا جدیدا مخصوصا وقد تجیء القصیدة فیه
من أبحر عدیدة متنوعة..(61)
لاحظ أنه یتحدث عنه بصیغة الحدیث عن آخر صیحة!
ولتوفیق الحكیم تجربة یعبر عنها قائل:"ولقد أغرانی هذا الفن الجدید فی
السنوات العشرین من هذا القرن وأنا فی باریس بالشروع فی المحاولة فكتبت بضع
قصائد شعریة نثریة من هذا النوع ، وهو لا یتقید بنظم ولا بقالب معروف".(62)
أما حسین عفیف فقد عرفه بأنه :
"یجری وفق قوالب عفویة یصبها ویستنفدها أولا بأول, لا یتوخى موسیقى الوزن
ولكنه یستمد نغمته من ذات نفسه. لا یشرح ومع ذلك یوحی عبر ایجازه بمعان لم
یقلها, لیس كشعر القصید ولا كنثر المقال ولكنه أسلوب ثالث".
وفی تعریف آخر له یقول :" الشعر المنثور یتحرر من الأوزان الموضوعة ولكن
لا, لیجنح الى الفوضى, وانما لیسیر وفق أوزان مختلفة یضعها الشاعر عفو
الساعة ومن نسجه وحده, أوزان تتلاحق فی خاطره ولكن لا تطرد, غیر أنها برغم
تباین وحداتها, تتساوق فی مجموعها وتؤلف من نفسها فی النهایة هارمونیا
واحدة, تلك التی تكون مسیطرة علیه أثناء الكتابة.(63)
لكن أنسی الحاج یفرق بین المصطلحین فیقول:" لكن هذا لا یعنی أن الشعر
المنثور والنثر الشعری هما قصیدة نثر، إلا أنهما- والنثر الشعری الموقع على
وجه الحصر- عنصر أولی فی ما یسمى قصیدة النثر الغنائیة. ففی هذه لا غنى عن
النثر الموقع.(64)
أما البدایة الفعلیة فترجع إلى جماعة مجلة شعر التی تأسست فی بیروت 1957م
بریادة كل من یوسف الخال ، وخلیل حاوی، ونذیر العظمة، وأدونیس ، ثم انضم
إلیها : شوقی أبو شقرا وأنسی الحاج ، ودعمها من خارجها جبرا إبراهیم جبرا و
سلمى الجیوسی (65) ویصرح أنسی الحاج بأنه :
" صاحب أول وثیقة فی قصیدة النثر المكتوبة بالعربیة دیوان (لن) هو الكتاب
الأول المعرف نفسه بقصیدة النثر والمكتوب بهذه الصفة تحدیدا.. والمتبنی
لهذا النوع تبنیا مطلقا.(66)
فماذا قال فی مقدمته التاریخیة تلك ؟
قال: " هل یمكن أن نخرج من النثر قصیدة؟ أجل، فالنظم لیس هو الفرق الحقیقی
بین النثر والشعر. لقد قدمت جمیع التراثات الحیة شعرا عظیما فی النثر، ولا
تزال. وما دام الشعر لا یعرف بالوزن والقافیة، فلیس ما یمنع أن یتألف من
النثر شعر، ومن شعر النثر قصیدة نثر".(67)
تعریف قصیدة النثر:
أوردت الموسوعة العربیة العالمیة تعریفا منصفا لها ، یتضمن أغلب مقولات
أنصارها ، حیث عرفتها بأنها:
" جنس فنی یستكشف ما فی لغة النثر من قیم شعریة ، ویستغلها لخلق مناخ یعبر
عن تجربة ومعاناة، من خلال صور شعریة عریضة تتوافر فیها الشفافیة والكثافة
فی آن واحد ، وتعوض انعدام الوزن التقلیدی فیها بإیقاعات التوازن والاختلاف
والتماثل والتناظر معتمدة على الجملة وتموجاتها الصوتیة بموسیقا صیاغیة تحسُّ
ولا تُقاس".(68)
موقف من التراث:
وبینما كان رواد (الشعر الحر(التفعیلة) معنیین بصلتهم الوثقى بالتراث
الشعری والعروضی العربی فإن من رواد قصیدة النثر من لم یهتم بهذه الصلة ،
بل إن منهم من صرح بالاغتراب عن هذا التراث العربی یقول أنسی الحاج:
"أشعر بالغربة فی المقروء العربی... قراءة العربیة تصیبنی بملل لاحد له،
وما أبحث عنه أجده فی اللغة الفرنسیة؛ لأن الفرنسیة هی لغة (الانتهاك)
بینما العربیة لغة (مقدسات) ".(69)
وهذا تعمیم غیر علمی وشبهة مردودة فاللغة -أیة لغة- قادرة على أن تعبر عن
المقدس وغیرالمقدس .
ومنهم من عد الاهتمام بالبحث عن جذور أو أصل فی التراث خللا كالشاعر قاسم
حداد؛ إذ یقول " ثمة خلل فی الصدور عن إحساس بضرورة تأصیل كل ظاهرة فنیة
لمرجعیة محددة ، كأن تكون الكتابة ، خارج الوزن ، معطى منسوخا عن تجربة -
قصیدة النثر الغربیة ، أو أن یكون لهذه الكتابة أسلاف فی التراث العربی ".
(70)
وفی المقابل حاول نفر منهم تعویض النشأة الأجنبیة لقصیدة النثر اصطلاحا
وتعریفا وشروطا قائمة كلها على نماذج من الأدب الفرنسی، فلجؤوا إلى التراث
العربی القریب ناسبین قصیدة النثر إلى جبران ومصطفى صادق الرافعی، والبعید
مفتشین عن نماذج لابن حزم ، أبی حیان الأندلسی، وابن عربی.
أما على مستوى التنظیر فلجؤوا إلى بعض النصوص التراثیة للاستئناس بها
لقواعد سوزان برنار ، مثل النص الذی أورده عبد القاهر: "حین رجع عبد الرحمن
بن حسّان إلى أبیه حسَّان وهو صبیّ، یبكی ویقول لَسَعَنی طائر، فقال حسان: صِفْهُ یا
بُنیَّ، فقال: كأنه مُلْتَفٌّ فی بُرْدَىْ حِبرَة، وكان لسعَهُ زُنْبُور، فقال حسّان قال ابنِی
الشِّعر وربِّ الكعبة ، أفلا تراه جَعل هذا التشبیه مما یُستدَلُّ به على مقدار قُوّة
الطبعِ، ویُجْعَل عِیاراً فی الفَرْق بین الذهن المستعدّ للشعر وغیر المستعدّ له".(71)
ولیس فی نص الجرجانی دلیل على أن الشعر یكون بغیر وزن؛ لأن تسمیة حسان ما
قاله ابنه شعرًا تسمیة مجازیة توحی بقوة استعداد ابنه للشعر فیما بعد كما هو
واضح من تعلیق عبد القاهر.
ومنهم من تمسك بقول الفارابی إن "القول الشعری قد یكون غیر موزون ". ولم
ینتبهوا أن القول الشعری للفارابی مختلف عن الشعر فالمقصود به الحجة
الشعریة فی اصطلاح الفلاسفة.(72)
موقف من الموسیقا:
یعبر أدونیس عن موقف رواد قصیدة النثر من الموسیقا قائلا:
" الوزن/ القافیة ظاهرة إیقاعیة- تشكیلیة لیست خاصة بالشعر العربی وحده
وإنما هی ظاهرة عامة، فی الشعر الذی كتب ویكتب بلغات أخرى، لكن على تنویم
وتمایز. الزعم إذن، بان هذه الظاهرة خصوصیة نوعیة لا تقوم اللغة الشعریة
العربیة إلا بها، ولا تقوم إلا بدءا منها واستنادا إلیها، إنما هو زعم واهٍ
جدا وباطل".(73)
یبدأ أدونیس بمقدمة سلیمة ، هی أن الوزن والقافیة ظاهر إیقاعیة لیست خاصة
بالشعر العربی وحده ، وهذا صحیح وقد بینه الزمخشری من قبل ، لكنه یقفز إلى
نتیجة خاطئة هی رفض ألا تقوم اللغة الشعریة إلا بها.
فهل وجود الوزن والقافیة فی شعر لغات أخرى ، ینفی أن یكونا عنصرین من عناصر
بناء الشعر العربی.
وكذلك فإن عدم وجودهما فی شعر لغة من اللغات " لیس مما یسلب الشعر كله من
موسیقاه"(74) كما یقول الدكتور أنیس.
بدائل الموسیقا:
بعد أن اتفق أصحاب هذا الاتجاه إهدار عنصر الموسیقا راحوا یبحثون عن بدائل
للتعویض فتوصلوا إلى عمود لقصیدة النثر مستقى من تنظیر برنار ، قائم على
شروط ثلاثة بدون أحدها یستحیل الحدیث عن قصیدة نثر، وكل شرط من هذه الشروط
یستدعی ملازما له على هذا النحو:
1- الإیجاز : الكثافة .
2- التوهج : الإشراق .
3- المجانیة : اللازمنیة.
مبدأ تعویض الموسیقا الغائبة:
وقد أشار أنسی الحاج إلى هذا القانون فقال عن قصیدة النثر إنها :" تستعیض
عن التوقیع بالكیان الواحد المغلق، الرؤیا التی تحمل أو عمق التجربة الفذة،
أی بالإشعاع الذی یرسل من جوانب الدائرة أو المربع الذی تستوی القصیدة
ضمنه، لا من كل جملة على حدة وكل عبارة على حدة أو من التقاء الكلمات
الحلوة الساطعة ببعضها البعض الآخر فقط" . (75)
وهو یشیر هنا إلى مبدأ الاستعاضة او التعویض الذی نقله عن سوزان وتلقاه
نقاد قصیدة النثر.
وقد بلور الدكتور صلاح فضل هذا القانون فقال " إن قصیدة النثر تعتمد الجمع
بین الإجراءات المتناقضة ؟ أی إنها تعتمد أساسا على فكرة التضاد، وتقوم على
قانون التعویض الشعری".(76)
وأنا أرى أن قانون التعویض هذا ملازم لقصیدة النثر وأصحابها فی أكثر من
مستوى بدءًا من المصطلح (قصیدة ) ومرورا بكتابة كلمة شعر على نصوصهم
ودواوینهم ، وإلحاح بعضهم، لا سیما الماغوط ،على الإكثار من مفردات " شعر
وقصیدة" فی نصوصهم.
والذی یعنینی هنا مبدأ التعویض عن عنصر الموسیقا، وأرى أنه قائم على مفارقة
عجیبة .
فالتعویض إنما یكون عما یفقده الإنسان لا بإرادة منه ، فحینئذ یلجأ إلى
تعویض ما خسره ، أما فی حالة قصیدة النثر فإن إهدار الموسیقا متعمد فما
معنى التعویض؟
إن الموسیقا فی الشعر إما أن تكون مهمة ، فلا تستحق الإهدار، أو غیر مهمة ،
فلا تحتاج إلى تعویض.
فهل من المعقول المقبول أن یفقأ إنسان عینیه ثم یقول : سأعوض عن حاسة البصر
بتنشیط حواسی الأُخَر؟!
لكنهم انطلاقا من شعورهم بالحاجة إلى تعویض للموسیقا الغائبة ، راحوا
یبحثون، حتى توصلوا إلى تبنی البدائل التالیة:
أولا: بدیل كمال أبو دیب: "الفجوة: مسافة التوتر":
أما كمال أبو دیب فیعترض على اتخاذ الإیقاع عوضا عن الموسیقا فی قصیدة
النثر فلدیه:
"لا یكون ثمة من كبیر جدوى فی تحدید الشعریة على أساس الظاهرة المفردة
كالوزن أو القافیة أو الإیقاع الداخلی أو الصورة أو الرؤیا أو الانفعال ".(77)
ولذلك یقترح مفهوما جدیدا یسمیه:"الفجوة أو مسافة التوتر وهو مفهوم:" لا
تقتصر فاعلیته على الشعریة بل إنه لأساسی فی التجربة الإنسانیة بأكملها بید
أنه خصیصة ممیزة".
بید أن ما یمیز الشعر هو أن هذه الفجوة تجد تجسدها الطاغی فیه فی بنیة النص
اللغویة بالدرجة الأولى وتكون الممیز الرئیسی لهذه البنیة". ویحاول أن یطبق
هذا المفهوم الذی (لا یقتصر على الشعریة بید أنه خصیصة ممیزة )على نص"فارس
الكلمات الغریبة" لأدونیس" ، حیث:"تبرز مسافة التوتر فی العبارة الواحدة
منذ اللحظة الأولى للنص:
"یُقْبلُ أعزلَ كالْغابة "
ذلك أن یقبل أعزل الخالیة من التوتر نهائیا تخلق ما سأسمیه بنیة توقعات
بعشرات الإمكانیات لكن النص یقدم اختیاره من خارج بنیة التوقعات "كالغابة"
ویفعل بذلك شیئین: یخلق فجوة: مسافة توتر نابعة من ربط العزلة بالغابة،
وفجوة أخرى نابعة من حصر دلالات الغابة اللانهائیة نظریا ، فی دلالة واحدة
تقع هی أیضا خارج بنیة التوقعات المرتبطة بالغابة".(78)
فهل تصلح هذه (الفجوة:مسافة التوتر) أن تكون بدیل الموسیقا الشعریة فی
القصیدة ، وممیز الشعریة فیها ؟
ثانیا : الإیقاع:
تعریف الإیقاع:( RHYTHM)
"الإیقاع أقدم الأنواع الموسیقیة . وهو العنصر الذی ینظم حركة الموسیقا
وتدفقها خلال الزمن."(79)
فالإیقاع جزء من الموسیقا وعنصر من عناصرها.
یقول الدكتور غنیمی هلال:" ویقصد به وحدة النغمة التی تتكرر على نحو ما فی
الكلام أو فی البیت ، أی توالی الحركات والسكنات على نحو منتظم فی فقرتین
أو أكثر من فِقَرِ الكلام، أو فی أبیات القصیدة ، وقد یتوافر الإیقاع فی
النثر، وقد یبلغ درجة یقرب بها كلَّ القرب من الشعر، أما الإیقاع فی الشعر
فتمثله التفعیلة فی البحر العربی ".(80)
لكن أصحاب قصیدة النثر فهموا الإیقاع فهما یتلاءم مع قصیدتهم، یقول الدكتور
النجار:"وهو - توفیق صایغ- إذ یستغنی عن إیقاع الوزن فإنه لا بد یستغنی عنه
بعناصر إیقاعیة أخرى هی ما یطلق علیه الإیقاع الداخلی ، وهو یشیر إلى إیقاع
فی النص باستثناء الوزن والقافیة الرئیسة".(81)
فقسم الإیقاع إیقاعین داخلی ومعنوی:
1- الإیقاع الداخلی:
یقول:"فكان هذا الإیقاع أبرز ما یكون متمثلا فی الحرص على أحرف العلة ، ومن
2- الإیقاع المعنوی
أ ، یقول الدكتور مصلح النجار: ثمة إیقاع یستند أساسا إلى جانب معنوی هو
التضاد اللغوی والتقابلات التی تحتشد فی الأسطر السابقة
العشی – الصباح / جاهلیة – الیقین/ لتعطی – لتأخذی.
وهذا یصنع إیقاعا معنویا ، ینضاف إلى ما یسمى الإیقاع الداخلی أیضا." (82)
وأنت تدرك أن النثر العربی القدیم كان بتلك المحسنات البدیعیة حفیا !
وقد حاول كمال خیر بك أن یحلل قصیدة للماغوط تحلیلا إیقاعیا مكتشفا فیها
"كتلا" إیقاعیة متناسبة بدرجة أو بأخرى، حسب تعبیره ، وهو یرى أن الشاعر
یفكر بإرادة واعیة فی إعطاء نصه مسحة موسیقیة منتظمة . (83)
أما الدكتور صلح فضل فیبشر بشعر آخر یتیح لنا:" أن نكتشف إیقاعا آخر غیر
الذی یكاد یصم آذاننا لشدة ما تعودنا رنینه".(84)
وهو یجد ضالته فی مقطوعة بعنوان " وتراءى له" للشاعر محمد متولی فی مجموعته
الشعریة بعنوان" حدث ذات مرة أن" التی یراها "تمثل نموذجا ناجحا لهذه
الثورة الشعریة فی مصر" وتذكره بما كانت تحدثه الدواوین الانفجاریة الأولى
من تأثیر :
"فی القطار/سیدة حافیة تغنی الآریا الأخیرة لموسیقار مجهول
وفئران تطعم من بطانة مقعدها/ شعراء فی هیئة شحاذین/ یتبادلون الصحف القدیمة
ومهرول یعثر على قدم حبیبته تحت الحقائب/ بینما شخیر الراكب یعلو..
علیك أن تحشو فمه بحذاء ممزق".(85)
ولن یعجز ناقدنا عن أن یلم شتات هذه الأشیاء فی فكرة "التآكل وانتهاء
العالم القدیم" وینتهی إلى حكمة مهمة ،هی:"ضرورة الصمت " كما یبرزها المشهد
الأخیر.
ثم یسألنا الناقد : هل تبشر المقطوعة بانتهاء عصر الغناء الرث والعواطف
الفجة التی لا تستحق سوى السخریة والازدراء والبتر العنیف".
هكذا یرى الناقد ضرورة الصمت ولو بالحذاء، أما الشخیر فهو فی تفسیره "عصر
الغناء الرث" الذی ینبغی أن یضرب بالحذاء
فهل لنا أن نفهم أن المقصود بالحذاء حسب تفسیر الناقد هو البدیل . ألا یرى
فی هذا إهانة للبدیل الذی یبشر به.
لا أظن ، لأن الناقد یتحدث بلغة ثوریة ، بل یدخل إلى البحث عن "شعر آخر
إیقاع آخر" وكأنه یدخل معركة ، إذ یقول:" أثبت عدد مجلة (الناقد) المخصص
لقصیدة النثر أن المخزون الاستراتیجی للشعریة العربیة منها عندنا أوفر مما
یقدره النقاد.. ویبدو أن قصیدة النثر أصبحت رایة الشباب الثائر على الأعراف".
ثم یتحدث عن مشكلة " غیبة الإیقاع الخارجی الظاهر المریح، واختفاء أنساق
التفعیلات العروضیة من فوق سطح النص" ، لیلجأ إلى حل أكثر راحة ألا وهو:
" أن نتوسع فی مفهوم الإیقاع ، ولا نقصره على نوع واحد "، فإذا نحن صنعنا
ذلك : "استطعنا أن نتبین ما تبقیه قصیدة النثر وتنمیه من إیقاعات".
وإذا ناقشنا هذا النقد بموضوعیة – بصرف النظر عن مناقشة قصیدة النثر ذاتها-
اكتشفنا أنه غیر منهجی، إن مثله كمثل من یقول :" لماذا لا تتوسع فی مفهوم
الذهب لیشمل الحدید والنحاس ؟ ألیست جمیعها معادن؟!
ثم یحدثنا الناقد عن " الترجیع الإیقاعی " فلیس ثمة إیقاع بدون ترجیع ،
وإذا كانت القصیدة تنبنی من كِسَرٍ مرصوصة ، ونثار وردی من التفاعیل المبعثرة
، تخلق بنسیجها الصوتی مجالاتها وأصداءها الموسیقیة المبتكرة – تظل جملة
"الموسیقى: خلفیة لا أكثر هی الرباط الذی یشد هیكل البنیة الإیقاعیة للقصیدة".
فهل ینجح هذا النقد فی تعویض الموسیقا المهدرة سلفا؟
أما الشاعر حلمی سالم( فی ندوة عُقدت بحلقة الزیتون الإبداعیة بالقاهرة
لمناقشة دیوان (نقرة إصبع شارك فیها المؤلف) راجع موقع الشاعرة فاطمة ناعوت
على الإنترنت : فیقطع الطریق على هؤلاء الذین یتكلفون البحث عن الإیقاع فی
قصیدة النثر قائلا:
"لقد كنا فیما سبق نردد مثل هذا الكلام حول الإیقاع فی قصیدة النثر، ولكنی
أقول الیوم: وما الذی سیحدث لو لم یكن هناك إیقاع أصلا؟ دعونا من ذلك
ولنتأمل لغة كل شاعر وأبنیته وصوره" .
وبعدُ ، فقد حكى طه حسین( 86) عن جوردان السوقة فی مسرحیة من مسرحیات مولییر
قوله :"یا للعجب إذًا فأنا أتكلم النثر منذ أربعین سنة ، ولا أدری؟"
ویعلق أدیبنا قائلا: " أخشى أیها السادة أن نكون جمیعا كما كان جوردان هذا
نفهم النثر من أنه كل كلام لم یتقید بالنظم والوزن والقافیة"
وأقول : لو قرأ جوردان بعض نماذج قصیدة النثر لقال : "أنا أتكلم قصیدة
النثر منذ أربعین سنة ، ولا أدری!"
أما طه حسین فیقول مستدركا ، ومدركا قیمة النثر:" وأنا إذا قلت النثر فلا
أعنی ذلك النثر الذی یفهمه جوردان ، إنما أقصد النثر الذی یفهمه الأدیب" .
ولإیمان طه حسین جاء نثره بدیعا من غیر حاجة إلى تعویض.
مستقبل قصیدة النثر:
هل لقصیدة النثر مستقبل
من العسیر أن یتنبأ الباحث الدارس لتاریخ الأدب بموت تجربة أدبیة حتى لو
كانت لا تروق له لأسباب موضوعیة أوغیر موضوعیة ؛ فقد علمنا تاریخ الأدب أن
الرفض مهما تكن مبرراته لا یمنع شیوع الشكل الجدید.
وأنت تعرف ما حُكی أن ابن الأعرابی قال، وقد أنشد شعراً لأبی تمام:
إن كان هذا شعراً فما قالته العربُ باطلٌ!
وقد أنصف التاریخ أباتمام دون أن یكون شعر العرب باطلا.
ولنا درس فی موقف العقاد الذی حاول التصدی للشعر الحر(التفعیلة) ، وبقی
الشعر الحر.
ومن الإنصاف أن یتجرع الشاعر الكبیر عبد المعطی حجازی من الكأس ذاتها التی
سقاها للعقاد!
وهل سینصت التاریخ الدبی لصیحة الناقد الكبیر الدكتور القط" :"إذا كان هذا
هو الشعر فأنا منه براء".(87)
وهل سیستمع ناشئة قصیدة النثر إلى تحذیر أدونیس یحذر من " الزیف الذی ینتشر
باسم التجدید. خصوصا أن الكثیر من هذا المزعوم تجدیدا ، یخلو من أیة طاقة
خلاقة ، وتعوزه حتى معرفة أبسط أدوات الشاعر: الكلمة والإیقاع".(88)
أما أنا فأرى – والله أعلم – أن الأشكال الثلاثة (قصیدة البیت ، و قصیدة
التفعیلة ، وقصیدة النثر أوقصیدة الإیقاع) سوف تستمر، وأن الصراع بینها
أیضا سیحتدم لكنی أتمنى أن یكون صراعا إیجابیا ولیس إقصائیا، فها أنت ترى
أن كل محاولات إقصاء الشعر الأول أو الثانی قد باءت بالفشل ، واستمرا رغم
حدة الخلاف بین أنصاریهما فی فترات سابقة .
وأن الشعرالأصیل (ولا أقول القدیم ) (المسمَّى خطأ بالشعر التقلیدی ،
أوالعمودی، أو بشعر الشطرین) والذی وصل إلى آفاق عالیة على ید مبدعین
كالجواهری وأبی ریشة والبردونی ، بما حققوا له من توهج وحیویة ، ما یزال
یواصل تجدده رغم المحافظة على الشكل على أیدی شعراء أخلصوا له ، كالدكتور
عبد اللطیف عبد الحلیم ، والدكتور سعد مصلوح ، وأحمد بخیت، وسمیر فراج ،
والدكتور عبد الرحمن العشماوی، وغیرهم، وسیظل یزدهر على أیدی ناشئة سیدركون
افتقاد محبی الشعر له ، لكنهم سیستمرون فی التجدید مفیدین من إنجازات الشعر
الحر(التفعیلة)، وقصیدة النثر(الإیقاع) معا.
فلیست قصیدة النثر وحدها التی تمتلك المخزون الاستراتیجی (بحسب تعبیر
الدكتور صلاح فضل).
وكما یجب على شعراء البیت، والتفعیلة البعد عن التقلید ، فإننی أرى أن على
حاملی لواء قصیدة النثر الجدد أن یتخلوا عن الشروط التی أراد الشعراء
المؤسسون ونقادهم أن یفرضوها علیها وعلیهم ،() وبعضهم یحاول ذلك كعماد
الغزالی وفاطمة ناعوت ورضا العربی ، حتى لا یظلوا فی انعزال عن أمتهم
وقضایا أمتهم ، وأن یتخلصوا من فكرة القطیعة، لیقللوا من خسائرهم. وأن
یدركوا مدى الخسائر التی تكبدوها بإصرارهم على إهدار الموسیقا الشعریة ،
فخسروا بذلك مكاسب حققتها قصیدة الشعر على مر العصور، منها:
1- الغناء
فإن هذا النفر من الشعراء سیحرم من أن یتغنى بقصائدهم النثریة، بما یمثله
هذا الغناء من ذیوع وانتشار وكسب مساحة جدیدة من المتلقین غیر القراء. وذلك
بسبب افتقارها إلى عنصر الموسیقا رغم تشبثهم بالإیقاع؛ لأن الإیقاع بحسب
تصورهم سیجعل ألحان هذه (النثائر) – إن هی لُحِّنتْ - متشابهة ومكرورة وبعیدة
عن ذوق المستمع العربی، حیث یحتاج إلى مط بعض الحروف لیعوض غیاب الوزن الأصیل.
2- المسرح الشعری
بما یمثله من ثراء فی التعبیر ، وتنوع فی الأداء الموسیقی، والوصول إلى
جمهور خاص.
وأتساءل لو أراد مبدع قصیدة النثر أن یكتب مسرحیة شعریة ماذا سیسمیها ؟
3- الاستشهاد:
فقد اعتاد كثیر من المثقفین حتى غیر المعنیین بالشعر منهم الاستشهاد ببض
الأبیات المأثورة من الشعر الأصیل(البیت) والشعر الحر(التفعیلة) كالاستشهاد
بأبیات الحكمة أو الغزل أو السیاسة مثلا .
فهل یستطیع أصحاب قصیدة النثر أن یصلوا إلى هذا المرتقى؟
هل یتاح لهم أن یسهموا فی بناء الوعی كما أتیح للشعرالأصیل وشعر التفعیلة؟
4- الجمهور المتلقی :
حتى إذا جادل أصحاب اتجاه قصیدة النثر وقالوا لا یعنینا الغناء ولا المسرح
الشعری فإن خسارتَهم الكبرى خسارةُ محبی الشعر الذین انصرفوا عنه انصرافا.
وأحسب أن الخسائر أكثر من هذا وأفدح ، ولكننی أتوقع من كثیر من أصحاب قصیدة
النثر أن یردوا على ذلك بأنهم غیر آبهین لهذه الخسائر، وأنهم زاهدون فی
تحقیق تلك المكاسب، وسیكون شأنهم معها شأن الذی أراد و لم یستطع أن ینال
العنب، فقال:
" إنه حصرم!"
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 21:54|
صنعةُ الكتابة عند العرب

الكتابة فی اللغة مصدر كتب یكتُبُ كتْباً وكتاباً وكِتابةً ومكْتَبة وكِتبة فهو كاتب ومعناها الجمع، ومنه قیل لجماعة الخَیل كتیبة،  ومن ثَمَّ سمِّیَ الخط كتابة لجمع الحروف بعضها إلى بعض. قال ابن الأعرابی: وقد نطلق الكتابة على العلم ومنه قوله تعالى فی سورة الطور/ 41: {أم عنْدَهمُ الغَیْبُ فَهُمْ یكتبُون}. أی یعلمون. وعلى حدِّ ذلك قوله (صلى الله علیه وسلم) فی كتابه لأهل الیمن حین بعث إلیهم معاذاً وغیره "إنی بعثت إلیكم كاتباً". قال ابن الأثیر فی غریب الحدیث:"أراد عالماً سُمِّی بذلك لأنه الغالب على مَنْ كان یعلم الكتابة أن عنده علماً ومعرفة، وكان الكاتب عندهم قلیلاً وفیهم عزیزاً".(1).

*فضل الكتابة:

أعظم شاهد لجلیل قدْرها وأقوى دلیل على رفعة شأنها أن الله تعالى نسب تعلیمها إلى نفسه، واعتدَّه من وافر كرمه وإفضاله فقال فی سورة العلق/4: {إقْرأ وربُّكَ الأكْرَمْ الَّذی عَلَّمَ بالْقَلَمْ عَلَّمَ الإنْسَانَ ما لَمْ یَعْلَمْ}. مع ما یروى أن هذه الآیة والتی قبلها مفتتح الوحی فی قول معظم المفسرین، وأول التنزیل على أشرف نبیّ وأكرم مرسل (صلى الله علیه وسلم)، وفیه دعوة إلى القراءة والكتابة والعلم. روى سعید عن قتادة قال: "القلم نعمة من الله تعالى عظیمة، لولا ذلك لم یقم دین، ولم یصلح عیش، فدلَّ على كمال كرمه سبحانه بأنه علَّم عباده مالم یعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبَّه على فضل علم الكتابة، لما فیه من المنافع العظیمة، التی لا یحیط بها إلا هو". (2). وفی ذلك من الاهتمام بشأنها ورفعة شأوها مالا خفاء فیه. ولذلك نقل صاحب البیان والتبیین: "القلم أحد اللسانین، كما قالوا: القلم أبقى أثراً واللسان أكثرُ هذراً".(3).

وقد بیَّن الله شرفها بأن وصف بها الحَفَظة الكرام من ملائكته فقال  جلَّتْ قدرته فی سورة الانفطار/5: {وإِنَّ عَلَیْكُمْ لَحَافِظِینَ كِرَاماً كاتِبِین}. ولا أعلى رتبةً وأبذخ شرفاً مما وصف الله تعالى به ملائكته ونعت به حَفَظَتَه، ثم زاد ذلك تأكیداً بأن أقسم بالقلم الذی هو آلة الكتابة وما یُسطَّرْ به فقال تقدَّست أسماؤه فی سورة القلم/1: {ن. والقَلَمِ وما یَسْطُرُون. وما أنْتِ بِنعْمَةِ ربِّكَ بِمَجْنُون}.  والإقسام لا یقع منه سبحانه إلا بشریف ما أبدع، وكریم ما اخترع: كالشمس والقمر والنجوم ونحوها، إلى غیر ذلك من الآیات الدالة على شرفها ورفعة قدرها. قال سعید  ابن العاص: "من لم یكتب فیمینه یُسْرى"، وقال معن بن زائدة: "إذا لم تكتب الید فهی رِجْل". وبالغ مكحول فقال: "لا دِیَّة لیدلا تكتب...". وقال ابن المقفع: "الملوك أحوج إلى الكتّاب من الكتَّاب إلى الملوك"(4).

وأورد القلقشندی(5) رسائل فی المفاخرة بین السیف والقلم، إشارة إلى أن بهما قِوام الملك وترتیب السلطنة، بل ربما فضل القلم على السیف ورجَحَ علیه بضروب من وجوه الترجیح. كما قال أبو الفتح البستی مفضلاً القلم بقسم الله تعالى به:

إن افتخر الأبطالُ یوماً بسیفهم *** وعدُّوه مما یكسِبُ المجدَ والكرم

كفى قلم الكتاب عِزاً ورِفْعةً *** مدى الدهر أنْ الله أقسم بالقلم

وكما قال النوبختی:

كذا قال اللهُ للأقلام مُذْ بُرِیَت *** أنَّ السیوفَ لها مُذْ أرهِفَتْ خدَمُ

وعلى النقیض الآخر أورد الحصری(6) ما قاله أیضاً بعض أنصار السیف: كقول أبی تمَّام:

السَّیفُ أصدقُ إنباءً من الكُتُبِ *** فی حَدِّهِ بَینَ الجِدِّ واللعبِ

والمتنبی:

حتى رَجَعْتُ وأقلامی قوائِلُ لی *** المجدُ للسَّیف لیسَ المجدُ للقَلَمِ

*ما قاله السَّلف عن أمیَّة الرسول:

قد یسأل سائل: إذا كان الأمر كذلك فَلِم كان الرسول الأعظم أمیَّاً؟.. وفی الجواب أشار الأقدمون إلى أن الكتابة حُرِّمت على النبی ردَّاً على الملحدین حیث نسبوه إلى الاقتباس من كتب المتقدمین، كما أخبر تعالى بقوله فی سورة الفرقان/5: {وقالُوا أَسَاطِیْرِ الأوَّلِیْنَ اكْتَتَبَهَا فَهِیَ تُمْلَى عَلَیْهِ بُكْرَةً وأَصِیْلا}. وأكد ذلك بقوله فی سورة العنكبوت/48: {وما كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ ولا تْخُطُّهُ بِیَمِینِكَ إذاً لارتابَ المُبْطِلون}. قال العتبیّ: "الأمِّیَّة فی رسول الله (صلى الله علیه وسلم) فضیلةٌ وفی غیره نقیصةٌ (7). وهی المعجزة الخالدة له لأن الله لم یعلِّمه الكتابة لتمكُّن الإنسان بها من الحیلة فی تألیف الكلام، واستنباط المعانی، فیتوسل الكفَّار إلى أن یقولوا اقتدر بها على ما جاء به. وفی الحدیث الشریف: "أوتیتُ جوامع الكَلِم واخْتُصِرَ لِیَ الكلام اختصاراً".(8).

*فضل العربیة:

قال العرب والمنصفون من الأعاجم أن العربیة تامة الحروف، كاملةُ الألفاظ، إذ لم ینقص عنها شیء من الحروف فیشینَها نُقصانُه، ولم یزد فیها شیء فیعیبها زیادته. وقد خُبِرْتُ هذا عن تجربة؛ فترى العرب قادرین على إخراج مختلف الأصوات والنبرات الأعجمیة، وما ذلك إلا بسبب احتواء العربیة على جمیع مخارج الحروف. ومن خصائصها  أنه یوجد فیها من الإیجاز ما لا یوجد فی غیرها من اللغات؛ فمن الإیجاز الواقع فیها أنَّ  للضَّرب كلمة واحدة فتوسعوا فیها؛ فقالوا للضرب فی الوجه لَطْم، وفی القفا صَفْع، وفی الرأس إذا أدْمى شَجّ، فكان قولُهم لُطِم أوجز من ضُرِب على وجهه، وكذلك اسم محمد بالعربیة مثلاً فإنه یتألف من أربعة حروف، بینما هو فی الإنكلیزیة وسائر اللغات المتفرعة عن اللاتینیة یتألف من ثمانیة أحرف MUHAMMAD، ذلك أن الحروف الصوتیة والمضاعفة فی العربیة مشكولة وهناك مكتوبة.

ونقل ابن قتیبة فی "عیون الأخبار"(9)، عن ابن شُبْرُمة قوله: "إذا سرَّك أن تعظم فی عین من كنت فی عینیه صغیراً، ویصغُر فی عینیك من كان فی عینیك عظیماً فتعلَّم العربیة، فإنها تجریك على المنطق، وتدنیك من السلطان".

*ذكر ما یحتاج الكاتب إلى معرفته من الأمور الكُلِّیَّة:

قال النویری(10) أن أول ما یبدأ به من ذلك حفظ كتاب الله تعالى، وملازمة درسه، وتدبر معانیه، ویتلو ذلك الاستكثار من حفظ الأحادیث النبویة، وخصوصاً فی السِیَر والمغازی والأحكام، ثم قراءة ما یتفق من كتب النحو، وما یتهیأ من مختصرات اللغة، ویتصل بذلك حفظ خطب البلغاء من الصحابة وغیرهم، ومخاطباتهم ومحاوراتهم ومراجعاتهم ومكاتباتهم. وأیضاً النظر فی أیام العرب ووقائعهم وحروبهم، ثم النظر فی التواریخ ومعرفة أخبار الدول، وحفظ أشعار العرب ومطالعة شروحها واستكشاف غوامضها، والتوفر على ما اختاره العلماء بها منها. وكذلك حفظ جانب جید من شعر المحدَثین، والنظر فی رسائل المتقدمین، وكتب الأمثال، والأحكام السلطانیة. وأما الأمور الخاصة التی تزید معرفتها قدره، ویزین العلم بها نظمَه ونثرَه فإنها من المكملات لهذا الفن. ومن ذلك علم المعانی والبیان والبدیع، ومنها ذَكَر الفصاحة والبلاغة والحقیقة والمجاز.

*ذكر ما یحتاج إلیه الكاتب من الأمور اللغویة:

لا مِریة فی أن اللغة هی "رأسُ مال الكاتب، وأسُّ كلامه، وكنز إنفاقه؛ من حیث أن الألفاظ قوالب للمعانی التی یقع التصرف فیها بالكتابة. وحینئذٍ یحتاج إلى طول الباع فیها، وسعة الخطو، ومعرفة بسائطها؛ من الأسماء والأفعال والحروف، والتصرف فی وجوه دلالتها الظاهرة والخفیة، لیقتدر بذلك على استعمالها فی محالَّها ووضعها فی مواضعها اللائقة بها، ویجد السبیل إلى التوسع فی العبارة عن الصور القائمة فی نفسه، فیتسع علیه نطاق النطق، وینفسح له المجال فی العبارة، وینفتح له باب الأوصاف فیما یحتاج إلى وصفه، وتدعو الضرورة إلى نعته؛ فیستظهر على ما ینشیه، ویحیط علماً بما یذره ویأتیه".(11).

ولا یخفى  أن الكاتب یحتاج فی كماله إلى معرفة لغة الكتب التی یطالعها فی مجال تخصصه، وهذا قد یعنی الإلمام بلغة أو أكثر من اللغات الأعجمیة. وقد روى محمد بن عمر المدائنی فی "كتاب القلم والدواة"، بسنده إلى زید بن ثابت (رضی الله عنه)، قال: قال رسول الله (صلى الله علیه وسلم): "إنه یرِدُ علیَّ أشیاء من  كلام السریانیة لا أحسنُها فتعلَّمْ كلامَ السریانیة فتعلَّمتُها فی ستة عَشَرَ یوماً"(12). من هنا اهتم العرب بتعلم اللغات الأعجمیة، ووضعوا شرائط للترجمان كالتی أوردها الجاحظ: "وكلما كان الباب من العلم أعسر وأضیق، والعلماءُ به أقلَّ، كان أشد على المترجم، وأجدرَ أن یخطئ فیه. ولن تجد البتة مترجماً یفی بواحد من هؤلاء العلماء". (13).

*ذكر ما یحتاج إلیه الكاتب من المعرفة بالنحو:

أجمع العرب على أن النحو هو قانونُ العربیة، ومیزانُ تقویمها، وهو لها ـ كما قیل ـ كالملح فی الطعام، ونقل القلقشندی عن صاحب "المثل السائر": "وهو أوَّلُ ما ینبغی إثبات معرفته؛ على أنه لیس مختصاً بهذا العلم خاصة بل بكل علم؛ لا بل ینبغی معرفته لكل أحد ینطق باللسان العربی لیأمن معرَّة اللحن. ومن كلام مالك بن أنس: "الأعراب حَلْیُ اللسان فلا تمنعوا ألسنَتَكُم حُلِیَّها". ولله درُّ أبی سعید البصری حیث یقول:

النَّحْوُ یبسُطُ من لِسانِ الألْكَنِ *** والمرْءُ تُكْرِمُهُ إذا لم یَلْحَنِ

وإذا طَلَبْتَ من العُلومِ أَجَلَّها *** فأجلُّها عندی مُقِیمُ الألْسُنِ

وقد رُوی أن أعرابیاً قرأ الآیة 28 من سورة فاطر هكذا: {إِنَّما یَخْشَى اللهُ من عِبادِهِ العُلماء}. برفع الأول ونصب الثانی، فوقع فی الكفر، بنقل فتحة إلى ضمَّة وضمَّة إلى فتحة، فقیل له: یا هذا إن الله تعالى لا یخشى أحداً! فتنبه لذلك وتفطن له"(14). ولذا قال مَسْلَمَةُ بن عبد الملك: "اللحن فی الكلام أَقْبَح من الجدری فی الوجه(15)، قال القلقشندی:"واعلم أن اللحن قد فَشَا فی الناس، والألسنة قد تغیرت حتى صار التكلم بالإعراب عیباً، والنطق بالكلام الفصیح عِیَّاً... ووقف بعض الخلفاء على كتاب لبعض عماله فیه لَحْنٌ، فی لفظه، فكتب إلى عامله: قَنِّعْ كاتبَك هذا سوطاً معاقبةً على لحنه، قال أحمد بن یحیى: كان هذا مقدار أهل العلم، وبحسبه كانت الرغبةُ فی طلبه والحِذْرِ من الزلل... فكیف لو أبصر بعضَ كُتَّابِ زماننا هذا؟ قد قال ذلك فی زمانِهِ هو وفی الناس بعض الرمق، والعلم ظاهر وأهلُهُ مكْرَمون، وإلا فلو عَمَرَ إلى زماننا نحن [بل فما بالك بزماننا نحن!">. لقال [تِلْكَ أُمَّةٌ قدْ خَلَتْ">"(16)، ولكان لسان حاله كما قال الشاعر:

تعس الزمان! فقد أتى بعُجابٍ *** ومَحا فُنُون الفضلِ والآدابِ

وأتى بِكُتَّابِ لو انبسطتْ یَدی *** فِیهم ردَدتُهُمْ إلى الكُتَّابِ

*ذكر ما یحتاج إلیه الكاتب من الأمور العلمیة:

لعل أحسن ما قیل فی هذا الباب ما أورده ابن قتیبة عن كتابه النفیس: "أدب الكاتب".(17)، من أنه لیس لمن لم یتعلق من الإنسانیة إلا بالجسم، ولا من الكتابة إلا بالاسم، ولم یتقدم من الأداة إلا بالقلم والدواة: ولكنه لمن شَدا شیئاً من الإعراب فعرف الصَّدْرَ والمصدر، والحال والظرف، وشیئاً من التصاریف والأبنیة، وانقلابَ الیاء عن الواو، والألف عن الیاء، وأشباه ذلك. ولابد له من النظر فی الأشكال لِمساحة الأرضین، حتى یعرفَ المثلث القائم الزاویة، والمثلث الحادّ، والمثلث المنفرج، ومساقط الأحجار، والمربعات المختلفات، والقِسیّ والمدوَّرات، والعمودَیْن، ویمتَحن معرفته بالعمل فی الأرضین لا فی الدفاتر، فإنَّ المُخبَر عنه لیس كالمُعاین". وكانت العجم تقول: من لم یكن عالماً بإجراء المیاه،  وحفر فُرَضِ المشارب ورَدْمِ المَهاوی ومجاری الأیام فی الزیادة والنقص، ودوران الشمس، ومطالع النجوم، وحال القمر فی استهلاكه واتصاله، ووزن الموازین، وذَرْع المثلث والمربع والمختلف الزوایا، ونصْبِ القناطر، والجسور، والدَّوالی، والنواعیر على المیاه، وحال أدوات الصنَّاع، ودقائق الحساب، كان ناقصاً فی حال كتابته. ولابدَّ له من النظر فی جمل الفقه ومعرفة أصوله... والحدیث... ودراسة أخبار الناس، وتحفُّظ عیون الحدیث لیُدْخِلَها فی تضاعیف سطوره متمثلاً بها إذا كَتب ویصل بها كلامه إذا حاور". ثم خفَّفَ على الكتَّاب بعد ذلك قائلاً: "ومدار الأمر على القُطْب، وهو العقل وجودة القریحة، فإن القلیل معهما بإذن الله تعالى كافٍ، والكثیر مع غیرهما مقصِّر"، وختم ذلك بالقول: "ونستحبُّ له أن یُنَزِّلَ ألفاظَه فی كتُبِه فیجعلها على قَدْرِ الكاتب والمكتوب إلیه، وألا یعطی خسیسَ الناس ریعَ الكلام، ولا رفیع الناس خسیسَ الكلام".

وتابعه الوزیر ضیاء الدین بن الأثیر فی "المثل السائر"، وأبو هلال العسكری فی بعض ذلك. قال الأخیر فی بعض أبواب كتابه: "الصناعتین". (18). "ینبغی أن تعلم أن الكتابة تحتاج إلى آلاتٍ كثیرة، وأدوات جمَّة: من معرفة العربیة لتصحیح الألفاظ وإصابة المعنى؛ وإلى الحساب وعلم المساحة والمعرفة بالأزمنة والشهور والأهلَّة وغیر ذلك مما لیس هذا موضع ذكره وشرحه"، وخالف أبو جعفر النحاس فی كثیر من ذلك فذكر فی أول كتابه "صناعة الكتابة" فی المرتبة الثانیة منه بعدما یتعلق بالخط: أن من أدوات الكتابة البلاغة، ومعرفة الأضداد مما یقع فی الكسب والرسائل والعلم بترتیب مما یقع بترتیب أعمال الدواوین، والخبرة بمجاری العمال، والدُّرْبة بوجوه استخراج الأموال مما یجب ویمتنع. ثم قال فهذه الآلات لیس لواحد منها بذاته، ولا انفراد باسم یخصُّه، وإنما هو جزء من الكتابة وأصل من أركانها، أما الفقه والفرائض والعلم بالنحو واللغة وصناعة الحساب والمساحة والنجوم، والمعرفة بإجراء المیاه، والعلم بالأنساب فكل واحد منها منفرد على حدته، وإن كان الكاتب یحتاج إلى أشیاء منها نحو ما یُكْتبُ بالألف والیاء، وإلى شیء من المقصور والممدود". وزاد القلقشندی على ذلك: "والتحقیق أن ذلك یختلف باختلاف حال الكتابة بحسب تنوُّعها؛ فكل نوع من أنواعه یحتاج إلى معرفة فن أو فنون تختصُّ به.... فلیس احتیاجه إلى ذلك على حدٍّ واحد: بل منها ما یحتاج إلیه بطریق الذات، وهی مواد الإنشاء التی یستمد منها ویقتبس من مقاصدها... ومنها ما یحتاج إلیه بطریق العَرض كالطبِّ والهندسة والهیئة ونحوها من العلوم... لینظم ذلك فی خلال كلامه فیما یكتب به من متعلَّقات كل فن من هذه الفنون  كالألفاظ الدائرة بین أهل الطب ومشاهیر أهله وكتبه فیما یكتب به لرئیس الطب، ونحو ذلك من الهیئة فیما یكتب به لمنجِّم، ونحوه من الهندسة فیما یكتب به لمهندس".(19).

*المنهج العلمی فی الكتابة عند العرب وما قالوه فی البلاغة والفصاحة والإیجاز:

تكلم رجل عند النبی (صلى الله علیه وسلم) فقال له النبی (صلى الله علیه وسلم): "كم دون لسانك من حِجاب؟". قال: شفتای وأسنانی. فقال له: "إن الله یكرهُ الانبِعاق فی الكلام [الاندفاع فیه بلا توقف">، فَنَضَّرَ اللهُ وجْهَ رجلٍ أوجز فی كلامِهِ، واقتصر على حاجتهِ"، وسُئِلَ النبیُّ (صلى الله علیه وسلم): فیم الجمال؟ فقال:"فی اللسان" یرید البیان. وقال أیضاً: "إنَّ من البیان لسحرا".(20).

قال العاملی فی "أسرار البلاغة"(21): "البلاغة تختص بالمعانی، والفصاحة تختص بالألفاظ، والإیجاز یختص بهما. قال عبد الحمید الكاتب، وكان وزیر مروان بن محمد آخر خلفاء بنی أمیة، وبه یضرب المثل فی الكتابة والبلاغة: البلاغة ما فَهِمَتْهُ العامة، ورضیته الخاصة... وقیل لابن المقفع: ما البلاغة؟.. فقال: التی إذا سمعها الجاهل ظن أنه یحسن مثلَها. وسُمِّیَت بلاغة لأن المتكلم یبلغ بها الكثیر من الغرض فی القلیل من المعانی. والفصاحة: حدُّها التخلُّصُ من التعقید والتنافر وضعف التألیف، لأنه یُقال: لفظ فصیح، ومعنى بلیغ، والإیجاز: هو تقلیل اللفظ، وتكثیر المعنى. وهو على قسمین: إیجاز قَصَر، وإیجاز حذف. فإیجاز القصر: هو التعبیر عن المعنى بأقل ما یمكن  من الألفاظ، كقوله تعالى فی سورة الحجر/ 94 مخاطباً لنبیه محمد (صلى الله علیه وسلم) : {فاصْدَعْ بِما تُؤْمَرْ}. فهذه ثلاث كلمات اشتملت على جمیع معانی الرسالة... وإیجاز الحذف: هو الاستغناء بالمذكور عما لم یُذْكَر، مثل قوله تعالى فی سورة یوسف/ 82: {واسْألِ القَرْیَة الَّتی كُنَّا فِیها}. والمراد أهل القریة".

أقول ویصعب الإحاطة بما قاله العرب فی هذا الباب، وإنما أسوق فیما یلی غیضاً من فیض. قال صاحب "العقد الفرید".(22): "أشرفُ الكلام كلّه حسناً، وأرفعه قَدْراً، وأعظمه من القلوب موقعاً، وأقلُّه على اللسان عملاً، ما دلَّ بعضُهُ على كلِّه، وكفى قلیلُهُ عن كثیرِهِ، وشهد ظاهرهُ على باطنه، وذلك أن تقلَّ حروفُهُ، وتكثر معانیه، ومنه قولهم: ربَّ إشارة أبلغُ من لفظ". وقیل فی تعریف البلاغة أیضاً أن یبلغ الرجل بعبارته كَنْهَ ما فی نفسه. ولا یسمى البلیغ بلیغاً إلا إذا جمع المعنى الكثیر فی اللفظ القلیل، وهو المسمى إیجازاً... ولا یسمى الفصیح فصیحاً حتى تخلُص لغته عن اللكنة الأعجمیة". وقال الجاحظ فی "البیان والتبیین".(23): "وأحسن الكلام ماكان قلیله یغنیك عن كثیره، ومعناه فی ظاهر لفظه.... فإذا كان صحیح الطبع، بعیداً عن الاستكراه، ومنزّهَاً عن الاختلال مصوناً عن التكلُّف صنع فی القلوب صنیع الغیث فی التربة الكریمة". وزاد فی مكان آخر: "إیَّاكَ والتتبُّع لوحشیِّ الكلام طمعاً فی نیل البلاغة، فإن ذلك هو العیُّ الأكبر".

ونقل صاحب "العمدة" (24) عن ابن المقفع قوله فی البلاغة أیضاً أنها "اسم لمعانٍ تجری فی وجوه كثیرة؛ فمنها ما یكون فی السكوت، ومنها ما یكون فی الاستماع، ومنها ما یكون جواباً... فعامَّة هذه الأبواب الوحی فیها والإشارة إلى المعنى والإیجاز هو البلاغة. فانظر كیف جعل ابن المقفع من المسكوت بلاغة، رغبةً فی الإیجاز". ومثل ذلك ما قاله المبرِّد فی "الكامل"(25): خیر الكلام ما أغنى اختصاره عن إكثاره".

أما أصحاب "دائرة المعارف الإسلامیة"، فقالوا إن البلاغة هی "جودة الكلام... فنقول بلاغة الكلمة وبلاغة الكلام، كما نستطیع أن نقول بلاغة الألفاظ وبلاغة المعانی، أی جودة كل ذلك".(26).

*ذكر ما یحتاج إلیه الكاتب من التواضع:

استحب ابن قتیبة للكاتب "أن یؤدب نفسه قبل أن یؤدب لسانه، ویهذِّب أخلاقَه قبل أن یهذِّب ألفاظه، ویصون مروءته عن دناءة الغیبة وصناعته عن شَینِ الكذبِ".

كما استهجن العرب استخدام ضمائر المتكلم، وخاصة فی صیغة الجمع وما شابهها، ونوَّهوا بضرورة أن یخلو أسلوب الكاتب من مظاهر الفخر والمبالغة والاعتداد بالنفس، لأن "نحن لا یكتب بها عن نفسه إلا آمرٌ وناه، لأنها من كلام الملوك والعظماء. قال تعالى فی سورة الحجر/9: {إنَّا نحنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ}. وقال أیضاً فی سورة القمر/49: {إنَّا كُلَّ شیءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدْرٍ}. وعلى هذا الابتداء خوطبوا فی الجواب؛ فقال تعالى فی سورة المؤمنون/99 حكایة عمَّن حضره الموت: {ربِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّی أَعْمَلُ صالِحَاً}، ولم یقل: ربِّ ارجعنِ(27)". أقول ولا یدخل فی ذلك ضمیر المتكلم فی حالة المفرد، "إذا أراد الرجل أن یعرِّف بنفسه، أو أن یمدح نفسه بالحق إذا جُهل أمره، وكان فی ذلك فائدة".(28). كما فعل سیدنا یوسف (علیه السلام) أمام الملك كما أخبر القرآن فی سورة یوسف/55: {قال اجعلنی على خزائن الأرض إنی حفیظ علیم}. كما أن حقیقة قصور علم الإنسان وحواسه المحدودة تملی على الكاتب أن یتأدب كما قال تعالى فی سورة الإسراء/85: {وما أوتیتم من العِلْمِ إلاَّ قلیلا}، وأن یتواضع كما فی الحدیث الشریف: [من قال إنی عالم فهو جاهل">، وأَنْ یتحلى بمكارم الأخلاق كما قال الشاعر:

ملأى السنابل تنحنی بتواضعٍ *** والفارغاتُ رؤوسهنَّ شوامخُ

أو كما قال عبد الله بن المعتز: "متواضع العلماء أكثرهم علماً، كما أن المكان المنخفض أكثر الأماكن ماءً".(30)، لذا فقد تبع المؤلفون العرب فی كتاباتهم منذ القرن الثالث الهجری مبدأ الاعتذار، حتى غدا قاعدة یرتكز علیها الكتَّاب مهما عظم مقامهم، ورقیَت بحوثهم. فانظر إلى تواضع ابن الأثیر مثلاً وهو یقول فی مقدمة كتابه "المثل السائر": ولا أدعی فیما ألَّفْتَهُ من ذلك فضیلة الإحسان، ولا السلامة من سبق اللسان. فإن الفاضل من تعدُّ سقطاته، وتُحصى غلطاتُهُ". وهذا لعمری یدل على تواضع ذلك العالم النِّحریر أكثر مما یشیر إلى وجود أغالیط فی كتابه.

*خاتمة:

ونختم الحدیث بضرورة أن یقوم الكاتب بمراجعة ما خطَّه یراعه، من وقت إلى آخر، لتنقیح ما سوَّد، وتهذیب ما كتب، تأمَّل مقدار الدقة والحذر الذی وصله الجاحظ عندما قال: "وینبغی لمن كتب كتاباً ألاَّ یكتبه إلا على أن الناس كلهم له أعداء، وكلهم عالم بالأمور، وكلهم متفرِّغ له... فإذا سكنت الطبیعة، وهدأت الحركة، وتراجعت الأخلاط، وعادت النفس وافرة، أعاد النظر فیه. فیتوقف عند فصوله توقف من یكون طمعه فی السلامة أنقص من وزن خوفه من العیب".(31).

*الحواشی:

(1) ـ صبح الأعشى فی صناعة الإنشا للقلقشندی، أحمد (821 ـ 1418هـ)، نسخة مصورة عن الطبعة الأمیریة 1: 51.

(2) ـ الجامع لأحكام القرآن لأبی عبد الله القرطبی، دار الفكر، بیروت، لبنان 20 ـ 120.

(3) ـ البیان والتبیین للجاحظ، عمرو (150 ـ 255 هـ)، حققه عبد السلام محمد هارون، دار الجیل ودار الفكر، بیروت، لبنان 1: 79.

(4) ـ صبح الأعشى 1: 37ـ 43.

(5) ـ المرجع السابق: 1: 45.

(6) ـ زهر الآداب وثمر الألباب للحصری، إبراهیم (؟ ـ 453هـ)، حققه وشرحه د.زكی مبارك، دار الجیل، بیروت، لبنان: 2: 480 ـ 481.

(7) ـ صبح الأعشى: 1: 44.

(8) ـ أسرار البلاغة للعاملی، بهاء الدین (953 ـ 1031 هـ). مطبوع على هامش المخلاة. دار المعرفة. بیروت. لبنان: 316.

(9) ـ عیون الأخبار لابن قتیبة، عبد الله (213 ـ 276 هـ)، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب 2: 157.

(10) ـ نهایة الإرب فی فنون الأدب للنویری، شهاب الدین أحمد (677 ـ 733). نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب 7: 27 ـ 35.

(11) ـ صبح الأعشى: 1: 150.

(12) ـ المرجع السابق: 1: 165.

(13) ـ الحیوان للجاحظ. طبعة دار إحیاء التراث العربی المصورة عن الطبعة المصریة التی حققها عبد السلام محمد هارون 1: 77.

(14) ـ صبح الأعشى 1: 170 ـ 173.

(15) ـ عیون الأخبار 2 : 158.

(16) ـ صبح الأعشى: 1: 170.

(17) ـ أدب الكاتب لابن قتیبة. حققه محمد الدالی. مؤسسة الرسالة: 12 ـ 18.

(18) ـ الصناعتین لأبی هلال العسكری. طبع الأستانة : 7.

(19) ـ صبح الأعشى 1: 141 ـ 146.

(20) ـ العمدة لابن رشیق، 1: 417 . 429.

(21) ـ أسرار البلاغة: 316.

(22) ـ العقد الفرید للأندلسی، أحمد بن محمد بن عبد ربه 4: 155.

(23) ـ البیان والتبیین 1: 83.

(24) ـ العمدة لابن رشیق 1: 420.

(25) ـ الكامل للمبرد، محمد بن یزید. (210 ـ 285)، مؤسسة الرسالة. بیروت، لبنان 2: 884.

(26) ـ دائرة المعارف الإسلامیة، طبع كتاب الشعب 7: 529، مادة (بلاغة).

(27) ـ أدب الكاتب : 14.

(28) ـ كتاب التسهیل لعلوم التنزیل لابن جزی، محمد بن أحمد (؟ ـ 292 هـ)، دار الفكر، بیروت، لبنان 1: 122.

(29) ـ التاج الجامع للأصول فی أحادیث الرسول لناصیف، منصور علی، دار الكتب العلمیة. بیروت، لبنان 1: 74.

(30) ـ نهایة الإرب 3: 245.

(31) ـ الحیوان 1: 88.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 21:53|
تطور النثر العربی


[*النثر لغة:*]
یقول صاحب اللسان: «النثر نَثرُكَ الشیءَ بیدك ترمی به متفرقا مثل نثر الجوز واللوز والسکر وکذلك نثر الحبّ إذا بُذر»1 فالمعنی اللغوی یعنی الشیء المبعثر (المتفرق) الذی لایقوم علی أساس فی تفرقه وبعثرته، أی: لا یقوم علی أساس من حیث الکیف والکم والاتساع.

[*النثر اصطلاحاً:*]

هو الکلام الذی لیس فیه الوزن ویعتمد علی الحقائق. بتعبیر آخر: النثر هو کلام المقفی بالأسجاع.

النثر أدب إنسانی، «وهو علی ضربین: أما الضرب الأول فهو النثر العادی الذی یقال فی لغة التخاطب، ولیست لهذا الضرب قیمة أدبیة إلا ما یجری فیه أحیانا من أمثال وحکم، وأما الضرب الثانی فهو النثر الذی یرتفع فیه أصحابه إلی لغة فیها فن ومهارة وبلاغة، وهذا الضرب هو الذی یعنی النقاد فی اللغات المختلفة ببحثه ودرسه وبیان ما مر به من أحداث وأطوار، ومایمتاز به فی کل طور من صفات وخصائص، وهو یتفرع إلی جدولین کبیرین، هما الخطابة والکتابة الفنیة ـ ویسمیها بعض الباحثین باسم النثر الفنی ـ وهی تشمل القصص المکتوب کما تشمل الرسائل الأدبیة المحبرة، وقد تتسع فتشمل الکتابة التاریخیة المنمقة».2

[*نشأة النثر الفنی:*]

یجد الباحث عنتا کبیرا حینما یحاول تحدید الوقت الذی نشأ فیه النثر الفنی فی اللغة العربیة. إذ أن الباحثین الذین تصدوا لدراسة الأدب الجاهلی قد اضطربوا فی تقدیر الوجود الأدبی لعرب الجاهلیة وبخاصة فیها یتعلق بالنثر، ولم یستطیعوا علی الرغم من جهودهم ودراساتهم أن یصلوا فی ذلك الموضوع إلی نتیجة ثابتة أو رأی موحد یمکن الاطمئنان إلیه.أما هذه الآثار النثریة المختلفة التی تنسب إلی الجاهلیین، فیکاد مؤرخو الأدب یتفقون علی عدم صحة شیء منها، والسبب فی عدم الثقة بهذه النصوص هو أن وسائل التدوین لم تکن میسرة فی العصر الجاهلی.

[*الآراء حول نشأة النثر الفنی فی العصر الجاهلی:*]

یؤکد الدکتور زکی مبارك أنه قد کان للعرب فی الجاهلیة نثر فنی له خصائصه وقیمته الأدبیة، وأن الجاهلیین لابد وأن یکونوا قد بلغوا فی ذلك المضمار شأوا بعیدا لایقل عما وصل إلیه الفرس والیونان فی ذلك الوقت، بل أنهم فی إنتاجهم الأدبی فی النثر لم یکونوا متأثرین تأثراً کبیرا بدولة أخری مجاورة أو غیر مجاورة، وإنما کانت لهم فی کثیر من الأحیان أصالتهم وذاتیتهم واستقلالهم الأدبی الذی تقتضیه بیئتهم المستقلة، وحیاتهم التی کانت أقرب إلی الانعزال. وإذا کانت الظروف المختلفة لم تساعد علی بقاء هذا التراث من النثر الجاهلی، فلیس معنی ذلك أن نهدره ونحکم بعدم وجوده، وإنما یجب أن نلتمسه فی مصادر أخری. ونحن إن فعلنا هذا فسوف نجد بین أیدینا حجة لاتنکر، ودلیلا لا یجحد علی أن ثمة نثرا جاهلیا، ألا وهو القرآن الکریم. فإذا کنا نؤمن بأن هذا القرآن قد نزل لهدایة هؤلاء الجاهلیین، وإرشادهم، وتنظیم حیاتهم فی نواحیها المختلفة من دینیة، وأخلاقیة، وسیاسیة، واجتماعیة، واقتصادیة، وأنه کان یخاطبهم وهم بطبیعة الحال لایخاطبون إلا بأسلوب الذی یفهمونه ویتذوقونه، وأنه کان یتحداهم فی محاکاته، والإتیان بسورة من مثله ولا یسوغ فی العقل أن یکون هذا التحدی إلا لقوم قد بلغوا درجة ما من بلاغة القول، وفصاحة اللسان تجعلهم أهلا لهذا التحدی حتی یصدق معناه، إذا کان هذا کله، وأن القرآن الکریم قد نزل بلغة العرب وعلی لسان واحد منهم ﴿وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه لیبین لهم﴾ تأکد لنا أن العرب الجاهلیین قد عرفوا النثر الفنی، وأن القرآن یمکن أن یعطینا صورة ـ ولو تقریبیة ـ عن شکل هذا النثر، ومنهجه، وحالته التی کان علیها.3

[** وکذلك یعتقد الدکتور محمد عبدالمنعم خفاجی بوجود النثر الفنی فی الجاهلیة.4*]

ویری الدکتور طه حسین بأن النشر الفنی بمعنی أنه تعبیر جمیل رصین محکم یستدعی الرؤیة والتفکیر والإعداد، لایتصور أن یکون موجودا فی العصر الجاهلی؛ إذ أن هذا اللون من النثر إنما یلائم نوعا من الحیاة لم یکن قد تهیأ للعرب إذ ذاك. فهذه الحیاة الأولیة الفطریة السهلة التی کان یحیاها العرب قبل الإسلام لم تکن تسمح بقیام هذا اللون من الکتابة الفنیة التی تستدعی بطبیعتها الرؤیة، والتفکیر، ووجود جماعة إنسانیة منظمة تسودها أوضاع سیاسیة واجتماعیة معقدة. وهذا النثر المنسوب إلی الجاهلیین لیس إلا شیئا منحولا مدسوسا علیهم. حیث إنه علی هذا النحو الذی روی به لایکاد یمثل الحیاة الجاهلیة تمثیلا کاملا. فهذه الخطب، والوصایا، والسجع، والکلام الذی ینسب لقس بن ساعدة، وأکثم بن صیفی، وغیرهما یکفی أن ننظر إلیه نظرة واحدة لنرده بأجمعه إلی العصور الإسلامیة التی انتحلت فیها کل هذه الأشیاء؛ لنفس الأسباب التی انتحل الشعر من أجلها وأضیف إلی الجاهلیین.5

ویتحدث شوقی ضیف عن نشأة النثر الفنی فی الأدب العربی بقوله «نحن لانغلو هذا الغلو الذی جعل بعض المعاصرین یذهب إلی أن العرب عرفوا الکتابة الفنیة أو النثر الفنی منذ العصر الجاهلی، فما تحت أیدینا من وثائق ونصوص حسیة لا یؤید ذلك إلا إذا اعتمدنا علی الفرض والظن، والحق أن ما تحت أیدینا من النصوص الوثیقة یجعلنا نقف فی مرحلة وسطی بین الرأیین، فلا نتأخر بنشأة الکتابة الفنیة عند العرب إلی العصر الجاهلی، بل نضعها فی مکانها الصحیح الذی تؤیده المستندات والوثائق، وهو العصر الإسلامی».6

[*النثر فی العصر الإسلامی:*]

النثر الفنی فی عهد النبوة، لم یکد یختلف اختلافا جوهریا عن النثر الجاهلی. «دخل النثر العربی فی طور جدید بظهور الإسلام، بعد أن تعرضت الحیاة الأدبیة لانقلاب شامل وتطور بعید المدی. ولم یکن ثمة بد من أن یتأثر الأدب بالحیاة الجدیدة وأن یکون صدی لأحداثها واتجاهاتها. وکانت مظاهر التطور فی النثر أوضح منها فی الشعر، لأن الشعر فن تقلیدی یترسم فیه الشاعر خطا سابقیه، ویلتزم أصولا محددة، ولذلك یکون أبطأ من النثر استجابة لدواعی التطور».7

أما أغراض النثر ومعانیه، فإنها بلا شك قد تغیرت تغیرا محسوسا بظهور الإسلام، و «تلوّن النثر فی هذا العهد بجمیع ألوان الحیاة الجدیدة فکان خطابة، وکتابة، ورسائل وعهودا، وقصصا، ومناظرات، وتوقیعات، وکان علی کل حال أدبا مطبوعا. وامتاز النثر فی هذا العهد بالإیجاز علی سنة الطبیعة العربیة الأصیلة».8

[*النثر فی العصر الأموی:*]

کانت الکتابة ضرورة إداریة ملحة لا غنی عنها فی إدارة شؤون الدولة والمجتمع، فی المکاتبات والدواوین المختلفة. کما کانت ضرورة اجتماعیة لا غنی عنها فی المعاملات. وکانت کذلك ضرورة علمیة لا غنی عنها فی الحرکة العلمیة التی ازدهرت فی العصر الأموی وتعاظمت فی أواخره. ونتیجة لذلك کله توسع انتشار الخط واستعمال الکتابة، إبان ذلك العصر، توسعا عظیما، نظراً لإقبال الناس علی طلبه.

یقول الدکتور شوقی ضیف: «أن الکتابة نمت فی العصر الأموی نموا واسعا، فقد عرف العرب فکرة الکتاب وأنه صحف یجمع بعضها إلی بعض فی موضوع من الموضوعات، وقد ألفوا فعلا کتبا کثیرة».9

وقد کانت لمن یعرف الکتابة مکانة رفیعة عند الناس، إذ کانوا یعرفون له قدرة، وکان سعید بن العاص یردد دائماً قوله: «من لم یکتب فیمینه یسری».10

لعل من أهم الأسباب التی هیأت لرقی الکتابة الفنیة فی هذا العصر تعریب الدواوین فی البلاد المختلفة11، وتعقد الحیاة السیاسیة، وکثرة الأحزاب والمذاهب.12

«وقد تجلت بواکیر الکتابة فی أواخر العصر الأموی بفضل موهبة عبدالحمید بن یحیی الکاتب».13 ولقد أجمع النقاد والمؤرخون فی القدیم والحدیث علی أن عبدالحمید إمام طور جدید فی الکتابة العربیة، وأنه هو الذی وضع الأساس لهذا المنهج الکتابی الذی اقتفاه الکتاب من بعده، وهو «أبلغ کتاب الدواوین فی العصر الأموی وأشهرهم، وقد ضربت ببلاغته الأمثال»14، و«کان عبدالحمید أول من فتق أکمام البلاغة وسهل طرقها وفك رقاب الشعر».15

وقال ابن الندیم: «عنه أخذ المترسلون ولطریقته لزموا، وهو الذی سهل سبیل البلاغة فی الترسل».16

إذن لقد تواترت آراء المؤرخین والأدباء منذ القرن الثالث الهجری علی أن الرجل ذو مکانة ملحوظة فی تاریخ النثر العربی، وأنه ذو أثر عمیق فی تطور الکتابة الفنیة، وأنه قد سن طریقة جدیدة سار علی نهجها من جاء بعده من الکتاب.

[*النثر فی العصر العباسی:*]

زخر العصر العباسی بالأحداث التاریخیة، والتقلبات السیاسیة، کما زخر بالتطورات الاجتماعیة التی نقلت العرب من حال إلی حال، وقد کان لکل هذا، فضلا عن نضج العقول بالثقافة، أثر واضح فی تطویر الأدب بعامة، والکتابة بصفة خاصة. لقد تقدمت الکتابة الفنیة فی هذا العصر تقدما محسوسا؛ وسارت شوطا بعیدا فی سبیل القوة والعمق والاتساع.

و«أصبح النثر العربی فی العصر العباسی متعدد الفروع، فهناك النثر العلمی والنثر الفلسفی والنثر التاریخی، والنثر الأدبی الخالص، وکان فی بعض صوره امتدادا للقدیم؛ وکان فی بعضها الآخر مبتکرا لا عهد للعرب به».17

وکان تشجیع الخلفاء والوزراء والرؤساء للأدب وللکتاب باعثا علی النهوض بالکتابة، داعیا إلی ارتفاع شأنها، وسمو منزلتها، ثم کان التنافس القوی بین الأدباء وتسابقهم إلی خدمة الخلفاء والرؤساء حافزا علی تجویدها والتأنق فی أسالیبها.18

«إن الکتابة کانت جواز عبور إلی الوزارة وبعض الوظائف المرموقة فی مرافق الدولة لذلك کان علی الراغبین فی الوصول إلی هذه المناصب العلیا إتقان صناعة الکتابة حتی یحققوا أهدافهم التی کانوا یطمحون إلیها».19

والأغراض التی عبر عنها النثر الفنی فی هذا العصر قد اختلفت و«بعد أن کان النثر الأموی خطابته وکتابته منصرفا بوجه عام إلی أغراض سیاسیة وحزبیة، ولم یتجه إلی الأغراض الأخری إلا فی صورة ضئیلة، فانه فی العصر العباسی قد اتجه إلی کثیر من الأغراض والموضوعات الشخصیة والاجتماعیة والانسانیة؛ کالمدح والهجاء والرثاء والاعتذار والتهنئة والتعزیة والاستعطاف، والوصف والنسیب والفکاهة والنصح».20

ونستطیع القول بأن النثر خطا خطوة واسعة؛ فهو لم یتطور من حیث موضوعاته وأغراضه فقط؛ بل إن معانیه قد اتسعت وأفکاره قد عمقت، وأخیلته قد شحذت؛ لأن مشاهد الحیاة ومقوماتها العامة قد تغیرت.

[*مظاهر نهضة النثر فی العصر العباسی:*]

1ـ تنوع فنونه وأغراضه: فقد تناول کل مجالات الحیاة واستخدمته الدولة فی الشؤون السیاسیة والاجتماعیة والثقافیة.

2ـ وصول الکتاب إلی المناصب الوزاریة.

3ـ أنه أصبح وعاء لثقافات جدیدة، کانت نتیجة لامتزاج الفکر العربی بأفکار الأمم الأخری.

4ـ رقی الأفکار وعمق المعانی.

5ـ التفنن فی أسالیبه وظهور مدارس متنوعة.21

[*أسباب نهضة النثر فی العصر العباسی:*]

1ـ استقرار الأمور فی الدولة واتساع العمران، وما یتبع ذلك من رخاء.

2ـ النضج العقلی وظهور آثار التقدم الفکری فی الدولة.

3ـ ظهور أجیال جدیدة من المثقفین من أبناء الأمم المستعربة الذین جمعوا إلی الثقافة العربیة الأصیلة فنونا جدیدة من ثقافات آبائهم الفرس، الهنود و الیونان.

4ـ تشجیع الخلفاء والأمراء للکتاب وإغداق الأموال علیهم.

5ـ وصول الکتاب إلی المناصب الکبیرة جعل الکتابة مطمح کل راغب فی الجاه والسلطان.

6ـ التنافس بین الکتاب فی سبیل الإجادة الفنیة.

7ـ کثرة المذاهب الکلامیة وحاجة کل مذهب إلی التأیید وشرح مبادئه.22

[*النثر الحدیث:*]

«فی النصف الأول من القرن التاسع عشر، کان النثر فی هذه الفترة رکیك الأسلوب یعتمد علی المحسنات البدیعیة، مسیطرا علیه طریقة القاضی الفاضل علی أسالیب کتاب عصره و نهج نهجه، فبدت علی أسالیب هؤلاء مظاهر التکلف فأسرفوا فی المحاکاة وأوغلوا فی الصنعة، وتعمد تصید الألفاظ والأسالیب ذات البریق واللمعان».23

فی بدایات النثر الأدبی الحدیث «کانت القرائح حبیسة الأغراض الضیقة والمعانی التافهة، وقلّما کانت تتجاوز الرسائل الاخوانیة، من تهنئة بمولود، أو تعزیة بفقید، أو معاتبة لصدیق، وقلّما تعدی موضوع النثر هذه الحدود الضیقة لیلامس اهتمام الناس ویعالج شؤون المجتمع».24

«انطلق الفکر الحدیث ناشطا و راح یرود آفاقا أرحب تتصل بالواقع وبالمجتمع، نتیجة انتشار أنوار النهضة فی أرجاء المشرق العربی. وبدأت الأسالیب تتحرر فی بعض جوانبها من قیود التصنع اللفظی. غیر أن فئة من الناثرین ظلت علی تعلقها بالعبارات المنمقة، وراحت تجد فیها نمطا أدبیا متمیزا لا یحسن التفریط به. ومن هذا المنطلق ساغ للشیخ ناصیف الیازجی خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر فن المقامات؛ فدأب علی إحیائه، وجهد فی النسج علی منواله... وفی الوقت نفسه کان ثمة ناثرون رواد ومؤلفون کبار أخذوا یراوحون بین النثر المقید والنثر المرسل، ترفدهم فی الحالین موهبة فذة، وفی مقدمة هؤلاء أحمد فارس الشدیاق، أحد أرکان النهضة الفکریة، ورائد الصحافة الأدبیة».25

ویمکن القول بأن اتصال الشرق العربی بالغرب ظل قاصرا فی أول الأمر علی النواحی العلمیة والفنیة التطبیقیة. أما النواحی الأدبیة فظل فیها الاتصال معدوما. وطبیعی ألا تنهض اللغة وتظل علی عهودها السابقة جامدة راکدة مثقلة بالسجع والمحسنات البدیعیة».26

واشتد احتکاك الشرق العربی بالغرب فی منتصف القرن التاسع عشر و «أرسلت طائفة من الشباب المصری إلی أوربا وعلی رأسها رفاعة الطهطاوی «الذی تعلم فی الأزهر وتخرج فیه، و رافق البعثة الکبری الأولی لمحمد علی إماما لها. ولم یکتف بعمله، بل أقبل علی تعلم اللغة الفرنسیة، حتی أتقنها. وفی أثناء إقامته بباریس أخذ یصف الحیاة الفرنسیة من جمیع نواحیها المادیة والاجتماعیة والسیاسیة فی کتابه «تخلیص الإبریز فی تلخیص باریز». وعاد إلی مصر فاشتغل بالترجمة وعیِّن مدیرا لمدرسة الألسن، وأخذ یترجم مع تلامیذه آثارا مختلفة من اللغة الفرنسیة. وکان ذلك بدء النهضة الأدبیة المصریة، ولکنه کان بدعا مضطربا، فإن رفاعة وتلامیذه لم یتحرروا من السجع والبدیع، بل ظلوا یکتبون بهما المعانی الأدبیة الأوربیة. ومن الغریب أنهم کانوا یقرءونها فی لغة سهلة یسیرة، ثم ینقلونها إلی هذه اللغة الصعبة العسیرة المملوءة بضروب التکلف الشدید، فتصبح شیئا مبهما لایکاد یفهم إلا بمشقة».27

«هناك ظاهرة جدیرة بالتسجیل تتعلق بالأدب فی تلك الحقبة، وهی الالتفات من بعض الکتاب إلی موضوع الوطن والوطنیة، بالمفهوم الحدیث تقریبا؛ فقد کان الوطن من قبل ذائبا فی جملة العالم الإسلامی أو دولة الخلافة، ولیس له دلالة خاصة، وبالتالی لیس هناك کتابات تدور حوله وتتغنی به. أما الآن ومع کتابات رفاعة الطهطاوی بصفة خاصة، فنحن نجد فکرة الوطن تبرز، والتغنی به یبدأ، حتی لیمکن أن یعتبر ما کان من ذلك حجر الأساس فی الأدب المصری القومی فی العصر الحدیث. وهکذا نری أن رفاعة الطهطاوی یعتبر واضع بذور التجدید فی الأدب المصری الحدیث، فأدبه یمثل دور الانتقال من النماذج المتحجرة التی تحمل غالباً عفن العصر الترکی إلی النماذج المجددة التی تحمل نسمات العصر الحدیث».28

«وکان لازدهار النثر الفنی عوامل کثیرة من بینها: العنایة بدراسة اللغة العربیة وآدابها فی الأزهر والمدارس والمعاهد والجامعات، وإحیاء مصادر الأدب العربی القدیم وطبع أحسن مؤلفات الأدباء المعاصرین، وظهور المجلات الأدبیة، وعنایة الصحف الیومیة بالأدب، وإنشاء دارالکتب المصریة، وکثرة ما ترجم من آداب الغرب إلی العربیة، وتعدد الثورات الشعبیة، التی احتاجت للخطابة، وقیام الصحف مما دعا إلی نهضة الکتابة».29

تطور النثر بعد الحرب العالمیة الأولی، وظهر الاتجاه الأدبی الذی یدعو أصحابه إلی الأسلوب الفصیح الرصین الجزل، حتی یکون لأدبهم موقع حسن فی الأسماع والقلوب، فهم یحرصون علی الإعراب وعلی الألفاظ الصحیحة. وکانوا فی إطار تجدید، لا یخرجون عن أصول العربیة، ویقوم هذا الاتجاه علی التحول والتطور فی اللغة العربیة علی نحوما تحولت وتطورت الآداب الأوربیة، دون قطع صلتها بالقدیم، ومن أصحابه فی مصر، طه حسین، هیکل والعقاد. وهذه النزعة المجددة کانت إحیاء للقدیم وبعثا وتنمیة فی صور جدیدة، ویعتمد علی عنصرین متکافئین وهما المحافظة علی إحیاء القدیم والإفادة من الآداب الغربیة.30

وقد ظهرت، فی أواخر القرن التاسع عشر، أربع طوائف فی النثر وهی: طائفة الأزهریین المحافظین، وطائفة المجددین المعتدلین الذین یریدون أن یعبرو بالعربیة دون استخدام سجع وبدیع، وطائفة المفرطین فی التجدید الذین یدعون إلی استخدام اللغة العامیة، ثم طائفة الشامیین، التی کانت فی صف الطائفة الثانیة، واشتدت المعارك بین الطائفة الأولی والطوائف الأخری، حتی انتصرت طائفة المجددین المعتدلین، فعدل الکتاب إلی التعبیر بعبارة عربیة صحیحة لا تعتمد علی زینة من سجع وبدیع، بل یعتمد علی المعانی ودقتها.31

وکان محمد عبده علی رأس طائفة المجددین المعتدلین. وهو الذی أخرج الکتابة الصحفیة من دائرة السجع والبدیع إلی دائرة الأسلوب الحر السلیم. وکوّن لنفسه أسلوبا قویا جزلا، ومرّنه علی تحمل المعانی السیاسیة والاجتماعیة الجدیدة والأفکار العالیة، ومعنی ذلك أنه طور النثر العربی من حیث الشکل والموضوع.32

ثم جاء تلمیذه لطفی المنفلوطی فقطع بهذا النثر شوطا کبیرا بکتبه ومقالاته، فأنشأ أسلوبا نقیا خالصا لیس فیه شیء من العامیة ولا من أسالیب السجع الملتویة إلا ما یأتی عفواً، ولم یقلد فی ذلك کاتبا قدیما مثل ابن المقفع والجاحظ بل حاول أن یکون له أسلوبه الخاص، فأصبح النثر متحررا من کل أشکال قیود السجع والبدیع، وبذا یعد المنفطوطی رائد النثر الحدیث.

وکانت الشهرة التی حظی بها المنفلوطی، تعزی إلی أسلوبه أکثر مما تعزی إلی مضمون مقالاته. وهو أدرك الحاجة إلی تغییر أسالیب اللغة العربیة، وکثیرا ما عبّر عن اعتقاده بأنّ سرّ الأسلوب کامن فی تصویر الکاتب تصویرا صادقا لما یدور فی عقله من أفکار.33

[*دور الصحافة والطباعة فی تطور النثر:*]

کانت للصحافة تأثیر کبیر فی حرکة التطور. ولئن کانت فی المرحلة الأولی وسیلة السلطة فحسب، فقد غدت، فیما بعد، محرضا وباعثا علی النهضة والتطور. وقد کانت تضم مقالات أدبیة أو اجتماعیة أو علمیة، یفید منها القراء. وأول من فکر فی إنشاء صحیفة، نابلیون، الذی أمر بإصدار ثلاث صحف، اثنتین بالفرنسیة وواحدة بالعربیة. ثم أنشأ محمد علی باشا جریدة رسمیة باسم السلطة.

وللسوریین واللبنانیین سهم کبیر فی إصدار عدد ضخم من الصحف والمجلات کالأهرام والمقتطف والمقطم والهلال.34

وکانت الصحافة هی التی عادت بالکتابة الأدبیة إلی أصالتها من حیث کونها خلصتها من التصنع والزخرف ورجعت بها إلی الوضوح ودقة التعبیر وطوعتها من جدید للتعبیر السمح عن خطرات التفکیر ومشاعر الوجدان.35

«ففی حقل الصحافة استطاعت الصحف الاسلامیة والوطنیة أن تصل إلی طبقات کاملة من القراء».36

وازدهار الصحافة کان نتیجة نمو الحرکات السیاسیة والاصلاحیة واستعلاء الوعی القومی من ناحیة والوعی الدینی من ناحیة أخری. فأصبحت الصحف منابر لتلك الحرکات والمنظمات التی تمثل مختلف الدعوات والمواقف الایدیولوجیة. وکان القصد عند هؤلاء وأولئك التأثیر فی الرأی العام والتعبیر عن قضایاه. وبذلك یکون ظهور فن المقالة نتیجة من نتائج هذه العوامل کلها، من ظهور الصحافة، وظهور الرأی العام، وظهور الحرکات السیاسیة والاصلاحیة. فعاد الأدب إلی الحیاة مرة أخری یعبر عن قضایاه ومنازعها.

«وقد کان لمحمد عبده أثر کبیر فی نهضة الصحافة فی أواخر القرن التاسع عشر، وهو الذی تولی العمل فی الوقائع المصریة».37

وکان للطباعة أیضاً أثر کبیر فی تطور النثر و «ما کان للنهضة أن تحدث لولا الطباعة، فهی وسیلة النشر الأولی، فی عصر یتسم بالتطور السریع، والحاجة إلی الکتاب والصحیفة والمجلة».38

«کان لازدیاد المطابع، والرغبة الأکیدة فی طلب المعرفة أن زادت حرکة إحیاء التراث العربی، فطبعت أمهات الکتب العربیة: الأغانی لأبی الفرج الاصبهانی، و العقد الفرید لابن عبد ربه الأندلسی ...».39

وفی البلاد العربیة کان السبق للبنان فی استعمال المطبعة.40

[*موضوعات النثر فی عصر النهضة:*]

کانت موضوعات النثر واسعة الأفق، و تناولت مشکلات الحیاة وما یهم الشعوب وما یبعث علی الیقظة والنهضة ممثلة فی:

1ـ الدفاع عن الشعوب المظلومة.

2ـ الدعوة إلی الأخذ بنظام الشوری فی الحکم.

3ـ محاربة الاستعمار، وإثارة الحمیة الوطنیة فی نفوس الشعوب المستذلة.

4ـ السعی فی إصلاح المفاسد الاجتماعیة.41

خصاص النثر فی عصر النهضة:

1ـ سلامة العبارة وسهولتها، مع المحافظة علی سلامة اللغة وخلوها من الوهن والضعف.

2ـ تجنب الألفاظ المهجورة والعبارات المسجوعة، إلا ما یأتی عفواً ولایثقل علی السمع.

3ـ تقصیر العبارة وتجریدها من التنمیق والحشو حتی یکون النثر علی قدر المعنی.

4ـ ترتیب الموضوع ترتیبا منطقیا فی حلقات متناسقة، وتقسیم المواضیع إلی فصول وأبواب وفقرات بحیث لایضیع القارئ، ویفهم تناسق الأجزاء ویتبع تسلسلها بسهولة.42

[*أغراض النثر فی عصر النهضة:*]

1ـ النثر الإجتماعی الذی یتطلب صحة العبارة، والبعد عن الزخرف والزینة، ووضوح الجمل، وترك المبالغات، وسلامة الحجج وإجراءها علی حکم المنطق الصحیح، لأن الغرض منه معالجة الأمر الواقع، فلا ینبغی استعمال الأقیسة الشعریة، ولا الخیال المجنح.

2ـ النثر السیاسی أو الصحفی، ویمتاز بالسهولة والوضوح بحیث یکون معناه فی ظاهر لفظه؛ لأن الصحف تخاطب الجماهیر، ویقرؤها الخاصة والعامة.

3ـ النثر الأدبی، وهو أشد أنواع النثر حاجة إلی تخیر اللفظ، والتأنق فی النظم، حتی یخرج الکلام مشرقا منیرا، لطیف الموقع فی النفوس، حلو النبرة فی الآذان، لأن للموسیقی اللفظیة أثرا کبیرا فی الأذهان. وهو أدنی أنواع النثر إلی الشعر.43

من مجموع ما مضی «یمکن أن نطلق علی الأدب العربی فی القرن التاسع عشر عصر الأدب الاتباعی الکلاسیکی، إلا أن الإتباعیة فیه کانت ذات ثلاثة مستویات معرفیة: الأول، یعتمد فی نثره الأسالیب الراقیة الفنیة فی العصور العربیة الزاهیة، والثانی، کان امتدادا لعصور الانحطاط التی بدأت قبل سقوط بغداد فیما یخص التطور النثری فاکتسب طابعها، اغراق فی المحسنات البدیعیة... وثالث مازج بینهما فکان فی نثره یجمع بین کلا الطابعین الأدبیین».44

[*خاتمة البحث:*]

تبین لنا من خلال هذا البحث أن نشأة النثر العربی فی العصر الجاهلی کانت غامضة؛ وکان حظ النثر من الحفظ أقل من حظ الشعر. وفی العصر الإسلامی کانت مظاهر التطور فی النثر أوضح منها فی الشعر ؛ وأغراض النثر ومعانیه قد تغیرت تغیرا محسوسا بظهور الإسلام. وکانت الکتابة ضرورة علمیة لا غنی عنها فی الحرکة العلمیة التی ازدهرت فی العصر الأموی وتعاظمت فی أواخره؛ ونتیجة لذلك توسع انتشار الخط واستعمال الکتابة، إبان ذلك العصر، توسعا عظیما، نظراً لإقبال الناس علی طلبه. وفی العصرالعباسی خطا النثر خطوة واسعة، فهو لم یتطور من حیث موضوعاته وأغراضه فقط؛ بل إن معانیه قد اتسعت وأفکاره قد عمقت، وأخیلته قد شحذت؛ لأن مشاهد الحیاة ومقوماتها العامة قد تغیرت. وفی العصر الحدیث خرج النثر من عهد الانحطاط، وبدأت الأسالیب تتحرر فی بعض جوانبها من قیود التصنع اللفظی؛ وکان للطباعة و الصحافة أثر کبیر فی تطور النثر.

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 21:53|
أدب الطفل ووظیفته التعلیمیة والذوقیة



أ ـ الوظیفة التعلیمیة:

من أفضل الوسائل التعلیمیة تلك التی تتم بواسطة السمع والبصر، وترفض الورق كوسیلة للتعلم والتذوق. فالأدب المكتوب من الوسائل التعلیمیة المحدودة الأثر، وحینما یصبح الأدب مسموعاً أو مشاهداً فإنه ـ حینئذ ـ یؤدی دوره كاملاً .. كما أن التراث الشفهی كان من أقوى الوسائل فی نقل المعارف، والحقائق، والنماذج الأدبیة الراقیة .. وذلك للأسباب التالیة:

1 ـ أن أسلوب الحكى والقص یحقق الألفة، والعلاقة الحمیمة، والمودة والثقة المتبادلة بین المتلقى، وهو هنا الطفل، ومَن فی مستوى مراحل الطفولة، و «القاص» أو «الحكواتی». وفی إطار هذا التبادل الدافئ فی العلاقة تتسلل المعلومات بخفة وسهولة ویسر .. ویقبل علیها الأطفال بشوق ولهفة.

2 ـ أن رفض «فن الكتابة» واعتماد فن القصة على التلقی سماعاً وتلقی المسرح مشاهدة بصریة حیث المبدع یلتقی فیه مباشرة ـ أمر یحقق عمقاً فی الذاكرة .. بحیث لا تنسى هذه الأعمال الفنیة، وتظل محفورة فی وجدان وعقل المتلقى، وتمده بالمعلومات فی حینها.

3 ـ فی المراحل المختلفة لنمو الأطفال، ینبغی بناء الأدب بعامة والقصص بخاصة على مواد تعلیمیة ترتبط بمیول التلامیذ والأطفال وخبراتهم، لأن مثل هذه المواد التعلیمیة تزید من شغف الأطفال والتلامیذ بالأعمال الفنیة، وتدفعهم إلى بذل المزید من حسن الاستعداد، ومن الجهد العقلی للاستفادة من هذه المواد. كما تزید من تهیئتهم للاستفادة الوجدانیة وقدراتهم على الحفظ والقراءة والأداء اللغوی والصوتی السلیم.

4 ـ الأدب فی إطاره القصصی مصدر للنمو اللغوی السلیم عند الأطفال والتلامیذ .. وبرغم ما فی أطوار نمو الأطفال من اختلاف وتباین حیث الاستعدادات للتنمیة اللغویة مختلفة .. فإن الأدب یساعد كل الأطفال، ابتداء من مرحلة الحضانة حتى عتبات الشباب على التحصیل اللغوی وتنمیته، ویتزاید المحصول اللغوی، وتثری دلالاته وتتنوع استخداماته، وذلك بأثر من تزاید عملیات النضج الداخلی لدى الطفل، والخبرات التی تزوده بها البیئة والتجارب التی یمارسها بحكم تقبله وتلقیه للإبداعات وفی مقدمتها القصص والمسرحیات .. ثم ألوان الأدب المختلفة من أناشید، وأشعار جمیلة، وأغانی ذات إیقاع جماعی، لكن بشرط أن تكون هذه «الآداب» متلاقیة مع حاجة من حاجات الأطفال.

5 ـ الأدب مصدر من مصادر المعرفة، فی مرحلة من مراحل الخصوصیات المعرفیة التی تصبح موضوع اهتمام المبدع مثل القصة أو المسرحیة أو قطعة الشعر، حینما تكون حاملة للغة الخطاب المعرفی، والطفل والتلمیذ والآباء والمدرسون یجدون فی هذه النماذج الأدبیة ما یجعل المتلقى من عالم الصغار قادراً على اكتساب ثقافات، وتتبع ما یجد من ألوانها ومن فنون المعرفة، ویكون عادات وجدانیة تسهل التقاط المعرفة والأدب باعتباره نشاطاً لغویاً یساعد على التربیة السلیمة .. حیث الخبرة والعمل، والإحساس السلیم والعاطفة الإیجابیة تساعد الأدب على تنمیتها، والأدب ـ فوق هذا ـ ینتقل بالمدرسة وبعملیتها التعلیمیة من مجرد تلقین التلمیذ مواد دراسیة إلى تزویده بالخبرات العقلیة والوجدانیة، وإعادة تنظیم خبراته السابقة، بصورة تضیف إلى معناها، وتزید من قدرته على توجیه مجرى خبراته التالیة نحو تحقیق أهداف التربیة فی خلق المواطن السلیم جسماً وعقلاً وروحاً ووجداناً وقلباً .. إلخ.

ب ـ الوظیفة الجمالیة التذوقیة:

الطفل یولد بمشاعر رقیقة، وشعور فیاض بالنیات الحسنة، والحب المتسامح النبیل .. وهو یولد مزوداً بخبرات فطریة جمیلة .. فالطفل قیمة تنطوی على الخیر والسعادة والرفاهیة حباً ومودة وتواصلاً كما أنه معروف بشمولیة ذوقه، ورهافة حسه وسعة خیاله، وحبه وشوقه للمجهول، وقیام عالمه الطفولی على المغامرة، والحل والتركیب. والسؤال أن الأدب یخلق فی عالم الطفل توجهات نحو الجمال، ویبرز القدرات المتذوقة ویكشف عن القدرة الإبداعیة.

كما یستطیع الطفل بكل مراحل نموه، أن یكتسب قدرات التذوق حسب كل مرحلة، وخصائصها، وقیمها، وطبیعة العمل الأدبی المناسب لها .. بذلك نستطیع تنشئة الطفل تنشئة تذوقیة حسب استعداده، وقدراته، وطبیعة مرحلته .. فرحلة الطفل خلال مراحل نموه برفقة الأدب، تخلق نوعاً من الصلة بین الجمال والإحساس به، ویمكن تلمس أثر هذا على الطفل الذی تعود الاستماع إلى الأدب أو مشاهدته، أو قراءته .. حیث الطفل یكون عادة فی اتم صحته النفسیة، وأكمل درجات نضجه، وأفضل حالاته الوجدانیة والذهنیة .. وهذا كله صدى للحس الذوقی الذی نما لدیه أثر إرتباطه الدائم بالتذوق الأدبی. ویمكن بلورة العوامل التی تنمی التذوق الأدبی لدى الأطفال وذلك بأثر من تعاملهم مع الأدب استماعاً أو قراءة أو مشاهدة، وذلك فیما یلی:

1 ـ یعمل الأدب على تنشئة الشخصیة، وتكاملها، ودعم القیم الاجتماعیة والدینیة، والثقافیة .. ومن ثم تتكون عادات التذوق السلیمة، والتوجهات نحو الجمال فی كل ما یتصل بالحیاة الیومیة والاجتماعیة، والحضاریة. ویصبح الطفل قادراً على مواصلة علاقاته الإیجابیة ببیئته، ویؤكد دائماً على مطالبه لتحقیق الجمال فی حیاته العامة والخاصة.

2 ـ تتكون لدیه قدرات وخبرات وتجارب وثقافة تعمل على التأكید على شخصیة الطفل المتذوقة للجمال، وإصدار أحكام إیجابیة لصالح النظام والنظافة، وذلك فی إطار الجمال العام. بالإضافة إلى دعم القیم الروحیة والقومیة والوطنیة لدى الأطفال، وذلك لخلق ثقة كاملة فی مستقبل أمة تنهض على أكتاف مسئولین تربوا وهم أطفال على التذوق، والتمسك بالجمال فی حیاتهم الخاصة والعامة.

3 ـ كما أن تذوقهم للغة، وجمالیاتها یساعد على تنشیط وجدانهم، وإكسابهم القدرة على تذوق اللغة واستعمالاتها وحسن توظیفها .. ومن ثم تتكون عادات عقلیة وفكریة، تكون قادرة على تهیئة أطفال الیوم، لیصبحوا قادة المستقبل، ومفكریه.

4- ان الاطفال الذین ینشأون نشاة تذوقیة ادبیة یحققون اكتساب المهارات التالیة :

- التعبیر باللغة والرسم عن افكارهم واحساساتهم لتنمیة قدراتهم على الاستفادة من الوان الثقافة وفنون المعرفة واعدادهم للمواقف الحیویة التی تتطلب القیادة والانتماء والتمسك بالجدیة والاستفادة فی الوقت نفسه من مباهج الحیاة .

- التذوق اللغوی والادبی یحقق للاطفال مجالات وافاقا اوسع فی تعاملهم واحتكاكهم الاجتماعی والانسانی ویعالج سلبیات الاطفال المتمثلة فی انطوائهم وعزلتهم وارتباك مواقفهم وتخرجهم هذه القدرات اللغویة وتذوق الادب من اطار عیوبهم الشخصیة والاجتماعیة الى اطار اوسع من النشاط والحیویة والتعاون والاقبال على الحیاة .

- القدرة على القراءة الواعیة وعلى تقدیر قیمة الكلمة المكتوبة فكریة ووجدانیة ومن ثم اعداد الاطفال لتولى اعمال اذاعیة ومسرحیة و…

- ان الادب یمكن الاطفال من معرفة الدلالات المعجمیة ویزودهم بالدلالات الثانویة الموحیة ویخلق لهم من خلال تذوقهم واستعمالاتهم ابعادا جدیدة عن طریق المجازات التی هی فی الحقیقة استعمالات لغویة تدل على الذكاء وحسن توظیف اللغة وضروریة لتنمیة التعبیر وامكاناته وتجدید طرائفه بل هنالك من یرى ان اللغة كلها مجازات .

- الادب فن والفن موطن الجمال وعلاقة الذوق بالفن قائمة على تنمیة الاحساس بالجمال لدى اطفالنا .فالادب قادر على تغذیة مخیلة الطفل بكل مایثیر ویمتع.

- ان الدب فی افقه الاوسع مجموعة من التجارب والخبرات وعندما نقدم شیئا منه لاطفالنا انما نقصد الى ان الاطفال لم یخوضوا ایة تجربة شخصیة مؤلمة ولم یستطیعوا التعرف على معنى وماهیة الخوف القابع فی اعماقهم ولهذا فانهم یجدون فی ادبهم تعویضا عن ذلك فی تلك الشخصیات والاحداث والمناسبات التی یتضمنها ادبهم .فكاتب ادب الاطفال العظیم هو القادر بحق على التعبیر عن مشاعر الخوف العمیقة لدى اطفالنا والقادر على ان یبتكر لهم مشاعرهم واحاسیس تربطهم بالحیاة بشكل اجمل
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 21:52|
النزعة الاجتماعیة فی شعر أبی القاسم الشابی

أثر: سهاد جادری طالبة فی قسم الدکتوراه للادب العربی فی جامعة آزاد الاسلامیة فرع علوم تحقیقات طهران الاستاذ المشرف :الدکتور سید أمیر محمود أنوار الاستاذ المساعد:الدکتور محمود شکیب
المقدمة:

یدور موضوع المقال حول النزعة الاجتماعیة فی شعر الشابّی. تحدثنا ابتداءا ً و باختصار عن حیاة شاعرنا الأدیب المبدع. و مما لا شک فیه أنّه أدیب و شاعر ذو ثقافة واسعة و إحساس مرهف، تأثر فی شعره بوضوح بالمذهب الرومانطیقین لا سیمّا الفرنسی منه.

بعد ذلک أشرنا إلی النزعة الاجتماعیة فی شعره من خلال نماذج شعریة ظهر فیها هذا الاتجاه، مشتملة ً علی عناوین من هذا النّمط الشعری الحدیث فی الأدب العربی نحو: دور الأم و مشاعرها فی الحیاة، «و الطفل و الطفولة» و «المرأة» کما لم نغفل عن موهبته الدینیة و دور أسرته فی تکوین شخصیته و توسیع آفاقها. و فی الختام قـُمنا بدراسة وجیزة لقصیدته «إرادة الحیاة» منوّهین إلی «حب الوطن» فیها.
حیاته و ثقافته

ولد محمد الشابی والد الشاعر سنة 1879 وفی سنة 1900 ذهب إلی مصر وهو فی الثانیة و العشرین من عمره لیتلقی العلم فی الجامع الأزهر فی القاهرة و سکن فی مصر سبع سنوات عاد بعدها إلی تونس یحمل إجازة الأزهر ثـُمَّ أنّه التحق بعد عودته من الأزهربجامع الزیتونة بحیث درس عامین نال فی نهایتها إجازة التطویع و هی شهادة نهایة الدروس فی الزیتونة، و فی تلک السنة یبدو أن الشیخ محمد الشابی کان قد تزوج إثررجوعه من مصر ثـُمَّ رزق إبنه البکر اَبا القاسم الشابی شاعرنا قبل أن ینال شهادة التطویع.  [1]

ولد أبو القاسم الشابی یوم الأربعاء فی الثالث من شهر صفر سنة 1327هـ و المواقف للرابع والعشرین من شباط عام 1909فی بلدة توزر، ثم عنی الوالد بتعلیم إبنه فی البیت.  [2]

و فی سنة 1920م التحق بجامع الزیتونة فأتقن القرآن و العربیة و تمرس بالأدب و کان له میل شدید إلی المطالعة، فحصل بها و بنشاطة علی ثقافة واسعة جمع ما بین التراث العربی القدیم و معطیات الفکر و الحدیث و الأدب الحدیث.  [3]

و ذکرزکی أبو شادی أن الشابی کان فاشلا ً فی زواجه و أنّه قد أقنع بضرورة الزواج إرضاءً لأبیة ثـُمَّ رزق من زواجه ولدین.  [4]

حینَ بلغ الطفل الخامسة من عمره أرسله أبوه إلی الکتّاب فی بلد قابس ثـُمَّ أنّه کان یحضر حلقات دروس علماء البلدة و غذ ّی مواهبه بأدب النهضة فی مصر و لبنان و العراق و سوریة و المهجر، کما نمّی طاقاته الأدبیة الشعریة بمطالعة ما ترجم إلی العربیة من آداب الغرب، و لا سیمّا أدب الرومانطیقیة الفرنسیّة، و قد ظهر نبوغة الشعریّ و هو فی الخامسة عشرة من عمره و علی أثر تخرجه من جامع الزیتونیة التحق بکلیة الحقوق التونسیة، و کان تخرجه منها سنة 1930م، و فی هذه الأثناء توّفی والده ترک له عبء الحیاة، ثقیلا ً فحاول أن ینهض بالعبءِ و مسؤولیة العائلة، ولکنه أصیب بداء تضخّم القلب.

و هوفی الثانیة و العشرین من عمره نهاه الأطباء عن الإرهاق الفکری و لکنه واصل عمله و فی نفسه ثورة علی الحیاة، و فی قلبه تجهمّ قتّال و فی صیف 1934 م جمع دیوانه «أغانی الحیاة»، و نوی أن یطبعه فی مصر، ولکنّ الداء اشتدّ به و ألزمه الفراش، فنُقل إلی المستشفی الإیطالی بالعاصمة حیث فارق الحیاة فی التاسع من شهر تشرین الأول سنة 1934م، و نقل جثمانه إلی مسقط رأسه و دفن فی الشّابیة.

أدبه:

لشعر الشابّی مراحل من حیث الرّوح و الوحی تتجلـّی فیها نزعاته الکبری و محطـّات اختلاجاته النفسیة و العاطفیة، و هذه المراحل لیست فی الدیوان واضحة المعالم، بیّنه الحدود. إنّها متداخلة تداخلا ً زمنیا ً و إن کانت فی موضوعها و فنّها ذات صبغةٍ خاصّة، و ذات امتدادات و آفاق خاصّة.

- آلف) مرحلة الأدب الأندلسی و المهجری: عندما تفتحت قریحة الشاعرو راح یجاری الأندلسیین فی طریقة نظمهم و فی أسالیب تصوّرهم للحیاة، ثمّ فی نهج الزخرفة و التنمیق، حتّی لکأنّ شعره من شعرهم، و صیاغته من صیاغهم قال یصف جمیلا ً و یصف حاله معه:

    رُبَّ ظبـــیّ ٍ عَـلِقـتـُهُ
    بالبَهَـا قـد تقـرطـَقَــا
    ثمّ من وصلِهِ الجمیل
    غَـدا الـقـلبُ مُملقـَــا
    سحـر اللـُّبَّ طـَرفـُهُ
    مادَها الریقَ لوَرَقی
    صــارَ مُلقــی بحُبّه
    مُوثقـا ً لیس مطلَقـَـا
     [5]

یستقی الوحی فی شعره من تصنیعات الدندلسیین. ولکنّ هذا التلمّس لم یدم طویلا ً. فقد ترامت إلیه أخبار أدباء المهجر فأطلـّع علی آثارهم و لاسیمّا آثار جبران خلیل جبران، و فعلت فی نفسه ثورتهم الاجتماعیة و تطلـّعاتهم المستقبلیة، و حرّک أوتارشاعریة أسلوبهم الجدید فی الکتابة و الشعر فأراد أن ینهج منهجهم فی النوعیة، و أراد أن یسلک مسلکهم فی الأدب. فنزع نزعة صوفیة وراقیة، و فتح نوافذ نفسیة علی الإنسانیة المعذّبة، و راح یهاجم المجتمع المتحجّر و یدعوا إلی التجدید فی الحیاة.

- ب) مرحلة الرومنطیقیة الأدبیة: و إلی الجانب التأثر المهجری نجد تأثیرا ً آخر کان له فی شعر الشابی أصداء بعیدة ألا و هو شعر الرومانطیقیة الأوربیة الحافل بالألم و القلق. الذکریات و الحنین المتدفـّق حزنا ً و فرحا ً، الغارق فی خضم من التأمل. و فی هذه المرحلة من حیاة الشابی الشعریة نلمس نفسا ً جیّاشة العواطف و تحاول أن تجمع ما بین العواطف الجبرانیة و اللـّین الرومنطیقی، فتنطلق فی معانی الکآبة و الحزن لاحدَّ له، و یذهب فی تفهّم الحیاة المذاهب المختلفة تختلج فیها الثورة و الیأس، و الألم، والشابّی بدا عمیق النظرة بعید عن الرؤیا، وافرالإنسانیة، فیّاض القریحة.  [6]

قد یقول عمر فروخ عن حال الشابی بعد موت أبیه کأنّه مکسور الجناح مثقلا ً بأعباء الحیاة، یظهر ذلک کلـّه فی قصیدة «یا موت» التی رثی بها أباه: یا موتُ قد مزقتَ صدری و قضمت بالأزراء ظهری و فجعـتنـی فی مـن أحـبّ و مــن إلیــه أَبــتُّ ســـری ورزأتنـــی فی عـمــدتــی و مشــورتی فی کـل أمـــر (1974، ص100)
النزعة الاجتماعیة عند أبی القاسم الشابی:

أبو القاسم الشابی شاعر موهوب رقیق العاطفة، شفاف الحس، صادق الإیمان، اعتبر أحد الزعماء المجد دین فی الشعر العربی الحدیث فی تونس، و من المؤمنین بتحریر الشعر العربی من طرق قدیمة. نزع النزعة الرومانسیة فی لغة صافیة شفافة، فیها براعة الصیاغة و حسن التحلیل، امتاز فی جنوحه إلی الرّمز، و البحث عن المجهول، و الهروب من الواقع إلی الطبیعة و الخیال، و الأفکار الإنسانیة و المثالیة، و التمسک بالجمال و القوة و الخیر، عالج فی موضوعاته فلسفة البؤس و الشقاء و المآلم و الحزن و الحب و الحیاة و القوة و الثورة، فکان إنسانا ً ثائرا ً علی کل قیود عصره فی الشعر و الحیاة و المجتمع و السیاسة ظهرت عبقریته و هو علی مقاعد الدراسة. و نشرت له صحف تونسیة انتاجا ً شعریا ً و لفت إلیه الأنظار، فی مدة وجیزة ً، و نشرت له «مجلة أبولو» المصریة التی حملت لواء التجدید فی الشعر العربی، مجموعة من أشعاره لنغمة جدیدة و فنـّه الحدیث المبتکر. عشق الحیاة و الإنسان من أهم الموضوعات الاجتماعیة فی شعر الشابی حول قضایا بلاده و هموم المجتمع الذی یعیش فیه الشاعر و یقول إنّ الداء فی کلّ الداء المعبر لا فی روح الشعب.  [7]

کان الشابی فی شعره الاجتماعی أصدق الناس عاطفة، و من أخلصهم شعورا ً بالمسؤولیة الاجتماعیة، و قد وعی أن بیئته مریضة یسیطر علیها الجهل و الفقر و تتنازعها السیاسات الاستعماریة و القوی المتحجرة التی تحالف الاستعمار أو استخدام لها، فراح یعمل علی إیقاظ الضمائر، بالمحاضرات، تأسیس النوادی، و نشر الکلمة المسؤولة، إنّه لم یکن رجل سیاسة یتطلب الدنیا التونسیة، و زلزل أرکانها، بل کان رجل العقل الذی یبصر الحقیقة، لقد أطلق صوته تسمعه الآذان و قد ذکر الکثیرون هذه الآراء الجدیدة و الجریئة و نکره الکثیر. (الفاخوری، حنا، ج4، 1991م، صص704 و 705) و عندما أخفق فی مسعاه ارتدّ علی شعبه کالعاصفة الهوجاء و قال:

    أیُّّهــا الـشّــعـبُ کـُنـتُ حطـّـــابــا ً
    فأهــوی عـلی الجذوع بفأســی
    لیتنی کُنتُ کالســیول، إذا ســالت
    تهُــدُّ القبـــــورَ رمســـا ً یَـرمـس
    لیت لی قوّة العواصف، یا شـعبی
    فـــألقی إلیـــک ثــــورة نفســی
    لیت لــی قـوّة الأعاصـیـر… لکن
    أنت حیُّ یقضی الحیاة بَرمـس!
     [8]

و کانت تونس هاجسه فی نهاره و لیله، یرید لوطنه العزّة و الترقّی، و یرید فیه تحریر الشعب و المرأة کما یرید تحریر العقول و النفوس. ألم تکن تونس ملء عین التاریخ؟! ألم یکن تاریخها حافلا ً بالمجد و الرقی منذ أقدم العصور؟ ألم یقم فیها أمثال أوغسطنیوس و ابن خلدون و ابن منظور؟ إنها تونس الجمال، و تونس العلم و الفن و القیادة! ماذا حلّ بها، من أین تسرّب إلیها الخمول و الرکود؟! و ها هوذا الشاعر یقف علی أطلال هذا المجد الغابر و فی قلبه لوعة و فی نفسه أمل.

    أنا یـا تـونس الجمیلة فـی لجٍّ
    الهوى قـد سَــبَحت أی ســـباحه
    سرعتی حبُّک العمیقُ و إنـّی
    قـد تـذوَّقــــتُ مُــرّة و قـراحـــــة
    لبســتُ الضــاع للواحی و لـو
    متُّ و قامَت علی شبابی المناحَـه
    إنَّ ذا عصـرُ ظلمةٍ غــیر أنّی
    مـن وراء الظلام شــمت صباحـه
     [9]

و لو أننا تناولنا مفهوم الشعر عند الشابی لوجدناه یقول: «الشعر تصویر و تعبیر، تصویر لهذه الحیاة التی تمرّ حوالیک مغنیة، ضاحکة، لاهیة أو مقطبة واجمة باکیة أو وادعة حالمة راضیة أو مجدفة ثائرة ساخطة، و تعبیر عن تلک الصور بأسلوب فنّی جمیل ملؤه القوة و الحیاة»  [10] و هذا الذی قاله الشابی إنّما هو- و تکاد تکون بعض الکلمات واحدة و رسالة الشاعر عند الشابی هی نفسها التی نادی بها شعراء المهجر: فالشاعر نبی له رسالة تنزلت علیه من عالم الروح و علیه أن یذیعها فی الناس جمیلة رائعة طاهرة، یجد فیها المؤمن مراحه من عناد الحیاة، ملاذة من عنت الدهر، و یجد فیها المشارکة النفسیّة الدقیقیة لما یعتمل فی نفوسهم، و تجیش به صدورهم من عواطف و أحاسیس.  [11]

حقیقة أنّ الـشابی تأثـّر بشعـراء الـمهجر فی تجویدهم للموسیقی الـشعـریة و نظام الـقصیدة و الصورالشعریة و الألفاظ و أسلوب الشعر بوجه عام، أمّا أسلوب الشّابی من الناحیة الفنیة فهو متصنع فی أکثر مواطنه کثیر الزخارف و التهاویل و الطلاء.  [12]

1- النزعة الأولی فی الاجتماع: «الأم»

قلب الأم

یا أیّها الطفل الذی قد کان کاللـّحن الجمیل

و الوردة البیضاء، تعبق فی غیابات الأصیل

یا أیّها الطفل الذی قد کان فی هذا الوجود

فرحا ً، یناجی فتنة الدنیا بمعسول النّشید

هنا یصف الشاعر لنا الطفل عندما یبکی بلحن ٍ جمیل و کل ما یحتاجه أو یشعر به ینقل إلی الأم بلحن ٍ خاص و هذا الطفل مثل وردة بیضاء فی وقت أفول الشمس یقرعون له لکی ینام أو یحتاج إلی الراحة و السلامة التی تداریه الأم إلی الصباح و فی حالة ثانیة یقول بأحلی نشیده یناجی فتنة الدنیا بفرح ٍ و سرور ٍ الذی کان ما بین الکائنات و الموجودات.

و مضت بروحک للسماء عرائس النّورالحبیب

یحملن تیجـانا ً مُـذهـبة ً، مـن الــزَهـرالغـریب.

و هنا یصوّر الملائکة التی تنزل فی روح الطفل شبه العرائس التی تتکون من نور سماوی یحملن قطعا ً من الذهب و فیهنّ أزهار ملوّنة من أنحاء العالم.  [13]

إنّ الحیاة و قد قضیت قـُبیل معـرفة الحیــاة

بحرٌ قرارتُهُ الرّدی، و نشیدُ لجته، شـکــاة

و علی شواطئه ٍ الـقلوب تئن، دامیة عُــراة

بحرٌ تجیشُ به العواطفُ فی العشیّة و الغداة

یصوّر الشاعر الحیاة تصویرا ً دقیقا ً و یقول الإنسان لما عُرف الحیاة علیه أن یغوص أو یتعمّق و یمرّ من ناحیة الهلاک و یتحمّل کل الشکایات و المسؤولیات العظیمة حتی یعرف ما تقول الحیاة فی هذا البحر تکون العواطف جیاشة لیل و نهار و علی سواحله القلوب تمیل إلی البعض واحدة ً تداوی جروح الآخرین. و علی الإنسان أن یجرّب کلّ الأمور و من خلال أحداث الحیاة و یذوقها لکی یکون محنکا ً أو صاحب تجربة.

فی لجّة الغابات، فی صوتِ الرّعود القاصفة

فی نـُغیَة الجمل الودیع، و فی أناشید الرُّعاة

یقول هنا إنّ الأم فی زمن الولادة أو الحمل صوتها مثل صوت الرعود من المطر الذی یسقی بعمقها و هذا الصوت یشبه الرعاة التی تنطبق أصواتها إلی الحیوانات لکی تمشی علی مسیرها الخاص و یدور من خلال فواصل البعیدة.  [14]

    بین الـمروج الخُضـر و السَّفـح المجلل بالنبات
    فی آهة الشاکی، و ضوضاء الجموع الصاخبة
    فی شـهـقة البـاکی یـؤجـِّجُهــا نُـواحُ الـنــادبَة
    فی کلّ أصوات الوجود: طتروبها و کئیبها
    و رخیمها و عَنیفها، و بغیضها، و حبیبُها
     
    …
    فی رقص اَمواج البحیرة تحت أضواء النجوم

یصف الأم التی تلد الطفل بالمطر الذی یعشّب الأرض و صفحة خضراء بأنواع النباتات و الآهات التی تشتکی منها بین جمیع الناس و تحدثُ الضوضاء بصوتها العالی یؤدی التحیة لها النواح بکلّ الأصوات الموجودة من الفرح و السرور إلی الحزن و البکاء و یصوّر لنا الحیاة بهاتین الحالتین فی حین الولادة ثـُمَّ هناک یدخل فی الطبیعة بما فیها من أحداث هی صورة من رومانطیقیة الشاعر التی توصل الحب بالطبیعة مباشرة ً.  [15]

2- النزعة الثانیة فی الاجتماع: (المرأة)

کانت المرأة نعیم الشابّی و جحیمه فغنّی لها فی کلّ مراحل حیاته و إذا کنّا قد ذکرنا شیئا ً عن زواجه فی تلک المقدمة، فسندرس فی ما یلی حبّه خارج إطار العلاقة الزوجیة. فقد انقسم الناس حول حبّ الشابی قسمین: أحدهما یری أن الشاعر یصف فی غزله نساء من عالم الواقع، دعاه إلی وصفهنَّ میله إلیهنَّ فی وقت کانت فیه نفسه منصرفه إلی الحیاة، و کان یتمتع بصحـّة و نشاط، أو کان فی هدنة مع مرضه أما الفریق الآخر، فیری أنّ الشابی خلق لنفسه مثالا ً للمرأة و راح یتحدث إلیه، ملقیا ً علیه من خیاله الشیء الکثیر.

إنَّ الشابی أحب رفیقة طفولته، و تغنّی بحبها حبّا ً عذریا ً خاصا ً. ثمّ ماتت تلک الحبیبة و هما فی سن المراهقة، و ماتت و ترکته یندب الحبّ و یرثیها، إذ بقیت فی نفسه حاضرة، و قد جاء هذا الشعر عذریا ً عند الشابّی، فی مستهلّ صباه، و ذلک قبل أن یبلغ العشرین من عمره، کما جاء ضعیف الأسلوب بالمقارنة مع شعره الذی جاء فیما بعد، و کان یسیطر هذا الشعر لون من الحزن و الکآبة و الحنین:

ماتَ من تهوی! و هذا اللـّحد و قد ضَمَّ الحبیب،

فَابکِ، یا قـلبُ، بمـا فیک من الـحـزن الـمذیب  [16]

أمّا الطور الثانی فقد أحبّ الشاعر حبّا ً صریحا ً مادّیا ً و أحبَّ نساءً بعینهنَّ. ذلک أن الشاعر نضج باکرا ً و انتقل فی بیئة منفتحة، بعیدة کلّ البعد عن الرقابة، و ملیئة بالمغریات. فساهم ذلک فی إذکاء الجانب الغریزی فی نفسه فقصیدته «صلوات فی هیکل الحبّ» لا یمکن إلاّ أن تکون فی فتاة بعینها حیث یقول عنه:

    کلـّما أبصَرتکِ عینایَ، تمشیـ
    ـــنَ بخطــو ٍ موقـّع ٍ کالنشـــید ِ
    خفق القلبُ للحیــاة و رفّ الزّ
    هـرُ فی حقل ِعُمریَ المجـرود ِ
    کـُلّ شـئ ٍ مُوقـّع ٍ فیک ِ حتـی
    لفَته َ الجیـد ِ و اهتـــزار النهــودِ
    
    أمّا القصیدة فقصة متکاملة لما تحتوی علیه من السرّد و الوصف و الحوار حیث نجد فیها الأبیات التالیة:
    
    راعـهـا مـنـه صـوتـُه و وجـومُــه
    و شجاها شُحوبُه و سهـومُـه
    فأمرت کــفـّا عـلی شــعـره الـعــا
    ری بـرفـق ٍ کأنّتهــا ســتـنیمه
    و أطلقت بـوجههـــا الــباسـم الحلـ
    و عـلی خــدّه و قـالت تـلومــه
    خـلّ عـبء الحیــاة عـنک، و هـیّا
    بمحیّـا کالصـبح ِ طلـق ٍ أدیـمُـه
    واحـتـضـنـّـی فـإنـنـــی لـک حـتـّـی
    یتواری هـذا الـدّجـی و نجومـه
    واقطفِ الورد من خدودی وجـیدی
    و نهودی، و افعل به ما ترومُه
     [17]

أمّا فی قصیدته، «تحت الغصون» فیصف الشاعر خلوة کانت فی منتهی الصّراحة، النزوع العاطفی، و جاءت وصفا ً لمغامرة واقعیة تعبّر عن رغبه مکتوبة عند الشاعر، و سنورد بعض أبیاتها للوقوف علی التطوّرالشعری عنده، و لیس لتتّبع العلاقات العاطفیِة و فیما یقول:

    ها هنا فی حمائل الغاب تحت الرّمــ
    ان و الــسِّـــنـدیـان و الــزّیـتـــــون
    ما أرق الشـبـاب فی جســمک الـغــ
    ض ِ و فـی جـیـدك البدیـع الثمیـن
    قـُبُـلا ً عـلـّمــت فـــؤادی الأغــــانـی
    و أنـارت لـه ظـــلام الــســـــنـیـن
    أی خـمــــر رشـــفـتَ، بـل أی نــار ٍ
    فـی شـــفــــــاه ٍ بـدیعـة الـتکــــویـن
    و ســکرنـا هـنــاک فی عـالــم الأحــ
    ــلام، تحت السماء، تحت الغصون ِ
    و نســینـا الـحیـاة و المـــوت و الکــو
    نَ، و مـــا فیـه مــن مـنیً و مـنآون ٍ

إنَّ الغزل فی هذه الأبیات حسّی مادّی، و إذا ترکنا المعانی و الصور- و بعضها یمکن أن نحمله علی المجاز- فلابدّ من التأکید، فی هذه القصیدة و فی غیرها بأن لا یمکن أن تؤخذ إلاّ علی سبیل العلاقة المادیة مثل: و أینا النهود تهتزُّ … وابعثی فی دمی الحرارة … واحتفنّی… قبـّلینی… آه ما أعذب الغرام… خضمّ یموج بالإثم.

علی أننا نبادر إلی التأکید علی أنَّ غزله لا یمکن أن یقارن بالغزل الروحی الذی رأیناه عند الصوفیین أمثال إبن الفارض، و إبن العربی و غیرهما، لأنَّ تعابیر الصوفیّة لا تنکشف انکشاف ألفاظ الشابی، بل تشکّل مع غیرها من القصائد وحدة منسجمة متکاملة لا یمکن تجزئتها. (المصدر نفسه، 1993م، ص 21)

    المرأة الحالمة بین العواطفِ
    أنت کالزهرة الجمیلة فی الغــاب
    ولکـن مـا بـیـنَ شــوک ٍ ودود ِ
    و الریاحین تحسبُ الحک الشریـ
    ــرَ و الدودَ من ضوف ِ الورودِ

یصوّر المرأة کزهرة من الزهور فی البستان ما بین الشوک المترافق للمودة هذه الریاح تجعل لک صوتا ً من أی زاویة و هذه الصداقة و المرافقة هی من عادات أو ضعف الورود، یقول الشاعر إنّ الصداقة الحقیقیة أو الواقعیة فقط تأتی من الورود و تراهمك فی أیة حالةٍ من لحظات حیاتك.

    فأفهمنی الناسَ: إنّما الناسُ خلـقٌ
    مفسدٌ فی الوجودُ غیرُ رشید ِ
    و السعید السعیدُ من عاش کاللیل
    غریبا ً فی أهل هذا الوجـود

قبل أن تعرفین الناس علیک أن تواصلی لهم فی الکون إنما هؤلاء الناس هم من المفسدین و المتکبرین فی الأرض ولا فیهم حمیة و لا رجولیة و أحسنهم من یعیش عیشة ً مثل اللیالی التی تمرّ من حیاة الانسان و تقترب لأهل الحق و المصلحین بالوجود و یعبدون ربّهم لیل و نهار و یعملون الطیبات.  [18]

    و دعـیهــم یحیـــون فی ظلمة الإثــم
    و عیشی فی طهرک المحمود ِ
    کالملاک البریء، کالورود البیضاء
    کالـمـوج فـی الخضــمّ الـبعیـد
    کأغانی الطیــور، کالشــفق السـاحر
    کالکوکـب ِ الـبعیـد ِ الســعـیـد ِ
    کثلــوج الجبــال، یَغمــرُهــا النــورُ
    و تسمــو عـلی غـبار الصعید ِ

یقول الشاعر إنّ الأشخاص الذین یتوالون إلی الأعـمال السیئة و الغـیر طیبة علیک أن تدعیهم إلی الظلمات و أنت عیشی عیشة ً فی الطیبات وطهارتک الحمیدة مثل شخص ٍ فارغ من الظلمات وعیشی فی الحیاة الحقیقة کوردة بیضاء و کإنسان فی السکون أو کموج ٍ عمیق من أمواج البحر و کأنّک تغریدین مثل الطیور و کالعطوفة الساحرة التی تنقلب فی قلب الإنسان مثل کوکب بعید عن الحیاة السعیدة و الملیئة بالأرواح مثل الثلج الذی یذوب و یصعد بخارا ً إلی السماء و یصبح غبارا ً أسود و یعطینا المطر. و فی آخر المطاف یصوّر لنا الشاعر الناس و طبائعهم فی الأرض و النساء الطیبات اللـّاتی یحملن الصفات الحمیدة و ینتقم من الأشخاص السیئین و المفسدین فی الأرض.  [19]

3- النزعة الثالثة فی الاجتماع (الأسرة)

ذکری الأسرة

کـُنـُـا کزوجی طائــر، فی دوحة الحبّ الأمین

نتلو أناشــید المُنـی بینن الخمــائل و الغصــون

متغردین مع البلابل فی السهول و فی الحزون

ملأ الهوی کأس الحیاة لنا، و شعشعها الفُتون

یقول الشاعر فی هذه الأبیات و هی من بحر المجزوء الکامل نحن متزوجون علی سنة الله و رسوله فی ساحة واحدة أو کطائرین علی جناح الأشواق و الحبّ العاطفی و المقدس الذی یأتینا من خلال هذه الغربة و فی أسهل و أصعب الحیاة بالکلام المنطقی و العذب لکی نصل إلی مرحلة من الحیاة الملیئة بالعشق الشدید و کؤوسها تنوّرنا من خلال إعجابها بالکون.

حتـّی إذا کدنا نرشّف خمرها، غـُصب المنون

فتخطف الکأس الخلوب، و حطـّم الجام الـثمین

إذا أردنا أن نشرب من الخمر لیغضب الله بسبب أعمالنا فی الحیاة و هذا الانتقام کسـِّر هذا الجام الثمین و أغلافه. و أراق خمر الـحبّ فی وادی الکآبة و الأنیـن

و أهـاب بالحبّ الودیـع، فـودّع العُـشّ الأمیـــن

وشدا بلحن الموتِ فی الأفق الحزین المسـتکین

ثـم اختـفی خلـف الغیـوم کأنّه الطیـف الحـزین

و یقول الشاعر لمّا الإنسان یذوق شراب الحب علیه أن یتحمّل الصبر الجمیل فی وادی الحزن و العذاب، و عندما یتخلی عن هذا الصبر الجمیل فیودّع الحیاة الزوجیّة و یترک لها الوداع من أجل الحب الصادق و الخالص و عندما یسکن فی مکان ٍ وحده و یحسُّ بالحزن المدید و ینشدُ بصوت الموت و یخرجُ من ساحة الحیاة و یظلُّ کطیفٍ من الحزن و الکآبة.  [20] و کان مصورا ً آلام وطنه، موقظا ً فی أمته الروح الوطنیة، منمّیا ً فیها روح الأخلاق و الجهاد فی موهبة نفسیة أصلیة و کان یعیش اللغة العربیة و الشعر العربی. یتکوّن شعره من روح الاجتماع و ما حوله من الجریانات التی تمرّ علی الانسان فی مجتمع فیه الصعوبات و الآلام و الکوارث و العواطف هی تهزّ الانسان العربی و الشاعر من خلال أبیاته الوجیزة و ذات المعنی.  [21] و ینتفض فی کارثة الزلزال التی أصابت بلدته نابلس، و هو یری دموع النساء و الأطفال، فیصوّر ذلک ببراعة تامة، فیقول فی المطلع الأول.

دموعُ النساء و الأطفال

یجرح ُ القلبَ أم دموعُ الرجال ِ

بلـدٌ کـانَ آمنـا ً مطمئنا ً

فــََرمــاهُ الـقـضــاءُ بـالـزلـزال ِ  [22]

4- النزعة الرابعة فی الاجتماع (الطفولة):

    لله مــا أحـلـی الـطفــولة! إنّهـا حُلـمُ الـحیــاة
    عهدٌ کمعسُول الرُّؤی ما بین أجنحة السـُّبات
    ترنـو إلی الدّنیـا و مـاضیهــا بعیـن ٍ باســمة
    و تسـیرفـی عـدواتِ وادیهـا بنـَفس حـالـمه
     [23]

یتذکر الشاعر عهد الطفولة و یصوّرها أحلی أیام عمره و کأنّها أحلام تسیر إلی الأمام و شَبـَّهَها بالعسل ِ ما بین الراحة و النوم و هذه الأیام تنظر إلی الدنیا بعین ٍ مفرحة و یمشی بشکل ٍ صعب و فیها العذاب و الأحلام، ینظر إلی أول أیام عمره سهلة و فیها أحلی و أروع لحظات الزمان و حین تبدی هذه الأیام إلی الحرکة تسیر سیرا ً حامل المشقات و الآلام و الخمودُ و الیأس و الحرمان.

    إنَّ الـطـفــولة تـهـتـزُّ فی قـلب الــرّبـیع
    ریانة من ریّق الأنداء فی الفجر الودیع
    غَنـّت لها الدنیا أغانی حبـّها و حُبورهـا
    فَتأوَّدَت نشوی بأحلام الحیاة و نـورها
     [24]

و من جهة ثانیة یقول إنَّ أیام طفولتی تهتزُّ قلوب الربیع و النوروز کأنّها أشجارٌ تتحرک و محرّکها الطبیعة الباسمة و فی الفخر الهادیء تسقی الأشجار و ترویها لکی تنمو و تصل إلی مرحلة النضوج و یغنّی لها النسیم و یفرح بحبّها و تسیر الأغصان و تعوّج إعواجا ً کأنّها شخص سکران فی العلوّ بنور الشمس، و الحیاة تنهب من حالة الحلم التی تعیش فیه، و تعطی لنا حیاة جدیدة فیها الکثیر من الأمانی و الشوق الشدید.

    إنّ الطفولة حقبة ٌ شعریة بشعورها
    و دموعها، و سرورها، و طموحها
    لم تمش ِ فی دنیا الکآبة و التعاسة و العذاب
    فتری علَی أضوائها ما فی الحیاة من کِذاب
     [25]

و من جهة أخری طفولة الشاعـر کأنّها حقبة فیها الذکریات من عـمره بإحساس طیب. و هذه الخواطر کلـّها کذب و افتراء، الفرح و الحزن و المغامرات و الکبر و الغرور، لم تسر بطریق صحیح بل هی حاملة حقیقة الحزن، و الیأس و الحرمان، ترجع إلی أحلام العـمـر و تنتهی بشکل غیر صحیح و غـیر مباشر ربّما أحداث من الزمن و ما فیه من أهـوال مهلکة و ظاهره سیئة.

5- النزعة الخامسة فی الاجتماع (حمایة الدین)

    لقد نـام أهـل العلم نوما ً منغـطســا ً
    فلم یسـمعـوا مـاردَدتـُه العـوالــم
    ولکنّ صوتا ً صارخا ً، متصاعـدا ً
    من الروح یَدری کنهه المتصامِم
    سـیوقظ ُ منهـم کلّ مَـن هــو نـائــم
    و یُنطلقُ منهم کلّ من هو واجـِم
     [26]

یقول الشاعر هنا عندما الشعب لم یجب ما قالته العوالم و العلماء یستمرُّ بنومه و له تکن له حرکة و سیر و لم یعط فکرة قویة للعالم و یکون صوته خافضا ً فیه السکون

    سـکـتم حُمـاة الدین! ســکنة واجـم
    و نمتم بملیء الجفن، و السیلُ داهم
    سکتم و قد شمتُم ظلاما ً، غصونه
    عـلائــــم کفـــر ثـائــر و مـعـالـــــمُ
    مــواکـب إلحـادٍ وراء ســکوتِکــم
    تضجّ، و هـتا إنّ الــفضــاء مـأثــــمُ
     [27]

و فی هذه المرحلة یقول إنّ حماة الدین سکتوا سکوتا ً عمیقا ً و ناموا بعین ملیئة بالأحزان و هذه الأخطار مستمرّة و یصبحون کفرة. و یقول الأستاذ مختار بن محمود عن الشابی: إنّه رجلٌ قوی الإیمان، ثابت العقیدة، متلاعب بدینه. فلیس هو من اولئک الذین یستترون بحجاب الفلسفة و الذکاء و اتساع النظر لیتوصلوا إلی العبث بالأدیان و المعتقدات، ثمّ یتخذونها سخریة و یجعلون مبادئها مجالا ً لعبثهم و سخافاتهم، ذلک الأمر الذی لا یسلم منه الشعراء المتقدمون، و الکثیر من الشعراء المتأخرین و إنّی لأتعجّب من بعض الناس الذین یحکمون بسرعة علی شاعرنا بأنّه شاعر مستهتر متلاعب بدینه.  [28] ها هو یرکز موقفه الإیجابی علی التندید بموقف «رجال الدین» المسلمین السلبی، و هم المسؤولون الأولون عنه.

أفیقوا قلیل النوم ولـّى شبابه

و لا حبّ لآلاء الصباح علائم  [29]

و قال إن «حماة الدین لم یفیقوا من نومهم، نوم الرفاهیة و الاستسلام للاستعمار و لم تکتحل أبصارهم بنور الحق و الحریة و هذا النوم و الخمود أتاح الفرصة للاستعمار لکی یستمرّ فی طریق الاستغلال و الاسترتاق و أتاح الفرصة لحماة الدین لکی ینالوا فرصة المناصب الکبیرة و الرواتب العالیة».  [30] ولکن الشابی لا یترک لهم و للاستعمار الفرصة لسلب الشعب قوته و حقّه فی الحیاة و الحریة و الکرامة.

6- النزعة السادسة فی الاجتماع: (الوطن)

و لابدَّ هنا من وقفة عند قصیدة الشابی الشهیرة «إرادة الحیاة» و فیها خلاصة من آرائه الاجتماعیّة و صورة واضحة لأسلوبة الشّعری و للحیاة المتأججّة فی شعره. دواعی القصیدة أنّه فی خضم الحیاة القلقة التی تعیشها الأمم، ینبری الشعراء فیطلقون کلمة وحیهم لیوقظوا العیون الغافیة، و یهتفون فی أعماق تلک الأمم لیثیروا أصالتها و نبوغها فتتحوّل هتافاتهم إلی دم جدید یمسح من جبینها تغضُن العجز، و تنقض عن کتفیها غبار الحمول. فالشعراء فی الحقبات الحالکة من تاریخ الأمّة یستنفرون قرائحهم منارات إشعاع و إثارة، فیقلقون الجمود، و یفجـّرون القوی الکامنة فی وجدان الأمة لتنبعث منه طاقات التغییر، و معطیات العافیة و الکرامة و السیادة. هذا ما فعله الشابی عندما فتح عینیه علی وطن یتخبّط فی قیوده و أدرک أن الأرض التونسیة، لم یزلزلها صوت یحمل نبرة النبوة لن ترتعش فیها نبضات العزة، . و أن هذا الشعب لن یحطـّم أصنامه إذا لم تهزّه صیحة واحدة من الأبناء و الأحرار إنّ إیمان أبی القاسم بدور الشعب و وعیه وإرادته، هذه الإرادة القادرة علی بناء المصیر المُشرق إنّ هذا الایمان هو الذی فجّر فی قلبه هذه الحُمم فکانت « إرادة الحیاة». الفکرة الرئیسة فی القصیدة هی أن الطموح هو الذی یهتک حجب اللیل و یُطلع الفجر تقیـّا ً، و حبّ الحیاة وحده یشحذ الطموح حتی جنون التضحیة و البذل، فیُحطم القید، و یشرق نور الحریة و الاعتزاز:

إذا الشعب یوما ً أراد الحیاة

فلابدّ أن یستجیب القدر

و لابـدَّ للـّیـل أن یـنـجـلـــی

و لابدّ للقید أن ینکسـر

إنّها إرادة الشعب التی تقهر، فعلی الشعب أن یرید الحیاة، و الذین لا یعشقون الحیاة الکریمة یندثرون کالهباء فی مهبّ الریاح. فالحیاة تکره النفوس الضعیفة و الأیام لا تلین لغیر الأقویاء تلک سنّة الوجود، و تلک هی الحقیقة التی یفضی بها إلی الشاعر روح الکون الخفیّ:

    وَ مَن لم یعانقه شوق الحیاة
    تبخّر فی جَوّها و اندثـر
    کذلک قالـت لی الکائنـات
    و حدّثنی روحها المستتر
     [31]

و ما هی ذی الریح تروی حکایة الطموح و إذا هی جرأةٌ، و إقدام ٌ، و تطلّع ذلی الأعلی فی غیر خوفٍ و لا حَدَر:

    وَ من لا یحبُّ صعودَ الجبال
    یَعش أبَد الدهر بینَ الحفر
     [32]

ثم یتوجه الشاعر إلی الأرض و یسألها قائلا ً«یا أمّ، هل تکرهین البشر؟!» فتجیب الأرض أنّها تبارک فی النّاس أهل الطموح، و تلعنُ من لا یماشی الزمان و لا یعرف الجمود، و ذلک أن الکون حیِ، و الحیاة حرکة متطورة:

    هـو الکون حیٌّ، یحبُّ الحیـاة
    و یحتقر المیتَ مهما کبـر
    فلا الأفق یحضنُ میتَ الطیور
    و لا النحل یلثم میت الزهر
     [33]

و هکذا الوجود لا یکبر إلا أبناء الحیاة الـذین یعملون فی صراع مُمیّز و بإرادة، بطلة فی سبیل الحیاة، أما الموتی فیدوسهم و یرمیهم فی زوایا الیأس و ظلمات الکآبة و ینطلق الشاعر فی تفضیل حکایة الحیاة، و فی سَرد قصّة الطبیعة التی تنفجر، بعد الشتاء وآلامه، حیاة ً تملأ الدنیا أزهارا ً و ثمارا ً. و هکذا فالمعانی تتلاحق و تتدافع کأنّها أمواج بحر خضمّ، و کأنی بالشاعر یخاطب بنی قومه و یستنهض عزائمهم، و فی موسیقی شعره و قوافیه ما یواکب معاینه و ما یزید عصفا و شدة تأثیر. و تمتاز هذه المعانی بعمقها و بُعد الرؤیة الشعریة. فکأن أبا القاسم یُغمض عینیه عن الوجود و یغیب فی یقظة الشعوریة، فتفتح أمامه آفاق الإبداع طلیقة، و یرفرف جناحاه فی عوالم یکثر فیها الجمال فیختار منه أجمله، و إلی جانب العمق و البعد الشعوری تتجلـی العاطفة جیّاشة تتدفق من الألفاظ إندفاقا ً و هذه العاطفة ولیدة الثورة الصاخبة فی ضمیر الشاعر، و الإحساس العصبیّ النبـّاض المختلج فی أعصابه.

    أمّا الخیال، فابتکارٌ فی الصورة علی بساطة، و شرود ذهنیّ تائه لا یصحو إلاّ علی صیحة خارجة من أعماق النفس التی تـُعانی:
    فلا الأفق یحضنُ میتَ الطیور
    و لا النحلُ یلثم میت الزهـر
    و لـولا أمـومــة قـلبی الـرؤوم
    لفرّت عن المیت تلک الحفر

ففی هذا البیت الأخیر، الذی جعله الشاعر من لسان أمنّا الأرض، و ثبة تـُثیر الدهشة و الخشوع لما فیها من قوة فی الابتکار و قدرة علی تصویر الاحتقار للأموات.  [34] یتحدث الشاعر عن إرادة الشاعر (إرادة الحیاة) و کیف أنّه إذا أراد شعب ما أن یعیش حیاة التحرّر و الانطلاق و یفضّ أغلال الماضی، فلا یملک القدر، إلاّ یحقق هذه الرغبة، فکأن الشاعر یرید أن یکون بحقیقة مؤداها من إرادة الشعوب. (خورشا، صادق، 1381هـ.ش، صص 137-139) الفکرة فی هذه القصیدة یرید الوصول إلی غابة ٍ رکب الصعب و من لا یسعی إلی المعالی داسته الحیاة و لا وسط بین المرتبتین، حتی الأرض نفسها تبارک الأقویاء الساعین إلی مطامحهم و تحتقر الکسالی المتقاعسین، و لو لا حنان الأم للفظت القبور ما بها من موتی، کما یلاحظ الشاعرأن الشاعر خلع الطبیعة مشاعره، و مزج بینها و بین حالته النفسیة الداخلیة، و هو أسلوب شاع بین شعراء و کتّاب المدرسة الرومانسیة و خاصة مدرسة المهجر.  [35] ذلک بأنَّ الشابی انطوی من تجاربه النفسیّة القاسیة علی مفکـّر عمیق التفکیر، فکان لا یکتفی بأحاسیسه، و إنّما یحاول دوما ً أن یواجهها و أن یصرفها عن المرارة، و أن یمیل بها إلی الحیاة و هی التی انصرفت بطبیعتها نحو الأسی و الکآبة، و وقفت عند الموت لا تریم، و لا تحول عنه و لا تزول. و هذا هو مغنی قصیدته «إرادة الحیاة» التی شاعت و انتشرت و أحبّها کلّ قاریء عربی:

    إذا الشعب یوما ً أراد الحیاة
    فلابدّ أن یستجیب القدر
    و لابـدَّ للـّیـل أن یـنـجـلـــی
    و لابدّ للقید أن ینکسـر
     [36]

و هو معنی شاعریته نفسها فی صمیم العذاب الذی أطبق علی حیاته منذ أحبّ تلک التی ماتت إلی أن أصیب بالداء العضال فی قلبه أی أنّ الآلام التی عاناها أبوالقاسم کان من شأنها أن تصدّه عن الحیاة، و الحبّ و الأمل، و عن کلّ ما هو فرح و متعة و حماسة، ولکن قوة نفسه، و صلابة عوده، و تعلـّقه الأصیل بما یسمو علی الأوصاب و الآلام، أمور أیقظته علی الفنّ الشعری لا فی کیانه، بل فی العالم کلـّه و بهذا کان أقرب النالس من أبناء الشرق.
النتیجة:

إنّ الشابی کان شاعرا ً رومانسیا ً ولکن لیس من جهة الإبداع بل من جهة تقلید الغربیین و رومانطیقیتهم التی أتخذها فکرة حیـّة من خلال شعره مع أنّه أصبح من اًعظم الرومانسیین ولکنّ خبرته الفنیة عرضها من خلال آلام شعبه و الطبیعة الساحرة. هو شاعر ذو مواهب و انفعالات صادقة و إحساس حیّ من خلال الوجود، خلـّاق فی تعبیراته و تصنعاته الشعریة و شخصیته تتکون من وطنیة صادقة و رومنطیقیة متشائمة أو بعیدة الأغوار فی کلّ مکان و زمان و أحداث، و فی أشعاره یذکرلنا الحب و الحیاة هذان اللفظان یتأثر بهما فی کلّ منهج من مناهج قصائده. عشق الحیاة و الإنسان من أهم موضوعاته الاجتماعیة.

جمیع أشعاره تدور حول موضوعات ثلاثة: التشاؤم و التفاؤل و الخروج من التشاؤم إلی درجات الصفاء الروحی. و نری الشعرالاجتماعی عنده بأسالیب مختلفة و کثیرة و بهذا قد امتاز عن سائر شعراء زمانه.
المصـــادر

   1. أبوالخشب، إبراهیم علی: تاریخ الأدب العربی فی العصر الحاضر، دار الکتاب مصر، ط4، 1992م.
   2. البعینی، نجیب: شعراء عرب معاصرون، دار المناهل، لبنان، بیروت، 1991م.
   3. الحر، عبدالمجید: أبوالقاسم الشابی کوکب السَّحر، دار الکتب العلمیة، لبنان، بیروت، 1995م.
   4. خلیل، جحا میشال: الشعر العربی الحدیث، دار العودة و دار الثقافة، لبنان، بیروت، 1999م.
   5. خورشا، صادق: مجانی الشعر الحدیث و مدارسه، دفتر فرهنگ اسلامی، ایران، تهران، 1381هـ. ش.
   6. الزّیات، أحمد حسن: تاریخ الأدب العربی، دار الثقافة، لبنان، بیروت، ط29، 1995م.
   7. الشابی، أبوالقاسم: أغانی الحیاة، دار صادر، لبنان، بیروت، 1996م.
   8. شکیب أنصاری، محمود: تطوّر الأدب العربی المعاصر، دار النشر جامعة شهید چمران، أهواز، ط3، 1382هـ. ش.
   9. شیخو، الأب لویس: تاریخ آداب العربیة، دار المشرق، لبنان، بیروت، ط3، 1995م.
  10. طراد، مجید: دیوان أبی القاسم الشابی و رسائله، دار الکتاب العربی، لبنان، بیروت، 1993م.
  11. الفاخوری، حنا: الموجز فی الأدب العربی و تاریخه، ج4، دار الجیل، لبنان، بیروت، 1991م.
  12. فروخ، عمر: الشابی شاعر الحبّ و الحیاة، دار العلم للملایین، لبنان، بیروت، ط3، 1974م.
  13. فروخ، عمر: تاریخ الأدب العربی فی المغرب العربی، دار الأوساط، الکتب العلمیة، لبنان، بیروت، 1982م.
  14. فروخ، عمر: تاریخ الأدب العربی، دار النشر توس، ایران، طهران، ط2، 1382هـ. ش.
  15. قدورة، زاهیة: تاریخ العرب الحدیث، دارالنهضة العربیة لبنان، بیروت، 1985م.
  16. محمد، کرو: أبوالقاسم الشابی حیاته و شعره، دار المکتبة العلمیة، لبنان، بیروت، 1995م.
  17. محمّد، کرو: الشابی فی مرآة معاصریه، ج6 و 7، دار صادر، لبنان، بیروت، 1999م.
  18. محمّد، کرو: دیوان أبی القاسم الشابی «أغانی الحیاة»، ج2، دار صادر، لبنان، بیروت، 1999م.
  19. هدارة، محمد مصطفی: بحوث فی الأدب العربی، دار النهضة العربیة، لبنان، بیروت، 1994م.

حواشی

[1] (فروخ، عمر، 1974م، ص84)

[2] (المصدر نفسه، 1974م، ص87)

[3] (الفاخوری، حنا، ج4، 1991م، ص699)

[4] (فروخ، عمر، 1974م، ص88)

[5] (الفاخوری، حنا، ج4، 1991م، ص701 و702)

[6] (المصدر نفسه، ج4، 1991م، ص703)

[7] (الیعینی، نجیب، 1994م، ص275)

[8] (المصدر نفسه، ج4، 1991م، صص704 و 705)

[9] (المصدر نفسه ، ج1، 1991، ص 557)

[10] (هدّارة، محمد مصطفی، ج4، 1994م، ص 127)

[11] (المصدر نفسه، 1994م، ص 127)

[12] (المصدر نفسه، 1994م، ص 135)

[13] (طراد، مجید، 1994م، ص 116)

[14] (المصدر نفسه، 1993م، صص 135 و 136)

[15] (المصدر نفسه، 1993م، ص 137)

[16] (المصدر نفسه، 1993، ص 19)

[17] (المصدر نفسه، 1993م، ص 20)

[18] (محمد، کرّو، ج2، 1999م، ص 187)

[19] (المصدر نفسه، ج2، 1999م، ص188)

[20] (المصدر نفسه، ج2، 1999م، ص75)

[21] (المصدر نفسه، ج2، 1999م، ص261)

[22] (المصدر نفسه، ج2، 1999م، ص270)

[23] (طراد، مجید، 1993م، صص 61 و 62)

[24] (المصدر نفسه، 1993م، صص 61 و 62)

[25] (المصدر نفسه، 1993م، صص 61 و 62)

[26] (الشابی، إبوالقاسم، 1996م، صص 161)

[27] (المصدر نفسه، 1996م، صص 161)

[28] (محمد، کرّو، ج6، 1999م، ص 109)

[29] (المصدر نفسه، ج5، 1999م، ص 354)

[30] (المصدر نفسه، ج5، ص 354)

[31] (الفاخوری، حنا ، 1991م، ص558)

[32] (المصدر نفسه ، 1991م، ص558)

[33] (المصدر نفسه ، 1991م، صص559 و 560)

[34] (المصدر نفسه ، 1991م، صص560 و 561)

[35] (المصدر نفسه، 1381هـ.ش، ص139)

[36] (الشابی، ابوالقاسم، 1996م، ص16)
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 21:51|
الروایة العربیة نشأتها وتطورها

التمهید

قبل أن نتحدث عن موضوع الروایة ودراسة التحولات والتطورات التی یترتب علیها، یجدر بنا أن نصدر کلامنا حول القصة عندالعرب ونوضّح موضعنا من القصة.

«القصة أوالحکایة من أقدم الأنواع الأدبیة، وربّما سبقت الشعر؛ فإنسان منذکان، کان شغوفاً متطلعاً إلی معرفة الأحداث الإنسانیة… وأدرک الکتّاب هذه الحقیقة منذ القدم، فحکوا الحکایات ثمّ کتبوها وربّما أضافوإلیها شیئاً من خیالهم أورووا أحداثاً من صنع الخیال وحده، فأطفأوا بذلک عطشاً کان فی الصدور.» [1]
القصة عبرالزمن

القصة فی عصر الجاهلی:

إن العرب منذ العصر الجاهلی کان لهم قصص وأخبار تدور حول الوقائع الحربیة، وتروی الأساطیر القدیمة، وعند ما ظهر الاسلام ونزل القرآن الکریم جاءهم أحسن القصص ثمّ تکونت علی هامش القرآن وتفسیره، قصص وحکایات استمرت موضوعاتها وعناصرها من تعلیم الدین الجدید. فظهرت قصص الأنبیاء وقصص المعراج وسیر النبی: ‏«فاقصُصِ القصَصَ لَعَلهَّم یَتَفَکّرَون» [2]

القصة فی العصر الأموی

«وعندما نصل إلی عصر الأموی نری القصّة ظفرت بعنایة کبیرة حیث صارت مهنة رسمیة یشتغل بها رجال یسألون علیها الأجر وهذا ما دفع الرواة علی الخروج إلی البارئة لتألیف الروایات وجمع أخبار الأحباء والشعراء العاشقین كقصّة عنترة وعبلة، لیلی ومجنون، جمیل وبثینة کثّیر وعزة وغیرهم.»

‏ http://etudiantdz.com/vbl t33304.htm

القصة فی العصر العباسی

وقد تطورت القّصة فی العهد العباسی، إذ بدأت طائفة من الکتاب ینقلون القصص الأعجمیة إلی العربیة حیث بلغت حوالی ستین ترجمة:

«ومن أشهرها «کلیلة ودمنة» لعبدالله بن المقفع حیث فتح باباً جدیداً فی الأدب القصصی العربی، وصار نموذجاً مثالیاً سارعلی منواله کثیر من الکتاب المتاخرین الذین صاغوا أفکارهم الفلسفیة علی لسان الحیوانات؛ ومن القصص الأخری الهامة «الف لیلة ولیلة» من أصل هندی أوایرانی، وقد أثر هذا الکتاب فی الأدب القصصی الجدیدة.

ومن القصص المؤلفة التی صاغها العرب أنفسهم هی «البخلاء»، وقد صوّر فیها أخلاق فئات من الناس، وهم البخلاء متعرضاً لهم آخذاً علیهم، ثمّ رسالة «التوابع والزوابع» لإبن شهید الأندلسی وهی قصّة خیالیة موضوعها لقاءات مع الشیاطین الشعراء، ثم رسالة الغفران لأبی العلاء المعری، وهی قصة خیالیة موضوعها سفر خیالی إلی الجنة والجحیم، لقی فیه أبوالعلاء شعراء الجنة والجحیم، وانتقد من خلاله الشعر فی العصر الجاهلی والإسلامّی. وقد تمیّزت هذه الرسالة بخیال خصب کما قال طه حسین، حیث جعلها فی عداد الآثار النادرة. وأما المقامات فهی أقرب الأنواع القصصیة فی الأدب العربی إلی القصّة الفّنیة الجدیدة، واعتبرها بعض المستشرقین أول مظهر للقصة العربیة، وهی قصة قصیرة تدور حول مغامرات بطل موهوم یرویها راوٍ معین، غایتها تعلیمیة؛ وقدأجمع المؤرخون علی أن بدیع الزمان هومبدع المقامات، ومن أعلامها بعده هوالحریری. وإضافة إلی هذه الأعمال القصصّیة نری القصّة واصلت سیرها فی تضخم وکثرة، ودخلت فیها الرحلات «رحلة ابن جبیر وابن بطوطة» والخرافات وسیر الأشخاص «سیرة عنترة وسیرة بنی هلال.» [3]

ویمکن أن نقول بأن القصة العربیة نشأت وتطورت تحت ظروف وعوامل حسب المعتقدات والأساطیر وأن الادب العربی القدیم بما فیه تراث قصصی عظیم من القصص القرآنیة، قصص الأنبیاء وسیر النبی، والمقامات والرحلات والقصص الخیالیة والتراجم الذاتیة وقد ترک تراثاً ضخماً من مجال الأدب القصصی، وهوالذی أثر تأثیراً عمیقاً فی رأی بعض المعاصرین- فی نشأة الأدب القصصی الغربی وتطوره فیما بعد.
القصة فی عهد الانحطاط:

ومع هجمة التتار وسقوط الخلافة العباسیة بدأت فترة الانحطاط الأدبی فی الأدب العربی؛ الأمر الذی أدّی إلی خمود الحرکة الفکریة والأدبیة من جهة والتشاغل عن حفظ هذا التراث الضخم من جهة أخری، ولأجل ذلک قلّما نشاهد فی هذه الفترة التی امتدت ستة قرون إبداعاً بارزاً فی مجال القصة.
القصة فی الأدب العربی الحدیث:

«هناک اختلاف رأی بین العلماء المحدثین فی نشأة القصة العربیة الحدیثة؛ فمن یتحمّس منهم لأصلها العربی ویری أنها ولیدة التراث القدیم واستمراراً له، ومن ینفی أن تکون هناک أیة صلة بین القصّة الجدیدة وبین تلک الأنماط القصصیة القدیمة ویراها أنها ولیدة الاحتکاک بالغرب والتعریف إلی نتاجه القصصی ونقله إلی العربیة.» [4]

« إن أغلب الدراسات التی تناولت هذه القضیة، قد اتفقت علی أن الروایة هی نوع أدبی وفد إلینا من الغرب بعد الإتصال الحدیث به. وهذا الرأی هوالرأی الأصوب والأدق علمیا، لأن الرأی الآخر، والذی یری أن الروایة هی أمتداد لأنواع قصصیة عربیة قدیمة، لا یفهم الفارق الواضح بین فنیة تلک الأنواع القدیمة وتنوعها، وبین الخصائص الفنیة للروایة کنوع أدبی محدد. هذا بالاضافة إلی أنه یتصور أن الأنواع الأدبیة تسیر سیرتها الحیاتیة المستقلة، وتنقل من زمن إلی آخر بحریة مطلقة لا تقیدها حدود الزمن وتطور البشر منتجی هذه الأنواع الادبیة؛ أی أنهم یعزلون هذه الأنواع فی ذاتها، ویفصلونها عن تاریخیتها، التی هی المکون الأصلی لها.» [5]

وهناک قول آخر من یحیی حقی عن موضوع المذکورة. «القصة جاءتنا من الغرب… وأول من أقام قواعدها عندنا أفراد تأثروا بالأدب الأروبی والأدب الفرنسی بصفة خاصة.» [6]

هکذا قال یحیی حقی وأكد إسماعیل أدهم ومحمد تیمور وإبراهیم المصری ومحمد حسین هیکل: «لم تکن الصلّة قویة بین القصة العربیة الحدیثة وسابقیها القصّة العربیة القدیمة، فلم تبرز الأولی إلامن طریق الاتصال بالغرب. ففی النصف الثانی من القرن التاسع عشر المیلادین، هیأت الظروف للاتصال الفکری بالغرب، وعلی الأخص فی لبنان، فأعجب المثقفون بالقصّة الغربیة وبخاصة منها الفرنسیة.» [7]

کما لم یکن المصریون یطلبون فی ثورتهم هذه (1919) الاعتراف باستقلالهم وسیادتهم ویطلبون حیاة سیاسیة وصوراً من الحریة السیاسیة علی مثال ما فی الغرب سواء؟ فلتکن مظاهر الفن مصبوبة فی قوالب غریبة لتکون آیة للناس جمیعاً علی تقدمهم وعلی أنهم سابقون الغرب إلی میادین الحضارة وقد یسبقونه.» [8]
الرویایة العربیة المعاصرة

وإذا فحصنا فی القصة العربیة المعاصرة، فهی فن جدید یختلف شأنها عن شأنها القدیم، اتضحت لنا أنّها مرت بثلاث مراحل أساسیة ظهرت فی کل منها مجموعة هائلة من أنواع القصة وهی:
- الف: مرحلة التقلید والتعریب (1914- 1850)
- ب: مرحلة التکوین والإبداع (1939- 1914)
- ج: مرحلة التأصیل والنضج (1939- حتی الان)
الف: القصة العربیة فی مرحلة التقلید والتعریب:

«وعلی الرغم أن غالبیة الباحثین قد أنکرت الصلة بین القصة العربیة الحدیثة وبین التراث القصصی عند العرب، إلا أن هذا الإرتباط موجود بشکل بارز فی صیاغة الشکل والمضمون، إذ بدت القصّة الحدیثة فی بدء تطورها متأثرة بالأجناس القصصیة المأثورة کالتراجم والمقامة و…، ومن أوضح أمثلتها للتاثر بفن المقامة هو«حدیث عیسی بن هشام» للمویلحی (1900) حیث یبدوفیه التاثیر العربی واضحاً فی العنایة بالأسلوب والأحداث التی تحدث للبطل الذی یتصل بشخصیات متعددة، کما أن الأثر الغربی أیضاً یبدوفیه جلیاً من حیث تنویع المناظر، وتسلسل الحکایة، وبعض ملامح التحلیل النفسی.» [9]

«إن التسلیم بکون الروایة الحدیثة متاثرة أومنقولة عن الغرب، هوحقیقة تاریخیة سلم بهارواد هذا النوع الأدبی منذ البدایة، غیر أننا نستطیع أن نجد موقفین مختلفین لهؤلاء الرواد خلال العقود الأربعة الأولی من هذا القرن العشرین. فکل هولاء بدأوا بالتأکید هذه الحقیقة، مع الدعوة إلی الإیغال فی تقلید النموذج الروایی الغربی؛ وذلک خلال العقدین الأول والثانی من القرن.» [10]

وفی أواخر القرن التاسع عشر ظهرت موجة جدیدة فی الأدب القصصی الحدیث، وذلک إثر ترجمة القصص الغربیة ونمت هذه الموجة فی مصر ولبنان. فراحویترجمون القصص الغربیة التی کانت موضوعاتها فی الأغلب، رومانتکیة حول الحبّ والجنس وقد بدأت هذه الموجة علی ید اللبنانیین؛ منهم «سلیم السبتانی» الذی اعتبر الرائد الأول لهذا التیار. ومن أعلام القصة والروایة العربیة فی هذه المرحلة«فرح أنطوان»، «نقولاحداد»، «یعقوب صروف»، «لبیه هاشم»، «طاهر حقی» و«المنفلوطی».

«وصفوة القول فی القصة والروایة فی هذه المرحلة أن أعمال هؤلاء الکتاب کانت فی أغلبها تقلید القصة الغربیة، یغلب علیها السرد التاریخی أوالإجتماعی… ولکن هناک ظاهرة فنیة یجدر الوقوف عندها، وهی الجهود الروائیّة للذین مضوا إلی المحبر، فأتیح لهم الإطلاع علی النماذج القصصیة الغربیة بکامل الوجه، فتأثروا بها فنضجت أعمالهم حیث تختلف عن النماذج القصصیة فی البلد العربی، فلاشک أن إنتاجات جبران من القصة والروایة ک «عرائس المروج 1906» و«الأرواح المتمردة 1908» و«العواصف 1910» و«الأجنحة المتکسرة 1912» وکان لها طعم جدید، إذ یبدوفیها روح التمّرد علی عوامل الجمود وموانع التطور… ثمّ من الذین هاجروا خارج الوطن العربی وکتبوا فیه وخرج نتاجهم ثمرة لتزاوج المجتمعین العربی والأروبی، «الدکتور محمد حسین هیکل» الذی نشر روایة «زینب 1914» حیث اعتبرت هذه القصة فی رأی البعض بأنها بشّرت مرحلة جدیدة فی القصة العربیة، ألاوهی مرحلة التکوین القصصی العربی.» [11]
ب: مرحلة تکوین القصة العربیة الحدیثة (1939- 1914)

إن فترة ما بین الحربین العالمیتین اعتبرت مرحلة تکوین الأدب القصصی والروائی عند العرب، فالحرب العالمیة الأولی وما تبعها من أحداث وتحولات فی ترکیب المجتمعات العربیة، من تغییر فی القیم والموازین، ومن تطور فی الثقافة والسیاسة والوعی القومی والانتفاضات الوطنیة و… کل هذه خلقت جواً جدیداً وذوقاً مختفاً عن سابقه وتطلبت بناءً وأسلوباً جدیداً للتعبیر عن هذه التحولات الجدیدة. وتمتاز قصص هذه المرحلة بمایلی:

«تعالج موضوعات من تجارب الکتاب أنفسهم، فالبطل فی کل قصة کاد منها یکون الکاتب نفسه. أوهونفسه علی الاطلاق:
- استطاع فیها الکتاب أن یغوصوا فی أعماق نفوس الأبطال ویحلّلوها.
- طغت علیها کلها النزعة الرومانسیة التی کانت تسود العصر.
- عبرت عن قدرة الکّتاب علی تکییف الأسلوب اللغوی مع وسائل التعبیر فی القصّة من سرد وحوار ونجوی ووصف.» [12] «وهکذا أخذت القصة العربیة بعد الحرب العالمیة الأولی طابع المحلیة والقومیة، وبدأت تصور فئات من المجتمع المصری أواللبنانی أوالسوری أوالعراقی بغیة تحسین فضاءِ المجتمع…» [13]

من أعلام هذه المرحلة طه حسین الذی له دورهام فی إرساء قواعد الفن القصصی ومن أعماله: الأیّام (1929)، أدیب (1935) حیث انتقد فیها القضایا الاجتماعیة والتعلیمیة والتربویة فی المجتمع المصری. ومنهم توفیق الحکیم الذی عنی بتصور الواقع عن حیاة الاجتماعیة ومشکلاتها ومن آثاره: عودة الروح (1931)، یومیات نائب فی الأریاف (1937) وعصفور من الشرق (1938).

ج: مرحلة تأصیل القصة العربیة:

«هذه المرحلة هی المرحلة الأخیرة فی تطور القصّة والروایة العربیة، والتی اعتبرت قمة المراحل واتسمّت بمرحلة التأصیل وقد تداخلت هذه المرحلة بالمرحلة السابقة عقداً من الزمن حیث کانت الثلاثینات خاتمة مرحلة التکوین ومدخلاً إلی مرحلة التأصیل حیث اختارت الروایة والقصة العربیة اتجاهاً جدیداً نتیجة لأسباب وعوامل مختلفة لم تکن میسرة لهما فی المرحلة السابقة.» [14] ففی هذه المرحلة ظهر عمالقة القصة العربیة الحدیثة کنجیب محفوظ وتوفیق یوسف عوّاد وجبرا إبراهیم جبرا. «تناول هولاء الکّتاب وأمثالهم وهم کُثُر، الکثیر من القضایا الحیاة العربیة ببناء فنی قوی یختلف من کاتب إلی آخر. باختلاف المدارس الأدبیة والنزعات الفکریة والسیاسیة وهکذا غطت القصّة مساحة واسعة من حیاة الناس، فهناک القصة الإجتماعیة والقصّة السیاسیة، والقصة التاریخیة، والقصة الفلسفیة، فعولجت مشکلات الحرب وویلاتها فی قصة «الرغیف» لتوفیق یوسف عواد، ومشکلات العصر الإنسانیة، کعبثیة الحیاة، وغربة الانسان وضیاعه، والانفصال عن الواقع فی قصص «اللص والکلاب» و«الطریق» و«السمان والخریف» لنجیب محفوظ.» [15] اتجاهات الروایة العربیة:

لحد الان ماذکرنا حول نشأة الروایة والاتجاهات التی ظهرت فیها، کانت کلها مطبوعة بطابع الروایة التقلیدیة، لکن فی أواخر السنیات وبدایة السبعینات ظهرت ثورات عنیفة علی الروایة التقلیدیة المستهلکة، أدت إلی ظهور إتجاهات جدیدة، وإن کانت هی متأثرة بالغرب لحد بعید، إلا أن التاصیل والتکوین ظهرا فیها أسرع وقت ممکن وهذه الاتجاهات الجدیدة هی:

أ: روایة تیار الوعی:

کان هذا الاتجاة بمثابة ثورة عارمة علی الروایة التقلیدیة، وقد بدأ فی الأدب الغربی فی نهایة القرن التاسع وامتدت إلی النصف الأول علی ید «مارسل بروست» و«جیمس جویس»… وبظهور هذا التیار تغییر الأسلوب، وأصبح کتشاف العقل والباطن الخفی مثار الإهتمام، لأنه المحرک الأساسی للفکروالسلوک ومقومات هذا الاتجاه أوالتیار تتخلص فیما یلی:

- الف) المونولوج الداخلی المباشر، وفیه یغیب المؤلف، ویتم فیه بضمیر المفرد والغائب.
- ب) المونولوج الداخلی غیر المباشر: وفیه یحضر المؤلف عبر الوصف والتعلیق، ویقوم الحکی فیه بضمیر المتکلم.
- ج) وصف الوعی الذهنی للشخصیات
- د) مناجاة النفس
- ه) التداعی الحر من طریق الخیال والحواس
- و) المونتاج السینمایی عن طریق تعدد الصور وتوالیها.»

‏ [16]

ب: الروایة الطلیعیة:

«والاتجاه الثانی فی الروایة العربیة بعد السبعینات هوالاتجاه الطبیعی أوالروایة الطلیعة. وهی تعنی استخدم تقنیات فنیة جدیدة تتجاوز الأسالیب والجمالیات السائدة والمعروفة، لکن بهدوء وبطءِ وتمهّل. وقد تمیزت الروایة الطلیعة باستخدام تقنیات السینما، والتقطیع إلی صور ولوحات مستقلة تعطی مجتمعة انطباعاً واحساساً واحداً، کما تمیزت باستخدام المونولوج الداخلی والفلاش بک فی تصویر ماضی الأبطال، کما أن میزانته الأخری أسلوبها الشعری، والنسبیة أوالنظر إلی الحادثة الواحدة من زوایا مختلفة وعدیدة. ومن الروائییئن العرب الذین تجلت هذه العناصر فی نتاجاتهم، «جمال الغیطانی»، «صنع الله إبراهیم»، «إمیل حبیبی»، «جبرا إبراهیم جبرا»، «الطاهر وطّار»، «عبدالرحمن منبف» و«الیاس خوری…» [17]

ج: الروایة التجربیة:

«هذا الاتجاه أحدث إتجاه ظهر فی العالم الروایی، والذی اعتمد علیه المعاصرون بوصفه تفنیة جدید، من أجل تجاوز واقعهم الفنی المستهلک، فقامت الروایة التجربیة علی توظیف البناءات والأحلام اللغویة، واستقلال تفنیات الشعور واللاشعور، وانثیال الوعی واللاوعی والأحلام، وإلغاء عنصری الزمان والمکان. وقد ظهر هذا الاتجاه بغیة بناء أدب مضادّاً للإبداع المتعارف علیه مسبقاً عن طریق تدمیر البنیات الشکلیه للروایة، والعناصر الفنیة، تفجیر اللغة، والخروج علی الأنماط الروائیة السائدة نحوالإبداع والابتکار والولوع إلی عالم مستقبلی مجهول منقطعاً عن الماضی والحاضر، متفاعلاً إلی الروائی السابق.» [18] وهناک مجموعة من العوامل، التی تکاتفت فی فترة استینات، فیما یختص الحداثة الروائیة بعامة وشعریة اللغة التی تعد العمود الفقری بخاصة وخصوصاً مرحلة ما قبل هزیمة حزیران وبعدها ونعرض لهذه العوامل قبل الهزیمة ومنها:

1) الروایة الجدیدة فی فرنسا، إذ ترجمت بعض النصوص خلال الستینات، ومن روادها «ناتالی ساروت» و«روب غربیة» و«میشل بوتور» و«کلود سیمون» وغیرهم … 2) التاثر بالاتجاه الرمزی فی اروبا الذی ولد فی النصف الثانی من القرون التاسع عشر، خاصة فی مجال الشعر علی ید أقطاب منهم «بودلیر» و«رامبو» و«مالارمیه» و«بول فالیری». 3) التاثر بالحرکة الرومانسیة العربیة التی شهدت تألقا فی الثلاثینات والأربعینات، فادا کانت الرومانسیة فی بعض مواضیعها تصور البؤس والجوانب الظلمة فی المجتمع. فروایة الستینات کذلک … 4) التاثر بأعمال أدباء المهجر، الذین تنحوأعمالهم النثریة المنحی الشعری فی لغتها وفی مقدمتهم جبران خلیل جبران، حیث نجد إشارة صریحة فی روایة «ستة أیام» لحلیم برکات إلی جبران وکتابه «النبی»، فقد اقتبس حلیم برکات فی أکثر من موضع من کتاب النبی لجبران.» [19] «لقد طّور جیل السنیات فی الروایة العربیة فی الشکل الروایة والروایة التی استقرت فی أعمال نجیب محفوظ الکلاسیکیة، وإن تجلی ذلک فی مرحلة السبعینات وما بعدها، وخصوصاً ما بعد هزیمة حزیران التی فضحت کل شیءِ بما فی ذلک طرائق الکتابة وأسالیبها ونظرتها الواثقة إلی العالم.» [20] الروایة عناصرها وأنواعها: فی الحقیقة إن الروایة نوع من أنواع القصة وعندما نرید أن نتحدث عن الروایة عناصرها وأنواعها لابدنا أن نتکلم عن أنواع القصة:

أنواع القصة:

للقصة ثلاثة أنواع اصطلح علی تمسیتها مایلی:

«الروایة: هی غالباً قصة طویلة، أشخاصها عدیدون وأحداثها متشابکة تعرض من خلالها طباع الشخصیات وتحلل فی نموها وتکاملها خلال العمل القصصی.

القصة: غالباً ما تکون متوسطة الحجم، تقوم علی اشخاص لاتضاح جوانب طباعهم کلها، إذ تقوم القصة علی جانب من جوانب الشخصیة ولیس علیها متکاملة.

الأقصوصة: قصة قصیرة، تصّور البطل فی حالة من حالاته وتکون أحداثها قلیلة لاتتجاوز هذه الحالة التی تصورّها.» [21]

عناصر الروایة الحدیثة:

الحدث والشخصیات والبیئة والأسلوب والهدف ما هوالحدث فی الروایة الحدیثة: «هوحدث واحد، أوجمله أحداث متشابکة مترابطة یسوقها الکاتب بفنیة عالیة وصولاً بها إلی هدفه أوإلی فکرته التی یرید أن یضعها فیعرفها القاری.» [22] ویستمد الکاتب هذه الحدث أوهذه الأحداث من مصادر وهی:

   1. واقع حیاة الناس.
   2. واقع حیاة الکاتب.
   3. ثقافة الکاتب وتشمل التاریخ البشری.
   4. خیال الکاتب.

«وقد تکون الروایة مستمده من واحد من هذه المصادر أواکثر غیر أن المصدر الرابع وهوالخیال، لا بد أن یکون صاحب دور فی کل حدث، إذ لا نهوض لعمل فنی نهوضاً صحیحاً ما لم یکن للخیال فیه دور، حتی ولوکان دور التنظیم أوالتقلید أوالإضافة.» [23]

العمل القصصی:

العمل القصصی هوجملة الأحداث التی تتشابک فی حبکة یحبک بها الکاتب هذه الأحداث، وتولّف هذه الأحداث مجتمعه موضوع القصّة من بدایة ها إلی نهایتها. ما هی الحبکة: «الحبکة هی عملیة نسج الأحداث فی ثوب فنی یتمثل فی بدایة تمهّد للحدث، وحبکة یتأزم فیها الحدث ونهایة یکون فیها حل الأزمة.» [24] لکل روایة «بدایة وحبکة ونهایة» لکن ترتیب هذه الأقسام الثلاثة لیس ضروریاً ونری فی الروایة ثلاث طرائق فی بناءها: «الطریقة التقلیدیة: وهی التی یتحرک فیها الحدث تحرکاً سبیاً أوزمنیاً من البدایة إلی الحبکة وإلی النهایة ومن أمثال ذلک قصة «أنا کارنینا» لتوستوی و«زقاق المدق» لنجیب محفوظ. الطریقة الحدیثة: فی هذه الطریقة یضعک الکاتب فی قلب القصة، فی أزمتها حیث یکون بطل القصة فی شده نفسّیة تمزّق روحه، ویسعی الکاتب إلی النهایة إلی الحل تارکا للبطل أن یتذکر الماضی… . وهذا ما نراه فی قصة «اللص والکلاب» لنجیب محفوظ.

الطریقة الخطف خلفاً: تبداً القصّة فی هذه الطریقة من النهایة، کان یضعک الکاتب أمام حدث مثیر، ثمَّ یأخذ بالبحث عن أسباب هذا الحدث المثیر، فیقودک البحث إلی البدایة وأکثر ما نجد هذه الطریقة فی القصص البولیسیة، مثل قصة «لغز الصورة» لأغاتا کریستی.» [25] نحن فی الروایة لدنیا نوعین من الحبكة من حیث ترابط الأحداث: 1- حبکة محکمة وهی أن تکون الأحداث تترابط وتتشابک بعضهم ببعض 2- حبکة مفککة: وهی أن الأحداث لا تترابط ولا تتشابک ببنهما بل یکون کل حدث یشبه بقصة قائمة فی ذاتها.

الشخصیات:

«الشخصیات القصصیة هی التی تحمل الحدث القصصی وتطوّرها من بدایاته إلی وسطه أوحبکته حیث الأزمة ، فالنهایة حیث تنحّل عقدة القصة ویشبع القاری فضوله.» [26] فی الروایة ثلاثة أنواع من الشخصیات:

1) شخصیة أساسیة أو(محوریة) : وتکون هی البطل فی القصة کشخصیة سعید «مهران« فی قصه «اللص والکلاب» وشخصیة «وکییل النائب« فی روایة «یومیات نائب فی الأریاف»، لتوفیق الحکیم …

2) شخصیة معارضة: ویقوم الصراع بینها وبین الشخصیة المحوریة کشخصیة «درویش عصفور» فی روایة «یومیات نائب فی الأریاف» لتوفیق الحکیم.

3) شخصیات مساعدة: فهم إلی جانب الشخصیتین المحوریه‌ والمعارضة‌ كرجال الشرط‌ فی قصه «اللص والكلاب» لنجیب محفوظ.

والكتاب یرسم شخصیات القصة‌ أوالروای علی إحدی الطریقتین: هما:

>> الطریقة التمثیلیة: وفیها یعمد الكاتب إلی رسم ملامح الشخصیة معتمداً علی الحوار تارة وعلی نجوی داخلیة علی لسان الشخصیة نفسها حیناً وعلی أحادیث تطلقها الشخصیات بعضها عن بعض أحیاناً أخری. 2- الطریقة التحلیلیة: وفیها یعمد الكاتب إلی أن یتدخل هونفسه تدخلاً مباشراً فیرسم بعض ملامح شخصیاته بالتعلیق المباشر علیها أوبتصویر ردّات أفعالعا تجاه الاحداث.» [27] البیئة:

«تشمل البیئة عنصری المكان والزمان تدور فیها أحداث الروایة وتتحرك شخصیاتها، فكل بیئة تترك طابعها علی الشخصیات وعلی الأحداث فشخصیات الكاتب حنامیته، الذی أدار معظم أحداث روایته علی شاطی البحر وفی موائته، تختلف كثیراً، فی أسلوب حركتها وردّات أفعالها تجاه الأحداث عن شخصیات الكاتب عبد السلام العجیلی. الذی یدیر أحداث روایاته ویحرك شخصیاته… نعنی بالبیئة القصصیة كل ما

یحیط بالأحداث والشخصیات من ظروف طبیعیة جغرافیة أواجتماعیة بشریة.»  [28]

أسلوب الروایة:

«الأسلوب فی العمل القصصی هوجملة الأدوات الفنیة التی یستخدمها الكاتب للوصول بقصته إلی غایاتها. وهی السرد، الحوار، المناجاة، الوصف.» [29]

السرد:

«السرد هو روایة الحدث، أوحكایته بأسلوب لغوی یلائم أحداث الروایة ویلائم جماهیر العریضة التی ستقرأ هذا العمل بمختلف ثقافاتها ولهذا وجب أن تمتاز لغة السرد.» [30] «الحكی اوالسرد تعرف التحدیدات العربیة للعدید من المصطلحات المعاصرة من الخلط والغموض ولعل أهم مفهوم یستوقفنا أولاً، وقبل الحدیث عن «القصّة» و«الخطاب»، هومفهوم «الحكی» التی نضعه مقابل (levecit) فی الفرنسیة و(navvative) فی الانجلیزیة.» [31]

واللغة الغالبة علی هذا النوع من العمل القصصی هی لغة الاسلوب الفصحی الذی یتجه نحو السهولة ومجرد إیصال المعنی إلى القاری بأسهل الطرق.

یسرد الكاتب الروایة بإحدی طرائق الاربعة:

1) الطریقة الذاتیة: وهی التی یستخدم فیها الكاتب المتكلم مستعیناً عن دور الروایة فیها ومن هذه القصص «الحب الضائع» لطه حسین.

2) طریقة الرسائل أوالمذكرات: وهی طریقة تعتمد علی رسائل تتباد لها شخصیات القصّة، أوعلی مذكرات یومیة یكتبها بطل الروایة أوإحدی شخصیاتها ونذكر من هذا النوع «یومیات نائب فی الاریاف» لتوفیق الحكیم. وهذا تعتمد المذكرات یومیة.

3) الطریقة التقلیدیة: وهی الطریقة التاریخیة التی یعتمد فیها الراوی علی الضمیر الغائب وبهذه الطریقة كتب اكثر القصص ومنها «اللص والكلاب» لنجیب محفوظ.»

 [32]
الحوار:

وهو من أسالیب فن القصصی:

«وقد أثر أسلوب الكاتب التقریری فی استخدام للحوار الذی یبدودوره ضئیلاً إلی حد كبیر، فی هذا النوع من الروایة، فهم یتجهون فی الغالب إلی التهرب منه ویعلنون هذا التهرب صراحة كما یفعل نقولا حداد فی روایته «العجائب والغرائب الامریكیة» فیقول بعد محادثة برهة فی عدة مواضیع لا یهتم القاری كثیراً نهضت البدینة مستأذنة فی الذّهاب. والوسیلة المتبعة فی التخلص من الحوار هی تحویلة إلی أسلوب السرد.» [33]

ولا نجاح للحوار فی الروایة إذا لم یتسم بمایلی: «1- أن یكون له دور فی بناء القصة. 2- أن یكون مرتبطاً ارتباطاً عضویاً بالشخصیة فلا یفرض علیها قرضاً. 3- أن تكون لغته الشخصیة التی تتكلم، وبحسب المواظف التی تقتضی هذا الكلام.»  [34] النجوی الداخلیة:

النجوی هی صوت داخلی لا یسمعه إلا صاحبه أما دورها فكبیر فی الروایة. فهی:

«1- قد تسعید أحداثاً مفقودة فی لحمة القصة.

2- قد تكون وسیلة فی الكشف عن شخصیات أخرى وتصویرها.

3- قد تكون الوسیلة من وسائل تطویر الحدیث.

4- قد تكون الوسیلة الوحیدة فی بناء القصّة كلّها كما فی القصص التی تعتمد طریق «یتار الوعی» فی السرد ویلزم فی اللغة لمناجاة كما فی غیرها الخفة والسهولة إلی جانب مشاكلتها للشخص الذی ینطلق داخلة بها.» [35]

الوصف

الوصف هوأداة من أدوات الكتاب فی بناء الروایة وقد یكون فیه البیئة التی تجری فیها الأحداث وقد یرسم شكل الشخصیة من الخارج أوصورة للنفس والخ.

«للوصف دور إیجابی فی تكامل القصّة إذا جاء فی قصد، فلا یكون إلا تمهیداً لحدث قد یقع كما فی وصف الطبیعة، أوتهیئة للحوادث التی تنهض بها الشخصیات، حتی لا تكون هذه الحوادث مخالفة لطبیعة الأشیاء، كما فی وصف البیئة الأجتماعیة التی تجری الحادثة فیها، أوتكون كشفاً عن دواخل الشخصیة وتحلیلاً لا نفعالاتها.» [36]

الهدف:

«هوالفكرة التی یحملها الكاتب إلی القاریء بتجسیدها فی أحداث تنهض بها شخصیات فی بیئة معنیة، أی بتجسیدها فی قصّة، وبذلك القّصة كلها قد بنیت من أجل إیصال هذه الفكرة إلی القاریء، إلی جانب تسلیته وإمتناعه.» [37]

مثال ذلك الفكرة وجود الظلم السیاسی والمشكلات فی نظام الاداری فی مصر فی روایة «یومیات نائب فی الأریاف» لتوفیق الحكیم وأیضاً فكرة عبثیة الحیاة فی قصة «اللص الكلاب» لنجیب محفوظ علی كل حال یجب أن یكون هدفاً وراء الروایة وحتی یعرف القاریء هذا الهدف خلال قرائته الروایة.
حواشی

[1] جمع من المولفین، المفید فی الأدب العربی، الجزء الثانی. دارالعلم للملأبین، ص 363. لاتا

[2] القرآن الکریم. سوره الاعراف. الآیة 176

[3] المصدر السابق. الصفحة نفسها.

[4] المصدر نفسه

[5] الدکتورسید البحراوی: محتوی الشکل فی الروایة العربیة النصوص المصریة الاولی. الهیئة المصریة العامة للکتاب 1996.ص370

[6] یحیی حقی. فجرالقصة المصریة. المنبة الثقاضة، الهئبة المصریة العامة للکتاب القاهرة. 1986. ص 2

[7] المفید فی الادب العربی- دارالعلم للملائین. ص 38

[8] محمد حسین هیکل: ثورة الأدب. دار المعارف بمصر. ط 4. 1978. ص 75

[9] المقال http://etudiantdz.com/vb/t33304.htm/

[10] الدکتور سید البحراوی: محتوی الشکل فی الروایة العربیة. النصوص المصریة الأولی الهیئة المصریة العامة للکتاب 1996. ص 38

[11] . http://etuiantdz.com/vb/t33304.htm

[12] جمع من المؤلفین. المفید الأدب ابویی، الجزء الثانی. دارالعلم للملائین. ص 385 لاتا.

[13] HYPERLINK "http://etudiantdz.com/vb/t33304.htm/" http://etudiantdz.com/vb/t33304.htm/

[14] المصدر السابق. الصفحة نفسها.

[15] جمع من المولفین. المفید فی الادب العربی. الجزء الثانی. دار العلم للملائین. ص 385 لاتا

[16] HYPERLINK "http://etudiantdz.com/vb/t33304.htm/]" http://etudiantdz.com/vb/t33304.htm/

[17] المصدرالسابق . الصفحة نفسها

[18] المصدر السابق. الصفحة نفسها

[19] المصدر نفسه ص 13

[20] د. ناصر یعقوب:الغة الشعریة وتحلیلاتها فی الروایة العربیة(1970- 2000).المؤسسة العربیة للدراسات والنشر بیروت. ص 17

[21] جمع من المولفین. المفید فی الأدب العربی. الجزء الثانی. دار العلم للملائین. ص 365 .لاتا

[22] المصدر نفسه . ص 365

[23] المصدرالسابق . ص 366

[24] المصدر نفسه . ص366

[25] المصدر نفسه . ص376

[26] المصدر نفسه . ص 368

[27] المصدر نفسه . ص369

[28] المصدر نفسه ص 371

[29] المصدر نفسه ص 372

[30] المصدر نفسه ص 372

[31] سعید یقطین. تحلیل الخطاب الروایی. المركز الثقافی العربی 2005 . ص 46

[32] جمع من المولفین. المفید فی الادب العربی. الجزء الثانی. دار العلم للملائین. ص 373 لاتا

[33] الدكتور عبدالمحسن طه بدر: تطور الروایة العربیة الحدیثة فی مصر (1870 – 1938) دارالمعارف . ص 173 لاتا

[34] جمع من المولفین. المفید فی الادب العربی. الجزء الثانی. دار العلم للملائین. ص 374 لاتا

[35] المصدر نفسه. ص 375

[36] المصدرالسابق . ص375

[37] المصدر نفسه . ص 
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 21:51|
ظاهرة النحت فی اللغة العربیة
النحت فی اللغة وفی الاصطلاح

ظاهرة النحت و وظیفته التی تقوم على مبدأ الاختصار والاختزال واضحة جلیة فی اللغة العربیة المعاصرة. یكون النحت من الأسالیب الأصیلة فی كلام العرب بحیث استخدموه فی الألفاظ الكثیرة الورود فی كلامهم ومحاوراتهم. و مردّ ذلك یعود إلى حدة أذهان العرب القدامى و جودة أفهامهم، و لذلك انتبهوا للرمزة الدقیقة و كثر فی كلامهم أنواع الإیجاز و الاختصار والحذف والاقتصار.

هنا لا بد من الإشارة، عندما نحن نتكلم عن النحت لانقصد منه تركیب الكلمات العربیة من بعض الجذور غیر العربیة و الأعجمیة كما یراه البعض، بل نقصد النحت العلمی و الأصولی الذی ینتج عددا غیر قلیل من الكلمات والتعبیرات المختزلة التی تكون العلوم الحدیثة تحتاج إلى أمثالها حاجة ماسة فی لغتنا الإسلامیة. النحت فی أصل اللغة: هو النشر والبری والقطع. و نحِت العود أی براه و الحجر أی سوّاه و أصلحه (المنجد فی اللغة، لویس معلوف) كذلك انظر(لسان العرب و تاج العروس مادة " ن. ح، ت"). و نحت الكلمة: أخذها و ركّبها من كلمتین أو أكثر نحو: الحوقلة من لا حول ولا قوة إلا بالله و البسملة من: بسم الله الرحمن الرحیم (نفس المرجع).
 و یقال: نحت النجّار الخشب والعود إذا براه وهذب سطوحه. ومثله فی الحجارة والجبال. قال الله تعالى فی سورة الشعراء الآیة 149: " وتنحتون من الجبال بیوتاً ".

فی الاصطلاح عند الخلیل بن أحمد (المتوفى 175هـ): " أخذ كلمة من كلمتین متعاقبتین، واشتقاق فعل منها" (العین، تحقیق د. مهدی المخزومی و د. إبراهیم السامرائی، 60/1، دار الرشید ببغداد، 1980م).
ویعتبر الخلیل الذی هو أوّل من أكتشف ظاهرة النحت فی اللغة العربیة حین قال: " إن العین لا تأتلف مع الحاء فی كلمة واحدة لقرب مخرجیهما، إلاّ أن یُشتَق فّـعِلٌ من جمع بین كلمتین مثل (حیّ على) كقول الشاعر:
 أقول لها ودمع العین جار ألم یحزنك حیعلة المنادی
فهذه كلمة جمعت من (حیّ) ومن (على). و نقول منه " حیعل، یحیعل، حیعلة…" ( المرجع السابق).
یعرّف الدكتور نهاد الموسى النحت فی كتابه " النحت فی اللغة العربیة " بقوله: " هو بناء كلمة جدیدة من كلمتین أو أكثر أو من جملة، بحیث تكون الكلمتان أو الكلمات متباینتین فی المعنى والصورة، وبحیث تكون الكلمة الجدیدة آخذة منهما جمیعاً بحظ فی اللّفظ، دالة علیهما جمیعاً فی المعنى" (ص67. كذلك لاحظ ص 65 وما بعدها للمزید من التوضیحات).
الغرض من النحت كما ذكر هو تیسیر التعبیر بالاختصار والإیجاز. فالكلمتان أو الجملة تصیر كلمة واحدة بفضل النحت.
یقول ابن فارس: "العرب تنحت من كلمتین كلمة واحدة، وهو جنس من الاختصار. وذلك " رجل عبشمیّ منسوب إلى اسمین") هما عبد و شمس). النحت هو انتزاع و إیجاد كلمة من كلمتین أو أكثر، بحیث نسمّی الكلمة المنزوعة، منحوتة. أو نوجد تركیبا من امتزاج كلمتین، بحیث یكون له معنى لم یكن له قبله فی الإفراد و هذا العمل یسمّى النحت (إما ان یكون بصورة النحت أو التركیب). و لكن بینهما فرق و هو كون الاختزال والاختصار فی النحت و لا یوجد فی التركیب. و نرى نفس هذا الفرق بینه و بین الإشتقاق على الرغم من أن یعدّ البعض النحت ظاهرة إشتقاقیة و یسمّى النحت الاشتقاق الكُبّار. یعنی؛ فی الاشتقاق إطالة لبنیة الكلمات غالبا و لكن فی النحت اختزال واختصار دون الإطالة.

و هكذا یصف إمیل بدیع یعقوب موقع النحت فی اللغة العربیة المعاصرة: " وعندنا أن اللغات الأجنبیة و بخاصة المنحدرة من اللغة اللاتینیة، أكثر قابلیة للنحت من اللغة العربیة، وأنه فی كثیر من الأحیان، یستحیل فی العربیة نحت كلمة من كلمتین. ولكن هذا لا یعنی أن لغتنا غیر قابلة للنحت، فإن أحدا لا یستطیع إنكار الكلمات المنحوتة فیها. والذین ذهبوا إلى أن العربیة لا تقبل النحت، اعترفوا أنها وفقت فی نحت بعض الكلمات ". بید أن ما یؤخذ على النص هو رؤیته الضیقة لمفهوم النحت، إذ لم یستطع أن یتجاوزها لیُدخل فی النحت ما ذهب إلیه تمام حسان قائلا: " ومما یرتبط بالاشتقاق أیضا ظاهرة النحت، وهی تمثل نوعا من أنواع الاختـزال المبنی على اختیار أشهر حروف العبارة لصیاغة كلمة منها abbreviation ". 
یبدو أن خیر منهج علمی ینبغی اتباعه فی هذا النمط من البحث هو اختیار متن معین ثم تحلیله ودراسته. وانطلاقا من نتائج ذلك یأتی الحكم على موقع النحت فی اللغات العالمیة المشهورة ومنها العربیة. لیكن إذن، المتن مكونا من كلمات منحوتة، شهرتها مسجلة فی الصحافة العالمیة، ثمّ لنحاول أن ننحت من ترجمتها مفردات باللغة العربیة.

ویبدو ان الكلمات التی تنحت یجب ان تكون مالوفة ومشهورة ومتكررة فمثلا نقول (سبحلَ وحوقلَ) وهنا نعنی: سبحان الله و لا حول ولا قوة الا بالله ونقول: بسملة أی: بسم الله الرحمن الرحیم.
فالنحت هو أن تؤخذ كلمتان و تنحت منهما كلمة تكون آخذة منهما جمیعا بحظ. والأصل فی ذلك ما ذكره الخلیل من قولهم حیعل الرجل، إذا قال حیَّ على. ما یفهم من تعریف ابن فارس (المتوفى 395) هو إنشاء كلمة جدیدة، بعض حروفها موجودة من قبلُ فی كلمتین أو أكثر. وقد أدى هذا الفهم بالكثیر من العلماء إلى اعتبار النحت نوعا من الاشتقاق میزوه من الصغیر والكبیر بمصطلح الاشتقاق الكبّار. موقف المحدثین من النحت
یقول الدكتور صبحی الصالح: " ولقد كان للنحت أنصار من أئمة اللغة فی جمیع العصور، وكلّما امتدّ الزمان بالناس ازداد شعورهم بالحاجة إلى التوسّع فی اللغة عن طریق هذا الاشتقاق الكبّار، وانطلقوا یؤیدون شرعیة ذلك التوسع اللغوی بما یحفظونه من الكلمات الفصیحات المنحوتات".
ولكن النحت ظلّ -مع ذلك- قصّة محكیّة، أو روایة مأثورة تتناقلها كتب اللغة بأمثلتها الشائعة المحدودة، ولا یفكر العلماء تفكیراً جدیاً فی تجدید أصولها و ضبط قواعدها، حتى كانت النهضة الأدبیة واللغویة فی عصرنا الحاضر؛ و انقسم العلماء فی النحت إلى طائفتین:
 * طائفة تمیل إلى جواز النحت والنقل اللّفظی الكامل للمصطلحات.
* طائفة یمثّلها الكرملی حیث یرى: " أن لغتنا لیست من اللّغات التی تقبل النحت على وجه لغات أهل الغرب كما هو مدوّن فی مصنفاتها. والمنحوتات عندنا عشرات، أمّا عندهم فمئات، بل ألوف، لأنّ تقدیم المضاف إلیه على المضاف معروفة عندهم، فساغ لهم النحت. أما عندنا فاللغة تأباه وتتبرأ منه " (دراسـات فی فقـه اللغـة، ص 264).

اتخذ الدكتور صبحی الصالح من الطائفتین موقفاً وسطاً حیث یقول: " وكلتا الطائفتین مغالیة فیما ذهبت إلیه؛ فإن لكلّ لغة طبیعتها وأسالیبها فی الاشتقاق والتوسّع فی التعبیر. و ما من ریب فی أنّ القول بالنحت إطلاقا یفسد أمر هذه اللغة، ولا ینسجم مع النسیج العربی للمفردات والتركیبات، و ربّما أبعد الكلمة المنحوتة عن أصلها العربی. وما أصوب الاستنتاج الذی ذهب إلیه الدكتور مصطفى جواد حول ترجمة الطب النفسی الجسمی psychosomatic)) فإنّه حكم بفساد النّحت فیه خشیة التفریط فی الاسم بإضاعة شیء من أحرفه، كأن یقال: " النفسجی أو النفجسمی" ممّا یبعد الاسم عن أصله، فیختلط بغیره و تذهب الفائدة المرتجاة منه" (المرجع السابق: ص266 ولاحظ هامشها وما بعدها من صفحات).

وقصارى القول أن الاشتقاق الكُبَّار اسم أطلقه الأستاذ عبد الله أمین على مایعرف بـالنَّحْت، وهو أخذُ كلمة من بعض حروف كلمتین أو كلمات أو من جملة مع تناسب المنحوتة والمنحوت منها فی اللفظ والمعنى. وقد استعملته العرب لاختصار حكایة المركَّبات كما قالوا: بَسْمَلَ وسَبْحَلَ وحَیْعَلَ : إذا قال: بسم الله، وسبحان الله، وحی على الفلاح. ومن المركَّب العلمُ المضاف، وهم إذا نسبوا إلیه نسبوا إلى الأول، وربما اشتقوا النسبة منهما، فقالوا: عَبْشَمیّ وعَبْقَسیّ ومَرْقَسیّ فی النسبة إلى عبد شمس وعبد القیس وامرئ القیس فی كندة. وهو قلیل الاستعمال فی العربیة. و ذهب ابن فارس إلى أن أكثر الألفاظ الرباعیة والخماسیة منحوت وفیها الموضوع وضعاً، وعلى هذا المذهب جرى فی كتابه مقاییس اللغة. و هذا القسم من أقسام الاشتقاق وسیلة من وسائل تولید كلمات جدیدة للدلالة على معان مستحدثة. وقد أجازه المجمع عندما تلجئ إلیه الضرورة العلمیة.

هل النحت ظاهرة قیاسیة؟
یعتقد الدكتور إبراهیم نجا فی كتابه فقه اللغة العربیة: " أن هذه الظاهرة سماعیة و لیس له قاعدة یسیر وفقها القائلون إلاّ فی النسبة للمركب الإضافی. فقد قال العلماء إنه مبنیّ على تركیب كلمة من اللفظین على وزن " فعلل" بأخذ الفاء والعین من كلّ لفظ ثم ینسب للفظ الجدید كعبشمیّ فی عبد شمس، وعبد ریّ فی عبد الدار، وتیملیّ فی تیم اللاّت. وفی غیر ذلك مبنى على السّماع والأخذ عن العرب" (ص 56). غیر أنّ بعض الباحثین المتأخرین فهموا نصّ ابن فارس: "… وهذا مذهبنا فی أن الأشیاء الزائدة على ثلاثة أحرف فأكثرها منحوت" (الصاحبی، ص271)، فهموه فهماً مختلفاً بحیث استنتج بعضهم من هذا النص أنّ ابن فارس یرى أنّ النحت قیاسی.
یقول الدكتور إبراهیم أنیس: " ومع وفرة ما روی من أمثلة النحت تحرج معظم اللّغویین فی شأنه و اعتبروه من السّماع، فلم یبیحوا لنا نحن المولدین أن ننهج نهجه أو أن ننسج على منواله. مع هذا، فقد اعتبره ابن فارس قیاسیا، وعده ابن مالك فی كتابه التسهیل قیاسیّا كذلك"(من أسرار اللغة، د. إبراهیم أنیس، ص72).
یقول ابن مالك فی التسهیل: قد یُبْنَى من جُزأی المركب " فَعْلَلَ " بفاء كل منهما وعینه، فإن اعتلّت عین الثانی كمل البناء بلامه أو بلام الأول و نسب إلیه.
وقال أبو حیّان فی شرحه: وهذا الحكم لا یطّرد؛ إنّما یقال منه ما قالته العرب، والمحفوظ عَبْشمیّ فی عبد شمس، وعبد ریّ فی عبد الدار، ومرقسىّ فی امرئ القیس، وعَبْقَسَىّ فی عبد القیس، و تیملیّ فی تیم الله (لاحظ المزهر للسیوطی، 485 / 1).
و لكنّ لجنة النحت بمجمع اللغة العربیة فی القاهرة علّقت على هذا الاختلاف بالقول: "… وقد نقلنا فیما تقدّم عبارة ابن فارس فی فقه اللغة، وهی لا تفید القیاسیة إلاّ إذا نظر إلى أنّ ابن فارس ادعى أكثریة النحت فیما زاد عن ثلاثة، ومع الكثرة تصحّ القیاسیة والاتساع " (لاحظ مجلة المجمع: 7/202، 203. أیضا راجع النحت فی اللغة العربیة، د. نهاد الموسى، ص284 وما بعدها).
وهكذا یظلّ النحت بین قیاس وسماع بین اللغویین، و لكن مجمع اللغة العربیة وقف من ظاهرة النحت موقف المتردّد فی قبول قیاسیته حتى تجدد البحث أخیراً حول إباحته أو منعه، فرأى رجال الطبّ والصیدلة والعلوم الكیماویة والحیوانیة والنباتیة فی إباحته وسیلة من خیر الوسائل التی تساعدهم عند ترجمة المصطلحات الأجنبیة إلى اللغة العربیة (اللغة والنحو، عباس حسن، ص 245، دار المعارف بمصر1966).
ومن هنا؛ انتهى مجمع اللغة العربیة بالقاهرة إلى قرار سنة 1948م حیث أفاد: " جواز النّحت فی العلوم والفنون للحاجة الملحّة إلى التعبیر عن معانیها بألفاظ عربیّة موجزة"(مجلة المجمع 7/203). ولكن بشرط انسجام الحروف عند تألیفها فی الكلمة المنحوتة، وتنـزیل هذه الكلمة على أحكام العربیة، وصیاغتها على وزن من أوزانها.
وبتحقیق هذه الشروط یكون النّحت - كجمیع أنواع الاشتقاق- وسیلة رائعة لتنمیة هذه اللغة وتجدید أسالیبها فی التعبیر والبیان من غیر تحیّف لطبیعتها، أو عدوان على نسیجها المحكم المتین(دراسات فی فقه اللغة، د. صبحی الصالح، ص 274).
أقسام النحت

قبل أن ندخل فی بحث أقسام النحت، حری بنا أن نذكر أن هناك تأویلات ألفاظ قائمة على وجوه التفكه حیث نستطیع أن نحملها على النحت. و ذلك كالذی أورده الجاحظ (المتوفى 255هـ) عن أبی عبد الرحمن الثوری، إذ قال لابنه: " بنی! إنما صار تأویل الدرهم، دار الهمّ، وتأویل الدینار، یدنی إلى النار"( البخلاء، تحقیق طه الحاجری، ص 106، دار المعارف بمصر، 1958م). ومنه: " كان عبد الأعلى إذا قیل له: لم سمّی الكلب سلوقیا؟ قال: لأنه یستل ویلقى، وإذا قیل له: لم سمّی العصفور عصفوراً؟ قال: لأنه عصى و فرّ ".

كما یقول ابن فارس فی كتابه الصاحبی: " العرب تنحت من كلمتین كلمة واحدة، وهو جنس من الاختصار … وهذا مذهبنا فی أن الأشیاء الزائدة على ثلاثة أحرف فأكثرها منحوت. مثل قول العرب للرجل الشدید " ضِبَطْر" من ضَبَطَ و ضَبَرَ"( ص271). قام المتأخرون من علماء اللغة من خلال استقرائهم للأمثلة التی أوردها الخلیل بن أحمد و ابن فارس بتقسیم النّحت إلى أقسام عدّة، یمكن أن حصرها كما یلی:
* النحت الفعلی: وهو أن تنحت من الجملة فعلاً، یدل على النطق بها، أو على حدوث مضمونها، مثل:

جعفد من: جعلت فداك. بسمل من: بسم الله الرحمن الرحیم * النحت الاسمی: و هو أن تنحت من كلمتین اسما. مثل: جلمود من: جمد و جلد. حَبْقُر للبرد، و أصله: حَبُّ و قُرّ.
 * النحت الوصفی: وهو أن تنحت كلمة واحدة من كلمتین، تدل على صفة بمعناها أو بأشدّ منه، مثل: ضِبَطْر للرجل الشدید، مأخوذة من ضَبَط و ضَبَر. الصّلدم وهو الشدید الحافر، مأخوذة من الصلد والصدم.
النحت التخفیفی

مثل بلحارث فی بنی الحارث، وبلخزرج فی بنی الخزرج وذلك لقرب مخرجی النون واللاّم، فلما لم یمكنهم الإدغام لسكون اللاّم حذفوا. وكذلك یفعلون بكلّ قبیلة تظهر فیها لام المعرفة، فأمّا إذا لم تظهر اللاّم فلا یكون ذلك، مثل: بنى الصیداء، وبنى الضباب، وبنى النجار(اقتباس من: فقه اللغة، د. إبراهیم أبو سكین، ص 23(.
* النحت النسبی: وهو أن تنسب شیئاً أو شخصاً إلى بلدتین. مثل: طبرخزیّ: أی منسوب إلى المدینتین (طبرستان) و (خوارزم) تنحت من اسمیهما اسماً واحداً على صیغة اسم المنسوب.

شفعنتی یقال فی النسبة إلى " الشافعی و أبی حفیفة ". حنفلتی یقال فی النسبة إلى " أبی حنیفة و المعتزلة ".
 * النحت الحرفی: مثل قول بعض النحویین، إنّ (لكنّ) منحوتة، فقد رأى الفراء أنّ أصلها (لكن أنّ) طرحت الهمزة للتخفیف و نون (لكن) للساكنین. ذهب غیره من الكوفیین إلى أنّ أصلها (لا) و(أن) والكاف الزائدة لا التشبیهیّة، وحذفت الهمزة تخفیفا (لاحظ النحت بین مؤیدیه ومعارضیه، د. فارس البطاینة، ص 122نقلا عن كتاب شرح المفصّل لابن یعیش).
وهنا نأتی بنماذج من المصطلحات و الكلمات المنحوتة ذكرناها على سبیل التمثیل لا الحصر رجاء بأنه یفید الطلاب و القارئین و المهتمین به و لیزیدوا لإكماله. أَزَنیّ: فی الرمح المنسوب إلى ذی یَزَن.

إِمّعَیّ: النسبة إلى إمّع و هو من قول إنّی معك (للذم، إذ أنّ الإمعة هو الذی لا رأْی له ولا عَزْم فهو یتابع كل أَحد على رأْیِه ولا یثبت على شیء).

البَرِیدَال: من البرید الإلكترونی و هی تعریب كلمة." E-mail" الأغْلِرضَانیَّة: كرة أرضیة من الأغِلفَة و الأرْضانیة بترودلار: منحوت من البترول و الدولار. البرمائی: منحوت من البرّ و الماء. * البرمائیّات. كل حیوان یعیش فی البر و الماء.

     
    بسملَ: قال بسم الله الرحمن الرحیم و مأخوذ من بسم الله الرحمن الرحیم.
    بلعنبر: منحوت من بنی العنبر.
    التكبیر: قول الله أكبر.
    التنظطبیعی: نظام بیئی من التناظمُ و الطبیعة.
    جعفدَ: قال جعلت فداك.
    حسبلَ: قال حسبی الله.
    حَلْمَأ: مِن حلّ بالماء.
    حمدل: قال الحمد لله.
    حنفلتیّ: النسبة إلى أبی حنیفة مع المعتزلة.
    حوقل: قال لا حول ولا قوة إلا بالله و مأخوذ من هذه العبارة.
    الحیزمن: منحوت من الحیّز و الزمان.
    حیعلَ أو حوعلَ: قال حی على الصلاة.
    - زاد الثعالبی فی فقه اللغة:
    الحَیْعَلَة (حكایة) قول المؤذن: حیّ على الصلاة، حیّ على الفلاح.
    حیفل: قال حی على الفلاح.
    الحینـَبات: منحوت من الحیوان و النبات.
    دمعزَ: قال أدام الله عزك.
    الرأسمال: منحوت من الرأس و المال.
    - الدول الرأسمالیّة.
    الركمجة: منحوت من الركوب و الموج.
    الزمكان: منحوت من الزمان و المكان.
    سبحلَ: قال سبحان الله و منها مأخوذة.
    السّرنمة: منحوت من السیر و النوم.
    * و كذلك مثله " السّرمنة " منحوت من السیر و المنام.
    سمعلَ: قال السلام علیكم.
    شفعنتیّ: ینسب إلى الشافعی مع أبی حنیفة.
    شقحطب: منحوت من شقّ و حَطَب.
    الشَنكبُوتِیة: من الشبكة العنكبوتیة و هی تعریب كلمة " " Internet.
    صهْصلقَ: من صهل و صلق.
    الضبْخن: منحوت من الضباب و الدخان.
    طلبقَ: قال أطال الله بقاءك.

عبدریّ: نسبة إلى عبد الدار.
عبشمی: من عبد شمس و نسبة إلیها.
عبقسیّ: نسبة إلى عبد القیس.

* فی الصحاح : یقال فی النسبة إلى عبد شَمس: عَبْشَمیّ و إلى عبد الدار عَبْدَریّ و إلى عبد القیس عَبْقسیّ یُؤْخَذ من الأول حرفان و من الثانی حرفان ویقال: تعَبْشَم الرجلُ: إذا تعلَّق بسبب من أسباب عبد شمس إما بحلْف أو جوار أو وَلاَء و تَعَبْقس إذا تعلّق بعبد القیس. قال: وأما عَبْشَمس بنُ زید مناةَ بن تمیم فإن أبا عمرو بن العلاء یقول: أصله عَبُّ شمسٍ أو حبُّ شمس وهو ضوؤها والعین مبدلة من الحاء كما قالوا: حَبْقُرّ فی عَبُّ قُرٍّ وهو البَرد. و قال أبو حیّان فی شرحه: وهذا الحكم لا یطّرد إنما یقال منه ما قالته العرب والمحفوظ عَبْشمیّ فی عبد شمس وعَبْدریّ فی عبد الدار و مرقسیّ لغة فی امرىء القیس وعَبْقسیّ لغة فی عبد القیس و تیملی فی النسبة إلى تیم اللَّه.

العَجَمْضى: ضرب من التمر. من عجم وهو النّوى وضَاجم واد معروف.
 وفی الجمهرة: العَجَمْضى و ذلك ضرب من التمر وهما اسمان جُعلا اسماً واحداً: عجم وهو النّوى وضَاجم واد معروف.

    العمطبیعة: منحوت من العوامل و الطبیعة.
    غِبُّلوغ: منحوت من الغِبّ و البلوغ.
    الفذلكة: من فذلك كذا و كذا.
    قبتاریخ: منحوت من قبل التاریخ.
    القروسطى: منحوت من القرون و الوسطى.
    الكثاسَكَن: من الكثافة و السكان أی: كثافة سكانیة.
    كهرضوئی: من كهرباء وضوء.
    الكهرطیسی: منحوت من الكهرباء و المغنطیس.
    
كهرمائیّ: منحوت من الكهرباء و الماء.
    مدرحی أو مدرحیة: منحوت من المادة و الروح.
    مشأل: قال ما شاء الله. 
فلان كثیر المشألة إذا أكثر من هذه الكلمة.
    المصطلاجدة: من المصادرالطبیعیة و اللامتجددة.
    معْتَوطن: نوع مستوطن من مستوطن و وباء
    النظجفة: منحوت من النظافة و الجفاف.
    النَّفْسَجِسْمی: منحوت من النفس و الجسم.
    هلـّل: قال لا إله إلا الله.

إذن النحت الطریقة التی یتم فیها جمع كلمتین أو أكثر باختیار أجزاء مناسبة من الكلمات المتعددة و المختلفة، لتعطی كلمة واحدة فی النهایة. هذه العملیة تستعمل بكثرة فی اللغات الأجنبیة، و بالخصوص الإنكلیزیة، و لكن قلّما یلجأ إلیها فی العربیة. و كما نلاحظ، فاللغة العربیة عبارة عن كائن حی یؤثر و یتأثر بالمحیط الخارجی، و هذه الظاهرة سوف تستمر ما دام هنالك أناس یستعملونها. و لكن الشیء الذی یصعب فهمه فی هذا العصر، لماذا أصابها نوع من العقم رغم الطرق العدیدة فی تكوین المصطلحات بالمقارنة مع اللغات الأخرى؟

على كل حال، عالج الباحثون هذا الموضوع بما فیه الكفایة فی أبحاث متعددة. و تكفینا هذه المجموعة لرسم صورة عامة عن النحت فی اللغة العربیة؛ إذ النماذج التمثیلیة كثیرة فی كتب اللغة. و ذكرناها على سبیل التمثیل لا الحصر. (للمزید من المعلومات راجع الاشتقاق والتعریب، للأستاذ عبد القادر المغربی، النحت بین مؤیدیه ومعارضیه للدكتور فارس فندى البطاینة، الاشتقاق للدكتور فؤاد ترزی، دراسات فی فقه اللغة للدكتور صبحی الصالح، فقه اللغة للدكتور إبراهیـم أبـو سكین، الاشتقاق عند اللغویین للدكتورفتحی الدّابولی، ابن فارس، معجم مقاییس اللغة، تحقیق: عبد السلام هارون، السیوطی، المزهر فی علوم اللغة وأنواعها، شرحه و ضبطه محمد أحمد جاد المولى وآ
خرون و فقه اللغة العربیة وخصائصها للدكتور إمیل بدیع یعقوب).


+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 21:50|
أسطورة «تمّوز» بین الأساطیر المشهورة


الملخّص

من أبرز الظواهر الفنیة التّی تلفت النظر فی تجربة الشعرالجدیدة هوالإکثار من استخدام الرمز والأسطورة أداة للتعبیر. وفی أدبنا المعاصر،تلعب الأساطیر دوراً کبیراً. وکأن الأسطورة أصحبت وسیلة لتبیین الآمال والمقاصد الإنسانیة وهی الجزء الناطق من الشعائر البدائیة والذی نماه الخیال الإنسانی واستخدمته الآداب العالمیة. والأسطورة فی الواقع الرمز الأکبر ولیست سوی الحالة الرمزیة البدائیة الأولی. للأساطیر أنواع مختلفة ولکّل منها معنی خاص.

ومن هذا المنطلق یلقی هذا المقال الضوء علی بعض هذه الأساطیر المشهورة وکیفیة استخدامها فی الأدب العربی المعاصر ولاسیما أسطورة تمّوز وهو أسطورة الحیاة و الانبعاث.
الکلمات الدلیلیة: الرمز، الأسطورة، أدونیس،تمّوز

المقدمة

تتولّد الأسطورة من صمیم التاریخ والتاریخ البدائی لنوع البشر هو«الوقائع التّی ترویها الأساطیر وهی وقایع تاریخیة احتفظت بها الذاکرة البشریة لفترة طویلة قبل أن یکتشف الأنسان الکتابة. وعزّز هؤلاء نظریتهم بالقول إن عدداً غیر قلیل من الأساطیر القدیمة هونوع من التدوین البدائی للتاریخ بمعنی أنه یحفظ فی داخله بعض الحقائق التاریخیة الموغلة فی القدم.» (الصالح،2001م :13). للأسطورة صلة وثیقة بالأنواع الأدبیة.لأن الأسطورة هی الکلام المصور البشری. وللشعر مکانة مرموقة فی الأنواع الأدبیة التّی یمکن عدّها حلقات متصلة فی سلسلة النشاط الإبداعی للفکر البشری. ولعّل من أبرز الصلات التی تقیمها الأسطورة مع الشعر، هوأن لکلیهماجوهراً واحداً علی مستویی اللغة والأداء.فعلی المستوی الأول یشترک الإثنان فی تشییدهما لغة استعاریة تؤمی ولا تفصح وتلهث وراء الحقیقة دون أن تسعی إلی الإمساک بها. ویتجّلی الثانی من خلال عودة الشعر الدائمة إلی المنابع البکر للتجربة الإنسانیة ومحاولة التعبیر عن الإنسان بوسائل عذراء لم یمتهنها الاستعمال الیومی.
أشهر الأساطیر فی الأدب العربی المعاصر

لم یستفد الشعراء من الأساطیر فی آثارهم الأدبیة فی أی عصر من العصور کما استفادوا فی عصرنا الحاضر والّذی نعالج عوامله فی الفصول القادمة.« یستفی شعراءنا المعاصرون الذین یستخدمون الأساطیر من مصادر عدیدة تتخلص فی:

- ألف) الأساطیر : وهی بالطبع المصدر الأصلی.وقد لجاً شعرا ؤنا إلی الأساطیر الیونانیة، الفینیقیة، الأشوریة، البابلیة والفرعونیة. وألمّ بعضهم بالأساطیر الإفریقیة والصّینیة.

- ب) الحکایات الشعبیة : من أشهر مجموعات الحکایات الشعبیة التی أثرت فی شعرنا المعاصر کما أثرت فی کل الآداب العالمیة: کلیلة ودمنة وألف لیلة ولیلة….

- ج) التاریخ و الکتب المقدسة: کما اتخذ الشاعر أدونیس من مهیار الدیلمی ستاراً واتخّذ غیره من المتنبّی والخیام وأبی العلاء وأبی موسی الأشعری وغیرهم أقنعة أخرى وأیضا ینظر الشعر إلى الکتب المقدسة مثل قصة صلب المسیح أو عصیان ابن نوح لوالده فی القرآن» (داود، 1992: 90-92). فی الأدب العربی المعاصر أساطیر کثیرة وأشهرها هی:

- آلف) من الأساطیرالبابلیة: تمّوز وعشتروت

- ب) الأساطیر الیونانیة: سیزیف، فینوس، إذونیس ….

- ج) من الأساطیر العبریة: السندباد، شهرزاد،عنتر، قابیل وهابیل، المسیح…

المسیح

ممایظهر من معالجة الآثارالأدبیة المعاصرة هوأنّ استخدام کلمة "مسیح" فی آثارهم رمزیدلّ علی البعث والنشوء وهو رمزللقیامة والبعث بعد الموت. المسیح مات مصلوباً یتخذه شعراءنا دلالة علی المعاناة والمحنة کمافعل أمیرالشعراء، أحمدشوقی.وفی شعره کثیرمن الإشارات إلی شخصیة السید المسیح وما فیها من طیبّة ورحمة وطهارة نبل و یسری. ونری هذالمعنی فی أشعارشعراء المدارس الشعریة فیما قبل الحرب العالمیة الثانیة. وکما نری «بدرشاکرالسیاب یلبس فی قصیدته "أنشودة المطر" قناع المسیح وتتفاعل شخصیته مع هذا القناع.» (حلاوی، 1994م: 71) حیث یقول:

«بعد ما أنزلونی، سمعت الریاح

فی نواح طویل تسفّ النـْخیل،

والخطی وهی تتأی. إذن فالجراح

والصلیب الذ ّی سمّرونی علیه. طوال الأصیل

لم تُمتنی.» [1]

«هنا یظهر لناالمسیح الجریح الذی سمّر علی الصلیب ولکنه لم یمُت، هو إذن رمز إلهی ومخلّص یفتدی البشریة والسیاب یعتقد أن المسیح هو الذی یغطـی عری الفقراء ویکسو عظامهم وهوالغطاء الروحی یبلسم الجراح، أنه نورانی شفاف هو الشق الإلهی من البشر.» [2].

ربّما یمکن القول بأن الفقر والمجاعة المنتشرة فی أکثرالبلاد العربیة ولا سیما العراق سبّبت أن یکون المسیح رمزاً لإنقاذ عالم البشریة والقول بأنه سیأتی شخص وسیقوم بطل بإنهاء هذه المجاعة والفقر والجدب وهو الذی یعِد البشریة بولادة جدیدة.

السندباد

و أما السندباد فی الأدب العربی المعاصر فقد کان متطلعاً لمعرفة، باحثاًعما یشوق … یستحثه فضول لاهف للرحلة بعدالرحلة. فبواعث الرحلة مختلفة، إذن عند کل منهما، ولکن الاستخدام الشعری الحدیث یجد أحیاناً فی کل منهما ملاقاة الأخطار والترحیب بمواجهة المجهول والتعبیر عن الرغبة فی الانعتاق من أسر الواقع ورتابة الحیاة الاجتماعیة.یبدو أن السیاب فی أدبنا المعاصریعتبر رمزاً للولوج فی المخاطر والمغامرات صنعاً لحیاة أفضل وخلاصاً من الفقر والمجاعة. کما یقول خلیل حاوی فی دیوانه "النای والریح":

رحلاتی السبعُ وماکَنّزتُهُ

من نعمة الرحمان والتّجارَه

یومَ صرعَتُ الغول والشیطانَ

یومَ انشقتِ الأکفانُ عن جسمی

ولاح الشقُّ المغاره،

رویتُ مایروون عنّی عادةً

کَتَمتُ ما تَعیا لَهُ العِبَاره

وَلَم أزَل أمضِی وَ أمضِی خَلفَهُ

أحِسُّهُ عِندی وَ لا أعِیهِ. » [3]

والواضح«إنه یبحث عن شیء، یحسّه عنده ولایعیه والدائرة الثانیة ستوضّح لناطبیعة المشکلة السندبادیة الّتی منعته من الاستقرار وهناءة العیش فیقتحم دوخة البحار معترضاً لشتّی أنواع المخاطر فی سبیل الکشف عن ذلک الشیء الذی یحسّه عنده ولایعیه» [4]

العنقاء (الفینیق)

هما اسمان مختلفان لطائر واحدوهما أیضاً عنصرا النار والرّماد أوالحیاة والموت. تحدّث عنه کثیرمن الشعراء کما «نعرف أن الجاحظ فی الحیوان وأبانواس فی شعره أوردا تفضیلات إضافیة مهمة تقرن العنقاء بالسیمرغ الفارسی وهوطائر أسطوری استخدمه فریدالدین العطار(1224م)فی منطق الطیر رمزاً مرکزیاً لطائرالطیور وصورة الصور، مبیناً من خلال توجه رحلة الطیور إلیه، وتوحدها به عقیدتی وحدة الشهود و وحدة الوجود فی الفکر الصوفی» [5].

وفی أدبنا المعاصریستخدم خلیل حاوی أسطورة العنقاء فی قصیدة "بعد الجلید".القصیدة تتألف من لوحتین: الأولی بعنوان"عصرالجلید" أو عصرالموت والثانیة بعنوان"بعد الجلید" أو بعدالموت أی القیامة هذه الأسطورة تشیر إلی جمود الحضارة الشرقیة وإلی حالة یموت فیها التغّیر والتقدّم ویسیطرالموت والفناء علی البلاد العربیة. ولکـّن الحالة هذه ستزول وتنتبه الأجیال القادمة وستحصل علی تجربة جدیدة وستطیر فی الأجواء المناسبة کما فعلت العنقاء فی بناء أسس الحیاة بعد أن أحترقت نفسها فی النار لبناء حیاة جدیدة. کما یقول خلیل حاوی فی هذه القصیدة:

«ان یکن ربّاهُ

لایحیی عروقَ المیتینا

غیرُ نارٍ تَلِدُ العنقاءَ، نارٌ

تتغذّی من رمادِ الموت فینا

فی القرار.

فَلنُعانِ مِن جحیم النار.

مایمنَحُنا البعثَ الیقینا.  [6]

یستخدم الشاعر هنا أسطورة العنقاء التی تحرق نفسها وتنبعث من رمادها تنضح نضارة وفتوة.
أسطورة تمّوز بین الأساطیر المشهورة

تمّوزأسطورة بابلیة و بابل هی مدینة تاریخیة تعود قدمتها إلی«بدایة الألفیة الثالثة قبل المیلاد. مطالعة حضارتی آشور وبابل، وهما من أقدم الأقوام التاریخیة، مفتاح للدخول فی تاریخ العالم القدیم» [7] . أما أسطورة "تموز" تعادل "دمُوز" فی الثقافة السومریة و"أدونیس" فی الثقافة الأغریقیة وفی بلاد سوریا وفلسطین. وفی الأدب الفارسی تمّوز یعادل "حاجی فیروز" الذی یظهر لیالی آخرکلّ سنة فی ثوب أحمر ووجه أسود. احمرار ثوبه یشیر إلی إعادة العیش والحیاة واسوداد وجه یشیر إلی اسوداد أرض الأموات وقد عاد من دیار الأموات حقیقة لإجراء الحیاة علی الأرض فی فصل الربیع.

أمافیما یتعلّق بمأساة تموّز أومراث لتمّوزفقد قیل: «عندما یرحل التمّوز إلی تحت الأرض، تصبح عشتار، عاشقته ، کئیبة وحزینة وتندبه وترثیه وهی مشهورة بمأتم تمّوز» [8]. ومن بعد ذلک کان الناس یقیمون مراسیم لمأتم هذه الأسطورة وفی کثیر من القصائد الدینیة البابلیة مراث لتمّوز الذی فجعت به الأرض یشبه فیها بالنباتات السریعة الذبول فهو مثلاً:

طرفاء فی الجنینة لم یسقها الماء

ولم تزهر بالنور قمتها فی الحقول

صفصافة لم تسعد بالمیاه الجاریة

صفصافة تمزّقت جذورها.  [9]
تموّز فی أشعار الشعراء المعاصرین

الشعراء التموزیون مصطلح أطلقه جبرا إبراهیم جبرا علی کلّ من بدرشاکر السیاب خلیل حاوی، یوسف الخال، وأدونیس وجمیعهم کانوا من شعراء مجلة الشعر. کتب جبرا إبراهیم جبرا کتاباً تحت عنوان "تموّز فی المدینة" سنة 1959م وفیه رموز الموت والتمزیق والفتک ویقول فیه: «هذه القصائد تلخص لی سنواتی الأخیرة وبحثی فیها عن مصادر الإیناع والخصب.أکانت السنوات لغیری ماکانت لی أنا؟ مهمایکن الجواب، فلشدّ ما آمل أن نعود إلی المدینة راقصین.»(جبرا، 1959 م:6).

وینتمی السیاب إلی أسرة الشعراء التمّوزیین وتنعکس صورالأسطورة التمّوزیة ورموزها المختلفة وتنویعات موضوعها فی القصائد التالیة من شعره "النهروالموت"،"جیکورو المدینة"،"المسیح بعدالصلب"،"أغنیة فی شهرآب"،"أنشودة المطر"، "رسالة من قبر" ولاتظهرالأسطورة التموزیة بشکل واضح الملامح فی أغلب قصائد السیاب التی ذکرناها ولکن الصور والأفکار التّی تطالعنا فی تلک القصائد تشیرإلی مغزی الأسطورة التموزیة. مثلاً فی قصیدة"أنشودة المطر"یلبس فیها المسیح ثوب التموّز حینما یقول:

بعدما أنزلونی، سمعتُ الریاح

فی نواح طویلٍ تسّفُ النخیل

والخُطی وهی تنأی. إذن فالجراح

والصلیبُ الذّی سمّرونی علیه طوال الأصیل

لم تمتنی

ویواصل کلامه ویقول:

«حینما یزهَرُ التوتُ والبرتقال

حین تَمتدّ "جَیکُور" حتی حدودِ الخَیال،

حینَ تخضّرعشباً یغنی شذاها

والشموس الّتی أرضَعَتها سناها،

حین یخضرّ حتی دجاها،

یلمس الدفء قلبی فیجری دمی فی ثراها.»

 [10]

ویطلّ علینا المسیح بوجه آخر فیقترب من تمّوز جوّ الاقتراب. إن المسیح هنا، یتقمّص شخصیة إله الخصب تمّوز، إذ إنه یعلن أنّ الدماء الدافئة ستجری فی قلبه بطلوع الربیع فی قریة جیکور. وهو یشیرفیها إلی خصائص أسطورة تموّز نفسها إلی الموت والفناء وبعد ذلک یشیر إلی البعث والحیاة.

وأما خلیل حاوی فهو أحد من الشعراء التموزیین الّذی یستخدم أسطورة تمّوز فی بعض قصائده. کقصیدة:"بعدالجلید"من دیوان"نهرالرماد". فی هذه القصیدة یفید الشاعرمن أسطورة تموّز وما ترمز إلیه من غلبة الحیاة والخصب علی الموت والجفاف. فی بدایة القصیدة یشیرإلی الجلید الذی تغشی کل مکان وقدحوّل کل شیء إلی الرکود والجمود حیث یقول:

«عندما ماتت عروقُ الأرض

فی عصرِ الجلید

مات فینا کلُّ عِرقٍ

یبُسَتˆ أعضاؤنا لحماً قدیدˆ

عبثاً کُنّا نًصُدُّ الریحَ

واللیلَ الحزینا

ونُداری رعشة

مقطوعة الأنفاس فینا

رعشة الموتِ الأکید

فی خلایا العظمِ فی سرِّ الخلایا …» [11]

یشیر الشاعرإلی الأجواء الباردة التی أحاطت کلّ مکان وإلی اللّیالی السوداء والمغمومة وإلی الحیاة النازحة وإلی الموت والفناء الذی یسیطرعلی کل شیء. ویرمز بصورة غیر مباشرة إلی تلک الحیاة التی قد هاجرت إلی تحت الأرض مع رحلة تمّوز. وفی هذه الأجواء المفعمة بالهموم والأحزان والموت والفناء، یبشّرالشاعربظهورأسطورة تمّوز فجأة کمایشیر إلی "بعل" وهو إله الخصب والحیاة عند الفینیقیین. وکأن الشاعرنفسه مشغول بانجاز الطقوس الدینیة أمام هذه الأساطیر ویقوم بمزج أسطورة تموّز ببعل فجأة حیث یقول:

«یا أله الخصبِ، یا بعلاً یفضّ

التربة العاقِرَ

یا شمس َ الحصیدˆ

یاإلهاً ینفضُ القبَر

ویا فِصحاً مجید

أنتَ یا تموّز، یا شمس الحَصید

نَجِّنا، نجِّ عروقَ الأرض

مِن عُقمٍ دَهاها ودهانا

أدفی ء المَوتی الحزانی

والجَلامیدَ العَبید

عَبرَ صحراء الجلید

أنتَ یا تمُّوزُ، یا شمسَ الحصید»  [12]

یقوم الشاعر بتمجید هاتین الألهتین ویطلب من "بعل" أن تشقّ التراب العقیم وتعطیه حیاة جدیدة.

وقد تأثّر خلیل حاوی من الشعراء الغربیین وقصائدهم «ولاسیما قصائد تی اس. إلیوت، القصائد التی تضمّنت دلالات طقوس الخصب وأساطیره باعترافه هو فی هامش قصیدة "الأرض الخراب". قد شجعت خلیل حاوی وباقی الشعراء التموزیین بأن یستفیدوا من تراث المنطقة الأسطوری والشعری وهم أولی به.» (العظمة، 1996م:256). یشیرخلیل حاوی إلی أوضاع بلاده والبلدان العربیة وأحوالها وإلی الأجیال التی قد کتب الجهل والفناء علیها ولایمکن أن یغیرها أی قوة من الخارج ألا أن یغیرما بأنفسها. الأسطورة هنا رمز للتقدم، والمدنیة، والحضارة، و الثقافة التی ستغیر الشرق الأوسط یوماً من الأیام. و الشاعر یعتقد أنّ الجهل بالأمور والحوادث التی تسیطر علی بلاده هی الّتی تسبّب الجمود والرکود بین الأجیال. ثم یشیر إلی هاجة بلاده بنوع من الخروج من هذا الجلید. والشاعر الأخیرالذی نعالج بعض قصائده وهومن الشعراء التموّزیین والّذی یستفید من أسطورة تموّز، أو أدونیس أو بعل مرّات عدیدة مباشرة کانت أو غیرمباشرة هو یوسف الخال الشاعرالشهیر السوری. علی سبیل المثال أنّه یذکر بعض هذه الأساطیر مباشرة فی قصیدتی "الدعاء"و"السفر" وغیر مباشرة فی قصیدتی "البئرالمهجورة" و"القصیدة الطویلة". کما یقول فی قصیدته "الدعاء" مشیراً إلی أسطورة تمّوز:

«و أدَرنا وُجوهَنا: کانت الشمسُ

غُباراً علی السنابِکِ، والأفقُ

شراعاً مُحطّماً کان تمّوز

جراحاً علی العیون وعیسی

سورةً فی الکتاب.»  [13]

یشیر الشاعرفی بدایة القصیدة إلی رکود الإنسان وخیمة الموت التی سیطرت علی کلّ مکان. ثمّ یتحدّث عن قتل تمّوز علی یدالخنزیر البرّی وذهابه إلی العالم السُفلی. وأمّا عیسی الّذی نجّی قومه أصبح سورة فی الکتاب أوصورة فی الأذهان فحسب. وکأنّ الیأس خیم علی العالم. ثمّ شیئاً فشیئاً تزدهر براعم الأمل فی ذهن الشاعر فیحاول أن یبعد حالة الیأس والخیبة السائدة علی القصیدة إلی جانب فیقول:

« یا نفسُ بوحی

بالّذی صار، مَزِّقی الحُجُبَ السُودَ،

أطِلّی علی الجدید وثوری

یفتح الشاطیءُ الخلاصُ ذِراعَیه

وتعلو علی مداه السفینُ.

أیها البحرُ. أیها الأملُ البحرُ

تَرَفّق بنا، تَرَفّق، تَرَفّق!»  [14]

ثمّ بدلاً عن الإشارة المباشرة إلی أسطورة تموّز أو أسطورة أخری، یستخدم البحر رمزاً لإعادة العیش والحیاة إلی الأرض، وفی الحقیقة تحوّل البحرإلی إله یتضرّع إلیه الشاعر. ثم یتحدّث عن أمل جدید ودمع ودماء جدیدة فی مواصلة کلامه حیث یقول:

« أیها البحر، یا ذراعاً مددناها

إلی الله، رُدَّنا لک، دَعنا

نستردَّ الحیاة من نور عینیک

ودَعنا نَعود، نُرخی مع الریح

شراعاتنا، نروح ونغدو

حاملین السماء لِلأرض دمعاً

ودماءً جدیدةً.» [15]

فالبحر یصبح ذراع الخلاص وهو ینبوع الحیاة، أنّه الطریق إلی الله وهو الوحید القادر علی إنقاذ الإنسان ویتّضح لنا بأن رؤیا الشاعر دینیة ولایمکن استرداد الحیاة إلا من نورعینی الله.

وفی قصیدة أخری عنوانها "السفر" یستخدم الشاعرعدة من هذه الأساطیر ویقول:

« وقبلَما نَهُمُّ بالرّحیل نذبح الخراف

واحداً لعشتروت، واحداً لأدونیس

واحداً لِبعلَ، ثمّ نرفع المراسیَ

الحدیدَ من قرارة البحر

ونبدأ السفر.» [16]

« فی هذه الصورة ینحلّ الرمز القدیم إلی واقعة إنسانیة عامّة ذات مغزی رمزیّ. إذ کان الشاعر انّما یحدّثنا عن واقعه الشعوری الذّی یرتبط فی الوقت نفسه ارتباطاً شعوریاً وثیقا بتلک الواقعة الرمزیة القدیمة.» ( إسماعیل، 1962م: 214)

النتیجة

وأمّا الخلاصة التی نستنتجها من خلال هذا المقال فهو:

- ألف) ما کان یزدهر استخدام الأسطورة فی الأدب العربی من قبل کما ازدهر فی عصرنا المعاصر. بعد الحرب العالمیة الأولی، تعرّف الأدباء العرب علی الأدباء المشهورین الغربیین ثمّ أخذوا منهم استخدام الأساطیر مثل تمّوز أو آفرودیت.

- ب) فی هذه السنوات ومن بین هذا الجیل من الشعراء، ظهرت فئة من الشعراء المعاصرین العرب الذین یشتهرون بالشعراء التمّوزیین الذین عالجوا الأساطیر عامة و أسطورة تموّز خاصةً معالجة إبداعیة بإعطاء الصورة الجدیدة.

- ج) الشی إلواحد الذی یربط ما بین آثار هؤلاء الشعراء هوالاعتقاد بمیزة تمّوز فی انبعاثه و إعطائه الحیاة إلی الأرض.

- د) تحولّت هذه الأساطیر فی أشعارهؤلاء الشعراء المذکورین إلی رموزلانبعاث والإحیاء والرّجاء الذی یحتاج إلیها العالم الثالث والشرق الأوسط فی هذه اللیالی المظلمة وفی هذه الظروف الراهنة.
المصادر والمراجع

- إسماعیل، عزّالدین.1962م. الشعرالعربی المعاصر، قضایاه وظواهره الفنیة والمعنویة.بیروت: دارالثقافة .
- البعلبکی، منیر. 1992م. معجم أعلام المورد. الطبعة الأولی. بیروت: دارالعلم للملائین.
- جبرا، إبراهیم جبرا. 1959م. تموّز فی المدینة. الطبعة الثانیة. بیروت: الموسسة العربیة للدراسات.
- حاوی، خلیل. 1979م. الدیوان. الطبعة الثانیة. بیروت: دارالعودة.
- حلاوی، یوسف. 1994م. الأسطورة فی الشعرالعربی المعاصر. الطبعة الأولی. بیروت: دارالآداب.
- الخلال، یوسف. 1979م. الأعمال الشعریة الکاملة. الطبعة الثانیة. بیروت. دارالعودة.
- داود، أنس. 1992م. الأسطورة فی الشعرالعربی الحدیث. الطبعة الثالثة. بیروت. دارالمعارف.
- رزوّق، أسعد. 1959م. الشعراء التموزیون. الطبعة الأولی. بیروت: دارالحمراء.
- السیاب، بدرشاکر. 2000م. الأعمال الشعریة الکاملة. ج1. بیروت: دارالعودة.
- الصالح، نضال. 2001م. النزوع الأسطوری فی الروایة العربیة المعاصرة. بیروت: منشورات الکتاب العرب.
- العظمة، نذیر. 1996م. سفرالعنقاء حفریة ثقافیة فی الأسطورة. دمشق منشورات وزارة الثافیة فی الجمهوریة العربیة السوریة
- فریرز، جیمس. 1982م. أدونیس أو تموّز، دراسة فی الأساطیر والأدیان الشرقیة القدیمة. الطبعة الثالثة. بیروت: المؤسسة العربیة للدراسات والنشر.
المصادر الفارسیة

- ژیران، ف.دلاپورت، ل. لاکوئه، گ.1382 هـ ش. اساطیر آشور وبابل. ترجمه ابوالقاسم اسماعیل پور. چاپ سوم. انتشارات کاروان
- ساندرز، ن. ک. 1387 هـ ش. بهشت ودوزخ در اساطیر بین النهرین. چاپ سوم تهران. انتشارات کاروان.
حواشی

[1] (السیاب، 2000م: 457)

[2] (حلاوی، 1994 م:72)

[3] (حاوی 1979م:228-229)

[4] (حلاوی، 1994م: 164)

[5] (العظمة، 1996م :21)

[6] (حاوی، 1979م: 125-126)

[7] (ژیران،2001م:57)

[8] (ژیران 2001م،78)

[9] (فریزر،1982م:20)

[10] (السیاب، 2000م: 458و457)

[11] (حاوی، 1979م:117-118)

[12] (حاوی، 1979م: 119-120)

[13] الخال، 1979م: 227

[14] (الخال، 1979م: 228)

[15] (الخال 1979م: 230)

[16] (الخال 1979م: 234)

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 21:49|
الیوتوبیا فی شعر نازك الملائكة


المستخلص

راودت فكرة الیوتوبیا أو الطوباویة الكثیرین من الأدباء و الشعراء الذین یتمتعون بحسّ أخلاقی رفیع المستوى. و كان الحلم بمدینة فاضلة یعیش فیها الإنسان أحرارا متساوین أمام القانون -ولا یزال - حلما خصبا یستمد وجوده من وقائع شتى كغیاب العدالة، المكر، الخبث، الاحتیال، الظلم و الظلام الذی أحاط بالبشریة من كل ناحیة ردحا من الزمن .

كان افلاطون أول من أشارإلیها فی كتابه " الجمهوریة" و یعتقد أن الناس سواء فی كل شیء و بعده رسم الفارابی دنیاه المثالیة فی كتابه " المدینة الفاضلة" و یرى مساواة الناس أمام میزان العدل. والحالمون بذلك كثیرون من العباقرة أمثال القدیس اوغسطین، شیشرون، دانتی، فرنسیس بیكن و توماس مور و غیرهم.

فی هذه المقالة أتناول میزات الیوتوبیا فی شعر نازك الملائكة، عنایة بأنها كانت متشائمة شدیدة التشاؤم فی بدایة حیاتها الأدبیة. الیوتوبیا – توماس مور– مدینة فاضلة – الكلمات الرئیسیة: الطوباویة

المقدمة

یوتوبیا كلمة یونانیة معناها لا مكان أو المكان الذی لا وجود له. قد استقیت من الكلمتین الیونانییتین بمعنى" مكان" و الكلمة فی مجموعها تعنیtopos بمعنی "لا" و ou لیس فی مكان، لكنّه أسقط حرف ال- O و كتبت الكلمة باللاتینیة utopia الیوتوبیا مكان خیالی قصی جدا و هی دنیا مثالیة و بخاصة من حیث قوانینها و حكوماتها و أحوالها الاجتماعیة. و هی عالم یجوز تسمیته بالخیال أو صورة ماوراء العین، مكان یتحقق فیه التعاون الاجتماعی بصورة كاملة التحقیق لسعادة الأفراد.

حلم الإنسان منذ القدیم بمدینة مثالیة نموذجیة یأخذ كل فرد فیها حقّه و یؤدّی ما علیه من واجبات تجاه نفسه و تجاه الآخرین. مدینة بلا جوع و لا ظلم ولا فقر و مدینة القانون و العدالة، دولة مثالیة تتحقّق فیها السعادة لجمیع الناس و تمحو الشرور، فالناس فیها سواء فیما یملكون و یحصلون على ما یحتاجون إلیه حاجة حقیقیة، متساوون أمام میزان العدل، و هی مدینة المثل العلیا، مدینة العلم والمعرفة وكأنها تنادی الإنسان بالعودة الی فطرته الطاهرة.

حلم الإنسان منذ النشأة البشریة؛ فإنها تبحث عن النموذج المجتمعی الخیالی و المثالی، ذلك الذی یعوضها عن الفردوس المفقود الذی فیه یتحقق الكمال أو یقترب منه على الأقل و یتحرر من الشرور التی تعانی منها البشریة و هو أمر حسب أنه لا یوجد سوى فی ذهن الكاتب نفسه و خیاله قبل كل شیء.

كان أول من حلم بذلك الفیلسوف الیونانی " افلاطون " من خلال كتابه " الجمهوریة " ویرى فیه أن الناس سواء فی كل ما یكتسبون و یملكون و یحتاجون إلیه و بالروح نفسها رسم المعلم الثانی " الفارابی " دنیاه المثالیة من خلال كتابه " المدینة الفاضلة " حیث یعیش فیها الناس متساوین أمام المیزان میزان العدل. و استمرّ رسم الیوتوبیا فی خیالها الخصب من عباقرة الشعر و الأدب و الفلسفة مدى التاریخ .و مما یلفت النظر أن الكتابة عن یوتوبیا تطوّرت تطوّرا ملحوظا و برز تقدّمها فی العصر الكلاسیكی أی حوالی القرنین السادس والسابع عشر.

و من هؤلاء " توماس مور " فی كتابه " یوتوبیا " سنة 1516م الذی یتحدث فیه عن مدینة فاضلة و أعقبه بعد ذلك " توماس كامبانیلا " سنة 1623 م فی كتابه " مدینة الشمس " و بعده " فرنسیس بیكون " سنة 1627 م فی كتابه " اطلنطس الجدیدة " و أیضا " ایتین كابی " سنة 1840 م الذی سمّى مدینته المثالیة " إیكاریا " فی كتابه "رحلةإلی إیكاریا ".

وغیر هؤلاء كتب كثیرون أحلامهم عن مدنهم المتّصفة بسمات العدل و الحق و المساواة؛ ولكن عندما نمعن النظر نرى أن أمانیهم قد فشلت و كانت هذه شعارات التی یحاربها غالبیة المدّعین بها والمدافعین عنها بقدر ما التصقت فی أذهاننا بعض المدن الواقعیة التی خلدها الأدب و نراها كأثر أدبی بحت نقش رسم هذه المدن الخیالیة الفانتزیة على جدران ذاكرتنا بل نشعر أنّها مدن تنتمی إلى الخیال أكثر من انتمائها الی الواقع و غالبا لیست فی متناول الید.

والواقع أنّ التعبیر عن الیوتوبیا تخطّى مرحلة المعنى الأدبی الخیالی فأطلق على كل اصطلاح سیاسی أو احتمالات تتعلق بالعلوم والفنون فی مجملها؛ بید أنه یظلّ تصوّرا فلسفیا ینشدانسجام الإنسان مع نفسه و مع الآخرین فی عالمه الواسع. نشعر كلنا بالسرّ الموحود فی الزمان ولكنّنا غیر قادرین عن التعبیر عنه؛ فالزمن قدرنا، ألمنا و یأسنا وتجربه الإنسان بزمانیته هی تجربته الحزینة بزواله و انقضائه، فشكوى الإنسان من الزمان أزلیة و أغلب الظّنّ أنها ستبقى أبدیة. إنّ تجربة اللقاء بالمستقبل تثیر فی النفوس شعورا عجیبا، لیس من الضّروری أن یكون هذا المستقبل المتوقع خطیرا ولأن یحمل فی أحشائه و أمعائه النقمة أو النعمة؛ فالمهمّ أن یصبح حقیقة حیّة و هذا شعور لطیف لكلّ شخص أنّ فرصة الانتظار أحلى و أجمل من سعادة التحقیق.

و مهما كان صوت المستقبل للإنسان - لصالحه أو لطالحه، متوعّدا أو واعدا - لكن إشاراته دائما فی هالة إلهیة ولهذا كانت و ستبقى بالرهبة والجلال و یقف الإنسان منه موقف الحب والشوق كما یقف فی الماضی موقف الخشوع و الإشفاق. أمّا نازك الملائكة فشاعرة عربیة عراقیة من عمالقة الشعر الحدیث ومن روّاد الأوائل لحركة الشعر الحرّ . ولدت فی بغداد سنة 1923 م، درست الأدب العربیة فیها فسافرت إلى الولایات المتحده لدراسة الأدب الإنجلیزی و إكمال دراستها، درست الأدب المقارن بجامعة وسكونسن و حصلت على درجة الماجستیر سنة ٦195 م. ولها معرفة بالأدب الغربی وكانت الرومانسیة غالبة على شعرها و تولع بآثار الرومنظیقیین الإنجلیزیین مثل " شلی " و "كیتس ". و تحسّ بالقلق وتشعر بالحزن كشأن سائر الرومنسیین ممّا یجعلها الهروب إلى الطبیعة أو إلى نفسها والانطواء على ذاتها للتفتیش عنها؛ فهربت من الواقع و انطلقت إلى عالم الخیال الذی یمثل لها عالما مثالیا خاصا غیر محدود بزمان أو مكان و بحثت عن السعادة فیه؛ لجأت إلیه و عاشت فی كنفه.

تلجأ شاعرتنا إلى دائرة الأزمان و هی التی سمتها " یوتوبیا " منطقة یتعطّل فیها حكم الزمن و لكنّ الصفة الثابتة لها أنها أفق أزلی لا یدركها الفناء - كما یعتقد الدكتور شوقی ضیف - (فصول فی الشعر و نقده. ص 96).

ومما یلفت انتباهنا هنا أن الشاعرة استعملت " یوتوبیا " دلالة على مدینة شعریة خیالیة بدون وجود إلا فی أحلامها و طبعا لا علاقة لهذه المدینة بیوتوبیا التی تخیّلها الكاتب الإنكلیزی "توماس مور" و رسم فیها صورة سیاسیة إداریة للجزیرة المثلى كما یریدها قیاسا على "جمهوریة افلاطون " أو غیره.

أما من میزات هذا العالم فهی كما تصفها الشاعرة یكاد یكون خالیا عن الشرّ أو ینبغی أن یكون كذلك و تتذكره دائما فی حیاتها ومماتها و هناك لا یوجد أی قید یثقل علیها و القیود تذوب كلها و یفسح لها أن تفكر لتنطلق من الأسر، فهی تحبّ الهروب من مواجهة الواقع و الیوتوبیا تبدو لها مفارقة للواقع و كأنّها ترفض الواقع رفضا كلیا و قطعیا؛ لأنّها:

قد سئمتُ الواقعَ المرّ المملّا ولقد عدتُ خیالاً مُضمحلّا

فاتركینی بخیالی أتسلّى آه كاد الیأسُ یعرونی،لولا

أنّنی لُذتُ بأحلامِ السّماء وتَخیّرتُ خیالَ الشّعراء

( دیوان نازك الملائكة . ج 1. ص.599).

سئم الشیء و منه : ملّه. اضمحلّ الشیءُ : تلاشى و انحلّ . عرا ُ فلاناً أمر : ألمّ به. لاذَ ُ بالشیء : استتر به و التجأ إلیه ترى الشاعرة أن الواقع مرّ و مملّ فتبرّمت به، و بما أنها التجأت بأحلام السماء و تخیّرت لنفسها عالم الخیال و هو خیال الشعراء، هذا هو سبب خلاصها و إلا یلمّ بها الیأس و یثقل علیها.

تسارع الشاعرة لتهرب حیث لا علاقة لها بالزمان والمكان وهذا كلّه قید یغلّه ولكن فی یوتوبیا تذوب هذه القیود فتحسّ بشباب لایزول:

ویوتوبیا حُلمٌ فی دمی أموتُ و أحیا على ذكره

تخیّلتُه بلداً منْ عَبیر على أفق جرتُ فی سرّه

هنالك عبرَ فضاءٍ بعید تذوب الكواكب فی سحره

هنالك حیثُ تذوبُ القیود وینطلق الفكرُ من أسره

وحیثُ تنامُ عُیونُ الحَیاة هنالك َتمتدّ یوتوبیا

ویوتوبیا حَیثُ یَبقى الضّیاء ولاتغربُ الشّمْسُ أو تَغلَسُ

وحیثُ تَضیْعُ حُدودُ الزّمان وحیثُ الكَواكبُ لاتنْعَسُ

هناك الحَیاة امتدادُ الشّباب تفورُ بِنشْوتهِ الأنفُسُ

هناك یَظِلّ الّربیعُ رَبیعا یُظلّلُ سُكّانَ یوتوبیا

( دیوان .ج.2 ص. 40 ).

عبیر : أخلاط من الطیب، نكهة طیبة . الغَلَس : ظلمة آخر اللیل . نعس َ : فتر . فارت القدر: غلت وارتفعت ما فیها؛ فار ُ المسكُ : تضوّع و انتشر . النشوة : الرائحة، السكر أوّله تعتقد الشاعرة أن عالم الیوتوبیا كحلم اختلط فی دمها، تذكر هذا العالم فی محیاها و مماتها؛ و هی تصفها هكذا: بلد من عبیر، عالم لغز و سحر، تنصهر الكواكب و النجوم فی هذا السحر الموجود فی فضاء بعید، تذوب القیود، الفكر حرّ، الضیاء أبدیّ لأنّه لا زمان موجود ولا غروب للشمس ولاتفتر الكواكب ولاأثر للمشیب و الشباب سرمدیّ وتلتذّ الأنفس بهذه النشوة والفصل الوحید هناك هو الربیع الذی یظلّل سكّانه. وتعانق نازك الملائكة أمنیاتها الخیالیة أمنیات الطفولة فی هذا العالم حیث تقول:

وتَمرّ السّاعاتُ بی و أنا أبْ نِی خفایا مَدینةِ الأحْلام

أی یوتوبیا فقدْتُ و عَزّ الآ نَ إدراكُها على أیّامی

تلك یوتوبیا الطّفُولةِ لوْ تَر جعُ لو لمْ تكُنْ خیالَ مَنام

إیه تَلّ الرّمالِ ماذا تَرى أبْ قیْتَ لی منْ مَدیْنةِ الأحْلام

( دیوان .ج.1.ص.255).

عزّعلیّ الشیءُ: اشتدّ و صعب .، من الأضداد قوی و ضعف . ایه : اسم فعل للاستزادة من حدیث أو فعل . وتبنى الشاعرة فی هذا العالم خفایا مدینة الأحلام، و ترید أن تلجأ الی الماضی الجمیل بكلّ ما فیه و لاسیّما أیّام الطفولة و ترید أن تعیش فیها ولیس ذلك خیالا و تحسّ بالملل و الكآبة فی هذه الأیام التی تمرّ الساعات علیها بسرعة و لهذا ترید أن ترتبط بالماضی و ألا تنفصل عنه. وما زالت تردّد شكواها الدائمه من زوال الحیاة و انقضائها و لیس من المحتمل أن تتوقف هذه الشكوى ولا ینبغی لها كذلك أن تتوقف و تفارق الماضی و الحاضر و اتّجاهها حاسم للمستقبل و ظلّت تحلم بالمستقبل و تصوّره فی الیوتوبیا عندما تحسّ بضیاع الماضی و عبثیّة الحیاة و تحیرّها:

و مَرّتْ حَیاتی مرّتْ سُدى ً و لا شَیء یُطْفئ نارَ الحَنین

سُدى ً قدْعَبرْتُ صَحاری الوُجود سُدى ً قد جَررْتُ قیودَ السنین

یَطول ُ على قَلبی الاْنتظار و أغْرقُ فی بَحْرِ یأسٍ حَزین

أحاوِلُ أنْ أتعَزّى بشیء ٍ بغابٍ ، بوادٍ ، بظَلّة تین

دقائقَ ثُمّ أخیْبُ و أهْتِف لا شیءَ یُشْبِه یوتوبیا

( دیوان .ج.2 .ص.5٤ ).

أسدى الأمر :أهمله .ذهب كلامه سدى :باطلاً . تعّزى : تسلّى و تصبّر

خاب یخیبُ : لم یظفر بطلب، انقطع أمله

عندما تفشل فی محاولتها للبحث عن معنى للوجود الإنسانی و تؤمن بعبثیة الحیاة و مضت الحیاة باطلة وسدى و الزمان كلّه قیود تثقل علیها والهموم و الأحزان كأمواج البحر یغرقها فتنتظر دائما لتتخلّص من الكآبة الموجودة داخل نفسها و فی حیاتها - كانت الشاعرة فی هذا الأوان متشائمة أشدّ التشاؤم - وهذا كلّه ممّا یجعلها إلى الهروب، الهروب إلى الطبیعة لتتعزّى فیها بشیء، بغابة، بوادٍ، أو بظلّة تین لتستریح لدقائق.؛ فتصل إلى هذه النتیجة أنّ عالم الیوتوبیا، عالم الخیال شیء لا مثیل له. و ‌ظلت تحلم بحالة مقبلة تبدو علیها الأشیاء فی صورة أكمل و أحیانا تبنى عالمها هذا بعیدا عن الناس حیث لا یسكن فیه أحد و خالٍ عن الإنسان و تبناه فی:

    فَوقَ البِساط ِالسّفْح بینَ التّلالْ
    فی المُنْحنى حیثُ تَموجُ الظّلالْ
    تَحتَ امْتداد ِالغُصونْ
    تفجّری بالجَمالْ
    وَشَیّدیْ یوتوبیا فی الجبالْ
    یوتوبیا منْ شَجَراتِ القِممْ
    ومنْ خَریْرِ المیاهْ
    یوتوبیا من َنَغمْ
    (دیوان ج.2.ص.155).

شیَّدَ البناء : رَفعَه . القِمَم ج القمّة أعلى كلّ شیء . النَّغَم : التطریب فی الغناء و حسن الصوت .

ترید الشاعرة أن تصنع عالمها فی التلال فوق سفح الجبال ، بین الظّلال الموجودة تحت أغصان الأشجار الشاهقة و من الأنغام و الصوت الحسن الذی فی خریر المیاه.

و من میزات عالمها المثالی كما تصفه الشاعرة لنا هی:

وشَیّدیْ یُوتُوبِیا منْ قُلوبْ منْ كلّ قلبٍ لمْ تَطأه الحقودْ

ولمْ تُدنّسْهُ أكُفُّ الرّكودْ منْ كلّ قلبٍ شاعریّ عَمیقْ

لم َیتمرّغْ بخطایا الوجود ْ ومنْ كلّ قلبٍ لا یُطیقُ الجُمودْ

( دیوان .ج.2.ص.157).

أكفّ ج الكفّ الید أو الراحة مع الإصبع . أطاق الشیءَ : قدر علیه .

وطىء یطأ وطأً الشیءَ برِجْله: داسَه

.وتعتقد أنّ الیوتوبیا لابدّ أن تشید فی باطن الإنسان و فی قلبه، القلب الذی لیس له أیّ حقد و ركود، من قلب شاعریّ لم یرتكب أیَّ خطأ وهو عمیق ولیس سطحیا و لم یقدر الجمود علیه حتى یكون نابضا بحرارة للعالم البشری. نعم؛ للانسان أن یهرب من الحقیقة و الواقع المرّ الذی یفرض علیه الألم و الأسر و یعتصم بالخیال حیث یلاقی هناك عالم النقاء والطهر و العالم الذی یحبّه كما یرید؛ هذا شأن الرومنسی و من حیث تتّصل نازك إلى هذا المكتب، و فضلا عن ذلك من أجل انثویتها یتشدّد هذا الموضوع و تتّصل بعالم المثل حینما ترى قصور العقل الإنسانی عن إدراك كثیر من الألغاز و الأسرار الموجودة فی الحیاة و ماوراءها و فلسفة الكون أو عندما تجد نفسها فی محاصرة الأحزان تدفع بها إلى حالة من التأمل و المعاناة أو حین كل ما ترى فی المجتمع حولها یناقض الحیاة فتحسّ بخواء أعماقها العاطفیة و تحاول للبحث عن معنى للوجود الإنسانی و تؤمن بعبثیة الحیاة و أنّ الإنسان لعبة بین مخالب الأقدار و بید الفلك فی حیاة كلّها خیبة آمال و سقوط.

إذن لا غرو أن تبنى أمنیاتها و أحلامها فی عالم لایوجد مثل هذه القضایا و تبنى لنفسها العالم المثالی الذی تتخیّله و تحبّ أن تعیش فیه و تعتصم به؛ فتعشق الدجى و الظلام و ما هو إلّا الخیال الذی تلوذ به و تثور على الشمس التی هی رمز للحقیقة فی قصیدتها " ثورة على الشمس" و تهدیها إلى المتمرّدین:

یا شمسُ ، أما أنتِ ماذا؟ما الذی تَلْقاهُ فیك عَواطِفی و خَواطری؟

لا تَعْجبیْ أن كنْتُ عاشِقةَ الدّجَى یا ربّةَ الّلَّهبِ المُذیبِ الصّاهِر

یا منْ تُمزّقُ كُلّ َ حُلم ٍ مُشْرقٍ للْحالمینَ و كلّ طَیفٍ سَاحر

یا من ْ تُهدّم ُ ما تُشَیّده ُ الدّجَى و الصّمْت ُ فِی أعْماقِ قلْبِ الشّاعرِ

( دیوان .ج.1 ص.490).

اللَّهَب : حرّ النار ، لسان النار صَهر الشیءَ : أذابَه.

حلم : ما یراه النائم فی نومه ج.أحلام طیف : الخیال الطائف فی النوم.

بعد بناء عالمها المثالی ، غیر عالم الواقع الذی سئم العیش فیه ، تثور علیه؛ لأنّها تشاهد من حولها فی الحیا ة و فی المجتمع شرورا ومعاصی وآثاما فیكتئب قلبها و تهرب من الشمس التی هی رمز الحقیقة؛ لأنّها تبید حلمها المشرق و طیفها الساحر و تهدّم كلّ ما تشیّده الدّجى و الصمت فی أعماق قلب الشاعرة.

ومما لا بد أن یؤخذ بعین الاعتبار، أنِ الشاعرة كانت متشائمة شدیدة التشاؤم فی بدایة حیاتها الشعریة؛ لأنها كانت مفعمة باتجاهات الرومنسیة و غلب علیها التشاؤم المطلق و كانت تشعر بالضیق و الألم و لاترى غیر الأزمة و الشقاء فی الحیاة و أنّ الحیاة كلّها ألم و إبهام و تعقید؛ و لكن تدریجیاغیّرت نظرتها حول الموت و فلسفة الحیاة و بدأت تنظر إلى الحیاة بمنظار جدید فیه مسحة من التفاؤل لیكون بلسما لدائها و مرهما لشفائها و نرى هذا التغییر حتّی فی عنوان مطوّلتها من" مأساة الحیاة" إلى " أغنیة للإنسان " فی الواقع آراؤها المتشائمة قد زالت و حلّ محلّها الإیمان بالله و الاطمئنان إلى الحیاة و جوّ مأساة الحیاة تبدّد شیئا فشیئا؛ وقد عبرت عن تمسّكها بالحیاة فی هذه الحیاة الدنیا لأنّ حبّ الحیاة أمر لا ینفصل عن الحیاة نفسها و أنّ الإنسان یجد لذّة كبرى فی أن یحیاها مهما كان طبعها و صعدت من إحساسها بالیأس و العدم إلى قمّة الرجاء و الأمل و آمنت بأننا یجب أن نستسلم للقدر خاضعین و أنّ العالم یواصل سیرته حتى بدوننا و آمنت بأنّ الإنسان مهما یفكّر فی آلامه و آلام أبنائه و مواطنیه و المجهولات و الأسرار و الألغاز، فلكن یجب ألّا یعكس الیأس و القنوط و الألم فقط، بل یجب أن یكون للتفاؤل مكانه.

ومهما یتأمّل الإنسان فی هذه القضایا فلا بدّ ألّا ینصرف عن الحیاة لأنّه لم یجئ إلى الحیاة لیشقى و یصبّ الهموم على نفسه بل أتاها لیتنعّم بها و أن یكون مسلكها تجاه الحیاة و فلسفتها إیجابیّا و ینظر إلیها بمنظار التفاؤل و لتكن فلسفتها الابتسام دائما مادام حیّا و ینتهز فرصة الحیاة قبل أن تفلت من یده.

رسمت الشاعرة لنفسها هذا العالم الذی فرض على نفسها لتعیش فیه؛ لأن ّالعالم الواقع عالم ملیء بالأحزان و الآلام والحیاة فیه جافّة و باردة و لامعنى للعیش فیه و یجب استقبال الموت .و تنفر من كلّ شیء و تحسّ بالسآمة حتى فی التفكیر و البقاء. وإذا تطرّفنا الی أشعارها رأینا أنّ روح التشاؤم سرت فی نفسیتها، و فی نفسها نوع من الیأس و التشاؤم الذی قد تسرّب فی كلماتها و لغاتها .و قد آل بها المطاف أن تتضجّر من كل شیء موجود فی حیاة الواقع و تعیش فی الیوتوبیا.

المراجع والمصادر

1) احسان عباس ،فن الشعر، دار الثقافة، بیروت .1959 م.

2) احمد ملكی الطاهر، الشعر الحر، دار المعارف.

3) احمد ملكی الطاهر، فی الأدب المقارن، دار المعارف ،الطبعة الثانیة ،1992 م.

٤) سید حسینی رضا، مكتب های ادبی، انتشارات نگاه، چاپ یازدهم، 1376 ه.ش.

5) شفیعی كدكنی مخمد رضا، شعرای معاصر عرب، تهران، توس ،1359.ه.ش.

6) د.شوقی ضیف، فصول فی الشعر و نقده، دار المعارف بمصر.

7) العلمی الادریسی، رشید،.مقالة الیوتوبیا، بین الخیال المتعالی و تقدّم الإنسانیة

8) غنیمی هلال محمد، الرومانتیكیة، دار النهضة بمصر.

9) محمد فتوح احمد، الرمز و الرمزیة فی الشعر المعاصر.

10) مجلة الشعر، مجلة فصلیة مصریة العدد 1٤، ینایر 1986 م.

11) نازك الملائكة ،دیوان، دار العودة، بیروت، لبنان.

12) نازك الملائكة، قضایا الشعر المعاصر، دار العلم للملایین، الطبعة الثانیة، 1989 م.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 21:48|
أدب نسائی فی عالم عربی



أمیل الى الاعتقاد بأن مصطلح الأدب النسائى یفید عن معنى الاهتمام وإعادة الاعتبار الى نتاج المرأة العربیة الأدبی ولیس عن مفهوم ثنائی, أنثوی - ذكوری, یضع هذه النتاج فی علاقة اختلاف ضدّی - تناقضی, مع نتاج الرجل الأدبی.

والمصطلح, بهذا المعنى, یحیلنا على تاریخ للأدب العربی ساهمت فیه المرأة منذ عهود قدیمة, تعود الى ما قبل الفتح الإسلامی (مثل الشاعرة سلمى بنت مالك بن حذیفة), الا ان مساهمتها أُهملت بسبب من معاییر قیمیّة ربطت بین الفنون والآداب وثقافاتهما وبین نظام قبلی قوامه القوّة, أو سلطة على رأسها رجل ینزع الى التسلّط.

هكذا جرى تفضیل شعر الفخر والمدیح والهجاء (بصفته, ای الهجاء, الوجه الآخر للمدیح) على شعر الرثاء, ای تفضیل ما یعبّر عن القوة ویخدم السلطة على شعر "الضعف والضعفاء".

ولئن كانت المرأة معتبرة, فی نظام القیم الاجتماعی, من جنس الضعفاء, فقد أُهمل امرأة وفتاة بریشة ماتیس. شعرها وسقط ذكر الشاعرات اللواتی بلغ عددهن 242 شاعرة, من الخنساء الى ولادة بنت المستكفی.

كما أُهملت فنون النساء كالتهویدات التی تغنیها الامهات لأطفالهن, لأنها لیست من الفنون التی ترتبط بالسلطة, او تندرج فی مسرات البلاط.

اما الخنساء التی برزت دون نظیراتها من امثال لیلى الاخیلیة, ورابعة العدویة (المتصوفة), والفارعة بنت طریف, وعائشة بنت المهدی, والسیدة زبیدة بنت جعفر (زوجة الخلیفة هارون الرشید وأم ولده الأمین), ودنانیر, ومحبوبة… فإن شعرها الرثائی لأخیها صخر لم یقوّم الا بتخلیها عن الدمع والانتقال الى الفخر منشدة:

"وإن صخراً لوالینا وسیّدنا / كأنه علم فی رأسه نار".

ویمكن القول إن استعمال مصطلح "الأدب النسائی" یعود, فی العالم العربی, الى مرحلة النهضة التی أدرك فیها المتنورون أهمیة دور المرأة فی نهوض المجتمع, وهو ما استدعى تعلیمها وأفسح لها, من ثم, إمكان المشاركة فی النشاطات الاجتماعیة والثقافیة والانتاج الأدبی.

فی هذه المرحلة - مرحلة النهضة - عرفت اللغة العربیة مجموعة من المفردات تخص نشاطات المرأة وتشیر الى ما یبذل من اجلها, مثل:

- تعلیم النساء (سنة 1881 أسست السیدتان إملی سرسق ولبیبة جهشان اول معهد علم للفتیات) - الجمعیات النسائیة (لقد انشأت سیدات بیروت سنة 1880 جمعیة "زهرة الاحسان, وسنة 1914 جمعیة "یقظة الفتاة العربیة") - المجلات النسائیة (أصدرت هند نوفل مجلة "الفتاة" سنة 1892 فی الاسكندریة, ومدیحة الصابونی مجلة "المرأة" سنة 1893 فی حلب, ولبیبة هاشم مجلة "فتاة الشرق" سنة 1906, وعفیفة كرم مجلة "المرأة السوریة" سنة 1911 - الصالونات الأدبیة النسائیة (صالون مریانا مراش فی حلب, وصالون الأمیرة نازلی فاضل, وصالون می زیادة فی القاهرة)…

مثل هذه النشاطات وسمت بـ"النسائیة", وإن شارك فیها الرجل (فقد عمل الطهطاوی (1801-1873) على إقامة مدرسة لتعلیم البنات, وخصص قاسم أمین (1864-1980) كتابین هما: "تحریر المرأة" و"المرأة الجدیدة").

وعلیه فإن "النسائی" یشیر, وفی شكل اساس, الى حیز دال على حضور المرأة ونشاطها فی الحیاة الاجتماعیة والثقافیة والأدبیة.

وبالنظر فی خطاب المرأة الأدبی ففی إمكان القارئ, او الباحث, ان یلاحظ أنه لیس خطاباً نسویاً بمعنى الثنائیة الضدیة بین خطاب أنثوی وخطاب ذكوری. ولئن كان من ضدیة, فإن لها, وبحسب لسان العرب, معنى الخلافیة الندیة (فقد جاء فی "لسان العرب" واستناداً الى "ابن سیدة" فی إحالته على ثعلب: "ضد الشیء خلافه, وضده, ایضاً, مثله"… وجاء استناداً الى الأخفش: "الند الضد والشبه". أو, حسب ابن الاعرابی: "ند الشیء مثله وضده خلافه".

ویقال (والكلام لابن الأعرابی): "لقی القوم أضدادهم وأندادهم ای أقرانهم"), ای معنى الخطاب القرین. ما یعنی ان المرأة بهذا الخطاب الضدّی, او الخلافی, تعلن عن وجودها ككائن مبدع, شأن الرجل إذ یعلن, فی خطابه, عن وجوده ككائن مبدع.

ان خطاب المرأة, الموصوف بالنسائی, هو خطاب یؤكد حضورها الذاتی ویمیزه.

یضمر "النسائی" فی الخطاب الأدبی العربی معنى الدفاع عن الـأنا الأنثویة, بما هی ذات لها هویتها المجتمعیة والانسانیة. ومن موقع الندیة, یواجه "النسائی", لا الرجل بصفته الانسانیة, بل آخر هو, تاریخیاً, قامع ومتسلّط.

ففی روایة "أنا أحیا" (1956) للیلى بعلبكی (لبنانیة) تتمرد لینا, بطلة الروایة, على الرجل بصفته فی مواقع السلطة فی المجتمع (أب, ورئیس شركة, واستاذ جامعی, وحزبی) ویمارس, من هذه المواقع قمعه علیها. لینا, ومن خلفها المؤلفة الضمنیة, ضد هذا القمع ولیست ضد رجل تودّ, كما تقول, ان تشبك بذراعه ذراعها. وفی "حجر الضحك" (1990) لهدى بركات (لبنانیة) یحیل خلیل, بطل الروایة, عنف الحرب الاهلیة فی لبنان, على وعی ثقافی - اجتماعی, ولیس على تكوین فیزیولوجی - جینی. ذلك ان خلیل, وبأثر من هذا الوعی السائد, یرفض الجینات الانثویة فیه النازعة به الى الهدوء والسلام لینخرط فی ممارسة العنف الذكوری. لم تكتب المرأة ضد الرجل الانسان حین تناولت فی كتاباتها الابداعیة العلاقة بین الأنوثة والذكورة, بل كتبت ضد ایدیولوجیا السلطة الذكوریة, وضد وعی ذكوری سائد غیر مدرك, شأن سامح, بطل روایة "باب الساحة" (1990) لسحر خلیفة (فلسطینیة) بأن التحرر لا یتحقق لمجتمع یعاقب المرأة حیث یسامح الرجل. تكتب المرأة لتعبر عن سبل تستعید بها الانثى ثقتها بذاتها المفقودة, فتحكی لنا مدى, بطلة روایة "شجرة الحب غابة الاحزان" (2000) لأسیمة درویش (سعودیة من أصل سوری), عن غربتها فی وطنها الذی یتسید فیه الرجل, وعن استعادتها لذاتها فی بلاد الغربة التی وفّرت لها العلم والحب والحریة. یُفصح ما تكتبه المرأة عن قدراتها الابداعیة فی مواجهة ما لحق بها من ظلم على مدى تاریخ طویل: فتواجه عالیه ممدوح (روائیة عراقیة) ظلم الرجل بمنح النساء حیزاً واسعاً من عوالم روایاتها: ففی "الولع" (1995), كما فی "المحبوبات" (2003) تنسج الشخصیات النسائیة عالماً رحباً قوامه الالفة بینهن, وسمته التعالی على الألم, بحیث تبدو النساء مشفقات على الرجل, هازئات, بكبریاء, من ظلم یبدو فیه التاریخ اكثر ذكوریة من الرجل نفسه.

یسعى خطاب العلاقة الضدیة بین الانوثة والذكورة, فی ادب المرأة العربیة - ای خطاب الضدیة التی لها معنى القرین - الى تثمین الانوثة بإضاءة دلالاه المرتبطة بالهویة واللغة والحیاة.

هكذا, فلئن كان الشعر ینسب, غالباً, الى ضمیر الأنا, وبالتالی یمكننا اعتبار ما تكتبه المرأة من شعر هو, وفی شكل عام, تثمین لأنوثتها, فإننا, وبالنظر فی ما تكتبه سرداً, نعثر على أعمال تستهدف, دون غیرها, مثل هذا التثمین. ففی روایة "شجرة الفهود" (2002) لسمیحة خریس (أردنیة) تبدو الذات الانثویة (شخصیة فریدة الرامز اسمها الى فرادتها) هی الوریث لسلالة الفهود. فهی, فریدة, التی تحمل البذرة, وهی التی - بحسب منظور الروایة - تجسد الانتماء وتكفل دیمومة الهویة. وتنیط علویة صبح (لبنانیة) عودة المنطوق الحی الى السرد الروائی العربی بالانثى, مریم, بطلة روایتها التی تحمل اسمها "مریم الحكایا" (2002). كذلك تنیط بهذه الانثى نمطاً حكائیاً یتوالد شأن الكلان فی توالده على لسان ربّته التراثیة شهرزاد.

وفی "غرناطة" (1994), و"مریمة والرحیل" (1995) لرضوى عاشور (مصریة), تبرز الانثى بصفتها حافظة للغة العربیة ولتراثها الذی أحرق. قد یكون علی, ومن منطلق منهجی, ان افترض امكان اعتبار ما سبق وذكرته من أمثلة, أدباً نسائیاً, وذلك - وخلافاً لما ذهبت الیه - على اساس من هذه العلاقة نفسها بین الذكورة والانوثة, ومن هذا التثمین نفسه. لذا أجدنی معنیة بالاشارة الى بعض ما قدمته المرأة من اعمال أدبیة, بخاصة فی مرحلة الریادة, ومما هو لا ینبنی على اساس من هذه العلاقة, او من هذا التثمین, ومع هذا یوضع تحت یافطة "الأدب النسائی": فروایة "حسن العواقب" (1899) لزینب فواز (1846-1914), مثلاً, تنبنی على اساس من الصراع بین الامراء الاقطاعیین على السلطة, ولیس على اساس من علاقة بین الأنوثة والذكــورة.

كذلك تتركز الحكایة فی روایة "قلب الرجل" (1904) للبیبة هاشم (1882-1952) على ما جرّته احداث سنة 1860, او النكبة بحسب تعبیر الروایة, من ویلات على اللبنانیین, ذكوراً وإناثاً, وذلك على حد انتماءاتهم الطائفیة. ومع تقدم كتابة المرأة الروائیة تبرز روایة "الباب المفتوح" (1960) للطیفة الزیات (مصریة) كعلامة على علاقة وثیقة بین ما هو ذاتی, او أنا أنثوی, وما هو مجتمعی تحرری مشترك.

كما تبرز, فی ما بعد, روایة "ذاكرة الجسد" (1993) لأحلام مستغانمی (جزائریة) التی تتمارى فیها المرأة بالوطن, ویبرز العشق وثیق الصلة بالشهداء الذین یخلصون ویضحون من اجل أوطانهم, فی مقابل الذین یبیعون بالمال هذه الاوطان. كما تستوقفنا, فی هذا الصدد, روایات وقصص عدة منها: روایة "مراتیج" (1985) لعروسیة النالوتی (تونسیة) التی تقدّم صورة جیل یعیش قلق الاسئلة الصعبة. وروایة "الاقلاع عكس الزمن" (1980) لإمیلی نصرالله (لبنانیة) التی تحكی عن الحرب والغربة والتعلق بالجذور.

وروایة "لیل نهار" (1997) لسلوى بكر (مصریة), وروایة "بیروت 2002" (2003) لرینیه الحایك (لبنانیة). ومجموعة غادة السمان (سوریة) القصصیة, "رحیل المرافئ القدیمة" (1973), ومجموعة هادیا السعید (لبنانیة) القصصیة "رحیل" (1989). ففی هذه الاعمال السردیة یمتزج الخاص بالعام, ویتداخل الذاتی والاجتماعی على نحو فنی یدعو الى نسبتها الى الابداع اكثر مما یحمل على نسبتها الى أدب نسائی.

ویبدو الذهاب فی هذا الاتجاه - ای نسبة أدب المرأة العربیة الى الابداع - اكثر إلحاحاً مع انخراط انتاجها فی ما یمكن تسمیته: "مشروع الروایة العربیة". ففی اطار هذا المشروع مارست المرأة الروائیة التجریب, وتوسلت عناصر من التاریخ مضمِرة سؤالاً حول معنى الحقیقة وعلاقة المتخیل الروائی بالسرد التاریخی, كما تجاوزت القواعد التقلیدیة وداخلت بین الشهادة والوثیقة والرسالة منوعة فی السرد وأسالیبه, شأن رضوى عاشور (مصریة) فی روایتها "قطعة من أوروبا" (2003). وشأن نجوى بركات (لبنانیة) فی عودتها الى التراث فی روایتها "لغة السر" (2004) وطرح أسئلتها المضمرة على المقدّس فی رموزه اللغویة. وشأن رجاء عالم (سعودیة) فی روایتها "سیدی وحدانه" (1998) التی تستعید فیها فصاحة العرب وتحیی ثراء لغتهم.

لقد قدمت المرأة العربیة الكاتبة أنماطاً من البناء تحدثن بها السرد العربی على خلفیة منظور فكری یقول بالاختلاف على أساس التعدد والتنوع, ولیس على أساس من معاییر قیمیة تضم الانوثة ضد الذكورة او دونها. فقدمت می التلمسانی (مصریة) فی روایتها "دنیا زاد" (1997) بناء فنیاً یجاور بین صوتین سردیین (الأم والأب) یشتركان فی مشاعر الفقدان. وقدمت نجوى بركات فی روایتها "باص الأوادم" (1996) بناء تمیز بمونتاج سینمائی وبطابع حركی بصری, وبشخصیات تنوعت سلوكاتها على اساس انتماءاتها الاجتماعیة لا الذكوریة او الانثویة. وكما فی تحدیث السرد, ساهمت المرأة, بصفتها شاعرة, فی تحدیث القصیدة العربیة شأن نازك الملائكة التی كان لها, بقدر ما كان للشاعر بدر شاكر السیاب, فضل الریادة فی نقل القصیدة العربیة من شعریة الوزن والقافیة الى شعریة التفعیلة والایقاع.

وعندما نتكلم عن الشعریة - شعریة الشعر وشعریة السرد - ت Poژtique, فإننا نتكلم على أدب یتطور بتغیر قواعد تخصه ولا علاقة لها بذكورة او أنوثة.

ان الثورات الادبیة التحدیثیة التی كان یمارسها الخطاب الادبی العربی, كانت ثورات معنیة بعلاقة هذا الخطاب بالحیاة, وبرؤیة الكاتب / الكاتبة الذی یعیش فیه, كما كان یشترط كسر تقالید البنى الأدبیة وقواعدها, ویستدعی تجدید اللغة, وتفكیك تراكیبها البلاغیة الجامدة. وهو ما كان یمارسه المبدع / المبدعة, بغض النظر عن جنسه.

وبالنظر الى الاجناس الأدبیة, فقد یعلل البعض إقبال المرأة على النثر وسردیاته, او على النثر الشعری اكثر من إقبالها على القصیدة العمودیة, بالأنوثة: فالأنوثة, كما یقال, كلام شفوی یحكی, والذكورة عقل یفكر ویكتب.

ولكن بالعودة الى الواقع والتاریخ, ندرك أن قلة عدد الشاعرات, بخاصة فی مرحلة سیادة القصیدة العمودیة وكثرة الشعراء, یرجع الى حرمان المرأة من التعلیم, كما ان استمرار عدم اقبال المرأة على قول الشعر العمودی, او كتابته, حتى بعد ان ارتادت المدرسة, فی الأربعینات والخمسینات من القرن العشرین - فترة ازدهار الشعر وبروز الشعراء الرومنطیقیین - یجد سببه فی نظام تعلیمی لا یدرس عروض الشعر وبحوره وما یتعلق بقواعده الشعریة الجمالیة فی مدارس البنات, ولا یجد سببه فی أنوثة المرأة او فی طبیعتها الانثویة.

وعلیه, فإن وردة الیازجی (1838-1924), وزینب فواز, وعائشة تیمور (1840-1904), وفدوى طوقان (1917-2004), لسن, بصفتهن شاعرات, استثناء یثبت القاعدة التی تربط بین الانوثة والكلام, بل یشرن بأنسابهن المعروفة, الى نخب عائلیة, او الى بیوت علم, وفّرت لبناتها العلم فی خدورهن وأعانت مواهبهن الشعریة على النضج والظهور.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 21:47|
معالم شخصیة أبی العتاهیة فی الأندلس



مقدمة:
لا جدال أن دراسة الشعر الأندلسی لا تكون بمنأى عن دراسة تیاراته وشعرائه فی المشرق، إذ إن الشاعر فی البیئة الأندلسیة ظل مشدوداً إلى أجداده المشارقة، ینهل من روافد ثقافتهم العربیة الأصیلة، إلى جانب تأثره بالقرآن الكریم والأحادیث النبویة والحكم والأمثال والخطب والرسائل، كما تأثر بالفلسفة والتاریخ وغیرها من العلوم والفنون.

والحقیقة أن الشعر الأندلسی فی بدایاته الأولى قد تأثر بالشعر الجاهلی والإسلامی والأموی، بید أن هذا التأثیر قوی وتعمق عند اتصاله بالأعلام المجددین من طلیعة شعراء العصر العباسی الذین كانت لهم مكانة ومنزلة مرموقة فی المشرق، من أمثال: بشار بن برد وأبی نواس وأبی العتاهیة فی القرن الثانی الهجری وابن المعتز وأبی تمام والبحتری وأبی العلاء المعری، والمتنبی فی القرنین الثالث والرابع الهجریین.

وقد تفاوت تأثیر هؤلاء الشعراء فی الشعر الأندلسی، فمنهم من كان أثره واضحاً كل الوضوح، بحیث استأثر باهتمام الأندلسیین أكثر من غیره نظیر: أبی تمام والمتنبی وأبی العلاء، ومنهم من كان تأثیره محدوداً فی نفوس الأندلسیین.

ومن بین الشعراء المشارقة الذین كان لهم تأثیر بارز فی الشعر الأندلسی الشاعر أبو العتاهیة، الذی تبدت معالم شخصیته واضحة، بینة القسمات، واحتلت شخصیته مكانة مرموقة فی نفوس الأندلسیین، إذ تعددت مظاهر شخصیته وتنوعت مما بین معان وصور شعریة، وبناء قصیدة، وأسالیب، ولغة وموسیقى، فقد عُرف عن أبی العتاهیة أنه تغزل ومدح وهجا، ولكن فنه الذی عرف به، وقدره معاصروه من أجله هو فن الزهد، وفن صیاغة الحكم والأمثال، فقد فتح باباً واسعاً من أبواب الشعر العربی هو شعر الزهد، الذی اتخذ منه فناً غلب على فنون شعره كلها، انقطع إلیه، لا ینظم فی غیره، لفترة طویلة من فترات حیاته، ولم یكن هذا الغرض باباً واسعاً مستقلاً، حتى كان أبو العتاهیة شاعر الزهد.

ویعد الشاعر أبو العتاهیة إلى جانب الشاعرین: بشار بن برد وأبی نواس، من أبرز زعماء الاتجاه التجدیدی المحدث فی العصر العباسی، ذلك أن مذهبه الفنی قائم على التجدید فی الموضوع والمبنى الشعری معاً.

وأبو العتاهیة هو إسماعیل بن القاسم، ولد سنة 130 سنة هـ ونشأ قرب الكوفة، وسكن بغداد، كان فی بدء أمره یبیع الجِرَار، ثم برع فی نظم الشعر، وخالط أهل اللهو والمجون، اتصل بالخلفاء العباسیین بخاصة الرشید؛ وفی عهد هذا الخلیفة تحول من حیاة اللهو والمجون على حیاة الزهد فی الدنیا والتقشف، فطلب إلیه أن یعود، فأبى، فحبسه فی منزل مهیأ حتى عاد إلى الشعر، ولزم الرشید، وقد مدح بعد الرشید الأمین، فالمأمون، وتوفی سنة 211هـ (2: 4 /310).

ومن یتتبع سیرة الزاهد أبی العتاهیة، یجده أنه بعد أن تاب ورجع إلى طریق الله قطع صلته بحیاته اللاهیة العابثة، وأصبح یجاهد نفسه الأمارة بالسوء، ویدعو الى ترك الدنیا وتحقیرها، وهجر لذائذها وترفها تارة، ویحث على التقى والتفرغ إلى العبادة وطاعة الله، والتمسك بالصالح من الأعمال، وأداء الفرائض، ویذكر الموت وملاحقته للخلق، محاولاً إقناع النفس بأن الموت مصیر كل شی، ویظهر فی مواقف أخرى الندم ویبدی الضراعة ویطمع فی الغفران.
مظاهر اهتمام الأندلسیین بأبی العتاهیة:

یبدو أن أشعار أبی العتاهیة قد وصلت إلى الأندلس عن طرق ثلاثة:

أولها: طریق الوافدین الأندلس من علماء المشرق وأدبائه، الذین جلبوا عددا وافرا من كتب المشارقة فی الزهد والرقائق والمواعظ، وطبقات النساك وغیرها، حیث كانت تروى وتشرح وتحفظ، بل إن أشعار بعض الزهاد المشارقة وأخبارهم كانت تروی فی مجالسهم الخاصة. ومن هؤلاء إبراهیم بن سلیمان الشامی الذی دخل الأندلس فی أواخر أیام الحكم بن هشام، إذ یروی المقری: أنه أدرك بالمشرق كبار الشعراء المشارقة المحدثین، وأنه لقی ببغداد الشاعر أبی العتاهیة، واستمع إلیه، وروى عنه شعره، وأشاعه بین الأندلسیین(19: 2 / 748).

وثانیها: عن طریق أولئك الأندلسیین الذین رحلوا إلى المشرق؛ طلباً للعلم والأدب، ثم عادوا بما حصلوا علیه من ذلك، بما یتیح لهم أن یمتلكوا من كتب الأدب والدواوین الشعریة وكتب المنتخبات الأدبیة، مثل: كتاب الأغانی للأصفهانی، وعیون الأخبار لابن قتیبة، ویتیمة الدهر للثعالبی، دیوان أبی نواس، وابن المعتز، أبی العتاهیة، ومن هؤلاء وفدوا على المشرق وعادوا إلى الأندلس الشاعر عباس بن ناصح ویحیی الغزال وغیرهما.

وآخرها: الموسوعات الأدبیة والمختارات الشعریة للكتاب الأندلسیین التی أدت دوراً كبیراً فی نشر أشعار أبی العتاهیة فی ربوع الأندلس، وفی هذا المجال یمكن الإشارة إلى كتابین من كتب المختارات الأدبیة هما: العقد الفرید لابن عبد ربه فی " الزمردة فی المواعظ والزهد"، وبهجة المجالس لابن عبد البر، وهذان الكتابان یعدان موسوعة أدبیة حافلة بالنصوص المشرقیة والمغربیة القیمة شعراً ونثراً فی شتى الفنون والأغراض والمواقف، وقد أردا أن ینقلا إلى الأندلسیین ثقافة عامة عن المشرق تغنیهم عن الرجوع إلى كثیر من الكتب والمراجع والدواوین الشعریة وغیرها.

قد ورد فی هذین الكتابین شواهد عدیدة من أخبار أبى العتاهیة وأشعاره، فی مختلف الأغراض الشعریة من: مدح وزهد وهجاء وغزل، بید أن النصیب الأكبر كان لغرض الزهد، ولیس من شك فی أن هذا العمل كان من أهم العوامل التی زادت من اهتمام بالأندلسیین بشخصیة الشاعر أبى العتاهیة والاتجاه الشعری الذی كان یسیر فیه، والمذهب الفنی الذی یأخذ به.

ولعل من أبرز مظاهر اهتمام الأندلسیین بشخصیة شاعر الزهد المشرقی أبی العتاهیة فی الأندلس ما قام به العلماء الأندلسیون من انتقاء واختیار لأشعار أبى العتاهیة وجمع أخباره، وهو یعد عملاً ذا تأثیر واضح فی التعریف بشخصیة أبی العتاهیة، فقد قام الفقیه ابن عبد البر النمر القرطبی (ت 463 هـ) بجمع أشعار أبى العتاهیة فی دیوان مستقل سماه " الاهتبال بما فی شعر أبى العتاهیة من الحكم والأمثال" (3: 26)، أما أبو الحسن على بن أحمد بن العباسی، فقد انتقی من أشعار أبى العتاهیة وأخباره الشیء الكثیر؛ الأمر الذی دفعه إلى أن یضمنها فی كتاب له وسمه بـ"المختار من شعر أبى العتاهیة وأخباره"(17: 2/ 541).

وتشیر الروایات التی تناقلها أدباء الأندلس إلى أن أبا العتاهیة یعد من طلیعة الشعراء الذین اهتم الأندلسیون بهم، واستساغوا شعرهم وأحبوه، لاسیما شعره الزهدی الذی كان محط إعجابهم، وقد لجئوا إلى طریقته فی النظم، فقد شغفوا بشعره، وأخذوا یتدارسونه فی مجالسهم، وكان للأندلسیین غرام بحفظ أشعاره التی ذاعت على الألسنة، وتناقلها الناس لمقامها ومنزلتها، فعمدوا إلی الاقتباس منها، والاستشهاد بها فی مصنفاتهم الأندلس، وكان تأثیره فی بعضهم عظیماً، إذ لا یكاد القارئ یلم بشعر الزهد الاندلسی حتى یدرك أثر أبى العتاهیة واضحا فیه، ولا یخفى على أحد أن أشعار أبی العتاهیة الزهدیة كانت أحد الروافد الأساسیة التی أسهمت فی استقواء حركة الزهد فی الأندلس (1:40).

فابن بسام یذكر فی ذخیرته أن مذهب أبی العتاهیة الزهدی قد انتشر وذاع لدى بعض الأفراد الزهاد الأندلسیین، إلى الدرجة التی جعلت أحد الشعراء الأندلسیین یتشبّه به فی طریقته: كالشیخ أبی الحسن علی بن إسماعیل القرشی الأشبونی أحد الأدباء النبلاء والشعراء المحسنین، له أشعار فی التذكیر والتدبر فی معنى الحیاة، وأنه أنفد فی التلبس بذلك صدراً من عمره، ثم مال إلى النسك والتقشف ونظم فی تلك المعانی أشعاراً رائقة وضروباً فی رقعة من جنة له على بحیرة "شقبان" عرفت برابطة "الطیطل"، ولزم العبادة بها إلى أن توفی". ویقول ابن بسام فی ترجمته:" وكان یعرف عندنا بـ"الطَّیْطًل" ممن نظم الدر المفصل، لا سیما فی الزهد، فإن أهل أوانه كانوا یشبهونه بأبی العتاهیة فی زمانه"(14: 2 / 305).

ولا ریب فی أن الشاعر "الطَّیْطًل" كان یتمتع بمقدرة شعریة عالیة، وأن أشعاره على قدر من الذیوع والشهرة، وأنها كانت تتردد على ألسنة الأندلسیین، لذا لقبوه بشاعر الزهد فی المشرق أبی العتاهیة، ومن نظم الطیطل(15: 1/5 /195):

    یــا غافلا شأنـــه الرقــاد
    كأنما غیــــرك المـــراد
    والموت یـــرعاك كل حیــن
    فكیـــف لم یجفك المهـــاد
    ما حال سفر بغیـــــر زاد
    والأرض قفـــر ولا مــزاد
    وكانت "النملة" من المخلوقات التی اتخذها هذا الشیخ الزاهد آیة من آیات الله فی خلقه، فی تأمل خلقتها، وكدها فی رزقها، وهی مما یسلك فی هذا الفن الزهدی، ویستدل بها على قدرة الله تعالى وعظمتهن فی مثل قوله(15: 1 /5/196):
    وذات كشح أهیــف شختِ
    كأنما بولغ فی النـــحتِ
    زنجیــــة تحمل أقواتـها
    فی مثـل حـدی طرف الجفتِ
    كأنما آخـــــرها قطـرة
    صغیـرة من آخر قطرة الزفتِ
    وهو یرید من هذا الوصف الاستدلال على عظمة الخالق وبدیع صنعه فی الخلق، إذ یقول:
    تشهد أن اللـــه فی ملكه
    خالقها فی ذلك الســـمتِ
    سبحان من یعلم تسبیـحها
    ووزنها من زنة البــختِ
    فنسبتی منها لفرط الضـنى
    نسبتها منــــه بلا كّتِ
    كلا ولو حاولت من رقــة
    لحلت بین الثوب والتـختِ
    مظاهر تأثر الأندلسیین بشخصیة أبی العتاهیة ومذهبه الشعری:
    تعددت مظاهر تأثر الشعراء واختلفت باختلاف تجربة الشاعر ونفسیته والظروف التی وقع تحت تأثیرها ووفق ثقافته، وفی الإمكان توزیع هذا التأثر على مجالات ثلاثة هی: الثورة على الحكام الظلمة وانغماسهم فی الترف، والمعانی والأفكار، والسمات الفنیة، وسیتم تناولها على النحو الآتی:
    أولاً ـ الثورة على الحكام الظلمة وانغماسهم فی الترف.
    المتتبع حیاة الشاعر أبی العتاهیة یجده فی مرحلة من مراحل حیاته یتخذ من الشعر الزهدی سلاحاً یشهره فی وجه سادة عصره من الخلفاء والأمراء، مهاجماً ما فی حیاتهم من میل إلى الملذات والشهوات، والانصراف إلى الدنیا بما فیها من زخرف كاذب ومتاع زائل بدلاً من التعلق بالآخرة، والعمل الصالح، یقول موجهاً شعره إلى الخلیفة هارون الرشید، معبراً فیه عن نقمة حقیقیة على الملوك فی كل زمان ومكان(9: 38):
    إن كنــت تطمع فی الحیـــاة فهات
    كم من أب لك صـــار فی الأمـواتِ
    زرت القبـور قبـور أهل الملـك فی
    الدنیا وأهل الرتــــع فی الشهواتِ
    كانــوا ملوك مآكــــل ومشارب
    وملابس وروائــح عطـــــراتِ
    فإذا بأجســـاد عریــن مـن الكسا
    وبأوجــه فی التــرْب منــعفراتِ
    لم تبــق منــها الأرض غیر جماجم
    بیــض یلحن وأعظــم نخــراتِ

وفی الأندلس اتخذ الشعر من الزهد أداة للهجوم على سادة العصر من الحكام والأمراء، إذ اشتهر الأمیر الحكم بن هشام الملقب بالربضی بأنه كان طاغیاً مسرفاً منهمكاً فی لذاته ومباذله، حتى شاع أمره، وتعقبه الناس بألسنتهم، وفی أیامه أحدث الفقهاء إنشاد أشعار الزهد، والحض على قیام اللیل فی الصوامع، أعنی صوامع المساجد، وأمروا أن یخلطوا مع ذلك شیئاً من التعریض به، مثل أن یقولوا:"أیها المسرف المتمادی فی طغیانه، المصر على كبره، المتهاون بأمر ربه، أفق من سكرتك، وتنبه من غفلتلك… وما نحا هذا النحو، وكان أشد الناس علیه فی أمر هذه الفتنة الفقهاءُ، هم الذین یحرضون العامة ویشجعونها"(19: 30).

ومما یؤسف له أن الأشعار الزهدیة التی قیلت فی الهجوم على الحكم الربضی وانتقاد سلوكه المتصف بالظلم والفساد والانهماك فی الشهوات لم تصل إلینا، ویبدو أنها ضاعت من جملة ما ضاع من التراث العربی فی الأندلس، ولو أنها وصلت إلى أیدی الباحثین، لكان فی الإمكان رصد دور الزهاد من الفقهاء الذین ضمنوا أشعارهم الزهدیة معانی حث العامة من الأندلسیین على الثورة على أمثال هؤلاء الحكام الذین مالوا إلى حیاة العبث واللهو، وغرقوا فی الملذات والشهوات.
ثانیاً ـ المعانی والأفكار:

الدارس المتمعن للأشعار التی خلفها الشعراء الزهاد فی الأندلس، یدرك أن هناك تشابهاً كبیراً بینها وبین أشعار أبی العتاهیة الزهدیة، ذلك أن شخصیة أبی العتاهیة بأفكاره ونظراته فی الحیاة والموت تسری واضحة جلیة فی تلك الأشعار، وفی المجال یرى أحد الباحثین أن أثر أبی العتاهیة فی تقویة النزعة والاتجاه الشعری لا یمكن إنكاره، بید أن یذهب فی الوقت نفسه إلى القول بأنه من العسیر أن یحكم المرء بأن الأندلسیین قد استعاروا هذا الموضوع من أبی العتاهیة أو اقتبسوا تماماً فنه الشعری، ویعلل ذلك بأن "الزهد موضوع مشترك بین أناس ینظرون إلى الحیاة الدنیا من خلال نظرهم إلى الموت والحیاة الفانیة؛ ولأن الزهد نزعة لها أصولها الاجتماعیة، ولیست تجیء كلها اقتباساً"(5: 116، 117).

أول ما یلقى القارئ من الشعراء الأندلسیین الذین تأثروا فی سلوكهم وأفكارهم ومعانیهم بشعر أبی العتاهیة هو الشاعر یحیى الغزال، فالمتتبع حیاة هذا الشاعر، یجد أن ثمة تشابهاً كبیراً فی المسلك الحیاتی بینه وبین أبی العتاهیة، فقد انغمس الحكم الغزال فی مطلع شبابه فی حیاة اللهو والمجون، ثم صحا من غفلته وتزهد فی أخرة من عمره، وقد أشار إلى هذه الحقیقة ابن دحیة فی قوله:"وقد ترك شرب الخمر، وتزهد فی الشعر وشارف الستین، وركب النهج المبین"(18: 147، 148).

ومن یراجع المقطعات الشعریة التی قالها الحكم الغزال فی الزهد یجد أنه قد تأثر فی كثیر منها بروح أبی العتاهیة ومعانیه وأفكاره، فهو فی إحدى مقطعاته الزهدیة یذكر القارئ بأبی العتاهیة، حین یذكر الموت وفناء الحیاة، یقول (7: 315):

    ومن إنعام خالقنا علیــنا
    بأن ذنوبــنا لیست تفوحْ
    فلو فاحت لأصبحنا هروباً
    فرادى بالفلا ما نستـریحْ
    وضاق بكل منتحل صلاحاً
    لنتن ذنوبه البــلد الفسیحْ
    فهو فی هذه الأبیات ینسج على منوال أبی العتاهیة فی القصیدة التی بها قوله (9: 59،60):
    خانك الطرف الطموح
    أیها القلب الجمــوح
    أحسنَ اللـهُ بنـــا
    إن الخطایــا لا تفوحْ
    فإذا المستور منـــا
    تحت ثوبیه فضــوح
    ویعثر القارئ فی شعر الغزال الزهدی على نقدات اجتماعیة لما كان علیه سلوك الأفراد فی مجتمعه حیث تعد المصالح الفردیة هی المحرك الأساسی للأفراد، یقول فی بیتین من الشعر تتشح نظرته فیهما بالتشاؤم القاتم (5: 130):
    ما أرى هاهنا من النــاس إلا
    ثعلباً یطلب الدجـاج وذیــبا
    أو شبیــهاً بالقط ألقى بعینیـ
    ـه إلى فأرة یریـد الوثـوبا
    أما الشاعر الزبیدی، فقد تأثر بمعانی أبی العتاهیة ونظرته الزهدیة فی قوله(21:1 /410):
    لقد فاز الموفق للصــواب
    وعاتب نفسه قبل العتــاب
    ومن شغل الفؤاد بحب مولى
    یجازی بالجزیل من الثواب
    فذاك ینـــال عزاً لا كعز
    من الدنیا یصیـر إلى ذهاب
    تفكر فی الممات فعن قریب
    یُنادى بالرحیل إلى الحساب
    وقدم ما ترجی النفع منــه
    لدار الخلد واعمل بالكتـاب
    ولا تغتر بالدنیـــا فعمَّا
    قریب سوف تؤذن بالخراب
    إذا سمعنا هذا الشعر وجدنا الموضوع والشكل قد اتفقا على النظر معاً إلی أبی العتاهیة فی مثل قوله(9: 23):
    لدوا للموت وابنـوا للخراب
    فكلكم یصیـــر إلى تباب
    لمن نبنی ونحن إلى تراب
    نصیر كما خلقنا من تراب

أما الشاعر ابن عبد ربه الذی عرف عنه أن كان یمیل إلى معارضة المشارقة، والسیر فی ركابهم، فقد اجتهد ما استطاع فی الأخذ من أفكارهم ومعانیهم، مضیفاً علیها، وكان فی ذلك یختار فی كل موضوع من موضوعات شعره إماماً من المشارقة، وفی مجال الزهد اختار إمامه أبا العتاهیة(16:3 / 124).

لقد نظم ابن عبد ربه قصائد زهدیة دارت حول معانی الزهد والتوبة سمیت" بالممحصات" التی نقض فیها ما قاله فی أیام الصبا والشباب بقصائد فی المواعظ والزهد، والتزم فیها الوزن والقافیة وحركة الروی ومن أمثلتها قوله (9:1 / 165، 166):

    یا عاجزاً لیس یعفو حین یقتدرُ
    ولا یقضی له من عیشه وطرُ
    فقد عارض فی البیت الأخیر قطعة قالها أیام الصبا واللهو تبدأ بقوله:
    هلاّ ابتكرت لبین أنت مبتكر
    هیهات یأبى علیك الله والقدرُ

ومن المعروف أن الشاعر ابن عبد ربه فی نظمه "الممحصات" كأنما عدّ شعره فی شبابه ذنوباً وآثاماً، إنما كان محاكاة للشعراء العباسیین ـ لا سیما شاعر الزهد أبا العتاهیة ـ، لا اقترافاً حقیقیاً للآثام؛ لأنه لم یكن مهیئاً لذلك بحكم روحه المحافظة (6: 188).

وأما شاعریة الشاعر أبو إسحاق الإلبیری، فهی تقترب كثیراً من شاعریة زاهد المشرقی أبى العتاهیة، وذلك بأمرین: أحدهما: هو النفس الشعری الطویل، أی اللجوء إلى بناء القصائد فی صورة مطولات بدلاً مما هو شائع فی غرض الزهد أنه یجیء عادة فی شكل مقطعات، ولعل مرجع ذلك إلى الاقتدار الماهر على طرق المعنی ذاته بأسالیب وصور متنوعة ومتعددة، إذ لا یزال الشاعر یلح على وجوه متعددة للمعنى الواحد یدور بها فی سیاقات مختلفة ومتشابهة.

والآخر: الشعبیة اللفظیة واللغویة، إلى جانب شعبیة الفكرة فی قربها وبساطتها، بمعنى: اقتراب هذا الشعر لدى كلا الشاعرین من نفوس العامة، إذ كانا یعمدان إلى المعانی والأفكار المطروحة فی طرقات العامة، وینتشلانها، ویحیلانها إلى عمل شعری، یتمیز بسهولة اللفظ، وحلاوة الإیقاع؛ الأمر الذی أدى إلى تعلق العامة وولعها بها ولعلاً شدیداً؛ لما تتمتع به من تعبیر صادق عن معاناتها وأحاسیسها، وبذلك اكتسبت أشعارهما طابع الشعبیة.

ومن الأمثلة التی تنم على تأثر الشاعر أبى إسحاق الإلبیری بأشعار أبی العتاهیة یذكر الباحث ـ مثلاً ـ اتفاق الإلبیری مع أبی العتاهیة بمطلع قصیدته التی یقول فیها(8: 111):

    كل امرئ فیما یدیــن یدان
    سبحان من لم یخل فیه مكان
    فهی مطلع قصیدة لأبی العتاهیة یقول فیها(9: 219):
    كل امرئ فكما تــدین یدان
    سبحان من لم یخل فیه مكان
    إضافة لتضمنیه هذه القصیدة بیتین آخرین من قصیدة أبی العتاهیة(8: 220):
    أأسر فی الدنیا بكل زیـادة
    وزیادتی فیها هی النقصان
    یا عامر الدنیا لیسكنها وما
    هی بالتی یبقی بها سكان

ویوازن أحد الباحثین بین أبی العتاهیة زاهد المشرق وزمیله أبى إسحاق الإلبیری زاهد الأندلس ویرى أن الخیر ربما فاق زمیله فی معانیه وجوهر رؤیته الزهدیة، من حیث اتصالها الوثیق بالتراث الإسلامی، فأبو العتاهیة یتخذ من الموت موقفاً ساخطاً متشائماً، ویبدى خوفاً شدیداً ورهبة بالغة من الموت والقبر، إذ یشعر بأن شبح الموت یطارده فی كل حین، أما الإلبیری فزاهد قد آمن بالموت، وأقبل علیه، وعلم أن الموت حق، وأن الدنیا معبر للآخرة(4: 508)

ویحس القارئ بأصداء أشعار أبی العتاهیة ومذهبه الزهدی ودعوته إلى القناعة بما قسم الله من الرزق، والاكتفاء بالقلیل والرضا به فی المسكن والمأكل والمشرب والملبس، تتردد فی شعر الزاهد ابن قسوم، یقول أبو العتاهیة فی مقطعة له صاغها بأسلوب بسیط عبر فیها تعبیراً واقعیاً(15:):

    سلیخة وحصیـــر
    لبیت مثلی كثیـــر
    وفیــه شكر لربی
    خبز وماء نمیـــر
    وفوق جسـمی ثوب
    من الهواء ستیــر
    إن قلت: إنـی مقل
    إنــی إذاً كفــور
    قررت عیـناً بعیش
    فدون حالی الأمیـر
    وهذه الأبیات تذكرنا بأبیات أبی العتاهیة التی تتجلى فیها نظرته إلى القناعة والتعفف والاكتفاء بالقلیل من متاع الدنیا الزائل(9: 206):
    رغیف خبــز یابس
    تأكله فی زاویـــهْ
    وكــوز ماء بـارد
    تشربه من صافیــهْ
    وغرفــة ضیــقة
    نفسك فیها خالیــهْ
    أو مسجد بمـــعزل
    عن الورى فی ناحـیه
    خیـرٌ من الساعات فی
    فیء القصور العالیـهْ

ومن یقرأ دیوان الشاعر ابن حمدیس قراءة متمعنة، یكتشف أنه كان شاعراً شاكیاً؛لأن المحنة التی حلت بوطنه الأول"صقلیة" جعلته دائم الأسى والحزن، فأخذ یشكو الزمان، ولؤم الناس، ویتبرم بالحیاة، وبما ناله من غدر الزمان، تصرف الحدثان، وقد سار فی ذلك على طریقة أبی العتاهیة، یقول فی البكاء على الشیب الذى غزاه فی وقت مبكر من العمر (11: 40):

    وعظت بلمتك الشائبـــه
    وفقد شبیبتك الذاهبــــه
    وسبعین عاماً ترى شمسها
    بعینیك طالعة غاربــــه
    فیا حاضراً أبداً ذنبــــه
    وتوبته أبداً غائبـــــه
    أذب منك قلباً تجاری بــه
    سوابق عبرتك الساكبــه
    من یقرأ مثل هذه الأبیات یحس بأنه یردد ما شاع فی أشعار أبی العتاهیة من شكوى الزمان ومزج ذلك بالتطلع إلى التوبة، یقول(:9 23):
    بكیت على الشباب بدمع عیـنی
    فلم یغن البكاء ولا النحیــــبُ
    فیا أسفا أسفت على شبـــاب
    نعاه الشیب والرأس الخضیــب
    عریت من الشباب وكنـت غصناً
    كما یعرى من الورق القضیــب
    فیا لیت الشباب یعــــود یوماً
    فأخبــره بما فعل المشیـــب

ولم یقف تأثر الشعر الأندلسیین بشعر أبی العتاهیة وطریقته الفنیة عند غرض الزهد، وإنما تعداها إلى غیرها من الأغراض مثل غرض المدیح، فالشاعر طاهر بن محمد المعروف "بالمهند" الذی تزهد فی آخر عمره وأنشأ شعراً ورسائل فی معانی الزهد، یقول مادحاً الخلیفة الأندلسی الحكم المستنصر فی یوم عید الفطر سنة 363 هـ بقصیدة یقول فیها(7 / 229):

    تولى الخلافة فی عصـرها
    فأحسن تقواه إكمالهـــا
    وكانت دیانته زینــــها
    وأیامه الزهر أشكالهـــا
    فلو رفعت خطة فوقهـــا
    لما كان یصلح إلا لهـــا
    وما صفة حسنت فی الهدى
    من الذكر إلا وقد نالهـــا
    فهنأه اللــــــه أعیاده
    وبلغه اللـــــه أمثالها
    یلمح القارئ هذه الأبیات معارضة الشاعر المهند لأبی العتاهیة فی قصیدة بارك فیها للخلیفة العباسی المهدی بالخلافة، إذ یقول(2: 4 /33):
    أتتـه الخلافة منــقادة
    إلیه تجرر أذیـــالهـا
    فلم تكُ تصلح إلا لــه
    ولم یكُ یصلح إلا لهــا
    ولو رامها أحد غیــره
    لزلزلت الأرض زلزالــــها
    ولو لم تعطه نیات القلوب
    لما قبل الله أعمالـــها
    وإن الخلیـفة من قول لا
    إلیه لیــبغض من قالها

ثالثاً ـ السمات الفنیة:

المتتبع لأشعار أبی العتاهیة، یجد أن لغته تمتاز بسمات فنیة طبعته بطوابع خاصة منها جنوحه للبساطة والوضوح، إذ مال أبو العتاهیة إلى السهولة فی الألفاظ واستعمالها، والبساطة فی العبارة وصیاغتها وبنائها، حتى تقترب لغته من لغة الناس الیومیة.

ولا یخفى على القارئ المتمعن تأثر شعراء الزهد فی الأندلس بهذه السمة الفنیة فمالت بعض زهدیاتهم إلى البساطة والسهولة، یقول ابن خفاجة معبراً عن ازدراء الدنیا، والإقبال على الآخرة:(12: 213، 214)

    ألا قصر كل بقــاء ذهــاب
    وعمران كل حیـــاة خـراب
    وكل مدیـن بما كـــان دان
    فثم الجزاء، وثم الحســاب
    وخطة غیر إحـدى اثنیـــن
    إما نعیم، وإمـا عــــذاب
    فرحماك ! یا من علیه الحسـاب
    وزلفاك! یا من إلیـه المـآب

أول ما یطالع القارئ فى هذه الأبیات سهولة اللغة، وبساطة التراكیب، فهی قریبة من لغة الناس العادیة التی تجرى على ألسنتهم فى الحیاة الیومیة، وقد استخدم الشاعر للوصول إلى هذه البساطة وسائل متنوعة منها: انتقاء الألفاظ العذبة، والإیقاع النغمی المتدفق، والمحسنات البدیعیة من تكرار، وطباق، وإطناب، وحسن تقسیم، بالإضافة إلى المراوحة بین الأسالیب الخبریة والإنشائیة، بخاصة أسلوب المناجاة والتضرع القادر على التأثیر فى النفس، وإیصال المعنى مباشرة إلى العقل والقلب.

ومن الأمثلة على هذه البساطة والسهولة تضرع ابن الزقاق ومناجاته خالقه: (13:274):

    یاعالم السر منى
    اصفح بفضلك عنی
    منیّت نفسی بعفو
    مولاى منك ومنـى
    وكــان ظنى جمیلا
    فكن إذا عند ظنـی

اتصفت هذه المقطوعة بسهولة فی العبارة، وسلاسة فی الأسلوب مع لغة مألوفة بعیدة عن الغرابة والتعقید، ومما أسهم فی هذه البساطة أن المعنى الذی عبر عنه الشاعر معنى شائع لا تعقید فیه, إلى جانب خفة الإیقاع ورشاقته، والتنغیم الداخلی المتدفق من تكرار أصوات المیم والنون واللام وتآلفها مع بقیة الأصوات الذی یلائم النفحات الروحیة المنسابة فی رقة وعذوبة، تمدها عاطفة صادقة فیاضة.

وهذا الأسلوب الذی طبع بطابع الأسلوب الوعظی فی بساطته ووضوحه، وما یتضمنه من أدعیة وابتهالات قریب فی مضمونه ومبناه الشعری من أسلوب أبی العتاهیة فی مثل قوله(9: 223):

    إلـهی لا تعذبــنی فإنــی
    مقر بالذی قــد كان منـی
    مالی حیــلة إلا رجائـی
    لعفوك ان عفت وحسن ظنی

ومن الصور الفنیة التی تأثر فیها شعراء الأندلس بصور الشاعر أبی العتاهیة الفنیة، واستعاروها للتعبیر عن تجاربهم الذاتیة ورؤیتهم للحیاة صورة الدنیا التی تشبه البحر، یقول ابن أبى زمنین محذرا من الدنیا، وحاثاً على القناعة، فهى وسیلة العاقل للنجاة(21:2 / 71):

    أیها المرء إن دنیــــاك بحر
    طافح موجه فلا تأمننـــها
    وسبیل النجاة فیه مهیــــن
    وهو أخذ الكفاف والقوت منها
     
    أما الشاعر الأعمى التطیلى، فیقول(10: 27):
    
    عزاءكم إنما الدنیا وزینتها
    بحر طفونا على آذیه زبدا
    
    ویقول الشاعر عبد المنعم بن عمر الغسانی فى المعنى ذاته:(20: 2 / 614):
    
    ألا إنما الدنیا بحار تلاطمــت
    فما أكثر الغرقى على الجنـبات !
    وأكثر من لاقیـــت یغرق إلفه
    وقل فتى ینجی من الغمــرات
    
    فالدنیا عند الشعراء الأندلسیین بحر لجی متلاطم، وأهلها ما بین غریق وناج، وهذه الصورة قریبة الشبه بصورة الدنیا عند شاعر الزهد أبى العتاهیة إذ یقول(9:147):
    
    كل أهل الدنیا تعوم على الغفـ
    ـلة منها فی غمر بحر عمیق
    یتبارون فی السباح فهم من
    بین ناج منهم وبین غریـق

والمتأمل فى صور الأندلسیین وصورة أبى العتاهیة، یلمس تشابهاً بین عناصرها وجزئیاتها، ومع ذلك فإنه یشعر باختلاف بین شاعر وآخر فى طریقة التعبیر عن هذه الصورة، إذ أكسب الشاعر الأندلسی صورته طابعاً ذاتیاً جعلها تنتمی إلى بیئته، كما أضفى علیها شیئا من الطرافة، فبدت كأنها أندلسیة الطابع، فالصورة الأندلسیة عمدت إلى تصویر الظروف المظلمة، والأهوال المضطربة التی ألمت بالأندلس، وأفضت إلى غرق المدن الأندلسیة فى بحر حركة الاسترداد المسیحیة المحتدمة، وربما كان تخاذل المسلمین وتفریطهم سبباً فى هذا الغرق، حیث قل من یحاول أن ینقذ الأندلس من السقوط فی حجر حملة الصلیب.

وإذا كانت صورة الدنیا التی تشبه البحر قد تسربت إلى تجربة الشاعر الأندلسی من الشعر المشرقی، فلا غرابة فی ذلك؛ لأن لدى الشاعر الأندلسی رصیداً مختزناً من الصور والتجارب والثقافات استمدها من دراسته أدب المشارقة، وعنایته بمطالعته وحفظه.

وصفوة القول، إن التشابه بین شعراء الأندلس وبین الشاعر المشرقی أبی العتاهیة هو فی حد ذاته شیء طبیعی؛ لتوحد المنابع الثقافیة والروافد الفكریة للأدبین، ولتماثل الدوافع التی أسهمت فی بعث أدب الزهد بعامه، بید أن هذا التشابه لا یقلل بأی حال من أصالة الشعراء الأندلسیین، ذلك أن الشعر الأندلسی یعد ثمرة طبیعیة لظروف المجتمع الاندلسی المتنوعة عن قرینتها المشرقیة بحكم اختلاف العناصر المكونة للمجتمع، وبحكم البیئة بعناصرها المختلفة، وأن هذا التشابه لم یكن مبعثه كله التقلید والمحاكاة، وإنما إعجاب الأندلسیین بالنتاج المشرقی، ورغبتهم فی إثبات مقدرتهم الفنیة وتفوقهم.

 [1]
حواشی

[1]

    (1) أدب الزهد فی عصر المرابطیــن والموحدین بالأندلس، عبد الرحیم حمدان حمدان، رسالة دكتوراه،(غیر منشورة)، جامعة عین شمس، القاهرة، 1998.
    (2) الأغانی، أبو فرج الأصفهانی، تحقیق إبراهیم الإبیاری، دار الشعب، القاهرة، 1969 م.
    (3) بهجة المجالس وأنس المجالس وشحذ الذاهن والهاجس،ابن عبد البر النمری: تحقیق محمد مرسی الخولی، دار الكاتب العربی للطباعة والنشر، القاهرة.
    (4)البیئة الأندلسیة وأثرها فی الشعر عصر ملوك الطوائف، سعد إسماعیل شلبی، النهضة المصریة، القاهرة، 1979.
    (5) تاریخ الأدب الأندلسی، عصر سیادة قرطبة، إحسان عباس، دار الثقافة، بیروت، ط2، 1971.
    (6) تاریخ الأدب الأندلسی، -عصر الدول والأمارات (الأندلس)، شوقی ضیف، دار المعارف، مصر، 1989 م.
    (7) جذوة المقتبس، الحمیدی، تحقیق الإبیاری، دار الكتاب المصری، ط2، القاهرة 1989.
    (8) دیوان أبی إسحاق الإلبیری، تحقیق محمد رضوان الدایة، مؤسسة الرسالة، بیروت 1976
    (9) دیوان أبی العتاهیة، جمع وتحقیق كرم البستانی، دار صادر، بیروت 1964 م
    (10) دیوان الأعمى التطیلی، تحقیق إحسان عباس، دار الثقافة، بیروت 1963 م.
    (11) دیوان ابن حمدیس، تحقیـق د. إحسان عباس، دار صادر، بیروت 1960 م.
    (12) دیوان ابن خفاجة، تحقیق السید غازی، منشأة المعارف، الإسكندریة 1960م.
    (13) دیوان ابن الزقاق، تحقیق عفیفة دیرانی، دار صادر، بیروت 1983
    (14)الذخیرة فی محاسن أهل الجزیرة، ابن بسام، تحقیق إحسان عباس، الدار العربیة للكتاب (لیبیا -تونس) 1978
    (15) الذیل والتكملة لكتابی الموصول والصلة، عبد الملك المراكشی تحقیق محمد بن شریفة ج 2,1، ج 3 - 6 تحقیق إحسان عباس، دار الثقافة، بیروت من سنة 1964: 1975م.
    (16)ظهر الإسلام: أحمد أمین، دار الكتاب اللبنانی ط 5، 1980 م.
    (17) فهرسة ابن خیر، تحقیق إبراهیم الإبیاری، دار الكتاب المصری ط2, 1989 م.
    (18)المطرب فی أشعار أهل المغرب، ابن دحیة: تحقیق الإبیاری وعابدین، القاهرة 1945 م.
    (19)المعجب فی تلخیص أخبار المغرب، المراكشی. تحقیق محمد زینهم عزب، دار الفرجانی، القاهرة، 1994 م.
    (20) نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب المقری، تحقیق إحسان عباس، دار صادر، بیروت، 1988.
    (21)یتیمة الدهر، الثعالبی، تحقیق مفید محمد قمیحة، دار الكتب العلمیة، بیروت ط1، 1983.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 21:46|
الرمزیة المیثولوجیة فی شعر محمود درویش

فی هذه المدینة اللزجة صیفاً حین تنعطف الى الیمین من الشارع التاسع والخمسین باتجاه المركز الطبی فی هیوستن ینتابك حزن عمیق، فقبل عام من الآن فی التاسع من آب عام 2008 توفی الشاعر محمود درویش فی غرفة العنایة المركزة فی مستشفى میموریال هیرمان الشاخص الآن أمام عینیك، وهناك على یسارك یسترخی متنزه هیرمان الذی تمشى فیه الشاعر قبل رحیله بأیام. إنها غیمة الحزن الدائمة هذه التی تظلنا نحن سكان هیوستن كلما مررنا بمنطقة المركز الطبی، وكأنه جرح سیبقى فی ذاكرة المدینة وذاكرة سكانها العرب الى الأبد، فهنا مات شاعرنا. كم كنا نتمنى أن یغادرنا سلیماً معافى، ولكن العنایة الإلهیة شاءت أن تنتهی حیاته بین أیدینا وفی یوم سبت، وكأنه كما الماء انساب من بین أصابعنا ولم ننتبه. لم نكن سبباً فی وفاته، ولكننا ما زلنا، وربما سنبقى، نحمّل أنفسنا ذنباً لم نقترفه.
من مآثر محمود الكثیرة أنه یحاصرنی فی شوارع المدن، فقبل ربع قرن أذكر أننی قابلته فجأة فی أحد شوارع موسكو فی منطقة مسارح وسط المدینة، حیث كان أحد المسارح یعلن عن تقدیم مسرحیة المحاكمة المستوحاة من روایة المحاكمة لكافكا. وعندما قرأت اسم كافكا داهمنی محمود فوراً، فقد كان السبب فی بحثی عن أدب كافكا حین ذكره فی قصیدة بیروت (1982):
(ووجدتُ كافكا تحت جلدی نائماً/ وملائماً لعباءة الكابوس، والبولیس فینا)
كان یستفزنی ویتحدانی فی قصائده للبحث عن تلك الشیفرة الثقافیة التی یستودعها فی نصوصه، مثل شیفرة كافكا: ماذا أراد أن یقول؟ ما هو المعنى فی هذا البیت؟ ما علاقة كافكا؟ بل من هو كافكا هذا؟ كنت أسأل نفسی قبل ثلاث سنوات من مداهمته لی فی شارع مسرح الاوبیریت، الأمر الذی دفعنی الى قراءة فرانز كافكا (1883 – 1924) حتى لو كان ذلك باللغة الروسیة.
وهكذا على طول رحلتی مع شعر محمود كان یتحدى ثقافتی ومعرفتی، ویجبرنی على البحث والتقصی عن الرمزیات الثقافیة التی كان یُكثّف بها معانی نصوصه، وأهمها بالنسبة لی كانت الرموز المیثولوجیة. وعلی أن أعترف الآن أمام حضور غیابه الشاهق أنه كان السبب فی شغفی المزمن بالمیثولوجیا والانثروبولوجیا والأركیولوجیا. لهذا ارتأیت أن أكتب عن رمزیة المیثولوجیا فی شعر محمود درویش بمناسبة مرور عام على رحیله، علنی أرد له بعضاً من الجمیل. ولكن قبل البدء أود أن أشیر الى بعض النقاط المهمة، الأولى هی أننی لست بصدد قراءة الرمزیة المیثولوجیة عند محمود قراءة سیاسیة كما فعل بعض النقاد فی دراسة الرمزیة التوراتیة عند محمود، لأن ما یهمنی من محمود هو الابداع الأدبی الشعری، وأنا لا أرى فی شعره بیاناً سیاسیاً وإن كان لقصائده امتداد سیاسی. والثانیة هی أننی سأستخدم مصطلح میثولوجیا كمصطلح شامل یشمل اساطیر الشعوب والقصص الفولكلوریة والدیانات. والثالثة أننی لست بصدد اعطاء نقد أدبی ینتمی الى هذه المدرسة الادبیة أو تلك، وانما بصدد عرض فهمی وانطباعی الشخصیین للرمزیة المیثولوجیة عند محمود، فأنا أصلاً لست متخصصاً فی الأدب وإنما فی أبعد ما یكون عن الأدب: المعادلات التفاضلیة والهندسة والمیاه والبیئة.
فی احدى المقابلات سُئل محمود عن كیفیة قراءته للتوراة فأجاب بأنه "لا ینظر الى التوراة نظرة دینیة وانما یقرأها كعمل أدبی ولیس دینیاً او تاریخیاً". وهنا یكون محمود قد وضع قدمه على المسار الصحیح فی التعامل مع الكتاب المقدس خصوصاً والأدیان والمیثولوجیا عموماً، حیث بامكاننا القول أنه ینتمی الى مدرسة المُقلّین التی ینتمی الیها أصحاب كوبنهاغن وعلى رأسهم استاذ الكتابیات توماس تومسون. وهذا المسار یجعل من محمود مثقفاً وأدیباً بامتیاز كون الأدب یبدأ من ملحمة جلجامش حیث بدأت الحضارة فی سومر، وما الأدب سوى اعادة انتاج المیثولوجیا باستمرار، إنه اعادة التألیف أو التولیف كما یقولون. ولهذا عندما یتحدث محمود فی شعره عن رمزیة میثولوجیة ما فهو لا یتحدث عنها لیتقرب من أصحابها ویتودد الیهم كما ذهب بعض النقاد، وإنما لأنه یُعید تولیف الحكایة بتكثیف المعنى المكتنز فی الرمزیة المیثولوجیة لما تتمتع به من قوة ساحرة وآسرة كونها جاءت من نتاج جمعی قامت به جماعة ما على مدى فترة زمنیة طویلة نسبیاً.
[*الرمزیة التوراتیة *]
إذا ما أردنا أن نتتبع الرمزیة المیثولوجیة عند محمود حسب التصاعد الزمنی لأعماله الشعریة نجد أنه وظفها فی بدایاته الأولى فی مجموعته الشعریة عاشق من فلسطین (1966) فی قصیدة أبی، حیث یقول:
"فی حوارٍ مع العذاب/ كان أیوبُ یشكرُ/ خالقَ الدودِ والسحاب"
حیث نلاحظ هنا أنه كان مطلعاً على الكتاب المقدس، فأیوب الذی یتحدث عنه محمود هو أیوب التوراتی بدلیل استخدامه لكلمة دود التی ترد فی سفر أیوب فی الاصحاح السابع، ولا عجب فی ذلك ففی تلك الفترة كان محمود یعیش فی داخل الأرض المحتلة وكان بحكم دراسته خاضعاً لمنهاج اسرائیل وبرامجها التی كانت تعلم الطلاب أسفار العهد القدیم باللغة العبریة، كما صرح محمود فی احدى مقابلاته. ولكن ما یهمنا هنا هو أن محمود یتعامل مع النص التوراتی فی سفر أیوب معاملة أدبیة، فهو یرى فیه نصاً أدبیاً یعالج ثیمة الصبر والابتلاء والخلاص بالإیمان، فیفكك الشاعر النص من التوراة ویعید تركیبه فی قصیدته بحكم تشابه المعاناة التی یعیشها الشاعر بالمعاناة التی عاشها أیوب (او ما یسمى أدبیاً بالتناص)، وكأنه یعید تولیف الحكایة، لأنه كان واعیاً بأن القصة التوراتیة نفسها لم تكن سوى اعادة تولیف من أدب سابق على العهد القدیم، فاستاذ السومریات، كرامر، قد قام بترجمة صلاة سومریة قدیمة تشبه قصة أیوب، هذه الصلاة السومریة تتحدث عن ما أصبح یُعرف بأیوب البابلی. ولكن لماذا اختار الشاعر توظیف رمزیة ایوب المیثولوجیة؟ الجواب فی نظری هو لما تتمتع به هذه الرمزیة من قوة ساحرة وآسرة، فهی من ناحیة معروفة للكبیر والصغیر بحكم اعادة تولیفها مسیحیاً واسلامیاً وفولكلوریاً، ومن ناحیة ثانیة فإن كثافتها الدلالیة وفرت على محمود الكثیر من الجهد لعرض معاناته، أو كما یقول نقاد الأدب جنّبته الحشو والضجیج اللغوی، فأوصل المعنى المراد بأقصر الطرق وأبلغ الدلالات. هذا بالإضافة الى حمل معاناته الشخصیة والوطنیة الى مستوى العالمیة والانسانیة كون رمزیة أیوب رمزیة عالمیة.
فی مجموعته العصافیر تموت فی الجلیل (1969) فی قصیدة ضباب على المرآة یستضیف محمود النبی إرمیا من التوراة فی عملیة تناص شائكة بعض الشیء تنم عن عمق معرفی بالعهد القدیم:
"لم أجد جسمكِ فی القاموس/ یا مَن تأخذین/ صیغة الأحزان من طروادة الأولى/ ولا تعترفین/ بأغانی إرمیا الثانی.."
فرغم وضوح التناص بین احتلال القدس الفلسطینیة وبین سقوط طروادة الاغریقیة إلا أن هویة إرمیا الثانی تبدو مربكة بعض الشیء، لولا أن الشاعر أسعفنا بإشارته الى الأحزان، وكأنه یتحدث عن مراثی إرمیا، وهی مراثی تبكی سقوط اورشلیم فی قبضة البابلیین عام 586 ق.م. تم جمعها فی نهایة سفر النبی ارمیا كونها لیست لإرمیا نفسه، ولهذا استخدم محمود اسم إرمیا الثانی، وهو تناص داخلی، إن صح التعبیر، مع اشعیا الثانی كما هو معروف لدى فقهاء الكتاب المقدس (بعكس مصطلح ارمیا الثانی الذی لا یستخدمه علماء الكتاب المقدس، بل نحته محمود على ما یبدو من عملیة تناص داخل التوراة نفسها). لقد استفاد الشاعر من رمزیة طروادة ومراثی إرمیا لیُغنی المعنى المراد من النص بكثافة التثاقف أولاً وببلاغة البیاض المتروك للقارئ العارف بقصة كل من حروب طروادة والسبی البابلی ثانیاً.
وبما أننا تطرقنا لذكر النبی أشعیا فلا بد لنا من استعراض توظیف رمزیته فی قصائد محمود، حیث یقول فی قصیدة بیروت (1983):
"أنادی أشعیا/ أخرجْ من الكتب القدیمة مثلما خرجوا/ أزقة أورشلیم تعلّق اللحم الفلسطینی فوق مطالع العهد القدیم/ وتدّعی أن الضحیة لم تغیر جلدها/ یا أشعیا لا ترثِ/ بل أهجُ المدینة كی أحبك مرتین"
ولا شك أن شغف محمود بإرمیا وأشعیا له ما یبرره، فهما من أنبیاء الحصر المحوری كما یقول فقهاء الكتاب المقدس، وقد أحدثا ثورة لاهوتیة فی الفكر الیهودی، وذلك بتطویر مفهوم الألوهة، فلم یعد الإله الاسرائیلی یهوة إلهاً قبلیاً عسكریاً (رب الجنود)، بل أصبح شبیهاً بالله الكونی المحب لجمیع البشر. فهل هذا ما قصده محمود بقوله "اخرج من الكتب القدیمة"؟. إن استضافة محمود لإرمیا وأشعیا تعنی فی ما تعنی رفضه للعسكرة والحروب المقدسة التی تشن باسم الدین والآلهة تماماً كما رفض إرمیا وأشعیا الحروب. وكما فی التناص السابق مع إرمیا یعقد الشاعر هنا تناصاً بین سقوط أورشلیم وبین حصار بیروت، ففی كلا الحالتین دفع الفلسطینی الثمن، لهذا یدعو محمود النبی إشعیا أن لا یرثی أورشلیم كما فعل فی سفره بل یدعوه الى أن یهجو أورشلیم الآثمة (حسب أشعیا) التی تسببت بإثمها بتعلیق اللحم الفلسطینی مرتین (حسب محمود)، مرة فی زمن أشعیا، ومرة فی حصار جیش الاحتلال "الأورشالیمی" لبیروت فی زمن محمود.
ثیمة الاحتلال والتهجیر والأسر (السبی) تأخذ من محمود الكثیر من العنایة فی قصائده، فهو یستحضر قصة السبی البابلی فی عملیة اسقاط على الحاضر، یقول الشاعر فی مجموعة أحبك أو لا أحبك (1972):
"ونغنی القدسَ/ یا أطفال بابلْ/ یا موالید السلاسل/ ستعودون الى القدس قریباً/ وقریباً تكبرون/ وقریباً تحصدون القمح من ذاكرة الماضی/ قریباً یصبح الدمع سنابل/ آه یا أطفال بابل"
فلم یقل الشاعر: ونغنی القدس یا أطفال القدس او فلسطین، بل قال یا أطفال بابل، وهی عملیة قفز فوق الزمن باستحضار الماضی حیث هُجّر أبناء یهودا الكنعانیة الى بابل، وكذا حال الفلسطینی المعاصر. وبما أن أبناء یهودا عادوا من السبی البابلی كذلك سیعود أبناء فلسطین لأنهم سیحصدون القمح من ذاكرة الماضی. والشاعر نفسه عانى من التهجیر والأسر (الاعتقال)، فكان توظیف رمزیة السبی الى بابل خیر تعبیر عن مأساة الشاعر وشعبه. ولا أظن أن محمود قد فاته أن الاسرائیلی المعاصر لا علاقة له بیولوجیاً بأبناء یهودا اللذین تم سبیهم الى بابل، فهو كان واعیاً تماماً لحقیقة أن تاریخ یهودا وثقافتها جزء من التاریخ الفلسطینی وثقافته، كما هو واضح من قوله فی قصیدة بیروت (1983):
"وأحملُ أرضَ كنعان التی اختلف الغزاة على مقابرها/ وما اختلف الرواةُ على الذی اختلف الغزاة علیه"
ففی هذا النص یبدو محمود واعیاً للثقافة الكنعانیة الشاملة وأن الرواة (التألیف والتولیف) لم یختلفوا على ثقافة أرض كنعان، بل الخلاف جاء من تسییس الروایات لصالح مشروع سیاسی استیطانی (الغزاة). وما یؤكد هذا الاستنتاج قول الشاعر فی مجموعة العصافیر تموت فی الجلیل (1969) فی قصیدة بعنوان المزمور الحادی والخمسون بعد المئة:
"والمزامیر صارت حجارة/ رمونی بها/ وأعادوا اغتیالی/ قرب بیارة البرتقال/ صار جلدی حذاء/ للأساطیر والأنبیاء"
فالشاعر یتعامل مع مزامیر داود على أنها مزامیره ومزامیر شعبه، بمعنى أنها من منتجات الثقافة الكنعانیة وإن تم نسبها توراتیاً الى النبی داود، فهذا النسب لیس إلا من أساطیر الأنبیاء، أو هو إعادة تولیف النص الأدبی الكنعانی القدیم، فمن المعروف من الاكتشافات الأثریة فی الساحل الكنعانی الكبیر (من شمال سوریا الى جنوب فلسطین) أن مزامیر داود لیست إلا ابتهالات وأغانی فولوكلوریة كنعانیة قدیمة، وحتى رافدیة تم اكتشاف مثلها فی العراق. إن تعامل الشاعر مع النصوص التوراتیة على أنها نصوص ثقافته واضح فی قوله فی قصیدة شتاء ریتا من مجموعة أحد عشر كوكباً (1992):
"لی حصةٌ من مشهد الموج المسافر مع الغیوم، وحصةٌ/ من سفر تكوین البدایة، حصةٌ من سفر أیوب، ومن/ عید الحصاد"
فهو هنا یجمع سفرین من العهد القدیم، التكوین وأیوب، وعید الحصاد الكنعانی. ویتضح لنا أكثر كیف أن محمود یتعامل مع النصوص الدینیة على أنها نصوص أدبیة یُعید العقل الجمعی إعادة انتاجها باستمرار. یقول محمود بهذا الصدد: "إن النضج الأدبی هو أن نتذكر أسلافنا وأن نشعر بأن وراء هذا النص الشعری أسلافاً.. فی كل شاعر تاریخ الشعر منذ الرعویات الشفهیة الى الشعر المكتوب، من الشعر الكلاسیكی الى الشعر الحدیث". كما یجدر بنا التأكید هنا على عمق معرفة محمود بالكتاب المقدس، فالمزامیر عددها مائة وخمسون مزموراً، الأمر الذی دفع محمود الى تسمیة قصیدته هذه بالمزمور الحادی والخمسون بعد المئة، وكأن الشاعر یصر على التعامل الأدبی مع الكتاب المقدس، فهو من ناحیة یعتبر هذه المزامیر انتاجاً جمعیاً لأجداده الكنعانیین، ومن ناحیة أخرى ها هو الشاعر نفسه یشارك فی هذا الانتاج فیضیف مزموراً جدیداً لمجموعة المزامیر. هذا الوعی الدرویشی بالأدب الكنعانی یقوله محمود بصراحة فی قصیدة مأساة الفضة وملهاة النرجس من مجموعة أرید ما أرید (1990):
(توراة كنعان الدفینة تحت أنقاض الهیاكل بین صور وأورشلیم)
فالتوراة بالنسبة لمحمود عمل أدبی كنعانی یُعید تولیف الحكایات الكنعانیة إیاها مع التركیز على نفس الثیمات والموتیفات الأدبیة التی كانت وما زالت تشغل الحیز الأكبر من فكر الإنسان وانتاجه الدینی الجمعی، إلا أن الشاعر یرفض خطف هذا الأدب الكنعانی من قبل جماعة دینیة معینة، لذلك استخدم كلمة "أنقاض الهیاكل" وما یعنیه ذلك من انهیار عملیة الخطف هذه وانفضاح أمرها، مع الإشارة الى ما تحمله الكلمة من عمل أركیولوجی. وهذا ما یؤكد على علو شأن الرمزیة عند محمود وقوتها، فاستخدامه لـ"أنقاض الهیاكل" كان موفقاً بامتیاز نظراً للإحتقان الهائل للرمز فیها. ولا یكاد القاریء یلتقط أنفاسه من هذه الرمزیة حتى ینهال علیه الشاعر برمزیة أخرى لا تقل إحتقاناً، إنها الثنائی صور وأورشلیم، فمن ناحیة تفصح هذه الثنائیة عن كنعانیة التوراة، ومن ناحیة ثانیة عن كنعانیة الهیكل الأوشلیمی الذی بناه مهندسو صور الكنعانیة (سأتجنب هنا استعمال مصطلح فینیقیا كونه مسمى إغریقی لبلاد كنعان). هذا الوعی نراه أیضاً فی نفس المجموعة الشعریة فی قصیدة ربّ الأیائل یا أبی ربّها، حیث یقول الشاعر:
"فانهضْ یا أبی من بین أنقاض الهیاكل، واكتبْ/ اسمكَ فوق خاتمها كما كتبَ الأوائل، یا أبی، أسماءَهم"
فمحمود هنا یستعمل رمزیة الأب بما تحمله من معانی الجذور المترسخة، داعیاً هذه الجذور أن تنفض عنها ركام الهیاكل لتتضح الحقیقة. وسیدخل محمود فی صراع على ذاكرة المكان كما سیمر معنا لاحقاً.
وتجاوز محمود رمزیة الهیكل الى توظیف رمزیة سلیمان فی قصائده، ففی قصیدة خطبة الهندی الأحمر من مجموعة أحد عشر كوكباً، یقول الشاعر على لسان الهندی الأحمر مخاطباً السید الأبیض:
".. وأشعار كنعان والبابلیین، تنقصُكُم/ أغانی سلیمان عن شولمیت.."
فأغانی سلیمان بالنسبة لمحمود لیست إلا من أشعار الشرق الأوسط القدیم (كنعان وبابل)، وهو هنا یشیر الى سفر نشید الأناشید الذی لسلیمان من العهد القدیم من الكتاب المقدس، وهی مجموعة من أناشید الحب والغزل العذری والفاحش تذكّر علماء المیثولوجیا بأغانی الكنعانیین المعنیة بالخصب، فسلیمان یبدو كإله خصب (بعل الكنعانی) وشولمیت (صیغة المؤنث لسلیمان لغویاً) تبدو إلهة الخصب المؤنثة. وقد اكتشف علماء الآثار صلوات كنعانیة فی أوغاریت تتطابق مع بعض أناشید سلیمان. إلا أن الشاعر یتجاوز استخدام رمزیة سلیمان الثقافیة الكنعانیة الى حالة من التناص الخاص بینه وبین سلیمان فی معرض تفكیر الشاعر بمعنى الموت والحیاة والوجود فی مُطولته الرائعة "الجداریة" (1999)، حیث یبدو محمود مغرماً بسفر الجامعة المنسوب أیضاً لسلیمان، وهو مجموعة من الحكم، یقول الشاعر:
"وكل شیء باطلٌ أو زائل، أو/ زائل أو باطل/ من أنا؟/ أنشیدُ الأناشید/ أم حكمةُ الجامعة؟/ وكلانا أنا../ وأنا شاعرٌ/ وملِك/ وحكیمٌ على حافة البئر"
فمحمود فی الجداریة حین "طار به الموت نحو السدیم" على حد تعبیره یستدعی حكمة سلیمان فی سفر الجامعة، فقد كان سلیمان ملكاً وحكیماً وشاعراً ووصل الى ذروة المجد، إلا أنه فی النهایة اعترف بأن كل شیء باطل وزائل: "باطل الأباطیل یقول الحكیم. باطل الأباطیل، كل شیء باطل" (سفر الجامعة، 1 – 2). وكذلك محمود فی تجربته مع الموت اختار حكمة سلیمان، لهذا یستعمل جملة "باطل، باطل الأباطیل باطل" كلازمة یعید تكرارها فی القصیدة تماماً كما هو الحال فی سفر الجامعة. ویتعمق محمود فی سفر الجامعة أكثر ویعید تولیف بعض من نصوصه بما یخدم تصوره الخاص، وكأنه یشارك فی نسج ثوب الحكمة الشرق أوسطیة، فنراه یقول فی الجداریة:
"عشتُ كما لم یعش شاعر/ ملكاً وحكیماً../ هرمت، سئمت من المجد/ لا شیء ینقصنی/ ألهذا إذاً/ كلما زاد علمی/ تعاظم همّی؟/ فما اورشلیم وما العرش؟/ لا شیء یبقى على حاله/ للولادة وقت/ وللموت وقت/ وللصمت وقت/ وللنطق وقت/ وللحرب وقت/ وللصلح وقت/ وللوقت وقت/ ولا شیء یبقى على حاله../ كل نهر سیشربه البحر/ والبحر لیس بملآن/ لا شیء یبقى على حاله/ كل حی یسیر الى الموت/ والموت لیس بملآن/ لا شیء یبقى سوى اسمی المَذهّب/ بعدی: / "سلیمانَ كان".. / فماذا سیفعل موتى بأسمائهم/ هل یضیء الذهب/ ظلمتی الشاسعة/ أم نشید الأناشید/ والجامعة؟"
هكذا یتعامل محمود مع التوراة والكتب المقدسة تعاملاً أدبیاً، فیرى فیها تولیفات (روایات) قامت بها الجماعة للتعبیر عن همومها وانشغالاتها، وهذه التولیفات لیست إلا اعادة انتاج روایات میثولوجیة سابقة علیها، لهذا اعتبر محمود التوراة جزءاً من تراثه، ورأى أن من مهمته كشاعر ینتمی لأرض فلسطین أن یشارك فی اعادة تولیف الروایات، فكانت الاقتباسات والرمزیات التوراتیة جزءاً من عملیة إعادة التولیف هذه.
[*الرمزیة المسیحیة والاسلامیة *]
فی قصیدة الجداریة وأمام تجربة الموت الرهیبة یقف محمود بین تجربة السید المسیح علیه السلام وتجربة سلیمان الحكیم، فیختار حكمة سلیمان كما مر معنا أعلاه، ربما لأنه وجد صعوبة فی اختیار تجربة قیامة المسیح، ولهذا نراه یقول:
"مثلما سار المسیحُ على البحیرة/ سرتُ فی رؤیایَ. لكنی نزلتُ عن/ الصلیب لأننی أخشى العلوّ، ولا/ أبشّرُ بالقیامة.."
فتجربة محمود بشریة، بعكس تجربة المسیح الإلهیة، لهذا یقول الشاعر فی نفس القصیدة نافیاً عن نفسه امكانیة الخلود على طریقة المسیح:
"وانتظرْ/ ولداً سیحمل عنك روحك/ فالخلود هو التناسل فی الوجود"
ومما لا شك فیه أن شخصیة السید المسیح لها حضور كبیر فی قصائد محمود، فالتشابه كبیر بینهما، فكلاهما من الجلیل، وكلاهما تعرض للإضطهاد، وكلاهما رأى فی الفداء خلاصاً، ولهذا نجد رمزیة المسیح فی قصائد محمود المبكرة، ففی قصیدة قال المغنی من مجموعة عاشق من فلسطین (1966) یقول الشاعر:
"المغنی على صلیب الألم/ جرحه ساطع كنجم/ قال للناس حوله/ كلّ شیء.. سوى الندم/ هكذا متّ واقفاً/ واقفاً متّ كالشجر/ هكذا یصبح الصلیب/ منبراً او عصا نغم/ ومسامیره وتر"
بهذه الطریقة یعید محمود تولیف الحكایة فی عملیة تناص بین فداء المسیح من أجل الخلاص وبین الموت وقوفاً من أجل النصر. إلا أنه بعد سقوط القدس عام 1967 یصبح لمعنى الصلیب بعداً آخراً هو المحبة والعطاء والخیر، كما هو فی قصیدة أغنیة حب على الصلیب من مجموعة آخر اللیل (1967) التی یخاطب فیها مدینة القدس أو مدینة كل الجروح الصغیرة كما یقول فی مطلع القصیدة:
"أحبكِ، كونی صلیبی/ وكونی، كما شئتِ، برجَ حمام/ إذا ذوّبتنی یداك/ ملأت الصحارى غمام"
عملیة التولیف الشعری تنهال على محمود بغزارة فی قصیدة مدیح الظل العالی (1983) التی كتبها عن حصار بیروت، وكأن قساوة الحصار والحرب قد أخرجته عن طوره فإذا بالتولیف وكأنه وحی ینزل علیه من السماء، وذلك بتولیف قرآنی من سورة العلق وانجیلی عن المسیح الفادی الذی سیهدم هیكل جسده ویبنیه فی ثلاثة أیام:
"الله أكبر/ هذه آیاتنا فاقرأ/ باسم الفدائی الذی خلقا/ من جرحه شفقا/ باسم الفدائی الذی یرحل/ من وقتكم.. لندائه الأول/ الأولِ الأول/ سندمر الهیكل/ باسم الفدائی الذی یبدأ/ اقرأ.. / بیروت صورتنا/ بیروت سورتنا"
التولیف القرآنی من سورة یوسف والكتابی من سفر التكوین نجده عند محمود فی قصیدة أخرى بحكم التناص بین قضیته وقضیة شعبه التی تخلى عنها العرب وبین تخلی أبناء یعقوب عن أخیهم الصغیر یوسف بعد أن غدروا به وأودعوه البئر، یقول الشاعرفی قصیدة أنا یوسف یا أبی من مجموعة ورد أقل (1986):
"أنا یوسف یا أبی، یا أبی اخوتی لا یحبوننی، لا یریدوننی بینهم یا أبی، یعتدون علی ویرموننی بالحصى والكلام، یریدوننی أن أموت لكی یمدحوننی، وهم أوصدوا باب بیتك دونی، وهم طردونی من الحقل، هم سمموا عنبی یا أبی... فماذا فعلت أنا یا أبی، ولماذا أنا؟، أنت سمیتنی یوسفاً، وهمو أوقعونی فی الجب، واتهموا الذئب، والذئب ارحم من اخوتی.. أبتِ! هل جنیت على أحد عندما قلت انی: رأیت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر، رأیتهم لی ساجدین"
وفی مرحلة ما بعد بیروت حین یحس الشاعر بأن الكل قد تخلى عنه وعن قضیة شعبه یبدأ حواراً مع الله فینهل من الرموز الانجیلیة كقول المسیح على الصلیب قبل أن یلفظ الروح، فی قصیدة إلهی لماذا تخلیت عنی؟ من مجموعة ورد أقل:
"الهی.. الهی.. لماذا تخلیت عنی؟ لماذا تزوجت مریم؟ لماذا وعدت الجنود بكرمی الوحید.. لماذا؟ أنا الأرملة/ أنا بنت هذا السكون، أنا بنت لفظتك المهملة/ لماذا تخلیت عنی؟ الهی، إلهی لماذا تزوجت مریم؟"
ویسأل الشاعر الله كما سأله المسیح بأن لا یبعد عنه كأس الموت فی قصیدة یطول العشاء الأخیر من نفس المجموعة:
"یطول العشاء الأخیر، تطول وصایا العشاء الأخیر/ أبانا الذی معنا كن رحیماً بنا، وانتظرنا قلیلاً، أبانا/ ولا تبعد الكأس عنا/ تمهل لنسأل أكثر مما سألنا"
إلا أن الشاعر فی مزاج آخر فی قصیدة كتب فیها عن هاجس العودة الى الوطن یحتفی بعودة المسیح ومریم الى العشاء الذی یریده الشاعر أن یُنهی الاحتلال، یقول فی القصیدة الملحمة "مأساة الفضة ملهاة النرجس" من مجموعة أرید ما أرید (1990):
"عاد المسیحُ الى العشاء، كما نشاء، ومریمٌ عادتْ إلیه/ على جدیلتها الطویلة كی تغطی مسرحَ الرومان فینا"
وفی قصیدة الجداریة فی بحث الشاعر عن معنى الخلود یستحضر امتحان الشیطان للسید المسیح كما ورد فی الأناجیل، ولكنه یُسقط هذه الحكایة على نفسه حین كان بین الموت والحیاة، وكأن الاختبار كان له:
"أعلى من الأغوار كانت حكمتی/ إذ قلتُ للشیطان: لا، لا تمتحنّی/ لا تضعنی فی الثنائیات، واتركنی/ كما أنا زاهداً بروایة العهد القدیم/ وصاعداً نحو السماء، هناك مملكتی/ خُذ التاریخ، یا ابن أبی، خذ/ التاریخَ.. واصنع بالغرائز ما تریدُ"
وكما فی الرمزیة التوراتیة فإن محمود ینهل من الرموز المسیحیة والاسلامیة فی عملیة تناص یعید من خلالها كتابة السردیة الشعریة الشرق أوسطیة بما یلائم حاضره وأمانی مستقبله مرتكزاً على الثیمات والموتیفات نفسها، وكأن الحكایة هی نفس الحكایة ولم یتغیر شیء سوى الزمن.
[*الرموز العربیة والرافدیة والمصریة والكنعانیة *]
فی نفس القصیدة السابقة یجمع محمود فی أسطر قلیلة ثقافة شرق المتوسط فی مشهد تخیلی یفترض أن العائدین الى فلسطین یستعیدونه مع عودتهم، إنها تقنیة لربط الاستعادة المادیة بالاستعادة الثقافیة لیغلق الخارطة من النیل الى الفرات:
".. واستعادوا/ ما ضاع من قاموسهم: زیتون روما فی مخیلة الجنود/ توراة كنعان الدفینة تحت أنقاض الهیاكل بین صور وأورشلیم/ وطریق رائحة البخور الى قریش تهبّ من شام الورود/ وغزالة الأبد التی زُفّت الى النیل الشمالی الصعود/ والى فحولة دجلة الوحشی وهو یزف سومرَ للخلود"
هكذا یتنقل الشاعر بین رمزیات الشرق الأوسط القدیم غیر عابئ بالزمن الذی ینحل بین یدیه، فیستدعی ثقافة الأمة من العراق الى مصر وما بینهما، ویدعو القاریء لأن یستعید معه هذه الثقافة، لأن العودة لا تكتمل إن كانت فیزیائیة، بل لا بد لها من استعادة ثقافیة لتكتمل.
فی قصیدته الرائعة بعنوان رحلة المتنبی الى مصر من مجموعة حصار لمدائح البحر (1984) یعقد الشاعر تناصاً بین حاضره وبین الماضی العربی غیر البعید، فیستحضر حكایة المتنبی مع كافور مُطرزاً القصیدة برموز تاریخیة عربیة اسلامیة، حیث یشبه نفسه تارةً بالمتنبی وتارةً بالقرمطی، وكأنه یرثی حال مصر والأمة معها:
"قد جئتُ من حلبٍ، وإنی لا أعود الى العراق/ سقطَ الشمالُ فلا ألاقی/ غیر هذا الدرب یسحبنی الى نفسی.. ومصر/ .. أمشی الى نفسی فتطردنی من الفسطاط../ .. لا مصر فی مصر التی أمشی الى أسرارها/ فأرى الفراغ، وكلما صافحتُها/ شقتْ یدینا بابلُ/ فی مصر كافورٌ وفیّ زلازل/.. هل تتركین النیلَ مفتوحاً/ لأرمی جثتی فی النیل؟/ لا، لن یستبیح الكاهن الوثنی زوجاتی/ ولا، لن أبنی الأهرام ثانیة، ولا/ .. والقرمطی أنا، ولكن الرفاق هناك فی حلبٍ/ أضاعونی وضاعوا.."
إنها نفس الخارطة الجغرافیة الشعریة یرسمها الشاعر فی فترتین زمنیتین مختلفتین من التاریخ العربی، الأولى فی الزمن المیثولوجی الغابر، والثانیة فی الزمن الحقیقی القریب. ولكن ضمن نفس الحدود ما بین مصر والعراق وبلاد الشام. وفی مجموعة سریر الغریبة (1999) یحرر محمود المرأة من رمزیة الوطن فی شعره ویتعامل معها كإمرأة لا أكثر، وفی هذه المجموعة یعقد حواراً مع جمیل بثینة ومع مجنون لیلى فی قصیدتین منفصلتین باحثاً عن معنى الحب عند العرب:
"هل تشرح الحبَ لی ، یا جمیلُ/ لأحفظه فكرةً فكرة؟/ أعرفُ الناس بالحب أكثرهم حیرةً/ فاحترق، لا لتعرف نفسك، ولكن/ لتُشعلَ لیلَ بثینة.."
فی نفس المجموعة یرحل الشاعر عمیقاً فی الزمن فی البحث عن معنى الحب فی الشرق الأوسط القدیم، فیصل الى إنانا، إلهة السومریین، لیجد معنى الحب فی الخصب او فی زفاف السماء والأرض المقدس:
"فلیصقُل الثورُ، ثورُ العراق/ المُجنّح قرنیه بالدهر والهیكل المتصدع/ فی فضة الفجر. ولیحمل الموتُ آلته/ المعدنیة فی جوقة المنشدین القدامى/ لشمس نبوخنصّر. أما أنا، المتحدر/ من غیر هذا الزمان، فلا بد لی/ من حصان یلائم هذا الزفاف. وإن كانَ/ لا بدّ من قمرٍ فلیكن عالیاً.. عالیاً/ ومن صنع بغداد، لا عربیاً ولا فارسیاً/ ولا تدّعیه الإلهات من حولنا. ولیكن خالیاً/ من الذكریات وخمر الملوك القدامى/ لنُكمل هذا الزفاف المقدس، نكمله یا ابنةَ/ القمر الأبدی هنا فی المكان الذی نزّلتهُ/ یداكِ على طرف الأرض من شرفة الجنة الآفلة"
مفهوم الخصوبة، او زفاف الآلهة المقدس، یؤكد علیه محمود فی الثقافة الكنعانیة أیضاَ حیث یستدعی، عناة، إلهة الخصب الكنعانیة، حیث یقول فی الجداریة:
"فغنّی یا إلهتی الأثیرة، یا عناةُ/ قصیدتی الأولى عن التكوین ثانیةً"
مبیناً دور عناة فی استمرار التكوین، او دورات الخصب، حین یتحدى الموت قائلاً له فی نفس القصیدة:
"فماذا یفعل التاریخ، صنوُكَ او عدوك/ بالطبیعة عندما تتزوج الأرضَ السماءُ/ وتذرفُ المطرَ المقدس؟"
عناةُ الكنعانیة هذه سیهیم الشاعر بحبها فی نفس الجداریة لدرجة العبادة مستخدماً مصطلحاً قرآنیاً ولا أجمل "یممتُ وجهی شطرَ" وما یحمله من معانی التعلق والقداسة والعبادة، ولكنه یمم وجهه شطر كنعان، بلاد الإرجوان:
"كلما یممتُ وجهی شطرَ آلهتی/ هنالك، فی بلاد الأرجوان أضائنی/ قمرٌ تُطوّقهُ عناةُ، عناةُ سیدةُ/ الكنایة فی الحكایة.."
فمحمود هنا سومری وكنعانی یشارك فی نسج ثقافة المنطقة بشعره بعملیات اعادة تولیف الملاحم السومریة والكنعانیة، وكأنها مشاركة منه فی النقاش الثقافی حول ثیمات مثل الحب والخصب والموت والحیاة والخلود. وفی نفس الجداریة فی بحثه عن الموت والخلود یستضیف أوزیریس الفرعونی والسید المسیح على قاعدة البعث من الموت، وكأن الشاعر یرید أن یؤكد لنا أن هذه الروایات لیست إلا توالیف لا نعرف مُؤلفها الحقیقی الأولانی، وإنما نقوم كشعب شرق أوسطی بإعادة التولیف لإبراز المعنى والمفهوم:
".. من أنا فی الموت/ بعدی؟ من أنا فی الموت قبلی/ قال طیفٌ هامشی: كان أوزیریسُ/ مثلكَ، كان مثلی. وابنُ مریم/ كان مثلكَ. كان مثلی.."
یجد محمود فی ملحمة جلجامش السومریة، التی یعود تاریخها الى مدینة أوروك فی الألف الثالثة قبل المیلاد، مادةً غنیة لمناقشة ثیمة الموت والخلود فی قصیدة الجداریة، وكأنه یشارك فی اضافات (تولیفات) على هذه الملحمة التی خضعت عبر الزمن الى الكثیر من الاضافات عبر العصور حتى وصلت الى بابل الكلدانیة. فجلجامش ملك اوروك مولود من الإلهة ننسون التی حملت به من ملك أوروك لوجلیندا، فكان ثلث جلجامش بشراً وثلثاه إلهاً. ولكنه كان مشغولاً بتجاوز الموت الى الخلود، فصاحبَ الوحش البری أنكیدو، ومضیا الى غابة حیث سر الخلود. ووصلا إلیها، وظن جلجامش أنه أمسك بسر الخلود. إلا أن الآلهة قررت موت أنكیدو، فمات بین یدی جلجامش الذی اكتشف أن الموت حق وأن الخلود یكمن فی أعمال الانسان:
".. أنكیدو! خیالی لم یعُد/ یكفی لأكملَ رحلتی. لا بدّ لی من/ قوة لیكون حلمی واقعیاً. هاتِ/ الدمعَ، أنكیدو، لیبكی المیتُ فینا/ الحیَّ . ما أنا؟ من ینامُ الآن/ أنكیدو؟ أنا أم أنتَ؟.."
وهكذا أدخل الشاعر نفسه فی نفس التجربة وهو بین حدود الوجود والعدم، ولكنه یخلص لمفهوم الخلود، وكأنها اضافة درویشیة رائعة للملحمة السومریة:
"هزمتكَ یا موتُ الفنونُ جمیعها/ هزمتكَ یا موتُ الأغانی فی بلاد/ الرافدین. مسلّةُ المصریّ/ مقبرةُ الفراعنة/ النقوش على حجارة معبدٍ هزمتكَ/ وانتصرتْ، وأفلتَ من كمائنكَ/ الخلودُ..."
[*الصراع على ذاكرة المكان *]
كان محمود واعیاً للصراع الثقافی على أرض فلسطین بین الذاكرة الفلسطینیة وبین المشروع الثقافی الصهیونی الذی ما انفكّ الى الآن یحاول تجییر ثقافة الأرض لصالحه عبر ربطها بالتوراة من جهة وربط المشروع الصهیونی بیهودا الكنعانیة وثقافتها من جهة أخرى (بما فیها الكتاب المقدس نفسه)، ففی إحدى مقابلاته یقول محمود: "یأخذنی شعوری الى أن الصراع بیننا لیس عسكریاً فقط وأننا نحن مدفوعون الى صراع ثقافی عمیق"، لهذا نجده ومنذ وقت مبكر ینبه فی شعره الى هذا الصراع، فیقول فی قصیدة یومیات جرح فلسطینی التی أهداها الى الشاعرة فدوى طوقان فی مجموعة حبیبتی تنهض من نومها (1970):
"عالمُ الآثار مشغولٌ بتحلیل الحجارة/ إنه یبحث عن عینیه فی ردم الأساطیر/ لكی یُثبت أنی/ عابرٌ فی الدروب لا عینین لی/ لا حرفَ فی سِفر الحضارة"
لا شك أن محمود كان مطلعاً على علم الآثار فی فلسطین والذی كان آنذاك توراتیاً منحازاً، حیث كان جل اهتمام الباحث الآثاری العثور على أی نص او قطعة أثریة لكی یقوم بتأویلها توراتیاً بما یخدم مقولة أرض الآباء الصهیونیة، وهذا التوجه الصهیونی فی علم الآثار سرعان ما انهار مع بدایة الثمانینات من القرن العشرین بسبب الاكتشافات الآثاریة الهائلة التی تتعارض مع اطروحات المشروع الاستیطانی الصهیونی الكولونیالی وتؤكد على كنعانیة الأرض وثقافتها، فقد أكد على ذلك علماء غربیون مثل توماس تومسون فی كتابه "الماضی الخرافی" وكیث وایتلام فی كتابه "اختلاق اسرائیل القدیمة، طمس التاریخ الفلسطینی". وكما قلنا أعلاه فإن الشاعر وجد نفسه منخرطاً فی الصراع على ذاكرة المكان فی شعره، فهو فی نثریة عابرون فی كلام عابر (1987) یستند على الفعل "عبَرَ" لما یحمله من معانی البداوة والمرور الذی لا یستقر، فهم عابرون ومشروعهم كلام عابر:
"أیها المارون بین الكلمات العابرة كدسوا أوهامكم فی حفرة مهجورة، وانصرفوا.."
وفی قصیدة على ساحل البحر الأبیض المتوسط من مجموعة حصار لمدائح البحر (1984) یبحث محمود عن آثار أجداده التی یعرف تماماً أنها مدفونة فی أماكن كثیرة على ساحل المتوسط:
"یا بحرَ البدایات/ یا جثتنا الزرقاء، یا غبطتنا، یا روحنا الهامد بین یافا وقرطاج/ یا ابریقنا المكسور، یا لوح الكتابات التی ضاعت/ بحثنا عن أساطیر الحضارات/ فلم نجد سوى جمجمة الانسان قرب البحر"
ففی تلك الفترة بعد حصار بیروت والخروج منها یبحث الشاعر عن جذوره ومكانه على ساحل البحر الذی حمل شعبه بعیداً، إلا أن جماجم هذا الشعب ستبقى على سواحل هذا البحر تماماً مثل جماجم الانسان الأول التی تم اكتشافها على سفوح الكرمل، والتی ستبقى شاهدة على انتماء الانسان لهذه الأرض. ففی مجموعة هی أغنیة هی أغنیة (1986) یخاطب الشاعر أصحاب المشروع الصهیونی الاستیطانی بأن لا یُتعبوا أنفسهم فی البحث الآثاری لأنهم لن یجدوا ما یدل علیهم:
"ولن تجدوا جثةً تحفرون علیها مزامیر رحلتكم فی الخرافة/ ولن تجدوا شرفةً كی تُطلّوا على الأبیض المتوسط فینا/ ولن تجدوا ما یدل علیكم.."
وفی نفس المجموعة یفضح الشاعر أعمال المشروع الاستیطانی فی تجییر ذاكرة المكان لنفسه ونفیها عن الفلسطینی:
"لصوصُ المدافن لم یتركوا للمؤرخ شیئاً یدلّ علیّ/ ینامون فی جثتی أینما طلع العشب منها، وقام الشبح/ یقولون ما لا أفكر، ینسون ما أتذكر..."
إلا أن هذا الغریب القادم مع المشروع الاستیطانی یبقى غریباً عن ثقافة هذه الأرض وذاكرتها، ولهذا فإنه یجد صعوبة فی التماهی فیها، لهذا تراه یعتمد على جمالیات السرد لكی یثبت حقه فی الأرض، فكلما كتب عن الأرض بشكل أجمل كلما استحق المكان أكثر، من وجهة نظره. ومحمود كان واعیاً لهذه المسألة، فهو یقول فی احدى مقابلاته: "الشاعر الفلسطینی لم یشعر یوماً بأنه محتاج الى تقدیم براهین على حقه بالمكان، وعلاقته بالأرض تلقائیة وعفویة ولا تحتاج الى أی إیدیولوجیا أو تبریر. الشاعر الإسرائیلی الذی یعرف كیف تمّ مشروعه وماذا كان قبل إسرائیل، والذی یعرف أیضاً ان هذا المكان له اسم آخر وسابق هو فلسطین، یبدو هذا الشاعر فی حاجة الى شحذ كل طاقته الإبداعیة من أجل امتلاك المكان باللغة كجزء مكمل للمشروع الاستیطانی". ألهذا أكثر محمود من استدعاء الرمزیات المیثولوجیة فی شعره، ودخل فی ثنایا سردیاتها لیشارك فی نسج هذه الروایات؟ وكأنه یقول للآخر: إنی لا أجد صعوبة فی الاحتفاء بعناة وبعل وإنانا وجلجامش وأوزیریس وأشعیا وأرمیا والمسیح والعذراء وغیرهم، لأنهم جزء من ثقافتی وأنا امتداد لهم، وأستطیع أن ألج روایاتهم بتلقائیة وأشاركهم فی نسج الحكایات، حكایاتنا. فلننظر الى هذا النص الدرویشی الجمیل الذی یذكرنا بملاحم الكنعانیین فی قصیدة ربّ الأیائل یا أبی ربّها من مجموعة أرید ما أرید (1990):
".. منفایَ أرضُ/ أرضٌ من الشهوات، كنعانیةٌ، ترى الأیائل والوعولْ... / لو كنتَ من حجر لكان الطقسُ آخر، یا ابن كنعان القدیم/ لكنهم كتبوا علیكَ نشیدهم لتكون أنت هو الوحید... / سرقَ المؤرخ، یا أبی لغتی وسوسنتی وأقصانی عن الوعد الإلهی/ وبكى المؤرخ عندما واجهته بعظام أسلافی.../ فانهض یا أبی من بین أنقاض الهیاكل واكتبْ/ اسمكَ فوق خاتمها كما كتب الأوائل یا أبی أسماءهم.../ وأنا حزین، یا أبی، سلّم على جدی إذا قابلتهُ/ قبّلْ یدیه نیابة عنی وعن أحفاد بعلٍ أو عناة/ واملأ له ابریقه بالخمر من عنب الجلیل أو الخلیل.."
أما الأبلغ والأجمل من هذا فی الصراع على ذاكرة المكان فهو استحضار محمود لعدة تناصّات من أمكنة مختلفة وأزمنة مختلفة لیقیم الحجة على المشروع الاستیطانی الصهیونی، ففی قصیدة خطبة الهندی الأحمر أمام الرجل الأبیض من مجموعة أحد عشر كوكباً (1992) یخاطب محمود المشروع الصهیونی عن طریق مخاطبة الهندی الأحمر للرجل الأبیض الذی استوطن فی أرضه، مستخدماً رمزیات من میثولوجیا الهنود الحمر:
"لكم ربكم ولنا ربنا، ولكم دینكم ولنا دیننا/ فلا تدفنوا الله فی كتبٍ وعدتكم بأرضٍ على أرضنا/ كما تدعون، ولا تجعلوا ربكم حاجباً فی بلاط الملك... / .. هذه الأرضُ جدّتنا/ مقدسةٌ كلها، حجراً حجراً، هذه الأرض كوخٌ/ لآلهة سكنت معنا، نجمةً نجمةً، وأضاءت لنا/ لیالی الصلاة... / ... تاریخنا كان تاریخها"
فی مجموعة أحد عشر كوكباً یبدو أن الوحی الكنعانی قد سیطر على محمود، فنراه فی معظم قصائد المجموعة مشغولاً بهذا الهم، ناسجاً قصائد كنعانیة كأنها تعود الى شاعر كنعانی مات فی أوغاریت او سفوح الكرمل او بیبلوس جبیل، وكأن ما نقرأه الآن لیس لمحمود وإنما لأحد أسلافنا الذی اكتشف مخطوطاته علماء الآثار، یقول الشاعر فی قصیدة على حجر كنعانی فی البحر المیت:
".. یا غریبُ/ علّقْ سلاحكَ فوق نخلتنا، لأزرع حنطتی/ فی حقل كنعان المقدس.. / خذ نبیذاً من جراری/ خذ صفحة من سِفر آلهتی.. وقسطاً من طعامی/ وخذ الغزالة من فخاخ غنائنا الرعوی، خذ/ صلواتٍ كنعانیة فی عید كرمتها، وخذ عاداتنا/ فی الری، خذ منا دروس البیت.../ واترك أریحا تحت نخلتها، ولا تسرق منامی... / أأتیتَ.. ثم قتلتَ.. ثم ورثتَ... / .. والأنبیاء جمیعهم أهلی، ولكنّ السماءَ بعیدةٌ/ عن أرضها، وأنا بعیدٌ عن كلامی"
هكذا یعترف محمود أن جمیع الأنبیاء هم أهله، وأن ثقافته هی امتداد لكتبهم المقدسة وطقوسهم المقدسة، لهذا قال للغریب: "خذ صفحة من سِفر آلهتی". وفی قصیدة بعنوان سنختار سوفوكلیس من نفس المجموعة یؤكد الشاعر على حقه فی هذه الطقوس:
"وإن كان هذا الخریفُ الخریفَ النهائیّ، فلنختصرْ/ مدائحنا للأوانی القدیمة، حیث حفرنا علیها مزامیرنا/ فقد حفر الآخرون على ما حفرنا مزامیرَ أخرى/ ولم تنكسر بعد... /.. كأن أناشیدنا فی الخریف أناشیدهم فی الخریف/ كأن البلادَ تُلقننا ما نقول.../ ولكن عید الشعیر لنا، وأریحا لنا، ولنا/ تقالیدنا فی مدیح البیوت وتربیة القمح والأقحوان/ سلاماً على أرض كنعان/ أرض الغزالة/ والأرجوان"
[*وفی الجداریة یعید محمود التأكید على حقه فی هذه الطقوس والأعیاد:*]
"فی عید الشعیر أزور أطلالی/ البهیة مثل وشم فی الهویة.. / وفی عید الكروم أعبّ كأساً/ من نبیذ الباعة المتجولین.. خفیفةٌ/ روحی، وجسمی مُثقلٌ بالذكریات وبالمكان"
هذه الذكریات وهذا المكان استحضرها محمود فی المشهد الافتراضی للعودة فی القصیدة الملحمة بعنوان مأساة الفضة ملهاة النرجس كما أسلفنا أعلاه:
"عادوا على أطراف هاجسهم الى جغرافیا السحر الإلهی/ والى بساط الموز فی أرض التضاریس القدیمة:/ جبلٌ على بحر/ وخلف الذكریات بحیرتان/ وساحلٌ للأنبیاء"
هذا الصراع على ذاكرة المكان یختتمه محمود فی قصیدة الجداریة كونه كان بین الوجود والعدم، فربما لأنه كان، شعریاً، على مسافة قصیرة من الموت، فقد استحضر مدینة عكا برمزیتها، كونها أجمل المدن القدیمة أو أقدم المدن الجمیلة كما قال، وعلى جسدها یكتب التاریخ كله، وكأنه یقول لأصحاب المشروع الاستیطانی: هذا هو آخر الكلام عندی:
"لدیّ ما یكفی من الماضی/ وینقصنی غدٌ../ سأسیرُ فی الدرب القدیم على/ خطایَ، على هواء البحر.../ هذا البحر لی/ هذا الهواء الرطب لی/ هذا الرصیف وما علیه/ من خطایَ وسائلی المنوی لی/ ومحطة الباص القدیمة لی.. ولی/ شبحی وصاحبه، وآنیة النحاس/ وآیة الكرسی، والمفتاح لی/ والبابُ والحراس والأجراس لی/ لی حذوة الفرس التی طارت/ عن الأسوار.. لی/ ما كان لی، وقصاصة الورق التی/ انتُزعتْ من الانجیل لی/ والملحُ من أثر الدموع على/ جدار البیت لی.. "
ویرحل الشاعر عنا، وتبقى عكا وسائر أرض كنعان وثقافة المتوسط له، فسلاماً على أرض كنعان، أرض الغزالة والأرجوان.

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 21:45|
مطالب جدیدتر
مطالب قدیمی‌تر