ابزار وبمستر

متــــرجـــــم عـــربی - دکتر مهدي شاهرخ
المرأة فی أدب نجیب محفوظ



صورة المرأة تعد مرآة تعكس قیم وثقافة المجتمع الذی تنتمی إلیه، وقد یعكس النتاج الأدبی للمجتمع الوضع الصحیح للمرأة داخله، وقد یعكس صورة مشوهة، فإذا نظرنا لبعض الأعمال الأدبیة فإننا نجد تشویها متعمدا لصورة المرأة فی المجتمع العربی، فهناك بعض الأدباء یجنحون بالمرأة فی أعمالهم لیعكسوا صورة مغلوطة أو تحمل جانبا واحدا من وضعیة المرأة داخل مجتمعها لیعمم هذا الجانب السیئ على جمیع نساء المجتمع.

وإذا نظرنا للأدباء الذین نقلوا صورة مشوهة للمرأة فی المجتمع المصری نجد "نجیب محفوظ" متصدرا هؤلاء، فقد اتخذ محفوظ من عالم المرأة إطارا لمناقشة قضایا ذات أبعاد عدة ووظفها بصورة سیئة؛ فصورها فتاة لیل وصورها بالعاهرة وصورها أیضا بالعاشقة.أما صورة المرأة المكافحة العفیفة، والفلاحة المصریة المجاهدة لم تجد لها مكانا فی روایات نجیب محفوظ، رغم أن نجیب محفوظ ـ فی كل أعماله ـ شكلت المرأة جانبا مهما، حیث یظهر شغفه الهائل بعالمها وما یكتنفها من غموض وأسرار وما یحیط بها من محاذیر، واقتحم نجیب محفوظ هذا العالم لیقدم تأریخا لعالم المرأة بكل عنفها وصخبها وضجیجها وإحجامها ومراوغتها.

لقد قدم نجیب محفوظ المرأة على أنها سلبیة خنوع خائفة متداعیة سلیطة اللسان سیئة الخلق ساقطة، سواء بإرادتها أو بإرادة الآخرین ومن خلال أعمال نجیب الروائیة سنقدم بعض شخصیات روایاته النسائیة التی استخدمها فی هذه الأعمال وكیف كان یوظف صورة المرأة فی أعماله، على العكس لم یقدم نجیب محفوظ المرأة على أنها السیدة المكافحة التی تقوم على تربیة الأبناء أو الواقفة بجوار زوجها، لكنه استخدمها فی أسوأ صورة، وما یأتی من أمثال یوضح ذلك. القاهرة الجدیدة

ففی روایة "القاهرة الجدیدة" توجد شخصیة "إحسان شحاته" وقد وظفها نجیب محفوظ فی هذا العمل على أنها طالبة معهد التربیة، شدیدة الفقر، تعیش فی أسرة مثقلة بأعباء الحیاة، ولكنها تشعر بقوة جمالها كما تشعر بقسوة فقرها، وفی غمار هذه المشاعر المتضاربة تسقط إحسان صریعة لمجتمع لا یعترف إلا بالثروة والنفوذ، تسوده المحسوبیة والانتهازیة وتحكمه البراجماتیة القاسیة، مجتمع لا یعترف بحق الحیاة الكریمة لأفراده، ولم لا وهو مقطع الأوصال بین فساد سیاسی تحكمه الأهواء والمصالح وظلم اقتصادی یظهر فی سوء توزیع الثروة؟ وبین هذا وذاك تلعب إحسان دورها ببراعة فی مسرحیة عبثیة هزلیة مأساویة، فی الوقت ذاته یخرج فیها جمیع الممثلین عن النص ثم یسقطون جمیعا صرعى فی مشهد النهایة. زقاق المدق

وفی روایة "زقاق المدق" یأتی نجیب محفوظ بشخصیة "حمیدة" وهی فتاة جملیة تعیش بین شخصیات زقاق المدق الذی تصفه فی النهایة بأنه زقاق العدم، وحمیدة كما یصورها "نجیب محفوظ" فی الروایة هی شخصیة شدیدة الطموح شدیدة الطمع، عیونها الجمیلة تتطلع إلى ما هو أبعد من عالم الزقاق وقلبها یخفق لمرأى البنات الجمیلات وهن یرفلن فی ملابسهن الجمیلة، فلا تملك إلا أن تقول ما قیمة الدنیا بدون الملابس الجدیدة، حمیدة متمردة شغوف بأن تعیش حیاة أخرى فی عالم آخر ولم تكن الظروف تعمل لصالحها دائما حینما قذفت بنفسها إلى قلب المدینة الصاخبة وهی تعیش فی أجواء الحرب العالمیة الثانیة، وكانت الحرب بآثارها المادیة والاجتماعیة هی التی دفعت بحمیدة إلى الانحراف كما یذكر نجیب محفوظ متناسیا أن الدین والقیم یجب أن تصون الأعراض وتحفظ المرأة من الوقوع فی براثن الخطیئة.

نأتی إلى ثلاثیة نجیب محفوظ وهی ملیئة بالشخصیات النسائیة المتحررة، وهذا واضح فی شخصیة "سوسن حماد" زوجة الحفید "أحمد عبد المنعم" فی روایة "السمان والخریف" توجد شخصیة "ریری" وهی نموذج فرید للفتاة المنحرفة التی تخرج لیلا ولا تعود إلا فی الفجر، وأصبحت ماعونا ملوثا لكل من هب ودب، ثم تقرر العودة للأخلاق.

وحول هذه الشخصیة تقول الدكتورة "نعمات أحمد فؤاد"ـ فی مقال لها نشرته صحیفة "الأهرام" القاهریة ـ إن نجیب محفوظ كثیرا ما قدم نماذج سیئة للمرأة لكنه قرر بعد ذلك أن یتصالح مع المرأة ویقدم نموذجا للكبریاء المتسامح والقدرة على الصمود أمام الإغراء والزهد فی الإثم الذی ذاقت هوانه وتعاسته وذلك فی روایة الثلاثیة. البدایة والنهایة

أما شخصیة "نفیسة" فی روایة "بدایة ونهایة"فیصورها نجیب محفوظ على أنها ساقطة یائسة، ویعلل ذلك بفقرها وجهلها ودمامتها، وهی شابة فی مقتبل العمر، یمتلئ جسدها بالحیویة والرغبة فی الحیاة، ولكن وجهها الدمیم یخذلها وجهلها یقودها مغمضة العینین إلى مصیرها المحتوم وفقرها لا یترك لها أملا فی الزواج، لقد تحالف علیها ما یدمر حیاة أی فتاة، ولو كانت نفیسة غنیة لربما وجدت من یتغاضى عن دمامتها ویتناسى قبحها، وربما وجدت من یغفر زلتها ویعفو عن خطیئتها فالشرف قید لا یغل إلا أعناق الفقراء وحدهم، نفیسة أقرب ما تكون إلى ملامح البطل التراجیدی الذی تضعه الحیاة فی مأزق، وقد زلت قدم نفیسة فماتت مرتین، یوم أن استسلمت لضعفها ویأسها ویوم أن قفزت إلى أعماق النیل بلا رجعة.

فی روایة "میرامار" نجد شخصیة "زهرة"ابنة الریف الفلاحة الجمیلة التی هربت من قریتها لتعمل خادمة فی "بنسیون" میرامار بالإسكندریة یطمع فیها جمیع نزلاء البنسیون.

هذه كلها نماذج توضح أن عالم المرأة لدى نجیب محفوظ هو من أسوأ الشخصیات، وقد اتخذ نجیب محفوظ هذه الشخصیات الساقطة عن عمد، ولم یفسر لنا ما المقصود باختیاره لهذا السقوط حیث جعل المرأة تسبح فی عالم الرذیلة دون رادع من قیم أو دین أو أخلاق، متجاهلا نماذج مشرفة یذخر بها المجتمع المصری، وبذلك ظلم نجیب محفوظ المرأة عشرات المرات فی أدبه.

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 21:39|
نزعة الحریة عند شعراء العراق المحدثین



لا یفوت قارئ الشعر الحدیث فی العراق أن یلاحظ ملاحظة هی غایة فی الأهمیة، تلك الظاهرة التی تستفزه وتثیر انتباهه حتى وإن تغافل عنها هو ألا وهی النزوع إلى الحریة وإباء الضیم والثورة على الواقع المتردی وعلى نمط الفكر والحیاة، إنها نفوس رهیفة الحس، تنفجر منها براكین تململ وتمرد فتسیل حممها من كل بیت ومن كل سطر حتى لتهدد تلك الحمم بأن تحرق القارئ وتكلفه من الأمر عنتا.

وفی میل العراقیین إلى التمرد وإبائهم الجور ونزوعهم إلى الحریة سبب قوی حتم ذلك یعود إلى تاریخ البلاد الذی أبى فی ماضیه العریق الضیم منذ عهد البابلیین وصراعهم ضد الفارسیین ثم العبرانیین وصولا إلى الإسلام وما لاقاه الإمام علی من تمرد لأسباب سیاسیة انتهت به مقتولا فی الكوفة ثم تمرد العراقیین على دولة بنی أمیة وإشعالهم فتن الثورة هنا وهناك لولا حزم الحجاج وعزمه على إخماد تلك الفتن بحد السیف وأنهار الدم التی سفكت وقد حدثنا عنها التاریخ بإسهاب كبیر.

ولا تختلف قصة العراق الحدیث عن العراق القدیم فالبلد الذی أسماه أسلافنا" أرض السواد" على سبیل الكنایة عن كثرة نخیله وكثرة رزقه كان لا یعرف الاستقرار فمن اضطراب إلى آخر ومن ثورة إلى أخرى، سواء أكان البلد ملكیا، وقد انتهت الملكیة ذاتها بنهر من الدم وأعلنت الجمهوریة لتزداد الانقلابات والاضطرابات السیاسیة ومن اغتیال سیاسی إلى آخر ومن فتنة إلى أخرى ولا یزال شأن العراق ذلك إلى الیوم.

و العراقیون على اختلاف نحلهم وأطیافهم السیاسیة یمقتون الضیم ویأبون الخسف ویثورون على الجور وینزعون إلى الحریة فی الفكر والحیاة، وقد شاء حظهم التعس أن ینكبوا بالمتسلطین فی الحكم وكأن قدرهم هو الهیمنة علیهم سواء من بنی جلدتهم أو من الأجانب ولا یتخلصون من عدو بالدم والنار إلا نكبوا بآخر ولعل هذا ما عناه الشاعر محمد مهدی الجواهری:

1- ولقد رأى المستعمرون منا فرائسا

[!ورأوا كلب صید سائبا!] 2- فتعهدوه فراح طوع بنانهم

[!یبرون أنیابا له ومخـــــــــالبا!] 3- أعرفت مملكة یباح شهید ها

[!للخائنین الخادمین أجانبا؟!] 4- مستأجرین یخربون دیارهم

[!ویكافأون على الخراب رواتبا!!]

ولعل نزعة التمرد ونقمة الثورة أظهر ما تكون فی هذا الشاعر بالذات الذی ذاق مرارة التشرید وألم المنافی غیر أن هذا كله لم یثنه عن النضال فی سبیل حریته وحریة شعبه ألم یقل الجواهری منددا بسكوت الشعب منكرا علیه عبودیته:

لم یعرفوا لون السمــــــاء

[!لفرط ما انحنت الرقاب!] و لفرط مادیست رؤوسهم

[!كما دیــــــــــس التراب!] وفی مطولته " تنویمه الجیاع " صب جام غضبه على الرعیة الساكتة على جبروت الحاكم المستسلمة لظلمه المفرطة فی حریتها وكرامتها وفی هذه القصیدة نزع الشاعر منزع السخریة تنفیسا عن غیظه وبلسمة لجرحه العمیق:

نامی جیاع الشعب نامی

[!حرستك آلهة الطعام!] نامی فجدران السجون

[!تعج بالموت الزؤام!] نامی على جوركما

[!وقع الحسام على الحسام!] أعطی القیادة للقضاء

[!وحكمیه فی الزمام!] واستسلمی للحادثات

[!المشفقات على النیام!] وأما شعراء التفعیلة ورواد الشعر الحدیث فقد تبنوا خطا عروبیا ومسارا قومیا نزعوا فیه إلى حریة بلدهم وحریة الوطن العربی وثورته على الاستعمار الأوروبی الذی اقتسم البلاد العربیة ونهب خیراتها وتفرق أبناء الوطن شذر مذر أو ذهبوا أیدی سبأ وقد التزم هؤلاء الشعراء بقضیة الحریة وتحدیدا الحریة السیاسیة وأشهر شعراء العراق فی هذا المضمار نازك الملائكة وعبد الوهاب البیاتی وبدر شاكر السیاب.

ولنازك الملائكة قصیدة "الشهید" وهی من أجود شعرها تحی فیها روح البسالة فی الشهید والثبات على المبدأ والإصرار على الكرامة إنها هبة الدم الزكی فی سبیل حریة الوطن وعزة أبنائه:

حسبوا الإعصار یلوى

إن تحاموه بستر أو جدرا

و رأوا أن یطفئوا ضوء النهار

غیر أن المجد أقوى

ومن القبر المعطر

لم یزل منبعثا صوت الشهید

طیفه أثبت من جیش عنید

جاثم لا یتقهقر

وقد اشتهر السیاب بقصائده المؤیدة للثورة الجزائریة لأنها ثورة عربیة فی الأساس بل ثورة انسانیة، وكان البیاتی كالسیاب فی نصرة قضایا الحریة لیس فی العراق وحده بل فی العالمین العربی والأعجمی، وقصیدته عن "جمیلة بوحیرد" مشهورة، وتندیده بالعدوان الثلاثی على مصر موقف شهم وإنسانی وقومی مأثور.أما السیاب فیقول فی قصیدة "المغرب العربی" مباركا الثورة على الاستبداد والظلم:

وكان یطوف من جدی

مع المد

هتاف یملأ الشطآن یا ودیاننا ثوری

أیا إرث الجماهیر

تشظ الآن واسحق هذه الأغلال

وكالزلزال

تحد النیر أو فا سحقه واسحقنا مع النیر

وأما البیاتی فیقول فی العدوان الثلاثی على مصر (البریطانی،الإسرائیلی، الفرنسی)

على جبین الشمس بورسعید

مدینة شامخة الأسوار

شامخة كالنار كالإعصار

فی أوجه اللصوص

لصوص أروبا من التجار من مجرمی الحروب

وشاربی الدماء

وأما الحریة الفكریة فلشعراء العراق قصب السبق فی المطالبة بها، فلقد نعوا على الإنسان جموده وتقلیده كما نددوا بالقهر الفكری ولعل الشاعر جمیل صدقی الزهاوی خیر من یمثل هذا الاتجاه وما نزع الشاعر إلى العلم إلا فرارا من الجهل وبعدا عن الخرافة وتشفیا فی أمس عقیم سیطر فیه الجهل وحكم فیه الدجل وأظهر ما تظهر فیه هذه النزعة فی مطولته "ثورة فی الجحیم" وهی مطولة تنحاز إلى الفكر الحر وتثور على ثقافة العامة وتنعى علیهم الاستسلام والخنوع، وإذا كان الفكر الحر ینتهی بصاحبه إلى الخروج على السائد والمألوف ویجعل منه مضغة فی الأفواه ویرمی فی دینه وعقله وعرضه، بل ربما یدفع حیاته ثمنا لإصراره على حریة فكره حتى ینتهی به الأمر إلى الجحیم، فترى الشاعر یرحب بهذا المصیر مادام فی صحبة سقراط ودیكارت ونیوتن وهوغو ولامارتین وأبی نواس وكل أفذاذ الإنسانیة وأنصار الفكر الحر، وما ترجمة الزهاوی "لرباعیات الخیام" إلا تأكید على مبدأ الحریة الفكریة وقد كان الخیام من أكبر أنصارها وفی الرباعیات مقاطع تنتصر لهذا المبدأ على الرغم من تبعاته النفسیة والاجتماعیة والفكریة.

ولقد دافع الزهاوی عن العقل فی شعره دفاعا مستمیتا على الرغم من وصمه بالزندقة والمروق عن الدین وما لاقاه من مضایقات العامة وعنتهم وأنصار الثقافة الرسمیة إلى الحد الذی جعل شعره خالیا من الدفق العاطفی والحرارة الوجدانیة وهو ما أخذه علیه نقاد الشعر، وتحیزه للعقل وللفكر الحر واضح جلی یعبر عنه هذان البیتان:

غیر أنی أرتاب من كل ما قد

[!عجز العقل عنه والتفـكیر!] لـــم یكن فی الكتاب من خطأ

[!كلا ولكن قد أخطأ التفسیر!] والشاعر معروف الرصافی كان فی شعره كما كان فی حیاته مثلا للاستبسال فی الدفاع عن الحریة ضد القهر السیاسی والفكری وقد أعطى بحیاته المستقیمة وخصاصته المثل للمثقف الذی یأبى أن یبتذل عرضه لقاء أی عرض من أعراض الدنیا وهو القائل:

كتبت لنفسی عهد تحریرها شعرا

[!وأشهدت فیما كتبت لهــــا الدهـرا!] ومن بعد إتمــامی كتـــــابة عهدها

[!جــعلت الثریا فوق عنوانه طغرا!] وعـــلقته كیــــلا تنــــالـــه یـــــــد

[!بمنبعث الأنوار من ذروة الشعرى!]

وقد خاطب الحریة أجمل خطاب:

أحریتی إننی اتخــذتــــك قبــلة

[!أوجـــه وجهی كل یوم لها عشرا!] وأمســــك الــــــركن مستســلما

[!وفی ركنها استبدلت بالحجر الحجرا!] إذا كـــنت فی قفر تخذتك مؤنسا

[!وإن كنت فی لیل جعلتك لی بدرا!] وإن لامنی خطب ضممتك لاثما

[!فقبلت منك الصدر والنحر والثغرا!] وإن لامنی قوم علیك فإننی

[!لملتمس للقوم من جهلهم عذرا!] واقرأ هذه الأبیات وقدر ما فی نفس الشاعر من غضب إنها صرخة فی وجه الاستبداد الذی عاث فی البلد فسادا ودجن الناس ونهب أرزاقهم وكمم أفواههم ولقد حالت الكلمات هنا حمما ناریة تسفع الجلود وتلهب النفوس وتحرض الناس على الثورة لقاء حریتهم المهضومة:

أما أسد یحمی البلاد غضنفر

[!فقد عاث فیها بالمظالم سیدها؟!] عجبت لقوم یخضعون لدولة

[!یسوسهم بالموبقات عمیدها!] وأعجب من ذا أنهم یرهبونها

[!وأموالهم منها ومنهم جنودها!!] ولقد جر التحمس للعقل والإیمان بالفكر الحر الشاعر أحمد الصافی النجفی إلى الإقبال على كل فكر والاغتراف من كل نبع والأكل من كل مائدة فكریة ذلك أن القهر الفكری الذی عاناه أسلافه والسیاج الدوغمائی الذی أجبروا على الإقامة داخله قرونا قد عفن نفوسهم وأصاب بالبلى عقولهم وبالصدأ قلوبهم فلیتشف الشاعر من ذلك القهر بالإقبال على الأفكار الجدیدة والعقائد الوافدة یحتضنها وینزلها من نفسه منزلة الحقائق حتى إذا شك عقله فیها اطرحها وطلب غیرها وكأنه نحلة حوامة تطیر من روض إلى روض وتشرب الرحیق من كل زهرة ولو أدى ذلك إلى عذاب الشك وجحیم التناقض ولكن لا بأس فالحریة أغلى مكسب:

تناقضت الأفكار عندی كأنما

[!أنا جمع أشخاص وما أنا واحد!] أرى كل فكر حل عقلی بوقته

[!صحیحا وفكر وقته مر فاسد!] فكم ذرة تفنى وتولد ذرة

[!بجسمی كما تحیا وتفنى العقائد!] فلی كل حین مأتم وولادة

[!وشخصی مولود وشخصی والد!]

ولا نعجب إذا رأینا شاعرا كبیرا بحجم بدر شاكر السیاب یتبنى الشیوعیة مسفها أحیانا الأدیان ثائرا فی وجه الحاكم، ناقما على الظروف قهرها وجبرها، فقد كانت تلك الثورة بحثا عن الحریة فی الأساس، فالفقر والخصاصة قید یغل الإنسان ویرهن حریته وربما اضطره إلى ابتذال كرامته وشرفه لقاء لقمة یتبلغ بها،لقد كانت یساریتة كما كانت یساریة غیره المتطرفة ثأرا من الظروف وتندیدا بهذا القهر التاریخی الذی یحد من الحریة بل یشظیها، حتى إذا اكتشف الشاعر أن الشیوعیة ذاتها لا تخلو من عیوب وأنها قهر آخر یمارسه الحزب عبر قادته وأمنائه، طلقها الشاعر إیثارا لمرونته الفكریة وتعطشه للحریة الإنسانیة التی ظل یحلم بها ویبحث عنها كما ظل أورفیوس یبحث عن زوجته فی عالم الموتى.

ولیس أدل على نزوع شعراء العراق منزع الحریة وإیثار المرونة الفكریة وحریة المناورة من إحداثهم تلك الثورة فی الشعر الحدیث فقد ظل الشعر إلى الأربعینات من القرن الماضی شعرا كلاسیكیا فی ملمحه العام یسیر على طریق القدماء ویسلك طریق المتنبی وأبی تمام والبحتری فی توخی الألفاظ الفخمة والمدویة واقتناص الحكم والتشبیهات البدیعة والاستعارات غیر المسبوقة، ذلك ما عهدناه فی شعر البارودی وشوقی وحافظ، غیر أن شعراء العراق واستجابة لنداء المغامرة ودعوة الحریة فی أنفسهم وهی دعوة فطریة كامنة فیها، ضاربة بجذورها فی غور التاریخ وبتأثیر من الثقافة الغربیة التی تشجع على الحریة وتعضدها خالفوا المسلك المألوف وتبنوا شعرا جدیدا یستجیب لروح العصر وثقافته وسواء أذهبنا مذهب من یضع السیاب رائد لهذا الشعر بعد صدور قصیدته "هل كان حبا" أو ذهبنا مذهب من یقدم علیه نازك الملائكة بصدور قصیدتها "الكولیرا" فكلا الشاعرین من العراق یؤكدان ما زعمناه من نزعة التمرد والثورة الكامنتین فی أنفسهم وهو نفس النهج الذی سار فیه شعراء العراق الآخرون كعبد الوهاب البیاتی ثم مظفر النواب من بعده.

وهی الحركة الشعریة التی أتت أكلها فتجدد وجه شعرنا لیصبح شابا طافحا بالقوة والمناعة مستجیبا لروح العصر وفلسفته متخلیا عن طرائق الماضی وأشكاله التعبیریة شكلا ومضمونا وكانت تلك الثورة المستجیبة لنداء عمیق فی النفس العراقیة هو نداء الحریة سببا قویا فی استجابة شعراء العالم العربی لهذه الحركة فما هی إلا سنوات قلائل حتى صار شعر التفعیلة حدثا فكریا وفنیا وجمالیا مشمخر الصروح وطید الأركان، غالب على أمره له شعراؤه الكبار فی العالم العربی كمحمود درویش وسمیح القاسم وأمل نقل وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطی حجازی وأدونیس ونزار قبانی وغیرهم.

وإنه لیحز فی النفس ما آل إلیه العراق الیوم عراق البابلیین وحدائقهم المعلقة وعراق الرشید والأمین والمأمون ودار الحكمة وعراق " أرض السواد" والرافدین وكان بود كل عربی أن یظل العراق فی طلیعة البلدان العربیة حركة فكریة وشعریة وعلمیة واصلا الحاضر الزاهر بالماضی التلید لولا نكد السیاسة وتآمر المطامع الإمبریالیة على حاضر ومستقبل هذا البلد الذی نأمل لها أن تقبر فی هذا البلد الكریم، بفضل وحدة ووعی ونضال الشعب العراقی الذی سیعید وجه دار السلام الخالد الخلاق والمتألق كما عهدناه بالأمس القریب والبعید.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 21:38|
شعرنا بین مد التجدید وجزر التقلی


ألا یاطـــــــائر الــــفردو س إن الشعـــــــر وجــدان [1]

الشعر صورة من الحیاة ونسل من رحمها ، وهو ترجمان الشعور ، وفیض من توتر الروح وسبحات الوجدان، وكل موضوع من مواضیع الحیاة ،سما أو انحّطٌََُُّّّ مثالیا كان أو واقعیا، وكل همسة أو خفقة قلب أو شرارة انقدحت فی الوجدان هی مجالات الشعر.

ولیس یعنی الشاعر فی شعره بالمثل و القیم العلیا فما هو بفیلسوف ولا داعیة ولا مصلح إنسانی ، وإذا جاء شىء من هذا فی شعره فهو من طریق غیر مباشر وإلا فسدت رسالة الشعر ، ورسالته تجمل فی كلمة فحواها أن الشعر تعبیر عن الوجدان.

إن الشاعر الحقیقی صنو للإنسان الحقیقی فكما لا یكون الشاعر شاعرا إلا إذا امتلك زمام اللغة وتبحر فی بلاغتها وعرف أوزان الشعر وقواعده فلیس هو بشاعر إن خلا قلبه من الحب – حب الكائنات والطبیعة – والسعی إلى إضافة شیء فی المعمار الإنسانی.

ومن ثمة تسقط الدعوة التی یروج لها بعض الناس وهی أن الشعر لا یكون شعرا إلا إذا تضمن الأشیاء العظیمة وحلق فی سماء الفضیلة وماعداه ففحش ومجون.

وفی الواقع فشاعریة الشاعر لا تقاس بنوع الموضوع الذی یتطرق إلیه فی شعره ومن ثمة الحكم بالإبداع أو الرداءة وإنما بطریقة الآداء وكیفیة التصویر ودلالة اللفظ على المعنى وتدفق الشعور كتیار مصاحب للصور الشعریة وهی وحدها العناصر التی یحاسب علیها الشاعر.

وفی تراثنا الشعری القدیم كثیر من المنظوم الذی لیس بشعر، فمنه ما یخلو من صدق الشعور وأكثر شعر المدیح من هذا القبیل وفی دواوین الشعراء الكبار كالمتنبی وأبی تمام والبحتری كثیر من هذه السقطات التی ابتغى بها هؤلاء الشعراء حطام الدنیا مقابل التزییف والقفز على قناعات عقولهم وأحاسیس وجدانهم فالمتنبی الذی قال فی كافور:

قواصد كافور توارك غیره

ومن قصد البحر استقل السواقیا

یعود لیقول فیه :

ومثلك یؤتى من بلاد بعیدة

لیضحك ربات الحداد البواكیا!

ولا لشىء إلا لكونه انتظر إمارة من كافور ولم ینلها:

أبا المسك هل فی الكأس فضل أناله

فإنی منذ حین أغنی وتشرب ؟

فأین هو صدق الشعور الذی انقلب من الضد إلى الضد فی أمد قصیر ولم یسلم شعراء الجاهلیة على علو كعبهم فی الشاعریة من آفة تسىء إلى الشعر وهی آفة التقلید فإذا كان امرؤ القیس قد وقف على الدیار وبكى واستبكى حسب غیره من الشعراء أن علیهم سداد دین لآلهة الشعر لیترصدن خطى الملك الضلیل حتى ولو لم یكن لأحدهم فی سوق الهوى الذیوع وماوقف حقیقة على طلل. ولذا عد أبو نواس شاعرا بحق لأنه قال:

عاج الشقی عن رسم یســـائله

وعجت أسأل عن خمارة البلد

لقد جعل الشعر ترجماناعن وجدانه ولسانا یبین عن حاله، وقد كان أبو نواس رجلا غاص فی الرذیلة إلى الأذقان، ولم تكن حیاته إلا السكر والإمعان فی الفجور وهو یبدع حین یصف عربدته ودعارته ولیس أبدع فی وصف الخمرة وتأثیرها من قوله:

صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها

إن مسها حجر مسته ســـــــراء

وحیاة أبى نواس لا ترضی المثل ولا یرضى عنها أهل المروءة ولكن شعر أبی نواس هو فی القمة من حیث استفائه على عناصر الشعر ومكوناته.

والشعر إذا تخلى عن جوهره وسایر مجالا غیر مجاله فقد صفة الشاعریة وتحول إلى نظم وقل مثل هذا عن الشعر الأخلاقی والوعظی المباشر ودیوان الشافعی ولامیة ابن الوردی خیر مثال على هذا.

والشعر موسیقی فی الصمیم فهو على حد تعریف القدماء له الكلام الجمیل الموزون المقفى، وقد حافظ الشعر العربی على نسقه العمودی أحقابا طویلة، واقتضت ضرورة الحیاة وتطوراتها وتباین البیئة من إحداث تجدید فیه دون التخلی عن الأوزان الخلیلیة وأفضل مثال على ذلك الموشحات الأندلسیة واستعمال الأبحر المجزوءة واستحداث التغییر فی بحر بعینه كمخلع البسیط وقد نظم علیة ابن الرومی هجائیته المشهورة:

وجهك یاعمرو فیه طول

وفی وجوه الكلاب طول

ولكن فی العصر الحدیث ونتیجة لاحتكاك الشعراء بالثقافة الغربیة الوافدة وبتأثیر من الشاعر الإنجلیزی توماس إلیوت، ثار لفیف من الشعراء العرب على عمود الشعر، ذلك أنهم رأوا فیه إكراهات وقیود تعیق حریة الشاعر ولعل أهمها تبعیة الشاعر للغة قصد الاستجابة لدواعی الوزن، وعلى الرغم من أن هؤلاء الشعراء بإمكانهم تنویع القافیة كسرا لهذا الغل، إلا أن هذه الحریة فی معتقدهم لا تشفی الغلیل ، فالشعر تیار نفسی مسكون بالرغائب والهواجس والانفعالات مسكوب فی قوالب لفظیة ودرجة الانفعال وحدته هی التی تتحكم فی طول وقصر البیت وهو مایسمونه بالسطر ولقد كان السیاب ونازك الملائكة والبیاتی وصلاح عبد الصبور وخلیل حاوی وأمل دنقل ونزار قبانی خیر من یمثل هذه الحركة التجدیدیة ، التی لاقت معارضة شرسة من قبل المحافظین على عمود الشعر ولعل أبرز المعارضین العقاد ، وله فی ذلك حجة ذكیة تستحق النظر وفحواها أن الشعر حركة ومناورة فی فن محكوم بالقیود (الوزن والقافیة) والشاعر الحقیقی هو الذی یتحرك بخفة ورشاقة دون أن تحد تلك القیود من مرونة حركته، فهو یعبر عن رغائبه وبنات أفكاره ومشاعره أتم تعبیر وأكمل تصویر وكأن تلك القیود غیر موجودة أصلا وله فی ذلك قصیدة طریفة بعنوان " حانوت القیود"

لا ریب أن العقاد قد غالى فی حملته على الشعر الجدید، وقد جانب الصواب حین أحاله على لجنة النثر للاختصاص، فالبحورالشعریة وشكل القصیدة العربیة المتوارثة لیست وحیا منزلا وما على الخلف إلا الاتباع، فلأبناء هذا العصر ثقافتهم وظروف حیاة تختلف عن حیاة آبائهم وعالم یعیشون فیه یمتلأ حركة ونموا ومرونة فمن السخف غض النظر عن كل هذه الأشیاء والركون إلى میراث الأجداد لاستهلاكه دون أن یضیف إلیه الأبناء شیئا جدیدا.

إن فی الشعر الحدیث إنجازات شعریة كبیرة هی ترجمان الشاعر والعصر على السواء وهی قصائد تستحق البقاء حتى وإن كانت الذاكرة قد ألفت حفظ الشعر العمودی وتردید حكم المتنبی وغزلیات امرىء القیس وخمریات الأعشى ومواجد ابن الفارض .

وإن القارىء الحصیف الحی الضمیر ، المرهف الاحساس ، الغنی العقل لیجد فی قصائد من مثل

" دار جدی " و " أنشودة المطر " للسیاب و "الظل والصلیب" لصلاح عبد الصبور ، الفن الكبیر الذی یغذی العقل والوجدان على السواء

و لا أدل على ذلك من هذا المقطع لخلیل حاوی من دیوان " نهر الرماد " :

خـلــنی للبحــــر للریــــــــــح لموت

ینشـــــر الأكـفـان زرقــــــا للغریـق

مبحـر ماتت بعینیه منارات الطریق

مات ذاك الضـوء فی عینیـه مـــات

لا البطولات تنجـیـه و لاذل الصلاة !

فهو مقطع قد تكاثفت فیه الروح الشعریة ، وتعددت فیه صور الضیاع ومشاعر الكآبة و الانسحــاق ، وموسیقاه مناسبة تماما لهذا الغرض أی الأزمة الوجودیة الخانقة التی یحیاها الشاعر .

والشاعر یعتمد تكرار ( فاعلاتن ) من بحر الرمل فی كل سطر حسب حاجته النفسیة:

فاعلاتـــن فاعلاتــــن فعلاتـــن

فاعلاتــــن فاعلاتـــن فاعـلـــن

فاعلاتن فاعلاتـــن فعلاتـــن فاعلن

فاعلاتــــن فاعلاتـــن فاعـلـــن

فاعلاتــــن فعلاتـــن فعلاتـــن فاعـلـــن

فمن غیر المقبول اعتبار هذا الإبداع الشعری المحكم البنیان ،الغنی بالصورالشعریة ،والطاقة الشعوریة المتدفقة من وجدان الشاعرمحالا على لجنة النثر للاختصاص.

وأزمة الشعر الحدیث فی رأینا تأتی من كون الجیل اللاحق لجیل الكبار ( السیاب، الملائكة ،البیاتی، دنقل، عبد الصبور) لم تستقم له الملكة الشعریة ولاتهیأت له أسباب السیطرة على اللغة العربیة ولاتعمق فی دراسة الشعر العربی الكلاسیكی ، ولاتمرس بدراسة المذاهب والنظریات النقدیة الغربیة والشرقیة على السواء، ناهیك عن الجهل التام بالعروض وقواعده والقافیة وأصولها، وأغلبهم یعجز عن إنشاء قصیدة عمودیة، ولذا تراه تحت دعاوى التجدید والحداثة ومابعد الحداثة یحاول إخفاء عورته والتستر على فقره بهذه الرطانات التی یسمیها صاحبها شعرا حدیثا وفی الواقع هی مؤشر الأنیمیا الشعریة والسقوط الفاضح.

ومانحسب أن هؤلاء الكبار الذین أشرنا إلیهم كانوا یعجزون عن النظم حسب أصول القصیدة العمودیة، وللملائكة والسیاب بل ولعبد الصبور قصائد عمودیة، تدل على تمكن هؤلاء الشعراء من القصیدة العمودیة، ولكنها الروح التجدیدیة الوثابة هی التی حدت بهؤلاء الكبار إلى إنتاج شعری جدید شكلا ومضمونا

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 21:38|
الشعر القصصی فی دیوان ایلیا ابی ماضی شاعر المَهاجَر الاكبر


تتناول هذه الدراسة ادب المهاجَر و القصة الشعریة فی هذا الادب عامةً و القصة الشعریةعند اَبی ماضی خاصةً. یُعْتَبُر ادب المهاجر مِن اَغنی الآداب قیمةً، و یُعتبر ایلیا أبی ماضی مِن أحد اكبر شعراء القصه المهاجرین ومن اَشهر الشعراء المعاصرین. اِنَّ دراسة وتحلیل القصة الشعریة ـ التی هی مِن اَروع فنون الادب ـ لها اَهمیة كبیرة. حیثما ندرس القصة الشعریة حقیقةً نری شیئین متلازمین: الشعر و القصة و هماكانامِن اَغنی فنون الادب فی تاریخ البشر كله مِن البدایة حتی الان. دراسة القصة فی شعر اَبی ماضی دراسةً شاملةَ فی الواقع ستنكشف آفاقاً جدیدةً فی الادب و ستزود محبی الادب عامةَ و اِلی دارسی الشعر و القصة خاصةً بمعلومات مفیدة.

إن السبب فی اختیار هذا الموضوع للدراسة هو شخصیة هذا الشاعر المعاصر الكبیر و كثرة الشعر القصصی فی دیوانه الذی یصل اِلی حوالی اَربعین قصیدة اَواكثر.كما أن الدراسات لم تتناول شعره القصصی بالدراسة مثلما تنازلت قضایاأخرﻯ كالتفاؤل والتساؤل. إنَّ الهدف فی هذه الدراسة هو: 1. تحدید مفهوم الشعر القصصی، 2. نظرةٌ عامةٌ اِلی اَدب المهاجَر و شعراء القصة فی المهاجَر، 3. خلفیة القصة الشعریة فی الادب العربی 4. وعرض تصویراً واضحاً مِن الشعر القصصی فی دیوان اَبی ماضی و شرح وتحلیل بعض مِن اشعاره القصصی، إذ لایمكن تحلیل كُلِّ أشعاره فی مقالة واحدة.

ماهو الشعرالقصصی؟

الشعرالقصصی، هوالذی یعتمد فی مادته علی ذكر وقائع و تصویر حوادث فی ثوب قصة تساق مقدماتها، و تحكی مناظرها و ینطق أشخاصها. فالشاعرالقصصی قد یطوف بحیاته حادث مِن الحوادث تنفعل به نفسه و تتجاوب له مشاعره و یهتزإحساسه، فیعمد اِلی تصویر هذا الحادث كما تمثل لدیه فی قصة ینسج خیوطها و یرسم ألوانها و یطرز حواشیها.(1) كل مافی الامرأنّ القصیدة القصصیة صارت تكتب الان علی أنها نوع ادبی متمیز، تحكی بأجمعها قصة، هی بطبیعة الحال، قصة خیالیة اكثر منها واقعیة و لا یعد هذا عیبا فطیبعی أن یعتمد الشاعر علی عنصر الخیال و قد یبنی مِن تجربة خیالیة عملاً فنیاً كاملاً. فماذا نقرأ نحن فی القصیده القصصیة أنقرأ شعراً اَم قصة؟ و دون أن نستغرق فی التفكیر نرى أنّ التسمیة نفسها تحمل الجواب عن هذا السؤال، فبحكم أنها قصیدة، لابد أن تَكون شعراً و بحكم أنها قصصیة لابد أن تنقل إلینا قصة. فهی شعر و قصة فی آن واحد، و بمقدار متساوٍ. اِنّما تستفید القصة مِن الشعر التعبیر الموحی المؤثر و یستفید الشعر مِن القصة التفعیلات المُثیرة الحیة. فهی بنیة متفاعلة، یستفید كل شقِ فیها مِن الشق الآخر و ینعكس علیه فی الوقت نفسه.(2)

الشعرالقصصی فی‌الادب العربی:

قاریء الشعر العربی یقع علی كثیر مِن الحكایات التی تؤكد النزعة القصصیة عند بعض شعرائنا القدامی كامریء القیس الذی تبدو هذه الظاهرة فی شعره (عند وصفه للصید) حدیث یبدو الموضوع ذا مقدمة وعقده وحل، و غالباً ماتكون المقدمة وصفاً للفرس اَوالناقة و تنسب العقدة عندما یعن لسرب مِن البقرالوحشی فیطارده و یكر ویفرّ حوله حتی یعود و قد اوقع طریده او عدّة طرائد(3). والفرزدق عرض لحادثة وقعت بینه و بین الذئب فی قصیدة تكاد تخرج عن طبیعة الوصف النقلی التقلیدی للذئب لانه التفت فیها اِلی الجانب القصصی، و أفاض علیها شیئاً مِن‌الرقة الوجدانیة، اِذقال:

ولیلةٍ بتنا با لفریین ضافنا علی الزاد ممشوق الذراعین أطلسُ تَلَمّسنا حتی أتانا ولم یزلْ لَـــدُنْ فطمتـْــه امـــــّه یتـــلمّـــسُ(4) ویرى الدكتور احمد امین أنّ عمربن ابی ربیعه هو مبتكر فن القصص الشعری ،و كان حریاً بتجربته أن تسهم فی تطویر القصیدة العربیة و تخرجها عن ما رأى لتقلید القصیدة الجاهلیة(5).

اِنّ ما تقدم عن الظاهرة القصصیة فی شعری امرؤ القبس و الفرزدق ماهواِلاّ حكایة لحال، كان یمكن لها أن تكون خطوة علی طریق الفن القصصی الشعری بما تنبی عنه مِن جیشان العواطف و صدق الانفعالات اِلاَ اَنّ العنایة بها لم تتجاوز هذا البوح الوجدانی. لم تعرف العربیة اذن الشعر القصصی بمعناه الغربی و انّما عرضَتْ ضروباً مِن نظم التاریخ تشبه اَن تكون متوناً للحفظ و التسمیع و مازال هذا شأننا حتی اتصلنا بأورباو آدابها فی القرن التاسع عشر و لم یلبث سلیمان البستانی أن نقل إلیاذه هومیروس اِلی لغتنا شعراً و بذلك رأی شعراءنا تحت أعینهم هذااللون من الشعرالقصصی ورأوا مایجری فیه مِن حروب و حوادث مثیرة تدورحول أبطال الیونان و طروادة. إذن القصص الشعری بمفهومه الغربی لم یظهر اِلاّ فی العصر الحدیث(6).

ادب المَهاجَر(7): هو أدب المهاجرین العرب الذین تركوا بلادهم فترة الحكم العثمانی للعالم العربی و استقروا فی الأمیریكیتین الشمالیة و الجنوبیة و أنتجوا ‌أدباً و ابدعو شعراً و أصدروا صحفاً وكونوا جالیات و جمعیات و روابط ثقافیة، و كان إبداعهم الادبی له صفة التمایز عن أدب الشرق بما یجمع مِن ملامح شرقیة و ملامح غربیة(8).

وباستقرارهم فی الأمیركییتین الشمالیة والجنوبیة أنشاؤارابطتین ادبیتین،إحداهما فی المهجرالشمالی و الثانیة فی المهجر الجنوبی، و هما الرابطة القلمیة و العصبة الأندلسیة. أهم أعضاء الرابطة هم: جبران خلیل جبران، میخائل نعیمة، نسیب عریضة، رشیدایوب، ایلیا اَبوماضی و … اما اعضاء العصبة فأهمهم رشید الخوری، الیاس فرحات، شكرالله الجر، جبران سعاده، امین الریحانی، سعید الیازجی …(9). القصة فی شعرالشعراء المُهاجَریین:

كانت القصة فی شعرالشعراء المهاجریین مِن أهم فنون شعرهم، فهی التی تتناول كل احداث الحیاة، و تصور كل مادقّ و جلّ مِن امور الوجود. و لعلّ الشعرالقصصی هو مما أخذه المهاجریون عن أخوانهم مِن شعراء لبنان و الأقطار العربیة الثانیة، كما یعترف بذلك البعض منهم. حیث ‌تری فریقاً ینسب الفضل فی ذلك اِلی شاعر الارزشبلی ملاط و آخر یعود به الی خلیل مطران. القصة الشعریة التی نظم فیها مِن شعراء المشرق: مطران (1872- 1949)، و الرصافی (1875- 1945)، و حافظ ابراهیم (1871- 1932)، والیاس ابوشبكه (1903- 1947) و بشارة الخوری (1889- 1968)، نظمها شعراءالمهجرو صوروا فیها حیرتهم و تساؤلهم و ألمهم و أملهم و بكاء هم و فرحهم. نظمها إلیاس فرحات (1893- 1977)، و رشید ایوب (1871-1941)، و ابوشادی (1892- 1955). والشاعر القروی (1887- 1984)، و فوزی المعلوف (1899- 1930)، وایلیا ابوماضی. اِذن القصة الشعریة كثیرةٌ فی دواوین الشعراء المهاجریین، منها: لإلیاس فرحات قصة شعریة بعنوان «احلام الراعی» و قصة «الاحتجاج علی مذهب داروین» و كذلك قصة الراهبة. و لفوزی المعلوف قصتُةُ المشهورة: آدم و حواء. و لنسیب عریضة مسرحیة شعریة عنوانها: «احتضار أبی فراس»(10). و اَشهر مَنْ برع فی القصة الشعریة، هو إیلیا ابو ماضی، و كثیراً مایعتمد اَبو ماضی علی أسلوب القصص فی شعره ،اَو القصص الأسطوریة و یستخرج منها دروساً إنسانیة ذات قیمة، یعتمد فیها علی عنصری المفاجأة و التشویق. و مهما یكن من أمر یظلّ أبو ماضی مِن الرواد الذین فتحوا صدر الشعر لغیر الغنائیة الذاتیة فزرعوا فیه مواسم جدیدة لموضوعات شعریة جدیدة تتناول الإنسان، فی شتی صوره و تتناوله فكرةً وجوهراً، نفساً و عقلاً. و مثل هذا الغنی فی الطاقة الشعریة، مجموعاً الی القدرة علی التمثل الجماعی لنفسیة الاُمَّة، هوالذی یجعل مِن أبی ماضی شاعراً كبیراً(11).

ترجمةُ حیاة ایلیا أبی ماضی:

یُعْتَبر ایلیا ابو ماضی أحداكبرشعراءالمهاجرومِن اكبرالشعراء العرب المعاصرین(12). وُلِدَ فی قریة «المحیدثة» القریبة مِن بكفیا فی لبنان، سنة 1889(13). حیث تلقی علومه الا بتدائیة ، ثم رحل اِلی مصر و نزل الاسكندریة حوالی (1900)، حیث مكث فیها اِحدى عشَرْسنة. أصدر دیوانه الاول «تذكار الماضی» قبل أن یهاجراِلی أمیركا الشمالیة، عام 1911. ففی مصر بدأت موهبته الشعریة تتفتح و كان للأدیب اللبنانی أنطون الجمیل، الفضل فی اكتشافها و نشر بعض قصائدة فی مجلة «الزهور» المصریة (1910-1913). عمل ابوماضی فی حقل التجارة و الصحافة، قبل أن یهاجر اِلی مدینة «سنسناتی» فی أمیركا حیث أمضی خمس سنوات فیها، ثمّ اتجّه نحو نیویورك سنة 1916. لیواصل عمله فی نظم الشعر و الاتصال بالأدباء و الكتاب فی بعض الصحف التی كانت تصدر هناك. ثم أصْدَر دیوانه الثانی «دیوان ایلیا ابو ماضی» سنة 1918، مما حقق له شهرة واسعة فی عالم الاغتراب و كذلك فی المشرق العربی. ثم صدر دیوانه الثالث «الجداول» سنة 1927 و فی سنة 1929 أصدر مجلة السمیر، و فی سنة 1946 صدر دیوانه «الخمائل» و ظلّ مقیماً بنیویورك اِلی أن توُفّی سنة 1957(14).

القصة الشعریة عند ایلیا أبی ماضی:

فی قراءَ تنا للقصص الشعریة التی تحفل بها دواوین اَبی ماضی، نجدها قصصاً تفیض ألواناً شتی مِن واقع الحیاة و خیالها و رمزها و تشعبات مذاهبها فی الرومانسیة و الرمزیة و الأسطوریة. و قدخاف أنْ یؤخذ علیه حصر قصصه بأبناء وطنه، فعمد اِلی ابراز واقع الشرق ممزوجاً بجوانب الغرب و معطیاته الرمزیة و الرومانسیة، التی تستمد عناصرها مِن خیاله تارة، اَومِن الاساطیر القدیمة طوراً و حرص أیضاً أن یجعل تلك العناصر تتلوّن بألوان الوحدة المعبّرة عن الوحشیّة، الألم الموحی بالعصر، كما أنّه اهتمَّ اهتماماً بالغاً بالحوار القصصی المعبر عن الضیاع المحیط بالمجتمع الغربی و الشرقی فی آنٍ واحد. و هو فی كل ماذكرنا كان ملماً اِلماماً ناجحاً بفن القصة الشعریة و أصول نظمها المعبّر(15). إذن قد تنوعت هذه العناصر القصصیة عند اَبی ماضی، فهی تاره: عناصر قصصیة واقعیة،‌و تارةً اُخری حكایات خیالیة، و تارة ثالثة حكایات رمزیة(16).

مِن قصصه الواقعیة:

«حكایة حال»: و هی قصة رجل مسن أخلص لزوجته، ولكنها غدرت به لِكبرسنه. «أنت و الكاس»: و خلاصتها أن الحب لایدوم، و آفته أنّه كالنار فی الهشیم… «قتل نفسه»: و هی قصة شاب أضاع غناه، فتخلی عنه صحبه، فانتحر بعد افتقاره «العاشق المخدوع»: و هی تحكی حب فتی لفتاة، تزوجت مِن غیره، فلّما مات الزوج تزوجها الحبیب الاول، فشیبتهُ باسرافها، و نزواتها، فخرج منها بتجربة خلاصتها (لاتمدح حتی تجرب). «أناهو»: و هی قصة فتاة تعطلت سیارتها فی الصحراء، و باتت فی رعب مِن قاطع طریق معروف فی المنطقة، و فی النهایة اتضح ‌لها أنه اخوها الذی افتقدته… و هكذا مع العسر یسر، و مَنْ یصبر ینل خیراً.

«الشاعر والامة»: و مغزاها أن الشعوب النائمة یستبد بها الظالمون. «طبیبی الخاص»: و هی قصة فتی ادعی المرض، و ادّعَتْ حبیبتة أنها الطبیب فجاءَت لزیارته. «بائعة الورد»: و هی تحكی حال فتاة غدربها حبیبها بعد أن خدعها فقتلتْه، و انتحرت. «ضیف ثقیل» و فیها نقمه علی رجال الدین. «ذكری و عبرة»: وخلاصتها أنّه أسكر حبیبته حتی اعترفَتْ بحب غیره فأعرض عنها و هجرها… «حكایة حا ل» و له قصیدة اُخری بهذا العنوان، و لكن هذه القصیدة تحكی قصة شاب كان ثریاً، ثم عضه الدهر بنابه فقررالانتحار، و لكن امرأة محسنة انقذته مِن كبوته.

«وردة و إمیل» و هی قصة شبیهة بقصة رومیو و جولیت، فقد مات الحبیبان شهیدی الحب . «حكایة حال» و هذه قصة اُخری بهذا العنوان، و فحواها ینطبق علیه قول الشاعر:

اذا كان رب البیت بالدف ضارباً فشیمة اهل البیت كلهم الرقص

«الشاعر و الملك الجائر» و خلاصتها أن افكار الشاعر و نصائحه و حكمه باقیه خالدة ، و أنه أبقی علی التاریخ مِن أی سلطان ظالم(17). و منِ حكایاته الرمزیة: دودة و بلبل، رؤیا، الضفادع و النجوم، الغدیر الطموح، الصغیرالصغیر،السجینة،الغراب والبلبل،التینة الحمقاء، الابریق، ابن اللیل، العیر المتنكر، العلیقة، الكنارالصامت و…

و من حكایاته الخیالیة: الاسطورة الأزلیه… أمنیة إلهة … و الشاعرفی السماء(18) و… و سنكتفی فیما یلی بدراسة نماذج لهذه العناصرالقصصیة من حیث المضمون و الأسلوب .

شرح و تحلیل نماذج من قصصه الواقعیة:

الف: الشاعر و الملك الجائر(19):

مضمونها: تندید جورالحكام

ملحض القصة أن ملكاً ظالماً معتداً بنفسه یری حدود العالم و ما فیه مِن شؤون و شجون ینتهی فی حدود سلطانه الذی تمثّل فی مملكة واسعة حوت القصور الفخمة و الجنائن المعلقة و العزّ البراق و مظاهر العظمة و الفخامة التی شُیّدت بدماء المساكین و علی حساب حیاتهم و بالمقابل جعل ابوماضی مِن شاعر موهوب، حرّ و طلیق یتغنی بسّر الكون و یتحلی بفكر جّم و بنفس عالیة المثال… جعله نقیضاً للملك، فالشاعر مثال للحكمة الأزلیة الشاهدة علی بقاء القیم، و الملك نموذج للمغترّین الذین نظروا لآنهم و كأنه دیمومة، و صدروا عن أحكامهم و كأنهم خُلقوا وحیدین فی هذا العالم.

تبدأ لحظة الصراع بالاحتكاك بین هاتین الشخصیتین النقیضتین… اِذ یستدعی الملكُ الشاعر و یطلب منه أن یصف جاهه و سطوته و ملكه…

قال: صِفْ جاهی، ففی و صفك لی للشعرجاهُ اِنّ لـی القصر الذی لاتبلُغ الطیُرذُراهُ

ولــــی الروض الـــذی یعبَقُ بالمســـك ثراه ولــی الجیش الذی ترشحُ بالموتِ ظِباهُ

فماكان مِن الشاعر اِلاّ أن سخر مِن الملك و مِن طلبه … و أجاب بأبیاتِ لاذعة تنم عن هزء و استخفاف، تصور مجد الملك الباطل و قوته المصطنعة الزائلة و عرشه المزعوم المشاد مِن جماجم البشر و قال اَبو ماضی متابعاً وصف الموقف(20):

ضـــحك الشــاعرُ ما سمعتهُ اُذناهُ و تمنـــی أن یُــــداجی فعــصتهُ شفتاهُ

قال: اِنیّ لاأری الأمرَ كما أنت تراه اِنّ ملكی قدطوی ملكك عنی و مَحاهُ

فا لشاعر ضحك مِن كلام السلطان و لم یطاوعة قلبه و لسانه علی أن یحابی اَویتملق، فإنّ لَهُ منِ نفسه ملكاً یتضاءل أمامه اَی سلطان آخر. و لذلك أجابَ السلطانَ بقوله:

القصر ینْبیء عن مهارة شاعر لبق، و یخبر بُعْدَه عنكـــــــــا

هو لـــلالی یَدرون كُنه جماله فـــــإذا مضوا فكأنه دُكــــــــا

ستزول أنت ولایزول جلاله كالفُلكِ تبقی، إنْ خَلَتْ، فُلكا

ثمّ تحدث عن الروض و الجیش، والبحر، و الجبل التی یدعی السلطان أنّه یملكها، و ختم حدیثه بقوله:

و مررتُ بالجبلِ الأشْمَّ فما زوى عنی محاسنََه ولستُ أمیراً

و عند ذاك احتدم غیظ السلطان علیه فأمرالجلادَ أن یدحرج رأس الشاعر عن كتفیه، فلما. سقط رأسه یتدحرج علی الأرض، غضب السلطان و قال: "ذوجنة، أمسی بلاجنتهْ"(21). فانظر اِلی هذه الصورة التی یحشد فیها ابو ماضی جملة مِن الشروط الفنیة للعمل القصصی:

فاحتدمَ السلطانُ ایَّ احتــــدام ولاحَ حـــُبُّ البطش فی مقلتیهْ

وصاح بالجلاد: هاتِ الحسام فـــأسرعَ الــجلّادُ یسعــــی إلیهْ

فقال: دحـــرجْ رأسَ هذا الغلام فــــرأسُهُ عبءٌ علـــــی منكبیه

سمعاً و طوعاً، سیّدی: وانتضی عَضَباً یموج الموتُ فی شفرتیهْ

نشیر فی هذا المقطع الی جملة مِن الامور:

اولها: الموقف الانفعالی للملك… و هو تتبع لحركة نفسه الداخلیه التی استثارها الشاعر بحدیثه المطول حتی نال مِن الملك و بلغ عمقه النفسی البشْع، ولعلّه یعرفه مسبقاً و یعرف اَی مورد یورد نفسه… و هو موقف فیه مِن التزواج و الانسجام بین ظاهر الملك و باطنه. أماثانیها: فهوا الحوار السریع الذی رافق المشهد: احتدام الملك و توجیهه الاوامر للجلاد و اسراع هذا الآخیر للتلبیة… ثالثها: میّزات الشخصیات التی تتحرك أمامنا: فالملك مغتّر بنفسه و الجلاد عبدٌ مطواع ینفذ من دون اعتراض، بطبعه و بحكم مهنته خاضع مسیر(22).

أكدّ الشاعرفی هذه القصیدة أن الجاه الحقیقی هو فی غنی النفس و ترفعها عن السفاسف. فلم یَرفی الملك اِلاّ عظمة مفتعلة واهنة و فی العرش كرسیاً مِن حطام خشب(23).

یعتمد ابوماضی اذاً علی الزمن اعتماداً كلیاً لیرینا نتائج موعظته… فإذا المغتر بقوته یدور علیه هذا الزمن و یفقد عرشه و تتحول مملكتهِ إلی هشیم. و یزحف إلیه سلطان الموت لیلتقی بالشاعرفی العالم الآخرلقاء مواجهة اُخری تظهر عظمة الفكر و انتصار الشاعر بآرائه التی عمّت العالمین و خلدت صاحبها، بینما المجد الباطل و السؤدد المصطنع ینهار ویندثر مع الزمن و لایعود ذكر فی الآفاق، علی عكس اقوال الشاعر التی لاتزال حیّة یتوارثها الناس مِن جیل اِلی جیل و یردد و نها حكمة اُزلیة(24). و فی النهایة: فی لیلة طامسة الانجم تسلّل الموتُ اِلی القصرِِ

بین حراب الجند و الأسهَمِ و الأسیفِ الهندیه الحمرِ

اِلی سریر الملكِ الأعظم اِلـــــــــی أمیر البَّروالبحرِ

فی حومة الموتِ و ظلِّ البلی قــــد التقی السلطانُ و الشاعر

لایجزع الشاعرأن یُقتلا لیس و راء القبر سیفٌ و رمحُ

و الشاعر المقتول باقیةٌ أقــــــــواله فكانــــــــها الأبَـــد

الأسلوب:نجد أبا ماضی تارةً ینظم القصیدة الواحدة متعددة البحور و القوافی منها: هذه القصیده یعنی «الشاعر و الملك الجائر». هذه القصیده، قصیدةٌ طویلة نسبیاً، فی نحو سبعین بیتاً، مقسمة اِلی ستة مقاطع، و اختلفت فیها البحور و القوافی (نّوع ابو ماضی فی اوزان القصیدة الواحدة و قوافیها)،‌المقطع الأول بحرهُ الرمل و قافیتهُ «ها» المضموم و فی المقطع الثانی، بحرهُ الكامل و المقطع الثالث، والرابع و الخامس، بحرهُ السریع و المقطع السادس بحرهُ الرمل. ونری اختلاف القافیة فی المقاطع المختلفة أو فی الأبیات التی جاءت فی مقطع واحد. ب: الشاعر والامُة(25)

(مضمونها: الحكمة: مَنْ یَعْرَف حقَّهُ لَنْ یُظْلَم)

فی قصیدة «الشاعر و الأمة» و هی تتألف مِن 59 بیتاً ـ یتحدث الشاعر عن اُمَّةٍ كانت تعیش فی رخاء و منعةِ و حریةِ، فی كنف ملكٍ عادلٍ یُحِبّ شعُبه ویتفانی فی خدمته، حتی اوصل شعبه اِلی اَفضل ما تتمناه اُمّةٌ مِن العیش و الرغید. (26)

كان فی ماضی اللیالی اُمَّةٌ خلـــع العِزُّ علیها حـِبَرَهْ

یجِدُ النازلُ فی أكنافها اُوجهاً ضاحـکــَةً مستبشرهْ

كان فیها ملكٌ ذوفطنة حازمٌ یصفحُ عندالمقدره

ثم مات الملك و خلفه ملك طائشُ الراُی، أفسدتْهُ حاشیة سوءٍ لاتُحب الخیر للشعب، و زینت له آثامه و شروره فركب رأسه و مضی فی طرق البغی، لایلتفت اِلی مصلحة شعبه ولایعتنی بمملكته، وسكت الشعب علی شروره فلم یحاسبوه، حتی استفحل فیهم ظلمه و بطشْهُ، فراحوا یبكون علی قبر سلفه العادل الأمین.

مات عنها، فأقامت مَلِكاً طائش الرأی كثیرَ الثَرثَرَه

حولَهُ عُصْبةُ سُوءٍ كُلّما جاءَ إذاً اَقبَلـــَتْ مُعْتــــَذَرَهْ

و فی أحد الایام مرّشاعرٌ بمقبرة البلدة، فرأی شیوخها یبكون عند قبرالملك السابق. فلما سألهم عن سبب بكائهم،‌أجابوه بأنهم یبكون العدل و الرحمة و الحریة و العزة فی ذلك القبر، و شكوا مِن جور ملكهم الحالی وطغیانه و فجوره.

مرَّیـــــوماً فــــرأی أشباهَ جـــلسوا یبكون عندالمقبره

قال مالكم؟ … ما خطبكم اَیُّ كنزٍ فی الثَری اَوجوهَرَهْ

قال شیخٌ منهم مُحْدَودِبٌ ودموعُ الیَأسِ تْغشَی بَصَرَهْ

اِنّ مَنْ نبكیه لو أبْصَرَهُ قیصــــرٌ أبصر فیه قیصَرَهْ

كلّما جاءَ إلیه خائــــن و اشیــــاً قَرَّبَهُ و استـــَوْزرهْ

وعند ذالك:

هزأ الشاعر منهم قائلاً بلغ السوسُ أصولَ الشجرة

رحمةُ اللهِ علی اسلافكُم إنهـــــّم كانــــــوا تُقاةً بَرَرَهْ

إنّ من تبكونَه یاسادتی كالـــذی تشكون فیكم بَطَرهْ

لوفعلتم فِعْل أجدادكـــم ماقضی الظالمُ منكم و طرَه والعبرة مِن هذه القصة الشعریة واضحةٌ جداً، فطغیان الحاکم وبغیه لا یمکن أن یسود شعباً یعرف حقوقه و واجباته، و یعمل لرفا هیة نفسه و عزة بلادِه و یوقف الطغیان و الفساد و الفجور عند حدودها(27).

الأسلوب:اِنها قصیدة طویلة نسبیاً فی نحو ستین بیتاً، علی بحرالرمل و روی واحد وهؤ«الراء»، مقسمةً إلی اَربعة مقاطع ویبدو تغییر المقاطع یرتبط بالتغییرالزمنی والمكانی و الموضوعی.

ج: هی(28) مضمونها: تمجید الأم

هذه قصة محفل مِن الاخوان عندأحدسراتهم، تدورعلیهم الكؤوس، و تغمرهم امواج المرح و البشر، و یدعوهم صاحب الحفل اِلی أن یشربوا نخب صاحبته، ثم یدعوهم اِلی أن یشربَ كل منهم نخب صاحبته فی الحفل.

قام أمیرالقصــرِ فــــی كفّهِ كأسٌ أعارنهُ مــعانیها

و قال: یا صحبُ علی ذكركم أملأها حبّاً و أحسوها

ولكن فتی ظل ساكناً دون أن یرفع كأساً اَویشارك فی نخب فسأله صحبه:وأنتَ؟

قال: أجل، اَشرب سرالتی بالروح تفدینی و أفدیــــــــها

صورتها فی القلب مطبوعة لاشیء حتی الموت یمحوها

قد وهَبَتنی روحــــها كلــــها و لم تخف أنی أضحیــــها

ولكن السیدات استشطن غضباً، و تحفر الرجال اِلی الانتصاف منه لهذه الإهانة الموجهة لسیدات فی مجلس أنس و شراب.

و هكذا یتاُزم الموقف و تتعقدالقصة و حینئذٍ یتقدم صاحب الدعوة و یقول

فصاح رب الدار: یاسیدی وصفتها لم لاتسمیها

أتخجل باسم من تهوی أحسناء بغیــر اسم؟

و عندها تصل لحظة «التنویر« اِلی غایتها:

فاطرق غیر مكترث وتمتم خاشعاً … اُمی

تمتاز هذه القصه بالحركة و الحیویة. و ممالاریب فیه أن الحوارالذی سیطرعلی مواقفها هوالذی أضفی علیها هذه الصفة الواضحة، حتی قد بدت القصة فی جملتها تصویراً لمجلس شراب جری فیه هذا الحوار الحیوی. فقد بدأ الشاعر بروایة القصة دون مقدمة و تمهید و انتهی كذلك بانتهاء الحدث، بل بآخر كلمة تتضمن الفكرة العامة فی القصة، و هذا بلاریب یكشف عن براعة فی السبك. و أصالته. فقد ظل یماطل القاری و یشوقه حتی النهایه، ثم فاجأه بهذا النتیجه غیر المتوقعة، و قد بلغت براعة الشاعر فی تصویر تلك العادة، اَن جعلها فذة فریدة. و القصة فی جملتها مركزة، موجزة و قدعینت با براز الفكر المجردة و تجیدهادون الالتفات اِلی النواحی الفنیه الاُخری(29) الأسلوب:قصیدة «هی» مقسمة علی مقطعین اِثنین ، بحره السریع و قافیته «ها»فی نحو سبعة و ثلاثین بیتاً.

شرح و تحلیل نماذج مِن قصصه الرمزیة:

لیس المقصود بالرمزیة هنا تلك الرمزیة التی یفهمها الغربیون فی‌الادب، لكن المقصود بها ذلك اللون الموضوعی الذی یرمز بالقصیدة كلها مثلاً، اَوبالعمل الادبی كله اِلی شیء معین،كالرمزفی حكایات كلیلة و دمنة و خرافات لافونتین الفرنسیة الدالة علی مصیر الظالم و جزاء الواشی، اَوعاقبة المغرور فی مساق حكایة علی لسان البهائم و الطیور و اذاكان اَبو ماضی یوحی فی كثیرٍ مِن قصائده بأفكار، فلیس ایحاؤه ایحاء الرمزیین، لأنّ هؤلاء ینتقلون أحیاناً فی قصائدهم مِن فكرة اِلی فكرة علی أساس الإحساس و الشعور النفسی مع ضعف الرابطة المنطقیة بین الفكرتین، ولكن أبا ماضی بجانب عنایته بالاحساس و الشعور النفسی فهوأ یضاًً یعنی بالرابطة المنطقیة فی قصائده الرمزیة.(30).

التینة الحمقاء(31) مضمونها: عاقبة التكبرهى الفناء

التینة الحمقاء التی و هبها الله الأفنان الباسقة، والجذع القوی، و الثمرالذكی، و لكنها رغم جمال منظرها، فقد اعتراها الكبر و الحمق حین قالت لِأترابها لا اُرید أن اَمتع الناس بثمری اَو جمالی، و لا اُعطی الطیر منِ ثمری و أغصانی. و فی سبیل ذلك سأجعل حجمی مفصلاً علی مایحتاجه جسمی(32)و فی ذلك یقول:

اِنی مفصلةٌ ظلی علی جَسَدی فلایكـــون به طولٌ و لاقِصَرُ

ولستُ مثمرةً اِلاّ علــــی ثِقَةٍ أنْ لیس یطرُقُنی طیرٌ ولابشرُ

وعندماجاءَ الربیع، وقدزین الدنیا بالأخضرالسندسی من الورق، والطیب الزّكیّ مِن الثمر، ظَهَرَتْ التینة الحمقاء عاریة، لامنظرَ یجملّها ولاكساءَ یكملها، فكانت النهایة الحزینة التی قال عنها الشاعر:

ولم یُطِقْ صاحـبُ البستانِ رؤیتها فاجتثها فهوتْ فی‌النار تَستعر

مَن لیس یسخو بما تسخوالحیاة به فإنّه أحمقٌ بالحـــــرص یَنتَحِرُ

هذه التینة هی نقیضُ "الحجرالصغیر"(33) لِآنّ الطبیعة فاضَتْ علیها بكل خیرٍ فیها، توهم «الحجرأنّه عاطل منه كل عطلٍ. و كلاهما انتحر بوعی و اختیار. الشجرة ساقت الموت الی نفسها سوقاً، إذا امتنعت بذل ماسخت علیها الطبیعة به،وعطلت فی ذاتها وظیفة الحیاة. لِكل موجودٍ مبررٌ لوجوده فیما یهبه للحیاة، والعطاء هو كالدم الذی یُغذی عروقها، فإذا ضنّ كلّ من ابنائها بخیره یبسَتْ شجرتها و ماتت. العطاء هو الفرح و التجدد، و فی هذه القصیدة، أیضاً، تنساق المعانی و توقع لتخدم الخاتمه الحكمیة التفاؤلیه.

وقد لانعثر فی‌الحیاة علی مایشابه هذه التینة إذیعمد المرء اِلی البطالة خموداً اَوكسلاَ اَولهواً و مجوناً ولایطالعنا امروٌ یكف عن العمل لیمنع خیره عن الآخرین.

اِلاّ أن لَأبی ماضی مَرمیّ آخر،یقصد فیه القتل والانتحار المعنویین اَواِلی افتقاد السعادة اِذا لاسعادةَ بلاعمل و عطاء(34) و أخیراً: فی قصیدة «التینة الحمقاء» یرینا الشاعر أن مالا ینفع الناس لایسمح له الناس بالبقاء، و المنطوی علی نفسه لانفع منه و لافائدة فی بقائه(35) الاسلوب:قصیدة قصیرة نسبیاً فی أحدعشربیتاً،وروی واحد وهو حرف "الراء"فی البحر البسیط.

الضفادع و النجوم(36):

مضمونها: الهجاء السیاسی

قصیدة «الضفادع و النجوم» فهی اسطورة ساخرة mockepic صوّر فیها ابو ماضی زعیمة الضفادع،و قدت تطلعت اِلی النجوم ذات لیلة،وهی تلقی ظلالها فی السماء، فخیل إلیها، و متی كان للضفدع قدرة علی التفكیر و التمییز، أنّ النجوم قد نزلت من سمائها و أغارت علی الماء، فصاحت الضفدعةفی رفاقها:

یا رفاقیا! یا جنـــودی! احتشدوا عَبَرَ الأعداءُ فی الیل التخوم

فاطردوهم، واطردوا اللیل معاً إنـــــه مثلــــــهم بــــاغٍ أثیمْ

ولاشكَّ أنّ زعیمة الضفادع و جنودها رغم ضآلة أجسامها و حقارة شأنها، قدملأت الدنیا ضجیجاً، و أرسلت فی الفضاء، أصواتاً مدویة مفزعة:

فی أدیم السماء مِن أصواتها رعدة الحمی، وفی اللیل وجومْ

واحتشد الجنود وظلتْ تنق و تضج حتی طلع الفجر، و ماذا تستطیع أن تصنع الصنفادع حیال النجوم غیر الضجیج و النقیق، و ما أن بزغت أنوار الفجر حتی ارتفعت ظلال النجوم،فظنتْ زعیمةالضفادع، أنّها قد أرعبت النجوم فطارت خوفاَ وفزعاَ إلی السماء(37). فماذا صنعت زعیمةالضفادع؟ مشت فی سرها:

أیها التاریخ سجَّل أننا اُمّةٌ قد غَلَبَتْ حتی النجومْ

هذه صورة رمزیة للحقیرالذی یدعی أنه صنع شیئاً عظیماً، ثمّ یتفاخر بمالم یفعل دلالة علی حقارته وادعائه، یسخربها الشاعر مِن طبائع صنف مِن الناس طغت علیهم الكبریاء، علی الرغم من فشلهم و تقصیرهم و قداستعان الشاعر فی ابراز هذه الفكرة بمظهر طبیعی وهواللیل و النجوم و الضفادع…(38)و فی الحقیقة «الضفادع و النجوم» تفسیر لفكرة الغرور والخداع النفسی(39).

الاسلوب: قصیدة قصیرة نسبیاَ فی أحد عشربیتاً، فی بحرالرمل و روی واحد و هو میم الساكنة. دودة و بلبل(40)

لأبی ماضی قصیدة بعنوان «دودة و بلبل » یرمز فیها اِلی أن الحقیر یلتزم الخنوع دائماً، یرضی بالذل، لان طلب المجد یتطلب سلاح المغامرة و الاقدام… و الحقیر خلوٌ منِ هذا السلاح فها هی دودةٌ نقمت علی حیاتها و شكت لأنها لم تخلق طائرة كالبلبل، فقالت لها زمیلتها النملة: لاتتمنی أن تكونی طیراً یصاد فالأرض لمثلك طیبة والخنوع مریح، و طلب المجد مغامرة لیست مأمونة العواقب…

(و هذه لفتة لتبریر عدم طموح الوضیع و ایثاره السلامة) و هی فكرة تذكرنابقول المتنبی

واذاكانت النفوس كباراً تَعِبَت فی مُرادها الأجسامُ

و شاعرنا استخدم الطبیعة الحیة فی ابراز هذه الفكرة وزج العظة التی یبغیها مِن ورائها(41).

نَظَرَتْ دودةٌ تـــدبُّ علـــی الأرض إلی بلبل یطیرُ و یصـــــــــدَحْ

فمضَتْ تشتكی اِلی الورق الساقط فـــــی الحق أنها لم تجنـــــــّحْ

فَأتَتْ نمـــــلةٌ إلیــــها و قالَــــــــتْ اقنعی و اسكتی فمالك أصلجْ

مــــــــــا تمنیـــــْتِ اِذا تمنیــــتِ اِلاّ أنْ تصیری طیراً یُصادُ و یُذبَح

فالزمی الارض فهی أحنی علی الدودِ و خلّی الكلامَ فالصمــتُ أریح

الاسلوب: قصیده قصیرة جدا فی خمسه أبیات، فی بحر الخفیف و روی واحد و هو الحاء الساكنة، استفادالشاعر فیها من اسلوب التهكم.

دراسة و تحلیل نماذج من قصصه الخیالیة:

الشاعر فی السماء(42): مضمونها: حُبُّ الوطن

فی قصیدة «الشاعر فی السماء» یفترض مشهداً خیالیاً، فیزعم أنَ الله رقّ لبؤسه علی أرض الشقاء، فأرجعه اِلی السماء، و شید له ملكاً علی الفضاء و جعل الضیاء و الشهُب مِن دونه و سلّطهُ علی الصبح و المساء،و الغیوِم والریح. اِلاّ أن ذلك لم یُجْدِه عزاءً، وأقام علی وجومه و همومه، فخیل اِلی الله أنّه مازال یحِنّ اِلی الغید و الخمرة، فاستل مِن قلبه حبهما، فطلب منه أن یتمنی فیحوله اِلی مایشاء، نجماً اَو طیراً اَوذا ثراء و قصور، لكن الشاعر أبی ذلك كله و أجاب الله(43):

فقُلْتُ: یاربُّ فصــلَ صَیْفٍ فی أرض لبنانَ اَوشتــــــاءْ

فإنّنی مهــــــنا غـــــــریبٌ ولیـــــس فی غُربة هنـــــاء

فاستضحك اللهُ مِن كلامی و قــــــال: هذا هُوَ الغَبــــَاء

فقال: ما أنـــــــــت ذوجنون وَاِنّمــــــــا أنـــــــتَ ذووفـــاء

فإنَّ لبنانَ لیــــــــــس طَوْداً و لابــــــــلاداً، لكنْ سمــــاء!

انهّا القفلة المدهشة ذاتها فی نهایة القصیده، إلا أنَّ القصیدة بمجملها ذات شفافیة و رقّة إذتمثل مطامع الإنسان و تورد شریطاً مِن الصوروالبهجة فی مثل أجواء الاسطورة(44)

هذه القصیدة الوطن الذی یؤثرهُ الشاعر علی الجنة، و قد جاء بمعانیها علی ایقاع السرد، حیناً و اِلی النجوی التی یتنفس فیها حلم الحریة و تسقط شهوات النفس و نزواتها ولایصمد فیها اِلاّ حب الوطن و الحنین إلیه حیناً آخر.(45).

الاسلوب: قصیده مطوسطة الطول نسبیاً ، فی نحو سبعة و ثلاثین بیتاً، فی بحرالمنسرح و روی الهمزة الممتدة المسبوقه بحرف المد(اء) مقسمة علی ثلاثه مقاطع و یبدو تغییر المقاطع مرتبطً بتغییر الموضوع.

الأسطورةالأزلیة(46) (مضمونها: كل شیء فی مكانه أجدر)

تتلخص هذه الحكایة فی أنّ الناس قد ضجّوا مرّةً بالشكوی اِلی اللهِ، وودّوا لوأعاد تكوینهم مِن جدید، فنزل دوالجلال علی مشیئتهم، و هبط إلیهم فی‌لبلة قمراء، یستمع اِلی شكایاتهم و یتساءَل عن مصدرهیاجهم، فتقدم إلیه كل منهم بشكواه، و اول المتقدمین شاب ناقم علی حظه مِن الحیاة، لأنّ الله قد جعله شاباً یعیش بین جماعات مِن الشیوخ لایرون فی ‌الشباب اِلاّ طیشاً و رعونة و حمقاً فهولذلك یرید اَن یسرع به الزمن لیغدو شیخاً حكیماً، فیتخلص مِن احلام الشباب التی یشقی بها كثیراً:

عِبٌ علی نفسی هذا الصبّی الجائش المستوفزُ الطّامی

ولایكاد الفتی ینتهی من شكواه، حتی یقف بین الجمع شیخ «مشتعل اللمة، بالی الإهاب، فیصرخ سائلاً خالقه أن یأخذ كل حكمته و یرّد علیه الشباب، فقد ذبلت حیاته بذبول أمانیه، و هو یریدالمنی اَمامه لاوراءه، و لوزادت بها متاعبه:

مُرْتقِف الأیامُ عن سیرها فإنها تركض مثل السحاب

و نهضت بعده فتاة حسناء، تعاتب ربها لانها خلقها جمیلة، و الجمال لایورث اِلاّ الفضائح و الأقاویل:

وجهی سنیٌ مشرقٌ، اِنّما مرعی عیون الخلق هذا السَّنی

فهی لاتسلم من ثرثرات الألسنة، ومِن خیانة الأعین التی تلاحقها لِغمزات الحنیةو الریبة. ثمّ تسكت الحسناء، فهبت الجاریة الدمیمة، حانقه ناقمه علی قسمتها القبیحه فتقول:

ذنبی اِلی هذا الوری خلقتی فهل أنا المجرمة الجانیة؟

فهی تعلم أنّ للجمال الرتبة العالیة،فلوكانت جمیلة و تری أنّها تعیش فی عالم أحكامه جائرةً، من جور هذه الأحكام أنه:

لیس لذات القبح مِن غافِر وفیه مَن یغفر للزّانیة

وقد ذكر التاریخ أن السید المسیح قد غفرللزانیة، و اَنقذها مِن الرجم، فمن هوالذی غفر لفتاة دمیمة دمامتها؟ و لِمَ لایهبها الله الحسن، و هوالذی خلق نفسها علی صورته و مثاله ؟

وهكذا یأتی دوراالصعلوك الفقیر و الغنی، والأبله و العبقری اللبیب و…

قال الغنی: اِننی فی‌القصر الرفیع الذرا كطائـــــــر فی قفــص میت

اِن كنـــــــت اِنسانــــــــاً فلم یــــــاتری لست بادراكی كباقی العباد؟

قال الفقیر: یصرخ یا ربّاهُ حتّی متــــی تُحَكَّمُ المِـــــوسرَ فی نفسی؟

و تضــــــــعُ التــــــــاجَ علــــــی رأسه و تضعُ الشوك علی رأسی؟

و أخیراً:

تنتهی الشكایات كلها ویقف الجمیع فی‌انتظار حكم الكائن الأعلی … و…

لمّا و عی اللهُ شكایا الوری قال لهم: كونوا كماتشتهون

فكانوا كمایشتهون، ویطلع الصباح علی الكون، فإذا الحیاة هی مِن جدید: فیها الشاب و الشیخ، الحسناء و القبیحة و الفقیر و الغنی، والأبله(47) و اَما الحقیقه التی لاتتغیر ـ كمایراها ابوماضی ـ فهی أنه:

ولیسَ مِن نقص ولا مِن كمال فالشوك فی التحقیق مثل الاقاح

و ذرة الرمل ككلّ الجبــــال وكالّـــــــذی عَزّ الـــــــذّی هانا

و هكذا الحقیقة لمن أمعن فیها: لانقص و لاكمال، و الشوك كالزهر، و ذرة الرمل كالجبل الاشم، و العزیز كالمهان و الناس یتمردون علی كل واقع.

و قد قال «ایلیا ابوماضی» فی مقدمة نشره لهذه القصة الخیالیة اول ما نشرت فی مجلة «السمیر» سنة 1933: «اِنّ یوماً یرضی فیه الانسان عن نفسه لهو الیوم الذی تنتهی فیه مهمة الانسان علی الأرض(48).

الاسلوب: قصیده طویلة نسبیاً فی نحومئة و أربعین بیتاً مع تنوع القوافی و وحدة البحور، مقسمة علی عشرة مقاطع و فی كل المقاطع البحر هو السریع ولكن القوافی تختلف. فی المقطع الاول، حرف الروی هو«الهاء» الساكنة،و فی الثانی المیم،و فی الثالث، الباء الساكنة، و فی‌الرابع،«النون»، و فی الخامس «الیاء»،و فی السادس، «السین»، و فی السابع،«ة»،و فی‌الثامن،"الدال الساكنة"و فی التاسع،"الباء الساكنة"ویبدوا تغییر المقاطع مرتبط بتغییر الموضوع. حین تكلم كلٌّ مِن الفتی، الشیخ، الجاریة، الغنی، الفقیر، الأبله، الأدیب و… نظرة عامة اِلی القصائد الثمانیة المدروسة:

وأخیراًفقد رأینا أن دواوین أبی ماضی تحتوی حوالی 40 قصیدة شعریة قصصیة

أکثرها واقعیٌّ ورمزیٌ ثّمّ خیالیٌّ وقد حاول ابو ماضی اَن ینوع فی اوزانه و قوافیه و كان تنویعه محموداً جدّاً. ففی مجال تنویع أبی ماضی فی الاوزان والقوافی، نجدهُ ینظم القصیده الواحدة متعددة البحور و القوا فی، كما ینظمها متنوعة القافیه فقط، و علاوةً علی هذا لم یحاول ابوماضی اَنْ ینتَقض علی أسالیب التعبیر العربیة وظلّ فی معظم أشعاره یتبع عمودالشعرالعربی ویلتزم بقوا فیه واوزانه(49). رُعم أنَّه فی فاتحة دیوانه «الجداول» یقول:

لست منی اِن حسبتَ اﻟَََﺷ ﻌرألفاظاً و وزنا

فهو لایعترف ـ رغم أنه شاعرـ باللفظ والوزن(50). الخاتمة:

1. بحثنا و فهمنا اَنّ القصیدة القصصیة بحكم أنها قصیدةٌ لا بد اَن تكون شعراً و بحكم أنها قصصیة لابد أن تنقل إلینا قصةٌ.فهی شعروقصةٌفی آن واحدو بمقدار متساوٍ.

2. تطَرَّقنااِلیاَدب المهاجروشعراءالقصه فی‌المهاجروفهمنااَن للقصةالشعریةجذورٌعمیقة فی ادب المهاجر إذلم یكن فقط ابوماضی شاعر القصة بل شعراء القصة فی‌المهاجَر كثیرون.

3. العنصر القصصی فی الشعر مِن سمات التجدید فی الشعر العربی الحدیث و لیس معنی ذلك خلو الشعر العربی مِن نوع ما مِن القصص،ولكن كل هذه الالوان لم تكن قصصیة بالمعنی الدقیق، لأنّ القصة شیء و الحوار الذی یرد خلال القصه شیء آخر. اِذن الشعر القصصی بالمعنی المصطلح علیه فلم یكن من طبیعة العرب و لاهومِن مقتضیات اجتماعاتهم.

4. توجدحوالی اَربعین قصیدة شعریة قصصیة فی دیوان اَبی ماضی، اكثرها واقعیٌّ و رمزیٌ، ثمّ خیالی. عناصر القصه و الشعر كلتاهما موجودة فی‌هذه القصص الشعریة. لِكلٍّ منها وزن و قافیةٌ و فكرة ولِكل منها بدایة، وعقدة وحل.

5. بعث ابوماضی فی قصصه الواقعیة عظةً و تنبیهاُ،فهو یدعو اِلی جعلها عنواناً لما یصیب المجتمع مِن مفارقاتٍ قد تصبح مواجع اجتماعیه قاتله. و قد تجنّب ابوماضی فی رمزیته الاسراف و الغموض، و قد تنوعت أشكال الحكایات الرمزیه التی تناولها ابوماضی فی ایحاءات افكاره المختلفه ولكن اكثرها یدخل فی نطاق «الطبیعة» بقسمیها «الحیة و الجامدة»..

الهوامش

. محمد عبدالمنعم خفاجی: دراسات فی‌العصر الجاهلی. ص 90.

.2 عزالدین اسماعیل: الشعر العربی المعاصر. ص 301 - 300

3. ایلیا الحاوی: فن الوصف و تطوره فی الشعرالعربی. ص 181 و یوسف الصمیلی: الشعر اللبنانی، اتجاهات و مذاهب ص 111

4. یوسف الصمیلی: الشعر اللبنانی، اتجاهات و مذاهب. ص 112 ـ 111

5. المصدر نفسه: ص 112.

6. شوقی ضیف: دراسات فی‌الشعرالعربی المعاصر، ص 44.

7. قد استفاد شوقی ضیف فی‌كتابه«دراسات فی الشعر العربی المعاصر» كلمة المهاجَر بدلامِن المهجَر. جدیرٌ بالذكر اِنَّ فی الاستفادة مِن المهجَر و المهاجَر اختلافٌ لكن یقول الشاعر القروی فی قصیدیة «الوطن البعید»:

ما البرازیلُ مَهجَری لیس لبنان لی حمی (شوقی ضیف: دراسات فی الشعر العربی المعاصر، ص 279).

8. صادق خورشا, مجانی فی‌الشعر العربی الحدیث و مدارسه، ص 164 - 163

9. أمین ودیع دیب: الشعرالعربی فی المهجر الامریكی. ص 18

10. محمد عبدالمنعم خفاجی: قصة الأدب المهجری. ص 315.

11 . اكدكتوران احسان عباس و محمد یوسف نجم: الشعرا العربی فی المهجر امیر كا الشمالیه. ص 158والجامع فی تاریخ

12. میشال خلیل جحا: الشعرا العربی الحدیث. ص 112

13. هناك اختلافٌ غیر قلیل فی مولده، فجریدة «السائح» فی عددها الممتاز عام 1927 تذكر بأنه ولدسنة 1889، غیر أنّ الاُستاذ محمد قرة علی فی جریدة «الحیاة» اللبنانیة یقول أنه ساله مولده حین زار لبنان، فأجابه اَبو ماضی باُنهُ ولد عام 1890، اما الاستاذ جورج صیدح فی كتابه «أدبنا و أدبا ؤنا فی المهجر، فقد ذكر أنَّ أبا ماضی ولدعام 1891(عیسی الناعوری: ادب المهجر، ص 375)

14. عیسی الناعوری: ادب المهجر، ص 382 و جاء فی الادب و النصوص: ابراهیم عابدین و آخرون ، ص 334، سنة موته 1958.

15. عبدالمجید الحر: ایلیا ابو ماضی باعث الأمل و مفجر ینابیع التفاؤل . ص 100

16. محمود سلطان: ایلیا ابو ماضی بین الروما نسیة و الواقعیة. ص 258.

17. محمود سلطان: ایلیا ابوماضی بین الرومانسیة و الواقعیة ص 258

18. المصدر نفسه؛ ص 259

19. ایلیا ابوماضی: الدیوان. ص 770

20. سالم المعوش: ایلیا ابوماضی بین الشرق و الغرب فی رحلة التشردو الفلسفة و الشاعریه. ص 352.

21. عیسی الناعوری: ادب المهجر. ص 177 ـ 176.

22. سالم المعوش: ایلیا ابو ماضی بین الشرق و الغرب فی رحلة التشرد و الفلسفه و الشاعریة. ص 356.

23. المصدر نفسه: ص 353.

24. المصدر نفسه: ص 354.

25. ایلیا ابوماضی الدیوان ص 427

26. عیسی الناعوری: ادب المهجر. ص 175

27. عیسی الناعوری: ادب المهجر، ص 176

28. ایلیا ابوماضی: الدیوان، ص 811

28. عزیزة مریدان : القصه الشعریة فی العصر الحدیث. ص 303

29. محمد غنیمی هلال: النقدالأدبی الحدیث. ص80

30 ایلیا ابوماضی: الدیون ص 337

31. عبدالمجید الحر: ایلیا ابوماضی باعث الأمل و مفجرینا بیع التفاول ص 101

32. ایلیا ابوماضی: الدیوان، ص 121.

33. ایلیا الحاوی: ایلیا ابوماضی شاعر التساؤل و التفاؤل، ص 78

34. عیسی الناعوری: ادب المهجر. ص 178

35. ایلیا اَبو، ماضی: الدیوان. ص 667.

36. عبدالمجید عابدین: بین شاعرین مجددین ایلیا ابوماضی و علی محود طه المهندس، ص 104 - 103

37. محمود سلطان: ایلیا ابوماضی بین الرومانسیة والواقعیة. ص 270.

38. الدكتوران احسان عباس و محمد یوسف نجم، ص 254

39. ایلیا ابو ماضی: الدیوان، ص 242

40. محمود سلطان: ایلیا ابوماضی بین الرومانسیه و الواقعیة ص 268- 267

41. ایلیا ابوماضی: الدیوان، ص 125

42. ایلیا الحاوی: ایلیا ابوماضی شاعر التساول و التفاول ص 338 ـ

43. المصدر السابق ، ص 40

44. یوسف عید: المدارس الادیبه و مذاهبها، ص 169 و ایلیا الحاوی: ایلیا ابوماضی، شاعر التفاؤل و التساؤل . ص 178

45. ایلیا ابوماضی: الدیوان، ص 829

46 عیسی الناعوری: ادب المهجر ص 285- 280

47. محمود سلطان: ایلیا ابوماضی بین الرومانسیة و الواقعیه ص 265

48. عبداللطیف شراره: ایلیا ابوماضی ص 53

49. ایلیا ابو ماضی: الجد اول، ص المقدم

فهرس المراجع و المصادر:

1. اَبوماضی، إیلیا: دیوان إیلیا أبوماضی، دارالعودة، بیروت، د. تا.

2. اَبو ماضی، إیلیا: الجداول، دارالعلم للملایین، بیروت، 1986 م.

3. اسماعیل، عزالدین: الشعرالعربی المعاصر، دارالعودة، بیروت، الطبعة الخامسه، 1988.

4. الحاوی، ایلیا: فن الوصف و تطوره فی‌الشعر العربی، دارالكتاب البنانی، بیروت الطبع الثانی ، 1967.

5. الحاوی، ایلیا: ایلیا ابوماضی شاعر التساؤل و التفاؤل، دارالكتاب اللبنانی، بیروت، 1981، م.

6. الحر، عبدالمجید: ایلیا ابو ماضی باعث الأمل و مفجرینا بیع التفاؤل، دارالفكر العربی، بیروت الطبعة الاولی، 1995.

7. خلیل حجا، میشال: الشعرالعربی الحدیث، درالعودة، بیروت، المطبعةالاولی، 1999.م.

8. خفاجی، محمد عبدالمنعم: قصة الادب المهجری، دارالكتاب البنانی، بیروت، 1986.

9. خفاجی، محمد عبدالمنعم: دراسات فی الادب العربی الحدیث و مدراسه، دارالجیل، بیروت، الجزء الاول، 1992 م.

10. خفاجی، محمدعبدالمنعم: دراسات فی‌الادب الجاهلی و الاسلامی، الطبعة الاولی، قاهرة، دارالجیل، 1992م.

11. خورشا، صادق: مجانی الشعرالعربی الحدیث و مدارسه، سازمان سمت، تهران، چاپ اول، 1381.

12. سلطان، محمود: ایلیا ابو ماضی بن الرومانسیه و الواقعیه، منشورات دارالقبس، الكویت، 1979.

13. شراره، عبداللطیف: ایلیا ابوماضی دراسة تحلیلیة، دار بیروت للطباعة و االنشر،بیروت، 1982.

14. الصمیلی، یوسف: الشعر اللبنانی… اتجاهات و مذاهب، دارالوحدة، بیروت، الطبعة الاولی، 1980.

15. ضیف، شوقی: دراسات فی‌الشعر العربی المعاصر، دارالمعارف، مصر، الطبعة السابعة.

16. عابدین، ابراهیم و آخرون: ألادب و النصوص، وزارة التربیة الكویت و ادارة المناهج و الكتب المدرسیة, الطبعة الثالثه عشرة، 1993ـ 1994.م.

17. عابدین، عبدالمجید: بین شاعرین مجددین، ایلیا ابو ماضی و علی محمود طه المهندس دارالمعرفة الجامعیه، اسكندریه، الطبع الثانی.

18. عباس، إحسان و نجم، محمد یوسف: الشعرالعربی فی‌المهجر، امیر كا الشمالیه، دارصا در، بیروت، الطبعة الثالثه، 1982.

19. عید، یوسف: المدارس الأدبیه و مذاهبها، دارالفكرالبنانی، بیروت، الطبعة الاولی. 1994. م.

20. غنیمی هلال، محمد: النقد الادبی الحدیث، بیروت، دارالثافة، 1973 م.

21. الفاخوری، حنا: الجامع فی‌تاریخ الأدب العربی، الحدیث، دارالجیل، بیروت، د.تا.

22. مریدان، عزیزه: القصه الشعریه فی العصر الحدیث، دارالفکر،دمشق، 1984.

23. المعوش، سالم: ایلیا ابوماضی بین الشرق و الغرب، فی‌رحلة النشرد و الفسلفه و الشاعریة، مؤسسة بحسون للنشر و التوزیع، بیروت، الطبعة الاولی، 1997م.

24. الناعوری، عیسی: ادب المهجر، دارالمعارف، مصر، قاهره، 1959.

25. ودیع دیب، اَمین: الشعر العربی فی‌المهجر الأمریكی، دار ریحانی للطباعة و النشر، بیروت، 
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 21:36|

النحو والمنطق الأرسطوطاليسي


إن البصرة كانت أول مدينة في العالم الإسلامي تعني بعلم النحو وتضع أصوله. ومما يجدر ذكره هنا أن البصرة كانت كذلك أول مدينة يترجم فيها المنطق الأرسطوطاليسي.


يقال أن ابن المقفع كان أول من اشتغل بترجمة كتب أرسطو المنطقية في البصرة. وقد ترجمها عن الفارسية. وكان منها كتاب المقولات ( قاطيغورياس)، وكتاب العبارة (باريمينياس)، وكتاب المدخل (إيساغوجي)، وكتاب المقارنة (أنالوطيقا).


وقبل ذلك بزمن قليل نشأ في البصرة مذهب الاعتزال على يد واصل بن عطاء، ونشأ معه علم الكلام. فصارت البصرة من جراء ذلك مباءة للجدل المنطقي والبحث في أصول الدين.


وهذه ظاهرة اجتماعية تلفت النظر فما هو السبب فيها؟ إننا قد عرفنا فيما مضى السبب الذي أدى إلى ظهور علم النحو في البصرة، ونريد الآن أن نعرف السبب الذي أدى إلى ترجمة المنطق ونشوء الاعتزال وعلم الكلام فيها.


معركة الجمل:


في اعتقادي أن نشوب معركة الجمل في البصرة كان من العوامل الرئيسية في ذلك. ومن المؤسف أن نجد المؤرخين لايعنون بهذه الناحية من معركة الجمل. فهم يذكرونها كما يذكرون أية معركة أخرى في التاريخ، إذ لا يجدون فيها غير جيشين يتقاتلان ثم ينتصر أحدهما على الآخر.


الواقع أن لهذه المعركة أهمية فكرية واجتماعية تفوق مالها من أهمية سياسية وعسكرية. وسبب ذلك أنها كانت أول معركة تنشب بين المسلمين في تاريخ الإسلام، حيث اقتتل فيها أناس يؤمنون بدين واحد ويتلون كتاباً واحداً ويصلون إلى قبلة واحدة.


لقد كان المسلمون قبل تلك المعركة يحاربون أقواماً من غير دينهم، وكانوا في حربهم واثقين بأن الحق معهم وأن الباطل مع أعدائهم. وعلى حين غرة جاءت عائشة إلى البصرة تقود جيشاً عرمرماً. ثم يأتي علي بن أبي طالب بجيش آخر فيصطدم الجيشان اصطداماً مريراً أريقت فيه سيول من الدماء.


وهنا لابد لأهل البصرة من أن يتجادلوا ويشتدوا في الجدال. فقد كانوا حائرين يتساءلون عن الحق في أي جانب يكون؟ أيكون الحق مع علي وبهذا تمسي عائشة أم المؤمنين مبطلة، أم يكون الحق مع عائشة فيمسي علي أمير المؤمنين مبطراً؟


ومثل هذا الجدل لا يصل بالناس إلى نتيجة عقلية حاسمة. فكل فريق يملك من البراهين ما يؤيد بها موقفه. فكان علي ينادي الناس من جهة، وكانت عائشة تناديهم من الجهة الأخرى. ووقف كثير من الناس حائرين لا يدرون أين يذهبون.


وقد تمثلت الحيرة يومذاك في الزبير بأجلى مظاهرها. يروي الطبري عنه أنه قال: “ما كنت في موطن، منذ عقلت، إلا وأنا أعرف فيه أمري، غير موطني هذا”. وقد أدت به الحيرة إلى الانسحاب من المعركة والذهاب في الأرض لا يلوي على شيء.


والآن بعد أن مضى على المعركة ثلاثة عشر قرناً، لا يزال المسلمون يتجادلون ويتخاصمون في أمرها دون أن يصلوا إلى نتيجة. فكيف ياترى كان حالهم يوم اشتداد القتل؟


جاء رجل إلى علي بن أبي طالب أثناء المعركة يسأله: “أيمكن أن يجتمع الزبير وطلحة وعائشة على باطل؟” فأجابه الإمام:”انك لملبوس عليك. ان الحق والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال. اعرف الحق تعرف أهله.”


وهذا يدل على مدى الحيرة التي أصابت عقول الناس آنذاك. فلقد التبس الأمر عليهم، وهالهم أن يجدوا علياً ومعه خيرة الصحابة في جانب، ثم يجدوا عائشة ومعها طلحة والزبير في الجانب الآخر. فلابد أن يكون أحد الجانبين على حق، وأن يكون الآخر على باطل. وهذا أمر يصعب عليهم تصوره، وقد كان النبي يقول: “أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم أهديتم.”


النتائج الفكرية:


انتهت المعركة بانتصار علي بن أبي طالب. ورجعت عائشة إلى المدينة. ولكن المعركة الفكرية لم تنته بالرغم من ذلك. فقد بقى الناس يتجادلون ويتلاومون. ومما زاد في الطين بلة انتصار معاوية بعدئذ واستيلائه على الخلافة. وكان من سياسة معاوية أن ينتقص من شأن علي بن أبي طالب وأن يعلى من شأن عائشة.


صارت عائشة في نظر معاوية رمزاً يمثل المطالبة بدم عثمان. ودم عثمان -كما لايخفى - هو الأساس الذي قامت عليه الدولة الأموية.ولهذا أخذت الدولة تقدس عائشة وتشجع الناس على تقديسها في كل سبيل. ففي الوقت الذي صار علي بن أبي طالب يشتم على المنابر، أصبحت عائشة سيدة نساء العالم، وتهافت الناس عليها ليسمعوا من فمها حديث زوجها رسول الله …


أهل البصرة:


وإذ نرجع إلى أهل البصرة نجدهم منقسمين إلى فريقين: عثمانيين وعلويين، والجدل بينهم قائم على قدم وساق. والظاهر أن البصرة فاقت بانقسامها هذا أي قطر آخر. ففيها وقعت معركة الجمل، ولابد أن يكون فيها أناس يذهبون مذهب عائشة في الحزن على عثمان، وآخرون يذهبون مذهب علي بن أبي طالب في الثورة على عثمان وعلى قومه من بني أمية.


أما الأمصار الإسلامية الأخرى فقد اتخذت في الأمر طريقاً واضحاً، إلى هذا الجانب أو ذاك، وقلما نجد فيها ما وجدنا في البصرة من انقسام مذهبي عنيف. وهذا الانقسام لابد أن يؤدي إلى الجدال في مفهوم الحق والباطل وفي المقاييس المنطقية التي تفرق بينهما.


ولا عجب بعد أن يظهر مذهب الاعتزال وعلم الكلام، ثم يترجم المنطق. في البصرة قبل غيرها من الأمصار الإسلامية.


النحو والمنطق:


في مثل هذا الجو المشحون بالجدل المنطقي نشأ النحو العربي. ومن الطبيعي اذن أن يتأثر النحو بالمنطق على وجه من الوجوه. ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد ان ابن المقفع الذي ترجم المنطق كان صديقاُ للخليل بن أحمد الفراهيدي. وكانت بينهما مودة وإعجاب متبادل. ولعل هذا من أسباب مارأينا في الخيل من ميل شديد للقياس حيث استخدمه في النحو استخداماً واسعاً.


ومهما يكن الحال فقد اشتهر نحاة البصرة بأنهم قياسون، إذ جعلوا للقياس المنطقي شأناً كبيراً في وضع قواعدهم، حتى أطلق عليهم لقب أهل المنطق. والمعروف عنهم انهم كانوا يضعون القواعد أولاً، ثم يختارون من الشواهد واللهجات ما يلائم تلك القواعد. فإذا اسمعوا اعرابياًَ ينطق بخلاف اقيستهم أهملوا كلامه وعدوه ملحوناً. أما إذا وجدوا الخلاف في القرآن أو في شاهد لايمكن تخطئته لجأوا إلى التأويل والتعليل.


يقول الأستاذ أحمد أمين عن نحاة البصرة: “فهم قد فضلوا القياس وأمنوا بسلطانه وجروا عليه وأهدروا ماعداه، وإذا رأوا لغتين: لغة تسير مع القياس، ولغة لاتسير عليه، فضلوا التي تسير عليه، وأضعفوا من قيمة غيرها. فهم في الواقع أرادوا أن ينظموا اللغة ولو بإهدار بعضها. وأرادوا أن يكون ماسمع من العرب مخالفاً لهذا التنظيم مسائل شخصية جزئية يتسامحون فيها نفسها ولا يتسامحون في مثلها والقياس عليها حتى لا تكثر فتفسد القواعد والتنظيم، هذا إذا لم يتمكنوا من أن يؤولوا الشاذ تأويلاً يتفق وقواعدهم ولو بنوع تكلف.


النحو في الكوفة:


بعد أن نشأ النحو في البصرة وترعرع، تناوله أهل الكوفة. وهناك ظهرت مدرسة في النحو لها طابع خاص. فقد أخذ نحاة الكوفة يعترضون على نحاة البصرة في إخضاع النحو للقياس، وصاروا يناقشونهم في ذلك نقاشاً عنيفاً أدى في بعض الأحيان إلى الخصومة وسفك الدماء.


يقول أهل الكوفة إن القضايا النحوية سبيلها السماع والاستقراء لا الإمعان المنطقي في القياس. فهم يريدون أن يخضعوا في أحكام النحو للذوق الطبيعي، ويطرحون ما يحول دون إحساسهم بالطبيعة اللغوية من أحكام عقلية وأقيسة منطقية.


إذا سمع الكوفيون من أحد الأعراب مثالاً شاذاَ أخذوا به، إذ هو يمثل في نظرهم لهجة بعينها وينبغي أن يحسب حسابها. فإهدار هذا المثال الشاذ إنما هو إهدار لجانب لغوي لا تتم الدراسة إلا به.


ان مدرسة الكوفة كانت تجري في تطوير النحو على أساس الاحترام المتبادل التام لكل ما يصدر من بادية العرب، كأنها تحسب أهل البادية معصومين من الخطأ. أما مدرسة البصرة فكانت تنظر إلى أهل البادية نظرة التقاط واختيار، وهي لا تنزههم من الخطأ واللحن. وكانت تستخرج القواعد بالقياس على الأعم الأغلب من لغة الأعراب. فإذا وجدت فيه شذوذاً أهدرته ولم تقس عليه.


نتيجة النزاع:


أخذ النزاع بين أهل البصرة والكوفة يخمد تدريجياً بمرور الأيام. والظاهر ان المدرستين تداخلت إحداهما بالأخرى وامتزجتا، فأصبحتا مدرسة واحدة. وكان هذا من سوء حظ النحو العربي.


لقد كان الجدير بالنحاة المتأخرين أن يتبعوا إحدى المدرستين ويهملوا الأخرى. ولكننا رأيناهم يأخذون بآرائهما معاً ويعدون أساتذتهما أئمة في النحو بلا تفريق. فضيعوا على النحو بذلك فرصة كبيرة كان المفروض فيها أن تنقذ النحو من الورطة التي وقع فيها أخيراً.


صار النحاة من جهة يقلدون مدرسة الكوفة في عنايتها بكل ما يروى عن اعراب البادية، وصاروا من الجهة الأخرى يقلدون مدرسة البصرة في عنايتها بالقياس. انهم، بعبارة أخرى، أخذوا يهتمون بكل مايردهم من البادية من شواهد شاذة وغير شاذة، فيقيسون عليها. وبهذا صارت القواعد النحوية في وضعها النهائي معقدة ومتشبعة جداً، فابتعدت عما تقتضيه السليقة الفطرية من بساطة ووضوح.


والذي يدرس القواعد النحوية الموجودة بين أيدينا، دراسة موضوعية، يشعر بأنها قواعد اصطناعية غير طبيعية، وليس من المعقول أن يتكلم بها بشر على هذه الأرض.


انتفاضات نحوية:


لم يخل تاريخ النحو، على كل حال، من انتفاضات صغيرة تنهج نهج الكوفة في الاعتراض على استعمال القياس المنطقي في النحو.


يحدثنا أبو حيان التوحيدي في كتاب “المقابسات” عن بعض المناظرات التي كانت تعرض في القرن الرابع الهجري ويدور النقاش فيها حول المنطق والنحو. ونكاد نتلمح في ثنايا تلك المناظرات صراعاً فكرياً يشبه الصراع الذي نشب بين البصرة والكوفة قبل قرنين. فقد كان بعض المشتركين فيها يريدون أن يصبوا أساليب اللغة العربية في قوالب المنطق الإغريقي، بينما كان البعض الآخر يريد الاعتزاز بخصائص اللغة العربية ويستنكر إخضاعها لمنطق غريب عنها.


وفي المغرب، في عهد الموحدين، ظهر أعظم ثائر على النحو العربي، هو ابن مضاء القرطبي. وقد كتب هذا الرجل ثلاثة كتب هي: (1) المشرق في النحو، (2) تنزيه القرآن عما لا يليق بالبيان، (3) الرد على النحاة. وقد حاول بهذه الكتب أن يهدم نحو سيبويه وأقيسته.


والظنون أن هناك شبهاً كبيراً بين رأي مضاء ورأي الأستاذ ابراهيم مصطفى الذي أشرنا إليه في مقالة ماضية. ولكن رأي ابن مضاء لم يقدر له النجاح. فقد كان الناس مشغوفين بنحو سيبويه، فلم يستطع ابن مضاء أو غيره أن يثنيهم عنه.


ابن مالك:


وفي القرن السابع ظهر ابن مالك. وقد اشتهر هذا الرجل في النحو شهرة سيبويه، وإليه يرجع الفضل في تجميد النحو وصبه في قالبه الأخير. فقد نظم ابن مالك نحو سيبويه ووضحه وفصله وقربه إلى أذهان الناس.


ومن أعمال ابن مالك أنه نظم في النحو أرجوزة تبلغ ألف بيت، جمع فيها قواعد النحو. واشتهرت ألفية ابن مالك هذه شهرة واسعة ونالت حظوة كبيرة، حتى حفظها أكثر المتعلمين في الشرق والغرب، وصارت مرجعاً لطلاب النحو فيما يختلفون فيه، وكثرت عليها الشروح المستفيضة.


ولا تزال المدارس الدينية واللغوية حتى يومنا هذا تعتبر ألفية ابن مالك جزءاً مهماً من مناهجها الدراسية. يكفي الطالب أن يحفظ الألفية حتى يصعر خده للناس ويعد نفسه علامة في النحو. فلا يكاد يعترض معترض حتى يشهر عليه “العلامة” بيتاً من الألفية فيفخمه به.


كان النحاة قبل ظهور الألفية يستطيعون أن يبحثوا ويتجادلوا في بعض مبادئ النحو وقواعده، ولكنهم لم يكادوا يرون القواعد النحوية قد قيدت في أبيات من الشعر حتى رضخوا وسكنوا. واستطيع أن أعد ألفية ابن مالك بداية العهد الذي بدا فيه النحو العربي يدخل في طور الجمود.


الصيغة النهائية:


لاحظ الباحثون المحدثون ان الصيغة النهائية التي جمد فيها النحو العربي متأثرة بالمنطق الأرسطوطاليسي تأثراً كبيراً. يقول الدكتور ابراهيم بيومي مدكور ان النحو العربي تأثر، عن قرب أو بعد، بما ورد على لسان أرسطو في كتبه المنطقية من قواعد نحوية، وأن المنطق الأرسطوطاليسي أثر في النحو من جانبين: أحدهما موضوعي والآخر منهجي. وأريد بالقياس النحوي أن يحدد ويوضع على نحو ماحدده القياس المنطقي.


ومما يلفت النظر في كتب النحاة المتأخرين انهم يسلكون في بحوثهم مسلك المناطقة. وكثيراً مانجد القوانين المنطقية التي جاء بها أرسطو مسيطرة على عقولهم، كأنهم يتصورون القواعد النحوية تجري على نفس النمط الذي تجري عليه ظواهر الكون.


ومن الجدير بالذكر هنا أن القوانين المنطقية القديمة ظهر بطلانها أخيراً، فهي لا تصلح اليوم لتفسير ظواهر الكون. ولكن أصحابنا لا يزالون مصرين على التمسك بهاز وهم لا يكتفون بالاعتماد عليها من الناحية الميتافيزيقية، بل نراهم يعتمدون عليها في تعليل قواعدهم النحوية أيضاً. وهذا دليل على اننا نسير متخلفين عن الركب العالمي بمراحل عديدة.


نظرية العامل في النحو:


من قوانين المنطق القديم: أن لكل شيء سبباً وأن لكل حادث محدثاً. وهذا مايعرف لدى المناطقة بقانون السببية. وقد شغف به النحاة وجعلوه أساساً لعلمهم. ومن هنا نشأت عندهم نظرية العامل. وهي نظرية تشغل حيزاً كبيراً من كتبهم، وتعد أهم موضوع عندهم.


ونظرية العامل هذه تدور حول السبب الذي يجعل الكلمة مرفوعة أو منصوبة أو مجرورة. فالنحاة يرون الحركات الاعرابية تتبدل في الكلمة مرة بعد مرة على نظام مطرد. فقالوا أن هذا التبدل عرض حادث وهو لابد له من محدث كما يقول المناطقة. فما هو هذا المحدث؟ وفي البحث وراء هذا المحدث صار النحاة يخلطون ويخبطون خبط عشواء.


ثم ذهبوا إلى القول بأن اجتماع عاملين على معمول واحد غير ممكن. وهم يستندون في ذلك على قانون عدم التناقض الذي جاء في المنطق القديم. فهم يقولون: إذا اتفق العاملان في العمل لزم تحصيل الحاصل وهو محال، أما إذا اختلفا فالنقيضان يجتمعان في المعمول، حيث يكون مثلاً منصوباً ومرفوعاً في آن واحد، وهذا محال أيضاً.


طبيعة العامل:


لو أنهم جعلوا العامل معنوياً لهان الأمر وصار لبحثهم قيمة. ولكنهم استهانوا بالعامل المعنوي وآثروا عليه العامل اللفظي. فهم يعزون رفع الفاعل مثلاُ إلى الفعل الذي يسبقه. وكان الأولى بهم أن يعزوه إلى الفاعلية أو الإسناد، كما يصنع النحاة في اللغات الحديثة.


نشب جدل بينهم ذات مرة حول العامل الذي جعل المبتدأ والخبر مرفوعين. قال الكوفيون: ان عامل رفع المبتدأ هو الخبر، وعامل رفع الخبر هو المبتدأ. فاحتج عليهم البصريون قائلين: ان الكلمتين لا تتبادلان العمل إذ يكون كل منهما عاملاً ومعمولاً في آن واحد. وحجة البصريين في هذا الشيء لا يمكن أن يكون سبباً ونتيجة في الوقت ذاته. وقد أخذوا ذلك من المناطقة طبعاً.


ومن المبادئ التي نادى بها ابن مضاء القرطبي في إصلاح النحو هو إلغاء نظرية العامل من أساسها. ولكن صيحته لم تلق أذناً صاغية، فماتت في مهدها مع الأسف.


تقدير العامل:


كان من الصعب على النحاة أن يجدوا لكل حركة إعرابية عاملاً لفظياً يأتي قبلها. ولهذا لجأوا إلى التقدير، ووصل بهم الأمر في هذا المجال إلى درجة من السخف لا تطاق.


فإذا جئت لهم على سبيل المثال بجملة ” زيداً رأيته” وسألتهم عن العامل الذي نصب “زيداً” أجابوك انه فعل مستتر تقديره “رأيت”ز وبهذا تصبح الجملة عندهم: “رأيت زيداً رأيته”.


وإذا ذكرت لهم الآية القرآنية: “وإن أحد من المشركين من استجارك….” وسألتهم عن العامل الذي رفع كلمة “أحد” أجابوك انه فعل مستتر تقديره “استجارك” فتصبح الآية: “وان استجارك أحد من المشركين استجارك…”.


دكتاتورية النحاة:


وصار النحاة حكاماً بأمرهم يفترضون العامل كما يشاؤون، فلا يعترض عليهم أحد.


يحكى أن الكسائي كان في مجلس الرشيد ذات يوم فقرأ أبياتاً من الشعر. وكان الأصمعي حاضراً فأراد أن ينافس الكسائي في علمه بالنحو فاعترض على كلمة جاء بها الكسائي مرفوعة. فانتهره الكسائي وقال له: “اسكت، ماأنت وهذا..” ثم أخذ يتباهى على الأصمعي ويأتي بالكلمة مرفوعة ومنصوبة ومجرورة. وكان قادراً أن يخترع في سبيل ذلك ماشاء من العوامل. فسكت الأصمعي، وهبطت مكانته في عين أمير المؤمنين.


ويحكى أيضاً: ان أحد أمراء بني بويه سأل نحوياً عن العامل الذي جعل المستثنى منصوباً في نحو “قام القوم إلا زيداً”ز فقال النحوي أن عامل النصب محذوف تقديره “استثنى زيداً”، وهنا اعترض الأمير فقال: “لماذا لا يمكن تقدير عامل آخر غير ذلك العامل الناصب، حيث يقدر “امتنع زيد”، وبهذا يصبح زيد مرفوعاً. فسكت النحوي…


ويبدو ان النحوي سكت لأن المعترض عليه كان سلطاناً يجلد ويقتل. ولو كان المعترض رجلاً مستضعفاً كالأصمعي لانتهره النحوي وقال له: اسكت، ماأنت وهذا!

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 21:16|
الحداثة - مفهومها ـ نشأتها ـ روادها


مفهوم الحداثة :

قبل أن نخوض فی مفهوم الحداثة الاصطلاحی ، نرى من المفید أن نعرج على مضمونها اللغوی ، فهی مصدر من الفعل " حَدَثَ " ، وتعنی نقیض القدیم ، والحداثة أول الأمر وابتداؤه ، وهی الشباب وأول العمر .

وبهذا المفهوم اللغوی سطعت شمس الحداثة فی عالمنا العربی المعاصر ، وتوافقت مع ما یحمل عصرنا من عقد نفسیة ، وقلق ذاتی من القدیم الموروث ، ومحاولة الثورة علیه ، والتخلص منه ، والبحث عن كل ما هو جدید یتوافق وروح عصر التطور العلمی والمادی ، ویواكب الایدولوجیات الوافد على عالمنا العربی . أما ما تعنیه الحداثة اصطلاحا فهی : " اتجاه فكری أشد خطورة من اللبرالیة والعلمانیة والماركسیة ، وكل ما عرفته البشریة من مذاهب واتجاهات هدامة ، ذلك أنها تضمن كل هذه المذاهب الفكریة ، وهی لا تخص مجالات الإبداع الفنی ، والنقد الأدبی ، ولكنها تخص الحیاة الإنسانیة فی كل مجالاتها المادیة والفكریة على حد سواء " ، وهی بهذا المفهوم الاصطلاحی " اتجاه جدید یشكل ثورة كاملة على كل ما كان وما هو كائن فی المجتمع " . الحداثة فی الأدب المعاصر ـ هل انفض سامرها ، د . محمد مصطفى هدارة ، مجلة الحرس الوطنی ربیع الآخر 1410 هـ .

ویقول أحد الباحثین فی معرض حدیثه عن الحداثة كمنهج فكری یسعى لتغییر الحیاة " إن من دعاوى أهل الحداثة أن الأدب یجب أن ینظر إلیه من الناحیة الشكلیة والفنیة فقط بغض النظر عما یدعوا إلیه ذلك الأدب من أفكار ، وینادی به من مبادئ وعقائد وأخلاق ، فما دام النص الأدبی عندهم جمیلا من الناحیة الفنیة ، فلا یضیر أن یدعو للإلحاد أو الزنا أو اللواط أو الخمریات أو غیر ذلك " عوض القرنی ، الحداثة فی میزان الإسلام ص 47 .

ویقول د . عدنان النحوی فی كتابه الحداثة من منظور إسلامی ص 13 : " لم تعد لفظة الحداثة فی واقعنا الیوم تدل على المعنى اللغوی لها ن ولم تعد تحمل فی حقیقتها طلاوة التجدید ، ولا سلامة الرغبة ، إنها أصبحت رمزا لفكر جدید ، نجد تعریفة فی كتابات دعاتها وكتبهم ن فالحداثة تدل الیوم على مذهب فكری جدید یحمل جذوره وأصوله من الغرب ، بعیدا عن حیاة المسلمین ن بعیدا عن حقیقة دینهم ، ونهج حیاتهم ، وظلال الإیمان والخشوع للخالق الرحمن " .

فالحداثة إذن من منظور إسلامی عند كثیر من الدعاة تتنافى مع دیننا وأخلاقنا الإسلامیة ، وهی معول هدم جاءت لتقضی على كل ما هو إسلامی دینا ولغة وأدبا وتراثا ، وتروج لأفكار ومذاهب هدامة ، بل هی أخطر تلك المذاهب الفكریة ، وأشدها فتكا بقیم المجتمع العربی الإسلامیة ومحاولة القضاء علیه والتخلص منه ، وإحلال مجتمع فكری عربی محله یعكس ما فی هذه المجتمعات الغربیة من حقد وحنق على العالم الإسلامی ، ویروجون بكل اهتمام وجدیه من خلال دعاتها ممن یدعون العروبة لهذه المعتقدات والقیم الخبیثة بغرض قتل روح الإسلام ولغته وتراثه .

وتقول الكاتبة سهیلة زین العابدین فی مقالة نشرت لها فی جریدة الندوة السعودیة الغدد 8424 فی 14 / 3 / 1407 هـ ص 7 : " الحداثة من أخطر قضایا الشعر العربی المعاصر لأنها أعلنت الثورة والتمرد على كل ما هو دینی وإسلامی وأخلاقی ، فهی ثورة على الدین على التاریخ على الماضی على التراث على اللغة على الأخلاق ، واتخذت من الثورة على الشكل التقلیدی للقصیدة الشعریة العربیة بروازا تبروز به هذه الصورة الثوریة الملحدة " .

ویذكر د . محمد خضر عریف فی معرض حدیثه عن الحداثة وتعلیقه على بعض الدراسات التی صدرت حولها من غیر مفكریها وروادها فی الوطن العربی فی كتابه الحداثة مناقشة هادئة لقضیة ساخنة ص 11 و 12 قائلا : " إننا بصدد فكر هدام یتهدد أمتنا وتراثنا وعقیدتنا وعلمنا وعلومنا وقیمنا ، وكل شیء فی حاضرنا وماضینا ومستقبلنا " ، ویفرق الدكتور / خضر عریف فی كتابة الحداثة مناقشة هادئة لقضیة ساخنة بین مصطلح الحداثة والتجدید والمعاصر فیقول : " والذی یدفع إلى ذلك الظن الخاطئ هو الخلط بین مصطلح الحداثة ( modernism ) ، والمعاصرة ( modernity ) ، والتحدیث ( modernization ) وجمیع تلك المصطلحات كثیرا ما تترجم إلى " الحداثة " على ارعم من اختلافها شكلا ومضمونا وفلسفة وممارسة . والواقع أن الاتجاه الفكری السلیم یتفق مع التحدیث ، ولكنه لا یتفق مع الحداثة . وإن یكن مصطلحا modernity و modernization یمكن الجمع بینهما لیعنیا المعاصرة أو التجدید ، فإن مصطلح modernism یختلف عنهما تماما . إذ ینبغی أن نفرق بین مصطلحین أجنبیین ، من المؤسف أن كلیهما یترجم ترجمة واحدة وهی ( الحداثة ) أما المصطلح الأول فهو : modernity الذی یعنی إحداث تجدید وتغییر فی المفاهیم السائدة المتراكمة عبر الأجیال نتیجة وجود تغییر اجتماعی أو فكری أحدثه اختلاف الزمن .

أما الاصطلاح الثانی فهو modernism ویعنی مذهبا أدبیا ، بل نظریه فكریة لا تستهدف الحركة الإبداعیة وحدها ، بل تدعو إلى التمرد على الواقع بكل جوانبه السیاسیة والاجتماعیة والاقتصادیة . . . وهو المصطلح الذی انتقل إلى أدبنا العربی الحدیث ، ولیس مصطلح modernity الذی یحسن أن نسمیه المعاصرة ، لأنه یعنی التجدید بوجه عام دون الارتباط بنظریة ترتبط بمفاهیم وفلسفات متداخلة متشابكة .

ونحن فی تعریفنا لمفهوم الحداثة لا نرید أن نتوقف عند ما قال به خصومها ، ولكن لا بد أن نتعرف علیه مما قال به أصحابها ومفكروها وسدنتها أیضا . یقول على أحمد سعید الملقب بأودنیس وهو من رواد الحداثة العربیة ومفكریها رابطا بینها وبین الحریة الماسونیة : " إن الإنسان حین یحرق المحرم یتساوى بالله " . ثم یتنامى المفهوم الماسونی لكلمة الحریة إلى صیغته التطبیقیة الكاملة فی قوله " : إن التساوی بالله یقود إلى نفیه وقتله ، فهذا التساوی یتضمن رفض العالم كما هو ، أو كما نظمه الله ن والرفض هنا یقف عند حدود هدمه ، ولا یتجاوزها إلى إعادة بنائه ، ومن هنا كان بناء عالم جدید یقتضی قتل الله نفسه مبدأ العالم القدیم ، وبتعبیر آخر لا یمكن الارتفاع إلى مستوى الله إلا بأن یهدم صورة العالم الراهن وقتل الله نفسه " محاضرة الحداثة والتراث د . محمد هدارة .

وقد عرف رولان بارت الحداثة بأنها انفجار معرفی لم یتوصل الإنسان المعاصر إلى السیطرة علیه فیقول : " فی الحداثة تنفجر الطاقات الكامنة ، وتتحرر شهوات الإبداع فی الثورة المعرفیة مولدة فی سرعة مذهلة ، وكثافة مدهشة أفكارا جدیدة ، وأشكالا غیر مألوفة ، وتكوینات غریبة ، وأقنعة عجیبة ، فیق بعض الناس منبهرا بها ، ویقف بعضهم الآخر خائفا منها ، هذا الطوفان المعرفی یولد خصوبة لا مثیل لها ، ولكنه یغرق أیضا " محاضرة الحداثة والتراث د . محمد هدارة .

ویتابع الدكتور هدارة قائلا : كما یصفها بعض الباحثین الغربیین " بأنها زلزلة حضاریة عنیفة ، وانقلاب ثقافی شامل ، وأنها جعلت الإنسان الغربی یشك فی حضارته بأكملها ، ویرفض حتى أرسخ معتقداته الموروثة " .

جذور الحداثة فی الغرب

ظهر تیار الحداثة فی الغرب نتیجة للمد الطبیعی الذی دخلته أوروبا منذ العصور الوثنیة فی العهدین الیونانی والرومانی ، امتدادا إلى عصر الظلمات ، مرورا بالعصور المتلاحقة التی تزاحمت بكل أنواع المذاهب الفكریة ، والفلسفات الوثنیة المتناقضة والمتلاحقة ، وقد كان كل مذهب عبارة عن ردة فعل لمذهب سابق ، وكل مذهب من هذه المذاهب كان یحمل فی ذاته عناصر اندثاره وفنائه .

لقد عشق الغرب شتى المذاهب والتیارات الفكریة بدءا من اعتناق الوثنیة ، وانتهاء بالانفجار الفكری الیائس الذی عرف بالحداثة ، مرورا بالمسیحیة وما ترتب علیها من مفاسد الكنیسة وظلمها وظلامها ، وبالطبیعة التی هجرها شعراؤها وكتابها لیعشقوا الواقعیة المزیفة التی ما لبثوا أن هجروها هربا إلى الكفر والإلحاد بالله كفرا صریحا جاهرا ، ثم تحولوا بكفرهم حاملینه من بعد یأس على كواهلهم باحثین عن الخلاص الذی ینتشلهم من غرقهم الإلحادی لیجدوا أنفسهم یغوصون فی وحول المادیة التاریخیة ، والجدلیة السفسطائیة ، غیر أنهم لم یجدوا ضالتهم فیما بحثوا عنه فارتدوا هاربین لیلقوا بأنفسهم فی أحضان الفن للفن ، ولكنهم لم تستقر لهم حال فتخبطوا خبط عشواء حتى استقر بهم السبیل إلى مهاوی الوجودیة التی كشفت عن كل شیء فجعلت الحریة فوضى ، والالتزام تفلتا ، والإیمان بالأشیاء كفرا " فلم یعد فی حیاة الغربی إلا أن تنفجر هذه المذاهب انفجارا رهیبا یحطم كل شیء ، یحطم كل قیمة ، لتعلن یأس الإنسان الغربی وفشله فی أن یجد أمنا أو أمانا " الحداثة من منظور إیمانی ص 17 . وقد جاءت الحداثة لتمثل هذا الانفجار الفكری الرهیب الیائس ، انفجار الإنسان الذی لا یعرف الأمن والأمان فی ذاته آلاف السنین .

وقد اختلف كثیر من الذین أرخوا ونظروا للحداثة الغربیة حول بدایاتها الأولى ، وعلى ید من من كتابهم ظهرت ونشأت ، ورغم ذلك یتفق بعضهم على أن إرهاصاتها المبكرة بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر المیلادی على یدی " بودلیر " الفرنسی صاحب دیوان " أزهار الشر " . ولكنها لم تنشأ من فراغ ، بل هی امتداد لإفرازات المذاهب والتیارات الفكریة ولاتجاهات الأدبیة والایدلوجیة المتعاقبة التی عاشتها أوروبا فی القرون الخوالی ، والتی قطعت فیها صلتها بالدین والكنیسة وتمردت علیه ، وقد ظهر ذلك جلیا منذ ما عرف بعصر النهضة فی القرن الخامس عشر المیلادی ، عندما انسلخ المجتمع الغربی عن الكنیسة وثار علی سلطاتها الروحیة ، التی كانت بالنسبة لهم كابوسا مخیفا ، وسیفا مسلطا على رقابهم محاربا لك دعوة للعلم الصحیح ، والاحترام لعقل الإنسان وتفكیره ، وفكره . وكان من الطبیعی أن نرى تخبط الغرب ، وتقلباته وثوراته على كل شیء من حوله ، ما دام لا توجد أرضیة صلبة مستویة ینطلق منها ، لتصور مقبول للحیاة والإنسان والكون عامة ولا توابث قویة لهم لتكون مرتكزا یتكئون علیه نحو تقدمهم المادی ، ورقیهم الفكری والحضاری ، مما أدى إلى ظهور كثیر من المتناقضات والتضاد ، وأن یهدموا الیوم بمعاول التمرد والثورة ما بنوه بالأمس ، إضافة إلى انعدام الروابط المتینة بین هذه الأفكار على اختلاف مشاربها وتباین اتجاهاتها سوى أنها تلتقی فی مستنقع المادیة الملحدة ، لذا نجدهم یتقلبون خلال المذاهب الفكریة والأدبیة التی ووسمتهم بخاتمها ، وطبعتهم بطابعها ، ولونتهم باتجاهاتها فتولدت عندهم الكلاسیكیة التی كانت امتدادا طبیعیا لنظریة المحاكاة والتقلید التی أطلقها أرسطو ، والتی تعنی أن الإنسان محدود الطاقات ، متمسك بأهداب التقلید ، مع المیل إلى التحفظ واللیاقة ، ومراعاة المقام ، والخیال المركزی المجند فی خدمة الواقع .

تم تأسس الاتجاه الرومانسی على أنقاض الكلاسیكیة التی وقفت عاجزة أمام تحقیق ما كان یصبو إلیه الغرب من التخلص من آثار القدیم ومحاكاته ، فوجدوا ضالتهم فی مذهب توری متمرد على كل أشكال القدیم وآثاره ، فقدست الرومانسیة الذات ، ورفضت الواقع ، وثارت على الموروث ، وادعت أن الشرائع والعادات والتقالید هی التی أفسدت المجتمع ، ویجب العمل على تحطیمها ، والتخلص منها ، ولكن الأمر غیر المتوقع مع ما نادت به الرومانسیة ، وجاهدت من أجل تحقیقه أنها قد فشلت فشلا ذریعا فی تعییر الواقع ، فأوغل دعاتها فی الخیال والأحلام ، والتحلیق نحو المجهول .

وقد تحول الغرب كما هی طبیعته فرارا من المجهول إلى المجهول ، ومن الضلال إلى الضلال ، ومن اللاواقع إلى ما هو أبعد من اللاواقع وكان ذلك دیدنهم على مدى قرون طوال یبحثون عن لا شیء لعلهم یجدون ذواتهم الضائعة فی اتجاه جدید یخلصهم من معاناتهم وضیاعهم وتیه نفوسهم ، فاتجهوا نحو ما عرف بالبرناسیة ، ثم فروا منها لإلى ما عرف بالواقعیة التی تطورت فیما بعد إلى الرمزیة التی كانت حلقة الوصل بین تلك المذاهب الفكریة والأدبیة وبین ما عرف الیوم بالحداثة ، وعلاقتها بالجانب الأدبی على أقل تقدیر ، وكان على رأس المذهب الرمزی الكاتب والأدیب الأمریكی المشهور " إدغار آلان بو " الذی تأثر به رموز الحداثة وروادها فی العرب أمثال مالارامیه ، وفالیری ، وموبسان ، كما كان المؤثر الأول والمباشر فی فكر وشعر عمید الحداثیین فی الغرب والشرق على حد سواء الشاعر الفرنسی المشهور " بودلیر " كما ذكرنا آنفا .

وقد نادى إدغار بأن یكون الأدب كاشفا عن الجمال ، ولا علاقة له بالحق والأخلاق ، وهذا ما انعكس على حیاته بشكل عام ، حیث كان موزعا بین القمار والخمر والفشل الدراسی والعلاقات الفاسدة ، ومحاولة الانتحار . وعلى خطا إدغار سار تلمیذه بودلیر ممعنا فی الضلال ومجانبا للحق والفضیلة .

ویعد بودلیر مؤسس تیار الحداثة من الناحیة الفنیة الأدبیة ، والذی نادى بالغموض فی الأحاسیس والمشاعر ، والفكر والأخلاق ، كما قام المذهب الرمزی الذی أراده على تغییر وظیفة اللغة الوضعیة بإیجاد علاقات لغویة جدیدة تشیر إلى مواضع لم تعهدها من قبل . . . ویطمح أیضا إلى تغییر وظیفة الحواس عن طریق اللغة الشعریة ، لذا لا یستطیع القارئ ، أو السامع أن یجد المعنى الواضح المعهود فی الشعر الرمزی . كما یذكر د . عبد الحمید جیدة فی كتابه الاتجاهات الجدیدة فی الشعر العربی المعاصر ص 121 . ومما لا جدال فیه أن الحداثة كمذهب أدبی تجدیدی قامت فی أساسها الأول على الغموض وتغییر اللغة ، والتخلص من الموروث بكل أشكاله ، وأجناسه ، وتجاوزهم للسائد والنمطی .

وكان بودلیر الذی نمت وترعرعت على یدیه بذرة الحداثة من أسوأ ما عرفت الآداب العالمیة خلقا وإمعانا فی الرذیلة ، وممارسة لكل ما یتنافی مع الأخلاق والعقیدة . یقول عنه مصطفى السحرتی فی مقدمة ترجمة دیوان أزهار الشر لبودلیر " لقد كانت مراحل حیاته منذ الطفولة نموذجا للضیاع والشذوذ ، ثم بعد نیل الشهادة الثانویة قضى فترة فی الحی اللاتینی ، حیث عاش عیشة فسوق وانحلال ، وهناك أصیب بداء الزهری ، وعاش فی شبابه عیشة تبذل ، وعلاقات شاذة مع مومسات باریس ، ولاذ فی المرحلة الأخیرة من حیاته بالمخدرات والشراب " .

ویقول عنه الشاعر إبراهیم ناجی مترجم دیوان أزهار الشر " لإن بودلیر كان یحب تعذیب الآخرین ویتلذذ به ، وكان یعیش مصابا بمرض انفصام الشخصیة " .

ولم یكن الطعن على شخصیة بودلیر متوقفة على بعض الشعراء والنقاد العرب الذین عرفوه من خلال شعره ، وعایشوه فی مرحلة زمنیة معینة فی النصف الأول من القرن العشرین ، بل كان لأبناء جلدته أقوالا وآراء كثیرة حول هذه الشخصیة الحیة المیتة ، یقول عنه أحد كتاب الغرب : " إن بودلیر شیطان من طراز خاص " . ویقول عنه آخر : " إنك لا تشم فی شعره الأدب والفن ، وإنما تشم منه رائحة الأفیون " عوض القرنی : الحداثة فی میزان الإسلام ص 23 .

وقد عرف بودلیر إضافة إلى ما عرف عن شخصیته الذاتیة بنزعته الماركسیة الثوریة الفردیة التی لا تنسجم مع المثل والمبادئ التی ینادی بها عصره آنذاك . یقول عنه محمد برادة فی مجلة فصول العدد الثالث ص 13 ، 14 : " إن الخیبة التی انتهى إلیها بودلیر من مراهنته على حداثته ، لیس فقط أنه یعانی موت الجمال ویبكیه ، بل یعانی كذلك غیابا ، لا غیاب الله ، أو موته ، بل أكثر من ذلك ، فالحداثة تغلف ، وتقنّع غیاب البراكسیس وإخفاقه بمعناه الماركسی ، الباركسیسی الثوری الشامل ، وأنها تكشف هذا الغیاب ، وستكون الحداثة داخل المجتمع البرجوازی هی ظل الثورة الممكنة " . كما یقول عنه غالی شكری فی كتابه شعرنا الحدیث إلى أین ص 16 " وقدیما كان بودلیر نبیا للشعر الحدیث ، حیث تبلور إحساسه المفاجئ العلیل بحیاة فردیة لا تنسجم مع المثل الذی ینادی بها العصر الذی یعیش فیه " .

ثم أعقب بودلیر رائد من رواد الحداثة فی الغرب وهو رامبو الذی لا یقل شأنا عنه فی المناداة إلى الهدم العقلانی لكل الحواس ، وأشكال الحب والعذاب والجنون ، ودعا إلى أن یكون الشعر رؤیة ما لا یرى ، وسماع ما لا یسمع ، وفی رأیه أن الشاعر لا بد أن یتمرد على التراث ن وعلى الماضی ، ویقطع أی صلة مع المبادئ الأخلاقیة والدینیة ، وتمیز شعره بغموضه ، وتغییره لبنیة التراكیب ، والصیاغة اللغویة عما وضعت علیه ، وتمیز أیضا بالصور المتباعدة المتناقضة الممزقة كما یذكر د . عبد الحمید جیدة فی كتابه الاتجاهات الحدیثة فی الشعر العربی المعاصر ص 148 .

وقد تعاقب ركب الحداثیین فی الغرب ، وسلكوا نفس الطریق الذی بدأه بودلیر ، ورامبو ، وساروا على نهجهما ، ومن هؤلاء مالارمییه ، وبول فالیری ، حتى وصلت الحداثة الغربیة شكلها المتكامل النهائی على ید الأمریكی الیهودی عزرا باوند ، والإنجلیزی توماس الیوت .

وغدت الحداثة الغربیة سلسلة متصلة الحلقات یتناقلها اللاحقون عن السابقین ، وهی إلى جانب ذلك متصلة شدیدة الاتصال بما سبقها من وجودیة ورمزیة وسریالیة ومادیة جدلیة ومادیة تاریخیة وواقعیة واشتراكیة علمیة وبرناسیة ، ورومانسیة ، وبكثیر من الأفكار والمبادئ والتیارات التی كانت قاعدة لها ، ومنطلقا فكریا مدها بكل ما حملته تلك المذاهب من فكر وأیدلوجیات ، وتمرد على كل ما هو سائد وموروث ، وتجاوزت حدود الأدب واللغة لیطال الدین والأخلاق والقیم والعلم . فهی تحطیم للماضی والحاضر والمستقبل . وهكذا نمت الحداثة الغربیة وترعرعت فی أوحال الرذیلة ، ومستنقعات اللاأخلاق ، وأینعت ثمارها الخبیثة على أیدی الشیوعیین من أمثال نیرودا ، ولوركا ، وناظم حكمت ، وفتشنكو ، والوجودیین أمثال سارتر ، وسیمون دی بوفوار ، وألبیر كامو ، وآتت أكلها على أیدی الجیل المنظر والداعم لها والمحفز على السیر فی ركابها من أمثال ألوی أراجون ، وهنری لوفیفر ، وأوجین جراندال ، ورولان بارت ، ورومان یاكوبسون ، ولیفی شترواس ، وبیاجیه ، وغیرهم كثر .
الحداثة العربیة

تسللت الحداثة الغربیة إلى أدبنا ولغتنا العربیة وفكرنا ومعتقداتنا وأخلاقیاتنا كما تتسلل الأفعى الناعمة الملمس لتقتنص فریستها ، أن تشعر الفریسة بها إلا وهی جثة هامدة تزدردها رویدا رویدا ، هكذا كان تسلل الحداثة إلى عقول معتنقیها وروادها وسدنتها من أدباء ونقاد ومفكرین على امتداد الوطن العربی . وهی كغیرها من المذاهب الفكریة ، والتیارات الأدبیة التی سبقتها إلى البیئة العربیة كالبرناسة ، والواقعیة ، والرمزیة ، والرومانسیة ، والوجودیة ، وجدت لها فی فكرنا وأدبنا العربی تربة خصبة ، سرعان ما نمت وترعرعت على أیدی روادها العرب ، أمثال غالی شكری ، وكاهنها الأول والمنظر لها على أحمد سعید المعروف " بأدونیس " ، وزوجته خالدة سعید من سوریا ، وعبد الله العروی من المغرب ، وكمال أبو دیب من فلسطین ، وصلاح فضل ، وصلاح عبد الصبور من مصر ، وعبد الوهاب البیاتی من العراق ، وعبد العزیز المقالح من الیمن ، وحسین مروة من لبنان ، ومحمود درویش ، وسمیح القاسم من فلسطین ، ومحمد عفیفی مطر ، وأمل دنقل من مصر ، وعبد الله القذامی ، وسعید السریحی من السعودیة ، وغیرهم .

وقد أشار غالی شكری فی كتابه الشعر الحدیث إلى أین إلى الروافد التی غذت بذرة الحداثة العربیة فقال : " كانت هذه المجموعة من الكشوف تفصح عن نظرة تاریخیة تستضیء بالماضی لتفسر الحاضر ، وتنبئ بالمستقبل . فالمنهج الجدلی ، والمادیة التاریخیة یتعرفان على أصل المجتمع ، ثم یفسران أزمة العصر ، أو النظام الرأسمالی ، ثم یتنبآن بالمجتمع الاشتراكی الذی ینعدم فیه الصراع الطبقی " .

ویقول أدونیس فی كتابه التابث والمتحول كما ذكر الدكتور محمد هدارة فی مقال له نشر فی مجلة الحرس الوطنی السعودی : " لا یمكن أن تنهض الحیاة العربیة ، ویبدع الإنسان العربی إذا لم تنهدم البنیة التقلیدیة السائدة للفكر العربی ، ویتخلص من المبنى الدینی التقلیدی الاتباعی " . وهذه الدعوة الصریحة والخبیثة فی حد ذاتها دعوة جاهرة للثورة على الدین الإسلامی ، والقیم والأخلاق العربیة الإسلامیة ، والتخلص منها ، والقضاء علیها .

ثم یقول أدونیس أیضا فی مقابلة أجرتها معه مجلة فكر وفن عام 1987 م : " إن القرآن هو خلاصة ثقافة لثقافات قدیمة ظهرت قبله . . . وأنا أتبنى التمییز بین الشریعة والحقیقة ، إن الشریعة هی التی تتناول شؤون الظاهر ، والحقیقة هی التی یعبرون عنها بالخفی ، والمجهول ، والباطن ، ولذلك فإن اهتمامی بالمجهول ربما یأتی ، ویتغیر باستمرار ، وهذا ما یتناقض مع الدین " .

مما سبق یتضح أن رواد الحداثة لم یكونوا دعاة للتجدید بمفهومه المتعارف علیه فی اللغة ولا یعنی بالأدب والشعر كما یدعون ، وإنما هم دعاة للهدم والتخریب ، كما یعلنون عن ذلك صراحة فی كتبهم النقدیة ودواوینهم الشعریة ومؤلفاتهم بشكل عام . فقد ضل كثیر منهم یخلط بین الحداثة كمنهج فكری ، یدعو إلى الثورة والتمرد على الموروث والسائد والنمطی بأنواعه المختلفة عقیدا ولغة وأدبا وأخلاقا ، وبین المعاصرة والتجدید الذی یدعو إلى تطویر ما هو موجود من میراث أدبی ولغوی ، والإضافة علیه بما یواكب العصر ، ویتواءم مع التطور ، منطلقا من ذلك الإرث الذی لا یمكن تجاوزه بحال من الأحوال ، فهو عنوان الأمة ، ورمز حضارتها ، والأمة التی لا موروث لها لا حضارة لها ، وجدیدها زائف ممجوج .

وقد تسللت الحداثة الغربیة إلى فكرنا العربی فی غفلة دینیة لدى الكثیرین من المثقفین العرب المسلمین ، وإن كان القلة منهم هم الذین تنبهوا لهذا الخطر الداهم للغتهم وعقیدتهم وأدبهم على حد سواء ، فحاولوا التصدی لها بشتى الطرق والوسائل المتاحة والممكنة ، ولكن سدنتها كانوا أسرع إلى التحایل على الجهلة وأنصاف المثقفین ممن یدعون أنهم منفتحون على الفكر الغربی وثقافته ، ولا بد أن یواكبوا هذا التطور ویتعاملوا معه بما یقتضیه الواقع ، وإن كان واقعا مزیفا لا یخطف بریقه إلا عقول الجهلاء والأتباع . فأخذ دعاتها على عواتقهم تمریر هذه البدعة الجدیدة ، وجاهدوا فی الوصول إلى أغراضهم الزائفة حتى استطاعوا أن یقنعوا الكثیرین بها باعتبارها دعوة إلى التجدید والمعاصرة تهدف إلى الانتقال بالأدب العربی المتوارث نقلة نوعیة جدیدة تخلصه مما علق به من سمات الجمود والتخلف لیواكب التطور الحضاری الذی یفرضه واقع العصر الذی نعیشه ، والذی تفرضه سنن الحیاة . لذلك نجد أدونیس یقول فی كتابه الثابت والمتحول ج 3 ص 9 : " ومبدأ الحداثة هو الصراع القائم بین السلفیة والرغبة العاملة لتغییر هذا النظام ن وقد تأسس هذا الصراع فی أثناء العهدین الأموی والعباسی ، حیث نرى تیارین للحداثة : الأول سیاسی فكری ، ویتمثل من جهة فی الحركات الثوریة ضد النظام القائم ، بدءا من الخوارج ، وانتهاء بثورة الزنج ، مرورا بالقرامطة ، والحركات الثوریة المتطرفة ، ویتمثل من جهة ثانیة فی الاعتزال والعقلانیة الإلحادیة وفی الصوفیة على الأخص " .

ثم یواصل أدونیس حدیثة قائلا : " هكذا تولدت الحداثة تاریخیا من التفاعل والتصادم بین موقفین وعقلیتین فی مناخ تغیر ، ونشأت ظروف وأوضاع جدیدة ، ومن هنا وصف عدد من مؤسسی الحداثة الشعریة بالخروج " المرجع السابق ج3 ص11 .

ویعتبر أدونیس المنظر الفكری للحداثیین العرب الذی أخذ على عاتقه نبش كتب التراث لیستخرج منها كل شاذ ومنحرف من الشعراء والأدباء والمفكرین من أمثال بشار بن برد وأبی نواس ، لأن فی شعرهم كثیر من المروق على الإسلام ، والتشكیك فی العقائد ، والسخریة منها ، والدعوة للانحلال الجنسی كما یذكر عوض القرنی فی كتابه الحداثة فی میزان الإسلام ص 28 . ویواصل القرنی حدیثه : " وهكذا بعد أن حاول الحداثیون العرب أن یوجدوا لهم جذورا تاریخیة عند فساق وزنادقة ، وملاحدة العرب فی الجاهلیة والإسلام ، انطلقت سفینتهم غیر الموفقة فی العصر الحدیث تنتقل من طور إلى آخر متجاوزة كل شیء إلى ما هو أسوء منه ، فكان أول ملامح انطلاقتهم الحدیثة هو استبعاد الدین تماما من معاییرهم وموازینهم بل مصادرهم ، إلا أن یكون ضمن ما یسمونه بالخرافة ، أو الأسطورة ، ویستشهد على صحة قوله بما نقله عن الكاتبة الحداثیة خالد سعید فی مجلة فصول بعنوان الملامح الفكریة للحداثة حیث تقول : " إن التوجهات الأساسیة لمفكری العشرینات تقدم خطوطا عریضة تسمح بالمقول إن البدایة الحقیقیة للحداثة من حیث هی حركة فكریة شاملة ، قد انطلقت یوم ذاك ، فقد مثل فكر الرواد الأوائل قطیعة مع المرجعیة الدینیة والتراثیة كمعیار ومصدر وحید للحقیقة ، وأقام مرجعین بدیلین : العقل والواقع التاریخی ، وكلاهما إنسانی ، ومن ثم تطوری ، فالحقیقة عن رائد كجبران ، أو طه حسین لا تلمس بالعقل ، بل تلمس بالاستبصار عند جبران ، والبحث المنهجی العقلانی عند طه حسین " الحداثة فی میزان الإسلام ص 29 ، 30 عوض القرنی .

ومن دعاة الحداثة العربیة ـ وهم كثر ـ نذكر منهم على سبیل المثال ، علی أحمد سعید " أدونیس " وزوجته خالد سعید، وعبد الله العروی ، وكمال أبودیب ، وصلاح فضل، وصلاح عبد الصبور ، وعبد العزیز المقالح، وحسین مروة، ومحمد عفیفی مطر ، وأمل دنقل وعبد الوهاب البیاتی، ومحمود درویش ، وسمیح القاسم ، وعبد الله الغذامی ، وسعید السریحی ، وعبد الصیخان ، ومحمد التبیتی ، وأحمد نائل فقیه من المملكة العربیة السعودیة .

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 19:42|
المقامات الأندلسیّة

لقد تأثر الأندلسیون بمقامات البدیع الهمذانی وخلفه الحریری تأثراً جلیاً، إذ كان من الطبیعی أن تثیر إنجازاتهما إعجاباً بین الأدباء، وتخلق تیاراً من المحاكاة فی میدان الكتابة عموماً وفی فن كتابة المقامات خصوصاً.

وبدخول الأندلس عهد ملوك الطوائف كانت مقامات الهمذانی ورسائله قد انتشرت انتشاراً واسعاً حتى غدا الكثیر من الأدباء یؤلفون فی هذا الصنف من الأدب.

وفی مقدمة هؤلاء ابن شرف القیروانی الذی كتب مقامات تحدى بها البدیع فی حماه، كما قال ابن بسام(1). وابن بسام هذا أورد مقتطفات لكاتبین من كتاب المقامات...

وأبو محمد بن مالك القرطبی اللذان كانا یقیمان فی المریة فی عهد المعتصم ابن صمادح (443-483هـ/ 1051-1091م)(2).

وما دمنا بصدد الكلام عن أثر الهمذانی وأسلوبه فی الأندلس، یمكننا القول إن أثر مقاماته كان محصوراً فی دائرة ضیقة إذا ما قورن بأثر رسائله التی لاقت ترحیباً حاراً من ابن شُهید الذی استخدمها نموذجاً لنثره الذی انغمس فیه بوصف مفصل لأشیاء كثیرة كالماء والبراغیث والثعالب والحلویات(3) كما لاقت ترحیباً من أبی المغیرة ابن حزم الذی ألف رسالة یحاكی بها إحدى رسائل البدیع(4).

ظهرت مقامات الحریری فی مطلع عهد المرابطین وسرعان ما تداولها الناس على نطاق واسع. ویخبرنا ابن الأبار أن العدید من الأندلسیین سمعوا الحریری یبسط مقاماته فی حدیقته ببغداد، ثم عادوا إلى الأندلس لینشروا ما سمعوا(5). وبعد موت الحریری تابع تلامیذه بدورهم بسط المقامات باعتبارهم معتمدین من قبل أسیادهم(6).

درس الأندلسیون المقامات أیام المرابطین والموحدین على أیدی هؤلاء وتلامذتهم(7).

ولم یكتف الأندلسیون بدراسة المقامات ونقلها، بل أنشؤوا تعلیقات علیها أشهرها تعلیق الشریشی الذی قرأ التعلیقات السابقة كلها، وعندما عثر على تعلیق الفنجدیهی نقح كل شیء كتبه من قبل(8).

وما یعنینا فی هذه المقالة هو المقامة كما كتبها الأندلسیون، وخصوصاً تلك المقامات التی بقیت مخطوطات لمّا تنشرْ.

وكان أول من كتب فی هذا اللون الأدبی من الأندلسیین "ذو الوزارتین" أبو عبد الله محمد بن مسعود بن أبی الخصال (465-540 هـ/ 1073-1146م)(9) وعلى الرغم من تأثره بالحریری، كانت مقاماته تتصف بخصائص متمیزة، سواء فی الشكل أو فی الأسلوب. ومن الأمثلة على ذلك مقامة نجدها فی مجموعة رسائله المحفوظة فی مكتبة الاسكوریال مخطوطة رقم 519 یحاكی فیها الحریری محاكاة تامة حتى إنه سمى أبطال مقامته هذه بأسماء بطلی الحریری، أی "الحارث بن همام وأبو زید السروجی"(10).

كان المشهد فی الریف، حیث یصف ابن أبی الخصال ممثلاً شخص الحریری فرحة الریفیین بشؤبوب المطر الغزیر عندما فاضت الأنهار وانتعشت الخضار. وفیما هو یتجول فی الریف یلتقی حشداً من الناس تجمعوا حول بیت حیث كان یخاطبهم شیخ ببلاغة فائقة.

فجمع له الناس مالاً وفیراً، ورجاه الحارث أن یبیت عنده فی بیته قاصداً سرقته. ولكن غایته أحبطت، إذ تظاهر الشیخ بالنوم، وعندما استیقظ الحارث لم یجد الشیخ. لقد انسل الشیخ من فراشه تاركاً قصاصة من الورق كتب علیها ثلاث قصائد. الأولى من عشرة أبیات والثانیة من أربعة عشر بیتاً یبسط فیها الشیخ ما أصاب من الحب وما عاناه منه. أما الثالثة فمن تسعة عشر بیتاً یشكر فیها الریفیین على اللطف الذی غمروه فیه.

ثم یكتشف الحارث بن همام أن العجوز لم ینصرف عنه إلا لیذهب إلى الحانة حیث أنفق ماله كله، ثم أودع السجن بسبب الدیون التی ترتبت علیه لصاحب الحانة. وهنا یقدم ابن أبی الخصال وصفاً دقیقاً مفصلاً ورائعاً للحانة وزبائنها والعاملین فیها.

وجاء هذا الوصف على لسان الحارث بن همام عندما قدم الحانة وجال فیها بحثاً عن العجوز، وأخیراً قضى وقتاً لیس قصیراً یحاول إقناع صاحب الحانة أن یتیح له رؤیة ذلك العجوز. ثم یقول الحارث: "وعلى غُرّة فاجأناه".

ثم یجری حدیث مطول بین الرجلین، یطلب بعده الحارث من العجوز أن یخلد له اسمه بالشعر، فیضطر العجوز أن یقول فیه قصیدة من ثمانیة عشر بیتاً.

إننا نجد من هذا العرض الموجز أن هذه المقامة تختلف عن مقامات الحریری من حیث الشكل، فهی أطول ومن حیث مادتها أیضاً؛ إذ هی لا تعالج حكایة واحدة خاصة فحسب، بل تحكی سلسلة من الأحداث یرتبط بعضُها ببعض من خلال شخصیة البطل، العجوز.

وهی أشبه بعدة مقامات منفصلة تتضمن سلسلة من المعالم، كصورة الریف والفلاحین، وبیوتهم، وصورة الجمهور وكرمه، وصورة الحانة واللقاء الأخیر بین الشیخ والحارث.

ومن الواضح أن غایة ابن أبی الخصال كانت إظهار براعته الفنیة الفائقة فی التصویر الكلامی بجمعه مقامات عدیدة فی مقامة واحدة. ومن الجدیر بالذكر أن ابن أبی الخصال قد قام بمحاولة أخرى فی میدان الكتابة بأسلوب المقامات، وإن لم یكن مدیناً للحریری فیها بالقدر الذی كان فی المقامة السابقة. وأشیر بذلك إلى عمله الرائد فی ذلك النمط من الرسائل الأدبیة التی كتبها الأندلسیون عن طائر الزرزور. وكانت المقالات من هذا النوع تتسم بأسلوب المواعظ فی أنها تُفتتح بالصلوات والأدعیة والبركات، ثم تنتقل إلى وصف الزرزور وتعداد مآثره.

ثم یقول الزرزور قصیدة فی موضوع الكرم واللطف مزكیاً التصمیم على ممارستها.

وكان ابن أبی الخصال یستخدم الزرزور ناطقاً باسمه ینبئ عن طریقة مستمعیه عن توبته لیكسب عطفهم ومالهم. والواقع أنه كان یقوم بدور بطل المقامة الذی یمزج الشعر بالنثر لیعرض خبرته وتفوقه فی كلا النوعین. ولقد قام ابن أبی الخصال بمحاولتین فی هذا اللون من الأدب، الأولى موجودة فی "ورقة 2 آ- 4 ب" من الاسكوریال المذكورة فی أعلاه. ویتضمن هذا العمل قصیدتین الأولى من ستة أبیات والثانیة من سبعة عشر. أما محاولته الثانیة فهی موجودة یف "ورقة 68 آ – 71آ" وتتضمن أربع قصائد، الأولى من ثلاثة عشرة بیتاً، والثانیة من عشرة، والثالثة من أربعة عشر بیتاً، والرابعة من تسعة عشر.

المقامة القرطبیة:

إن هذه المقامة، التی عرفت بهذا الاسم عند الأندلسیین الذین عزوها إلى الفتح بن خاقان، تُشتهر بالفیلسوف العلاّمة والأدیب ابن السید البطلیوسی وتقذف به. إلا أننا لا نستطیع الجزم بنسبة هذه المقامة إلى ابن خاقان الذی عرف عنه أنه كتب سیرة مرموقة فی مدح ابن السید. ویوجد نص هذه المقامة القرطبیة فی الاسكوریال (مخطوطة) 488 (ورقة 80ب-83ب). وتتخذ حبكتها شكل رحلة قام بها البطل علی بن هشام من أرض الشام إلى الأندلس لیكتشف الوضع الأدبی فیها. وتبدأ المقامة بالكلمات التالیة:

"قال علی بن هشام: انطلقت من بلاد الشام إلى الأندلس لأجوب أقالیمها وأدرس البلدان وألتقی الأدباء والفقهاء وأتجنب أهل الخیال والریب".(11) (ورقة 80 ب). ثم ینتقل  إلى  وصف رحلته ونزوله فی بلنسیة، ویصف الأرض وأهلها وصفاً مفصلاً (ورقة 81آ).

ثم یأتی إلى صلب موضوع رحلته وهو السؤال عن البطلیوسی لیتمكن من مهاجمته وشتمه، والتقى أثناء استفساراته عن البطلیوسی "بفتى له لألاء ورواء، عمامته بین الرجال لواء، فرعه أفرع وجیده أتلع، وأنفه ممطول وخلقه مجدول..." ومع الفتى رفیق له یدعى ابن الطویل وآخر هو یوسف بن خلیل وقعد إلیهما فتناشدوا الأشعار. ثم سألهما ابن هشام عن البطلیوسی فانبرى أحدهما للقذف بحقه والتشهیر به، وانضم إلیه الآخر واصفین أفعال البطلیوسی الشریرة وكاشفین جهله بالعلم والأدب "یأتی المناكر فی كل ناد ویهیم فی العمه فی كل واد لا یرجى له إرعواء ولا یأسو جرحه دواء" (ورقة 83 ب).

وتعرف لنا المقامة صورة مفصلة لحیاة البطلیوسی وخصوصاً حیاته فی بلنسیة التی لجأ إلیها بعد أن ورط نفسه عاطفیاً مع ثلاثة شباب هم أبناء مواطنین قرطبیین متنفذین؛ كما ترسم لنا صورة مقنعة لجانب الحیاة المظلم فی ذلك الزمن، وهو الجانب الذی مر ذكره فی مصادر أندلسیة أخرى مروراً متعجلاً. لقد أثارت هذه المقامة فتنة كبیرة فی الحیاة الأدبیة بالأندلس بسبب المركز المرموق الذی كان یحتله البطلیوسی. ومن الواضح أن كثیراً من أدباء الأندلس قد استاؤوا استیاء عمیقاً وهبوا للرد على كاتب هذه المقامة. وكان أول من انتصر للبطلیوسی الوزیر العلامة أبو جعفر بن أحمد الذی كتب رسالة عنوانها "الانتصار فی الرد على صاحب المقامة القرطبیة. "وتوجد هذه الرسالة فی الاسكوریال المخطوطة المذكورة أعلاه (ورقة 104-105ب). وجهد الكاتب نفسه فی الدفاع عن البطلیوسی ضد التهم التی ألصقت به: ویرى أن على (صاحب المقامة القرطبیة أن یتبین مثالبه قبل أن یبین مثالب غیره..." (ورقة 104 ب).

وتتضمن مخطوطة الاسكوریال ذاتها (ورقة 116 ب –117 ب) رداً آخر على هذه المقامة هو رد أبی الحسن المرسی الذی كتب مقامة تعد مثالاً رائعاً للنثر الطنان والمفعم بالبلاغة والبیان. ویعد هذا العمل أقرب فی شكله إلى الرسالة الأدبیة منه إلى المقامة لافتقاره لأكثر معالم المقامة وضوحاً: تعقیدات الأسلوب والبطلین المألوفین.

لقد هیأ هذا العمل وغیره مما كتب فی الوقت ذاته الركن الأكبر الذی كان على المقامة أن تحتله فی میدان الأدب الأندلسی. ونتیجة لذلك یمكن القول أن المقامة الأندلسیة الجدیدة، مع كونها تنتمی فعلاً إلى هذا اللون الأدبی، تتسم بصفات مشتركة مع فن الرسالة، مما أدى إلى استعمالها لخدمة أغراض أدبیة عدیدة متنوعة. وهكذا استخدمه الأندلسیون فی المدح والرثاء والذم والغزل ووصف المدن.

وتعد مقامات عدیدة من هذا النمط الجدید مصادر هامة لجغرافیة الأندلس وشمالی أفریقیة. وخیر أمثلة على هذا النمط ما جاء فی مقامات لسان الدین بن الخطیب العدیدة والتی عرفت بـ "معیار الاختبار فی أحوال المعابد والدیار"(12).

كما استخدم الأندلسیون المقامة وسیطاً لوصف الإدارة العامة والعدالة، ومثال ذلك مقالة كتبها ابن الخطیب ذاته، عنوانها "خطرة الطیف ورحلة الشتاء والصیف"(13).

واستخدمت المقامة كذلك لأغراض تعلیمیة وتربویة كما هو حال المقامة النخیلة(14) للقاضی أبی الحسن النباهی المالقی(15) (المتوفى فی نهایة القرن الثامن الهجری) وقد استخدم المقامة وسیلة لتعلیم الأدب والقواعد لیوفر على التلامیذ مشقة الرجوع إلى مؤلفات أكبر فی هذه المواضیع.

-المقامات اللزومیة:

ربما كانت المقامات اللزومیة من أهم ما أنتج فی الأندلس فی میدان هذا اللون الأدبی. ولقد حُفظت فی مخطوطات عدیدة قیمة أقدمها وأكثرها موثوقیة، على ما یبدو، هی مخطوطة الفاتیكان (عربی 372)(16).

وقدم لنص هذه المخطوطة بما یلی: "ألف هذه المقامات الخمسین أبو طاهر محمد بن یوسف التمیمی السرقسطی (المتوفى عام 538هـ.) فی قرطبة إحدى مدن الأندلس (نتیجة لقراءة مؤلفات أبی محمد الحریری البصروی الأكبر) وأدت إلى إتعاب ذهن المؤلف واستلاب النوم من عینیه. إن مواظبته على إنشاء النثر والشعر لهذه المقامات لا تضاهى فوصل بها إلى ذروة الإتقان والكمال".

(ورقة 4 آ). أما التعلیق الختامی فكان كالآتی: "لقد أنجزت المقامات اللزومیة للتمیمی یوم الأربعاء الرابع من شهر رجب من عام 650هـ. نسخها صالح بن محمود بن فایق" (ورقة 222 ب).

ومن الملاحظ أن المؤلف لم یعط كل مقامة عنواناً متمیزاً كما فعل بدیع الزمان والحریری. إذ كان بعضها یسمى باسم نوع السجع الذی یغلب علیها، وهكذا سمیت المقامة السادسة عشرة (ورقة 72 آ- 76 آ) بالمقامة المثلثة، والسابعة عشرة (ورقة 76-81آ) بالمرصعة، والثامنة عشرة (ورقة 81 آ- 85آ) بالمدّبجة. أما المقامات الأُخر التی لها عناوین فهی: 7 (ورقة 25 آ- 32 آ) "البحریة"؛ 26 (ورقة 105 آ – 114 آ) "النجومیة"؛ 28 (ورقة 120 ب – 124 ب) "الحمقاء"، 30 (ورقة 128 آ- 140 آ) "مقامة الشعراء"؛ 41 (ورقة 170 ب- 174 آ) "مقامة الدُّب"

42 (ورقة 174 آ- 178 ب) "الفرسیة"؛

43 (ورقة 178 ب – 182 ب) "الحمامیة"؛

44 (ورقة 182 ب – 191 آ) "العنقاویة"؛

45 (ورقة 191 آ – 195 ب) "الأسدیة".

أما بالنسبة للمقامات ذات الأرقام 32-40 (ورقة 145 آ – 170 آ) فقد استخدم السرقسطی نمطاً خاصاً من السجع، ورتب المقامات حسب النظام الأبجدی، ولهذا السبب نراها تحمل أسماء حسب حرف القافیة فیها، مثل "الهمزیة" و "البائیة" و "الجیمیة" و "الدالیَّة" و "النونیة"... الخ.

ویدعى بطلا هذه المقامات: السائب بن تمام (ویعرف كذلك باسم أبی الغمر) وأبا حبیب، وهو عجوز ماكر من عُمان.

وبالإضافة إلى هذین البطلین هناك الراوی واسمه المنذر بن هُمام، وولدا العجوز وهما غریب وحبیب اللذان یظهران من حین إلى حین. وتدور أحداث المقامات كلها ما خلا المقامتین الثلاثین والخمسین حول أعمال الاحتیال المتنوعة التی یقوم بها العجوز، وحول مهارته فی الوعظ فی موضوع الموت والحیاة الآخرة عادة. ویرسم لنا السرقسطی دائماً صورة یخفی فیها حقیقة شخصیة شیخه الفصیح هذا الذی یظهر فی بیئات متجددة باستمرار، إذ یظهر أحیاناً فی هیئة شائنة وأخرى فی هیئة محترمة. ثم ینطلق فی بیان مكره وبراعته فی تنویع استراتیجیته لتلائم الحاجة التی تلوح له. ولنضرب مثلاً على احتیاله لا بد من ذكر الفصل الذی یقدم فیه ابنته للبیع كأمة، وعندما یتم البیع ویقبض ثمنها یرفض الحاكم الاعتراف بصحة البیع لامرأة حرة. وفی مناسبة أخرى یغری أبو حبیب السائب الذی التقاه فی الطریق بالتظاهر بحب ابنته حباً جنونیاً ولكنه غیر قادر على الزواج منها لافتقاره إلى المال.

فیقوم السائب بدوره خیر قیام حتى إنه جمع مالاً ممن رأوا حاله ورأفوا به، ولكن ما أن حصل أبو حبیب على المال حتى اختفى بالمال مخلفاً السائب وراءه. ولا یضع السرقسطی حداً لتجوال بطله، بل یتیح له أن یتجول بحریة یتسول حیثما یذهب، ولا یكاد یدخل أرضاً حتى یرتحل عنها إلى بلد آخر یحتال دائماً على الأبریاء، لیس ممن یلتقیهم فی طریقه، بل من القضاة والحكام، ثم ینكشف أمره على ید السائب بن تمام فیهرب ولكن لیس قبل أن یترك وراءه مقامة فیها حیاته واحتیالاته.

وینقل السرقسطی بطله فی رحلاته من الصین شرقاً إلى الأندلس غرباً. ولیس للمقامات نسق جغرافی فی ترتیبها؛ فمثلاً فی المقامة العشرین یكون أبو حبیب فی مصر، وفی المقامة الحادیة والعشرین ینتقل إلى البحرین، وفی المقامة الثانیة والعشرین یكون فی القیروان، وفی المقامة السادسة والأربعین یكون فی طنجة ومن هناك ینتقل فی المقامة السابعة والأربعین إلى الهند.

وفی المقامة الثامنة والأربعین (ورقة 203 ب – 208 ب) یكون البطل فی الأندلس موطن السرقسطی. ویحكی لنا الراوی كیف جاء ذات مرة وهو یتجول فی البلاد إلى بقعة جمیلة جمالاً فاتناً، هی جزیرة الطریف (وتسمى الیوم التِرفة)، حیث وجد جماعة من الناس یتحلقون على شكل خاتم منقوش، حجر النقش فیه شیخ یحكی أساطیر تاریخیة وحكایات عن ملوك العرب وإنجازاتهم متلاعباً بمشاعر مستمعیه وهو یسرد علیهم الحكایات تلاعباً بارعاً بالإشارة  إلى  جزیرة الطریف مراراً وتكراراً وباختراع الحكایات التی یمكن أن تقرن الجزیرة بفتح الأندلس.

وكان أثره على سامعیه كبیراً جداً مما جعلهم كالفراش المتهافت على اللهب، ویتبارون فی صب المال علیه كالمطر حتى امتلأت یداه، فأطال إقامته، وأقام فی بحبوحة لیلة ونهاراً.

وفی المقامة السادسة والأربعین (ورقة 195 ب- 199 ب)، یزور الشیخ هذا طنجة فی شمالی إفریقیة. ولهذه المقامة أهمیة خاصة لكونها أحد المصادر الأدبیة التی توثق عداء الطبقة الأندلسیة المثقفة للبربر ولنضالهم من أجل توكید استقلالهم. فلقد أفسد وصف السرقسطی لأهل طنجة بولائه لشعبه. وهذه هی كلمات راویته: "وجدت نفسی بین أناس كالنعام أو البقر، بین شعب كالأفاعی أو الضباع لم أستطع فهم كلامهم ولا یتفق تفكیرهم مع أی تفكیر. شعرت وكأنی وقعت بین حیوانات مفترسة أو كراع بین حیوانات لا تُقاد ولا تستقر، ولا تُربط ولا تصبر. كنت أسمع عن الأندلس وعن ثقافتها ومهرجاناتها وغناها حتى إن صدری التهب شوقاً إلیها وغدوت مستعداً للتضحیة بأثمن ما أملك من أجلها". (ورقة 195 ب –196 آ).

ولهذه المقامة أهمیة كذلك لما عرضه فیها السرقسطی من وصف لمظاهر حیاة البربر الاجتماعیة وعاداتهم وأغانیهم وطعامهم وشرابهم (ورقة 198 ب).

أما مسرح المقامة الثانیة والعشرین فهو القیروان حیث وجد بطلنا یتجول مشیداً بأمجاد القیروان التاریخیة ویندب سوء المعاملة التی عانتها على أیدی العرب والبدو.

لیس وصف المقامات للأندلس فقط هو الذی أضفى علیها قیمة خاصة، بل كذلك وصفها لبلاد المشرق، سواء كانت شبه الجزیرة العربیة (نجد، والحجاز، وتهامة، والیمامة) أو العراق والجزیرة وبلاد الفرس (بغداد، وسنجار، وحرّان، والأنبار، والرقة، وواسط، والزّاب، والأهواز، وأصفهان، ومرو، والری) أو مصر وسوریة (الاسكندریة، ودمیاط، وحلوان، وحلب، وفلسطین) أو الشرق (الهند، والصین، وغزنة). ومن الأمور البارزة بشكل خاص فی هذه المقامات هو حب السرقسطی للیمن وتاریخها، كما یُرى من أن أربع مقامات تدور أحداثها فی الیمن. وههنا وصف لأعاجیب الیمن: "إنها أرض الكوارث ومیدان الحوادث؛ إن روائعها وعجائبها تخدع الخادعین. "وعن شعبها یقول السرقسطی: "بین ظهرانیكم كل أنواع الرجال: الأقویاء والمتواضعون، الأغنیاء والفقراء، البله والحكماء، الانفعالیون والمتبلدون. إنی بینكم كابن سبیل وأخی قبیلة وعشیرة، بید أن مصیری فصلنی عنهم، واتسعت المسافة بینی وبینهم.

أتیت بأخبار غریبة عنی ولسوف أثیر الذكی واللا مبالی كلیهما". (ورقة 14 آ –ب).

أما مشهد المقامة الخامسة والثلاثین (ورقة 157 ب- 160 ب) فهو فی زبید: "أقمت فی زبید أتاجر بالخیل وبالعبید، أرفل فی ثیاب الرخاء، وأستمتع بحلاوة الحیاة".

وكانت عدن، بمینائها الناشط الذی یعج بالأنشطة التجاریة ویضج بالمسافرین القادمین والراحلین، مكاناً طبیعیاً ینجذب إلیه بطل السرقسطی؛ وهكذا نجده هناك فی المقامة السادسة محفوفاً بجمهرة من المسافرین ممتدحاً روحهم المبدعة وحبهم للحریة داعیاً الله أن یمن علیهم بالنجاح ویعیدهم إلى وطنهم سالمین. (ورقة 23 ب). وفی هذه المقامة نجد لأول مرة ذلك الاهتمام بحیاة الموانئ والرحلات البحریة الذی یظهر ثانیة فی المقامة السابعة (ورقة 25 آ –32 آ). وهنا یكون الشیخ قد انتقل إلى میناء شحر حیث یُرى مُسدیاً نصحه للتجار حول السلوك القومی الذی یجب أن یتحلوا به وهم یركبون البحر. إن آفاق هذه المقامة أوسع من آفاق المقامات السابقة، كما یُضمِّن السرقسطی "المقامة العنقاویة" المماثلة والتی تجری أحداثها فی الصین، كثیراً من حكایات البحارة.

ویمكننا تقدیر أهمیة العناصر البحریة هذه إذا ما قرأنا هذه المقامات مقرونة بما یعرضه الرحالة الأندلسیون من وصف للرحلات البحریة وخصوصاً بقصة حی بن یقظان لابن طفیل.

ومن الجدیر بالملاحظة أن السرقسطی مشوش بالنسبة لعمان موطن بطله التی یسمیها جزءاً من الیمن فی المقامة الرابعة والمقامة الثانیة عشرة (ورقة 53 ب- 57 ب) التی جرت أحداثها فی ظفار البلد التی یهیم بها بطله حباً.

ونجد الشیخ فی المقامة الحادیة والعشرین (ورقة 93آ – 96 آ) یقیم فی البحرین یتحدث فی المحتشدین وفی المساجد.

وهناك مقامتان هامتان تصوران معالم الحیاة الاجتماعیة هما "مقامة الدب" (ورقة 170 ب – 174 آ، والمقامة التاسعة والأربعون (ورقة 208 ب- 213 ب) حیث یكسب الشیخ فی الأول معاشه بعروض لدب راقص، وینتحل فی الثانیة شخصیة طبیب.

ویخصص السرقسطی مقامتین من مقاماته للنقد الأدبی، هما المقامة الثلاثون ذات العنوان "الشعراء" والخمسون ذات العنوان "الشعر والنثر". وتشكل هاتان المقامتان إضافة هامة لمصادرنا الشحیحة لتاریخ النقد الأدبی فی هذه الفترة، خصوصاً أنهما تحتلان وجهات نظر المحدثین الذین یتزعمهم السرقسطی، كما یساعداننا على تقدیر مدى أثر هذه المدرسة فی الشعر والنثر عموماً، وأثر أبی العلاء المعری خصوصاً.

ویستعمل السرقسطی فی مقاماته صیغة صارمة من السجع (أشد صرامة من سجع المعری) من غیر أن یحدث انطباعاً لدى القارئ بالتكلف أو المبالغة.

وباستثناء المقامتین الثانیة والثلاثین والأربعین، فإن السرقسطی یتجنب عادة الأسلوب المعقد والمبهم الذی یفضله الحریری، إذ أن اختیاره لكلماته وعباراته أقل تكلفاً، وزخرفته البیانیة أقل تنمیقاً. ویبدو أنّه نخل الأعمال الأدبیة واحتفظ لنفسه بالصور البیانیة الأكثر جمالاً وسحراً. على أیة حال أجدنی عاجزاً عن إیفاء هذه المقامات حقها فی مقالة موجزة؛ وآمل أن تتاح فرصة أخرى لإلقاء ضوء على المقامة الأندلسیة..

الهوامش

(1)احتفظ ابن بسام باثنتین من مقاماته فی الذخیرة ص، 154-167، القاهرة، 1939). وقد نشر حسن حسنی عبد الوهاب التونسی إحداهما وهی رسائل الانتقاد لابن شرف القیروانی، ثم أدرجها محمد كرد علی فی رسائل البُلغاء" (القاهرة، 1913 و 1936). وهناك مقامة تضمنتها الورقات التسع من مخطوطة اسكوریال رقم 536 التی كُتبت عن مشاهیر الشعراء فی القرن الثامن الهجری بخط مغربی.

(2)انظر إحسان عباس، تاریخ الأدب الأندلسی، عصر الطوائف والمرابطین (ص 303، بیروت 1963) وانظر ابن بسام، الذخیرة، ص 183-195، ص 248، 257- القاهرة 1942).

(3)انظر "رسالة الثعلب" (المؤلف المنوه عنه، 1، ص 325).

(4)انظر "رسالة الثعلب" (المؤلف المنوه عنه، 1، ص 117).

(5)انظر ابن الأبار، "التكملة لكتاب الصلة"، 1، ص 16 (رقم 35) و 2، ص 732 (رقم 2076) (مدرید، 1887-90)، وكذلك الضبی، بغیة الملتمس رقم 1446، ص 477 (مدرید، 1884).

(6)انظر الأبار، المؤلف المنوه عنه، ص 213-214 (رقم 727)، وابن خیر، فهرست، 1، ص 387 و 451 (سرقسطة، 1893).

(7)انظر مثلاً ابن الأبار، المؤلف المنوه عنه، المادة تحت الأرقام التالیة 727، 756، 764، 849، 855، 931، 937، 958، 1423، 1658، 1779، 1874، 1894، والمقری، نفح الطیب، 2، ص 421 (القاهرة، 1949).

(8)شرح المقامات، 1، ص 3- 4 (القاهرة 1300هـ.).

(9) انظر بروكلمان، 3981 –9؛ 629-30.

(10)هذه المخطوطة محفوظة فی الاسكوریال (رقم 519). إن المواعینی الذی أقوم بإخراج عمله "ریحان الألباب، هو مؤلف بعض الرسائل غیر المنشورة الموجودة فی الاسكوریال مخطوطة (ورقة 88 ب، 95 آ). وكان أبو الحسن ابن سراج أول من كتب فی هذا الجنس والذی هو نوع من عرض العضلات اللغوی لإظهار مهارة الكاتب فی الفكاهة.

وما تزال هذه الرسالة غیر منشورة فی الجزء الباقی من ذخیرة ابن بسام التی تخص جامعة بغداد والمحفوظة فی جامعة القاهرة. وتوجد كذلك فی الاسكوریال مخطوطة رقم 488 (ورقة 109 آ- 110 آ). ولقد أحدث أسلوب هذا العمل المجازی والإیمائی انطباعاً كبیراً فی الدوائر الأدبیة بالأندلس. وهذا أبو القاسم ابن الجد یحاكیه فی رسائل ثلاثة ما زالت محفوظة فی الذخیرة (ورقة 290 آ- ب). الدكتور إحسان عباس یذكر لقبه أبا الحسین بن سراج فی تاریخ الأدب الأندلسی (المترجم).

(11)لم تقع بین أیدینا المخطوطة ولا صورة عنها فنحن نكتفی بترجمة النص (المترجم).

(12) هذه المقامة بالفعل وصف لأهم مدن المغرب ولأربع وثلاثین مدینة من مدن مملكة غرناطة. ولقد نشر النص المتعلق بغرناطة فرنسیسكو سیمونیه فی كتابه "وصف مملكة غرناطة" (مدرید، 1860) ونشر النص المتعلق بالمغرب م. ج موللر فی كتابه بیتراجی 1، ص 47-99" (میونیخ، 1866).

(13)نشرها موللر (المؤلف المنوه عنه، ص 15-40) عن مخطوطة ریحانة الكتاب لابن الخطیب (ورقة 220)، على الرغم من إدراكه لوجود نص آخر فی (مخطوطة الاسكوریال 470، ورقة 50 آ- 71 ب). وتتخذ هذه المقامة شكل وصف لرحلة استكشاف قام بها سلطان غرناطة أبو الحجاج یوسف مع وزیره ابن الخطیب. ومن المقامات التی تعرض صورة رائعة للأحوال الاقتصادیة والاجتماعیة فی غرناطة، مقامة العید لأبی محمد عبد الله الأزدی (المتوفى عام 750هـ/ 1350م) لقد نشر هذه المقامة أحمد مختار العبادی فی مجلة العهد المصری للدراسات الإسلامیة (1954، ص 159-173).

(14)نشر هذه المقامة م. ج موللر (المؤلف المنوه عنه) عن النص الموجود فی الاسكوریال مخطوطة رقم 1653. وإن طبعة جدیدة لهذه المقامة ربما یساعد على توضیع تطور هذا اللون فی هذه المنطقة لأن مخطوطة جدیدة قد اكتشفت فی المغرب وتحتوی هذه المخطوطة التی قمت بدراستها نصاً أكثر اكتمالاً من النص الذی فی مخطوطة الاسكوریال. وتوجد هذه المخطوطة برقم 198، ونسخة أخرى بقم 328 من بین مخطوطات الأوقاف التی فی الأرشیف والبیبلیوغرافیا العامة بالرباط.

(15) للإطلاع على سیرة المؤلف، انظر ابن الأبار، التكملة، رقم 117 (المعجم، رقم 124)، (بروكلمان، ص 542).

(16)نسخ أخرى: باریس، رقم 3972، 2، رقم 1275، 2. أمبروزیانا تتمة 8455 لالیلی، 1928 و 1933؛ دحداح، 196؛ وانظر بروكلمان، ص 543.

من برید التراث العربی

السید رئیس التحریر

بعد التحیة..

تصفحت العدد السابع – السنة الثانیة من مجلة التراث العربی فوجدت فیها مقالات جیدة یستحق أصحابها الشكر على ما قدموه.

ولقد لفت نظری بیت من الشعر ورد فی القسم الثانی من نظم اللآل فی الحكم والأمثال صفحة 131 رقم 996 ورد هذا البیت على النحو التالی:

وجدت أقل الناس عقلاً إذا انتشى                                            أشفهمو عقلاً إذا كان صاحیا

وقد شرح الأستاذ عبد المعین الملوحی معنى البیت على النحو التالی:

"أقل الناس عقلاً إذا سكر أكثرهم عقلاً إذا صحا".

وأنا أذكر أبیاتاً لأبی نواس كنت حفظتها من دیوانه أوردها كما أذكرها:

أرى الخمر تربی فی العقول فتنتضی                                            كوامن أخلاق تثیر الدواهیا

تزید سفیه القوم فضل سفاهة                                      وتترك أخلاق الكریم كما هیا

وجدت أقل الناس عقلاً إذا انتشى                                            أقلهمو عقلاً إذا كان صاحیا

ومع مقارنة البیت الأخیر بالبیت الذی ورد فی المجلة نجد اختلاف المعنى مع تغییر كلمة واحدة فقط وهی أشفهمو بـ أقلهمو. وما أظن أن النواسی –وهو ما هو- یسرق البیت بكامله مع تغییر كلمة واحدة. ولكننی أجد المعنى فی بیت النواسی أشرف من المعنى الذی ساقه بیت المجلة.

وربما ضاق الحسن بن هانی بالمعربدین فقال هذه الأبیات والبیت الثالث فی القطعة ینسجم مع البیت الأول لأنه یفید أن الخمر تزید فی العقل كما تزید فی السفه. فهی محرضة وربما كانت الروایة الثانیة أسفهمو بالسین المهملة. ولعل أستاذنا القدیر عبد المعین الملوحی یوضح هذا الأمر ویرجح إحدى الروایتین.

هذا وعندنا أن الخمر على خلاف الروایتین تغتال العقل وتزید فی السفه.

إننی أحب التراث والشعر القدیم وإن كانت مهنتی بعیدة بعض الشیء من الشعر والنقد.

دبی –الإمارات العربیة                                   المهندس: نزار السباعی

علم من أعلام التراث یغیب

غاب فی مدینة ابن الولید بتاریخ 7/9/1982 وجه بارز من وجوه العاملین فی حقل العلم والأدب المشتغلین فی قضایا التراث العربی، هو المربی والأدیب الكبیر الأستاذ محیی الدین الدرویش الذی كان علماً من أعلام اللغة والأدب لا فی مدینة حمص وحدها وإنما فی بقیة مدن العالم العربی. وقد وافته المنیة عن عمر ناهز الرابعة والسبعین وكان حافلاً بالعطاء الأدبی نثراً وشعراً وبالتوجیه التربوی وقد زرع الروح الوطنیة والقومیة والأدبیة فی نفوس الناشئة من خلال عمله الدؤوب فی التعلیم وفی الصحافة. وكان مرجعاً وثقة فی شؤون اللغة والتراث وتراجم الأعلام والأغفال فی أدبنا العربی مما ترك له مكانة طیبة فی نفوس تلامذته ومعارفه وهم كثیر.. وكان آخر عطاء علمی له مؤلفه (إعراب القرآن وبیانه) الذی صدر منه حتى الآن تسعة أجزاء، ورحل الفقید قبل أن یتمه، ولهذا كانت الفاجعة بفقده خسارة كبیرة للغة والأدب والتراث.

ولد الفقید فی العام 1908 من أسرة كسبت لقبها من صوفیتها المغرقة، وتلقى علومه فی حمص. وفی العام 1927 تخرج من الصف الخاص الذی أحدث فی دمشق لتخریج المعلمین ثم احترف صناعة التعلیم وانصرف بحكم موهبته ومیله الخاص  إلى  أمهات الكتب والآثار الأدبیة ودواوین الشعراء أمثال المتنبی وأبی تمام والمعری وغیرهم یطالعها ویستظهرها وعكف على التبحر فی علوم اللغة والنحو حتى بلغ شأوا عالیاً فی مجالها.

وقد اختیر فی العام 1964 لیكون عضواً فی "لجنة الشعر" بالمجلس الأعلى لرعایة الفنون والآداب، كما تولى رئاسة تحریر عدد من الصحف بحمص.

رحم الله الفقید رحمة واسعة وعوض الأمة واللغة والأدب بفقده خیراً.

نذیر الحسامی

أقلام النسر

رصاص وملون

بامتیاز

من شركة فابر العالمیّة

المحتوى

ملامح لمستوى المعیشة فی التاریخ العربی الإسلامی ودراسته فی العصر الحاضر     د. عبد الكریم الیافی

الاشتقاق صلاح الدین الزعبلاوی

مفاهیم عربیة وملامح نضالیة فی التراث اللغوی والأدبی والحضاری  د. عمر موسى باشا

لغة الطیر.. من كتاب "رموز العلم المقدس" بقلم: رونی غینون

تقدیم: فاطمة عصام صبری

التوفیق بین الحكمة والشریعة فی نظر ابن رشد د. غسان فنیانس

من التراث الشعبی.. حكایة لقب أسرة دمشقیة د. عدنان الخطیب

مشابه فی التراث العالمی د. عبد الكریم الیافی

رائد التألیف المعجمی فی الأندلس.. أبو علی القالی د. عمر الدقاق

اللسان العربی المبین د. جعفر دك الباب

أبو الفتح علی بن محمد البستی  دریة الخطیب ولطفی الصقال

بحثاً عن رؤیة كونیة فی شعر أبی تمام د. فهد عكام

المخطوطات العربیة بین یدی التحقیق د. محمد ألتونجی

توضیح المشتبه لابن ناصر الدین الدمشقی مطاع الطرابیشی

من العبر فی تاریخنا –وقفة لصلاح الدین الأیوبی أمام عكا نذیر الحسامی

الشعر الحدیث والتراث فاطمة عصام صبری

المقامات الأندلسیة بقلم: هـ. نیمة

ترجمة: إبراهیم یحیى الشهابی

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 19:41|
بحث عن ذاتیّة الشاعِر الجاهلی
 - راوی بوجوفتش المستشرق الیوغسلافی

كان شیئاً ممتعاً وحافزاً على الدوام تجرید وإضاءة شخصیة الفنان، هذا المبدع الذی یثیر عمله الفنی الأحاسیس الرقیقة والحادة. لذا یرغب أی الباحث أو القارئ فی أن یغوص فی شخصیته وروحه ویبحث فی عوالمها، أی یبحث فی العلاقات والأسباب التی تؤثر فی تشكیل وجهات النظر الفنیة. غیر أن النقد وتاریخ الأدب كانا یهتمان، بشكل خاص، باكتشاف مصادر وطرق استلهام الفنان ومنابع قدرته الإبداعیة، وبكلمة أخرى، خصوصیة الفنان فی استخدام الرمز للتعبیر عن مكنوناته الإبداعیة والحوافز التی تمده بالقدرة على ذلك.‏

وبالطبع، لم تستطع مثل هذه الدراسة العجلى أن تستوعب كل تلك الجوانب التی ذكرناها، وبشكل خاص بدایات نشأة الشعر العربی القدیم ودور الشاعر فی ذلك الحین. لأن ذلك یتطلب بحثاً شاملاً یلجأ إلى شتى العلوم التی تساعد على خلق نظرة متكاملة. وفی الحقیقة نحن لا نعرف عن الشاعر الجاهلی سوى النزر الیسیر ولذلك كثیراً ما نعتمد فی بحوثنا على تصوراتنا الخاصة ونحاول أن نستعید ونجدد صورة هذا العصر البعید وروحه الحقة. وربما كان الفنان سلفادور دالی قد عبر عن أسرار الروح والنفس البشریة بأكثر دقة و أروع مجاز، حینما ظهر ذات یوم بین الجمهور مرتدیاً (بدلة) الغوص وأراد أن یتحدث أمامهم عن أغوار هذه النفس التی تنوی الكشف عن مكنوناتها.‏

ولكی نحدد وجهة بحثنا هذا فلنتوقف عند مسألة العلاقة بین المبدع (الشاعر) والإلهام. غیر أننا لن نمیل هنا إلى التحلیلات الشعریة والسیكولوجیة بل نلقی الضوء على هذه الجوانب التی ستكمل صورتنا عن العوامل الثقافیة المؤثرة فی تكوین خصوصیة الشاعر الجاهلی ودوره الحضاری المهم، كما نحاول أن نجمع كل المعلومات الواردة عن هذه الشخصیة ونشیر إلى أهم خصائص تلك العلاقة.‏

فلو نظرنا إلى تسمیة ذلك العصر لوجدنا أنها تشیر إلى ثقافة معینة، ثقافة البدوی التی أنجبت شعراً ظل یرمز إلى قمة الإبداع الأدبی عند العرب على مر الأزمنة والعصور. وبالرغم من أن العرب قد طوروا حضارتهم بعد ظهور الإسلام تطویراً مرموقاً فقد احتل هذا الشعر مكانة خاصة فی هذه الحضارة وأصبح معیاراً للإبداع فی العصور القادمة. وحتى المحاولات التی قام بها بعض الأدباء فی تجدید الشعر وتطویره كانت تستند فی ذلك إلى أیام ولادته وإلى القوانین التی حددت معالمه الأصلیة، وبذلك فإن هذه المحاولات تنطبق انطباقاً تاماً على تلك المحاولات التی أبداها أو قام بها رجال الدین فی تجدید القیم الإسلامیة. ولذا یمكننا القول أن الشعر عند العرب فی تلك العصور وخاصة فی العصر الجاهلی أصبح یمثل دیناً لهم، یحمل فی طیاته سلوكهم وأخلاقهم وفهمهم لوجودهم. ولذا وبذلك أصبح تعبیر "الشعر دیوان العرب" أكثر وضوحاً وأوسع فهماً:‏

ولكون الشعر دیوان العرب، حصلت ضجة فی الثلاثینات من هذا القرن عندما حاول الأدیب طه حسین أن یهز هذه القدسیة (ربما تحت تأثیر المستشرقین "الفرت" و"مرغولیوث") حیث طرح أفكاره فی كتابه الشهیر (فی الشعر الجاهلی)(1). وبطبیعة الحال كان أول من عارض ذلك بانفعال شدید هم رجال الدین. ویشیر طه حسین فی هذا الكتاب، الذی غیر بعد هذه الضجة عنوانه ومحتویاته إلى حد ما، عندما یتحدث عن الشعر الجاهلی كمعیار لقمة الشعر، قائلاً: فلست أعرف أمة من الأمم القدیمة استمسكت بمذهب المحافظة فی الأدب ولم تجدد فیه إلا بمقدار كالأمة العربیة. فحیاة العرب الجاهلیین ظاهرة فی شعر الفرزدق وجریر وذی الرمة والأخطل والراعی أكثر من ظهورها فی هذا الشعر الذی ینسب إلى "طرفة وعنترة وبشر بن أبی خازم"(2).‏

ولكن الباحث الكبیر ابن خلدون، الذی سبقه بعدة قرون، كان قد أشار إلى ذات الفكرة قائلاً أن العرب یتعصبون لشعرهم دون أن یلتفتوا إلى القدرة الشعریة عند الشعوب الأخرى، وإن الإغریق یمكنهم كذلك أن یفتخروا بشعرهم(3). ویحق لنا أن نسأل: ما الأسباب التی دفعت العرب أن یجعلوا شعرهم البدائی معیاراً على مر العصور، رغم ظهور شعر الموشح والزجل فی الأندلس والبند فی العراق ورغم الحقیقة الماثلة وهی ظهور الشعر الحر منذ بدایة الخمسینات (لا نرید الخوض فی هذا المجال)(4)؟...‏

ومن الممكن أن نجیب بأن شكل القصیدة الجاهلیة هو السبب الأول والرئیسی فی الرجوع المستمر إلى هذا الشعر. حیث أن هذه القصیدة تمثل منطلقاً فنیاً ذا تكوین عال ثم إن لغتها ما زالت تداعب الأحاسیس برقة وتفرض الإعجاب بشتى معانیها وقوة أفكارها التی تعكس قوة العقول فی ذلك العصر. وهذه القصیدة، من جهة أخرى باستثناء روحها الفردیة ما زالت تمتلك وعیها الاجتماعی، لذا یمكننا أن ندعو هذه القصیدة بأنها قصیدة ذات خصائص ملحمیة، وجدانیة. أی أنها تمثل شكلاً ممزوجاً. إن ارتباط العرب بلغتهم كوسیلة رمزیة، نراه متطبعاً فی تسمیة أشهر القصائد الجاهلیة، كما هو فی المعلقات، التی استند علیها المستشرق الفرنسی (شال بیلا) فی إطلاق صفة صانعی الجواهر على الشعراء الأقدمین، بینما أنا أعتقد بأن القصة الأخرى حول تسمیة المعلقات أكثر أهمیة ومتعة لأنها تشیر إلى ثقافة العصر الجاهلی وإلى عادات الأعراب، حیث نجد فیها عناصر میثولوجیة أسطوریة من خلال استعمال أرقام المعلقات السبع أو التسع. ومن تعلیق هذه القصائد على باب الكعبة التی كانت مكاناً دینیاً وسحریاً قبل مجیء الإسلام، یبدو لنا أن تلك القصائد كان لها دور ساحر فی حیاة ذلك المجتمع، إذ أن العلاقة بین الشاعر والطبیعة فی عموم الشعر البدائی، علاقة وطیدة وشدیدة الصلة. حیث أننا نرى كذلك فی الشعر البدوی تلك العلاقة الأصیلة نرى شدة ارتباط البدوی ببیئته واندهاشه بما یحیط به، لذا یستخدم الشاعر وصفاً دقیقاً قوی التعبیر لما یراه ویعیشه (انظر مثلاً وصف العاصفة، عند امرئ القیس)، ویدل على قوة هذه العلاقة وتوطدها أنها تركت آثار الأفكار الأسطوریة المثیولوجیة والتوتمیة(5). بالرغم من مجیء الإسلام الذی حاول مسح تلك الآثار من أجل توحید الناس لعبادة إله واحد (لن نستخدم تعبیر الإسلام "المتزمت" الذی أصبح منتشراً فی أوربا، إذ أن له معنى خطیراً یحاول أصحاب هذا التعبیر من ورائه الحط من شأن الحضارة الإسلامیة)، لقد كان لحیاة البدوی، ومجمل إبداعاته وأصالة الشعراء الأوائل الذین یعدون مؤسسی الثقافة العربیة القدیمة أو ثقافة القبائل تأثیر كبیر فی تاریخ العرب حتى أن الإسلام لم یستطع اجتناب هذه الحقیقة، یمكننا الاعتماد على ما یقوله الأدیب طه حسین من "أن القرآن أصدق مرآة للحیاة الجاهلیة". (6).‏

وحتى یكون بوسع الباحث أن یقدم صورة كاملة ودقیقة عن ذلك العالم، یجب علیه أن یكون مولعاً بكل جوانب هذا الموضوع إذ إن الشعر الجاهلی الذی یتمیز ببساطته وروحیته الطبیعیة قد وضع ركائز لثقافة جدیدة متطورة. بطبیعة الحال لا یتسع هنا المجال لتحلیل هذه الجوانب بأسرها ولذا سنلفت الانتباه إلى بعض الحقائق الثقافیة التی ربما ساعدتنا على تكوین انطباع مستفز عن ذلك. مثلاً لنأخذ عبادة الشمس، والقمر التی لها أهمیتها حسب رأیی فی تكوین الثقافة البدویة والجاهلیة بشكل عام، نجد ذلك الأثر فی جمیع الثقافات البدائیة تقریباً مع أننا نستطیع تتبع تینك العبادتین فی الثقافة العربیة الإسلامیة على أساس تطورهما وصراعهما من أجل تغلب إحداهما على الأخرى. إذ إن هذا الصراع كان قد ترك أثراً مهماً فی سیر الحضارة العربیة والإسلامیة بشكل عام. ویبدو لی أن هذا الصراع لا یظهر فقط فی صراع الطرفین، أی العقیدتین، بل یشیر بشكل واضح إلى محاولة تكوین الشعور القومی عند البدوی على أساس انتمائه القبلی.‏

وربما لن ندرك طول فترة ذلك الصراع إن لم نتوغل فی هذا الموضوع أن هذین الطرفین یتمیزان حتى جغرافیاً. فی الشمال العدنانیون وفی الجنوب القحطانیون الذین یمتلكون، دون ریب، حضارة أقدم. وكل من هذین الطرفین یتمثل فی ثقافة خاصة تحمل شعارها الخاص القمر (علامة الأنوثة) والشمس (علامة الرجولة)، بعض الأحیان لا نستطیع أن نضع حدوداً فاصلة بین حاملی هذین الشعارین لأنهما أحیاناً یعیشان فی اندماج وتنسیق فی البیئة والمجتمع. ویدل على ذلك أن الیمنیین قد سبقوا فی وضع التقویم القمری والمصریین القدامى (والأعراب بعد ذلك اشتركوا فی تكوین جنسیتهم بالفعل)، جاؤوا بالتقویم الشمسی. غیر أن الصراع یستمر بین الشمس والقمر، أی بین ثقافة البدو (القمر) وثقافة الحضر (الشمس)، ونتلمس آثار ذلك فی العصر الأموی، ویتبین لنا أن هذا الصراع قد تلاشى فی العصر العباسی بغلبة ثقافة البدو عقائدیاً كما یبدو لنا فی القرن العاشر، بعد هزیمة حركة الشعوبیة. ومع أن هذه الثقافة تبدو بسیطة، ساذجة بل بدائیة، فإنها تخفی فی طیاتها حسا مرهفاً وقیماً جمالیة. ویخیل إلینا كذلك أن هذا الانتصار تحقق خاصة أن طریق سمو الأدب البدوی بشكل عام ولذا یمكننا القول أن القمر البدوی تغلب على ثقافة الشمس على صعید الأدب. بینما هناك انتصارات حققتها ثقافة الشمس، مثلاً فی القرنین الثامن والتاسع، وكأن الإسلام هدنة بین الثقافتین المتنازعتین أوقف ولو مؤقتاً الصراع ولكن بدون نتیجة.‏

وینعكس التوتر بین نموذج الثقافتین (البدویة والحضریة)، انعكاساً لامعاً حتى فی الأبجدیة العربیة، حیث نجد فیها الحروف القمریة والشمسیة، وكأن تقسیم هذه الأبجدیة یشیر إلى أن التوازن الثقافی أمر متوقع لأن هناك أربعة عشر حرفاً شمسیاً مقابل أربعة عشر حرفاً قمریاً، وبذلك أخذ هذا الصراع كثیراً من حیویة الحضارة الإسلامیة والبدویة من قبلها مع أننا شخصیاً نرى أن فی هذا الصراع (الدائم) بذرة تحرك الثقافة العربیة من حین لآخر وقدرة شدیدة على إمكانیة تحریك هذه الحضارة على الدوام ومن جدید(7). ولو غصنا بعمق فی الدوافع الإبداعیة للثقافة البدویة لأمكننا الاستنتاج أن فی الشعر البدوی حافزاً حضاریاً هاماً قد یستطیع أن ینتج فی ظروف اجتماعیة وتاریخیة مناسبة(8) ثقافة أخرى أكثر إبداعاً حتى من هذه الثقافة التی جاء بها الأدب العباسی فی عصره الذهبی وإن هذا الحافز هو صنف من الأصناف الجمالیة: الإلهام.‏

وبطبیعة الحال لا یمكننا أن نناقش مثل هذا الصنف، وفی تلك الفترة، بل یمكننا الخوض بهذا الشیء بعد ظهور نظریة الشعر عند العرب. ولذا سنورد فی هذا المجال فكرة نظریة واحدة فقط تتحدث عن هذا الشیء نجد مصدرها فی القرون الوسطى. یضمها كتاب العقد الفرید المشهور لمحمد بن عبد ربه (القرن العاشر) وتحكی هذه القصة أن رجلاً كاتباً توسل إلیه أحد أصحابه أن یكتب رسالة باسمه، وعندما أخذ الكاتب قلمه توقف هنیهة. فسأله صاحبه عن سبب توقفه ظناً منه أنه فقد بلاغته، ولكن الكاتب لم یومئ برأسه بل أجاب أنه یبحث فی باله عن أفضل المعانی لكتابة الرسالة(9). ویجب علینا أن نعلم بأن الإلهام لم یكن یعنی شیئاً حتى بالنسبة لشعراء الجاهلیة دون الاعتماد على الجهد الإبداعی الأصیل وعلاقات الشاعر بأعماله الشعریة علاقة وطیدة جادة.‏

وهكذا نجد فی كتاب "الصناعتین فی الكتابة والشعر" لأبی هلال العسكری (القرن التاسع)، وهذا الكتاب مهم جداً للبحث فی نظریة الشعر فی القرون الوسطى عند العرب، نجد معلومات عن الجهد الذی بذله الشاعر زهیر أثناء نظمه للشعر، إذ إنه كان ینظم قصیدة واحدة فی ستة أشهر، ثم یتركها طی الكتمان ستة أشهر أخرى. وعندما كانت تنتهی هذه الفترة الطویلة إلى حد كبیر كان یلقی شعره(10). وأما الشاعر عنترة بن شداد فهو یشكو من مصیره الشعری لأن الشعراء الذین سبقوه لم یتركوا له مجالاً لیحمل شعره مضامین جدیدة وعلینا ألا ننسى أن هذا الكلام قیل فی القرن السادس.‏

إذن، إذا أراد الشاعر أن یضیف إلى شعره شیئاً إبداعیاً جدیداً فعلیه أن یكون ذا تناسق متواصل مع الإلهام الذی یحفز الشاعر للبحث عن فضاءات جدیدة. إنه یجب أن یستفز فیه المشاعر. حتى یوصله إلى اكتشاف الحقیقة وكسب المعرفة. ولذا لیس من الغریب إن كانت هناك صلة ولو خاطفة بین الشاعر والكاهن والشعر الجاهلی خاصة إذا لم ننس أن الفعل (شَعَر) كان فی البدء مرادفاً للفعل (عَلم)، وإن صلتهما تفهم بالذات وقبل كل شیء عن طریق (صنف) فی الإلهام. فهناك اعتقاد سائد بأن الكاهن كان یحصل على الإلهام بمساعدة إبلیس أو الشیطان، وإن هذا الاعتقاد قد امتد بعد ذلك إلى الشاعر أیضاً. كما أن هناك دلیلاً نجده فی تسلسل الشعراء الجاهلیین والمخضرمین الذین تقوم بینهم صلة القرابة (المهلهل امرؤ القیس عمرو بن كلثوم، طرفة المتلمس، زهیر كعب بن زهیر وغیرهم). وإن دل هذا على شیء فإنما یدل على أن أسرار نظم الشعر كانت تنتقل من شاعر إلى شاعر مختار آخر ضمن "طائفة" معینة ومحدودة.‏

وربما كانت هذه الصلة تساعد الشعراء مثل الكهنة على أن یعبروا عن أنفسهم بطریقة إبداعیة خاصة، مثلما كان الكهنة یستخدمون السجع فی خطبهم. ومن جهة أخرى، فإن لغة القرآن لغة مسجوعة ولذا كان بعض القرشیین یتهمون الرسول محمداً ( بانتمائه إلى صفوف الكهنة. ومن هذا یمكننا أن نتوقع بأن الصلة التی تربط الشعراء بالكهنة كانت لغة السجع. ولغة الشعراء هی لغة البیت والقافیة. وأما بخصوص الرسول محمد ( فقد اضطر أن یدافع عن نفسه ضد هذه التهمة كما ورد ذلك فی سورتی الحاقة والطور. ولكن بالنسبة لما نود الإشارة إلیه هو أن الرسول فی سورة الشعراء رد على الشعراء بالشعراء أنفسهم مثلما فعل أفلاطون فی جمهوریته ووسمهم بصفة الكاذبین. وفی الآیتین (210 211)، من نفس السورة نجد الفكرة التی تقول بأن القرآن لم ینزل على الشیاطین، أی على الكهنة أو الشعراء لأنهم "وماینبغی لهم و مایستطیعون "ویتهم القرآن الشیاطین الذین تآمروا على البشر ویتسمعون لما یجری فی السماء وبإمكانهم أن ینقلوا المعارف السریة كالأشخاص الذین یمتلكونها إلى الناس المختارین فی الدنیا.‏

ومن هذه الفكرة یبدو أن الشعراء قد أصبحوا مثل الكهنة السذج. ولكن هذه التهمة التی وردت بالقرآن قد لا تستطیع أن تحطم القدرة الشعریة (أو السحریة)، تحطیماً كاملاً. ولذا أضاف القرآن تهمة أشد وأقوى عندما ذكر بأن الشعراء یتكلمون بما لا یستطیعون تحقیقه ولذا فإن عملهم وشعرهم لیسا منسجمین وإن من یتبعهم هو فی ضلال ولكن ما أراه أهم هو هذه الصلة بین إبلیس أو الشیطان والشاعر، كما أن رأی الشاعر الجاهلی فی القدر وبحثه عن الحقیقة و المعرفة یذكرنا بما جرى، إلى حد ما، بفاوست غوته الأسطوری، وأخیراً بالثقافة الفاوستیة، هذه الثقافة الخاصة التی ولدت فی حضن الثقافة الجرمانیة، وهناك وجه آخر لنفس العملة، كما یقال، أی هذه الظاهرة تقول إن الكاهن أو الشاعر أو الإنسان بوجه عام یحصل على المعارف السریة ویبرزها فی أماكن الطقوس (وأنا أرى عكاظ والمربد والأسواق الأخرى أماكن للطقوس)، ویحرك نفوس المستمعین ومن ثم كل شیء ینتهی عند ذلك. ولذا اسمحوا لی بطرح السؤال التالی: لماذا لم تنجب هذه البذرة الفاوستیة التی نجدها فی بدایة الثقافة العربیة محاولة اللهاث وراء المعرفة ومحاصیلها؟ ولماذا لم تتحقق الثقافة الفاوستیة فی مفهومها الأوروبی الحدیث؟ وأعتقد أن الجواب الوحید الذی أستطیع أن أقدمه هنا هو عدم وجود الجو المناسب فی الأطراف الأخرى لحیاة المجتمع العربی آنذاك، لأن هذه الفكرة الفاوستیة ظهرت بشكل مبكر تقریباً، فی المرحلة البدائیة من تشكل العقل الإنسانی. ولكن هذه الظاهرة ساعدت مساعدة واضحة على ظهور الإسلام كمرحلة أرقى وأعلى فی سیر الثقافة نحو الأمام كما تمثلت هذه الظاهرة فی بدایة انتشار الإسلام فی "جوع" الأعراب للتعلم أكثر وتوسیع آفاقهم ولیعوضوا كل ما لم یعرفوا فی جاهلیتهم.‏

ولنتوقف الآن قلیلاً عند الفرق الجوهری بین النظریتین العربیة والأوروبیة تجاه مفهوم صنف الإلهام، وقد یحیرنا هذا الفرق لأننا نجد أن آلهة ما تقف وراء النظریة الأوربیة، بینما یقف وراء الشاعر الجاهلی الشیطان نفسه، قبیحاً مطروداً، مستفزاً. وفی اعتقادی أن هذا الشیطان هو الذی یسمو بهذا الشعر إلى مستوى الإبداع ویجعله شعراً مادیاً وتشكیل وتكوین نظریة الشعر الواقعی ولأنه كذلك فالقصیدة عند الشاعر الجاهلی تجد حاجة شدیدة فی سعیها للوصول إلى كشف مكنونات الطبیعة. والقصیدة تمثل، كما هو معروف، شكلاً أدبیاً ممزوجاً(11)، من ثلاثة أجزاء مختلفة: الجزء الأول منها، الذی نسمیه النسیب یشیر إلى میزة أساسیة عند الشاعر الجاهلی أو إلى (الموتیف) (MOTIV) الأساسی الحاجة الجامعة إلى الأسفار والبحث عن المجهول والمفقود. ولذا أرى فی هذا الجزء، عندما یبحث الشاعر الجاهلی عن حبیبته ویسرد ذكریاته معها ویقف مناجیاً أطلالها، إن هناك رمزاً أصیلاً یسری فی عروق الشعر العربی حتى أیامنا هذه. إن "موتیف" الفرار الدائم هو المحرك الحقیقی لیس للشعر الجاهلی فحسب بل وحتى للشعر المعاصر. یصف الشاعر تأبط شراً فی القرن السادس صاحباً له كان لاهث الشوق للأسفار غیر آبه برحاب القفار (وفی رأینا هذا رمز المغفرة)، والظمأ (رمز المعرفة) والخطر (رمز العقاب) الذی یداهم المسافر عند كل خطوة. ویمكن تتبع مثل أولئك المسافرین والتائهین بین الشعراء (أمثال تأبط شراً والشنفرى وامرئ القیس)، من خلال الشعر الجاهلی عامة، كما یمكن ذلك فی القرون الوسطى، ولكن بشكل أقل وضوحاً، باستثناء المقامات. ویبدو أن الحضارة الشمسیة تغلبت هذه الفترة (القرنین الحادی عشر والثانی عشر)، على الحضارة القمریة. وحتى فی أ یامنا هذه نشهد میول الشعراء إلى الأسفار والتیه وذلك على سبیل المثال من خلال أشعار بدر شاكر السیاب، وعبد الوهاب البیاتی، وسعدی یوسف، والفیتوری، ویمكننا تلمس هذه الظاهرة فی قصص ألف لیلة ولیلة، وإن كان الباحثون الأوربیون بشكل خاص یلاحظون تأثیر الهنود فی ذلك الموضوع، غیر أنی أعتبر هذا الرأی غیر سلیم.‏

والرجل المسافر یحتاج على الدوام إلى أن یعلم مصیره. والمصیر عند الشاعر امرئ القیس یعبر عن فضاء رحب الأشواق والعدو خلف ما یفلت من العقل البشری. ویعبر هذا الشاعر عن البشر والمستقبل فی شعره بعاملین أحدهما یبنی بوعی والآخر یهدم بجهله. ویمكننا الاستنتاج أن الشاعر الجاهلی یتعذب إلى حد ما من أجل كشف مكنونات الفضاء والطبیعة غیر أن بعض المستشرقین یصفونه بالمادیة ویتهمونه بجفاف الأسلوب وحتى یبدو بالنسبة إلیهم مملاً، ناسین أن أی شعر بدائی لا یستطیع أن یتجاوز عصره البدائی، ولكن ذاتیة هذا الشعر تجذبنا من جدید عندما نجدها قد تطورت فی القرنین 8 10 إلى الشك الذی اندثر بعد ذلك بسرعة مع شدید الأسف وتحول إلى الخفوت والركود (12).‏

بقی فقط الوهج البلاغی وتلاشى النبض الجمالی. ویبدو أن الشعر الكلاسیكی قد وصل إلى نصف العمود الذی یربط الأسفل والأعلى لیأتی الشعر المعاصر ویبدأ صعوده مع هذا العمود إلى أعلاه.‏

إن المصیر الذی یهتم به شعراء البادیة هو مصیر متقلب مستتر، ولذا لیس من الغریب أن ینظروا ولو نادراً خارج شخصیاتهم الضعیفة المحدودة التأثیر ولذا فإن هؤلاء الشعراء، حسب تقالید السامیین القدامى وحسب تقالید حضارات وادی الرافدین، یتطلعون إلى الطبیعة والنجوم للحصول على الأجوبة التی طرحتها روح متسائلة ومتعجبة وعلى سبیل المثال، الشعر المعاصر یواصل هذه "الخبرة" فإن الشاعر السیاب كثیراً ما یتطلع إلى النجوم ولكنه یرمز فی شعره بشیء معاكس للنجوم وهو الصدف. ویعنی هذا الربط عذاب الإنسان أمام الحقیقة، أی بین النور والظلام، بین التفاؤل والتشاؤم، بین الأسرار والمعرفة. وكان عرب الزمن القدیم یؤمنون بأن هبوط النجوم ینبئ بوفاة نبیل أو بولادته. ولكن شعراء القرون الوسطى یحاولون اجتیاز هذه الهاویة وعدم الانسجام بین البشر والفضاء عن طریق إهمال هذه المسألة.‏

ومن خلال هذا البحث السریع أود أن أبین للقارئ أن هذا الإلهام شبه الفاوستی ترك أثراً مهماً لیس فی الشعر العربی فحسب، وإنما فی الثقافة عموماً بالرغم من أنه لم یستطع أن یؤثر على ظروف هذا العصر البدائی والعصور التی تلته، ولذا كان الإلهام لمدة قصیرة محاولة للبحث عن مقاومة الحقیقة وبث الشكوك(13) ولكنه تحول بمرور القرون، إلى حركة جدیدة فی الشعر العربی المعاصر (القرن العشرین وبالخصوص منذ الخمسینات)، عندما أصبح الشعر الحر یبنی طرقه الجدیدة، مؤكداً على وجود الإنسان.‏

**** ‏

الحواشی:‏

(1) لأن القصیدة بلغت هذه الدرجة من المهارة الشعریة، وخاصة من جانب العروض بحیث أصبح بعض الباحثین یشكون فی أصالتها الباكرة مع أن فیلیب حتی، المؤرخ الشهیر، یضع القصیدة فوق ملاحم هومیروس وعلینا أن نتذكر أن هومیروس كان "مفاجأة كبیرة"، بحد ذاته فی ذلك الزمن.‏

(2) فی الأدب الجاهلی، القاهرة 1962، ص 71.‏

(3) مقدمة ابن خلدون، ج4، القاهرة، ص 1314.‏

(4) انظر دراسة نور الدین صمود المنشورة فی أعداد مجلة الفكر التونسیة لعام 1978، وبالخصوص العددین 5 و10.‏

(5) انظر باللغة الروسیة:‏

S.Y.SHIDFAR, Obraznaya sistema arabskyo Klasicheskoy literaturi, Moskva, 1974.‏

(6) طه حسین، المصدر المذكور، ص 71.‏

(7) إن هذا التغلب واضح فی العصر الأموی حیث یحترم الشعراء التقلید الجاهلی احتراماً شاملاً، وانظر إلى:‏

Papers on Islamic Kistory (950- 1750). Oxford 1973.‏

وفیه دراسة CI. Cahen.‏

(8) یقول القرآن: (أقرأ باسم ربك الذی خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذی علم بالقلم، علم الإنسان مالم یعلم(.‏

(9) العقد الفرید، بیروت 1963، ص 44.‏

(10) المصدر المذكور، ص 65.‏

(11) ویقول ابن خلدون عن الشكل والمضمون إن الأول بمثابة القوالب للمعانی فكما أن الأوانی التی یغترف بها الماء من البحر منها آنیة الذهب والفضة والصدف، والزجاج والخزف والماء واحد فی نفسه، وتختلف الجودة فی الأوانی المملوءة بالماء، باختلاف جنسها لا باختلاف الماء (مقدمة، ص 1325).‏

(12) نجد أشكال الشك عند المعتزلة والمعری وأبی نواس الذی یقول:‏

دع عنك لومی فإن اللوم إغراء وداونی بالتی كانت هی الداء‏

وقل لمن یدعی فی العلم فلسفة حفظت شیئاً وغابت عنك أشیاء‏

(13) قد أكون مضطراً فی هذا المكان إلى شرح موقفی من جدوى الشك فی سیر البشر إلى الأمام. وابتداء من شكوك مونتسكیه الفرنسی بدأت الثقافة الأوروبیة أو الغربیة تتقدم فنیاً وفلسفیاً وتیكنولوجیاً، الشك هو ما یحركنا فی بحثنا عن الذات والعلم.‏
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 19:40|
الظواهر التربویة فی عیون الشعر العربی




من المقطوع به أن الأخلاق أفعال قبل أن تكون أقوالا، والتربیة سلوك ومنهج قبل ان تكون ألفاظا وكلاما، والكلمات أجساد خاویة لا تتحرك إلا بروح العمل، فتكون الفعالیات السلوكیة والتربویة من مصادیق الألفاظ وظواهرها، وكلما كانت الألفاظ أقرب الى النفس الإنسانیة كانت حركة الروح باتجاه الخیر أكثر انسیابیة وأقرب الى مدارج الرقی وسلم السمو.

ولعل ألفاظ التربیة المضغوطة فی أبیات الشعراء هی الأقرب الى النفس المرهفة بعد نصوص القرآن والسنة الشریفة، وهی فی مصاف الحكم الصادرة عن رجال الخیر، على ان الشعر لدى بعض الشعراء هی الحكمة بعینها تندلع من لسان القوافی حروف التربیة الآخذة بمسامع الناس ومشاعرهم نحو التفاعل والانفعال بها منتجة سلوكا واضح المعالم لا یشطط بصاحبه عن جادة الصواب، فلا یظلم نفسه ولا یعتدی على أقرانه، ویتمثل فی حیاته كل قیم الخیر، ویتوسم فیها المقاصد السلیمة الباعثة على الخیر والناهیة عن المنكرات ورفض الخصال السیئة التی تتنكب بصاحبها عن سبیل الرشاد.

ولا یختلف مسرح الحیاة عن خشبة المسرح التی یستعرض فیها المخرج عبر شخصیاته الصراع الخفی والظاهر بین قوى الخیر والشر، بل ان المسرح الفنی هو صورة مصغرة عن مسرح الحیاة الدنیا القائم على ثنائیة الخیر والشر أو الرحمن والشیطان، والشاعر المبدع هو الذی یستعرض ملامح الصراع على مسرح قوافیه، فیتلقى الإنسان الشعر بما یساعده على هضم القیم الصالحة ولفظ الخصال الطالحة. وفی الشعر القریض الذی نظم فی النهضة الحسینیة وما حصل فی كربلاء المقدسة یوم العاشر من محرم عام 61 هـ، الكثیر من الأبیات التی اختزنت فی صدورها وأعجازها قیما ومعانی سامیة، وفیها الكثیر من العادات السالبة التی یختزلها الشاعر فی كلمات جزیلة وهی تدعو المرء الى تجنبها.

الأكادیمی العراقی الدكتور عبد الحسین مهدی عواد، استاذ كلیة التربیة بجامعة البصرة، والمحاضر فی الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة بلندن، وقف على الدواوین الشعریة الصادرة عن المركز الحسینی للدراسات ضمن موسوعة دائرة المعارف الحسینیة لمؤلفها المحقق الشیخ الدكتور محمد صادق محمد الكرباسی، فاستوقفته الظواهر التربویة المبثوثة فی قصائد شعراء النهضة الحسینیة عبر القرون، فأطال النظر عند بعضها لكثرتها، فتناولها فی خمسة فصول فی كتاب صدر العام 2007 عن بیت العلم للنابهین فی بیروت فی 160 صفحة من القطع الوزیری وحمل عنوان: "الظواهر التربویة فی أشعار دائرة المعارف الحسینیة للعلامة الشیخ آیة الله محمد صادق الكرباسی".

وقد تناول الظواهر التربویة بمنظار أكادیمی، فجاءت فصول الكتاب متسلسلة یأخذ بكلیات الأمور لیصل الى جزئیاتها لینتهی بنتائج عامة، ولهذا فان الفصل الأول بحث "التربیة: مفهومها وأسسها"، وبحث فی الفصل الثانی: "أسس التربیة ومفاهیم الأحداث الحیاتیة"، وبحث فی الفصل الثالث: "الإمام الحسین (ع) وكمال التربیة الإنسانیة"، وبحث فی الفصل الرابع: "التهذیب الذاتی وشعر الشعائر الحسینیة"، وحتى تكون الفصول الأربعة تحت مدى منظاره وأفق آرائه وتصوراته، فان الفصل الأخیر تناول: "التطبیقات السلوكیة لفاعلیة الشعر الحسینی التربویة".

مفهوم التربیة وأسسها

لا تختص التربیة بالنظام الإسلامی، لأنها سلوك بشری فطری، یأتی الدین لتشذیبها وتهذیبها، وهی ممارسة یومیة تلاصق الإنسان كظله، ولذلك جاء البحث فی التربیة ومفهومها وفقا لمراحل البشریة لینتهی بالإسلام باعتبار ان محور الحدیث هو الإمام الثالث من أئمة أهل البیت (ع) وسبط النبی محمد (ص)، وما أفرزته الأشعار التی قیلت فیه وفی نهضته المباركة، من ظواهر تربویة وخلقیة. فالتربیة لكونها النشأة السلیمة للإنسان، فإنها تعنی: "عملیة التدریب والاكتساب التی ینمو الكائن البشری بفاعلیتها لیصل الى درجة الكمال الممكن فی جسمه وعقله وروحه وسلوكه الاجتماعیة"، وبناءاً علیه فإنها: "تصوغ الإنسان وتوجه سلوكه نحو الأفضل فی كل نواحی الحیاة"، فهی إذن: "النشاط الحیاتی الذی یكسو الحیاة الخیر والصلاح".

ولان التربیة تعنی بالدرجة الأولى تهذیب النفس البشریة، فان العلاقة جد وثیقة بین علم النفس وعلم النفس التربوی، بلحاظ: "إن علم النفس هو من المعارف ویعتبر من جهة هو أقدم العلوم فی المعارف الإنسانیة"، ولذلك أضحت النفس شعار فلسفة الفیلسوف الیونانی سقراط (Socrates) (470 -399 ق.م)، ومن بعده أفلاطون (Platon) (427-347 ق.م)، وسار أرسطوطالیس (Aristoteles) (384-322 ق.م) على منوال أستاذه أفلاطون، واهتم علماء الغرب بعلم النفس فی مجال التربیة لما توفر من كاشفیة لدى المربی فی سلوك أفضل الطریق وأنجحها لتربیة الفرد البشری.

أما الإسلام فانه أفرد للنفس البشریة مساحة كبیرة، بوصفها مركز الخیر والشر، وعلیها تنعقد كل فعالیات الإنسان، وبالتبع كل فعالیات البشریة، قال تعالى: (ونفس وما سوّاها. فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكّاها. وقد خاب من دسّاها) الشمس: 7-10، ولأن النفس خطرها عظیم، فان النبی محمد (ص) وصف جهادها وتزكیتها فی میدان معركة السلوك والمعاملة الیومیة بالجهاد الأكبر، فی قبال الجهاد الأصغر فی میدان المعركة العسكریة، وهذا الجهاد یبدأ من الطفولة، فصغار الأمس هم شباب الیوم ورجال الغد، وبالتالی كما یقرر الدكتور العواد انه: "من خلال صقل وترویض وتعلیم الطفل المسلم منذ مراحل نشأته الأولى یمكن تیقظ فطرته السلیمة وإبراز جوانب إنسانیته الحقة. فتكون حصیلة حرص المجتمع الإسلامی على إحراز الفطرة السلیمة والإنسانیة الحقة هی الحصیلة العملیة التربویة حتى لو استخدمت أی من التدریبات التربویة التی هی خلاصة آراء الفلاسفة والمربین".

البیئة والموروث الإنسانی

ویمثل المحیط الإجتماعی الذی تنشد فیه القصائد والخطابات المتضمنة لعیون الشعر الحسینی بیئة خصبة لإظهار الجوانب السلوكیة الطیبة، بخاصة إذا كانت القصائد دافعة للمجتمع لكل ما هو خیر ودافعة عنه كل ما هو شر، وتراكمات القصائد هی فی واقع الأمر موروث حی للأمة جیلا بعد آخر، والفرد الذی ینشأ فی بیئة تخللها المجالس الحسینیة وترتفع فیها أعواد المنابر هی بیئة سلیمة تستحث فی الفرد صغیرا كان أو كبیرا المؤثرات السلوكیة الدافعة بالمرء الى سبیل الخیر، ویأتی الدین لیشد من شبكة المؤثرات ویدعمها.

والخیر الذی تشع خیوطه من واقعة كربلاء وتتمثلها الأشعار هو عنوان عریض یشمل كل منقبة حسیة أو معنویة، وقد وجد المؤلف ان من أهم الظواهر التربویة التی یمكن استقراؤها من القصائد الحسینیة هی:

- خصال البطولة والشجاعة: على اعتبار ان البطولة "صفة جمع لعامة الكمالات"، وهی بذلك: "عنوان المحاسن وشعار الكمال ودلیل الثبات والإیثار والورع والزهد وهی لو اجتمعت فی إنسان لأصبح مصداقا للبطل".

- مبادئ العزم والتصمیم: بلحاظ تحقق خاصیة التلازم بین الشجاعة والبطولة وبین العزم والتصمیم. ولا یخفى: "إن خواص العزم والتصمیم تعنی ملازمة الطریق والحفاظ على العهود"، كما إن: "اطمئنان النفس وتعاظم ثقتها بالوفاء للهدف الذی ارتضته واطمأنت لصحته هی من الأمور المولّدة لخصال العزم"، وهذه المعانی ودلالاتها أهداف تربویة ینشدها كل إنسان.

- مفاهیم التسامی والإباء: وهذه من أشهر السجایا والأخلاق الكریمة، وقد تحققت فی كربلاء وأنشدها الشعراء، ذلك: "إن التسامی والإباء تتحقق كنتیجة لتحقق الشجاعة"، وقد كان الإمام الحسین مثالها: "لذا فان خصلتی التسامی والإباء من مستوحیات شخصیة الحسین (ع) ومكتسباته التربویة من حاضنة الرسول الأعظم (ص)، ناهیك عما جاء من تطبیقاتها فی حادثة استشهاده"، وتأسیسا على ذلك: "لابد لحدیث الخطیب عن حادثة استشهاد الحسین والناظم للشعر عن مآثر الحسین فی حادثة كربلاء من أن یستمد مخیلة أفكاره الخطابیة ومعالم صوره الشعریة من هذه الخصال وما ظهر من تطبیقاتها فی حادثة استشهاد الحسین".

- الإیثار والمواساة: فالخصلة الأولى من إفرازات علو الهمة وعظم النفس، والثانیة من دماثة الخلق ولطافة الشمائل.

أدب العِبرة والعَبرة

یذهب الدكتور عواد الى التأكید بان: "الفاعلیة لأی باعث تربوی تزداد قوة وتتعاظم أثراً إذا تم التعبیر عنها بنظم شعری صادق. ویستمد الشعر فاعلیته من صور موضوعات نظمه.. ویكسب مستمعیه الفهم لخصال من انتظمت القصائد فی مآثره".

ومن هذه الصور ما ینسب الى الإمام علی بن الحسین السجاد (ع) (ت 95 هـ) أو الى أبیه أو الى غیرهما:

    قوم إذا نودوا لدفع ملمة
    والخیل بین مدعس ومكردس
    لبسوا القلوب على الدروع وأقبلوا
    یتهافتون على ذهاب الأنفس

فهذه الأبیات كاشفة عن التطبیق العملی لخصال الشجاعة والتصمیم وشدة العزم، وعندما تتناهى الى أسماع المتلقی یستشعرها فی نفسه لیتمثلها فی حیاته الیومیة، وكلما كان الشعر مجیدا وأمكن استخدامه الحسن فی مجالس الخطابة كان نافذا الى القلوب لان: "الشعائر الحسینیة قد تنتظم بما تحتویها كلمتی عِبرة وعَبره"، كما: "إن العَبرة أو البكاء أو النیاح یجب أن یكون بعد استیعاب العِبرة. وبالعنایة بهذا التطبیق نتسامى بالحسین (ع) الى المستوى الذی أهّله له الخالق عز وجل بشهادته ونمتنع من أن نجعل من شهادة الحسین (ع) موضوعا عاطفیا لیس له إلا مظهر العویل والبكاء فقط"، فالعَبرة طریق الى العِبرة والاعتبار وهما أمران متلازمان لا ینفكان، وهذه الملازمة تفضی الى حساب دائرتی الاقتراب والابتعاد من مركز الهدف، وحسب الدكتور عواد: "ولعل الفارق بین الفهم أن الحسین (ع) قد مات بكربلاء والفهم على أنه استشهد هو الذی خلط بین الفهم على أن (البكاء) إنما حصل لحصول الموت، ولیس لمأساة العِبرة منه. وذلك لأن الشهادة هی تعبیر عن رضا الله فلا یُؤسى لها ولا یُبكى على من نالها. وهنا یتضح الفارق بین المعنى لجانب مهم لجوانب (العَبرة) و (العِبرة)".

كما ان الإمام الحسین (ع) كجده الذی قال فیه القرآن الكریم: (لقد كان لكم فی رسول الله أسوة حسنة) الأحزاب: 21، وهذا المعنى یتمثله الشاعر ابن الساعاتی علی بن رستم الخراسانی (ت 604) فی الأبیات التالیة:

    ولكلِّ حیٍّ أسوةٌ بمحمدٍ
    ومحمدٌ ذو الموقف المحمود
    كم فی مصارع آله من عِبرةٍ
    سوداء عدّوها من التسوید
    فتأسَّ بالمأموم والمسموم
    والــمقتول والمجلوب نحو یزید

الى أن یقول:

سل عن زیادٍ وابنه وارجع الى ** عمروٍ فسل هل عاش بعد سعید

فالشاعر یدعو المتلقی الى الاعتبار وملاحظة ما آلت إلیه حوادث الدهر، ویسوقه الى التأسی بالإمام الحسن بن علی (ع) الذی رحل مسموما عام 50 هـ، وبالإمام الحسین (ع) الذی قضى نحبه شهیدا عام 61 هـ، وبالإمام علی بن الحسین (ع) الذی جلب الى مجلس یزید بن معاویة أسیرا بعد واقعة كربلاء، فهذه الأسماء الخیّرة وما یقابلها من أضداد شرّیرة كانت ولازالت تمثل رجال مسرح الحیاة حیث الصراع بین قوى الفضیلة والرذیلة، فأین الحسین من موقع الحدث وأین یزید؟ فالحسین (ع) سما ذكره بفعاله ومواقفه البطولیة وتهاوى ذكر یزید بجرائره ومواقفه المخزیة.

ولما كان الشعر الحسینی یكثر قراءته من على منابر الخطابة الحسینیة، فان واحدة من شروط عملیة التواصل بین المتلقی والظواهر التربویة فی الشعر الحسینی هو قوة الوسیط أی الخطیب لأن: "إلمام الخطیب بالثقافة التربویة والنفسیة ومعرفته بالدراسات الاجتماعیة والسیاسیة تجعله متمكنا من إبراز الخصائص التربویة للشعر الحسینی، سواء ذلك بتنظیم العرض من على المنبر أو من خلال التدرج بالحدث من حال وقوعه الى الحال الأفضل فی التفكیر والسلوك، فیوفر للمتلقی خیر السبیلین، سبیل تعظیم الشعائر وسبیل الاتعاظ من أحداث التاریخ ومآسیه"، صحیح أن فطرة البشر قد تقود المرء الى ایجابیة السلوك: "إلا أن الخطیب الماهر هو الذی یكمل فاعلیة الحدث الحسینی والأثر الفنی للشعر لتثبیت الخصال التی تقوّم السلوك وتُكسب بموجبها التطبیقات التربویة".

ومثال الخصال الحمیدة "الإخوة والوفاء لها" وتقدسیها، وقد صورها بتعبیر فنی جمیل شاعر القرن الثالث الهجری الفضل بن محمد المطلبی، وهو ینشد:

    إنی لأذكر للعباس موقفهُ
    بكربلاءَ وهامُ القومِ تُختطَفُ
    یحمی الحسین ویحمیه على ظمأٍ
    ولا یُولّی ولا یُثنى ولا یَقفُ
    ولا أرى مشهداً یوماً كمشهده
    مع الحسین علیه الفضل والشرفُ
    أكرم به مشهداً بانت فضیلته
    وما أضاع له أفعاله خَلَفُ

ففی هذه الأبیات التی تحكی موقف العباس بن علی (ع) الأخ المواسی لأخیه: "صوّر الشعر الحسینی خاصیة الإخاء وعنایة الضمیر بالوفاء للأخوة فی مأساة كربلاء تصویرا جعل منه مصدرا تربویا یقتدى به".
كاتب وموسوعة

وجد الدكتور عبد الحسین عواد ان المنهج الذی ابتدعه الفقیه آیة الله الشیخ محمد صادق الكرباسی فی تألیف موسوعة متكاملة عن النهضة الحسینیة من: "ستین بابا یستوفی الحدیث بها عن السیرة والسیاسة والأدب وعلم النفس والكیمیاء والفیزیاء والفن المعماری واللغة والعروض والصرف وغیرها من الموضوعات الأخرى"، جعلها فریدة من نوعها، وزاد فی تألقها أن الكرباسی ختم كل مجلد بقراءة نقدیة لعلم من العلماء الغرب والشرق ومن جنسیات وأدیان ومذاهب مختلفة: " وهو الأمر الذی برهن على الموضوعیة التی نأت بالنتائج عن الفئویة وجعلتها فی مدارات المنظوم العلمی العام، أی فی المنظور الذی یتعامل مع المادة العلمیة كعنصر موجود خاضع للدراسة الموضوعیة والعلمیة، وهو العامل المهم الذی ضاعف فی اهتمام الدارسین والباحثین فی مدارات المعرفة التی عرضت لها دائرة المعارف الحسینیة".

ولاشك أن مدارات المعرفة هذه: "والأطر المتعددة والمتنوعة التی انتظمت فی تألیف دائرة المعارف الحسینیة منحتها الملكة الإبداعیة والخصائص الأكادیمیة والثراء الثقافی والكم العلمی الذی برهن على ملكة المؤلف لخصائص الصبر والتأنی فی الكتابة والتألیف المتقن. وهی سمات ترتفع بالمؤلِّف والمؤلَّف الى درجة التقدیر ومن ثم الخلود والبقاء والتجدید"، وبتقدیر العواد الذی یشرف على رسائل علمیة فی الدراسات العلیا: "أثبت هذا العمل المنتظم أن المؤلف یمتلك من الإبداع الأكادیمی ما یجعله متمیزا بشهادات ذوی الخبرة العلمیة والأكادیمیة"، ولذلك فلا عجب أن ینال صاحب الموسوعة: "أربع شهادات للدكتوراه من جامعات سوریا ولبنان والولایات المتحدة الأمیركیة".

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 19:39|
بدر شاكر السیاب

بدر شاكر السیاب ولد عام 1926 وتوفی فی 24 كانون أول دیسمبر عام 1964 شاعر عراقی ولد بقریة جیكور جنوب شرق البصرة. درس الابتدائیة فی مدرسة باب سلیمان فی أبی الخصیب ثم انتقل إلى مدرسة المحمودیة وتخرج منها فی 1 أكتوبر 1938م. ثم أكمل الثانویة فی البصرة ما بین عامی 1938 و 1943م. ثم انتقل إلى بغداد فدخل جامعتها دار المعلمین العالیة من عام 1943 إلى 1948م، والتحق بفرع اللغة العربیة، ثم الإنجلیزیة. ومن خلال تلك الدراسة أتیحت له الفرصة للإطلاع على الأدب الإنجلیزی بكل تفرعاته


البدایة السریعة على امتداد شط العرب إلى الجنوب الشرقی من البصرة، وعلى مسافة تقطعها السیارة فی خمس و أربعین دقیقة تقع أبو الخصیب التی تمثل مركز قضاء تابع للواء البصرة یضم عددا من القرى من بینها قریة لا یتجاوز عدد سكانها ألفا ومائتی نسمة

تقع على ما یسمى نهر أبو فلوس من شط العرب تدعى جیكور تسیر إلیها فی طریق ملتویة تمتد بالماشی مدى ثلاثة أرباع الساعة من أبی الخصیب وهی الزاویة الشمالیة من مثلث یضم أیضا قریتین أخریین هما بكیع وكوت بازل، قرى ذات بیوت من اللبن و الطین، لا تتمیز بشیء لافت للنظر عن سائر قرى العراق الجنوبی

فهی عامرة بأشجار النخیل التی تظلل المسارح المنبسطة ویحلو لأسراب الغربان أن تردد نعیبها فیها، و عند أطراف هذه القرى مسارح أخرى منكشفة تسمى البیادر، تصلح للعب الصبیان ولهوهم فی الربیع والخریف، وتغدو مجالا للنوارج فی فصل الصیف، فكل شخص یعمل فی الزراعة ویشارك فی الحصاد و الدراس، ویستعین على حیاته بتربیة الدجاج والأبقار، و یجد فی سوق البصرة مجالا للبیع أو المقایضة، ویحصل على السكر و البن و الشای وبعض الحاجات الضروریة الأخرى لكی ینعم فی قریته بفضائل الحضارة المادیة، وإذا كان من الطامحین إلى (الوجاهة) فلا بأس أن یفتح دیوانا یستقبل فیه الزائرین من أهل القریة أو من الغرباء لیشاركوه فی فضائل تلك الحضارة المادیة

السیاب - دراسة فی حیاته وشعره

والبلدة التی ولد الشاعر فی إحدى قراها و أكمل دراسته الأولى فیها والتی بقی یتردد إلیها طیلة عمره القصیر، برز فیها شعراء كثیرون، وان لم یشتهروا كشهرته، لضعف وسائل الأعلام ولخلود أكثرهم إلى السكینة ولعزوفهم عن النشر، نذكر منهم على سبیل المثال لا الحصر الشعراء محمد محمود من مشاهیر المجددین فی عالم الشعر و النقد الحدیث، ومحمد علی إسماعیل، زمیل السیاب فی العالیة وصاحب الشعر الكثیر، وأبوه شاعر مشهور أیضا و اسمه ملا علی إسماعیل، ینظم القریض والشعر العامی، و الشاعر خلیل إسماعیل توفی فی 1961 الذی ینظم المسرحیات الشعریة ویخرجها بنفسه ویصور دیكورها بریشته

و الشاعر مصطفی كامل الیاسین الدكتور و الموظف الكبیر فی الخارجیة وعبد الستار عبد الرزاق الجمعة، وعبد الباقی لفته و عبداللطیف الدلیسی وعبدالحافظ الخصیبی ومؤید العبدالواحد الشاعر الوجدان بالرقیق ومن رواة شعر السیاب، والشاعر الأستاذ سعدی یوسف هو من أبناء أبی الخصیب، ظهرت له عدة دواوین شعریة، ونال شهرة واسعة بین شعراء البلاد العربیة، اشتهر كالسیاب بشعره الحر

ونذكر الشاعر الشعبی عبدالدایم السیاب، من أقارب الشاعر ولشعره شهرة فی المنطقة الجنوبیة، والشاعر الشعبی كذلك عدنان دكسن وهو معلم

ولد السیاب فی منطقة (بكیع) بكاف فارسیة وجیكور محلة صغیرة فیها وهی كلمة فارسیة تعنی (بیت العمیان) وتبعد عن أبی الخصیب بما یقارب الكیلوین و تقع القریة على شط العرب، وأمامها جزیرة جمیلة اسمها (الطویلة) كثیرا ما كان السیاب یقضی الساعات الطوال فیها

و نهر (بویب) الذی تغنى به الشاعر كثیرا، یسیل فی أملاك عائلة السیاب وهو یتفرع من النهر الكبیر إنها قریة صغیرة اسمها مأخوذ من العبارة الفارسیة (جوی كور) أی الجدول الأعمى

و آل السیاب یملكون أراضی مزروعة بالنخیل، وهم مسلمون سنیون عرفتهم جیكور لأجیال عدة. و على الرغم من أنهم لم یكونوا من كبار الملاكین فی جنوب العراق، فانهم كانوا یحیون حیاة لائقة محترمة حسب المعاییر المحلیة

إن أعضاء الأسرة من الذكور لا یزیدون على ثلاثین فی الوقت الحاضر مصطفى السیاب ، فی رسالة إلى المؤلف، بیروت 32 نیسان 1966 لكن الأسرة كان أكبر مما هی الیوم فی أوائل القرن التاسع عشر إذ كانت تصم عائلة المیر

لكن كثیرین من أعضائها ماتوا فی الطاعون الذی انتشر فی العراق سنة 1831 وكان سیاب بن محمد بن بدران المیر أحد أعضائها، وكان قد فقد جمیع أهله الأقربین

وكلمة سیاب بتشدیدها بضم السین أو فتحها : اسم یطلق على البلح أو البسر الأخضر. لكن قصة تروى فی العائلة تزعم أنه دعی بهذا الاسم لأنه فقد جمیع أقربائه وسیب وحیدا. وهی تلفظ سیاب فی اللهجة المحلیة بتسكین السین

وفی عام تزوج شاكر بن عبدالجبار ابنة عمه كریمة،وكانت أمیة فی السابعة عشرة من عمرها. و أسكنها معه فی دار والده على ما تقضی به العادات المرعیة. وفی 1926 ولدت له ابنا دعاه (بدرا). وقد طار به فرحا وسجل تاریخ میلاده حتى یتذكره، لكنه ما لبث أن فقده وبقی تاریخ میلاد بدر مجهول

ولم تكن إدارة البلاد فی ذلك الوقت متفرغة لتنظیم تسجیل الموالید، ولا سیما فی النواحی النائیة. وفی 1928 ولدت له ابنا ثانیا دعاه عبدالله، وفی 1930 ولدت له ابنا ثالثا دعاه مصطفى وكان فخورا بأبنائه الثلاثة، واثقا من أنهم سیكبرون ویساعدونه فی عمله لكن أحدا منهم ما ساعده كما كان ینتظر ویأمل

أما فی البیت فقد كان بدر یلعب مع أصدقائه فیشاركه أخواه الأصغران. وكان الأماكن المحببة للعبهم بیت واسع قدیم مهجور یدعى (كوت المراجیح) باللهجة المحلیة

وكان هذا البیت فی العهد العثمانی یؤوی عبید الأسرة (مصطفى السیاب، من مقابلة مع المؤلف، بیروت 41 حزیران 1966) و من هنا أسمه، إذا معنى (المراجیح) المراقیق أی الرقی أو العبید

وقد دعاه بدر فی شعره فیما بعد (منزل الأقنان) كانوا یلعبون فی فنائه بالقفز على مربعات ودوائر تخطط على الأرض وما شابه ذلك من العاب القفز، واكن یلذ لهم كذلك أن یرووا عنه قصص الأشباح. وقد جعله بدر مقرا لجریدة خطیة كان یصدرها مدة باسم (جیكور) تتناقلها أیدی صبیان القریة، ثم تعود فی ختام المطاف لتجد محلها على الحائط فی غرفة الإدارة

وتشمل ذكریاته أقاصیص جده - على نحو مبهم- وقصص العجائز من عمة وجدة وغیرهما، و من أقاصیصهما حكایة عبد الماء الذی اختطف زینب الفتاة القرویة الجمیلة، وهی تملأ جرتها من النهر، ومضى بها إلى أعماق البحر و تزوجها، و أنجبت له عددا من الأطفال، ثم رجته ذات یوم أن تزور أهلها، فأذن لها بذلك، بعد أن احتفظ بأبنائه لیضمن عودتها، و لكنها لم تعد, فأخذ یخرج من الماء وینادیها ویستثر عاطفتها نحو الأطفال، و لكنها أصرت على البقاء، و أخیرا أطلق أهلها النار على الوحش فقتلوه، أما الأطفال فتختلف روایات العجائز حول مصیرهم

كذلك تشمل ذكریاته لعبه على شاطئ بویب، وهو لا یفتأ یذكر بیتا فی بقیع یختلف عن سائر البیوت، فی أبهائه الرحبة، وحدائقه الغناء، ولكن اشد ما یجذب نظره فی ذلك المنزل الإقطاعی تلك الشناشیل، وهی شرفة مغلقة مزینة بالخشب المزخرف و الزجاج الملون

غیر أن الشاعر حین یتحدث من بعد عن بیت العائلة فی جیكور فإنما یعنی البیت الذی ولد فیه وعاش فیه سنوات طویلة فی ظل أمه، وقضى فترات متقطعة من صباه وشبابه الباكر فی جنباته، وهكذا ینبسط اسم (جیكور) على القریتین إذا لیست بقیع فی واقع الحال الا حلة من جیكور

ولابد لنا من أن نشیر إلى أن بعض الصحفیین زاروا هذا البیت فی عام 1965 وكان مما قالوه فی وصفه : البیت قدیم جدا وعال، وقد تحللت جذور البیت حتى أصبحت كأسفل القبر، والبیت ذو باب كبیر كباب حصن كتب علیه بالطباشیر اسم ؛ عبدالمجید السیاب

وهو الذی یسكن الآن فی الغرفة الوحیدة الباقیة كان البیت قبل عشر سنین یموج بالحركة والحیاة، أما سبب هجر عائلة السیاب لهذا البیت أو بالأحرى لجیكور فهو بسبب ذهاب الشباب إلى المدن بعد توظیفه" جریدة الثورة العربیة، بغداد عدد 184 - 12 شباط 1965

دخل السیاب فی أول مراحله الدراسیة مدرسة باب سلیمان الابتدائیة فی أبی الخصیب، ثم انتقل إلى المحمودیة الابتدائیة التی أسسها المرحوم محمود باشا العبدالواحد فی سنة 1910 فی العهد العثمانی، وبقیت تحمل اسمه حتى الآن و تخرج من هذه المدرسة فی تاریخ 1-10-1938 ولدى مراجعة محمود العبطة سجلات المدرسة المحمودیة ، عثر على معلومات خاصة بالشاعر نقلها من السجل رقم 6 وصفحة السجل 757 و المعلومات هی

    معلومات خاصة بالشاعر
    قریة جیكور المحلة
    1926 تاریخ الولادة
    مدرسة باب سلیما آخر مدرسة كان فیها قبل دخوله المحمودیة
    1- 10 - 1936 تاریخ دخوله المدرسة
    الصف الخامس الصف الذی قبل فیه
    1- 10 - 1938 تاریخ الانفصال
    أكمل الدراسة الابتدائیة سبب الانفصال
    1937 رسب فی الصف السادس سنة
    1938 نجح من السادس سنة
    ابیض الوجه - أسود العینین صفاتة
    جیدة أحواله الصحیة
    جیدة سیرته فی المدرسة

عاش بدر طفولة سعیدة غیر إنها قصیرة سرعان ما تحطمت إذ توفیت أمه عام 1932 أثناء المخاض لتـترك أبناءها الثـلاثة وهى فی الثالثة والعشرین من عمرها. وبدا بدر الحزین یتساءل عن أمه التی غابت فجأة، وكان الجواب الوحید: ستعود بعد غد فیما یتهامس المحیطون به: أنها ترقد فی قبرها عند سفح التل عند أطراف القریة

وغابت تلك المرأة التی تعلق بها ابنها الصغیر، وكان یصحبها كلما حنت إلى أمها، فخفت لزیارتها، أو قامت بزیارة عمتها عند نهر بویب حیث تملك بستانا صغیرا جمیلا على ضفة النهر، فكان عالم بدر الصغیر تلك الملاعب التی تمتد بین بساتین جیكور ومیاه بویب وبینها ما غزل خیوط عمره ونسیج حیاته وذكریاته

وما كان أمامه سوى اللجوء إلى جدته لأبیه (أمینة) وفترة علاقته الوثیقة بأبیه بعد أن تزوج هذا من امرأة أخرى سرعان ما رحل بها إلى دار جدیدة بعیدا عن بدر وأخـویه، ومع أن هذه الدار فی بقیع أیضا، غیر أن السیاب أخویه انضموا إلى دار جده فی جیكور

القریة الأم، ویكبر ذلك الشعور فی نفس بدر بأنه محروم مطرود من دنیا الحنو الأمومی لیفر من بقیع وقسوتها إلى طرفه تدسها جدته فی جیبه أو قبلة تطبعها على خده تنسیه ما یلقاه من عنت وعناء، غیر أن العائلة تورطت فی مـشكلات كبیرة ورزحت تحت عبء الدیون، فبیعت الأرض تدریجیا وطارت الأملاك ولم یبق منها إلا القلیل یذكر بالعز القدیم الذی تشیر إلیه الآن أطلال بیت العـائلة الشاهق المتحللة

ویذهب بدر إلى المدرسة، كان علیه أن یسیر ماشیا إلى قریة باب سلیمان غرب جیكور لینتقل بعدها إلى المدرسة المحمودیة الابتدائیة للبنین فی أبی الخصیب التی شیدها محمود جلبی العبد الواحد أحد أعیان أبی الخصیب، وكان بالقرب من المدرسة البیت الفخم الذی تزینه الشرفات الخشبیة المزججة بالزجاج الملون الشناشیل و التی ستكون فیما بعد اسما لمجموعة شعریة متمیزة هی شناشیل ابنة الجلبی- الجلبی لقب للأعیان الأثریاء- وفى هذه المدرسة تعلم أن یردد مع أترابه أهزوجة یرددها أبناء الجنوب عند هطول المطر، ضمنها لاحقا فی إحدى قصائده

یا مطرا یا حلبی عبر بنات الجلبی
یا مطرا یا شاشا عبر بنات الباشا

وفى هذه المرحلة المبكرة بدأ ینظم الشعر باللهجة العراقیة الدارجة فی وصف الطبیعة أو فی السخریة من زملائه، فجذب بذلك انتباه معلمیه الذین شجعوه على النظم باللغة الفصیحة، وكانت العطلة الصیفیة التی یقضیها فی جیكور مجلبة لسروره وسعادته إذ كان بیت العبید الذی غدا الآن مهجورا، المكان المحبب للعبهم برغم ما یردده الصبیة وخیالهم الفسیح عن الأشباح التی تقطنه وكانت محبة جدته أمینة تمنحه العزاء والطمأنینة والعطف غیر انه سرعان ما فقدها إذ توفیت فی أیلول 1942 لیكتب فی رثائها قصیدة

    جدتی من أبث بعدك شكوای؟
    طوانی الأسى وقل معینی
    أنت یا من فتحت قلبك بالأمس لحبی
    أوصدت قبرك دونی
    فقلیل على أن اذرف الدمع
    ویقضى على طول أنینی

وتفاقم الأمر إذ باع جده ما تبقى من أملاكه مرغما، إذ وقع صغار الملاك ضحیة للمالكین الكبار و أصحاب مكابس التمر والتجار والمرابین وكان بدر یشعر بالظلم واستغلال القوى للضعیف وكانت طبیعته الرومانسیة تصور له مجتمعا مثالیا یعیش فیه الناس متساوین یتعاون بعضهم مع بعض بسلام

هذه النظرة المثالیة عمقها شعور بدر بأن أسرته كانت عرضه للظلم والاستغلال فضلا عما لحق به إذ فقد أمه وخسر أباه و أضاع جدته وسلبت حبیبته منه وكان قد بدأ یدرك انه لم یكن وسیما هذا كله احتشد فی أعماق روحه لیندلع فیما بعد مثل حمم بركان هائج تدفق شعرا ملتهبا

فی مدینة بغداد صیف 1943 أنهى بدر دراسته الثانویة، وقـبل فی دار المعلمین العالیة ببغداد (كلیة التربیة) وكان فی السابعة عشرة من عمره لیقضى فیها أربعة أعوام

وعثر (محمود العبطة) على درجات الشاعر فی الصف الثالث من الدار المذكورة فی مكتبة أبی الخصیب وبحیازة مأمورها الأستاذ عبداللطیف الزبیدی، وهی من جملة الوثائق التی أودعتها زوجة المرحوم السیاب ففی المكتبة عندما زار وفد من مؤتمر الأدباء العرب السادس ومؤتمر الشعر العربی، أبی الخصیب وقریة الشاعر جیكور وهی وریقة بحجم الكف مطبوعة على الآلة الكاتبة تشمل المعلومات التالیة

نتائج الطلبة 1946 - 1947

بدر شاكر السیاب اسم الطالب

الثالث - اللغة الإنكلیزیة الصف و الفرع

86 المعدل

ناجح الثانی فی صفه عمید دار المعلمین العالیة

كتب السیاب خلال تلك الفترة قصائد مترعة بالحنین إلى القریة والى الراعیة هالة التی احبها بعد زواج وفـیقة ویكتب قصائده العمودیة أغنیة السلوان و تحیة القریة.. الخ

ویكسب فی بغداد ومقاهیها صداقة بعض من أدبائها وینشر له ناجی العبیدی قصیدة لبدر فی جریدته الاتحاد هی أول قصیدة ینشرها بدر فی حیاته

تكونت فی دار المعلمین العالیة فی السنة الدراسیة 1944-1945 جماعة أسمت نفسها أخوان عبقر كانت تقیم المواسم و الحفلات الشعریة حیث ظهرت مواهب الشعراء الشبان، ومن الطبیعی تطرق أولئك إلى أغراض الشعر بحریة وانطلاق، بعد أن وجدوا من عمید الدار الدكتور متى عقراوی، أول عمید رئیس لجامعة بغداد و من الأساتذة العراقیین والمصریین تشجیعا

كان السیاب من أعضاء الجماعة، كما كانت الشاعرة نازك الملائكة من أعضائها أیضا، بالإضافة إلى شاعرین یعتبران المؤسسین للجماعة هما الأستاذان كمال الجبوری و الدكتور المطلبی، ولم یكن من أعضائها شعراء آخرون منهم الأستاذ حازم سعید من موالید 1924و أحمد الفخری وعاتكة وهبی الخزرجی

ویتعرف بدر على مقاهی بغداد الأدبیة ومجالسها مثل مقهى الزهاوی ومـقـهى ا لبلدیة و مقهى البرازیلیة وغیرها یرتادها مع مجموعة من الشعراء الذین غدوا فیما بعد (رواد حركة الشعر الحر) مثل بلند الحیدری وعبد الرزاق عبد الواحد ورشید یاسین وسلیمان العیسى وعبد الوهاب البیاتی وغیرهم

    ویلتقی امرأة یحبها وهی لا تبادله هذا الشعور فیكتب لها
    أبی.. منه جردتنی النساء
    وأمی.. طواها الردى المعجل
    ومالی من الدهر إلا رضاك
    فرحماك فالدهر لا یعدل
     
    ویكتب لها بعد عشرین عاما- وكانت تكبره عمرا- یقول
    وتلك.. لأنها فی العمر اكبر
    أم لأن الحسن أغراها
    بأنی غیر كفء
    خلفتنی كلما شرب الندى ورق
    وفتح برعم مثلتها وشممت ریاها؟

غلام ضاو نحیل كأنه قصبة، ركب رأسه المستدیر كحبة الحنظل، على عنق دقیقة تمیل إلى الطول، وعلى جانبی الرأس أذنان كبیرتان، وتحت الجبهة المستعرضة التی تنزل فی تحدب متدرج أنف كبیر یصرفك عن تأمله العینین الصغیرین العادیتین على جانبیه فم واسع، تبز (الضبة) العلیا منه ومن فوقها الشفة بروزا یجعل انطباق الشفتین فوق صفی الأسنان كأنه عما اقتساری

وتنظر مرة أخرى إلى هذا الوجه الحنطی فتدرك أن هناك اضطرابا فی التناسب بین الفك السفلی الذی یقف عند الذقن كأنه بقیة علامة استفهام مبتورة وبین الوجنتین الناتئتین وكأنهما بدایتان لعلامتی استفهام أخریین قد انزلقتا من موضعیهما الطبیعیین

وتزداد شـهرة بدر الشاعر النحـیل القادم من أقصى قـرى الجنوب، وكانت الفتیات یستعرن الدفتر الذی یضم أشعاره لیقرأنه، فكان یتمنى أن یكون هو الدیوان :

    دیوان شعر ملؤه غزل
    بین العذارى بات ینتقل
    أنفاسی الحرى تهیم على
    صفحاته والحب والأمل
    وستلتقی أنفاسهن بها
    وترف فی جنباته القبل

یقو ل محمود العبطة: عندما أصدر الشاعر دیوانه الأول أزهار ذابلة فی 1947 وصدره بقصیدة من الشعر العمودی مطلعها البیت المشهور

دیوان شعر ملوْه غزل
بین العذارى بات ینتقل

اطلع علی الدیوان الشاعر التقدمی الأستاذ علی جلیل الوردی، فنظم بیتا على السجیة وقال للسیاب ، كان الأولى لك أن تقول

    دیوان شعر ملوْه شعل
    بین الطلیعة بات ینتقل
    
    وفى قصیدة أخرى یقول
    یا لیتنی أصبحت دیوانی
    لأفر من صدر إلى ثان
    قد بت من حسد أقول له
    یا لیت من تهواك تهوانی
    ألك الكؤوس ولى ثمالتها
    ولك الخلود وأننی فانی؟

ویتعرف السیاب على شعر وود زورت وكیتس وشیلى بعد أن انتقل إلى قسم اللغة الإنجلیزیة ویعجب بشعر الیوت وادیث سیتویل ومن ثم یقرأ ترجمة لدیوان بودلیر أزهار الشر فتستهویه

ویتعرف على فتاة أضحت فیما بعد شاعرة معروفة غیر أن عائق الدین یمنع من لقائهما فیصاب بإحباط آخـر، فیجـد سلوته فی الانتماء السیاسی الذی كانت عاقبته الفـصل لعـام دراسی كامل من كلیته ومن ثم سجنه عام 1946 لفترة وجیزة

أطلق سراحه بعدها لیسجن مرة أخرى عام 1948 بعد أن صدرت مجموعته الأولى أزهار ذابلة بمقدمة كتبها روفائیل بطی أحد رواد قصیدة النثر فی العراق

عن إحدى دور النشر المصریة عام 1947 تضمنت قصیدة هل كان حبا حاول فیها أن یقوم بتجربة جدیدة فی الوزن والقافیة تجمع بین بحر من البحور ومجزوءاته أی أن التفاعیل ذات النوع الواحد یختلف عددها من بیت إلى آخر

وقد كتب روفائیل بطی مقدمة للدیوان قال فیها نجد الشاعر الطلیق یحاول جدیدا فی إحدى قصائده فیأتی بالوزن المختلف وینوع فی القافیة، محاكیا الشعر الإفرنجی، فعسى أن یمعن فی جرأته فی هذا المسلك المجدد لعله یوفق إلى أثر فی شعر الیوم، فالشكوى صارخة على أن الشعر الربی قد احتفظ بجموده فی الطریقة مدة أطول مما كان ینتظر من النهضة الحدیثة

إن هذه الباكورة التی قدمها لنا صاحب الدیوان تحدثنا عن موهبة فیه، وان كانت روعتها مخبوءة فی اثر هذه البراعم - بحیث تضیق أبیاته عن روحه المهتاجة وستكشف الأیام عن قوتها، و لا أرید أن أرسم منهجا مستقبلا لهذه القریحة الأصیلة تتفجر وتفیض من غیر أن تخضع لحدود و القیود، ولكن سیر الشعراء تعلمنا أن ذوی المواهب الناجحین، هم الذین تعبوا كثیرا، وعالجوا نفوسهم بأقصى الجهد، وكافحوا كفاح الأبطال، حتى بلغوا مرتبة الخلود

ویتخرج السیاب ویعین مدرسا للغة الإنجلیزیة فی مدرسة ثانویة فی مدینة الرمادی التی تبعد عن بغداد تسعین كیلومترا غربا، تقع على نهر الفرات. وظل یرسل منها قصائده إلى الصحف البغدادیة تباعا، وفى ینایر 1949

ألقی علیه القـبض فی جـیكور أثناء عطلة نصف السنة ونقل إلى سجن بغداد واستغنی عن خدماته فی وزارة المعارف رسمیا فى25 ینایر 1949 وافرج عنه بكفالة بعد بضعة أسابیع ومنع إداریا من التدریس لمدة عشر سنوات، فعاد إلى قریته یرجو شیئا من الراحة بعد المعاملة القاسیة التی لقیها فی السجن

ثم توجه إلى البصرة لیعمل (ذواقة) للتمر فی شركة التمور العراقیة، ثم كاتبا فی شركة نفط البصرة، وفى هذه الأیام ذاق مرارة الفقر والظلم والشقاء ولم ینشر شعرا قط، لیعود إلى بغداد یكابد البطالة یجتر نهاراته فی مقهى حسن عجمی یتلقى المعونة من أصحابه اكرم الوتری ومحی الدین إسماعیل وخالد الشواف، عمل بعدها مأمورا فی مخزن لإحدى شركات تعبید الطرق فی بغـداد

وهكذا ظل یتنقل من عمل یومی إلى آخر، وفى عام 1950 ینشر له الخاقانی مجموعته الثانیة (أساطیر) بتشجیع من أكرم الوتری مما أعاد إلى روحه هناءتها وأملها بالحیاة، وقـد تصدرتها مقدمة لبدر أوضح فیها مفهومه للشعر الجدید الذی یبشر به ویبدأ بدر بكتابة المطولات الشعریة مثل أجنحة السلام و اللعنات وحفـار القـبور و المومس العمیاء وغیرها

ویضطرب الوضع السیاسی فی بغداد عام 1952 ویخشى بدر أن تطاله حملة الاعتقالات فیهرب متخفیا إلى إیران ومنها إلى الكویت بجواز سفر إیرانی مزور باسم (على آرتنك) على ظهر سفینة شراعیة انطلقت من عبادان فی ینایر 1953، كتب عنها فیما بعد قصیدة اسمها فرار 1953 وهناك وجد له وظیفة مكتبیة فی شركة كهرباء الكویت حیث عاش حیاة اللاجئ الذی یحن بلا انقطاع إلى أهله ووطنه، وهناك كـتب أروع قصائده غریب على الخلیج یقول فیها

    مازلت اضرب، مترب القدمین أشعث
    فی الدروب تحت الشموس الأجنبیة
    مـتخافق الأطمار
    أبسط بالسؤال یدا ندیه
    صفراء من ذل وحمى
    ذل شحاذ غریب بین العیون الأجنبیة
    بین احتقار، وانتهار، وازورار.. أوخطیه
    والموت أهون من خطیه
    من ذلك الإشفاق تعصره العیون الأجنبیة
    قطرات ماء.. معدنیة

ویعود إلى بغداد بعد انقضاء عدة اشهر یلتقی بأصدقائه القدامى فی مقهى حسن، ویقطع صلته بالحركة السیاسیة التی كان ینتمی إلیها بعد تجربته المریرة فی الكویت مع بعض رفاقه السابقین الذین عاشوا معه فی بیت واحد. ثم یصدر أمر وزاری بتعیینه فی مدیریة الاستیراد والتصدیر العامة، ویستأجر بیتا متواضعا فی بغداد ویستدعى عمته آسیه لترعى شؤونه الیومیة

تنشر له مجلة الآداب فی یونیو 1954 أنشودة المطر تتصدرها كلمة قصیرة جاء فیها من وحی أیام الضیاع فی الكویت على الخلیج العربی ویكتب بعدها المخبر تلیها الأسلحة والأطفال وفی المغرب العربی و رؤیا فوكای و مرثیة الآلهة و مرثیة جـیكور وینشغل بالترجمة والكتـابة، وتحل سنة1955 حـیث یتزوج من إقبال شقیقة زوجة عمه عبد اللطیف، وهى معلمة فی إحدى مدارس البصرة الابتدائیة

فی العام نفسه نشر ترجماته من الشعر المعاصر فی كتاب سماه قصائد مختارة من الشعر العالمی الحدیث یحتوى على عشرین قصیدة لألیوت وستویل وباوند سبندر ودی لویس، ودی لامیر و لوركا ونیرودا ورامبو وبریفیر، وریلكه طاغـور وناظم حكمت وغیرهم

وتقوم حرب السویس اثر العدوان الثلاثی على مصر عام 1956 لیكتب بعـدها السـیـاب قصیدته بور سعید ألقاها فی اجتماع عقد فی دار المعلمین العالیة ببغداد تضامنا مع شعب مصر وفى،2 دیسمبر 1956 تولد ابنته البكر غیداء، التی ستصبح مهندسة فیما بعد

ویتعرف فی شتاء1957 على مجلة جدیدة ستلعب دورا هاما فی مرحلته الفنیة الجدیدة تلك هی مجلة (شعر) اللبنانیة كان محررها یوسف الخال وسرعان ما أصبح السیاب أحد كتابها العدیدین من دعاة التجدید فی الشعر العربی مثل أدونیس وأنسی الحاج وجبرا إبراهیم جبرا وتوفیق صایغ، لتبدأ قطیعته مع مجلة الآداب التی تبنت نتاجه المدة السابقة

وبدعـوة من المجلة الجدیدة یسافر إلى بیروت لاحیاء أمسیة شعریة تعرف خلالها على أدونیس و أنسی الحاج وشوقی أبى شقرا وفؤاد رفقه ویوسف الخال، ویعود إلى بغداد أشد ثقة بشاعریته. واكثر إحساسا بالغبن فی بلده حیث یجابه وعائلته مصاعب الحیاة براتب ضئیل

وتستهویه الأساطیر التی دلها علیه (الغصن الذهبی) لجو فریزر والذی ترجم جبرا فصلا منه، فیكتب قصائد مثل المسیح بعد الصلب و(جیكور والمدینة) و(سربروس فی بابل) و (مـدینة السندباد) وهى قصائد تمتلئ بالرموز مثل المسیح ویهوذا وتموز وعشتار وسربروس والسندباد، ویجئ یوم 23 نوفمبر 1957 لتكتحل عینا الشاعر بابنه غیلان وقد كثف بدر فرحه بمولوده فی قـصیـدته مرحى غیلان و فیها یقول :

    بابا .. بابا
    ینساب صوتك فی الظلام إلى كالمطر الغضیر
    ینساب من خلل النعاس وأنت ترقد فی السریر
    من أی رؤیا جاء؟ أی سماوة؟ أی انطلاق؟
    وأظل أسبح فی رشاش منه، أسبح فی عبیر
    أن أودیة العراق
    فـتـحت نوافـذ من رؤاك على سهادی
    كل واد
    وهبته عشتار الأزاهر والثمار
    كأن روحی
    فی تربة الظلماء حبة حنطة
    وصداك ماء أعلنت بعثی
    یا سماء
    هذا خلودی فی الحیاة
    تكن معناه الدماء

وتأتى صبیحة 14 یولیو 1958 لتعلن عن نهایة الحكم الملكی على ید الجیش وتنسحب الجمهوریة الولیدة من حلف بغداد تركیا، إیران، باكستان، العراق وتخرج من كتلة الإسترلینی وتعلن قانون الإصلاح الزراعی وتطلق سـراح السجناء السیاسیین، ویحس بدر أن ما تمناه طویلا قد تحقق، غیر أن آمال بدر قد تهاوت اثر الانقسامات والاحترابات التی عصفت بالمجتمع آنذاك

وفى السابع من أبریل 1959 فصل من الخدمة الحكومیة لمدة ثلاث سنوات بأمر وزاری لتبدأ من جدید رحلة التشرد والفقر، كان نتاجها عدد من القصائد مثل العودة لجیكور و رؤیا فی عام 1956 و المبغى

فی یولیو 1960 یذهب إلى بیروت لنشر مجموعة من شعره هناك، وتوافق وجوده مع مسابقة مجلة شعر لأفضل مجموعة مخطوطة فدفع بها إلى المسابقة لیفوز بجائزتها الأولى (1000 ل. ل) عن مجموعته أنشودة المطر التی صدرت عن دار شعر بعد ذلك

وعاد إلى بغداد بعد أن ألغی فصله وعین فی مصلحة الموانئ العراقیة لینتقل إلى البصرة ویقطن فی دار تابعة للمصلحة فی الوقت نفسه بدأت صحته تتأثر من ضغط العمل المضنی والتوتر النفسی، غیر انه اعتقل ثانیة فی 4 فبرایر 1961 لیطلق سراحه فی 20 من الشهر نفسه، و أعید تعیینه فی المصلحة نفسها، غیر أن صحته استمرت بالتدهور فقد بدا یجد صعوبة فی تحریك رجلیه كلتیهما وامتد الألم فی القسم الأسفل من ظهره

فی 7 یولیو 1961 رزق بابنته آلاء فی وقت ساءت فیه أحواله المالیة، وغدا مثل قصبة مرضوضة. وحملته حالة العوز إلى ترجمة كتابین أمریكیین لمؤسسة فرانكلین، جرت علیـه العـدید من الاتهامـات والشكوك ثم تسلم فی العام نفسه دعوة للاشتراك فی (مؤتمر للأدب المعاصر) ینعقد فی روما برعایة المنظمة العالمیة لحریة الثقافة

ویعود إلى بفداد و من ثم إلى البصرة- محلة- المعقل- حیث الدار التی یقطنها منذ تعین فی مصلحة الموانئ، یكابد أهوال المرض إذ لم یعد قادرا على المشی إلا إذا ساعده أحد الناس ولم یعد أمامه سوى السفر وهكذا عاد إلى بیروت فی أبریل 9962 فی 18 أبریل 1962 أدخل مستشفى الجامعة الأمریكیة فی بیروت، وبعد محاولات فاشلة لتشخیص مرضه غادر المستشفى بعد أسبوعین من دخوله إلیه بعد أن كتب قصیدته الوصیة یخاطب فیها زوجته :

    إقبال، یا زوجتی الحبیبه
    لا تعذلینی، ما المنایا بیدی
    ولست، لو نجوت، بالمخلد
    كونی لغیلان رضى وطیبه
    كونی له أبا و أما وارحمی نحیبه

ویزوره اكـثر من طبیب فی مرضه المیؤوس منه، وتنفد النقود التی تبرع بها أصدقاؤه له، وینشر له أصحابه دیوانه المعبد الفریق عن دار العلم للملایین لكن الدخل الضئیل الذی جناه منه لم یسد نفقات علاجه، وازدادت حاله سوءا وابتدأت فكرة الموت تلح علیه وهو ما نراه فی قصیدة نداء الموت لیعود بعدها مدمرا نهایة سبتمبر 1962 تلاحقه الدیون إلى البصرة، وتكفلت المنظمة العالمیة لحریة الثقافة بنفقاته لعام كامل بعد أن رتبت له بعثة دراسیة

یقول جبرا إبراهیم جبرا

فی أواخر عام 1961 كانت وطأة المرض فی بدء شدتها على الشاعر، حتى أخذ یفكر فی أن لابد له من علاج فی لندن قد یطول. ولما كان قد حصل على زمالة دراسیة، كان الاقتراح أن ینخرط طالبا فی جامعة إنكلیزیة للدراسة من أجل الدكتوراه

فی أثناء ذلك ینصرف أیضا لمعالجة مرضه. وكان عندها أن سعیت له مع صدیقی المفكر العربی الأصل، الأستاذ ألبرت حورانی، الأستاذ فی جامعة أكسفورد لقبوله بأسرع ما یمكن، وكان التأكید على السرعة

فأبدى الأستاذ حورانی حماسة للفكرة، و حاول أن یجد له مكانا فی الجامعة غیر أن قبوله لم یكن لیتم فی الحال - والذین حاولوا أیجاد مكان لهم فی أكسفورد یعلمون بالمدة الطویلة التی لابد من انقضائها أحیانا بین تقدیم الطلب و القبول النهائی- ولما لم یكن ثمة مجال للانتظار

ومرض بدر فی تصاعد سریع أخذ یعیق علیه سیره، استطاع الأستاذ حورانی أن یجد له قبولا فی جامعة درم وهی من جامعات شمال إنكلترا، المعروفة بدراساتها الشرقیة وفی أوائل خریف 1962 سافر در إلى إنكلترا لأول مرة والمرض یكاد یقعده، وتوجه إلى مدینة درم، وهو شدید القلق و المخاوف على حالته الصحیة .

درم مدینة جبلیة صغیرة، ابتنت شهرتا على وجود جامعة فیها هی من أفضل الجامعات البریطانیة. بید أنها رغم جمالها الطبیعی، وجمال كلیاتها التی یتباهى بعضها بروائع هندستها المعماریة، مدینة یلفها الضباب فی معظم أیام السنة، ولقربها من مناجم الفحم المحیط بها من كل صوب، یشتد فیها الضباب قتاما أیام الخریف و الشتاء لدرجة الكآبة


وفی 29 تشرین الثانی 1963 كتب قصیدة أسیر القراصنة یصف فیها حسرته لأنه مشلول، ویتمنى لو كان یستطیع المشی ویفضل ذلك على كونه شاعرا یعزف القیثار باسم الجراح ، ثم یقول لنفسه و أنت فی سفینة القرصان عبد أسیر دونما أصفاد تقبع فی خوف وإخلاد تصغی إلى صوت الوغى والطعان :

    سال دم
    اندقت رقاب ومال
    ربانها العملاق
    وقام ثان بعده ثم زال
    فامتدت الأعناق
    لأی قرصان سیأتی سواه
    و أی قرصان ستعلو یداه
    حینا على الأیدی ؟
    ولیأت من بعدی
    من بعدی الطوفان
    تسمعها تأتیك من بعد
    یحملها الإعصار عبر الزمان

وكان بدر فی غضون ذلك هدفا لحملات صحفیة بسبب تناقضاته السیاسیة فی الماضی وموقفه غیر الملتزم فی الحاضر. وكانت علاقاته بمجلة جوار و المنظمة العالمیة لحریة الثقافة تذكر ضده

وكان معظم الناس یحكم علیه أشد الحكم بناء على ما كتب أو ما كان یكتب ولكن قلائل كانوا یعلمون حقا مبلغ مرضه ومدى ضعفه، إذ كانوا لا یزالون یحسبون أنه عملاق الشعر العربی الحدیث الذی یجب أن یكون دائما عند كلمته بینما لم یكن عند بدر الا أن یندب حظه ویتحسر على عمره الضائع ویرغب فی الموت

قال فی رسالة إلى صدیق : ( لا أكتب هذه الأیام إلا شعرا ذاتیا خالصا. لم اعد ملتزما. ماذا جنیت من الالتزام؟ هذا الفقر وهذا المرض؟ لعلی أعیش هذه الایام آخر أیام حیاتی إننی أنتج خیر ما أنتجته حتى الآن. من یدری؟ لا تظن أننی متشائم، العكس هو الصحیح لكن موقفی من الموت قد تغیر

لم أعد أخاف منه، لیأت متى شاء. أشعر أننی عشت طویلا. لقد رافقت جلقامش فی مغامراته، وصاحبت عولیس فی ضیاعه، و عشت التاریخ العربی كله ألا یكفی هذا؟ تمثال السیاب

وكانت حالته الصحیة تزداد سوءا كل یوم وكاد فقد القدرة على الوقوف الآن كان طریح الفراش فی إجازة مرضیة وقد بدأت تظهر له فی منطقة الألیتین قرحة سریریة جعلت تتوسع لطول رقاده فی السریر

ولم یعد قادرا على ضبط حركتی التبول و إفراغ الأمعاء لضعف الأعصاب الاحساسیة والعضلات الضابطة فی جذعه الأسفل

ومرت بامرأته أیام عصیبة وهی تتفانى فی خدمته وتوفر أسباب الراحة له وعلى الرغم من أنه كان یتمتع بكامل قواه العقلیة فانه كان أحیانا یتهمها بعدم العطف علیه

وفی كانون الثانی 1964 سمع بدر بوفاة الشاعر لویس مكنیس، فكتب قصیدة لهذه المناسبة. ولكنه لم یستطع أن یحجم عن الإشارة إلى مرضه وغربته عن زوجته وتمنى الموت. وكان یدخن كثیرا ویأكل قلیلا جدا

واذا به فی 9 شباط 1964 فی حالة صحیة حرجة استدعت إدخاله إلى مستشفی الموانئ فی البصرة، وهو یعانی ارتفاع حرارته إلى أربعین درجة مئویة، بالإضافة إلى عسر فی التنفس مع ازرقاق الشفتین وسعال شدید

و بعد الفحص تبین أنه مصاب بذات الرئة المزدوجة وبدایة خذلان القلب، وإسهال شدید مع تقیؤ، وقرحة سریرة متعفنة قطرها 25 سنتیمترا فی المنطقة الحرقفیة، بالإضافة إلى شلل أطرافه السفلى وهزاله الشدید

فوضع مدة أسبوع كامل تحت المعالجة الخاصة بالحالات الطارئة الحرجة فی المستشفى الحكومی، وبعد أن زال الخطر عن حیاته مباشرة، وبعد أن بدأت حالة قلبه ورئتیه تتحسن عولج لإزالة الإسهال الذی كان یزید قرحته السریریة سوءا

وعندما بدأ الإسهال یزول اصبح فی الإمكان معالجة قرحته السریریة، فتحسنت حالتها و أصبحت غیر متقیحة. غیر أن التئامها بطریقة نمو الأنسجة الذاتی كان مشكوكا فیه إلا بعملیة رقع الجلد

وقد كتب بدر بهذا الشأن رسالة مؤثرة إلى توفیق صایغ یسأله فیها أن یرسل مسحوقا طبیا لجراح الناغرة و الفاغرة یشتریه له من صیدلیات بیروت

وقد أعطی بدر كمیات كبیرة من الأدویة المقویة ، فضلا عن الكمیات الإضافیة من الحلیب و اللحوم و الأسماك و الفواكه، مع العلم أنه لم یكن فی المستشفى إلا أسرة من الدرجة الثالثة التی لا تقدم لها هذه الأغذیة وبمثل هذه الكمیات

فازداد وزن بدر اكثر من ثمانیة كیلوغرامات، وبوشر باجرء تمارین ریاضیة بسطة لأطرافه السفلى. و كان الطبیب یعلم أن لا علاج لمرض التصلب المنتشر فی النخاع الشوكی المسبب للشلل، ولكنه اقترح أن ینقل بدر إلى أحد مستشفیات بغداد لیوضع تحت إشراف طبیب أخصائی بأمراض الجهاز العصبی

وفی أول نیسان 1964 انتهت المدة التی یحق لبدر فیها أن ینال إجازات مرضیة واجازات اعتیادیة براتب تام 54 دینارا عراقیا، وكذلك المدة التی یحق له فیها أن ینال إجازات مرضیة بنصف راتب، بمقتضى أحكام قانون الخدمة المدنیة رقم 24 لسنة 1960

ولكنه لم یستطع أن یغادر المستشفى لاستئناف العمل فی مصلحة الموانئ. لذلك بدأت مدة الإجازة المرضیة بدون راتب التی یسمح بها القانون، وطولها 180 یوما وفی 8 نیسان 1964 أرسلت جمعیة المؤلفین و الكتاب العراقیین ببغداد، وكان بدر عضوا فیها، رسالة إلى وزارة الصحة العراقیة تتوسط لدیها لمعالجة بدر

وجوابا على استفسارات الوزارة، أرسلت الجمعیة رسالة أخرى فی 26 نیسان 1964 فیها معلومات عن حالة بدر المرضیة و معالجته فی مستشفى الموانئ، مع رجاء حار بسرعة توفیر الأخصائیین الطبیین لمساعدة بدر

ولكن الرسمیات فی الدوائر الحكومیة طالت، بحیث أن شهر حزیران 1964 كاد ینتهی قبل أن تتخذ ترتیبات لنقل بدر بالقطار إلى بغداد لیوضع فی غرفة من الدرجة الأول ویعالج فی مستشفى الشعب ببغداد وصدرت دعوة المستشفى بتاریخ 29 حزیران 1964، ولكنها لم تصل بدرا إلى فی 5 تموز 1964

وكانت ترتیبات خاصة أخرى قد اتخذت قبل ذلك لمعالجة بدر فی الكویت وذلك أن الشاعر الكویتی علی السبتی كان قد نشر نداء موجها لوزیر الصحة الكویتی عبداللطیف محمد الثنیان یناشده فیه معالجة بدر فی الكویت على حساب الحكومة الكویتیة فرحب وزیر الصحة بذلك وكان معجبا بشعر بدر فاتخذت الترتیبات لأن یجئ بدر إلى الكویت بالطائرة لیعالج فی المستشفى الأمیری

فی 5 تموز 1964، كتب بدر كلمة شكر واعتذار على رسالة الدعوة التی جاءت من مستشفى الشعب ببغداد یشرح الترتیبات السابقة مع الحكومة الكویتیة. وفی 6 نموز طار إلى الكویت على إحدى طائرات الخطوط الجویة العراقیة وكان وحده

فاستقبله فی المطار الكویتی صدیقه علی السبتی مع أصدقاء آخرین. وادخل المستشفى الأمیری فی الحال ووضع فی غرفة خاصة و أحیط بكل عنایة واهتمام

غیر أن لا عنایة ولا اهتمام مهما حسنا كان بإمكانهما أن یعیدا الصحة لبدر فقد كانت صحته فی تأخر وانحدار متزایدین، وكان التصلب یسوء صعدا فی نخاعه الشوكی ویزید فی إفساد وظائف جهازه العصبی، وساءت حالة قرحته السریریة بفقدان الإحساس فی جذعه الأسفل وعدم قدرته على السیطرة على البراز و البول وكانت رجلاه الضامرتان بلا قوة، وقد أدى عدم استعمالهما إلى بدایة فساد فی العظام نفسها ولكنه كان متمالكا لجمیع قواه العقلیة، وكان برى أنه یعیش فی حضن الموت

و لم یكن فی حاجة لأن یقول له أحد أن أیامه كانت معدودة. لماذا إذن اذلال الجسد، ولماذا آلام الروح؟ لیأت الموت سریع، ولیأت فجأة

وفی لیلة 9 تموز 1964 كتب قصیدة عنوانها فی غابة الظلام بینما كان ساهرا یفكر بحالته الحزینة وبابنه غیلان یحلم بعودة والده، وختمها بقوله

    ألیس یكفی أیها الإله
    أن الفناء غایة الحیاه
    فتصبغ الحیاة بالقتام ؟
    سفینة كبیرة تطفو على المیاه؟
    هات الردى ، أرید أن أنام
    بین قبور أهلی المبعثرة
    وراء لیل المقبرة
    رصاصة الرحمة یا اله

لقد بلغ به الیأس مبلغا حتى أنه طلب من الله رصاصة الرحمة، طلب موتا فجائیا ینهی شقاءه برحمة

وكان یزوره فی المستشفى یومیا كثیرون من أصدقائه مثل علی السبتی وناجی علوش، وإبراهیم أبوناب وفاروق شوشه وسلمى الخضراء الجیوسی مع زوجها. وكان وزیر الصحة الكویتی وغیره من كبار الرسمیین الكویتیین یزورونه كذلك، ولم یكن بدر وحیدا ، بل أنه فی الواقع كان ینزعج أحیانا من طول جلسات الشعراء و الكتاب والصحفیین التی كانت تدوم إلى ساعات متأخرة من اللیل

وما أعظم ما كنت سعادته حین تسلم رسالة من زوجته فی 3 آب 1964، فكتب قصیدة عنوانها (رسالة) یصف فیها شعوره بالقلق على أسرته. وفی لیلة 5 آب 1964 كان یفكر مشتاقا بابنتیه غیداء وآلاء وینتظر وصولهما مع غیلان وزوجته إقبال فی الیوم التالی. فكتب قصیدة عنوانها (لیلة انتظار)، وفیها یقول :

    غدا تأتین یا إقبال ، یا بعثی من العدم
    ویا موتی ولا موت
    ویا مرسى سفینتی التی عادت ولا لوح على لوح
    ویا قلبی الذی إن مت أتركه على الدنیا لیبكینی
    ویجأر بالرثاء على ضریحی وهو لا دمع ولا صوت
    أحبینی ، إذا أدرجت فی كفنی .. أحبینی
    ستبقى - حین یبلى كل وجهی ، كل أضلاعی
    وتأكل قلبی الدیدان ، تشربه إلى القاع
    قصائد .. كنت أكتبها لأجلك فی دواوینی
    أحبیها تحبینی

ووصلت إقبال و أولادها إلى الكویت فی الیوم التالی ونزلوا فی بیت علی السبتی خلال اقامتهم فی الكویت. وكانت إقبال تزور زوجها فی المستشفى كل یوم فتؤنسه وتخدمه .
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 19:38|
ان كل انسان یستطیع ان یحكی لك حكایه او یقص علیك حادثه فی الطریق او وقعت له ، ای ان الاستعداد القصصی خاصیه انسانیه یشترك فیها جمیع الناس ، ولكن كاتب القصه یختلف عن كل انسان فی انه ینظر الى الاشیاء الواقعه نظره خاصه . فهو لایقف منها عندالسطح ، ولكنه یتعمقها و یفرز علیها من افكاره و خیاله ، ویجعل لها تكوینا ً آ خر و فلسفه اخرى ، ثم هو یختزن كل ذلك فی نفسه لیستقله فی یوم من الایام .
وحین یعود لنفسه لیستمد من ذلك المخزون فإنه لا یستمدمنه اعباطا ً و لكنه یستمد ماله اهمیه خاصه .
لذلك كانت مادة العمل القصص الناجح دائما ماده لها هذه الصفه , صفة الاهمیه .
و لیس كل القصص التی تتناول الحوادث الكبیره ذا قیمه ادبیه , و لكن القیمه تأتی من ان الكاتب قد تعمق هذه الحادثه و نظر إلیها من جوانبها المتعدده .
و بعباره عامه نقول : قد اكسبها قیمه انسانیه خاصه .
و اذا قلنا ان الكاتب یختار الحادثه المهمه -- صغیره كانت ام كبیره -- فاننا نقدر قیمة الاختیار فی العمل الادبی .

(( و تدل كتب الامثال على ان العرب عرفوا فن القصه منذ اقدم العصور و كانت القصه فی اول امرها عباره عن اخبار تروى ,
تمتزج فیها الحقیقه بالخیال و التاریخ بالاسطوره .
و حین ظبطت الروایه و احكمت شروطها , و كثر التدوین فی العلوم الانسانیه ,
تمیزت الاخبار عن التاریخ ,
فحفلت كتب الادب بالاخبار عن المشاهیر و غیر المشاهیر .
ولم یقصد بهذا النوع اعلام القارئ بحقیقه تاریخیه , انم تساق فی ثنایا الكتب للتفكه حینا و للعضه حینا آخر .
و یعزى فضل الریاده فی هذا الفن الى كاتب مصری هو محمد تیمور و آخر لبنانی هو میخائیل نعیمه ))


.. تعریف القصه و الحكایه ..

القصــــــــــــــه :
سرد واقعی او خیالی قد یكون نثراً او شعرا ً یقصد به اثارة الاهتمام و الامتاع
او تثقیف السامعین و القراء .
و یقول ( روبرت لویس ستیفنسون ) و هو من رواد القصص المرموقین :
لیس هناك إلا ثلاث طرق لكتابة القصه , فقد یأخذ الكاتب الحبكه ثم یجعل الشخصیات ملائمه لها , او یأخذ شخصیه و یختار الاحداث و المواقف التی تنمی تلك الشخصیه , او قد یأخذ جوا ً معینا ً و یجعل الفعل و الاشخاص تعبر عنه و تجسده .

تعریفات حول القصه و الحكایه

القصه القصیره :سرد قصصی قصیر نسبیا ً ( قد یقل عن عشرة آلاف كلمه ) یهدف الى احداث تأثیر مهیمن و یمتلك عناصر الدراما . وفی اغلب الاحیان ترتكز القصه القصیره على شخصیه واحدة فی موقف واحد فی لحضه واحدة .
و حتى اذا لم تتحقق هذه الشروط فلا بد ان تكون الوحده هی المبدأ الموجهه لها. و الكثیر من القصص القصیره تتكون من شخصیه ( او مجموعه من شخصیات ) تقدم فی مواجهة خلفیه او وضع , و تنغمس خلا الفعل الذهنی او الفیزیائی فی موقف .
و هذا الصراع الدرامی ای اصطدام قوه متضادة ماثل فی قلب الكثیر من القصص القصیرة الممتازة .
فالتوتر من العناصر البنائیه للقصه القصیره كما ان تكامل الانطباع من سمات تلقیها بالاضافه الى انها كثیرا ً ما تعبر عن صوت منفرد لواحد من جماعه مغموره .


# ویذهب بغض الباحثین الى الزعم بأن القصه القصیره قد وجدت طوال التاریخ بأشكال مختلفه مثل قصص العهد القدیم عن الملك داوود , و سیدنا یوسف و راعوث , و كانت الأحدوثه و قصص القدوة الاخلاقیه فی زعمهم هی اشكال العصر الوسیط للقصه القصیره .
و لكن الكثیر من الباحثین یعتبرون ان المسأله اكبر من اشكالمختلفه للقصه القصیره , فذلك الجنس الادبی یفترض تحرر الفرد العادی من ربقة التبعیات القدیمه و ظهوره كذات فردیه مستقله تعی حریاتها الباطنه فی الشعور و التفكیر , و لها خصائصها الممیزه لفردیتها على العكس من الانماط النموذجیه الجاهزه التی لعبت دور البطوله فی السرد القصصی القدیم .


# و یعتبر ( إدجار الن بو ) من رواد القصة القصیرة الحدیثة فی الغرب .
وقد ازدهر هذا اللون من الادب فی انحاء العالم المختلفه , طوال قرن مضى على ایدی ( موباسان وزولا وتورجنیف و تشیخوف و هاردی و ستیفنسن ) , و مئات من فنانی القصه القصیره .
وفی العالم العربی بلغت القصة القصیرة درجه عالیه من النضج على ایدی
یوسف ادریس فی مصر , و زكریا تامر فی سوریا , و محمد المر فی دولة الامارات .


# ان للقصه القصیره انواع او انماط عدیده ..
اذكر بعضها للفائده .. و هی الانماط الاكثر تداولا ً و انتشارا ً

1= المیثو لوجیـــــــــــــا ..
هو مزج بین الاساطیر و الزمن المعاصر .. دون التأثر بما شكلته لنا الاساطیر من سحر و جمال .. او حتى التقید بازمنتها و امكنتها .

2= التسجیلیـــــــــــــــــة ..
لا تعنی الخواطر و الوجدانیات .. او حتى الكتابه الانشائیه .. بل هی قصص فی اطارها المألوف .. و لكن بإضافات ابداعیه جدیده .. تتضمن للكاتب الحریه و الوجدانیه معا ً .

3= السیكولوجیـــــــــــــة ..قصص .. تطمح الى تصویر الانسان ..و عكس افكاره الداخلیه .. تصل الى المستوى النفسی للانسان .. و تفند احاسیسه ومشاعره .. وتتكلم دائما عن اشیاء خفیه فی النفس البشریه .

4= الفانتازیــــــــــــــــــــا ..اعتبره اشرس انواع القصة القصیرة .. فهو ذو طابع متمرد .. متمیز بالغربه و الضیاع .. هو اسلوب ثوری على الاسالیب التقلیدیه .. وخروج غیر مألوف عن الدارج بحیث یطغى على الماده .. یهدف كاتب هذه النوعیه من القصص الى ابراز مدى الفوضه الفكریه و الحضاریه .. لدى انسان هذا العصر .. و حیاته .. فهو یرفض التقلید او الرضوخ للواقع .


الحكـــــــــــــــــــــایة :
سرد قصصی یروی تفصیلات حدث واقعی او متخیل , وهو ینطبق عادة ً على القصص القصیره ذات الحبكه المتراخیة الترابط -- مثل : حكایة الف لیلة و لیلة .


الحكــــــــایة الشعبیــــــــــــه :خرافه ( او سرد قصصی ) تضرب جذورها فی اوساط شعب و تعد من مأثوراته التقلیدیة . وخاصه فی التراث الشفاهی .
و یغطی المصطلح مدى ً واسعا ً من المواد ابتداء ً من الاساطیر السافرة الى حكایات الجن .
و تعد الف لیلة و لیلة مجموعة ذائعة الشهره من هذه الحكایات الشعبیه .




عناصـــــــــر العمــــــــل القصصــــــــی :

1-- الحـــــــــادثة :الحادثه فی العمل القصصی مجموعه من الوقائع الجزئیه مرتبطه و منظمه على نحو خاص و هو مایمكن ان نسمیه ( الأطار ) , ففی كل القصص یجب ان تحدث أشیاء فی نظام معین , وكما انه یجب ان تحدث اشیاء فأن النظام هو الذی یمیز أطار عن الآخر , فالحوادث تتبع خطا فی قصة و خطا آخر فی قصه أخرى .
و الحادثه الفنیه هی تلك السلسله من الوقائع المسروده سردا فنیا , التی یضمها اطار خاص .
واذا كنا هنا نتحدث عن عنصر الحادثه فینبغی ان نذكر بأن هناك نوعا ً من
القصص یعنى عنایة خاصة بالحادثة و سردها و تقل عنایته بالعناصر القصصیه الاخرى . و یسمى هذا النوع ( قصة الحادثه ) او ( القصة السردیة ) وفی القصة السردیة تكون ( الحركة ) هی الشئ الرئیسی .
فالحركه عنصر أساسی فی العمل القصصی و هی نوعان : حركة عضویة , و حركة ذهنیة .
و الحركة العضویة تتحقق فی الاحداث التی تقع , و فی سلوك الشخصیات , وهی بذلك تعد تجسیما ً للحركه الذهنیه التی تتمثل فی تطور الفكره العامه نحو الهدف الذی تهدف الیه القصة .



2 -- الســـــــــــــرد :هو نقل الحادثه من صورتها الواقعه الى صوره لغویه , فحین نقرأ مثلا ً
(( و جرى نحو الباب و هو یلهث , و دفعه فی عنف , و لكن قواه كانت قد خارت , فسقط خلف الباب من الأعیاء )) ..
نلاحظ الافعال >> جرى , یلهث , خار , سقط .. فهذه الافعال هی التی تكون فی اذهاننا جزیئات الواقعه , و لكن السرد الفنی لا یكتفی عادة بالافعال كما یحدث فی كتابة التاریخ , بل نلاحظ دائما ان السرد الفنی یستخدم العنصر النفسی الذی یصور به هذه الافعال
(( وهو یلهث , فی عنف , من الاعیاء --- فی المثال السابق )) وهذا نتج شأنه ان یكسب السرد حیویة , ویجعله لذلك فنیا ً .
و لكاتب القصة ان یختار كیفیة كتابة قصته من بین ثلاث طرق :
الطریقة المباشرة او الملحمیة , وطریقة السرد الذاتی , و طریقة الوثائق .
الطریقه الاولى مألوفه اكثر من غیرها و فیها یكون الكاتب مؤوخا یسرد من الخارج .
و فی الطریقة الثانیة یكتب على لسان المتكلم . وهو بذلك یجعل من نفسه و أحد شخوص القصه شخصیه واحدة . و هو بذلك یقدم ترجمه ذاتیه خیالیه .
وفی الطریقه الثالثة تتحقق القصه عن طریق الخطابات او الیومیات او الحكایات و الوثلئق المختلفة .



3 -- البنــــــــــــــــــاء :هناك صور عده لبناء الحادثه القصصیة بناء ً فنیا ً , و یمكن ان یقال ان كل قصة لها صوره بنائیه خاصه بها , و مع ذلك فقد امكن ضبط مجموعه من الصور البنائیه العامه , وهناك -- بصفه عامه -- صورتان لبناء الحبكه القصصیة هما :
صورة البناء و الصورة العضویه ,
وفی الاولى لاتكون بین الوقائع علاقه كبیره ضروریه او منتضمه . و عند اذن تعتمد وحدة السرد على شخصیة البطل الذی یربط بشخصه النواه الشخصیه المركزیه بین العناصر المتفرقه . و قصص المغامرات بعامه تمثل هذا النوع .
اما فی الصوره البنائیه العضویه فأن القصه مهما امتلات بالحوادث الجزئیه المنفصله الممتعه فأنها تتبع ( تصمیما ) عاما معقولا و فی خلال هذا التصمیم تقوم كل حادثه تفصیلیه بدور حیوی واضح .
فهناك شئ اكثر من مجرد الفكره العامه فی سیر القصه , فالخطه كلها لابد ان تعد بصوره مفصله , وان تنضم الشخصیات و الحوادث بحیث تشغل اماكنها المناسبه , وان تؤدی كل الخطوط الى النهایه .
و ینبغی ان یكون واضحا ً ان الصوره البنائیه تختلف من نوع قصصی الى آخر ,
فالصوره البنائیه التی تتمثل فی الروایه لا یمكن ان تصلح لبناء قصه قصیره . او ابسط صوره لبناء القصه -- و هی الصوره المأ لوفه بصفه عامه -- هی تلك التی تتمثل بین طرفی الصراع , و هما الهدف و النتیجه .



4 -- الشخصیـــــــــــــة : القصه معرض لأشخاص جدد یقابلهم القارئ لیتعرف علیهم و یتفهم دورهم , و یحدد موقفهم .
و طبیعی انه من الصعب ان نجد بین انفسنا و الشخصیه التی لم نعرفها ولم نفهمها نوعا ً من التعاطف . ومن هنا كانت اهمیة التشخیص فی القصه , فقبل ان یستطیع الكاتب ان یخعل القارئ یتعاطف وجدانیا ً مع الشخصیه , یجب ان تكون هذه الشخصیه حیه . فالقارئ یرید ان یراها وهی تتحرك , و ان یسمعها وهی تتكلم , یرید ان یتمكن من رؤاها رؤى العین .
و هناك نوعا ً من القصص یسمى ( قصة الشخصیة ) و یكون فیها الاهتمام بالشخصیه اولا ً و من ثم الحادثه .
و هناك ایضا ً انواع للشخصیات ذاتها فی القصه :
( الشخصیه الجاهزه ) وهی الشخصیة المكتملة التی تظهر فی القصه -- حین تظهر -- دون ان یحدث فی تكوینها ای تغیر ,
و انما یكون التغیر فی علاقتها بالشخصیات الآخرى فحسب . ای تصرفاتها لها طابع واحد .
النوع الثانی ( الشخصیة النامیة )وهی الشخصیة التی یتم تكوینها بتمام القصة , فتتطور من موقف الى موقف , وفی كل موقف یكون لها تصرف جدید یكشف لنا جانبا ً منها .
و الذوق الحدیث یفضل النوع الثانی من الشخصیة كما انه لكل قصّـاص طریقته الخاصه فی رسم الشخصیات ,
فبعضهم یستعیتن بوصف الملامح الخارجیه او الداخلیه او هما معا ً , وبعضهم یدع الحوادث و الحركات ترسمهـــــــــــــا .



5 -- الزمــــان و المكــــان :كل حادثه تقع لابد ان تقع فی مكان معین وفی الزمان ذاته , و هی بذلك ترتبط بظروف وعادات و مبادئ خاصه بالزمان و المكان اللذین وقعت فیهما , الارتباط بكل ذلك ضروری لحیویة القصة , لانه یمثل البطانه النفسیة للقصة , و یسمى هذا العنصر (( SETTING )) , و یقوم بالدور الذی تقوم به المناظر على المسرح بوصفها شیئا ً مرئیا ً یساعد خیال القارئ .
و تزداد عندما یساعد على فهم الحاله النفسیه للقصة او الشخصیة , فهو هنا یقوم بنفس الدور الذی تقوم به الموسیقى المصاحبه للمسرحیه او القصه السینمائیه ,
واخیرا ً یصبح التصویر مهما ً احیانا حتى انه یكاد ان یقوم بدور الممثل فی القصة , او تكون له قوه درامیه .



6 -- الفكــــــــــــــــــــــرة :یتحدث القارئ المتوسط عن ( الأطار ) فی القصه , وهو عادة ًیعنی بذلك ماذا حدث ؟ , وعندما نحلل القصه لایكون لهذا السؤال من اهمیه مایكون سؤالنا : لماذا حدث ؟ صحیح ان نهایة كل قصة تعطی نوعا ً من النتیجه فهناك شئ یحدث فعلا ً و لكن اسباب هذه النتیجه اكثر اهمیه من الحوادث الواقعه ذاتها .
فخلف الحوادث یقع المعنى , و هذا المعنى یقبله القارئ و یرفضه معتمدا ً على ما اذا كان المؤلف قادرا ً على اقناعه بأن النتیجه تتفق مع خبرته بالحیاه او الحیاه كما یصورها المؤلف .
فالقصة إذا ً انما تحدث لتقول شیئا ً , لتقرر فكره .. فالفكره هی الاساس الذی یقوم علیه البناء الفنی للقصة .
و الموضوع الذی تبنى علیه القصة لایكون دائما ً ایجابیا فی اثره
فمع انه یجب ان یقرر بطریقه مباشره او غیر مباشره عن الحیاة او السلوك الانسانی فإنه غیر محتاج لأن یحل مشكله .
وقد بین كاتب القصة الروسی العضیم ( تشیكوف ) لصدیق شاب ان هناك فرقا بین حل المشكله و وضعها وضعا ً صحیحا ً ,
فیكفی الفنان ان یصور مشكلته تصویرا ً صحیحا ً .
وحین نبحث عن سبب اعجابنا بقصة قرأناها سنجد ان فكرتها كان لها اثر فی هذا الاعجاب ,
ولكن هل نقرأ العمل الفنی لفكرته و حسب ؟
ان القصة هی صورة الحیاة و نحن نعرف الحیاة معرفه جیدة
و ننتظر من القصة دائما ً ان تكون صادقه حیه , مقنعة كالحیاة الواقعه , و لكن القصة تمتاز عن الحیاة بأن لها صوره فنیه خاصة فالكاتب یقدم لنا قصه -- و قصة بالذات -- حین یقدم لنا فكرة , كما ان مصدر اعجابنا لایمكن ان یحدد دائما ً بقاعدة لأننا فی كل قصه یـُــكشف لنا شئ جدید
و لكن من المؤكد ان القصه -- ككل عمل فنی -- لا یتحدد لها شكل حتى تتحقق فیها فكرة الكــــــــــــــــاتب .





>>>> الانواع القصصیه الرئیسیة هی .. ..الأقصوصه , القصة القصیرة , القصة , الروایه .. ..
ویغلو بعض كتاب القصص فی هذه الایام فی اتجاهیین :
الاتجاه الى الصراع الاجتماعی , و الاتجاه الى التحلیل النفسی , و لیس لنا ای اعتراض على ای اتجاه , مادام لایؤثر فی سمة العمل الانسانیه ولایطغى على الحقائق الفنیه .


(((( المصادر )))) :
التحلیل الأدبی
المعاجم العربیة
معجم المصطلحات الأدبیه / إبراهیم فتحی
الأدب و فنونه / عز الدین إسماعیل
النقد الأدبی : أصوله و مناهجة / سید قطب
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 19:37|
حیاته: هو جریر بن عطیة، ینتهی نسبة إلى قبیلة"تمیم" نشأ فی الیمامة ومات فیها ودفن.

كان من أسرة عادیة متواضعة.. وقف فی الحرب الهجائیة وحده أمام ثمانین شاعرًا، فحقق علیهم النصر الكبیر،ولم یثبت أمامه سوى الفرزدق والأخطل.

كان عفیفًا فی غزله،متعففًا فی حیاته، معتدلا بعلاقاته وصداقاته..

كما كان أبیًا محافظًا على كرامته، لاینام على ضیم، هجاء من الطراز الأول، یتتبع فی هجائه مساوىء خصمه، وإذا لم یجد شیئًا یشفی غلته، اخترع قصصًا شائنة وألصقها بخصمه، ثم عیره بها..

اتصل بالخلفاء الأمویین، ومدحهم ونال جوائزهم،..

سلك فی شعره الهجاء والمدیح والوصف والغزل..

عاش حوالی ثمانین سنة.

اختلف المؤرخون فی تحدید تاریخ وفاة جریر، على أنه فی الأغلب توفی سنة 733م/144ه وذلك بعد وفاة الفرزدق بنحو أربعین یومًا، وبعد وفاة الأخطل بنحو ثلاث وعشرین سنة.





المدیح عند جریر




أكثر جریر من المدیح ، وكانت نشأته الفقیرة، وطموح نفسه، وموهبته المواتیة، وحاجة خلفاء بنی أمیة إلى شعراء یدعون لهم، ویؤیدون مذهبهم، كان كل ذلك مما دفعه إلى الإكثار من المدح والبراعة فیه. وكان أكثر مدائحه فی خلفاء بنی أمیة وأبنائهم وولاتهم، وكان یفد علیهم من البادیة كل سنة لینال جوائزهم وعطایاهم.

وكان مدیحه لهم یشید بمجدهم التلید ویروی مآثرهم ومكارمهم، ویطیل فی الحدیث عن شجاعتهم، ویعرض بأعدائهم الثائرین علیهم، وبذلك كان یظهر اتجاهه السیاسی فی ثنایا مدحه لهم، وكان إذا مدح، استقصى صفات الممدوح وأطال فیها، وضرب على الوتر الذی یستثیره ولم یخلط مدائحه وبلغت غایتها من التأثیر فی النفس.

وفی الحق أنه ما كان لجریر من غایة غیر التكسب وجمع المال، فلم یترفع عن مدح أی شخص أفاض علیه نوافله، حتى أنه مدح الموالی..

ذلك أن طمع جریر وجشعه وحبه للمال كانت أقوى من عصبیته القبلیة، ولم یكن لرهطه من الشرف والرفعة مثل ما لرهط الفرزدق، لهذا شغل الفرزدق بالفخر بآبائه وعشیرته، وقال أكثر مدائحه فی قبیلته، وحتى فی مدائحه لبنی أمیة لم ینس الفخر بآبائه وأجداده.

..

فهو إذا مدح الحجاج أو الأمویین بالغ فی وصفهم بصفات الشرف وعلو المنزلة والسطوة وقوة البطش، ویلح إلحاحا شدیدا فی وصفهم بالجود والسخاء لیهز أریحیتهم، وقد یسرف فی الاستجداء وما یعانیه من الفاقة..

وتكثر فی أمادیحه لهم الألفاظ الإسلامیة والاقتباسات القرآنیة.. ولا یسعنا إلا الاعتراف بأن جریرًا كان موفقا كل التوفیق، حین صور منزلة الأمویین وجودهم بقوله:

ألستم خیر من ركب المطایا **** وأندى العالمین بطون راح






جریر مفاخرًا هاجیًا



عاصر الشاعر "عبید الراعی" الشاعرین جریرًا والفرزدق، فقیل إن الراعی الشاعر كان یسأل عن هذین الشاعرین فیقول:

- الفرزدق أكبر منهما وأشعرهما.

فمرة فی الطریق رآه الشاعر جریر وطلب منه أن لا یدخل بینه وبین الفرزدق، فوعده بذلك.. ولكن الراعی هذا لم یلبث أن عاد إلى تفضیل الفرزدق على جریر، فحدث أن رآه ثانیة، فعاتبه فأخذ یعتذر إلیه، وبینما هما على هذا الحدیث، أقبل ابن الراعی وأبى أن یسمع اعتذار أبیه لجریر، حیث شتم ابن الراعی الشاعر جریرًا وأساء إلیه..

وكان من الطبیعی أن یسوء ذلك جریرًا ویؤلمه، فقد أهین إهانة بالغة ، فذهب إلى بیته، ولكنه لم یستطع النوم فی تلك اللیلة، وظل قلقا ساهرا ینظم قصیدة سنورد بعض أبیاتها بهذه المناسبة، فلما أصبح الصباح ، ألقاها الشاعر جریر فی "المربد" على مسمع من الراعی والفرزدق والناس، فكانت القصیدة شؤما على بنی نمیر حتى صاروا إذا سئلوا عن نسبهم لا یذكرون نسبهم إلى "نمیر" بل إلى جدهم عامر.. هذا وقد سمى جریر قصیدته هذه" الدامغة" لأنها أفحمت خصمه:



أعــد الله للشعـراء منی **** صواعـق یخضعون لها الرقابا

أنا البازی المطل على نمیر *** أتیح من السماء لها انصبابا

فلا صلى الإلـه على نمـیر **** ولا سقیت قبورهم السحابا

ولو وزنت حلوم بنی نمیر **** على المیزان ما وزنت ذبـابا

فغض الطرف إنك من نمیر **** فلا كعبا بلغت ، ولا كـلابا

إذا غضیت علیك بنو تمیـم **** حسبت النـاس كلهم غضـابا



معانی البیات واضحة سهلة، تتصف بهجاء الخصم وإلحاق العیوب والمساوىء به، كما أنها تتصف أیضا بفخر الشاعر بنفسه، عدا عن أن الشاعر یتهكم بخصمه وبقومه، فیسخر من عقولهم الصغیرة كعقول الذباب، ثم یطلب الشاعر من خصمه أن یتوارى عن الأنظار ویخجل من نفسه هو وقومه. ویختتم القصیدة ببیت رائع شهیر بالفخر.

فالفخر هو الوجه الآخر للهجاء، فالطرف الذی یتلقى الهجاء من الشاعر، یجده فخرًا بالنسبة لنفسه ولقومه..

فهنا یفاخر جریر بمجده ومجد قومه فخرًا جاهلیًا، یعتز فیه ببطولتهم وأیامهم القدیمة وما ورثوا من مجد، فهو قد هیأ هجاءه لكل الشعراء الذین تحدثهم نفسهم بالتعرض بأننی سأقضی علیهم وأحطم عزهم.. أو یكف الشعراء بعد أن قلت كلمتی الفاضلة، أم یطمعون فی التعرض لی، لیقاسوا من هجائی نارًا تلفح وجوههم لفحًا؟

فالهجاء عند جریر شدید الصلة بالفخر، فهو إذا هجا افتخر، وجعل من الفخر وسیلة لإذلال خصمه.

أما موضوع فخره فنفسه وشاعریته، ثم قومه وإسلامه.

فإذا هجا الفرزدق اصطدم بأصل الفرزدق الذی هو أصله، فكلاهما من"تمیم" ، وإذا هجا الأخطل فخر بإسلامه ومضریته، وفی مضر النبوة والخلافة:



إن الذی حرم المكارم تغلبا **** جعل الخلافة والنبوة فینا



هذا وكان لجریر مقدرة عجیبة على الهجاء، فزاد فی هجائه عن غیره طریقة اللذع والإیلام.. فیتتبع حیاة مهجویه وتاریخ قبیلتهم، ویعدد نقائصهم مختلفا، مكررا، محقرا، إلا أنه لم یستطع أن یجعل الفخر بآبائه موازیا لفخر الفرزدق.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 19:36|
سأظل أذكركم إذا جن الدُجى.... أو أشرقت شمس على الأزمان
سأظل أذكر إخوة وأحبة..... هم فی الفؤاد مشاعل الإیمان
سأظل أذكركم بحجم محبتی... فمحبتی فیض من الوجدان

فلتذكرونی بالدعاء فإننی...... فی حبكم أرجوا رضى الرحمن
.....................................................................................................................................
ثلاث یعز الصبر عند حلولها ویذهب عنها عقل كل لبیب
خروج اضطرار من بلاد تحبها وفرقة خلانٍ وفقد حبیب
................................................................................................................................
سأرحل عن دیاركم برغم محبتی لكم
وأبنی داری فی وطن به الأخلاق والشیم
فقد ثارت براكین وغطت أرضنا الحمم
ولم تنهض فوراسنا ولم تتجاوز القمم
شبیبتنا أخاطبكم فهل أعراكم الصمم
سأرحل رغم أنفكم فأنتم معشر قزم
.......................................................................................................................................................................
شَیئانِ لَو بَكَتِ الدِماءَ عَلَیهِما******عَینایَ حَتّى تَأذَنا بِذِهابِ
لَم تَبلُغِ المِعشارَ مِن حَقَّیهِما******فَقدُ الشَبابِ وَفُرقَةُ الأَحبابِ


+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 19:35|
وُلد فی الرابع عشر من شهر نوفمبر سنة 1889، فی 'عزبة الكیلو' قرب مغاغة، بالصّعید المصری الأوسط، ونشأ فی الریف ضعیف البنیة كأنّه 'الثُّمامة'، لا یستطیع ما یستطیعه النّاس، ولا ینهض من الأمر لما ینهض له النّاس، ترأف به أمّه دائما وتهمله أحیانا، ویلین له أبوه تارة ویزور عنه طورا، ویشفق علیه إخوته إشفاقا یشوبه احتیاط فی معاملتهم إیّاه، وشیء من الازدراء.
توفّی فی الثّامن والعشرین من شهر أكتوبر سنة 1973 بالقاهرة، وقد استطاع ما لم یستطعه كثیر من المبصرین، فتناقلت خبر وفاته العواصم وحزن لفقدانه الأدباء والباحثون والعلماء.
'أخذ العلم بأُذُنَیْه لا بأصابعه' فقهر عاهته قهرا، محروما یكره أن یشعر بالحرمان وأن یُرَى شاكیا متبرّما، جادّا متجلّدا مبتسما للحیاة والدّرس والبحث، حتّى انتهى غلى حال العلماء المبَرَّزِینَ ومراتب الأدباء المفكّرین، فشغل النّاس ولن یزال.
فقد بصره طفلا : 'اصابه الرّمد فأُهمل أیّاما، ثمّ دُعی الحلاّق فعالجه علاجا ذهب بعینیه'. وحفظ القرآن فی كُتّاب القریة وهو فی التّاسعة، فأصبح 'شیخا'، كذا كان أبوه یدعوه، وأمّه، 'وسیّدنا' مؤدّب الصّبیان.
وقدم القاهرة سنة 1902 للتعلم فی الأزهر، فدخله والقلبُ ممتلئ خشوعا والنّفس ممتلئة إجلالا. وأنفق فیه ثمانی سنین لم یظفر فی نهایتها بشهادة 'العالمیّة'، لأن 'القوم كانوا مؤتمرین به لیسقطوه' ! نبأ عجیب حمله غلیه شیخه سیّد المرصفی لیلة الامتحان، بعد أن صُلِّیَتِ العِشَاءُ... وفارق الأزهر وقد ارابه منه أمر، شدید الضّیق به وبأهله. وخاب أمل أبیه، فلن یرى ابنه من بین علماء الأزهر ولا 'صاحب عمود فی الأزهر ومن حوله حلقة واسعة بعیدة المدى' وأُتیحتْ للفتى حیاة أخرى...
فما إن أُنشئت الجامعة المصریّة (الأهلیة) سنة 1908 حتّى انتسب إلیها الطّالب الأزهری، ولكنّه ظلّ مقیّدا فی سجلاّت الأزهر : وقضى سنتین (1908-1910) یحیا حیاة مشتركة، یختلف إلى دروس الازهر مصبحا وإلى دروس الجامعة مُمْسِیًا. وما لبث أن وجد فی الجامعة روحا للعلم والبحث جدیدة و'طعما للحیاة جدیدا' فشغف بالدّرس والتّحصیل حتّى نال درجة 'العالمیّة' (الدكتوراه) سنة 1914 برسالة موضوعها 'ذكرى أبی العلاء'، فكانت 'أوّل كتاب قُدّم إلى الجامعة، وأوّل كتاب امتُحِنَ بین یدی الجمهور، وأول كتاب نال صاحبه إجازة علمیّة منها'.
ثمّ سافر الفتى إلى فرنسا لمواصلة التّعلّم، فانتسب إلى جامعة مونبیلیى حیث قضّى سنة دراسیّة (1914-1915) ذهب بعدها إلى باریس، وانتسب إلى جامعة السّوربون حیث قضى أربع سنوات (1915-1919). وما كاد یختلف إلى دروس التاریخ والأدب فیها 'حتّى أحسّ أنّه لم یكن قد هیّئ لها... وأنّ درسه الطویل فی الأزهر وفی الجامعة (المصریّة) لم یهیّئه للانتفاع بهذه الدّروس'. فأقبل على قراءة الكتب المقرّرة فی المدارس الثانویّة، ولم یجد بدّا من أن یكون 'تلمیذا ثانویا فی بیته وطالبا فی السّوربون'.
أرسل لیدرس التّاریخ فی السّوربون، فما لبث أن أیقن بأنّ الدرجات العلمیّة لا تعنی شیئا إن هی لم تقم على أساس متین من الثقافة. ولیس غلى ذلك من سبیل سوى إعداد 'اللیسانس'. وقد صرّح بذلك فی الجزء الثالث من كتاب الأیّام، قال : 'كان (الفتى' قد أزمع أن یظفر قبل كل شیء بدرجة 'اللیسانس' ثم یتقدّم لدرجة الدكتوراه بعد ذلك. ولم یكن الطلاّب المصریون - إلى ذلك الوقت - یحاولون الظفر بدرجة اللیسانس هذه، لأنّها كانت تكلّف الذین یطلبونها عناء ثقیلا'.
وأحرز طه حسین درجة 'اللیسانس فی التّاریخ' سنة 1917، فكان أوّل طالب مصرین ظفر بهذه الشهادة من كلیّة الآداب بالجامعة الفرنسیّة.
إنّ أمر هذا الفتى عَجَبٌ ! فهو قد كان یتهیّأ لامتحان اللیسانس ویعدّ فی المدّة نفسها رسالة 'دكتورا جامعة' باللّغة الفرنسیّة موضوعها : 'دراسة تحلیلیّة نقدیّة لفلسفة ابن خلدون الاجتماعیّة' (Etude analytique et critique de la philosophie sociale d'Ibn Khaldoun).
إنّ أمر هذا الفتى عجب ! فهو لم یكد یفرغ من امتحان الدكتورا حتّى نشط لإعداد رسالة أخرى، فقد صحّ منه العزم على الظفر 'بدبلوم الدّراسات العلیا' (Diplôme d'Etudes Superieures) وهو شهادة یتهیّأ بها أصحابها للانتساب إلى دروس 'التبریز فی الآداب'. وما هی إلاّ أن أشار علیه أُستاذه بموضوع عسیر مُمْتع مریر، وهو : 'القضایا التی أقیمت فی روما على حكّام الأقالیم الذین أهانوا جلال الشّعب الرّومانی، فی عهد تباریوس، كما صوّرها المؤرّخ تاسیت' (La loi de lèse-majesté, sous Tibère, d'après Tacite) فقبله الطالب 'طائعا قلقا مستخذیا'، ومارسه بالصّبر على مشقّة البحث وبالمثابرة على الفهم حتّى ناقشه ونجح فیه نُجْحًا حسنا سنة 1919.
عاد طه حسین إلى وطنه، فلم تُمهله الجامعة المصریّة وعیّنته مباشرة أستاذا للتاریخ القدیم (الیونانی والرّومانی)، فظلّ یُدرّسه طیلة ستّ سنوات كاملات (1919-1925).

بعد اكثر من قرن كامل على میلاده، و27 عاما على وفاته، ما زال عمید الادب العربی الدكتور طه حسین احد الاركان الاساسیة فی تكوین العقل العربی المعاصر، وصیاغة الحیاة الفكریة فی العالم العربی، وملمحاً أساسیاً من ملامح الادب العربی الحدیث... بل ان الاجیال الجدیدة من ابناء الامة العربیة لا تزال تكتشف جوانب جدیدة من القیمة الفكریة والانسانیة لاحد رواد حركة التنویر فی الفكر العربی... وما زالت اعمال طه حسین ومعاركه الادبیة والفكریة من أجل التقدم والتخلی عن الخرافات والخزعبلات التی حاصرت وقیدت العقل العربی لعدة قرون، من اهم الروافد التی یتسلح بها المفكرون العرب فی مواجهة الحملات الارتدادیة التی تطل برأسها فی عصرنا.
وما زالت السیرة الذاتیة لطه حسین وما تجسده من كفاح انسانی وفكری مدرسة هامة ما اشد حاجة الاجیال الجدیدة للتعلم منها والتأمل فیها.
من عزبة صغیرة (اصغر من القریة) فی صعید مصر بدأت رحلة طه حسین، فقد ولد عمید الادب العربی فی تلك البقعة الصغیرة التی تقع على بعد كیلو متر واحد من مغاغة بمحافظة المنیا فی وسط صعید مصر... كان ذلك فی الرابع عشر من نوفمبر عام 1889م، وكان والده حسین علی موظفاً فی شركة السكر وانجب ثلاثة عشر ولداً كان سابعهم فی الترتیب 'طه' الذی اصابه رمد فعالجه الحلاق علاجاً ذهب بعینیه (كما یقول هو عن نفسه فی كتاب 'الایام').
وفی عام 1898 وبینما لم یكن قد اكمل السنوات العشر كان طه حسین قد اتم حفظ القرآن الكریم... وبعد ذلك بأربع سنوات بدأت رحلته الكبرى عندما غادر القاهرة متوجها الى الازهر طلباً للعلم. فی عام 1908 بدأت ملامح شخصیة طه حسین المتمردة فی الظهور حیث بدأ یتبرم بمحاضرات معظم شیوخ الازهر فاقتصر على حضور بعضها فقط مثل درس الشیخ بخیت ودروس الادب... وفی العام ذاته انشئت الجامعة المصریة، فالتحق بها طه حسین وسمع دروس احمد زكی (باشا) فی الحضارة الاسلامیة واحمد كمال (باشا) فی الحضارة المصریة القدیمة ودروس الجغرافیا والتاریخ واللغات السامیة والفلك والادب والفلسفة على اساتذة مصریین واجانب.
فی تلك الفترة اعد طه حسین رسالته للدكتوراه نوقشت فی 15 أیار 1914م. هذه الرسالة (وكانت عن ذكرى ابی العلاء) اول كتاب قدم الى الجامعة واول رسالة دكتوراه منحتها الجامعة المصریة، واول موضوع امتحن بین ایدی الجمهور.
ومثلما كانت حیاته كلها جرأة وشجاعة واثارة للجدل فقد احدث نشر هذه الرسالة فی كتاب ضجة هائلة ومواقف متعارضة وصلت الى حد طلب احد نواب البرلمان حرمان طه حسین من حقوق الجامعیین 'لأنه الف كتابا فیه الحاد وكفر'!، ولكن سعد زغلول رئیس الجمعیة التشریعیة آنذاك اقنع النائب بالعدول عن مطالبه.

الرحلة الثانیة
اذا كانت الرحلة الاولى ذات الاثر العمیق فی حیاة طه حسین وفكره هی انتقاله من قریته فی الصعید الى القاهرة... فإن الرحلة الاخرى الاكثر تأثیراً كانت الى فرنسا فی عام 1914 حیث التحق بجامعة مونبلییه لكی یبعد عن باریس احد میادین الحرب العالمیة الاولى... وهناك درس اللغة الفرنسیة وعلم النفس والادب والتاریخ. ولاسباب مالیة اعادت الجامعة المصریة مبعوثیها فی العام التالی 1915 لكن فی نهایة العام عاد طه حسین الى بعثته ولكن الى باریس هذه المرة حیث التحق بكلیة الاداب بجامعة باریس وتلقى دروسه فی التاریخ ثم فی الاجتماع حیث اعد رسالة اخرى على ید عالم الاجتماع الشهیر 'امیل دوركایم' وكانت عن موضوع 'الفلسفة الاجتماعیة عند ابن خلدون' حیث اكملها مع 'بوجلیه' بعد وفاة دوركایم وناقشها وحصل بها على درجة الدكتوراه فی عام 1919م ثم حصل فی العام ذاته على دبلوم الدراسات العلیا فی اللغة اللاتینیة، وكان قد اقترن فی 9 اغسطس 1917 بالسیدة سوزان التی سیكون لها اثر ضخم فی حیاته بعد ذلك.
فی عام 1919 عاد طه حسین الى مصر فعین استاذاً للتاریخ الیونانی والرومانی واستمر كذلك حتى عام 1925 حیث تحولت الجامعة المصریة فی ذلك العام الى جامعة حكومیة وعین طه حسین استاذاً لتاریخ الادب العربی بكلیة الآداب.

أولى المعارك
رغم تمرده على الكثیر من اراء اساتذته الا ان معركة طه حسین الاولى والكبرى من اجل التنویر واحترام العقل تفجرت فی عام 1926 عندما اصدر كتابه 'فی الشعر الجاهلی' الذی احدث ضجة هائلة بدأت سیاسیة قبل ان تكون ادبیة. كما رفعت دعوى قضائیة ضد طه حسین فأمرت النیابة بسحب الكتاب من منافذ البیع واوقفت توزیعه... ونشبت معارك حامیة الوطیس على صفحات الصحف بین مؤیدین ومعارضین لهذا الكتاب.
وفی عام 1928 وقبل ان تهدأ ضجة كتاب الشعر الجاهلی بشكل نهائی تفجرت الضجة الثانیة بتعیینه عمیداً لكلیة الآداب الامر الذی اثار ازمة سیاسیة اخرى انتهت بالاتفاق مع طه حسین على الاستقالة فاشترط ان یعین اولاً. وبالفعل عین لیوم واحد ثم قدم الاستقالة فی المساء وأعید 'میشو' الفرنسی عمیداً لكلیة الآداب، ولكن مع انتهاء عمادة میشو عام 1930 اختارت الكلیة طه حسین عمیداً لها ووافق على ذلك وزیر المعارف الذی لم یستمر فی منصبه سوى یومین بعد هذه الموافقة وطلب منه الاستقالة.

الازمة الكبرى
وفی عام 1932 حدثت الازمة الكبرى فی مجرى حیاة طه حسین... ففی شباط 1932 كانت الحكومة ترغب فی منح الدكتوراه الفخریة من كلیة الآداب لبعض السیاسیین... فرفض طه حسین حفاظاً على مكانة الدرجة العلمیة، مما اضطر الحكومة الى اللجوء لكلیة الحقوق...
ورداً على ذلك قرر وزیر المعارف نقل طه حسین الى دیوان الوزارة فرفض العمل وتابع الحملة فی الصحف والجامعة كما رفض تسویة الازمة الا بعد اعادته الى عمله وتدخل رئیس الوزراء فأحاله الى التقاعد فی 29 آذار 1932 فلزم بیته ومارس الكتابة فی بعض الصحف الى ان اشترى امتیاز جریدة 'الوادی' وتولى الاشراف على تحریرها، ثم عاد الى الجامعة فی نهایة عام 1934 وبعدها بعامین عاد عمیداً لكلیة الاداب واستمر حتى عام 1939 عندما انتدب مراقباً للثقافة فی وزارة المعارف حتى عام .1942
ولأن حیاته الوظیفیة كانت دائماً جزءاً من الحیاة السیاسیة فی مصر صعوداً وهبوطاً فقد كان تسلم حزب الوفد للحكم فی 4 شباط 1942 ایذاناً بتغیر آخر فی حیاته الوظیفیة حیث انتدبه نجیب الهلالی وزیر المعارف آنذاك مستشاراً فنیاً له ثم مدیراً لجامعة الاسكندریة حتى احیل على التقاعد فی 16 تشرین الاول 1944 واستمر كذلك حتى 13 حزیران 1950 عندما عین لاول مرة وزیراً للمعارف فی الحكومة الوفدیة التی استمرت حتى 26 حزیران 1952 وهو یوم احراق القاهرة حیث تم حل الحكومة.
وكانت تلك آخر المهام الحكومیة التی تولاها طه حسین حیث انصرف بعد ذلك وحتى وفاته عام 1973 الى الانتاج الفكری والنشاط فی العدید من المجامع العلمیة التی كان عضواً بها داخل مصر وخارجها
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 19:35|
   أبو العتاهیة    (748-825/130-210)

1ً مكانه من عصره : امتاز مطلع العهد العباسی بمجرى خلاعة , و مجرى زهد كان ردة فعل للمجرى الاول , وصدى من اصداء الحكمة التی اندفقت آنذاك على بلاد العرب .

2ً حیاته : ولد فی قریة تدعى عین التمر وتعاطى بیع الفخار ثم قصد بغداد و تقرب الى الخلیفة المهدی , و حظی لدیه , وعلق جاریة اسمها عتبة و اكثر من التشبیب بها . ثم مال الى دراسة مذاهب المتكلمین و الزهاد , الى ان زهد بالدنیا قولا و معیشة . ولكن ولعه بالمال لم یبارحه فظل یتنقل من قصر الى قصر , فقر به الرشید و قر به المأمون من بعده . و فد توفی فی بغداد و دفن فیها .

3ً آثاره : لأبی العتاهیة دیوان طبع سنة 1886 , و فیه قسمان كبیران : قسم للزهدیات , و قسم لسائر فنون الشعر .

4ً فنون شعره :

1-              الغزل : یحمل شعره الغزلی صورة نفسه , نابضاً بحرارة قلب متیم . هو غزل الحب المثالی المتألم الذی لا یخرج فی معانیه عن القدیم المعروف , ولكن الشاعر یسوقه فی بحور رشیقة مطربة .

2-              المدح : كان مدحه تجاریاً و احسنه ما قیل فی المهدی و الرشید . و قد سلك فیه الشاعر مسلك البراعة فارضى نفسه و ارضى ممدوحیه . اما الطریقة فتقلیدیة و معانیه قدیمة أفرغها فی قالب شخصی جمع السهولة و الرشاقة و العذوبة . ومدحه لا یخلو من غلو التملیق .

3-              الشكر و العتاب : أدخل علیهما نغمة جدیدة من التظرف فیها حذق و حلاوة .

4-               الرثاء : اسلوبه فیه اسلوب المدیح و الزهد .

5-              الهجاء : فیه براعة و مقدرة عجیبة على خلق الفكرة الشائكة الجارحة . وهو من نوع الشعر اللین السهل .

5ً ابو العتاهیة شاعر الزهد : تضاربت الآراء فی صدق أبی العتاهیة فی زهده . والارجح انه ظل متأرجحاً بین رغبته فی الحیاة المثلى و ضعفه الذی یجرفه نحو الاباطیل . و كان مذهبه فی زهدیاته الاغراق فی ازدراء الدنیا و الدعاء الى القناعة . و فی زهدیاته دروس قیمة لا تخلو من مغالاة و تشاؤم  و زهدیات الشاعر موجهة الى العقل اكثر منها الى العاطفة , و قد اخرجها فی قالب زاهی الالوان , رائع السلالة و العذوبة و الانسجام .

6ً ابو العتاهیة الشاعر المجدد : كان ابو العتاهیة مجددا فی معانیه فقد توفر على تصویر ناحیة الجد من عصره , وكان مجددا فی فنه فامتاز شعره بالطبیعة , و سهولة اللفظ , و الموسیقى العذبة الساحرة , على ما هنالك من رتابة .

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 19:34|
  أبو نواس

 

عرف الحسن أبو بشعر الخمریات ، فالبرغم من حدیث الأقدمین عن الخمر إلا أن ذلك كان للفخر والتمدح بالكرم والجود ، فجاء وصفهم لطعمها ولونها والنشوة التی تحدثها فی انفس شاریبها ، إلا ، وصف الخمر لم یكن فناً مستقلاً من فنون الشعر .

لما انتشرت الحریة والترف فی العصر العباسی بشكل كبیر مع انتشار الحانات ودور اللهو ، أغرق الناس فی حب الخمر والمجاهرة بتعاطیها بشكل أكبر عما كان عند قبلهم .

نشأ أبو نواس فی البصرة مركز الثقافة والعلم فأكب أبو نواس على العلم واللغة حتى حصل ثقافة واسعة ، وبما أن البصرة كانت مركزاً للهو أیضاً فتعرف أبو نواس وهو ما یزال شاباً على والبة بن الحباب الذی نقل إلیه الكثیر من أخلاقه الردیئة ووضعه فی مجالس الخمر لیصبح فیما بعد أمیرها .

وهكذا جمع أبو نواس اللهو والعلم ، فقد استطاع أن یقوم لسانه على لغة عربیة خالصة بعد أن أقام سنة فی البادیة ثم اتجه إلى بغداد حیث المال والجاه .

اتصل أبو نواس كما حال شعراء عصره بالخلفاء والعظماء ، إلا أن حیاته الشاذة وتطرفه جعلت مقامه بینهم قصیراً ، فقد اتصل بالرشید ، إلا أن الخلیفة اضطر لسجنه مدة وصلت إلى 14 شهر . بعد أن تطاول على بنی عدنان فهو كعادته أبداً مستهتر عدیم المسؤولیة لا یأبه ولا یكترث لشیء .

تجول أبو نواس فی البلاد المختلفة ، إلا أن حیاته ظلت واحدة من سكر واستهتار ومجون .

عاش أجمل أیامه فی كنف الأمین الذی تعرف علیه أیام طلبه العلم ، فعندما أصبح الأمین خلیفة قربه إلیه واتخذه ندیماً له ، عندئذ أخذ حریته الكاملة فی اللهو والعبث حتى ذاع أمره وانتشر خاصة بعد مقولته :

 

ألا فاسقنی خمراً وقل لی هی الخمر              ولاتسقنی سراً إذا أمكن الجهر

 

لكن مع بدء الخلاف بین الأمین والمأمون نها الخلیفة الأمین أبو النواس عن المغالاة حتى  لا تنفر الرعیة من خلیفتهم وتساند المأمون .

أخل نجم الأمین ومعه انطفئ أبو نواس وأخذ یشعر بالندامة والتحسر على حیاة عابثة أخذت كل قویة وحدت جسمه وقد روى الشافعی أنه لما زار أبا نواس سأله عما أكد لملاقاة ربه فأنشد أبو نواس :

تعاظمنی ذنبی قلما قرنته             بعفوك ربی ، كان عفوك أعظما

 

أبو نواس كبشار بن برد ، جمع بین التقلید والتجدید فالتقلید كان إرضاء لذوی السلطان لنیل ودهم وبالتالی هباتهم ، فجاء شعره التقلیدی متكلفاً أورثه السأم والضجر :

 

دعانی إلى وصف الطول مسلط              یضیق ذراعی أن أرد له أمراً

فسمعاً أمیر المؤمنین وطاعةً                وإن كنت قد جشمتنی مركباً وبحرا

 

إلا أن إطلاعه الواسع على اللغة وشعر الأقدمین ساعده كثیراً فی شعره ، فكان مدیحه مشابهاً لمدح الشعراء السابقین ولا سیما الأمویین منهم من وقوف على الأطلال والبكاء علیها ثم وصف الناقة حتى یصل إلى الممدوح فیبالغ فی مدحه وأسلوبه الذی استعمله له ألفاظاً ضخمة مع أوزان طویلة لتلاءم تصنعه فی العاطفة ومغالاته فیها ، إلا أن الممدوح إذا قربه وألفه عندئذ یكون شعره أكثر حریة خاصة فی مدحه للأمین :

هناك الوصف والهجاء وقلیل من الرثاء ، الذی لا یناسب طبیعة أبی نواس اللاهیة المستهترة اتبع فیه أیضاً طرق الأقدمین فی الأسلوب والمعنى .

أما التجدید فهو ما یناسب أبو نواس تماماً ، ففیه حطم القیود وأطلق نفسه على سجیتها لتنشد ما تحب وتشتهی ، فأبو نواس یحب الفلسفة وحدیث الآراء والمذاهب وهذا لم یكن محبباً عند الأقدمین ، مذهبه مصلحته ، ولما كان الخلاف شدیداً بین العرب والشعوبیین المحتقرین للعرب أعطى الشعوبیون الكثیر من الحریات ومرافق الترف واللهو مما لا یحبذه العرب المتمسكون بعاداتهم ودینهم فمال أبو نواس إلى الشعوبیین فهو مغمور النسب أصلاً لا یقیده إیثار عرقی وإنما المغریات المقدمة .

تجلى شعره المجدد فی عدة مظاهر وهی :

1-   الهجاء :

لم یكون أبو نواس ذلك الناقم على الجنس البشری ، همه الأوحد فضح العیوب وهتك المستور كبشار مثلاً ومع ذلك فقد عمد إلى الهجاء أحیاناً فكان إما حربیاً لیدافع عن نزعة سیاسیة أو عقیدة أدبیة ، توجه نقده للعرب عموماً وللأعراب القدماء خصوصاً ، لیظهر بذلك میله الفارسی ولیهجو العقلیة التی تعیش حیاة الخشونة والجفاء هجاؤه قد یكون انتقاصیاً لنفسه من خصومه ومنتقدیه بطریقة حادة مؤلمة وإن لم ینطو على نقمة عمیقة .

فی كل الأحوال ما جمع شعره فی هذا المجال هو الواقعیة اللاهیة ورشاقة الأسلوب ومدح الأعاجم لاسیما الفرس منهم ، هجاؤه كان مقلداً بحریر من ناحیة قذف المهجر بعبارات رزینة محكمة تتضمن معانی القذع والتعریض بالمهجر جاعلاً منه أضحوكة على ألسن الناس .

2-   الطردیات أو وصف الصید :

أصبح هذا الفن قائماً بذاته فی عهد أبی نواس فقد نال هذا الفتى اهتمام أبی نواس لأنه ولع الأمراء فكان شاعرنا یرافقهم مما ساعده على الإتیان بصور واقعیة متقنة كصور آلات الصید والطرائد والتی استعان فیها بالصور البدیعة من استعارات وتشابیه خیالیة .

3-   الزهدیات :

وهی قصائد أبی نواس فی آخر أیامه بعد أن تحطمت قواه ، فانكفأ على نفسه متبصراً المعاصی الكثیرة التی ملأت حیاته ، جاءت هذه القصائد أبعد ما تكون عن العظات فهی أقرب إلى الشعر الغنائی المعبر عن نغمات شجیة من قلب متألم فی عبارات صادقة ، عمیقة العاطفة فكانت من أجمل شعر أبی نواس .

4-   الغزل :

جاء غزله متصنعاً فعشقه الوحید كانت المتعة والعبث فلا مكان للعواطف الصادقة لتغزو قلبه أما التغزل بالكلمات والكلامیات فهو ما برع به أبو نواس والذی اعتبره كثیر من دارسی الأدب وصمة فی تاریخ العرب .

5-   الخمریات :

فیها تجلت عبقریة أبو نواس وأكثر ما اشتهر به ، فكانت الخمرة عشقه ومعبوده فهی أشبه بإنسان نبه الشاعر كل هواه .

الشعر عند أبی نواس هو لوصف الواقع كما هو ، دون الحاجة لأسلوب الأقدمین ، فكان وصفه للخمرة حسیاً فیما یتعلق برائحتها ومذاقها وألوانها وتأثیرها فی الحس والنفس .

 

من لاف كأنا كل شیء               یتمنى مخیر أن یكونا

أكل الدهر ما تجسم فیها                 وتبقى لبائها مكنونا

فإذا ما اجتلیتها فهباء                  تمنع الكف ما تبیح العیونا

ما یمیز كلامه على الخمرة هو التشخیص والظرف التی فیها خفة روح الشاعر وصدقه فی حبه للخمرة فجاء أسلوبه موسیقیاً سلسلاً فی رشیق وقافیة خفیفة .

ما یمیز شعر أبی نواس هو بعده عن التكرار والجحود فكان شعره متنوع المعانی والصور فی أسلوبه الشعر الوصفی الخطابی والغنائی والقصصی .

أما لغته فهی سلسلة ،غنیة واضحة عبرت عن عاطفة رقیقة فیها سذاجة من أعجب بنفسه بكل ما فیها من نزعات وشذوذ :

 

مازلت أستل رووح الدن فی لطف          وأستقی دمه فی جوف مجروح

حتى انثنیت ولی روحان فی جسد            والدن منطرح ، جسماً بلا روح

 

تتمثل شاعریة أبی نواس بقدرته التی تصل إلى حد العبقریة وجمال تشخیصه ولوحاته الزاهیة التی عبرت عن شخصیة تلقائی
ة .

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 19:34|
  عصر النهضة ( 1798 إلى الوقت الحالی )

 

انتشر الجهل فی المشرق العربی المغلق على نفسه بشكل یكون تاماً ، فكان احتكاك الشرق بالغرب من أهم مقدمات النهضة ، فظهر هذا الاحتكاك بشكل خاص فی لبنان ومصر دون سواهم من البلاد العربیة .

فكانت لبنان محط أنظار الغربیین فاتصلوا بأمرائهم الذین شجعوا بدورهم هجرة الغربیین .

أما مصر فكان اتصالها من خلال الحملة الفرنسیة بقیادة نابلیون بونابرت الذی ضم فی حملته مجموعة من العلماء والصناع ، كذلك جهز حملته بمطبعة عربیة مع مراجع وكتب من مصر ، فأنشأ مجمعاً علمیاً وأصدر صحیفتین بالفرنسیة .

بعد جلوس محمد علی على عرش مصر أكمل الرحلة العلمیة التی بدأت فی مصر .

بدأت الحیاة تدب فی أوصال البلاد العربیة فكانت المدارس التی ساعدت على رقی البلاد ونشر العلم فیها كالأزهر فی مصر وعین ورقة فی لبنان .

أما الطباعة فقد جعلت المعارف للجمیع فصنع عبد الله الزاخر الحروف العربیة لمطبعة حلب ثم لمطبعة دیر الشویر .

ساعدت الطباعة على تنشیط الصحافة وانتشارها ، فكانت مصر المهد الأول للصحافة العربیة بدءاً من جریدة الوقائع المصریة فی عهد محمد علی .

ظهرت الجمعیات العلمیة والأدبیة التی ساعدت العلماء والأدباء على التكتل وتبادل الأبحاث لترقیة العلوم ونشر الفنون فكانت الجمعیة السوریة فی لبنان .

بعد دمار الكثیر من المكتبات التی ضمت أمهات الكتب ، عمد المثقفون نتیجة اتصالهم وتأثرهم بالغرب على إنشاء المكتبات العامة والخاصة واعتماد الأسالیب الحدیثة فی تنظیمها ونشر الفهارس كالمكتبة الظاهریة بدمشق .

نتیجة اجتماع هذه العوامل وغیرها ،كانت النهضة العربیة والتی مرت بمرحلتین أساسیتین :

1-   مرحلة التقلید :

لم یلقى الشعر من الاهتمام ما لاقته العلوم الأخرى ، فكان الشعر ركیكاً ضعیفاً ، فكانت هذه المرحلة صلة الوصل بین الانحطاط والنهضة .

ومع تحسن الأحوال الاجتماعیة والثقافیة فی منتصف القرن التاسع عشر ، عاد الأدباء العرب إلى معین اللغة العربیة فدرسوها ودرسوا أسباب ضعفها محاولین تقلید من سبقهم وخاصة العباسیین منهم فكانت المتانة اللغویة والدقة فی التعبیر ، دون التخلص تماماً من الأسالیب البدیعیة والأسالیب الأخرى من مخلفات عصر الانحطاط ، من شعراء هذه الفترة محمود سامی البارودی .

2-   مرحلة التجوید :

لما قوی اتصال الشرق بالغرب وتعرف أبناء الشرق على ثقافات وحضارة الغرب ، ظهرت عندهم نزعة التحرر من القدیم بكل ما یمثله من جهل وتخلف ، فالعصر الذی یعیشون فیه مختلف تمام الاختلاف عن عصر مما سبقوهم ولذا كان على الأدب أن یمثل العصر الجدید بكل ما فیه ولیس القدیم الذی ولى ، فهم یتطلعون إلى الأمام الذی یمثل المستقبل النیر .

فكان من الأدباء من أراد التجدید ولكن ضمن أسس الأدب العربی القدیم ، فالحدیث هو امتداد للقدیم واستفادة من الأدب الغربی الحدیث بما یتلاءم والثقافة العربیة .

إلا أن فئة أخرى نادت وخاصة بعد الحرب العالمیة الأولى بدأت تنادی بالتخلص من كل ما هو قدیم وتقلید الغرب بكل ما فیه تقلیداً أعمى فكانت النزعة الرومنطیقیة التی أرادت أ، تعبر عن الذات والواقع بشكل أكبر .

كذلك ظهرت المدرسة الرمزیة كرد فعل على الرومنطیقیة ، غالت هذه المدرسة فی استعمال الرموز والتعبیر المعقد وغیبت بالألفاظ السهلة مما جعلها عرضة للأخطاء اللغویة .

أما المدرسة الثالثة فقد عنیت بالنزعة الإنسانیة للأدب والتركیز على الكیان الاجتماعی .

أما موضوعات الشعر فقد تركزت على الشعر السیاسی المنادی بالاستقلال والدیمقراطیة . والشعر الاجتماعی الذی دعا للتحرر من قیود الماضی والتخلص من الأمراض الاجتماعیة ، فنادى إلى تحریر المرأة ورفع شأنها . وأیضاً الشعر التمثیلی القصصی والذی یعمد الشعراء فیه للتعبیر عن نزعة اجتماعیة أو فلسفیة .

المبنى الشعری متفاوت بین الأدباء فمنهم من حافظ على الأوزان القدیمة ولكن القصیرة منها والخفیفة ، ومنهم من سلك أسلوب الموشحات التی لا تلتزم قافیة واحدة .

أما البعض منهم فأراد الشعر أن یكون ما یعرف بالشعر المنثور .

من أعلام هذه المرحلة : أحمد شوقی وحافظ إبراهیم وخلیل مطران .

ونبدأ بمرحلة التقلید لنتحدث فیها عن محمود سامی البارودی كمثال عن هذه المرحلة .

 
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 19:33|
  العهد العباسی ( 132 – 656 هجری )

 

بعد انتقال الخلافة إلى بنی عباس عم الرسول محمد صلى الله علیه و سلم , أصبح مركز الخلافة فی بغداد . و لما كان الفرس و الشعوبیون من أكبر المساندین لبنی العباس فی انقلابهم , كانت لهم مكانةً كبیرة عند الخلفاء و أصبح العرب عنصراً من العناصر الكثیرة التی احتوتها الإمبراطوریة الإسلامیة .

انفتح العرب على حضاراتٍ أخرى و خاصةً الفارسیة , فأخذ العرب الكثیر من عاداتهم و تقالیدهم , و ظهر مبدأ التخیر , أی اختیار أفضل ما فی الحضارات القدیمة و العمل بها .

لا شك أن الخلافة الإسلامیة عاشت عصراً ذهبیاً فی ظل العباسیین , فكانت الثروات و الازدهار الاقتصادی الذی أدى إلى الترف و الانحطاط الأخلاقی فی بیئةٍ لم تعد بالعربیة و إنما ضمت فرساً و أتراكاً و برابرة . فأصبحت مجالس اللهو و الغناء أمراً شائعاً بین الناس . و بما أن الشعر هو مرآة عصره , فقد اصطبغت أغراض الشعر باهتمامات الناس و نمط حیاتهم الذی تمیز بالتجدد و التنوع كتنوع الثقافات التی احتوتها دولة الإسلام . فالتجدید و لیس الإنقلاب هو ما یمیز الأغراض الشعریة فی هذا العصر .

فقد أهمل الشعر السیاسی لقلة الحاجة إلیه , و اختنق الغزل العذری فی جو الفساد و المجون , و قد انتابت شعر الفخر و الحماسة الذی ارتبط فیما مضى بالعصبیة القبلیة نفس الحالة .

ما میز هذا العصر هو الشعر الفلسفی الذی تمیز بنظرةٍ تحلیلیة لكل ما حوله , إضافةً إلى الشعر الصوفی الذی سمى إلى جو الروحانیات و التأمل فی الله و كماله و صفاته .

كما أصبح الشعر وسیلةً تعلیمیةً یستعمله أصحابه لتسهیل الحفظ و إیصال الفكرة إلى الطلاب , فكان الشعر التعلیمی كقصائد الفقه و كتاب كلیلة و دمنة  القصة التی نظمت شعراً , و هناك أیضاً الشعر التكهمی و الهزلی , و ظهر باب الزهد بنزعته الفلسفیة , كما ظهر شعر تغزلٍ بالخمر و المجون .و لكن أبرز الفنون كانت المدح و الرثاء , فلكل أمیرٍ صفاتٌ فائقةٌ فی الحرب و شدة البأس و السخاء , و لكل عالمٍ أبحرٌ من صفات العقل و المعرفة , فلكل ممدوحٍ نفس الصفات إلا ما تجود به قریحة الشاعر و أقواله . و من الجدیر بالذكر أنه قد ازداد إقبال الناس على الشعر عندما أصبح وسیلةً للتكسب .

 

وكذلك الهجاء زاد عندما زاد النافس بین العظماء فكان وسیلة لرزق كما فی المدح وله استعملت أفظع الألفاظ وأشنعها فی غیر ما نعومة ولا لطافة إلا نادراً .

لانتشار الحكمة الفلسفیة وظهر ما عرف بالشعر الحكمی الذی أصبح عمیقاً فی معناه وتحلیله .

أما العزل فأصبح الفحش والمجون دون أی خجل هو ما میز شعر هذا العهد ما زاده سوءاً توفر الإماء الأجنبیات ومجالس اللهو .

أما الوصف فقد غذته مشاهد الحضارة الجدیدة فذكرت المبانی والمصنوعات كالبركة وأنواع الطعام ، دون نسیان القصور المحفوفة بالبساتین .

رقم التجدد فی أغراض الشعر إلا أن بناء القصیدة حافظ على الأوضاع الموروثة عن الأقدمین كالتزام البحر الواحد وبدء القصیدة بالغزل وذكر الدیار .

كتمهید للمدح أو الهجاء أو غیرهما ، رغم تجدیدهم أحیاناً وذلك بذكر القصور والخمور بدل الأطلال ، ومراعاة ترابط القصیدة الشیء الذی افتقدته بمراحلها السابقة ، كما ركزوا على البحور الخفیفة وابتداع بحور أخرى ومراعاة الترتیب فی التركیب والابتعاد عن كل ما هو غریب لتأتی ألفاظهم عذبة وائحة غنیة بأسالیب البیان والبدیع ، إلا أن هذه الزخرفة والصنعة أخذت مع مرور الأیام تحتل مكانة أكبر من عمق المعنى .

وبالمجمل یمكن تقسم الأدب العباسی إل ثلاثة أقسام :

1-     أدب التجدید :

امتد من فجر العهد العباسی إلى أوائل القرن الثالث الهجری ، والذی تمیز بمحاولات جرئیة للتجدید فی أغراض الشعر المختلفة كالهجاء والمجون .

( بشار بن برد ) ، فی الخمر أبو نواس ، فی الزهد ( أبو العتاهیة ) .

2-     أدب الحركة المعاكسة :

امتد من أوائل القرن الثالث الهجری إلى أوائل الرابع الهجری ، حیث ارتد الشعراء عن حركة التجدید التی سادت بین من جاء قبلهم ، فعاد شعراء هذا لعصر إلى كل ما هو قدیم وأصیل لیس فقط فی الأدب وإنما فی العلوم الدینیة أیضاً بعد أن احتل علم الكلام والفلسفة مكانة بارزة بین من سبقهم ، لكن هذا الرجوع دمج القدیم مع الجدید كأبی تمام والبحتری .

3-     أدب الانحدار الصنعة الأدبیة :

والذی یمتد إلى آخر العهد العباسی هذا العصر كثر شعراؤه وقل مبدعوه من أشهر شعراءه : المتنبی وأبو فراس الحمدانی وأبو العلاء المعری .

شیئاً فشیئاً بدأت الامبراطوریة الكبرى بالانحلال وطمع العدیدین بالملك كالاخشیدیین فی مصر والقرامطة فی البحرین .

أدى الفساد السیاسی وضعف مركز الخلافة إلى فساد فی الحالة الاقتصادیة والاجتماعیة فانتشرت الثورات وعم الظلم .

أما الحالة الفكریة فكان القرن العاشر أزهى عصور العلم فازدهرت العلوم المختلفة ، ومما ساعد على رواجها تنافس الأمراء لنیل المجد العلمی فظهرت عواصم الثقافة مثل حلب والقاهرة وقرطبة وجرجان .

أما الحالة الأدبیة فقد كثر فیها الأدباء مع نزعة شدیدة إلى التقلید وصلت إلى حد الجمود ، فكثرت السرقة الأدبیة كأنه لم یعد من جدید یقال ، ولم یفلت من هذه الآفة إلا القلیل فأقدموا على تجدید أبواب شعر لم تكن مزدهرة قبلاً بسبب البیئة ، من هذه الأبواب : الشعر الصوفی الذی ازدهر مع النزعة الفلسفیة والتصرف ، كذلك الشعر الفخری والحماسی فكان نابضاً بالحیاة مندفعاً یعبر عن اضطراب الأحوال وكثرة الغارات على البلاد الإسلامیة .

أما الدهریات فكانت نتاج تشكی الناس منكل ما یحیط بهم من مشاكل واضطراب فجاءت إما ضمن أبیات مستقلة أو ضمن قصیدة ذموا فیها الدهر وقسوته .
 
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 19:33|
  العهد الأندلسی (138-897 هـ )

 

أطلق اسم الأندلس على البلاد التی افتتحها العرب فی جزیرة ایبیریة ،جاء اسم الأندلس اشتقاقاً من كلمة فندال وهم القبائل الذین غزوا إسبانیة فیالقرن الخامس للمیلاد ،فلما دخل العرب أطلقوا الاسم على جمیع البلاد الواقعة فی حوزتهم .

فی الأندلس اجتمع الجمال بطبیعتها الخضرة ومیاهها الغزیرة مع الثراء بازدهار التجارة وتشیید المدن والقصور الفخمة من أشهرها قصر الزهراء .

أما الحیاة الاجتماعیة فجاءت مزیجاً من تأثر العرب بیادات وأخلاق السكان مع محاكاتهم للشرق ، فكان هم خلفاء الأندلس مضاهاة العباسیین ومنافستهم فكانوا یسمون غرناطة دمشق والشاعر ابن زیدون بالبحتری .

ظلت اللغة العربیة هی اللغة الرسمیة فی بلاد الأندلس ، فأنشئت معاهد كثیرة للعلم واهتم الأمراء بجمع الكتب ونسخها وضبطها فانتشر العلم بین الناس وبرزت مدن العلم كقرطبة وإشبیلة .

أما الشعر الأندلسی فقد مر بعدة  مراحل وهی :

1-   شعر التقلید :

عندما دخل العرب إلى الأندلس ظلوا محافظین على تقالیدهم لا یجیدون عنها بشیء وكذلك كان الحال بالنسبة للشعر الذی جاء شرقیاً أمویاً ، وهذا ما نراه فی شعر ابن *** وابن شهید .

2- حركة التحرر بدأت فی القرن الخامس الهجری ، وهنا بدأ الشعراء یستلهمون شعرهم من بیئتهم مفتتنین ببیئتهم الجدیدة وجمالها ، لكن دون إهمال نزعتهم التقلیدیة وهذا ما نراه فی شعر ابن زیدون والمعتمد بن عباد .

3-   حركة التجدید :

بلغت أوجها فی القرن السادس للهجرة حیث صور الشعراء الأندلس تملؤهم نزعتهم للتحرر والتجدید فأخذ كل شاعر یصف إقلیمه وجمال بلاده التی عاش فیها فكان الأندلسیون مقرمین بالبحر الأنهار بعد أن عرف عن العرب نفورهم منها كقول ابن خفاجة فی وصف نهر :

 

وغدت تحف به الغصون كأنها          هدب یحف بمقلة زرقاء

والریح تعبث بالغصون وقد جرى        ذهب الأصیل على لجین الماء

 

برز فی هذا العصر ابن خفاجة وابن حمدیس الصقلی تعددت أغراض الشعر الأندلسی وفنونه فهناك :

1-   الوصف :

كان له مكانة كبیرة بین الشعراء الذی عبروا فیه عن بیئتهم بكل ما فیها من مظاهر طبیعیة ، كذلك قاموا بوصف حیاتهم الاعتیادیة كالمآكل والزینة والمعارك .

2-   رثاء الممالك :

نتیجة الانقلاب وزوال الدول عمد الشعراء لندب المجد الزائل والتأمل بحال الدهر وغدره فندب أبو البقاء الزندی حظ الأندلس بعد أن ذهبت للأبد من أیدی العرب .

3-   الشكوى :

نظم هذا الشعر من الوزراء وأرباب السلطة بعد أن خانهم الدهر وانقلبوا أذلة بعد عز فقاموا بندب ماضیهم والتشكی مما آلت إلیه حیاتهم .

4-   الاستنجار :

جاء من ضعف وخوف من الأعداد الذین أصبحوا أكثر من الأصدقاء فعمد الشعراء إلى الالتجاء إلى الأولیاء والأعوان سائلین النجدة .

5-   نظم العلوم والفنون :

كثرت هذه الظاهرة لتسهیل الحفظ فكانت اللامیة الرائیة للشاطبی فی القراءات ورسم المصحف .

وكمثال عن مراحل الشعر العربی فی الأندلس نبدأ بشعراء مرحلة التقلید وهما ابن هانئ وابن شهید 

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 19:32|
التجدید العروضی الغنائی فی شعر الموشحات الأندلسیة

احتاجت الدولة العربیة فی الأندلس إلى قرنین أو ثلاثة قرون من تأسیسها حتى تستقر أركانها وتثبت دعائمها. وعندئذ مال الناس إلى الترف واللهو فی حیاتهم، وكان من آثار ذلك انتشار الغناء ودواعی الطرب، وزیادة الاهتمام بالألحان، والموسیقا وآلاتها.

ولاشك أن لهذه الحال الاجتماعیة أثراً كبیراً فی نشأة الموشحات وشیوعها، لأن الموشحات عامة تدخل فی إطار الاتجاه الشعبی الذی هیأ له نمو الشخصیة الأندلسیة وإسهام الأندلسیین فی إنشاد الشعر والإصغاء إلى ألحانه فی مجالسهم وأسمارهم.

وهذه الصلة الوثیقة بین الموشحات والغناء تبدو فی اعتماد لغة الموشحات على الألفاظ الرقیقة الغزلة الهزازة والمعانی الطریفة، على ما فیها من سطحیة، وبموضوعاتها التی تناسب جو الغناء والمرح من غزل ووصف خمر وطبیعة ساحرة عرفت بها بلاد الأندلس ومرابعها العامرة.

وعلى الرغم من قوة الصلة بین الموشحات وبین الموسیقا وطریقة الغناء، فإننا لا نعلم شیئاً عن النظریة الإیقاعیة التی قامت علیها الموشحات، ولا عن كیفیة أدائها وتلحینها وإنشادها، ولكن الراجح أنها كانت تصاغ على نهج معین لتتسق مع النغم المنشود، وأنها كانت تغنى بطریقة فردیة، لا بطریقة "الكورس"، وأن الوشاح هو الملحن غالباً، وقد یكون غیره. أما المغنی فهو شخص آخر. وأغلب الظن أن بواكیر الموشحات عاشت زمناً بین الناس مسموعة لا مقروءة. ولم یعمد أحد إلى تدوینها فی بادئ الأمر. ولیس معنى ذلك أن الموشحات جمیعاً كانت تغنى، إذ لا شك أن كثیراً منها نظم لغیر غرض الغناء والتلحین، ولاسیما تلك التی لا تتصل مناسبتها ولا موضوعها بهذا الجانب: كالهجاء والرثاء والزهد.

وهذا كله یعنی أن الموشح فن أندلسی أصیل ابتدعه العرب فی ظل ظروف اجتماعیة خاصة، وهذا ما أكده المؤلفون العرب من أندلسیین ومشارقة، كابن خلدون فی مقدمته، وابن بسام فی ذخیرته، وابن دحیة فی "المطرب"، والمقری فی نفح الطیب، وابن سناء الملك فی "دار الطراز"، وغیرهم، وإن كانت هناك أقوال یسیرة تنسب ظهور بدایات هذا الفن إلى المشارقة.

أما الأثر المتبادل بین فن الموشحات وشعر التروبادور Troubaours، فما زال یفتقر إلى مزید من المناقشة والتثبت والتمحیص، وإلى القول الفصل فی مدى التأثیر والتأثر بینهما(2). فالموشحات إذن هی عربیة الأرومة، وفن جدید فی الشعر الأندلسی، لأن البیئة فی الأندلس كانت مواتیة للتجدید أكثر من المشرق، ویمكن أن نحدد الموشح بأنه قالب شعری عربی وشكل مستحدث للقصیدة شذ فیه الأندلسیون عن مأثور نظامها الموسیقی الموروث فی الوزن الواحد، والقافیة الواحدة، إلى نظام آخر یحمل خصائص معینة.

وأهم هذه الخصائص –مما یدخل فی نطاق بحثنا هذا- خروج الموشح على نظام القافیة الواحدة فی القصیدة، واللجوء إلى التنویع فی القوافی والتوزیع الإیقاعی وفق نسق معین یجعل الموشح حقاً أشبه بالوشاح المزین المزركش الذی رصعته الجواهر المتلألئة، وزینته الزخارف والنمنمات الملونة، فضلاً عن "الخرجة" التی تأتی فی خاتمة الموشح زینة أخرى متمیزة، عندهم، بخصائص ینبغی للوشاح مراعاتها.

ومن هذا المنطلق، منطلق التجدید العروضی الإیقاعی، والموسیقی الغنائی، نشیر إلى أن الوشاحین الأندلسیین –على كثرتهم- لم یبینوا لنا بصورة واضحة قواعد الموشح وأسس بنائه ومصطلحاته، وإن كنا نجد هنا وهناك بعض الإشارات إلى أصول هذا الفن. وربما كان ابن سناء الملك، المصری، (608ه/1212م) أول من حاول أن یحدد قواعد هذا الفن الشعری وأوزانه، ویبیّن لنا خصائصه وطرق نظمه، وذلك فی كتابه القیّم "دار الطراز فی عمل الموشحات". وتكونت نتیجة لذلك كله جملة من التقسیمات والتصنیفات التی حملت مصطلحات مختلفة، ومتضاربة فی دلالاتها أحیاناً. إلا أننا سنقتصر على أیسرها وأقربها منالاً، مما لا یتعب القارئ فی استیعابه وتفهمه:

إن أهم أقسام الموشح وعناصره هی: القفل، والبیت، والغصن، والخَرْجة. وهذا ما نوضحه فی بعض مقاطع الموشح التالی لابن زُهر الأندلسی (595ه/1199م):

حَیِّ الوجوه المِلاحا

وحیِّ نُجلَ العیونْ

هل فی الهوى من جُناحِ

أم فی ندیمٍ وراحِ؟

رام النصیحُ صلاحی

وكیف أرجو صَلاحا

بین الهوى والمجون؟

أبكی العیونَ البواكی

تذكارَ أختِ السِّماكِ

حتى حَمامُ الأراكِ

بكى شجونی وناحا

على فروعِ الغصونْ(3)

افتتح هذا الموشح بالبیت الأول وهو المطلع، ویسمى قفلاً. وهو على البحر المجتث (مستفعلن فاعلاتن) بضرب مقصور (فاعلاتن). وعلى وزنه هذا، وقافیتی صدره وعجزه توالت بعده الأقفال كلها، ویضم هذا الموشح ستة أقفال، یبدأ بقفل وینتهی بقفل، ویسمى عندئذ "التام".

والأقفال أساسیة فی الموشح، وبدونها لا تكون المنظومة موشحاً، وهی الوحدة الأولى فیه. ویسمى كل شطر من شطری القفل: غصناً.

أما الوحدة الثانیة فی الموشح فهی التی تلی القفل، وتتألف هنا فی موشح ابن زهر من ثلاثة أشطر أو أغصان وزن كل منها (مستفعلن فاعلاتن) أیضاً، تسمى بمجموعها "بیتاً". وعددها خمسة "أبیات". وهی جمیعاً تتفق فیما بینها فی الوزن ولكنها تختلف فی القوافی. وهذا النظام هو الغالب فی الموشح عامة، وهو المسمى "بالتام" ویكون مؤلفاً –كما نرى- من ستة أقفال، وخمسة "أبیات". وكلها ذات وزن عروضی واحد. فإذا لم یبدأ بقفل، بل ب "بیت"- وهذا قلیل- سمی الموشح "أقرع".

ولا یقتصر القفل فی الموشح على بیت شعری واحد ذی شطرین أو غصنین، بل قد یكون أكثر من ذلك، وكذا "البیت" بین القفلین یمكن أن یكون مؤلفاً من عدة أغصان، تكتب على نسق شاقولی (عمودی)، أو أفقی فی سطر واحد.

أما "الخَرْجة" فهی القفل الأخیر من الموشح –كما قال ابن سناء الملك فی كتابه "دار الطراز"- وإذا كان القفل الأول فی الموشح لیس عنصراً رئیسیاً، فإنه فی غایة الأهمیة عندما یكون فی خاتمة الموشح، وهو الذی یعرف بالخَرْجة، وهی ركن أساسی یولیه الوشاحون عنایة خاصة، ولها شروط تنسجم مع جو الطرب والغناء المواتی للموشحات.

والموشح، بعد هذا، بأقفاله و"أبیاته" وأغصانه وخرجته یؤلف وحدة كاملة مترابطة فیما بینها فی المعنى، كما الأبیات كلها فی القصیدة العربیة الموروثة، وهذا التقسیم الاصطلاحی الإیقاعی لأجزاء الموشح لا یعنی أنها منفصلة فیما بینها من حیث الأفكار والمعانی.

وبعد هذه الوقفة عند أجزاء الموشح وعناصره التی تؤلف بنیته ووحدته، یحسن بنا أن نتحدث عن وزنه العروضی أو التفعیلی، ومدى ما فیه من تجدید أو تقلید فی هذا الجانب. وفی هذا السیاق الغنائی القائم على التلحین والوزن یمكن أن نقسم الموشحات إلى خمسة أقسام:

1-قسم یلتزم بالبحور الشعریة الستة عشر الموروثة، التزاماً تاماً، من حیث أوزانها المعروفة، أما فیما عدا ذلك فإنها تختلف فی شكلها الفنی وتوزیعها الإیقاعی عن شكل القصیدة، وقلیل من الوشاحین من یلتزمون بنظام الشطرین وحده فی الموشح –على طریقة القصیدة العربیة –لكنهم حتى فی هذه الحالة یحافظون على طریقة الأقفال و "الأبیات" دون مراعاة الخرجة.

ومن هذا القبیل موشحة ابن سهل الإشبیلی (649ه/1251م) التی بدأها بقفل مؤلف من أربعة أشطر، على بحر الرمل:

هل درى ظبیُ الحِمى أنْ قد حمَى

قلبَ صَبِّ حلّه عن مكنسِ؟

فهو فی حَرٍّ وخفْقٍ مثلما

لعبتْ ریحُ الصَّبا بالقَبس

وختمها بهذا القفل الأخیر:

قلتُ، لمّا أن تبدّى مُعْلَما

وهو من ألحاظِهِ فی حَرس

أیُّها الآخِذُ قلبی مَغْنَما

اجعلِ الوصلَ مكانَ الخُمُس

وما بین القفلین، الأول والأخیر، تأتی "الأبیات" وعددها خمسة، على وزن الرمل أیضاً، ولكن قوافیها تختلف من "بیت إلى آخر" وكل بیت مؤلف من ستة أشطر، وأوّلها بعد المطلع (القفل الأول) وقافیته راء ساكنة:

یا بدوراً أشرقتْ یومَ النوى

غرراً تَسلكُ بی نهجَ الغرَرْ

ما لنفسی فی الهوى ذنبٌ سوى

منكم الحسنُ، ومن عینی النظَرْ

أجتنی اللذّاتِ مكلومَ الجَوى

والتذاذی مِن حبیبی بالفِكَرْ(4)

ثم تتوالى "الأبیات" بین الأقفال على هذا النسق.

وأما النوع الآخر من الموشحات الجاریة على الأوزان الموروثة فإن الوشّاح لا یلتزم نظام الشطرین المتقابلین، بل ینوع فی بناء الموشح من حیث الالتزام بالشطرین معاً فی الأقفال، وبشطر واحد أو أكثر فی "الأبیات".

ومثال ذلك موشح ابن زُهر الأندلسی (595ه/1199م) وهو موشح تام على بحر الرمل، ذو ستة أقفال وخمسة "أبیات"، وكل بیت مؤلف من ثلاثة أشطار، والقفلان الأولان یأتیان على النمط التالی، مع القفل الواقع بینهما، وتتبعهما بقیة الأقفال والأبیات على النمط نفسه، مع اتفاق فی قافیة الأقفال، واختلاف فی قوافی "الأبیات":

أیها الساقی إلیك المشتكى

قد دعوناكَ وإن لم تسمعِ

وندیمٍ هِمتُ فی غُرّتهِ

وبشربِ الراح من راحتِه

كلما استیقظَ من سكرتهِ

جذبَ الزقّ إلیه واتّكا

وسقانی أربعاً فی أربعِ(5)

2-قسم یظهر فیه التجدید على استحیاء، وهو ما یفعله بعض أصحاب الموشحات من ابتعاد موشحاتهم قلیلاً عن البحر التقلیدی، وذلك بتعدیل بعض تفعیلاته، أو إدخال شیء من الزیادة أو النقصان فی حركاته وكلماته، أو فی تقفیة حشو الأبیات فی موضع معین للتزیین والزخرفة، ومثال ذلك الموشح التام –الذی سبق- لابن زهر وأوله:

حَیّ الوجوهَ المِلاحا

 وحَیِّ نُجل العیونْ

هل فی الهوى من جُناحِ

أو فی ندیمٍ وراح؟

رام النصیحُ صلاحی

وكیف أرجو صَلاحا

بین الهوى والمجونْ؟

فهذا الموشح یقوم فی أصله على وزن البحر المجتث (مستفعلن فاعلاتن)، ولكن ابن زُهر لم یبق الضرب فی الأقفال كلها على فاعلاتن بل جعله "مقصوراً" بحذف ساكن السبب الخفیف فی آخره وتسكین ما قبله فصار (فاعلاتْ = فاعلانْ). وهذا التغییر لا وجود له فی وزن المجتث الموروث.

ومن هذا القبیل موشح أبی بكر بن بقی (540ه/1145م) وأوله:(6)

یا ویحَ صبٍّ إلى البرق

له نظَرُ

وفی البكاء معَ الوُرْقِ له وطرُ

من أجل بُعدٍ عن صَحْبی

بكیتُ دمَا

كم لی هنالكَ من سِرْبِ

ووصْلِ دُمى

وعسكرُ اللیلِ فی الغربِ

قد انهزَما

والصبحُ قد فاضَ فی الشرقِ

له نهَرُ

وسال من أنجُمِ الأُفْقِ دمٌ كدِرُ

فهذا الموشح من وزن البسیط التام، ولكن الوشّاح التزم قافاً مكسورة فی وسط الحشو من شطری الأقفال جمیعاً، وبذلك بناها على أربع قوافٍ یُتوقّف عندها فی القراءة أو الإنشاد بما یجعل القفل خارج البحر البسیط من حیث الظاهر.

أما "الأبیات" فقد جعل أغصانها شطراً من البحر البسیط، ولكنه جعل لكل غصن قافیتین (ب +ما) بحسب الظاهر مع أن تفعیلات الغصن كلها متتابعة فی الوزن (مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن) ثم نوّع هذه القوافی فی سائر أغصان "الأبیات" ضمن الموشح كله.

3-ونوع ثالث من الموشحات الموزونة، وهو ما اشترك فیه أكثر من وزن واحد، ویكون ذلك بإحدى طریقتین:

آ- استخدام بحر واحد فی موشح واحد كامل، وذلك بتوظیف حالاته المختلفة من زحافات وعلل، وأعاریض وأضرب، وتام ومجزوء، ومشطور ومنهوك ضمن الموشح نفسه، لا یخرج فی ذلك كله عن بحر واحد داخل الموشح المنشود، كأن تأتی أشطار على الرمل التام، وأخرى على مجزوء الرمل.. أی یتفاوت عدد التفعیلات وأشكالها.

ب- أن یجمع صاحب الموشح بحرین اثنین فی موشح واحد بحیث یأتی بأشطرٍ على بحر ما، تام، أو مجزوء، أو منهوك، ثم یعدل عنه فی أشطر تالیة إلى بحر آخر مختلف التفعیلات، وذلك فی حال تنقله من القفل إلى البیت. أما الأقفال أو الأبیات فیبقى كل منها ملتزماً وحدة البحر مع نظائره فی الموشح نفسه، من أقفال و"أبیات"، إضافة إلى وحدة القافیة بین الأقفال، أو فی حشو الأقفال و "الأبیات" المقفّاة" فی حشوها. ومثال ذلك موشح للأعمى التُّطیلی (القرن 3ه = 9م) یقول فیه(7):

المطلع (القفل الأول)

ضاحكٌ عن جُمانْ

سافرٌ عن بَدرِ

ضاق عنه الزمانْ

وحواهُ صَدری

* *

البیت الأول

آهِ مما أجِدْ

شفّنی ما أجِدْ

قام بی وقَعدْ

باطشٌ مُتَّئدْ

كلّما قلتُ قدْ

قال لی: أینَ قد؟

* *

القفل الثانی

وانثنى خوطَ بانْ

ذا مَهَزٍّ نَضْرِ

عابثَتْهُ یَدانْ

للصَّبا والقَطْرِ

وهكذا دوالیك..

وقد جاءت التفعیلات فی هذا الموشح على الوجه التالی:

المطلع (القفل الأول)

فاعلن فاعلانْ

فاعلن مفعولنْ

فاعلن فاعلانْ

فعلن مفعولنْ

البیت الأول:

فاعلن فاعلن

فاعلن فاعلن

فاعلن فعِلن

فاعلن فاعلن

فاعلن فاعلن

فاعلن فاعلن

القفل الثانی:

فاعلن فاعلانْ

فاعلن مفعولنْ

فاعلن فاعلانْ

فاعلن مفعولنْ

4-وقسم من الموشحات له أوزان وتفعیلات خاصة یدركها السامع عند القراءة أو السماع، ویستعذبها الذوق ولكنها لا تنطبق على شیء من أوزان الشعر العربی الموروثة.

وقد حاول بعضهم حصر الأوزان والتفعیلات التی بُنی علیها هذا النوع من الموشحات وجهدوا فی أن یردّوها إلى نظام الأوزان العروضیة التی حصرها الخلیل الفراهیدی ومَن بَعدهُ فی البحور الستة عشر، وفروعها، حتى أوصلوها إلى نحو 150 وزناً أو بحراً مخترعاً، لا عهد للشعر العربی بها، ولكن محاولاتهم هذه اتسمت بشیء كبیر من التكلف والافتعال، فضلاً عن أنها لم تستقص أوزان الموشحات كافة، فما زالت هناك موشحات خارج تلك الأوزان ولكن الإیقاع فیها –على كل حال- هو عربی خالص، وتفعیلاتها متناسقة مع اختلاف تنویعاتها، وإن كانت لا یمكن أن تنتمی إلى بحر معین كالبسیط أو مجزوء الكامل.. الخ فالوزن العربی لم یُقفل بابه على مر العصور، ولیس هناك ما یحول بین الشاعر المجدّد وبین استخراجه ما یریده من أوزان، إذا جرى فی الاستخراج على قاعدة سلیمة فی التقفیة والإیقاع.

ومثال هذا النوع قول ابن اللَّبانة (507ه/1113م):

القفل الأول

كم ذا یؤرّقنی ذُو حَدقِ

مَرضَى صِحاحِ

لا بُلینَ بالأرَقِ(8)

البیت الأول

قد باح دمعی بما أكتمُه

وحنَّ قلبی لِمنْ یَظلِمُهُ

رشَا تمرَّن فی "لا" فَمُهُ

كم بالمُنى أبداً ألثِمُه

القفل الثانی

یفترُّ عن لؤلؤٍ فی نَسقِ

منَ الأقاحی

بنَسیمهِ العَبِقِ

وجاء الوزن فیه على الوجه التالی:

القفل (1)

مستفعلن فعِلن مفتعلن

مستفعلن متفْعلن مفاعلَتن

البیت (1)

مستفعلن فاعلن مفتعلن

متفْعلن فاعلن مفتعلن

متفعلن فعلن مفْتعلن

مستفعلن فعلن مفتعلن

القفل (2)

مستفعلن فاعلن مفتعلن

متفْعلن مفتعلن مفاعلتن

5-والقسم الخامس والأخیر من الموشحات ما لیس له وزن یدركه السمع عند قراءته أو إنشاده، ولا یوزن إلا بالتلحین وذلك بمد حرف، وقصر آخر أو خطف حركته، وإدغام حرف فی حرف، وغیر ذلك من فنون التلحین.

وهذا النوع –كما قال ابن سناء الملك –لا یدخل شیء منه فی أوزان العرب، وهو النمط الذی یسود أكثر نماذج الوشاحین فی الأندلس، وعدده لا یقع تحت حصر، ولا یستقصیه إحصاء، لأنه قائم على التلحین فقط، ولا میزان له إلا الضرب على العود أو النفخ فی الأرغن، ولا ضابط له سوى النغم والإیقاع عن طریق مد الصوت بالإنشاد والغناء، أو قصره وحبسه، حتى ینسجم مع اللحن العام الذی یسود الموشح المغنّى.

وهذا یؤكد التلازم والتواشج الوثیق بین التوشیح والغناء، وما كان من هذا النمط فإنه لا یعلم صالحه من مختله إلا بمیزان الغناء والتلحین الذی یجبر كسره، ویقوّم معوجّه، ویردّه صحیحاً. ولكن هذا لا یمنع من ورود بعض الكلمات أو التراكیب فیه موزونة أحیاناً على بعض التفعیلات.

ومثال هذا النوع قول ابن القزاز فی مطلع موشح له(9):

رُحْ للراح وباكِرْ

بالمُعْلَمِِ المَشُوفْ

غَبوقا وصَبوحْ

على الوتَرِ الفصیحْ

لیس اسمُ الخمرِ عندی

مأخوذاً فاعلَمْ

إلاّ مِن خاءِ الخَدِّ

ومیمِ المَبْسِمْ

وَراءِ ریقِ الشَّهْدِ

العاطِرِ الفَمْ

فكُنْ للهم هاجِرْ

وصِلْ هذی الحُروفْ

كی تَغدو وتَروحْ

بجسمٍ فیه رُوحْ

* * *

أخیراً، إن الموشحات فن شعری أندلسی، وهو فن جدید مستقل بمفرده، ونماذجُه المختلفة لا تتفق مع القصیدة الشعریة الموروثة فی جوانب كثیرة، أبرزها الشكل، واللغة، والقافیة، والوزن، كما أنها تتصل اتصالاً قویاً بفن الموسیقا وطرائق الغناء فی الأندلس.

ولاشك أن هذا الفن اكتسب على مدى الأیام قیمة كبیرة، ومكانة سامیة فی میدان الغناء والطرب، حتى إنه استهوى المشارقة، فراح عدد منهم ینظم الموشحات كابن سناء الملك، وابن نُباتة المصری، وصفی الدین الحلی، وتابعهم آخرون حتى العصر الحدیث كالشاعر أحمد شوقی الذی نظم موشحته "صقر قریش" على طریقته الخاصة، وقبله سلیمان البستانی فی ترجمته لإلیاذة هومیروس، فبرهنا بذلك على مطاوعة هذا الفن لنظم الملاحم.

وبذلك تكون الموشحات الأندلسیة منعطفاً بارزاً فی مسیرة الشعر العربی، لأنها أول محاولة تجدیدیة فی الشعر العربی على الإطلاق، والذی عرف بتقالیده الفنیة الراسخة، وعراقة تلك التقالید وقوتها، لذلك لو لم یكن للموشحات إلا أنها كسرت هذا الطوق، وانطلقت منه إلى نظام شعری جدید، لكفى أن تلتفت إلیها الأنظار، ویُبحث عن دواعیها ونتائجها، وإن كان هذا النظام الجدید مرتبطاً بإطار التقفیة والتنویع فی الوزن والإیقاع الموسیقی، وتنوع الأجواء الفنیة الخارجیة دون أن یتعداها إلى المضمون المرتبط برؤیا الشاعر إلى الوجود، والمتصل بمنابع الثقافة الفكریة، وآرائه فی الحیاة الاجتماعیة، وسبر أغوار النفس.

ولاشك أن فن التوشیح كان نقطة انطلاق حثیث إلى السیر فی طریق التجدید العروضی والإیقاعی النغمی فی الشعر العربی الحدیث الذی بدأ یتحرر من رتوب القافیة، ویخرج على توازن الأشطار فی القصیدة العربیة، ویبتعد عن التكلف والتصنع فی اللغة والأسلوب، مما ساعد على ولوج الشعراء مجالات أخرى فی فنون القول: كالقصص الشعریة، والملاحم، والأدب التمثیلی، وكذلك كان فن التوشیح مرتكزاً للتجدید فی الشعر التفعیلی المعاصر، وأنماطه الإیقاعیة المختلفة عند الشعراء فی المشرق وفی المهجر، من أمثال خیر الدین الزركلی، وخلیل مردم والأخطل الصغیر، وعمر أبو ریشة، ونازك الملائكة، وفدوى طوقان، وصلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطی حجازی، وعبد الوهاب البیاتی، والیاس فرحات، والشاعر القروی، وفوزی المعلوف وشفیق المعلوف وغیرهم.

المصادر والمراجع

1-أبو نواس الأندلس، ابن سهل الإسرائیلی: محروس منشاوی الجالی- القاهرة 1986م.

2-الأدب الأندلسی: مصطفى الشكعة –بیروت 1983م.

3-أدباء العرب: بطرس البستانی –بیروت 1937م

4-تاریخ الأدب الأندلسی "عصر الطوائف والمرابطین": إحسان عباس –بیروت 1962م,

5-تاریخ الأدب العربی (الجزء الخامس): عمر فروخ –بیروت 1982م.

6-دار الطراز فی عمل الموشحات: ابن سناء الملك –تح. جودة الركابی- دمشق 1977م.

7-دراسات أدبیة فی الشعر الأندلسی: سعد إسماعیل شلبی –القاهرة 1972م.

8-دیوان ابن سهل الأندلسی: جمعه وشرحه: أحمد حسنین القرنی –القاهرة 1926م.

9- دیوان الأعمى التُّطیلی: تح. إحسان عباس- بیروت 1963م

10-الشعر فی عهد المرابطین والموحّدین بالأندلس، محمد مجید السعید –بیروت 1985م.

11-الشعر والبیئة فی الأندلس: میشال عاصی- بیروت 1970م.

12-فی الأدب الأندلسی: جودة الركابی –دمشق 1955م.

13-مقدمة ابن خلدون: عبد الرحمن بن خلدون- طبعة دار الشعب –القاهرة

14-ملامح الشعر الأندلسی: عمر الدقاق –بیروت 1972م.

15-موسیقا الشعر العربی: محمود فاخوری –حلب 1981م.

16-الموشحات والأزجال: مصطفى عوض الكریّم –القاهرة 1965م.

________________________________________

* مدرّس فی كلیة الآداب بجامعة حلب.

(2) ممّن تناول هذا الموضوع بالبحث: میشال عاصی فی كتابه "الشعر والبیئة فی الأندلس" ص112-114 وسعد إسماعیل شلبی فی كتابه "دراسات أ دبیة فی الشعر الأندلسی" ص90-95.

(3) ملامح الشعر الأندلسی، د.عمر الدقاق، ص 355.

(4) دیوان ابن سهل الأندلسی: جمعه أحمد حسنین القرنی –القاهرة 1344ه، 1926م، ص 53-55.

(5) أدباء العرب: بطرس البستانی 3/77، وتاریخ الأدب العربی: د.عمر فروخ 5/540.

(6) ملامح الشعر الأندلسی: د.عمر الدقاق، ص341.

(7) دیوان الأعمى التطیلی: تحقیق د.إحسان عباس –بیروت 1963م. ص253.

(8) الموشحات والأزجال: مصطفى عوض الكریّم –ص55.

(9) الموشحات والأزجال، مصطفى عوض الكریّم، ص54.

مجلة التراث العربی-مجلة فصلیة تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 85
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 19:31|
الاغتراب -ظاهرةً- قدیمةٌ قدم الإنسان فی هذا الوجود. فمنذ أن تكونت المجتمعات الأولى نشأت معها وفی ظلها الأزمات التی كانت تتمخض -بشكل أو بآخر- عن أنواع من الاغتراب عانى منها الفرد، وواجهها على وفق حجم طاقاته العادیة والروحیة، فقد تقوده إلى التمرد والعصیان، مثلما قد تفضی به إلى الاستسلام والانعزال والانكفاء على الذات.‏

ویبدو أن الاغتراب قدر الشعراء العرب القدامى:‏

فقد تغرب امرؤ القیس حین أنكر علیه أبوه قول الشعر وخرج مغضوباً علیه فی نفر من شذاذ طیء وكلب بعد أن شبب بإحدى نساء أبیه. كما عانى طرفة بن العبد من الاغتراب حین خرج على مجتمعه وتمرد على قیم القبیلة فتحامته العشیرة. وعرف عنترة العبسی الاغتراب بسبب لونه ونسبه لأمّه وهی الأمَةَ الحبشیة وكان ذو الرمة ضحیة الاغتراب الاجتماعی بسبب مرضه العصبی، ثم العاطفی حین أحب ((میّة)) قرابة عشرین عاماً.‏

وعانى أبو تمام من اغترابات شتى: مكانیة واجتماعیة ونفسیة حتى آمن بأن الاغتراب هو التجدد. وارتبط الاغتراب بحیاة أبی الطیب المتنبی أیما ارتباط فكان نسیج وحده، افرده الهّم مثلما افرده الحسد. وكان لأبی فراس الحمدانی اغترابه هو الآخر: بسبب مرارة الأسر وعذابات الشوق والحب، وعاش الشریف الرضی اغترابات حادة على رأسها اغترابه الروحی الذی تلبسه بسبب مآسی سلالته الهاشمیة.‏

فإذا ما اقتربنا من أبی العلاء المعری أطْللْنا على ذروة اغتراب النفس، واغتراب المكان واغتراب الجسد. وهكذا یتكشف لنا الاغتراب من خلال أولئك الشعراء وسواهم عن نفوس طامحة وأرواح مجنحّة تاقتْ إلى العلو، ووجدت فی الأرض جحیماً لا یُطاق.‏

وقد بات الاغتراب قضیةً تناولها الفلاسفة والمفكرون بالتحلیل وتعقبّوها بالبحث والاستقصاء بعد نشوء المجتمع الصناعی من جهة، وقیام الحربین الكونیتین وما رافقهما من مآسٍ وویلات من جهة أخرى حتى لیصح أن یقال إنَّ فی كل إنسان مغترباً.‏

ولقد عانى الإنسان العربی بعامة والمثقّف بخاصّة، من اغترابات شتى، واتسمت ردود فعله بأشكال شتى تراوحت بین الانسحاب من الواقع إلى هامش الحیاة، أو الرضوخ للنظام القائم والاندماج فی مؤسساته، أو التمرد بنوعیه: الفردی والثوری الجماعی، أو الهجرة إلى الخارج بحثاً عن فرص أفضل فی الحیاة.‏

ولابد من الإشارة إلى سببین جوهریین وراء اغتراب المثقف: یتصل الأول بقضیة الحریة وما یتعلق بها من مداخلات السلطة السیاسیة والاجتماعیة، ویتعلق الثانی بصدمة المثقف بسبب تعثّر المشروع النهضوی القومی.‏

وإذا انعطفنا نحو الشاعر العربی المعاصر، سنجد أنّ انعكاس الاغتراب علیه بات طردیاً مع تعقید الحیاة وتعفّن أوضاع المجتمع، فالشاعر أسرع من غیره إلى الإصابة بهذا الداء لأنه یتمتع بقدر عال من الحساسیة والتوتر والرهافة، ولهذا فقد عاش فی اغتراب مركب لأنه ((إنسان جمعی یستطیع أن ینقل ویشكل اللاشعور أو الحیاة الروحیة للنوع البشری)) مثلما یقول (یونج).‏

ولا شك فی أن اغتراب طلیعة الشعراء فی هذا القرن وفی الحقب اللاحقة، قادهم إلى محاكاة الرومانسیة الغربیة، یستوی فی ذلك شعراء الوطن العربی والشعراء العرب فی المهاجر، فاتخذوا من اللیل أنیساً، وتاقوا إلى حیاة الكوخ، واعتزلوا المدینة، وتغنوا بالألم، وصار الحزن ندیماً لهم.‏

ومن هنا فقد وجد الشعراء، وبخاصة منهم الرواد: بدر شاكر السیاب ونازك الملائكة، وعبد الوهاب البیاتی، وبلند الحیدری، أنفسهم فی عالم مقفر، تراجعت فیه المثل الروحیة، وافتُقِدَت أواصر الحب الإنسانی الذی یتشوفون إلیه، فعانوا من الاغتراب أیما معاناة، وحاولوا -كل على وفق طاقاته المادیة والروحیة- مواجهته والرد علیه، ومن هنا بدأت أتحسس -بصفتی شاعراً- عمق تجربتهم الإبداعیة التی رسمتها وبدقة تجربتهم الحیاتیة مثلما قادنی ذلك إلى فحص منجزهم الشعری بحثاً عن الثیمات الاغترابیة فیه، قصد الإحاطة بمكوناتها، ومن ثم الوقوف على المناهج التعویضیة التی اعتمدوها، فكانت هذه الدراسة المتواضعة التی اشتملت على أربعة فصول:‏

اختص الفصل الأول بأنماط الاغتراب التی عاشها الشعراء الرواد الأربعة: بدر شاكر السیاب، ونازك الملائكة، وعبد الوهاب البیاتی وبلند الحیدری وهی: الاغتراب الاجتماعی والعاطفی، والسیاسی والمكانی، والروحی، ثم استعرضت المنهج التعویضی الذی استعان به الشعراء للرد على الاغتراب، والذی اشتمل على العودة إلى الطفولة والماضی، وتأسیس المدن الحلمیة واستلهام التراث فضلاً عن صیغ أخرى تفرد بها الشعراء.‏

وحمل الفصل الثانی عنوان ((البنیة اللغویة))، وقد تحدثت فیه عن القصیدة موضوعاً لغویاً، وعن مكونات المعجم الشعری عند الرواد، وهی ألفاظ الغربة، وألفاظ الطبیعة وألفاظ الصوت، فضلاً عن ظاهرة التجسید والتشخیص، وختمت الفصل بالحدیث عن مستویی الأداء اللغوی عند الرواد، وهما: الأداء بالكلام المحكی والأداء بالموروث على صعید اللفظة وعلى صعید التركیب.‏

أما الفصل الثالث فقد خصص للبنیة التصویریة، وقد تناولت فی مستهله المهاد النظری للصورة الشعریة، وموقع الصورة فی البناء الشعری وعلاقتها بكل من المجاز والخیال، والرمز الأسطولی، وختمت الفصل بأمثلة تطبیقیة على التشكیل بالقصة، والتشكیل بالموروث، والتشكیل بالرمز الأسطوری والتشكیل بالرمز الأدبی والتشكیل بالقناع.‏

وفی الفصل الرابع الذی اختص بالبنیة الإیقاعیة، تحدثت عن أثر الموسیقى فی البناء الفنی ودورها فی تثبیت الانفعال، وكیف تتعامل الشعراء الرواد فی موضوع الاغتراب مع الإیقاع الداخلی، عبر وسائل تحقیقه وهی:‏

تكرار الأصوات، وأصوات ..؟.، والتدویم، وتجزئة الوزن العروضی وإلباس الألفاظ إیقاع النواة، وكذلك من خلال موسیقى الإطار، ودور الوزن فی البناء الشعری، مثلما تحدثت عن أثر القافیة الموسیقی، وموقف الشعراء الرواد منها، مستشهداً بأمثلة تطبیقیة محددة.‏

وفی ختام الفصل تناولت ظاهرتین موسیقیتین لفتتا نظری تلكما هما: تنوع الأوزان، وتناوب شعر البیت وشعر التفعیلة فی القصیدة الواحدة، لضرورات فنیة وانفعالیة، اجتهدت فی تفسیرها بعدد من الأمثلة التطبیقیة.‏

أزعم أنی استخدمت المنهج التحلیلی الفنی، مركزاً على النص بالدرجة الأولى، مع الاستعانة -كلما دعت الحاجة- بأقاویل الشاعر ونقاده، فی تحلیل النص وفهمه، أو فی تحلیل الموقف وفهمه، شریطة أن لا یتعارض ذلك مع روح النص الذی هو جوهر العملیة النقدیة، بما یمتلكه من عناصر التكامل اللغوی والفنی والجمالی.‏

ولا أزعم -بعد ذلك- أنی استكملت الموضوع، فما زال فیه الكثیر مما لم یُدرس، أو مما لم یُتَعَّمق فی دراسته، وحسب هذا البحث أن یكون لبنة فی بناء یتكامل تباعاً.‏
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 19:31|
تاریخ الأدب العربی بعیون حسینیة




یمثل الكلام الجمیل صك المحبة الى القلب یدخله دون حاجب او استئذان، وإذا انتظمت الكلمات وسالت موسیقاها ألحانا فی أخادید أذن السامع، متسربة الى حقول نفسه ومشاتل عاطفته، أسَرته وأفقدته صولجانه ودفعته عن عرش جلموده مهما أوتى من قوة العقل وصلادة النفس، وهذا ما یفعله الشعر المجید، یغرق مستمعه فی بحوره بمرساة أوزانه، لیطلعه وهو یغوص بین أمواج الشعر وسحره على اللئالئ والدرر المنظومة.

وما أجمل الشعر حینما ینسج الشاعر خیوطه الحریریة فی حب شخصیة ملَكَ المكارم كلها، وینشئ عقدها فی تعظیم رمز حاز الفضائل جمیعها، وهب الإله كل ما یملك، فوهبه الرحمن حب الناس، تأسرهم العَبرة فینیخوا ركابهم عند رحله، یمیرون أنفسهم ویزدادون كَیل عِِبر، إنها شخصیة سبط الرسول الأكرم محمد (ص) قتیل العبرة وشهید الحق الامام الحسین بن علی (ع).

البحاثة الدكتور محمد صادق الكرباسی، یسلك بنا هذه المرة فی الموسوعة الحسینیة التی تنوء أبوابها بالعصبة أولی القلم، سبل التحقیق الى بساتین "الحسین فی الشعر العربی القریض"، من خلال "المدخل الى الشعر الحسینی" فی جزئه الأول الصادر عن المركز الحسینی للدراسات فی لندن، فی 560 صفحة من القطع الوزیری، حیث تناول فیه كل صغیرة وكبیرة لها علاقة بالأدب الشعری، فهو قبل أن یأخذنا فی رحلة معرفیة ویطلعنا على مراحل الشعر الحسینی كمقدمة ضروریة للدخول فیما نظم فی الامام الحسین (ع) من الشعر القریض، یتوقف عند محطات عدة، لبیان الشعر وتاریخه وخصائص مفرداته.

الأدب وحقیقته

ولما كان هذا الجزء والذی یلیه هو مدخل الى الدواوین الشعریة لخمسة عشر قرنا، فان المصنف یبحث فی الشعر ومنهاجیته ویستعرض الموضوعات اللصیقة بدائرة الشعر، فأول ما یبدأ به هو شرح معنى كلمة (الدیوان) وأصلها، فقد قالوا فیها أنها فارسیة أو آشوریة أو آكدیة أو سومریة أو عربیة، ویخلص الى أن الكلمة غیر دخیلة یمكن إرجاعها الى أصول عربیة، ولكن لا ینافی أن تكون لها فی اللغات الأخرى معان قریبة من ذلك، ولا یستبعد: "أن تكون عربیة الأصل دخیلة على اللغات الأخرى ولكنها دخیلة الاستخدام فی العربیة للمؤسسات والدوائر الرسمیة".

وتحت عنوان (تعریف الأدب)، یفصل القول فی المعنى اللغوی والاصطلاحی. كما إن (الأدیب) تسمیة تطلق على من یجید التعبیر نثرا او شعرا، ومن یتصف بالفضیلة فهو مؤدب. أما (ولادة الأدب) فان: "البذرة الأولى للأدب هی التجربة الشعوریة التی تتولد فی مخیلة الأدیب نتیجة لتلاقح مؤثرات خارجیة مخزونة او حاضرة"، والأدیب لیس فكراً مجردا بل عمل وتطبیق على ارض الواقع. لأن (قیمة الشعور الأدبی) تعادل القیمة الوجودیة. كما إن (قیمة الاختیار الأدبی) تتحقق فی جمع الحروف والكلمات والجمل والفقرات فی منظومة موزونة ومنمقة، لأن الجزئیات هی التی تشكل الكلیات، والكلیات تأخذ خصائصها من كینونة الأجزاء، فمتى ما أحسن استخدام المفردة صار الكلام جمیلا، وفی الشعر لابد عند تنسیق جزئیات الكلام مراعاة التنسیق بین الغرض الشعری والبحر وأوزانه والقافیة بحركاتها وحروفها، فجودة الشعر ملزومة بتناسقیة ثلاثی الغرض والبحر والقافیة. ذلك إن (القیمة التعبیریة) تعتمد على تحول الشحنة الذهنیة الى ارض الواقع بالأسلوب الشعوری.

ولكن ما هی (حقیقة الأدب)، هل هو فن أم علم؟ وهل هو عمل أم مجرد فكر؟ وهل هو هدف أم وسیلة؟

یرى المصنف أن: "الأدب بما انه یبحث عن أسالیب التعبیر وفنون الأداء بغرض تحسین صورة الفكرة فهو فن، ومن المجاز إضافة العلم الى الأدب" ویرى أن الأدب عمل والأدیب یستحق هذا الوصف: "اذا مارس الأداء الفنی فی التعبیر"، كما إن الأدب وسیلة لإیصال فكرة معینة، وحكمه حكم المقبلات فی مائدة الكلام، فعلیه: "إن شئت سمیت الأدب بالمقبلات اللفظیة". ثم إن (منابع الأدب ومجاله) كامنة فی مخیلة الانسان تترجمها التجربة الشعوریة. والأدب النابض بالحیاة هو (الأدب الموجه) الذی لا یتخذه المرء مطیة لشهواته ونزواته. لكون (هدف الأدب والشعر) هو تقدیم رسالة مسؤولة الى المجتمع عبر الكلام الخمیل والنظم الجمیل. بید أن الترابط بین (الأدب والإلتزام) لا یدعونا الى التحجر، لان مسألة الإلتزام فی الأدب والشعر التی شاعت فی خمسینات القرن العشرین، كانت قائمة على فكرة الإلتزام لحشد الطاقات الأدبیة والفكریة لخدمة قضایا الأمة. وأعلى درجات (قمة الأدب) عندما تكون القطعة النثریة او الشعریة فی تناسبها التكعیبی (التركیب والموضوع والتعبیر) فی منتهاها. لأنه عند (التقسیم الأدبی) فان: "الأدیب یحلق بجناحین: جناح الشعر وجناح النثر والقاسم المشترك بینهما هو حسن الأداء للصورة التجریبیة سواء الواقعیة منها او الخیالیة".

مرتبة النثر والشعر

وتحت عنوان (أدب النثر وفنونه) یفصل المحقق الكرباسی القول فی تقسیماته، وبخاصة: القصة، التمثیل، المقالة، الخطابة، النقد، المكاتبة، المناظرة، المثل، والمقامة. ویفرد عنوانا للحدیث عن (أدب القرآن) وبلاغته التی انبهر بها فطاحل الأدب الجاهلی. ویستقل بعنوان لبیان العلاقة بین (الأدب والشعر) وموقع الشعر الحر من النثر والشعر القریض. منطلقا من ذلك لبیان (مرتبة الشعر) فی سلّم الأدب وتعریفه، حیث توصل الى إن: "الأدب الشعری یأتی فی المرحلة الثانیة من الأدب النثری من حیث التأریخ لأن الشعر فی الحقیقة تطویر للنثر وفیه التزام أكثر من النثر، ولكن من جهة أخرى فإن الشعر یأتی فی الدرجة الأولى من حیث الفن الأدبی"، ولابد لمن یرید نظم الشعر ویرتقی أعواده أن یقرأ كما یقول الخوارزمی: حولیات زهیر واعتذارات النابغة وحماسیات عنترة وأهاجی الحطیئة وهاشمیات الكمیت ونقائض جریر وخمریات أبی نؤاس وتشبیهات ابن المعتز وزهریات أبی العتاهیة ومراثی أبی تمام ومدائح البحتری وروضیات الصنوبری ولطائف كشاجم وحكم المتنبی وغزلیات ابن الفارض. وقد عمد المصنف الى بیان المقصود من كلام الخوارزمی بمتابعة كل شاعر وما اتصف به شعره. ولا یخفى أن بین (النظم والشعر) عموم وخصوص من وجه: "وذلك لأن كل شعر نظم ولیس العكس حیث إن الشعر هو ما حرك الشعور الإنسانی بل مطلق الشعور مع مراعاة الوزن والقافیة". فالشعر الحسن ولید المعنى الجید واللفظ الجید، ولذلك فان الشعر المنتوج یقع مدار (الشعر بین العفویة والتكلف) حیث: "إن الشعر العفوی بریق شحنة فكرة تتولد بشكل عفوی وطبیعی .. بینما الشعر المصطنع عبارة عن إفراغ ما احتوته القوالب العروضیة حین یرید صانعه استخدامه". وهذا یقودنا الى معرفة مدار (الشاعر بین القریحة والعروض) حیث: "لا یستغنی الشاعر المبدع عن القریحة الخلاقة ولا عن العروض الخلیلیة" لكون الأولى بمثابة الوقود تسوق مركب الكلمات والمعانی على طریق العروض الممهد الى قمة العطاء الأدبی. على إن القول بان الشعر (أعذبه أكذبه) فیه استغراق غیر مبرر، لأن: "شاعر العفویة لا یمكن أن یقول الكذب لأن الطبیعة غیر كاذبة، والكذب لا یأتی إلا من التصنع فهو الى النظم أقرب منه الى الشعر، فالشعر أبلغه أعذبه وأخیله أصوبه، وأما المبالغة فهی ضرب من ضروب الأدب". ومن یتكلف الشعر او تقصر همته یسهل علیه (سرقة الشعر) الغالی والنفیس، وتتمحور السرقات كما یضیف المصنف حول: سرقة الفكرة أو الألفاظ أو القالب الشعری أو الانتحال، والأخیرة تعتبر أخس السرقات الأدبیة، وفیه حرمة شرعیة، على أن التضمین والتشطیر یعدان من الفن لا من السرقة. وفی مقام (الرخص الشعریة) اشتهر القول انه یجوز فی الشعر ما لا یجوز فی غیره، ویعلق علیه المصنف ویرى هناك فرقا بین الرخص المعیبة والرخص الفنیة من قبیل التقدیر والحذف واستخدام الخاص بمعنى العام وبالعكس. ولا یرى مانعا من (الانفتاح الأدبی) المسؤول على الآداب العالمیة.

تاریخ الشعر وتطوره

وقبل الدخول فی صلب الشعر الحسینی وتاریخه، یأخذنا المحقق فی جولة للإطلاع على (تاریخ الشعر وتطوره) واضعا فی حسبانه ثلاثة عصور: الجاهلی والإسلامی والحسینی، فالعصر الأول ینتهی حتى عام البعثة النبویة فی 13 قبل الهجرة، وكان: "یصب فی غالبه على الفخر والمدح والهجاء والفروسیة والشجاعة والغزل الى غیرها من المعانی المتسمة بهذه الصفات"، وینتهی العصر الاسلامی باستشهاد الامام الحسین (ع) فی بدایة العام 61 هجریة، ولوحظ فی هذا العصر: "ان الإسلامیین استعملوا مفردات القرآن الكریم والأحادیث الشریفة فی إنشائهم مما ألبسوه وشاحا عقائدیا وأعطوه طابعا علمیا فدخلت فیه الفلسفة والعلوم الأخرى"، ویرد المصنف على اولئك الذین قالوا بوقوف النبی (ص) فی وجه حركة الشعر بل یرى أن تشجیعه (ص) للشعراء مثل كعب بن زهیر وحسان بن ثابت دلیل تأییده فضلا عن ما اشتهر عن بعض أئمة المسلمین قولهم الشعر مثل الامام علی (ع).

وتستمر مرحلة الشعر الحسینی حتى یومنا هذا، لكنها مرت هی الأخرى بثلاث مراحل: الأولى: وتنتهی بغیبة الامام المهدی (ع) عام 326 هجریة, والثانیة حتى نهایة القرن الثالث عشر الهجری، والأخیرة منذ القرن الرابع عشر الهجری وحتى یومنا هذا. وضمت المرحلة الأولى دورین: الأول حتى نهایة العصر الأموی العام 132 هجریة، وقد بدأ الشعر الحسینی فی معظمه بالرجز السیاسی واتسعت رقعته الى باقی البحور، أما الدور الثانی فیبدأ من العصر العباسی وینتهی بغیبة الامام المهدی المنتظر (ع)، وفی هذه الفترة تعرض الأدیب الحسینی لمحنة كبیرة نتیجة لممارسة بنی العباس القمعیة، لكن الأدب الحسینی ظل نابضا ومتحركا مع حركة الزمان والتطور وذلك: لوجود أئمة أهل البیت وحثهم للشعراء على الإنشاء والإنشاد، وقیام العلویین بالثورات والانتفاضات، وبروز بعض الدول والحكومات الموالیة لأهل البیت، وبشكل عام كان التفوق من نصیب الأدیب الشیعی حتى قال الأدیب الأندلسی ابن هانی: "وهل رأیت أدیبا غیر شیعی".

الأدب فی العصر العباسی

وتستغرق (المرحلة الثانیة) حدود عشرة قرون هجریة، ما تبقى من عصر الدولة العباسیة حتى سقوطها على ید التتار فی العام 656 هجریة ثم سیطرة العثمانیین على البلاد العربیة عام 923 هـ، وما بعده. وقد مر الأدب العربی بشكل عام فی الدولة العباسیة بعصرین: أولا (العصر الذهبی) ثم (عصر الانحطاط)، وفی العصر الأول شهد العالم الاسلامی نشوء حواضر علمیة أرفدت الأدب بصورة رئیسة، مثل الحاضرة العلمیة فی دولة الأدارسة فی المغرب العربی والحاضرة العلمیة فی حلب على عهد الحمدانیین، وحاضرة طرابلس الشرق فی عهد الدولة العماریة، وحاضرة القاهرة فی عهد الدولة الفاطمیة، والحاضرة العلمیة فی كربلاء على عهد البویهیین والحاضرة العلمیة فی النجف الأشرف على عهد الشیخ الطوسی والمدرسة النظامیة فی بغداد على عهد النظام السلجوقی, وقد ترك التبادل المعرفی بین المسلمین من عرب وعجم تأثیره على مسار الأدب، فضلا عن إن بغداد وحلب وأصفهان والقاهرة وطرابلس كانت تعج بالمترجمین، على إن من خصائص هذا العصر: "الإسراف فی الصناعة اللفظیة، خاصة التزام السجع وكثرة التضمین للأشعار والأمثال والآیات والأحادیث واستخدام التشابه والاستعارات ..".

أما (عصر الانحطاط) فانه یبدأ عند منتصف القرن الخامس الهجری مع سیطرة السلاجقة على أمور الدولة العباسیة فی بغداد وخروج دویلات عن دائرة الحكم العباسی ونشوب الحروب الصلیبیة، ففی هذا العصر أصبح العنصر العربی غریبا فی وطنه، وتغرب معه الأدب، كما إن بعض الدویلات كانت قائمة قبل الدولة العباسیة واستمرت فی وجودها، وبعضها تولدت فی العصر العباسی وهی بالعشرات، كما أنهكت الحروب الصلیبیة كاهل الدولة العباسیة، فضلا عن شخصیات مثل یوسف بن أیوب التكریتی الشهیر بصلاح الدین الأیوبی، كما یذهب المحقق الكرباسی تآمرت مع الدولة البیزنطینیة وساهمت فی تقویض أركان الدولة الاسلامیة والسماح للصلیبیین باحتلال المدن الاسلامیة مثل القدس. فی مثل هذه الظروف یساعدها الصراعات الطائفیة، برز شعر التصوف والعقیدة والتمذهب، كما ظهر شعر الفلسفة أیضا وبالأخص فی أروقة الفاطمیین، كما: "إن التشرذم والتقلب أثّر بشكل فاعل فی تراجع الشعر الحسینی كغیره، كما إن الصراع الطائفی والنزاع على الملك كان له الأثر فی نوعیة الشعر الحسینی".

الأدب فی العصر العثمانی

ویتابع المصنف فی (العهد العثمانی) حركة الأدب بعامة والشعر بخاصة والشعر الحسینی على وجه الخصوص، حیث قسم العهد العثمانی الذی ینتهی بانتهاء الدولة العثمانیة فی العام 1342 هـ (1924م) الى أربعة عصور، یبدأ بالعصر المغولی وینتهی بعصر التدهور وبینهما عصر الفتوحات وعصر الاستقرار، ویعتبر العصر المغولی هی الحلقة بین سقوط الحكم العباسی وقیام الحكم العثمانی، ویشیر الى الفساد الذی استشرى فی قصر المستعصم بالله العباسی وعدم استماعه الى صوت العقل ونصائح العقلاء من وزرائه من قبیل الوزیر محمد بن العلقمی لتجنیب سقوط بغداد بید المغول الذین راحوا یحتلون المدن الاسلامیة كالسیل العرم، وبشكل عام: "وفی هذه الفترة العصیبة لم یكن للحركة الأدبیة مرتع یناسبها فقد ضعفت مبانی الشعر وتراكبیه واتجه من كان بمقدوره نظم الشعر فی ظل هذه الظروف الى تناول المعانی المتداولة وبرز العنصر الدینی فی الأدب والشعر معا".

وفی العصر العثمانی الذی ابتدأ من إنشاء الدولة العثمانیة عام 680 هجریة، انفتحت شهیة الحكام على الفتوحات والحروب، وفی المقابل انعقد لسان: "الأدب العربی فی ظل هذه الحروب والانتهاكات والاحتلالات وتعاقب الحكومات من شتى اللغات والقومیات غیر العربیة والتی على أثرها دخل اللحن فی اللغة والتسیب فی آدابها وظهر الشعر الملمع بالتركیة والفارسیة والهندیة وغیرها، واستخدمت الكلمات الدخیلة وراجت اللهجات الدارجة"، أما الشعر الحسینی فانه لم یشذ عن مسار الشعر العام الذی نظم فی هذه الفترة، ولما كان محوره الامام الحسین فلابد أن یكون النظم على الولاء والعقیدة، إذ إن: "الحسین كان وسیبقى المادة الخصبة للشعراء والنقطة الروحیة الناطقة لتجمیع الأمة یلجأ الیها الانسان فی مثل تلك الظروف الحالكة لیتقرب الى الله ویشكو همه".

وبعد أن استولى العثمانیون على جل البلاد العربیة حل (عصر الاستقرار) فاستتب الأمن وافترشت لهم وسادة الحكم، وحاولوا جاهدین تحمیل ثقافتهم التركیة على المسلمین مع التزامهم بالثقافة الاسلامیة بشكل عام. وقد اتسم (الحكم العثمانی الأول) كما یرى المحقق، بالاستبداد، والطائفیة، والقومیة، وبروز التصوف، والعنف، وهذه أثرت على النتاج الأدبی النثری والشعری، حیث اكتسب الأدب فی عصر الاستقرار الكثیر من سمات هذه الظواهر، حیث: "تمكن الضعف فی النفوس وفسدت ملكة اللسان وجمدت القرائح فلا نبغ شاعر مشهور خارج البلاد العربیة، لان البیئة الأدبیة قد انكمشت انكماشا ملموسا فانحصرت فی مصر والشام وحدهما"، وأفضل من یصف حالة الأدب فی ذلك العصر هو البكاشكیری (ت 992) صاحب العقد المنظوم فی أفاضل الروم، حیث یقول: "قد انتهیت الى زمان یرون الأدب عیباً ویعدون التضلع فی الفنون ذنبا والى الله الحنان المشتكى من هذا الزمان"، على انه برز فی هذا العصر كما یقول البحاثة الكرباسی: "شعر التصوف والمدائح النبویة بشكل عام وخفت الأغراض الشعریة الأخرى كالغزل والفخر والحماسة والمدح وما شابه ذلك ومعه خف المستوى الأدبی والإبداعی فی الشعر، كما برز شعراء مخضرمون ینظمون بالعربیة وبالفارسیة أو بالتركیة والعربیة".

وبموت السلطان سلیمان الثانی (ت 1102هـ) حكم الدولة العثمانیة سبعة عشر سلطانا حتى انقراضهم، وهذه الفترة یصفها المؤلف بأنها فترة (عصر التدهور) حیث نشبت الحروب على أطراف الدولة العثمانیة نتج عنها استقطاع المدن وضمها الى هذه الدولة او تلك، أو الاستقلال بنفسها، وبالتبع نال الأدب النثری والشعری ما نال الواقع السیاسی العام، وهكذا: "ضعف الشعر فی هذا العصر وأصبح ركیك الأسلوب، سخیف المعانی، كثیر الأغلاط، ضعیف الأغراض"، ولكن فی المقابل حیث لا یرتبط الشعر الحسینی بالبلاط فانه استطاع أن یقفز على الضعف الذی أصاب الشعر، ولهذا فان: "المجموعة الشعریة التی حصلنا علیها عن هذه الفترة والتی تطابق تاریخیا القرنین الثانی عشر والثالث عشر، والنصف الأول من القرن الرابع عشر الهجری تزایدت باضطراد"، فان: "عددهم فی هذه الفترة تجاوز 330 شاعرا، القرن الثانی عشر نحو ستین شاعرا، القرن الثالث عشر نحو 130 شاعرا، القرن الرابع عشر حتى عام 1342 هـ نحو 130 شاعرا، والعیون منهم نحو خمسین شخصیة".

الأدب فی العصر الحدیث

أما (المرحلة الثالثة) من مراحل الشعر الحسینی، فان البلدان العربیة والإسلامیة شهدت احتلالا من قبل هذا الاستعمار واستقلالا عن ذاك، ولا یخفى: "إن الاستقلال لم یأت عن فراغ ولا عن إرادة دولیة أو غربیة، بل اثر نهوض الشعوب الاسلامیة بوجه الاستعمار وتقدیم التضحیات الجسام من قبل الأشراف وبقیادات شریفة كالشیخ محمد تقی الشیرازی فی العراق، وعمر المختار فی لیبیا، وعبد القادر الجزائری فی الجزائر، واحمد عرابی فی مصر، وإبراهیم هنانو فی سوریا، ومحمد احمد المهدی فی السودان، ومحمد المهدی فی الصومال، وشرف الدین فی لبنان، وأمثالهم فی أقطار أخرى". ولابد أن یصطبغ عموم الأدب بملامح (العصر الحدیث)، فعلى صعید اللغة خرجت الأمة من هیمنة اللغة التركیة، ولكن الاستعمار حاول فرض لغته كما فی شمال أفریقیا، وعلى صعید الجانب السیاسی: "تأثر العالم الاسلامی بالسیاسة الغربیة وذلك بفضل الحكام الذین وصلوا الى الحكم فی البدایة على أكتاف الغربیین إن بشكل مباشر أو غیر مباشر"، وتأثر الأدب بهذه التحولات، وساعد (الأدب والأدباء فی هذه المرحلة) ظهور: الصحافة والمدارس والإذاعة والطباعة والترجمة والمواصلات والاتصالات والاستقلال والمكتبات والهجرة والمجامع العلمیة والجامعات، وقد ازداد الشعراء فی هذا العصر، لكنه شهد من جانب آخر (صراع اللهجتین) بین الفصحى والدارجة.

وقبل أن یلج المصنف صلب موضوع الشعر وأغراضه وبحوره وأوزانه، یرى أن التطلع الى (المستقبل) یستدعی: أن یتحول الأدب الى أدب تخصص فی أغراضه، وان یبتعد عن التسیس فیكون طوع الحاكم، وان یكرم الشاعر أیام حیاته وعطائه، وان یتم إنشاء مجمعات وندوات أدبیة، وان یصار الى إعادة المباراة الشعریة، وان یتم الالتقاء بالحضارات الأخرى عبر عقد الندوات، وان یتم دراسة الشعر والأدب من قبل أخصائیین معترف بهم، وان یصار الى تقییم النتاج الأدبی والشعری بین فترة وأخرى، وان تتوجه الأنظار للاعتناء بالمواهب الفنیة وصقلها، وان یوجه الأدب لصالح المجتمع.

بحور تنفتح على أخرى

ویوضح المصنف ضمن (معیار النظم) مصطلحات العروض والوزن والبحر، فالأول یبحث أوزان الشعر والبحور ومتعلقاتهما، والثانی یتناول المقاییس الإیقاعیة، والثالث یبحث نوعیة الوزن والإیقاع، فنوعیة التفعیلات التی تشكل الإیقاع الجمیل هو البحر. ویعترض المصنف ضمن بحث (عروض الخلیل بین الأصالة والتحدیث) على اولئك الذین یحاولون عبثا نسبة ما اكتشفه الخلیل بن احمد الفراهیدی من بحور الى غیره. ثم یتناول (البحور) بشیء من التفصیل، وبخاصة التی توصل الیها الخلیل وهی خمسة عشر بحراً: الطویل، المدید، البسیط، الوافر، الكامل، الهزج، الرجز، الرمل، السریع، المنسرح، الخفیف، المضارع، المقتضب، المجتث، والمتقارب. وزاد الأخفش بحر المتدارك، وزاد أبو العتاهیة بحر المِدَق، وزادوا بمرور الأیام بحور: المستطیل، الممتد، المتئد، المنسرد، المُطرد، المتوافر، الدوبیت، السلسلة، المبسوط، المستدق، المستدرك، المستقرب، القریب، المشترك، الموجز، المستكمل، المستزاد، المتوفر، المخفف، المركب، والمتسرح. ویلحق بهذه البحور عشرون أخرى، فضلا عن (المربوع) فی 22 نوعا، وبشكل عام لا یمكن قصر البحور على عدد معین، ذلك: "إن اختراع البحور لیس حكرا على احد وإنما تابع للقواعد والمعاییر، فأینما وجد الإیقاع وتوفرت الشروط فلا یمكن رفضه" ولهذا أوجد الدكتور الكرباسی أوزانا جدیدة أدرجها فی كتابه "الأوزان الشعریة"، وواصل فی هذا التوجه حتى وضع كتابه هندسة العروض لیوصلها الى 208 بحور بغض النظر عن مولداتها.

ویعتقد: "إن البحر من جهة والوزن من جهة أخرى تابعان لموسیقى الكلام ووقعه لدى السامع ویتدخل فیه الذوق ولا یمكن حصره بما وضع له"، ولذلك لا یعترض على (التجاوزات المجازة)، بلحاظ انه: "كلما لم یستهجنه الذوق السلیم فهو موزون" أیده فیما توصل الیه الأدیب واللغوی العراقی الراحل الدكتور ابراهیم السامرائی فی قصیدتین بعث بهما للمؤلف.

أصل الشعر: الرجز أم الحداء؟

ویحدثنا المصنف عن (الرجز)، ولا یؤید قول البعض انه لیس من الشعر، وقد: "سمی بحمار الشعراء او حمار الشعر لسهولة النظم على زنته او لسهولة التلاعب مع تفعیلاته ورویه"، بل یؤید ما ذهب الیه البعض بان اصل الشعر بدأ بالرجز، فیكون تاریخه من تاریخ الشعر، على إن البعض یرى أن الحداء، وهو سوق الإبل والغناء لها، هو أساس الشعر عند العرب ثم تطور الى سائر ألوان الرجز ومن ثم الى غیره من الأوزان والبحور، ربما یؤیده فی ذلك قوله النبی محمد (ص): "لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنین". ومن الرجز (الأرجوزة) حیث یلتزم الشاعر بالقافیة الموحدة فی كل من الصدر والعجز دون غیرهما. وفی مقابل الرجز ظهر (القصید) حیث كان أول تطوره أن قاموا بتطویل شعر الرجز فنتج عن ذلك القصید. واشتهر الرجز بوصفه (شعر الحرب).



الشعر الحر وأمور أخرى

ویفرد المصنف عنوانا مستقلا للحدیث عن وزن (الدوبیت) وتتبع أصل الكلمة وتاریخها وتفاصیلها، و(نشأة الدوبیت)، والعلاقة بین (الأدب العربی والدوبیت)، وحجم (وقع الدوبیت) و(تركیبة الدوبیت)، ومناقشة (أقوال شاذة فی وزن الدوبیت)، وملاحظة (أنواع الدوبیت وتطوره). وبشكل عام فان الدوبیت كلمة فارسیة مركبة من "دو+بیت" وتعنی البیتین: "وفی الحقیقة انه كالمربع فی كونه یحتوی على أربعة أشطر ولكن یخالفه فی الوزن ویتفق معه فی اتحاد قافیة الشطر الأول والثانی والرابع" ولعل الشاعر الإیرانی "رودكی" أول من نظم على وزنه، بید أن: "أدباء العرب وشعراءهم تفننوا فی القالب الشعری من الدوبیت وطوروه حتى أصبح له أنواع مختلفة"، أما فی الأدب الحسینی فان الدوبیت دخله منذ القرن السادس الهجری او قبله بقلیل.

ویفرد البحاثة الكرباسی عنوانا خاصا یتناول (الشعر الحر) بوصفه حالة وسطى بین النثر المقفى والشعر الموزون، وان كان البعض یرى أن الشعر الحر فی عائلة الأدب كالخنثى، لا هو من جنس النثر ولا من جنس الشعر، حیث ضاع قائله بین المشیتین! وعند المصنف أن المختار من الشعر الحر: "المتحرر من القافیة فقط دون الوزن تناسبا مع وضع الشعر وما حملته الكلمة من معنى حیث إن موسیقى الكلمات المعبّرة هی التی تهزّ مشاعر الانسان"، مشیرا الى قصائد نازك صادق الملائكة وبدر شاكر السیّاب بوصفهما ممن حرك فی قصائده من الشعر الحر مشاعر الانسان.

والعنوان الأخیر من عناوین الجزء الأول من كتاب المدخل الى الشعر الحسینی، اختص بوزن (البند) او القفل او العقدة او الفقرة او القسم، فهذه أسماء عربیة لأصل الكلمة الفارسیة بفتح الباء وسكون النون، وحاصل البحث: "إن البند نوع من أنواع الشعر كان معروفا قدیما وهو یشبه ما یسمى بالشعر الحر فی زماننا".

ولا یتنازل المصنف عن حق القارئ فی أن یعرف كل ما تضمنه الكتاب فترك له فهارس غنیة بالمعلومات، یتابع من خلالها: الآیات المباركة، الأحادیث والأخبار، الأمثال والحكم، الأعلام والشخصیات، القبائل والإنسان والجماعات، الطوائف والملل، الأشعار، التأریخ، اللغة، مصطلحات الشریعة، المصطلحات العلمیة والفنیة، الوظائف والرتب، الآلات والأدوات، الإنسان ومتعلقاته، الحیوان ومتعلقاته، النبات ومستحضراته، الفضاء ومتعلقاته، الأرض ومتعلقاتها، المعادن، الأماكن والبقاع، الزمان، الوقائع والأحداث، المؤلفات والمصنفات، المصادر والمراجع، مؤلفو المراجع.

ولا یتنازل المصنف أیضا عن حق الآخرین فی النقد أو بیان وجهة نظرهم او فكرة جدیدة یقدمها علم من الأعلام من جنسیات وأدیان ومذاهب مختلفة، ولذلك فإننا فی هذا الجزء نقرأ وجهة نظر المفكر اللبنانی المسیحی انطوان بارا الذی یبدأ قراءته لهذا الكتاب بالتأكید انه: "لو قلنا أن الإسلام بدؤه محمدی واستمراره حسینی، فلن نكون مجافین لحقیقة تجلت فی شواهد دینیة وتاریخیة" فقد "كانت كربلاء بارهاصاتها الروحیة أنشودة وضعها الحسین على الشفاء فما ملّتها قط، استوطنت حناجر الأجیال، تطرب لها العقول وتحنو علیها الأضلع والصدور كدرّة ثمینة، فتلهب المشاعر وتهز القرائح لها اهتزاز الصبّ المستهام فتخلدها كلماً وشعراً الى جانب ما خلده التاریخ منها سرداً وتحلیلاً"، وعبّر عن سعادته لصدور الموسوعة الحسینیة ومتابعتها للنهضة الحسینیة: "لأنه عمل فكری لا یجارى". وبوصفه أدیبا رأى أنطوان بارا أن ما أتى به المحقق الكرباسی فی هذا الجزء وما سیلیه من أجزاء هو كنز عظیم لان: "المكتبة العربیة تفتقر الى كتاب یجمع بین دفتیه ما نظم من أشعار عن ملحمة كربلاء التی شكّلت على مر التاریخ إلهاما للشعراء وذوی النفوس الشفیفة".

وأجد أن هذا الجزء بما فیه من مادة أدبیة ومعرفیة دسمة لا یستغنی عنه أی طالب أدب من نثر او شعر، فهو ینقل أقدامه الى الجادة الصحیحة التی ینبغی أن یسلكها للوصول الى مصفًى العمل الأدبی وزلال الأدب الموجه.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:30|
مطالب جدیدتر
مطالب قدیمی‌تر