ابزار وبمستر

متــــرجـــــم عـــربی - دکتر مهدي شاهرخ
النسویة فی القصة القصیرة

نماذج سوریة




یحسن فی البدایة أن نتوقف عند إشكالیة مصطلح (النسویة) الذی أسیء فهمه كثیرا! إذ إن ما أقصده هو انفتاح اللغة الأدبیة على خصوصیة التجربة النسویة، التی نلمسها فی إبداع المرأة، دون أن نحمّل هذا المصطلح أی دلالات تؤدی إلى تمییز أو تفوق أدب المرأة على أدب الرجل! لأن الإبداع، فی رأیی، هو الانتماء الحقیقی للأدب بغض النظر عن جنس قائله.
خصوصیة دلالة العنوان:

نلمح هذه الخصوصیة فی اختیار عنوان قصة "أنیاب رجل وحید" [1] (فی مجوعة غادة السمان "لا بحر فی بیروت" التی ظهرت طبعتها الأولى 1963) یلاحظ أن هذا العنوان یحمل دلالات القهر والمعاناة التی تتبدى فی اختیار لفظة (أنیاب) التی أضیفت إلى الرجل، وشكلت وحدة دلالیة معها بسبب وحدة المتضایفین، مما یعنی أن الكاتبة ترى الآخر بصورة مشوهة، لكن صفة (وحید) خفّفت من هذا التشوّه، إذ جعلتنا نلمس تعاطف الكاتبة مع ظروف الرجل (أستاذ الجامعة بسام) الذی یعیش تجربة غرائبیة، فقد أُخبر عبر هاتف أتاه فی المنام بأنه مشرف على الموت بعد یومین، فیطغى علیه إحساس الزوال، ویتضاعف إحساسه بالحاجة إلى الآخرین، لكنهم یكشرون عن أنیاب الخداع، فلم یجد أمامه إنسانا مخلصا سوى (سلمى) تبدو المرأة هی ملاذ الرجل فی محنته، بما تجسده من قیم الحب التی هی حبل نجاة للإنسان الوحید عالم مزیف! فهی تعید للرجل إنسانیته، وتخلصه من أنیابه ووحدته، مما یعنی سیطرة صورة المرأة المنقذة على لا شعور
الكاتبة غادة السمان!
خصوصیة التجربة:

نلمس فی مجموعة ألفة الأدلبی "ویضحك الشیطان" التی ظهرت (1970) نعایش فی قصة "من أجلك أنتِ" تجربة المرأة المهانة التی اعتدى خطیبها على شرفها وتخلى عنها بعد أن عرف أنها حامل!

یتجلى الخیال المقهور هنا فی تحویل هذا الرجل إلى قطیع من الذئاب، وبذلك لا تستخدم الكاتبة الصفة السلبیة (ذئب) بصیغة المفرد بل تجعلها بصیغة الجمع، فیصبح الخطیب الهارب من مسؤولیته قطیعا من الذئاب تلاحق المرأة! "آه من الذئاب!…قطیع من الذئاب یحمل رؤوسا بشریة یطاردنی، یعوی ورائی…أسرع الخطا، أركض كمجنونة…" [2]

بدت لغة الحلم إثر تجربة المرأة مع الرجل المعتدی تجسیدا لمخاوفها تستطیع عبره التنفیس عن رعبها وقلقها الذی یصل حدّ الجنون!

نلمس جمالیة الحوار الذی ینبع من خصوصیة التجربة، إذ نعایش فی هذه القصة تجربة فریدة تجسد بؤس المرأة الحامل المخدوعة، التی لا تجد من تبثه شكواها وحزنها سوى الجنین! فهو المستمع الوحید الذی ترتاح إلیه، لذلك تنشئ حوارا مدهشا بینها وبینه فی أحشائها (مفترضة أنه طفلة) وبما أن المستمع (الجنین) لا یستطیع الحوار، فإن حوارها بدا داخلیا أشبه بلحظة بوح واعتراف ودفاع عن النفس، إنه حوار مع الذات وكشف للحظات ضعفها وحرمانها! كما هو كشف لآمالها ومخاوفها، إذ یطاردها كابوس أنها ملاحقة تقع فی فخاخ الذئاب!

اهتمت الكاتبة بأن تجعلنا نعایش تفاصیل هذه الأزمة منذ الافتتاحیة، ففی الجملة الأولى فیها "صحوت من نومی مرتاعة أرتجف" وحتى الخاتمة "سأقدم على الأمر الفظیع (إسقاط الجنین) وسأحرم منك! لا من أجلی أنا بل من أجلك أنت"

تلجأ الكاتبة إلى تقنیة الحوار الذی یعتمد اللحظة الراهنة (أی الترهین السردی) فیكشف مدى أزمة بطلتها الداخلیة (إسقاط الجنین أمر فظیع ومحرم دینیا واجتماعیا) كما یكشف صراعا بینها وبین ذاتها تحسمه لصالح الطفلة، وكذلك لجأت الكاتبة إلى العبث بالزمن وجسدت لنا عبرالحوار الذی یجسد لحظة مستقبلیة حاسمة فی حیاة (الطفلة لجنین)!إذ تخیلت طفلتها صبیة جمیلة یرفضها خطیبها لأنها ابنة غیر شرعیة، فنجدها تحاسب أمها باكیة "لِمَ كتمت عنی الأمر؟…"

إن تجاوز اللحظة الحاضرة إلى المستقبل، یدفعها إلیه خوف من مجتمع ینسج البؤس حول مصیر طفلتها غیر الشرعیة، لذلك تساعدها هذه التقنیة على استباق الأحداث وحسم أمرها فی التخلص من الجنین، وهی تمهد لهذا الاستباق الذی یستشرف المستقبل بعبارة "هأنذی أتخیلك" كی تمهد للمتلقی نقلتها الزمانیة وتضمن تفاعله.

ثمة نوع من الترتیب رغم تجاوزها للمألوف فی تقدیم أحداث القصة عبر إطار زمنی حر (حاضر، ماض، مستقبل) فقد لاحظنا أن حدیثها عن الماضی قد سبق حدیثها عن المستقبل، إنها ترید أن تقدم للمتلقی ماضی الشخصیة ولحظات ضعفها ثم آلام تنتظرها فی المستقبل، مما سینعكس على قرارها الذی اتخذته فی حاضرها، رغم أنه یتنافى مع تلبیة حاجات المرأة الداخلیة وهی تجربة الأمومة!
تجربة الأمومة:

فی مجموعة ملاحة الخانی "كیف نشتری الشمس" (1978) تستوقفنا قصة "أنت شبیهی" التی نجد فیها تجربة الأمومة بصورة مدهشة، فقد استطاعت الكاتبة أن تقدم رؤیتها عبر صورة تجسد بؤس العلاقة بین أم وحیدة وابن عاق نسی أمه وهو یلهث وراء لذاته ونجاحاته المادیة، وقد جاءت هذه الصورة على لسان الابن العاق، فبدا لنا صوت أعماقه واضح البشاعة "مع توالی الأیام نبتت لی مخالب أخفیها وبراثن أتستر علیها، وفی موضع القلب أحمل فلزة من صخر …أنت وحدك موئلی، ودارك ملاذی.

مررت أصابعها على جبینی، توقفت عند العینین، تبسمت. المرارة تقطر من التجاعید المرسومة حول الفم. أحس طعمها فوق لسانی تلدغنی ، أصابعها تغوص الآن فی عمق شعری، تدغدغه بعنف..شیء ما مدبب فی رؤوس الأصابع یجرح جلدة الرأس…یهبط على جبینی الذی ینـزف للتو، تكاد الأصابع تبلغ عینیّ… الأظافر نبتت واستطالت وقست باتت مثل أظافر فهد متوحش." [3]

ثمة هاجس لدى الكاتبة هو أن تجسد خصوصیة مشاعر الأمومة المكلومة، فحاولت تجسید هذه التجربة عبر أدوات تصویریة، فأی انحراف فی العلاقة بین الأم وابنها، تجعل الولد العاق یضع صخرا مكان قلبه، فیعیش حیاة منسلخة عن عالم الإنسان! إذ تنبت له مخالب، خاصة بعد أن حلت المرارة محل الرقة والحب فی قلب الأم، لذلك لن نستغرب هذه الصورة للأم التی تود لو تمزق ابنها اللاهث وراء المادة ناسیا المعانی النبیلة والقیم! لهذا نكاد نفتقد، هنا، الألفاظ الرقیقة، مع أن المشهد الذی تقدمه مشهد لقاء أم بابنها المسافر! فقد طغت الألفاظ ذات الدلالة القاسیة والمتوحشة (فلزة من صخر، المرارة، شیء ما مدبب، الأظافر: تكررت مرتین، برائن، مخالب، فهد، متوحش) كذلك نجد الأفعال بدت ذات دلالات عنیفة (تلدغنی، یجرح ، ینـزف) حتى الفعل الذی قد یحمل دلالة تبعده عن العنف (یدغدغ) تضیف إلیه صفة تجعله قاسیا (تدغدغنی بعنف)، أو تجعله یحمل هذه الدلالة من خلال السیاق (تقطر المرارة) (تكاد الأصابع أن تبلغ عینی)

قدمت الكاتبة عبر ذلك كله صورة فنیة تشكل معادلا لحقیقة بتنا الیوم نعایشها، وهی افتقاد كل ما هو جوهری ینعش الوجود الإنسانی ویعطی للحیاة معنى (رقة الأمومة وحنانها، وتجاوز الأبناء أنانیة الذات) فی مقابل اللهاث وراء الزیف والمال، لهذا بتنا نستبدل بحب الأم مخالب فهد متوحش!

استخدمت الكاتبة أم عصام (خدیجة الجراح النشواتی) فی مجموعة "عندما یغدو المطر ثلجا" فی قصتها "الحقیقة العاریة" لغة رمزیة للدلالة توحی ببؤس العلاقة بین الرجل والمرأة، لذلك تستعیض فی هذه القصة عن الاسم أو الصفة الاجتماعیة، فالزوجة تصبح "فأرة" والزوج "سجانا" وبذلك تكون الدلالة السلبیة من نصیب الرجل والمرأة دون أی تحیز من الكاتبة لجنسها!

لكن ما لاحظنا فی هذه القصة هو تسلیط الضوء على صوت المرأة فی لحظة تأزم، فنلمس تفاهة الحیاة التی تعیشها بسبب الزوج الذی یفرض علیها قیم الحیاة الحدیثة بنظره (السهر، الرقص، المجون، حیث یتبادل الرجال زوجاتهم) فی حین نجد الزوجة ترفض الانصیاع لهذه الحیاة، وینتابها الخوف على ابنتها فتقدم لها الحقیقة العاریة التی تعنی خلاصة تجربتها المرة فی الحیاة فتقول؛: "المدینة زیف وتمثیل لا تحرر وصدق…ستهمس لها بألا تقبل الحیاة فی سجن كسجنها، بل فی قصر… قصر فی مفهومه لا فی قیمته المادیة وریاشه الفاخرة…ستعلمها بأن تقبل رفیق عمرها صدیقا وندا وفیا، یقدر وفاءها له ویحترمه… سترسم لها خطوط الحقیقة العاریة." [4]

مع الحیاة المشوّهة لن تستحق المرأة اسما عادیا أو لقبا اجتماعیا وإنما ستطلق الكاتبة علیها اسما رمزیا "فأرة" یجسد بؤس حیاتها التی أوصلتها إلى الهامشیة والمهانة، وكذلك لن نسمع اسم الزوج ولن نلمس صفته الاجتماعیة، بل سنجده من خلال الدور الذی یمارسه هو "السجان" ویتحول بیت الأحلام الزوجیة إلى سجن تنتهك القیم فیه!

لذلك نجد المرأة تهرب من حاضرها التعس إلى أحلام الماضی، لكن هذا الهروب لن یشكل ملاذا لها، فقد تجسدت أحلامها فی أسوأ صورة، لهذا كان إحساس الفجیعة یشمل حاضرها كما شمل ماضیها، یأتی صوت أعماقها عن طریق الراویة، الذی یبدو لنا حمیمیا أحیانا، إذ قلما تتحدث الشخصیة بلسانها (مستخدمة ضمیر الأنا) فهی تتحدث بلغة حذرة، مستخدمة صیغة الغائب، لعل الكاتبة تتجنب إساءة فهم قد تتعرض له من قبل المتلقی الذی قد یماهی بینها وبین الشخصیة النسویة! لذلك تلجأ إلى ضمیر الجماعة، كی تلمح إلى أن هذه المعاناة جماعیة لا علاقة لها بذات الكاتبة.
خصوصیة علاقة المرأة مع الزمن:

نلمح هذه الخصوصیة فی قصة أخرى لأم عصام هی "المرحلة الصعبة" إذ نعایش تجربة تكاد تكون خاصة تدعى أزمة منتصف العمر، صحیح أن هذه الأزمة یتعرض لها كل من المرأة والرجل، لكن معاناة المرأة تبدو أكثر حرقة، لهذا تسیطر لغة الوجع الروحی على الشخصیة النسویة فنسمعها تقول: "تتحسر روحها" أو "روحها تتبدد فی الشكوى" أو تتلوى الروح تتمتم" فقد أعلن موتها حین بلغت منتصف العمر!

وبذلك نعایش فی هذه القصة أزمة المرأة التی تدعوها الكاتبة بـ"المرحلة الصعبة" فی عنوان یجسد المقولة الأساسیة للقصة، ویسلط الضوء على لحظة مأزومة تمر بها المرأة، تزیدها قلقا وخوفا من الحیاة، خاصة حین لا تجد عونا من أحد، حتى من زوجها ینشغل بالقراءة عن الإصغاء إلیها، لذلك بدا لنا الحوار الخارجی أشبه بحوار داخلی، مادام الآخر "یغرق فی هدوئه وصمته وعیناه مسافرتان عبر السطور"

لهذا یسیطر على المرأة إحساس بالدمار فـ"فی المرحلة الصعبة یتهدم كل شیء، ونخال الأیام قد انتهت" تتابع تداعیاتها عن الماضی بكل ما یعنیه جمال الشباب الذی یحمل بین یدیه إمكانات الفرح والأمل "تبدأ الحیاة والمستقبل یتراءى خلف بریق الأمل…نخال الغروب شروقا، نخال كل ما نحصل علیه سیلفحنا بحرارة الغد الذی لم یولد بعد." [5]

أعتقد أن عدم استخدام ضمیر الأنا المفردة، فی هذه القصة، أفقد الخطاب حمیمیته، مما أدى إلى جعله أقرب إلى الخطاب العام! لعل الخوف من المجتمع دفعها إلى استخدام ضمیر یبعد عنها الشبهات!!
تشوّه العلاقات الإنسانیة:

فی مجموعة ضیاء قصبجی "ثلوج دافئة" ترصد بلغة غرائبیة تشوه العلاقات الإنسانیة إلى حد مفزع، والكاتبة هنا لا تبرئ المرأة وتتهم الرجل، بل تبدو معنیة بالتشوهات النفسیة التی تحاصر المرأة الیوم! فحین تذهب الصدیقة (فی قصة "نداء من الماضی") لتعزی صدیقتها، التی تربطها بها خیوط مودة بالیة، بوفاة والدها یستقبلها كلب أسود حاول الخروج إلیها لیفترسها، وهو ینبح نباحا شرسا….وینظر إلیها بعینین یتطایر منها الشرر، كان مخیفا…" لذلك تساءلت بینها وبین نفسها "هل یؤدی الإخلاص إلى التهلكة أحیانا!" [6]

فالصدیقة اللاهثة وراء متع الحیاة تركت كلبا یتلقى العزاء، لذلك نجد هذه الصدیقة تتمتم فی الخاتمة برغبة مكبوتة، تنطق بالحقیقة المؤسیة "ألیس من الأفضل أن یذهب الكلب وتبقى السیدة؟؟!!" فنلمح رغبة ملحة فی أن تعود الحیاة إلى وضعها الطبیعی، فیتم الاحتفاء بالعلاقات الإنسانیة!

نلاحظ فی الخاتمة استخدام لغة حیادیة، فالصدیقة التی تهرب من صدیقتها تفقد صفة الصداقة لذلك تصبح (سیدة) فقط، لاحق لها فی امتلاك اسم یقوم على الصدق والمحبة، لهذا أطلقت علیها اسما محایدا (سیدة) تستحقه وتحرمها من صفة لا تستحقها (الصدیقة)!

كنت أتمنى لو كثّفت الكاتبة لغتها أكثر، فتخلت عن بعض تداعیاتها التی أساءت إلى بنیة القصة، كتلك التی تتحدث عن ضعف ذاكرتها، وعن بعض صفاتها (ص 37_ ص 38)

لعل الغرائبیة سمة من سمات الكاتبة ضیاء قصبجی، لهذا لا تمیز فی أغلب قصص مجموعتها بین امرأة أو رجل، كأنها ترید أن تنذرنا بأننا إذا لم نحافظ على علاقاتنا الإنسانیة بكل دفئها، سنعیش حیاة مشوهة تصل حد الحیوانیة، ففی قصة "لیلة العرس" نجد مظاهر البذخ تصل حدودا غیر طبیعیة، لذلك بدا العریس "وحشا" وبدت العروس "نعامة" تدهشنا هذه القصة بدلالاتها الساخرة التی تجعل من أجواء البذخ والتفاهة جوا یقترب من حدیقة الحیوان، مما یذكرنا بعوالم زكریا تامر الساخرة.
العلاقة مع الرجل:

بدت الكاتبة معنیة بالحفاظ على عالم نقی یسود حیاتنا الاجتماعیة، لذلك تقوم بتسلیط الضوء على العلاقة المشروخة بین المرأة والرجل فی قصتها "شروخ فی الخیمة" التی یوحی عنوانها بتمزق الروابط الأسریة التی تجمعها خیمة الزوجیة، خاصة حین تصبح العلاقة بین المرأة والرجل علاقة سید بمسود، تقول الزوجة: "أنتظر أن یأمرنی بنصبها (الخیمة) فی المكان الذی یریده"

قدمت لنا الكاتبة العلاقة المشروخة عبر صوت أعماق المرأة التی تبوح بآلامها وتسرد قهرها بسبب تسلط الرجل "فقال بصوته الزاجر" فنعایش بؤس العلاقة الزوجیة بكل تناقضاتها، إذ نجد مقابل لغة الزجر الذكوریة لغة الحب الأنثویة، فتجیب المرأة بصوت یملؤه الحب والحنان" لذلك وجدنا المرأة تعیش علاقة غیر سویة أشبه (بالمازوشیة) فتردد بینها وبین نفسها عبارة تجسد ذلك "إنه ظالمی لكننی أعشق ظلمه" فالظلم والزجر والأنانیة والعطالة سمات الرجل (یأكل بشهیة وحده، یغط فی نوم عمیق) لكونه ینعم بالهدوء وعدم المبالاة بمن حوله!

نلمس لدى الكاتبة تعاطفا ضمنیا مع المرأة ، فنسمع وجهة نظرها فی حین یغیب صوت الرجل فی هذه القصة فیتجلى عبر جمل قصیرة ترتكز على توجیه الأوامر للمرأة "ثبتی عمود الخیمة هنا…وافتحیها" فی حین تبدو المرأة فاعلة معطاءة (تهیئ لزوجها الفراش الوثیر وتنام على البساط، تقدم له الطعام ثم تتناول بقایاه!)

أمام هذا القهر تستجیب المرأة لنداء حب متكافئ، یدعوها إلیه رجل آخر یراها إنسانة لا عبدة، یتعاون معها على حمل أعباء الحیاة.

یلفت نظرنا أننا لا نجد فی هذه القصة أسماء تحملها الشخصیات سواء أكانت شخصیات ذكوریة أم أنثویة، تكتفی الكاتبة بتجسیدها عبر الضمائر، كی تضفی عمومیة على فضاء قصتها، لكن الملاحظ أن الرجل الظالم تبدى لنا عبر الضمیر الغائب فی حین تبدى لنا الرجل المحب عبر ضمیر المتكلم الذی ینطق بلغة إنسانیة تؤسس لعلاقة متكافئة بین المرأة والرجل فی الوقت الحاضر والمستقبل، مادام الماضی لم یعد ملكا لنا!

نفتقد فی البدایة، مع توتر العلاقة بین المرأة والرجل، ضمیر الجماعة الذی یوحد بینهما، لكننا مع ظهور علاقة إنسانیة تقوم على الحب والفهم، یبدو لنا ضمیر الجماعة قد وحد بینهما، فباتت أفعال المرأة والرجل واحدة (مررنا، سررنا) وصفاتهما واحدة (مسرورین) بل أصبح هدفهما واحدا (متجهین نحو …)

أفلحت الكاتبة فی توظیف الطبیعة لتكون معادلا فنیا لعلاقة المرأة بالرجل، فالعلاقة غیر السویة (الظالمة بینهما) تنعكس على علاقة اللیل بالنهار "داهم اللیل النهار" أما شروق الشمس فقد أصبح "معركة" وظلام اللیل أصبح "احتلالا" وبذلك نفتقد، مع علاقة القهر التی تؤسس علاقة المرأة بالرجل، جمالیة لقاء اللیل بالنهار (الغسق والشروق) إذ بات اللقاء صدامیا بینهما كأنه لقاء حربی!

من الملاحظ أن الكاتبة جعلت العلاقة غیر السویة بین المرأة والرجل فی فضاء خیمة ممزقة! أی فی فضاء ذی دلالة تقلیدیة، تقهر المرأة، فالخیمة مازالت رمزا، باعتقادنا للحیاة القبلیة التی وصلت فی الجاهلیة إلى درجة وأد المرأة! وقد منحت الكاتبة صفة التمزق للخیمة لتـزید فی دلالة بؤس العلاقة المشوهة بین المرأة والرجل التی تظللها خیمة ممزقة! أما العلاقة السویة فقد تمت فی فضاء الطبیعة التی تحمل دلالة منفتحة على الجمال "الأرض الخضراء" حیث یتم اللقاء "فی ظلال الزیزفون" "أمام غدیر طافح بالماء" حیث توقفت الشمس عن معركتها وعاد إلیها شروقها الجمیل، فانتشت الطبیعة فرحة، وكست أشعة الشمس میاه الغدیر "بریقا متراقصا"

إن جمال العلاقة الإنسانیة بین المرأة والرجل انعكس على الطبیعة، فغابت اللغة القاسیة التی تجعل الفضاء الطبیعی أشبه بفضاء حربی (داهم، معركة، احتلال…) فتقتل أیة إمكانیة لوجود علاقة إنسانیة! ولكن مع العلاقة الندیة بین الرجل والمرأة ظهرت اللغة الرقیقة ذات الإیحاءات الجمیلة المعطاءة (الخضراء، ظلال، غدیر، طافح…) بل تحولت الطبیعة إلى أم رؤوم تحنو على المرأة والرجل حین سكن الحب قلبیهما، فابتعدا عن الحیاة الجاهلیة "سرنا فی الطریق الذی یبتعد عن الخیمة… تحت أشجار الصنوبر التی تحنو بأوراقها وظلها علینا." [7]

وبذلك أسهمت اللغة الحساسة فی تأسیس فضاء قصصی متمیز، یهب القصة جمالیة خاصة تجعل عملیة تلقی القصة عملیة ممتعة، تغنی الروح والفكر، وتجسد طموح المرأة إلى فضاء أكثر إنسانیة ینأى عن السیاق الجاهلی الذی مازال یرمی بثقله على العلاقة بین المرأة والرجل.

مع مجموعة "غسق الأكاسیا" لأنیسة عبود تحضر الطبیعة فی المقولة الأساسیة للمجموعة (العوان) كما تحضر فی التفاصیل، فهی جزء أساسی فی صراع القیم والمثل مع القبح!

نلاحظ امتزاج لغة الهم الخاص بلغة الهم العام، إذ إن أی دمار للوطن سینعكس أول ما ینعكس على روح المرأة الصافیة! وهی غالبا امرأة ریفیة ("شروخ فی الزمن" "المرآة") لذلك بدت المدنیة الزائفة التی نعیش فیها الیوم المصدر الأساسی للكآبة التی تعانیها المرأة، إنها مصدر البشاعة التی حلت بحیاتنا!

تبدو لنا المدینة المشوهة وقد اعتدت على الطبیعة، فقتلت أجمل رموزها "شجرة الشط" عندئذ تقتل الأصالة والنقاء والحب والعطاء من أجل أن یسود الاستهلاك والمال! وقد بدت هذه المجموعة عبر فضائها المشوه (المدینة) وفضائها النقی (الریف) استمرارا للفضاءات التی عایشناها فی روایتها "النعنع البری"
التجریبیة فی القصة القصیرة:

یسجل للكاتبة أنیسة عبود أنها استطاعت أن تقدم القصة القصیرة التجریبیة بشكل إبداعی، ففی قصة "انفجار الألوان" تمتزج القصة القصیرة باللوحة التشكیلیة، إذ تسرد علینا القصة عن طریق لوحة ترسمها الشخصیة (زنوبیا) تفاصیل حیاتها فتبدو لنا الریشة قلما تستجلی بها أعماقها "أغمر ریشتی فی الماء كأنی أغمرها فی محیط بعید أمتد باتجاهه، علنی أرى نهایة هذا العماء الذی بدأ یتبلور فی أعماقی." [8]

تتیح عوالم الفن التشكیلی للكاتبة أدوات تعبیریة مبدعة، لو تأملنا لفظة (ریشة) التی قد تكون أداة رسم وقد تكون ریشة طائر فی مهب الریح، وقد استطاعت هذه الدلالة أن تجسد لنا الضیاع فی محیط مضطرب، لذلك لن نستغرب سیطرة الألوان السوداویة التی تحمل دلالات حزینة! إن حزن (زنوبیا) لیس حزنا عادیا أو شخصیا إنه "حزن كونی" یؤلمها ما أصاب أمتها من انكسارات التی تدعوها ساخرة بانتصارات، فتتضح لنا معالم الشخصیة عبر لغة التناقضات التی تجعل الشخصیة "وریثة انتصارات الخلیج وانتصارات النفط وانكسارات الأعماق" لهذا بات الفضاء الزمنی الذی تعیشه متأرجحا متراقصا كورقة تعبث فیها الریح! لا یوحی لها بالاستقرار أو الأمان!

نعیش مع هذه الشخصیة (زنوبیا) معاناة المرأة المبدعة، التی بدأت تحقق نقلة نوعیة فی وعیها، إذ ترى وجودها الإنسانی عبر الإبداع، لا عبر الرجل! لذلك نسمعها تقلب مقولة دیكارت "أنا أفكر إذا أنا موجود" إلى "أنا أرسم إذا أنا موجودة" لكن هذا الوجود الإبداعی تهدده علاقات إنسانیة مشوهة تحیط بها سواء مع الرجل أم مع المجتمع بما فیه من حیتان مستوردة تهدد بالتهام الأصالة والجمال من حیاتنا!

تتضح لنا فی هذه القصة العلاقة بالرجل وتكتفی الكاتبة بالتلمیح إلى العلاقات الأخرى التی بدأت تشوهها الحیتان، نظرا لطبیعة القصة التی تقوم على الكثافة والاختزال!

تبدو لنا (زنوبیا) امرأة جدیدة، تبحث عن ذاتها فتجدها عبر الإبداع الفنی، فهی مقتنعة بأن الإبداع صنو الخلود" وهذا ما یهدد علاقتها بالرجل الذی لم یتفهم بعد أعماق المرأة المبدعة، لهذا كانت علاقتها بالألوان علاقة انسجام حتى بدت مندغمة متداخلة بوجودها، فی حین كانت تنظر إلى (عاصم) ضجرة "ترى خیالات عینیه ووجنتیه وشعره، فهی غیر متأكدة من لون عینیه ولا من لون شعره"

إذا ثمة فرق بین الاندغام والتوحد مع الألوان وبین تحول الرجل إلى مجموعة خیالات باهتة، لذلك لن تستطیع تذكر لون شعره أو عینیه، فكأن الفن هو الحقیقة التی تتأكد فی أعماقها، فی حین بات وجود الرجل أقرب إلى الوهم، فهی غیر متأكدة من وجوده، لذلك یبدو لنا سؤال الرجل "أتحبیننی؟" فی الافتتاحیة سؤالا ذا دلالة سلبیة، لأن وجود الرجل فی حیاة المرأة المبدعة یدمر فنها، فقد سمعنا جواب (زنوبیا) عن هذا السؤال "أتحبیننی؟" موحیا لنا بدمار الفن "أفرط شعر الریشة فیتناثر عبر فضاءات الغرفة المزدحمة بالألوان والأشیاء والغضب" لذلك من حقها أن تتساءل: "أی سؤال هذا الذی یقف بالباب موجها لی متطاولا كشجرة تسد علی بظلالها كل منافذ الشمس"

صحیح أن الرجل (الشجرة) ضروری للحیاة لكنه لن یكون فی أهمیة الشمس أی (الفن) بالنسبة إلى المرأة، لذلك قد یؤدی وجوده لسد آفاق الحیاة أمامها فتراه نوعا من "الطوفان" الذی یدمر حیاتها، فی حین یراها الرجل "قصیدة" تزین حیاته!

تبدت لنا علاقة المرأة بالرجل، عبر لغة مأزومة (تسد منافذ الشمس، الطوفان، الغضب…) توحی لنا بمعاناة المرأة مع الرجل، إنه یحاول ترویضها كی یصبح عالمها الوحید تدور حیاتها حوله، فهو لا یمكنه أن یصدق أن بإمكان المرأة أن تنشغل عنه بإبداعها الخاص، لترى وجودها من خلاله! بمعزل عن الرجل!

یبدو لنا الرجل أكثر انشغالا بعالم المادیات، فی حین تبدو المرأة مهمومة بهم الوطن والإنسان! لذلك لم یعد یوحی لها "بلوحات جدیدة ولا بانفجارات لونیة"

لكن الكاتبة تدرك أن أی دمار یلحق بالوطن، فی ظل النظام العالمی الجدید، لن یصیب المرأة دون الرجل، لذلك لابد أن یتحدا للوقوف ضده، تتعمد الكاتبة إخفاء ضمیر (الأنا) الذی لحظناه فی القصة أثناء الحدیث عن هم الإبداع (الذی هو هم ذاتی) لیفسح المجال لضمیر الجماعة (الذی یضم النساء والرجال) فالأخطار تحیق بهما معا "إن عالما جدیدا ینبثق الآن من أصابعنا وذاكرتنا یحمل السیاط ویجلدنا لنعترف على أنفسنا ولندخل لعبة السجن الجدیدة." [9]

تحاول الكاتبة تقدیم ملامح عالم الاستهلاك، وقد عززتها الأقمار الصناعیة التی جعلت الإنسان العربی مهددا بتدمیر شخصیته وهویته، كی یبقى فی سجن التخلف والذل! ویعیش مقلدا لا مبدعا!!

لهذا تتمنى (زنوبیا) أن یكون الرجل سفینة إنقاذ تساندها كی تواجه بؤس حیاتها وكآبتها، لكن الرجل یخیب ظنها، مازال ممسوخا داخل أفكاره وأنانیته! تراه نقیضا للفن تراه وسیلة تعول علیها فی مواجهة هذا الدمار وهذا الانهیار فی القیم والمثل.

وقد أسهمت اللغة الشعریة فی بناء القصة، واستطاعت أن تجسد الحلم والمكونات الداخلیة اللاشعوریة الأخرى، فعایشنا فیها كثافة الرموز، والدلالات التی توحی باختلاط المثل وسیطرة القلق على الشخصیة بعد الطوفان الذی بدأ یدمر حیاتنا، بكل ما تحمله من قیم أصیلة: قیم الحب والجمال والعطاء! "یا لهذه الریشة الملعونة التی ترفض أن تنصاع لرغبتی…أرید أن أرسم فتاة فی طرف اللوحة هنا، أریدها باسمة فرحة…مشرقة الوجه كشجرة اللوز المغسولة بالمطر..لكن الریشة لا ترسم إلا فتاة مدبوغة بالحقول والهجیر والخوف…" [10]

تمنح القیم المعنى الحقیقی للحیاة، لذلك تفتقد المرأة السعادة والحلم بحیاة أفضل حین تفتقدها، لهذا تعیش القلق والخوف والهجران فی زمن الاستهلاك!!

لو تأملنا الفضاء المكانی فی هذه اللوحة للاحظنا الحضور الكثیف للریف بكل تنوعاته (روعة الخضرة، حیواناته وطعامه…) فهو المنبع الوحید للفن، وبالتالی المنبع الوحید القادر على مواجهة الدمار، فی حین بدت المدینة نقیضا للفن، لذلك حین ترسم (زنوبیا) شارعا فی مدینتها تبدو عاجزة عن الإبداع، إذ تخرج الألوان من قانونها…مزج الأزرق بالأصفر لم یعطِ اخضرارا" لأن المدینة تقتل الخضرة والجمال، فهی بالتالی عاجزة عن إلهام الفنان!

وقد منح البناء التشكیلی القصصی، إن صح التعبیر، الكاتبة قدرة مدهشة فی التخییل، فالشخصیة مثلا ترسم فی لوحتها خرافا سرعان ما تختفی، فقد التهمها كلب كبیر، ثم انقض على الرسامة ناشبا أظفاره فی رقبتها، فهو عالم القوى الكبرى التی لن تفسح المجال للوداعة والمحبة والعطاء، لذلك یلتهم الكلب الخراف، ولن یفسح المجال للفن الصادق أن یقول كلمته، سیبذل كل جهده لخنق هذه الكلمة وینشب أظفاره فی عنق كل مبدع!

وقد اختارت الكاتبة اسما لشخصیتها اسم بطلة تاریخیة، واجهت الأعداء وفضلت الموت على الأسر، إنه اسم (زنوبیا) وقد كان اختیارها موفقا لأننا أمام بطلة معاصرة تواجه دمار وطنها الذی توصل للحقیقة والجمال والمثل ویقاوم الزیف والبشاعة!

بدت لنا هذه الشخصیة أشبه بالشخصیة الرسولیة التی تحس بتفردها بفضل إبداعها، لذلك وجدنا لدیها طموح الرسل فی خلق عالم جدید نقی، بإمكانه أن یقاوم الزیف والطوفان الذی سیغرق العالم، نسمعها تقول "لدی أمور أود أن أنجزها قبل الطوفان"

وقد اختارت الكاتبة اسما عادیا للرجل، لا علاقة له بالتاریخ، لكنه یوحی لنا بصفة الردع التی یراها منوطة به، إذ لدیه رغبة فی أن یعصم المرأة من فنها ویبعدها عن كل ما یلهیها عن وجوده، لذلك كان اسم "عاصم" موحیا بدلالات سلبیة!

صحیح أننا لاحظنا امتزاج هموم الوطن بهم المرأة فی هذه القصة، لكننا لمسنا خصوصیة الخطاب النسوی بكل معاناته الذاتیة والعامة، وبفضل استخدام الكاتبة لضمیر (الأنا) بدت لنا القصة أشبه بقصیدة بوح تضیء أعماق المرأة بما یشبه الاعتراف، نسمع زنوبیا تقول:"أنا كغیری من النساء أحب الهدایا، ولكن یكفی أن تهدینی قرنفلة أو قصیدة… لأعترف بأنی انتظرت هدایاك…ویوم كانت تغیب هدایاك الصغیرة، كنت أحزن وأتوقف عن الرسم، لا أعرف لماذا، ربما هی أنانیة المرأة… أعرف أنی لم أعترف لك بحبی مع أننی كنت أرید أن تعترف لی بحبك فی كل لحظة، الهدیة اعتراف بالحب، أو هی بوح آخر أكثر ترمیزا وأكثر خصوصیة من البوح…" [11]

مع هذه اللغة الحمیمة نسمع صوت أعماق المرأة معترفا بما یفرحها من تصرفات وما یسعدها من أقوال، فنعیش معها صدق التجربة وحرارتها، فرسمت لنا الكاتبة أبعادا للذات الأنثویة قلما نظفر بها فی الحیاة العادیة!

افتقدنا فی اللغة القصصیة لدى أنیسة عبود،أحیانا، الكثافة والإیجاز، دون أن یعنی هذا القول افتقادها للغة متمیزة فی حساسیتها وشاعریتها، مما یمكنها من تقدیم قصة تجریبیة متمیزة.

أخیرا لابد أن یلاحظ المتتبع للقصة القصیرة النسویة السوریة أنها استطاعت أن تجسد خصوصیة التجربة الأنثویة عبر خطاب قصصی یسعى للتمیز، والنطق بلغة أدبیة خاصة، تمنح القصة فرادتها، فحاولت المزج بین الأسلوب الحداثی والأسلوب التقلیدی! وهذا ما حاوله الكاتب فی إبداعه فی أغلب الأحیان! من أجل أن یتمّ التفاعل مع المتلقی بشكل أفضل.

وقد بدا لنا أسلوب الحداثة أسلوبا تجریبیا، كل كاتبة تسعى فیه لیكون لها صوتها المتمیز، صحیح أنها حاولت الابتعاد عن الأسلوب التقلیدی، لكن دون أن یعنی هذا القول وجود حاجز حدیدی، فی كثیر من الخطاب القصصی، یفصل بین الطریقة التقلیدیة، التی تقدم فضاء القصة بشكل منتظم عبر لغة واقعیة، وبین الطریقة الحدیثة التی تجسد صوت الأعماق، عبر لغة الشعر والتخییل.

لكن ما نلاحظه هو تلك المعاناة المشتركة بین الكاتبات سواء كتبن القصة الحداثیة أم القصة التقلیدیة، وهی اللغة الفضفاضة التی تفتقد الكثافة اللغویة، مع أنها من أبرز سمات القصة القصیرة‍. لكن ما یسجل لصالح القصة النسویة السوریة أننا لم نجد فی لغة الخطاب تلك اللغة المتشنجة الانفعالیة أو المتعصبة التی تقطر كراهیة للآخر (الرجل) مما یعنی تجاوزها محدویة الأفق وفجاجة فی الوعی!
حواشی

[1] غادة السمان "لا بحر فی بیروت" دار الآداب، بیروت، ط3، 1975

[2] ألفة الأدلبی "ویضحك الشیطان وقصص أخرى" مكتبة أطلس، دمشق، 1973، ص 16

[3] ملاحة الخانی "كیف نشتری الشمس" نشرت بالتعاون مع اتحاد الكتاب، بدمشق، ط1، 1978، 16

[4] أم عصام "خدیجة الجراح النشواتی) "عندما یغدو المطر ثلجا" دار مجلة الثقافة، دمشق، ط1، 1980، ص 172

[5] المصدر السابق، ص 190

[6] ضیاء قصبجی "ثلوج دافئة" اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1992، ص 41

[7] المصدر السابق، ص 31

[8] أنیسة عبود "غسق الأكاسیا" اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1996، ص 150

[9] المصدر السابق، ص 154

[10] المصدر السابق نفسه، 158

[11] نفسه، ص 155
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:29|
تحاول هذه الدّراسة أن تستكشف الجوانب الفنیة والدلالیة فی الشعر العربی المعاصر وبالخصوص تلك التی لها علاقة بظاهرة توظیف التراث الشعبی. إذ لا یكاد دیوان یخلو من الإشارات الفلكلوریة والرموز الأسطوریة، والأجواء الشعبیة المعروفة لدى العامة والخاصة، أو تضمین هیاكل أسطوریة وأشكال شعبیة قدیمة أو حدیثة للتعبیر عن مضامین جدیدة وتجارب معاصرة. ومن ثمّ باتت هذه الظاهرة فی حاجة إلى بحث یعمق دلالتها، ویستكشف أصولها ومرجعیاتها الفكریة والحضاریة، ویحدد قیمتها الفنیة.‏

تتوجّه هذه الدراسة ـ فی ضوء ذلك ـ إلى محاولة إزاحة اللثام عن أسباب اهتمام الشعراء المعاصرین بالتراث الشعبی وطرائق توظیفه، وما اكتسبه النص الشعری من خلال استعانته بأشكال التعبیر الشعبی. كما تتوجه فی الوقت ذاته إلى اقتراح بعض الأسالیب الفنیة فی استخدام هذا التراث التی من شأنها توضیح الرؤى والمعالم، وبالتالی تجنیب الكتابة الشعریة الوقوع فی الحشد والتكرار وغیرهما من المزالق الفنیة، كالغموض الناجم عن العجز فی تمثّل هذا التراث، أو طغیان أحد الملمحین (التراثی أو المعاصر) على الآخر، أو التأویل الخاطئ لبعض الشخصیات والأحداث، أو التقلید الناتج من التشابه المفرط فی طرائق الاستخدام والتوظیف.‏

لم یكن لهذه الدراسة أن تنطلق من نتائج ومسلمات سبق التوصل إلیها، وإنما كان علیها أن تحوّل هذه النتائج والمسلمات إلى فرضیات وأن تشق طریقها بهاجسها وطموحها، مستضیئةً بنور شموع أوقدتها.‏

دراسات رائدة، وبخاصة تلك التی قدّمها كل من:‏

أسعد رزوق فی نهایة الخمسینیات حین تناول (الأسطورة فی الشعر المعاصر) متخذاً من ت. س. إلیوت نقطة انطلاقه فی منهج البحث والدّراسة. وقد انتهى إلى أن هناك علاقة وطیدة بین الأسطورة والشعر من حیث نشأتهما التاریخیة، وأن استحضار الشعراء المعاصرین للأسطورة، هو تعبیر عن أزمة الإنسان الحضاریة فی القرن العشرین. وقد كان إلیوت، ـ فی نظره ـ نموذجاً رائعاً فی تجسید هذه الأزمة حین أعلن صراحة، أن لا خلاص من الأرض الخراب إلا بالعودة إلى أحضان التراث الشعبی بطقوسه ومعتقداته.‏

وأنس داود فی أطروحته بعنوان (الأسطورة فی الشعر العربی الحدیث) التی راح یتتبع فیها ظاهرة توظیف الأسطورة، والمؤثرات الأجنبیة فی استخدامها فی الشعر الحدیث والمعاصر: بدءاً من مدرسة الإحیاء إلى مدرسة التجدید ممثلة فی بدر شاكر السیاب، وصلاح عبد الصبور، وخلیل حاوی وغیرهم من رواد حركة التجدید فی الشعر المعاصر.‏

وما كتبه أیضاً علی عشری زاید حول (استدعاء الشخصیات التراثیة فی الشعر العربی المعاصر) حیث عمد إلى رصد هذه الظاهرة رصداً فنیاً من خلال تحدید ملامحها وتجلیاتها، وربطها بمرجعیتها العربیة والإسلامیة، مظهراً ثراء هذه المرجعیة، وقدرتها على العطاء الدائم والمتجدد إذا أحسن استخدامها.‏

وشوقی ضیف حول (الشعر وطوابعه الشعبیة على مرّ العصور) من الجاهلی إلى العصر الحدیث، محاولاً تصحیح الرأی الخاطئ الذی ذاع على ألسنة العدید من الناس، والذی مفاده أن شعراء العربیة كانوا بمعزل عن شعوبهم، فهم یتغنون بأشعارهم للطبقات العلیا دون سواها من عامة الناس.‏

ولعل أبرز شیء یمكن ملاحظته على هذه المكتبة، اقتصارها على الأسطورة دون غیرها من أشكال التعبیر الشعبی الأخرى، واعتمادها على الطرح العام الذی بإمكانه إغفال الكثیر من القضایا الجوهریة التی تمیز قضیةً عن أخرى أو شاعراً عن آخر.‏

على الرغم من هذا كله، فقد كانت هذه المكتبة، خیر معین لهذه الدّراسة بما وفّرته لها من أفكار وملاحظات أنارت العدید من الجوانب المظلمة، فمهدت الطریق وسهلت سبیل السیر فیه. وقد كان ذلك من جهة أخرى دافعاً رئیساً لاختیار هذا الموضوع، إذ حركته القناعة المطلقة بأن ما أثیر حول ظاهرة توظیف التراث الشعبی فی القصیدة المعاصرة، وما كتب عنها، لم یعط الظاهرة حقها بعد من الدّراسة والتحلیل والاستنتاج، وأن جلّ ما كتب، كان منصباً حول الأسطورة فی جوانبها الاجتماعیة والفكریة دون غیرها من الأشكال التراثیة الأخرى، من هنا جاءت هذه الدّراسة محاولة سدّ هذا الفراغ، معالجة الظاهرة برؤیة یراد بها أن تكون جدیدة وشاملة، وذلك بالتركیز على الجوانب الفنیة فیها. لأن الظاهرة، كما تبین لی، حضاریة (تعبیر عن أزمة الإنسان والحضارة المعاصرة) وفنیة (البحث عن أشكال جدیدة للتعبیر عن هذه الأزمة).‏

أما عن الأسباب التی شجعتنی للخوض فی غمار الشعر المعاصر ومعالجة هذا الجانب منه، إیمانی القوی بأن هذه الناحیة، إذا ما عولجت بطریقة علمیة ومنهجیة، ستفتح العدید من القضایا والآفاق المتعلقة بالنص المعاصر، سواء تلك التی تتعلق به بوصفه بنیة لغویة وشكلاً جدیداً من الكتابة الشعریة، أو تلك التی تربطه بالقارئ والمتلقی عموماً. ومن ثمّ كان الهدف من هذه الدّراسة‏

أولاً : الوقوف عند النص الشعری المعاصر والكشف عن مكوناته الفنیة ومرجعیاته الفكریة.‏

ثانیاً : تقریب هذا النص من القارئ بإزاحة بعض غموضه الناجم عن توظیف الأساطیر والرموز ذات المناحی الفلكلوریة.‏

وثالثاً : تقریب القارئ من النص بتزویده ببعض الآلیات التی تمكّنه من الولوج إلى أعماق القصیدة واستكشاف أسرارها.‏

یؤمن الدّارس إیماناً قویاً بصعوبة قراءة النص الشعری المعاصر وفهمه فهماً صحیحاً فی غیاب مثل هذه الدراسات والإلمام بالتراث المیثولوجی الإنسانی عموماً، لأن هذا النص تأسس ـ فی اعتقادنا ـ أصلاً عندما انفتح على هذا التراث فتأثر به وأثر فیه. وذلك بعض آفاق هذه الدراسة التی تطمح إلى التأسیس لقراءة جدیدة تستحضر السیاق دون أن تغض الطرف عن نسقیة النص حین یتحوّل الأسطوری إلى شعری.‏

وبعد فحص المادة والإلمام بجل جوانبها تراءى لی أن أتناول الموضوع انطلاقاً من خطة كانت تبدو أنها ستقود إلى الغایات التی رسمت، وهی الكشف عن بنیة هذه القصیدة ومرجعیاتها الفكریة والجمالیة، من خلال الوقوف عند المصادر والخلفیات التی كان یستقی منها الشعراء مادتهم، والأسالیب التی كانوا یستعملونها.‏

وانطلاقاً من طبیعة الموضوع نفسه والغایات التی حاولت تحقیقها، كان من الضروری الاشتغال على النصوص الشعریة، وآراء الشعراء حول الظاهرة، دون الانسیاق وراء الجوانب النظریة إلا فی الحالات التی تقتضیها الضرورة. ولعل ذلك ما جعل الدراسة تغض الطرف عن كثیر من القضایا النظریة للآلیات التی اختارتها أن تكون مصاحبة لها فی قراءة المتون الشعریة على الرغم من قیمتها فی مثل هذه الحالات. غیر أن طبیعة الموضوع كانت تقتضی الابتعاد عن التنظیر ومقاربة النصوص مباشرة. كما أن اصطحاب النظریات من شأنه أن یحد من حریة الدّارس فی قراءة النصوص ویجعله سائراً وفقه. وتلك بعض معضلات النقد المعاصر الذی یغوص فی التعاریف دون أن یمكنه ذاك من الولوج إلى عالم النص الذی لا یرتضی دائماً قواعد عامة قد تصلح لنص ولا تصلح لآخر.‏

ومن هذا المنطلق الذی یجعل الجانب النظری فی خدمة الجانب التطبیقی فی الدراسة، والذی لا یحاول فهم الدلالات إلا فی سیاقاتها العامة، جاءت خطة البحث نتائج استقراء للنصوص. وعلى هذا القدر من الفهم والاستیعاب تم تقسیم هذه الدراسة فی جزئها الأول إلى تمهید وفصلین وخاتمة.‏

وتجنباً لاجترار ما أ صبح شائعاً اقتصر التمهید على عرض أهمیة التراث الشعبی فی الكتابات المعاصرة مركِّزاً على الإرهاصات الأولى لتوظیف التراث الشعبی فی حركات التجدید الشعری الأولى.‏

الفصل الأول أفردته للمكوّنات والأصول، فتطرقت فیه لعلاقة الفن والشعر بالطقوس السحریة والأسطوریة، ورأینا فیهما تلازماً قویاً منذ أن كان الفن والسحر ممارسة وشكلاً تعبیریاً واحداً لیس إلا. ومما لا شك فیه أن القصیدة الجاهلیة تثبت فی كثیر من وجوهها ذاك القران الشرعی بین الشعر والطقوس الشعبیة سواء من حیث النشأة أو الوظیفة، أو الأجواء العامة التی كانت تصاحبهما. وعلى الرغم من الانفصال الظاهری الذی حدث بینهما بعد ذلك، فإن العلاقة بینهما ـ كما أوضحت هذه الدراسة ـ قویة ومتینة، ولا عجب أن تكون القصیدة المعاصرة حاملة لزخم التراث الشعبی تتوارى بالإیماء والإیحاء حیناً، وتقیم علاقات مباشرة معه حیناً آخر.‏

أما الفصل الثانی فخصصته للحدیث عن الرّوافد التراثیة التی أقام الشاعر المعاصر علیها علاقته مع التراث الشعبی، فلم یستثن فی بحثه الدائم عن أشكال تعبیریة جدیدة مصدراً ومرجعاً. فكل المشارب صالحة للارتواء ما دامت تعیده إلى اللغة البكر والخیال الواسع. وقد كان للغصن الذهبی لصاحبه جیمس فریزر فضل بالغ فی تعریف الشعراء المعاصرین بتراث الإنسانیة الشعبی، وتقدیم أشكال تفكیر الشعوب عبر مراحلها الطویلة، فلم یعد یخفى على الشاعر أساطیر ومعتقدات أجناس بشریة كانت توصف بالبدائیة، وأصبح من المتیسر استحضار تلك الإنجازات الحضاریة للدلالة على القیم الإنسانیة العلیا التی لا تختلف وإن تناءت الأماكن واختلفت الأزمنة. ولم یعد برومثیوس وتموز وسیزیف والسندباد غرباء فی المجتمعات الحدیثة، بل إن بعضها أصبح دائم الحضور وأقرب عند الشاعر من إنسان هذا الزمان.‏
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:28|
تجلیات الأسلوب والأسلوبیة فی النقد الأدبی
مقدمة:‏

إن اطراد الدراسات اللغویة والاهتمام بها فی الوقت الحاضر ولا سیما المناهج اللغویة فی دراسة الأدب أو فی الدراسات الأدبیة، قد مهّد السبیل إلى ظهور النظریة اللغویة الحدیثة بوصفها نظاماً مساعداً فی النقد الأدبی.‏

وثمة مناهج أو مداخل كثیرة، متباینة فی نظرتها إلى النص الأدبی تحلیلاً وتقدیراً وتقویماً، ومنها على سبیل المثال المدخل اللغوی أو المنهج اللسانی الذی لا یستغنی عنه الناقد الأدبی. فعلم اللغة یمنح النقد الأدبی سنداً نظریاً بوصفه ضرورة كضرورة الریاضیات للفیزیاء، فالناقد الجید بحكم اهتماماته فی تحلیل النص وكشف جمالیاته البلاغیة والفنیة هو لغوی جید، علماً أن لا وجود لأی نص أدبی خارج حدود لغته، الإثاریة أو الانفعالیة شریطة أن یكون التعبیر عن عناصر النص سلیماً ومقبولاً عند المتلقی الذی لا یقل شأناً عن مبدع النص، بمنظور النقد الفنی التحلیلی.‏

1 ــ علم الأسلوب:‏

إذا كان الأسلوب ظاهرة تتمثل فی النصوص المنطوقة أو المكتوبة، أو هو الطبقة العلیا لهذه الظاهرة، فإنه یبرز خلال عملیة التلقی بشكل لا تستطیع مناهج علم اللغة التقلیدیة، من نحویة ودلالیة، أن تلم به أو تحلل مقاصده وتأثیراته. كما أن الوصول إلى تعریف دقیق لمقولة الأسلوب لا یتم إلا بتحدید نظریته، ومعرفة طبیعة العلم الذی یكرس له بوصفه فرعاً لعلم آخر أو قائماً بنفسه.‏

ففی نظریة الأسلوب یتحدد مجال الظاهرة المدروسة ومكانها العلمی الدقیق، وعلى هذا فإنه إذا تصوّرنا علم الأسلوب جزءاً من علم اللغة، كان علینا أن نحلل نظریته إلى عناصرها المختلفة، فنجعل أسلوب النصوص الأدبیة تطبیقاً جزئیاً لمقولة أسلوبیة عامة، وحینئذ تعتمد النظریة الأسلوبیة على علاقة النظام اللغوی العام بمفهوم "سوسیر" بأسلوب نص معین كمظهر للكلام، ویتعین علیها أن توضح بعض التصورات المهمة فی الأدب، مثل أسلوب مؤلف معین، أو جنس أدبی بأكمله، وما یعتریه من تطور أو تغیر على مر العصور.‏

فالنظریة الأسلوبیة تستمد معاییرها من النظریة العلمیة، أو من العلم الذی تنتمی إلیه تفرع جزئی منه، وتخضع لشروطه العامة فی التحقیق والتزییف، وهی فی معظم الدراسات العلمیة المعاصرة للأسلوب تعد جزءاً من نظریة تقف إلى جوار النظریة النحویة وتماثلها لهذا فإنه فی مقابل "علم اللغة" تقوم عملیة "البحث الأسلوبی" التی تعتمد على أسس النظریة الأسلوبیة، وتستمد منها منهج دراسة وتنظیم المواد، بالتضافر مع العلوم الأخرى فی مناطق تلاقیها. وفی البحوث الأسلوبیة للنصوص الأدبیة وهی التی تعنینا هنا ــ ینبغی أن تستكمل دراسة الأسلوب فی مستویاته اللغویة باستخدام المقولات المتصلة بالأدب والعلوم الفلسفیة والاجتماعیة والتاریخیة.‏

2 ــ مفهوم الأسلوب:‏

لعل المعضلة الأكبر من تحدید معیار اللغة تعریف مفهوم الأسلوب، بل لعلها المعضلة الأكثر إثارة للجدل فی دراسة اللغة. یصف إنكفیست الأسلوب على "أنه مألوف بقدر ما هو مخادع، فمعظمنا یتحدث عنه برقة وحنان مع أن لدى القلیل منا الاستعداد لتحدید معناه بدقة"(1).‏

وقد جرت محاولات عدة لتعریفه، فتدرّجت من رؤیته كوعاء للمعنى، مروراً بمطابقته مع شخصیة المؤلف، وإنكاره جملة وتفصیلاً، ووصولاً إلى اعتباره خیاراً لغویاً وظیفیاً ومقرراً ومكوناً وجوهریاً للمعنى. وهذه أهم محاولات تعریف مفهوم الأسلوب.‏

2 ــ 1 الأسلوب كوعاء للمعنى:‏

من أهم وجهات النظر القدیمة الحدیثة اعتبار الأسلوب وعاء لاحتواء المعنى المراد بداخله، فاللغة ثوب المعنى، والأسلوب زی هذا الثوب. یعبر الشاعر والناقد الإنجلیزی الشهیر دریدان" Dryden" عن هذه باعتبار الأسلوب..." فن خطابة، أو فن إلباس الفكرة وتزیینها". كما یشیر الشاعر المعروف كولیریدج (Coleridge)‏

إن هذا المعنى بقوله "إن الأسلوب ما هو إلا فن نقل المعنى بشكل ملائم وواضح أیاً ما كان هذا المعنى.."(2)‏

الأسلوب كانحراف:‏

ارتأى الشكلانیون ونقاد آخرون أن الأدب انحراف عن معیار اللغة، وقد نبذه معظم الأسلوبیین المعاصرین نذكر على سبیل المثال، ساندل (Sandel) الذی یوافق بیزلی (1969) (Paisely) فی قوله إنه "من الصعب قبول أن یكون الأسلوب هو الطریقة اللاتقلیدیة وغیر المعتادة فی الاستعمال"(3).‏

2 ــ 2 الأسلوب كلسان حال صاحبه:‏

قوام هذه الرؤیة المعروفة للأسلوب أنها تطابق بین الأسلوب وصاحبه، من أنصارها المتشددین (میدلتون مری) الذی یعتبر الأسلوب لسان حال الكاتب ومواقفه ومشاعره. إذ یقول (ویذیل): "الأسلوب خصیصة من خصائص اللغة تنقل بدقة عواطف وأفكار خاصة بالمؤول"(4).‏

فی الواقع لا یسعنا إلا أن نقول إن هذا المفهوم للأسلوب أخفق فی إقناع القراء لأنه مجحف. إذ كیف لنا أن نحكم على شخصیة الكاتب بهذه الطریقة؟ فكم من كاتب تعارضت شخصیته تماماً مع صورة فی عمله. وكم من كاتب تناول أعمالاً واتجاهات متناقضة أشد التناقض، ولكنهم لم یتهموا بانفصام الشخصیة.‏

2 ــ 3 الأسلوب هو المعنى:‏

رفض أصحاب هذا الرأی عن مفهوم الأسلوب فكرة الثنائیین بالفصل بین الشكل والمضمون، من قبل فی عام (1857) قالها (فلوبیرت): "كالروح والجسد، الشكل والمضمون بالنسبة إلى شیء واحد". كما أن النقاد الجدد قد تبنوا هذه الفكرة برفضهم الفصل بین المعنى والمبنى وحسب أصحاب هذا الرأی، الأسلوب نتاج الدمج بین الشكل والمضمون، وأی تغییر فی الأول یستدعی تغییراً فی الثانی.‏

2 ــ 4 الأسلوب كاختیار مفهوم وظیفی:‏

لم یستطع أی من المفاهیم السابقة عن الأسلوب إقناعنا، لذلك نحن بحاجة إلى مفهوم أكثر فائدة وشمولیة ودقة ینفعنا فی وضعه موضع التطبیق فی دراستنا للنصوص الأدبیة فیما بعد فی هذا العمل. ولعل هذا متاح من خلال رؤیة الأسلوب كاختیار أساسه نحوی /قواعدی ودلالی/ معجمی بشكل رئیسی. هذا وإن كثیراً من الأسلوبین المعاصرین یرونه هكذا بشكل أو بآخر. وحسب هذا المفهوم كل الخیارات اللغویة أسلوبیة من حیث المبدأ، فلكل منها وظیفة (أو أكثر) تختلف من نص على آخر ومن سیاق على آخر.‏

ویعرّف كارتر الأسلوب بقوله: "یتأتى الأسلوب من التداخل المتزامن للتأثیرات (الأسلوبیة) فی عدد من مستویات اللغة". وهكذا یمكن إعطاء التعریف التالی الشامل والمبسط للأسلوب: "الأسلوب مجموعة الوظائف الأسلوبیة/ اللغویة المنتقاة من المخزون القواعدی والمعجمی والصوتی والشكلی للغة العامة".‏

3 ــ ماهیة الأسلوب والأسلوبیة:‏

الأسلوب والأسلوبیة مصطلحان یكثر ترددهما فی الدراسات الأدبیة واللغویة الحدیثة، وعلى نحو خالص فی علوم النقد الأدبی والبلاغة وعلم اللغة.‏

ــ ودائرة المصطلح الأول أكثر سعة من دائرة المصطلح الثانی على المستویین الأفقی والرأسی. ونعنی بالمستوى الأفقی، الاستخدام المتزامن للمصطلح فی حقول متعددة متجاوزة أو متباعدة، وبالمستوى الرأسی، الاستخدام المتعاقب فی فترات زمنیة متتابعة داخل حقل واحد. فكلمة الأسلوب من حیث المعنى اللغوی العام یمكن أن تعنی "النظام والقواعد العامة، حین نتحدث عن "أسلوب المعیشة" ویمكن أن تعنی كذلك "الخصائص الفردیة" حین نتحدث عن "أسلوب كاتب معین".‏

وعن طریق هذین التصورین الكبیرین دخل استخدام مصطلح "الأسلوب" فی الدراسات الكلاسیكیة المعیاریة التی تسعى إلى إیجاد المبادئ العامة لطبقة من طبقات الأسلوب، أو للتعبیر فی جنس أدبی معین.‏

هذا الاتساع الأفقی فی دلالة معنى "الأسلوب" یقابله مجال أكثر تحدیداً فی دلالة معنى "الأسلوبیة"، حیث تكاد تقتصر فی معناها على الدراسات الأدبیة، وإن كان بعض الدارسین، مثل جورج مونان، یحاول أن یمتد بها نظریاً لتشمل مجالات مثل الفنون الجمیلة والمعیار والموسیقى والرسم، مع أنه یعترف فی الوقت ذاته أن الحقل الذی أخصبت فیه علمیاً حتى الآن هو حقل الدراسات الأدبیة.(5).‏

أما فیما یتصل بالمستوى الرأسی، الذی یقصد به التعاقب الزمنی فی حقل واحد ــ وهو حقل دراسات اللغة والأدب فی حالتنا ــ فإن مصطلح "الأسلوب" سبق مصطلح "الأسلوبیة" إلى الوجود والانتشار خلال فترة طویلة.‏

4 ــ تنوع المدارس الأسلوبیة:‏

یمكن اللجوء إلى أشهر الخیوط العامة، وأشهر الاتجاهات التی یمكن أن یندرج تحتها كثیر من التفاصیل الدقیقة. ومن هذه الزاویة یمكن رصد اتجاهین كبیرین فی دراسة الأسلوب الحدیث هما: الاتجاه الجماعی الوصفی، أو أسلوبیة التعبیر، والاتجاه الفردی، أو الأسلوبیة التأصیلیة، وسوف نحاول إعطاء فكرة عن كل من الاتجاهین.‏

أولاً: الأسلوبیة التعبیریة:‏

یرتبط مصطلح الأسلوبیة التعبیریة، وكذلك مصطلح الأسلوبیة الوصفیة، بعالم اللغة السویسری شارل بالی (1865 ــ 1947). تلمیذ اللغوی الشهیر "فاردیناند دی سوسیر" (1857 - 1913). وخلیفته فی كرسی الدراسات اللغویة بجامعة جنیف. ویعد بالی مؤسس الأسلوبیة التعبیریة، وقد كان سوسیر یرى أن اللغة خلق إنسانی ونتاج للروح، وأنها اتصال ونظام رموز تحمل الأفكار، فجانب الفكر الفردی فیها لیس أقل جوهریة من جانب الجذور الجماعیة.‏

ومن ثم فإن الفرد والجماعة یسهمان فی إعطاء قیمة تعبیریة متجددة للأسلوب، ولا یكتفیان بتلقی القیم الجمالیة عن السابقین، وهذه النقطة الأخیرة هی التی حاول بالی التركیز علیها.‏

فقد كانت البلاغة القدیمة فی هذا الصدد تلجأ إلى فكرة "قوائم القیمة الثابتة" التی تستند إلى كل شكل تعبیری "قیمة جمالیة" محددة. ومن خلال هذا التصور كان یتم تقسیم التصور إلى "صور زیادة"، مثل الإیجاز والحذف والتلمیح، والانطلاق من ذلك إلى تقسیم الأسلوب ذاته إلى طبقات: أسلوب سام، وأسلوب متوسط، وأسلوب مبتذل.‏

لكن نظریة "القیمة الثابتة" تعرضت لألوان كثیرة من النقد، كان من أشهرها ما أشار إلیه "رینیه ویلیك"(6) من أن "قیمة الأداة التعبیریة" تختلف من سیاق إلى سیاق، ومن جنس أدبی إلى جنس أدبی آخر. فحرف العطف "الواو" عندما یتكرر كثیراً فی سیاق قصة من قصص الكتاب المقدس، یعطی للتعبیر معنى الاطراد، والوقار. لكن هذه الواو لو تكررت فی قصیدة رومانتیكیة فإنها قد تعطی مشاعر تعویق وإبطاء فی وجه مشاعر ساخنة متدفقة.‏

الأسلوبیة البنائیة:‏

هی أكثر المذاهب الأسلوبیة شیوعاً الآن، وعلى نحو خاص فیما یترجم إلى العربیة أو یكتب فیها عن الأسلوبیة الحدیثة، وهی تعد امتداد لآراء سوسیر الشهیرة، التی قامت على التفرقة بین ما یسمى اللغة وما یسمى الكلام. وقیمة هذه التفرقة تكمن فی التنبه إلى وجود فرق بین دراسة الأسلوب بوصفه طاقة كامنة فی اللغة بالقوة، یستطیع المؤلف استخراجها لتوجیهها إلى هدف معین، ودراسة الأسلوب الفعلی فی ذاته، أی أن هناك فرقاً بین مستوى اللغة ومستوى النص، والبلاغة التقلیدیة لم تكن تعهد هذا التفریق وقد أخذ هذا التفریق أسماء ومصطلحات مختلفة فی فروع المدرسة البنائیة، فجاكوبسون یدعو إلى التفریق بین الثنائی (رمز ـ رسالة) وجیوم یطلق علیه (لغة ـ مقالة) أما یمسلیف فیجعل التقابل بین (نظام ـ نص)، ویتحول المصطلح عند تشومسكی إلى ثنائیة بین (قدرة بالقوة ـ ناتج بالفعل) وهذه المصطلحات على اختلافها تشف عن مفهوم متقارب فی دراسة اللغة والأسلوب، كان قد أطلق شرارته سوسیر، وطوّره بالی، وأكمله البنائیون المعاصرون.‏

ویركز جیوم على أثر هذه التفرقة فی الأسلوب، حین یبین أن هناك فرقاً بین المعنى وفاعلیة المعنى فی النص، وأن كل رمز یمر بمرحلة القیم الاحتمالیة على مستوى المعنى، ومرحلة القیمة المحددة المستحضرة على مستوى النص وقد تقود هذه المبالغة فی هذا التحلیل إلى القول بأن الرمز اللغوی لا یوجد له معنى قاموس، ولكن توجد له استعمالات سیاقیة(7).‏

أما رومان یاكبسون فقد ركز فی تحلیله للثنائی (رمز ــ رسالة) على الجزء الثانی منهما ــ دون أن یهمل الأول ــ لأنه یعتقد أن الرسالة هی التجسید الفعلی للمزج بین أطراف هذا الثنائی، وهو مزج عبر عنه یاكبسون حین تسمى إحدى دراساته حول هذه القضیة: "قواعد الشعر وشعر القواعد" وهو یعنی بقواعد الشعر دراسته الوسائل التعبیریة الشعریة فی اللغة، وبشعر القواعد دراسة الفعالیة الناتجة من وضع هذه الوسائل موضع التطبیق.‏

ثانیاً: الأسلوبیة التأصیلیة:‏

إذا كانت السمة العامة للأسلوبیة التعبیریة الوصفیة هی طرح السؤال: "كیف" حول النص المدروس، فإن الأسلوبیة التأصیلیة تهتم بأسئلة أخرى مثل "من أین" و"لماذا" وهذا اللون من التساؤل یقود الباحث بحسب اتجاه المدرسة التی ینتمی إلیها، وبحسب لون اهتماماتنا التاریخیة أو الاجتماعیة أو النفسیة أو الأدبیة..‏

ویمكن أن نقف سریعاً أمام اتجاهین من اتجاهات المدرسة التأصیلیة:‏

الأسلوبیة النفسیة الاجتماعیة:‏

فی سنة 1959 كتب الباحث الفرنسی" هنری موریر "كتاباً عن سیكولوجیة الأسلوب"(8). طرح فیه نظریته الخاصة التی حاول من خلالها استكشاف ما أسماه "رؤیة المؤلف الخاصة للعالم" من خلال أسلوبه. واكتشاف هذه الرؤیة یقوم على أن هناك خمسة تیارات كبرى تتحرك داخل "الأنا العمیقة". وأن هذه التیارات ذات أنماط مختلفة. والتیارات الخمسة الكبرى هی: القوة والإیقاع والرغبة والحكم والتلاحم، وهی الأنماط التی تشكل نظام "الذات الداخلیة".‏

وقد یظهر كل نمط منها فی شكل إیجابی أو سلبی، فالقوة قد تكون قاعدتها الشدّة أو الضعف، والإیقاع قد یكون متسقا أو ناشزاً، والرغبة قد تكون صریحة أو مكبوتة، والالتحام قد یكون واثقاً أو متردداً، والحكم قد یكون متفائلاً أو متشائماً.‏

5 ـ الأسلوبیة الأدبیة:‏

تعدّد الأسلوبیة الأدبیة أخصب ما تفرع عن فكرة "الأسلوبیة التأصیلیة" أكثرها فی تاریخ "التعبیر" فی القرن العشرین، ونبه كارل فسلر فی أوائل القرن إلى ضرورة بالغة بالاهتمام فی التاریخ الأدبی: "لكی ندرس التاریخ الأدبی لعصر ما، فإنه ینبغی على الأقل الاهتمام بالتحلیل اللغوی بنفس القدر الذی یهتم فیه بتحلیل الاتجاهات السیاسیة والاجتماعیة والدینیة لبیئة النص"(9). ولكن الذی طور هذا الاتجاه وحوله إلى نظریة متكاملة فی النقد اللغوی أو الأسلوبیة الأدبیة هو العالم النمساوی لیو سبیتزر وقد ألف كتاب اللسانیات واللغة التاریخیة قد عرض فیه للمنهج الذی اتبعه هو فی دراسة سرفانتس، وفیدر، ودیدرو، وكلودیل. وتتلخص خطوات المنهج عند سبیتزر فی النقاط التالیة:‏

1 ــ المنهج ینبع من الإنتاج ولیس من مبادئ مسبقة. وكل عمل أدبی فهو مستقل بذاته كما قال برجسون.‏

2 ــ الإنتاج كل متكامل، وروح المؤلف هی المحور الشمسی الذی تدور حوله بقیة كواكب العمل ونجومه، ولابد من البحث عن التلاحم الداخلی.‏

3 ــ ینبغی أن تقودنا التفاصیل إلى المحور "الأدبی"، ومن المحور نستطیع أن نرى من جدید التفاصیل، ویمكن أن نجد مفتاح العمل، كله فی واحدة من التفاصیل.‏

4 ــ الدراسة الأسلوبیة ینبغی أن تكون نقطة البدء فیها لغویة، ولكن یمكن لجوانب أخرى من الدراسة أن تكون نقطة البدء فیها مختلفة: "إن دماء الخلق الشعری واحدة، ولكننا یمكن أن نتناولها بدءاً من المنابع اللغویة، أو من الأفكار، أو من العقدة، أو من التشكیل". ومن خلال هذه النقطة وضع سبیتزر طریقاً بین اللغة وتاریخ الأدب.‏

5 ــ النقد الأسلوبی ینبغی أن یكون نقداً تعاطفیاً بالمعنى العام للمصطلح، لأن العمل كل متكامل وینبغی التقاطه فی "كلیته" وفی جزئیاته الداخلیة. لقد كان هذا المنهج التفصیلی الذی أورده سبیتزر فی كتابه ذا أثر كبیر فی إخصاب النقد الأدبی وتخلیصه من بعض الآثار السلبیة للاتجاه الوضعی الذی كان لانسون یمثل قمّته فی بدایات هذا القرن، وارتكزت فی النقد الأدبی مبادئ لم تكن شائعة من قبل.‏

أ ــ النقد الأدبی ینبغی أن یكون داخلیاً، وأن یأخذ نقطة ارتكازه فی محور العمل الأدبی لا خارجه.‏

ب ــ أن جوهر النص یوجد فی روح مؤلفه، ولیس فی الظروف المادیة الخارجیة.‏

ج ــ على العمل الأدبی أن یمدّنا بمعاییره الخاصة لتحلیله، وأن المبادئ المسبقة عند النقاد الذهنیین لیست إلا تجریدات تعسفیة.‏

د ــ أن اللغة تعكس شخصیة المؤلف، وتظل غیر منفصلة عن بقیة الوسائل الفنیة الأخرى التی یملكها.‏

هـ ــ أن العمل الأدبی بوصفه حالة ذهنیة لا یمكن الوصول إلیه إلا من خلال الحدس والتعاطف.‏

6 ــ الأسلوبیة اللغویة:‏

یهتم هذا المنهج بشكل رئیسی بالوصف اللغوی للسمات الأسلوبیة إنها بهذا المعنى الشكل الصرف للأسلوبیة. یستهدف مؤیدوها الإفادة من بحث اللغة والأسلوب الأدبیین فی إصلاح طرائق تحلیلهم للغة، وذلك لتحقیق تقدم فی تطویر نظریة اللسانیة.‏

وعلیه فقد كان الوصف اللغوی للسمات الأسلوبیة هدفاً للتحلیل الأسلوبی الذی اعتمده من یسمون بالأسلوبیین التولیدیین أمثال: أومان وثورن، كما ظهر فی الحقبة نفسها (أی بین الخمسینیات وأوائل السبعینیات) فئة أخرى من الأسلوبین اللغویین المعروفین بالأسلوبیین الحسابیین، منهم ما یلیك (1967) الذی قام بدراسة حسابیة بالكومبیوتر لأسلوب جاناثان سویفت، وجیبسون (1966) و(دراسته الإحصائیة لأسالیب النثر الأمریكی)، وأومان أیضاً (1962) و(دراسته لأسلوب جورج برنارد شو)(10).‏

7 ـ الأسلوبیة اللغویة المعاصرة:‏

من بین الأشكال الحدیثة الأسلوبیة اللغویة دراستان قامت بهما بیرتون للحوار الدرامی (1980) وبانفیلد للخطاب الروائی‏

(1982). على الرغم من أن طریقة بانفیلد المعتمدة على القواعد التولیدیة للجمل الروائیة أكثر تطوّراً ودقّة من سابقاتها، فهی فی حقیقة الأمر عودة إلى طریقة الأسلوبیة التولیدیة، لأنها تركز بشكل صرف على الصیغ اللغویة للجمل الروائیة لا أكثر ولا أقل.‏

8 ــ المحاسن والمساوئ:‏

لا عجب فی أن یتعرض هذا المنهج إلى هجوم شدید وانتقادات حادة من داخل معسكر الأسلوبیة وخارجه. ولعله المنهج الذی أساء إلى سمعة الأسلوبیة فی أروقة الدراسات الأكادیمیة.‏

لكن هذا لا یمنع من أن له بضع محاسن نذكرها أولا قبل التعریج على المساوئ.‏

ــ تقدم الأسلوبیة اللغویة طرائق علمیة ومنظمة فی تحلیل اللغة ووصفها. ویعدّ هذا إسهاماً جیّداً فی تطویر مداركنا ومعرفتنا للغة، خاصة بالنسبة للقراء والطلبة الأجانب.‏

ــ المیزة الأخرى لهذا المنهج كامنة فی تزویدنا فی أكثر من مناسبة بمعاییر یعول علیها فی وضع أیدینا على السمات الأسلوبیة الهامة فی النصوص (كما فعلت طریقتا بیرتون وبانفیلد).‏

ــ الحسنة الثالثة تقدیم هذا المنهج فرصة للسانیین والقراء والطلبة للاضطلاع باكتشافات جدیدة فی التحلیلات اللغویة التی تسهم بدورها فی تطویر نظریة اللسانیة، وقد یمكن اعتبار الأسلوبیة اللغویة خطوة أولیة فی "دراسة بنیویة وأدبیة وتاریخیة أوسع لنص لغوی ما"، كما یشیر إینكیفست.(11).‏

أما عن عیوب هذا المنهج فتتمثل:‏

* أولاً: بشحه فی الإسهام فی التحلیل الأدبی إسهاماً كبیراً. إذ یقوم بأعباء قدر من التحلیل، لكنه قدر غیر كاف، بل أقل أهمیة من القدر الأكبر الأساسی منه، وهو الوظائف الأسلوبیة وعلاقتها بالمعنى وتأثیرها علیه.‏

* فی واقع الأمر هذا الجانب الأدبی من النصوص واقع خارج نطاق هذا المنهج. یحمل هالیدای ذات الرأی بقوله: "اللسانیة غیر كافیة وحدها فی التحلیل الأدبی، والمحلل الأدبی ــ لا اللسانی ــ هو وحده الذی یحدد مكان اللسانیة فی الدراسة الأدبیة"(12).‏

من جهة أخرى، لا تهتم الأسلوبیة اللغویة بالتأویل، ولا تتخذه كغایة من غایاتها. بل غایتها القصوى تقدیم وصف لغوی دقیق لنص ما. على الرغم من أن الوصف وجه من وجوه التأویل فإنه لیس تأویلاً. بل هو تمهید وأرضیة أساسیة ینطلق منها التأویل.‏

وهذا سر وجود علاقة غیر رسمیة بین اللسانیة والنقد الأدبی یبرزها هذا المنهج الأسلوبی. وهكذا یتضح لنا مما سبق أن الأسلوبیة اللغویة نافعة جداً على صعید الوصف اللغوی وتوسیع مداركنا اللغویة وحسب، لكنها لا تجدی نفعاً فی تغطیة الجوانب الهامة الحساسة للنصوص الأدبیة. بعبارة أخرى، تجیب على مادة "لماذا" فقط.‏

إننا فی حاجة إلى منهج بدیل یستطیع الإجابة على "كیف" و"لماذا"، منهج قادر على إبلاغنا ما الذی یجعل النص الأدبی أدبیاً، إذ حسب منهج الأسلوبیة اللغویة "من السهل جداً إزاغة البصر عما یجعل الأدب أدباً" كما عبر عن ذلك كارتر (1979).‏

ولما كان النقد فی بعض معانیه، فن التمییز بین الأسالیب الأدبیة صارت العلاقة بینه وبین الأسلوب والأسلوبیة وعلم الدلالة وكلها تنضوی تحت مصطلح واحد هو علم اللغة، أو الألسنیة أو اللسانیات.‏

إن اطّراد الدراسات اللغویة والاهتمام بها فی الوقت الحاضر ولاسیما المناهج اللغویة فی دراسة الأدب أو فی الدراسات الأدبیة، قد مهد السبیل إلى ظهور النظریة اللغویة الحدیثة بوصفها نظاماً مساعداً فی النقد الأدبی.‏

وثمة مناهج أو مداخل كثیرة، متباینة فی نظرتها إلى النص الأدبی تحلیلاً وتقدیراً وتقویماً، ومنها على سبیل المثال المدخل اللغوی أو المنهج اللسانی الذی لا یستغنی عنه الناقد الأدبی، فالناقد الجید بحكم اهتماماته فی تحلیل النص وكشف جمالیاته البلاغیة والفنیة هو لغوی جید، علماً أن لا وجود لأی نص أدبی خارج حدود لغته الإشاریة أو الانفعالیة شریطة أن یكون التعبیر عن عناصر النص سلیماً ومقبولاً عند المتلقی الذی لا یقل شأناً عن مبدع النص.‏

وإذا كانت المناهج اللغویة مختلفة ومتباینة فی مدى علاقتها بدراسة "النص الشعری"، على سبیل المثال فإن المناهج النقدیة مختلفة ومتباینة أیضاً، فقد تتوازى وتتقاطع وتتعاون وتتصارع وهی دائماً تدّعی لنفسها أنها تهدف إلى تنویر النص وتعلن اهتداءها إلى فهم أفضل بطبیعة هذا النص.(13).‏

وقد أدى التركیز على تحلیل النص وتروضه بوصفه لغة لا یقوى على شرعیتها ومرجعیتها الأدائیة والتعبیریة إلى بروز اتجاهات مرتبطة بالتحلیل الأسلوبی ــ البلاغی مهّدت السبیل إلى استحداث مهم. سمّی فیما بعد "بفلسفة الأسلوب" و"فلسفة البلاغة" فی النقد الأدبی الحدیث. وتُعنى هذه المداخل النقدیة بصلب "البنیة الأدبیة" و"المجاز" و"مماثلة الواقع" والمعجم "والسیاق" و"السخریة" و"بناء الجملة" و"موسیقى اللغة" و"التوازن"(14). وكلها سمات لغویة تسعى إلى تحلیل النص الأدبی وتقدیمه كلاّفنیا جدیراً بتحقیق الاستجابة العفویة عند متلقیه.‏

ــ تحاول اللغة الأدبیة فی تعاملها مع النص الأدبی من خلال مناهجها المختلفة، استیعاب التوازن الحاصل بین "المبدع ــ النص" و"النص ــ المتلقی"(15) وهی سلطة فنیة تبتعد فیها اللغة عن مرجعیاتها القواعدیة والإعرابیة والنحویة لتزوید آفاق الدلالة حیث یصیر "النص" یتمتع بحركته الفنیة ــ الإبداعیة وحركته التوصیلیة عند المتلقی.‏

فالعلاقة بین النص والمتلقی هی جوهر العملیة النقدیة الحدیثة والمعاصرة، تلك العملیة التی ترى فی النص الأدبی ــ الشعری بفنونه وأنواعه‏

إن مهمة علم اللغة هی الاستفسار واستقراء ما سمّاه "تشومسكی" بالعلاقة الحمیمیة بین الخصائص الداخلیة للعقل وبین سمات البناء اللغوی(16). فی حین تكون مهمة النقد الأدبی واحدة من رؤاه العصریة، هی البحث فی العلاقة بین تنظیم الحس الجمالی الإنسانی وبین خصائص البناء الأدبی واللغة.‏

وعلیه فالنقد الأدبی هو فن الحكم على التجارب الأدبیة الحدیثة والتراث الأدبی والآثار الفنیة(17). فبرزت على الساحة النقدیة العالمیة والعربیة ضروب من النقد كالنقد القیاسی والنقد الأكادیمی والنقد الإیدیولوجی العقائدی، والنقد التاریخی والنقد الشخصی والنقد الفلسفی والنقد اللغوی وغیرها، وكلّها ضروب نقدیة تنطلق من النص الأدبی فی علاقته بمبدعه من جهة أو علاقته بمتلقیه من جهة أخرى أو علاقته ببیئته من جهة ثالثة، ومن هنا قیل إن الإنتاج الأدبی یحكمه محوران، محور اللغة التی هی ملك للبیئة الاجتماعیة التی تنشأ عنها، ومحور الأسلوب الذی هو ملك الأدیب أو الشاعر. وما بین هذین المحورین، اللغة والأسلوب، یولد فن الإبداع فی الكتابة الأدبیة أو فی التجربة الشعریة، وقد أدى الاهتمام بهذا الجانب إلى ظهور ما یسمى بـ: الأسلوبیة ــ اللغویة التی ترى أن الأسلوب قد یكون انزیاحاً أو انحرافاً أو عدولاً عن السیاق اللغوی المألوف فی هذه اللغة أو تلك.‏

ــ والمنهج التفكیكی/ والنقد التفكیكی أو التشریحی الذی دعا إلیه دیریدا منذ سنة 1967. تستند مرجعیاته إلى فكرة الأثر، أی أن الأثر هو محور تفكیك النص أی أن الاهتمام بالنتیجة قبل التفكیر بالسبب. فلولا وجود قرّاء لم یكتب الكاتب نصه ولا ینظم الشاعر قصیدته، أی أن المتلقی هو سبب فی الإبداع وسبیل إلى دفع المبدع إلى الإبداع والخلق الفنیین، فضلاً عن أن هذا المنهج النقدی التفكیكی أو التشریحی یلغی وجود حدود بین نص وآخر وتقوم هذه النظریة على مبدأ الاقتباس ومن ثم تداخل النصوص أو التناص.‏

ــ فالقراءة التفكیكیة أو التشریحیة قراءة حرّة ولكنها نظامیة وجادة وفیها یتوحدّ القدیم الموروث وكل معطیاته مع الجدید المبتكر وكل موحیاته من مفهوم السیاق حیث یكون التحول.‏

والتحول هو إماء بموت وفی اللحظة نفسها تبشیر بحیاة جدیدة(18). والناقد الأسلوبی ــ اللغوی یبدأ تحلیلها للإصغاء إلى صوت الشاعر، وهذا یعنی أنه یبدأ قارئاً وحین یصیر هذا القارئ ناقداً أسلوبیاً، فإنه یهتم بما یحدث للغة على یدی الشاعر مبدع النص الشعری. (19) من محاكاة وأصالة أو تسطح أو عمق أو وضوح وغموض.‏

وعلى هذا الأساس فثورة علم اللغة الحدیث والمعاصر الیوم هو ثورة فی التحلیل والتعلیل. كما هی ثورة المنهج أداة ومصطلحاً. وانعكاساتها فی مناهج النقد الأدبی المعاصر التی اهتمت بالأسلوب بوصفه سطح التعبیر اللغوی ومنه إلى أعماق التجربة الأدبیة، تحلیلاً وتعلیلاً، إذ یفترض بالناقد التطبیقی أو العملی الجید أن یكون لغویاً جیداً، فالأدب أعلى تعبیر لغوی وما یبتكره على اللغة من سباقات جدیدة تظهر إثارة فی النقد الأدبی قبل أی فن من الفنون الأدبیة أو أی جنس من الأجناس الأدبیة الأخرى، نظراً لأن التمییز بین الشكل والمعنى فی اللغة وبین الأثر أو الصورة والتأثیر فی الأسلوب ظاهرة طبیعیة لا شك فیها. فقد جرت العادة فی وقت من الأوقات، فی الدرس النقدی الأدبی الأوروبی، إلى الاعتقاد بأن الأسلوب یقترن بالزخرفة أو الزینة، فهو "زینة الأفكار" على حد تعبیر الأدیب الإنكلیزی "اللورد جستر فیلد"، فی حین عدّه "فلوبیر" مزاجاً فردیاً عالیاً وفریداً للرؤیة.(20) فثمّة فرق بین العملیة الشعریة التی تعنی كل الأنشطة والفعالیات التی من خلالها تولد القصیدة، وتتكون بأسلوبها الشعری الخاص بها، فی حین أن التحلیل الأدبی محاولة تشریح القصیدة. وإذا كان تشریح القصیدة ذا أبعاد لغویة وفنیة برز أكثر من احتمال فی تفسیر العلاقة القائمة بین الشعر واللغة وتعلیلها، ومنها كون الشعر لغة أی أن الشعر یكمن وراء ظاهرة نسمیها ظاهرة اللغة وحینئذ یكون الشعر جزءاً من هذه الظاهرة، وربما كان هذا المفهوم وراء مقولة "مالا رمیه" الفرنسی" الشعر لا یكتب بالأفكار، ولكن یكتب بالكلمات"(21) ویبدو أن هذه الثنائیة اللغویة ــ الفنیة هی التی تبنّاها النقد الأدبی ولاسیما فی نقد الشعر، معیاراً فی التحلیل النقدی. ففی الوقت الذی یهتم به علم اللغة فی وصف النص، فإن الأسلوبیة، أو علم الأسلوب یهتم بالاختلافات والفروق التی تظهر فی النص أو الأصل وبعبارة أخرى فإن العلاقة بینهما: بین علم اللغة والأسلوبیة هی أن علم اللغة یتعامل مع الأنماط والأسالیب فی حین تتعامل الأسلوبیة مع النماذج والرموز ومن هنا صارت "الجملة" الوحدة العلیا فی علم النماذج والرموز ومن هنا صار النص مجموع الجمل أی الوحدة الكبیرة فی الأسلوبیة (22)، وهو أی النص الأساس الذی یقوم علیه التحلیل الأسلوبی الذی مهّد إلى التحلیل النقدی الذی تحوّل إلى تحلیل نقدی لغوی من خلال الجملة أو إلى تحلیل نقدی أسلوبی من خلال النص.‏

إن الجملة والنص هما عماد التحلیل اللغوی الأدبی الذی وجد فی الأسلوبیة التی تحلل الأشكال والأسلوبیة الأدبیة التی تحلل المضامین. (23).‏

9 ــ خاتمة:‏

من كل ذلك نخلص إلى أن التقدّم الذی حظی به الحقل اللسانی أو اللسانیات فی العصر الحدیث دراسة وتحلیلاً وتعلیلاً تقویماً ونقداً ذاتیاً إیجابیاً أو سلبیاً قد تسرّب إلى الحقل النقدی الأدبی الذی لم یكن بمعزل عن المناخ العام الذی تمثله ثورة المعرفة الإنسانیة بمصطلحاته الجدیدة، ورؤاها المتعددة فی الربط بین الثقافة النقدیة الأدبیة والثقافة اللسانیة تخصصاً ومفهوماً ومنهجاً وإذا كان الأدب "أرضاً مالك لها" ــ على حد تعبیر الشكلانیین الروس ــ فإن التقدم الثقافی والحضاری الذی اتسمت به اللسانیات فی القرن العشرین ولاسیما بعد العقد الثانی منه، وتطور النقد الأدبی منهجاً ودراسة وتحلیلاً، قد هیأ المناخ لتحصین هذه الأرض وحمایتها وإعطائها شرعیة الامتلاك.‏

الهوامش:‏

1 ــ مجلة: كتاب الریاض العدد 60 دیسمبر 1998، مقال: الأسلوبیة والتأویل والتعلم، حسن غزالة، تصدر عن مؤسسة الیمامة الصحفیة. السعودیة. ص 38.‏

2 ــ مفهوم الأسلوب: حسن غزالة ص. 39.‏

3- Paisloy W. 1969 styding style as deviation from en coding norms. In gerdner. G. et al (eds) the analysis of communication content. n k. p. 11

4- Wetherill. P m 1974 the literary text. An examination of critical methodology. Oxford. P. 133.‏

5- Mounin; stylistique encyclopedia univer. P 466.‏

6 ــ الأسلوب والأسلوبیة أحمد درویش، مجلة النقد الأدبی مجلد 5 عدد 1 أكتوبر نوفمبر دیسمبر 1984 مطابع الهیئة المصریة العربیة للكتاب ص 60 ــ 64.‏

7 ــ المرجع نفسه، ص: 65.‏

8 ــ المرجع نفسه، ص 66.‏

9 ــ المرجع نفسه، ص: 67.‏

10 ــ المرجع نفسه، ص: 51.‏

11- Enkvist. N 1973 linguistic stylistic. Paris p. 68.‏

12- Halliday. M. a. k and Mcintosh. A. 1966 patter ns of language London. P.67

13 ــ ترویض النص وسلطة اللغة، عناد غزوان، محاضرة ألقیت سنة 1998 اتحاد الكتاب والأدباء العراق بغداد.‏

14 ــ مداخل نقدیة معاصرة إلى دراسة النص الأدبی، محمود الربیعی، عالم الفكر، مجلد 23 العددان 1 ــ 2، 1994 ص، 299.‏

15 ــ فی العلاقة بین المبدع والنص والمتلقی، فؤاد المرعی، عالم الفكر، مجلد 23، العددان 1 و2 الكویت 1994 ص 336 ــ 337.‏

16 ــ علم اللغة والأسلوب الأدبی، دونالد سی، فریمار، الولایات المتحدة الأمریكیة، 1970 ص 4. 3.‏

17 ــ النقد الجمالی، أندره ریشار، ترجمة هنری زغیب، منشورات عویدات، بیروت، لبنان ط 1974. ص 9.‏

18 ــ الخطیئة والتفكیر من البنیویة إلى التشریحیة قراءة نقدیة لنموذج إنسانی معاصر، عبد الله الغذامی، النادی الثقافی، جدة 1405هـ ــ 1985. ص 20 ــ 22 ــ 49 ــ 50.‏

19 ــ اللغة والشاعر ماری بوروف شیكاغو، لندن 1979 ص 5.‏

20 ــ أنماط الأسلوب الأدبی، جوزیف ستریاكا، لندن 1971 ص 233.‏

21 ــ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق ــ 2000 مقال: اللسانیات والنقد الأدبی، أد، عنان غزوان.‏

22 ــ الأسلوب فی اللغة، توماس، أی، سبیك، نیویورك ولندن ــ ص 9. 82. 87. 88.‏

23 ــ الأسلوب الأدبی، سیمور جاغان، مطبعة جامعة أوكسفورد 1971 ص 24. 43.‏

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:27|
الطردیات (جمع طردیة : بفتح الطاء والراء)
هی القصائد التی یكون موضوعها الصید، وهو فن جدید فی الشعر نشأ لیواكب اهتمام بعض شعراء الاسلام بهذه الهوایة الممتعة المفیدة ، وكان الصقر الأداة
المثالیة التی مارس بها أجدادنا العرب هودیتهم هذه منذ أمد سحیق ، فقد ذكر الدمیری صاحب حیاة الحیوان
أن أول من صاد بالصقر هو الحارث بن معاویة بن ثور، وأطرف من هذا أن حمزة بن عبدالمطلب -
رضی الله عنه - أشهر إسلامه إثر عودته من رحلة صید وهو یحمل صقره على یسراه ، وان الخلیل بن أحمد - رحمه الله - كان له - مع سعة آدابه وعلمه - باز یصطاد به ، وورد فی مقدمة ابن
خلدون عند الحدیث عن میزانیة بغداد قبل ألف ومائة عام أن البزاة والصقور شكلت جزءا من الموارد التی
تجبیها الدولة من الجزیرة وما یلیها من أعمال الفرات ، هذا الى ما كان یصرف یومیا على الصیادین
وعلى رعایة الجوارح وعلاجها. والى الیوم لا یزال هذا الارث المترسب فی أعماق الخلیج دائب
الحركة عبر رحلات صید قد تمتد أیاما وأسابیع !.
ویبدو من وثائق التاریخ أن المقاربة قبضوا على الأثر، وعضوا علیه بالنو اجز، بل عانقوا الغایة القصوى
فی الاحتفاء بالصقر، أو ما نسمیه الى الیوم : الطیر الحر، ومن ثمة وجدنا رسمه على الرایات والأعلام
فی قصور قرطبة وهی تستقبل بنی إدریس على ما یرویه ابن حیان فی مقتبسه ، ولابد أننا قرأنا فی عهد
المنصور الموحدی (توفی 595هـ) عن ترجمة القائد محمد بن عبدالملك بن سعید الغرناطی الذی كان
یخرج للصید فیسمع لركبه دوی جلاجل البزاة ومناداة الصیادین ونباح الكلاب ، وأن السلطان أبا الحسن
المرینی أهدى للملك الناصر فی مصر تشكیلة من البزاة والصقور بلغت أربعة وثلاثین طیرا...(!)
یُعدّ أبو نواس أكبر شعراء الطردیات فی الشعر العربی، وأكثرهم تمثیلاً
لما بلغته هوایة الصید فی العصر العباسی من رقی وتحضر، وأكثر طردیات أبى نواس
تدور حول صید الكلاب، وقد كان القدماء یصیدون على الفرس، ویقبحون فی الغالب
كلاب الصید، وتصور الطردیات الكلب تصویراً قویاً، وخلعت علیه أجمل الأوصاف من
شجاعة وخفة وبراعة فی الوثوب على الفریسة واقتناصها. وأبو نواس حین یصور
الكلب یبین لنا شدة عنایة صاحبه به، فهو یبیت إلى جانبه، وإن تعرى كساه ببرده
حتى لا یصیبه مكروه، وهو یصف الكلب بأنه واسع الشدقین، طویل الخد، واسع الجری
حتى أن رجلیه لا تمسان الأرض، ولهذا فصیده مضمون. یقول:
أنْعتُ كلباً لیس بالمسْبوق**********
***********مُطهَّماً یجرى على العُرُوقِ
جاءتْ به الأمْلاك من سَلوق*******
********** كأنَّه فی المِقْود المَمْشُوقِ
إذا عدا عدوةً لا معوق**********
********* یلعب بَیْن السَّهْلِ والخُروقِ
یَشْفی من الطّردِ جَوَى المَشوقِ********
**********فالوحش لو مرَّت على العیوقِ
أنزلها دامیةَ الحُلوق *************
************ذاك علیه أوْجبُ الحُقوقِ
لكل صیَّاد به مرزْوقِ
وقد وصف أبو نواس، إضافة إلى الكلب، الفهد، والبازى، والصقر، والفرس،
ودیك الهند، والأسد. ومما وصف به أبو نواس دیك الهند قوله:
أنْعَت دیكاً من دیوك الهِنْد ***********
*********أحْسنُ من طاووس قصر المَهدى
أشجع من عارى عرین الأسد***********
****** ترى الدّجاجَ حوله كالجُنْدِ
یُقَعین منه خِیفَةً للسَّفْد**************
***** له سقاعٌ كَدوىِّ الرَّعْدِ
مِنْقارُهُ كالمِعْوَل المُمَدِّ***************
****یقهر ما ناقرهِ بالنَّقدِ
وكثیراً ما یصف فی طردیاته رحلات الصید كما فی أرجوزته:
لمَّا تبدَّى الصُّبْحُ من حِجابِه كطلعةِ الأشْمَط من جِلْبابهْ
وانْعَدل اللَّیْلُ إلى مآبهِ**********
********* كالحَبشی افْترَّ عن أنیابهْ
هِجْنا بكلبٍ طالما هِجْنا بهْ*********
*********ینتسف المِقْوَدِ مِن كلابهْ
تراهُ فی الحَضْر إذا هاهابهْ ********
**********یكاد أن یخْرجَ مِن إِهابِهْ
ولأبی نواس نحو خمسین طردیة تتمیز جمیعها بالجودة. وكان الخلیفة
المتوكل مولعاً بالصید، وكذلك الخلیفة المعتضد، الذی كان یخرج لصید الأسود،
ویقال إنه كان یتقدم لها وحده، ویقال إنه كان ینفق یومیاً سبعین دیناراً
لأصحاب الصید من البازیاریین والفهّادین والكلاّبین، وورث ابنه عنه هذه
الهوایة، وانتشر ذلك بین ذوی الوجاهة انتشاراً واسعاً، مما أهّل لازدهار شعر
الطرد، وقد مضى الشعراء ینظمون الطردیات فی بحور وأوزان مختلفة غیر مكتفین
بالرجز. وكان لهذا النشاط الواسع فی الصید وما یتصل به من الشعر أثر فی أن
أخذت تُؤلف كتب مختلفة، تفصل القول فی الصید وأدواته وضواریه وجوارحه.
وممن اشتهر بالطرد، علىّ بن الجهم إذ یقول:
وطِئنا ریاضَ الزَعْفران وأمْسكتْ***********
*********** علینا البُزاة البِیض حُمْرَ الدَّرَارجِ
ولم تحْمِها الأدغالُ منا وإنّما*************
************ أبحْنا حِماها بالكلاب النَّوابجِ
بِمُسْترْوحاتٍ سابحاتٍ بطونُها ************
************وما عقفت منها رؤوس الصّوالجِ
ومن دالعاتٍ ألْسُناً فكأنَّها **************
*************لِحَىً من رجالٍ خاضعینَ كواسجِ
فَلَیْنا بها الغیطانَ فَلْیاً كأنَّها**************
************أناملُ إحدى الغانیات الحوالجِ
قَرَنّا بُزاةً بالصقور وحَوَّمَتْ**************
************ شَواهیُننا من بعد صید الزَّمامج
ولابن الرومی الكثیر من الطردیات، یقول مصوراً صید أصحابه للطیر، وقد
تقلدوا أوعیة حمراء من جلد، أودعوها كثیراً من البندق الذی یُرمى به، وقد
أشرعوا أقواسهم مسددین البندق منها للطیر الهاجع وقت السحر:
وجدَّتْ قِسِیّ القوم فی الطیر جِدَّها************
*************** فظلَّتْ سُجوداً للرُّماة ورُكَّعا
طرائحَ من بیضٍ وسُوْدٍ نواصِعٍ**************
************** تخال أَدیمَ الأرض منهن أبْقَعَا
فكم ظاعنٍ منهمن مُزْمعِ رحلةٍ***************
************* قَصَرْنا نواه دون ما كان أزْمعا
وكم قادمٍ منهنَّ مُرْتادِ منزلٍ***************
******** أناخ به منَّا مُنیخٌ فجعْجَعا
هنالك تغدو الطیر ترتاد مَصْرعاً*************
************ وحُسْبانها المكذوبُ ترتاد مَرْتَعا
مباحٌ لرامیها الرَمایا كأنَّما *************
*************دعاها له داعى المنایا فأسْمَعا
لها عَوْلةٌ أَوْلَى بها ما تُصیبه*************
********** وأجْدرُ بالإعْوال من كان موجَعا
وما ذاك إلا زجْرُها لِبناتها*************
********** مخافة َ أن یذْهَبْن فی الجوِّ ضُیَّعا
وظلَّ صِحابی ناعمین ببؤسها ************
***********وظلَّتْ على حوض المنِیَّة شُرَّعا
أما ابن المعتز فقد صنّف كتاباً فی جوارح الصید، ومن قوله فی كلبة
ماهرة فی الصید:
قد أغتدی واللیل كالغُرابِ**********
********* داجی القِناعِ حَالكِ الخِضابِ
بكلْبةٍ تاهتْ على الكلابِ**********
********* تفوتُ سبْقاً لَحظةَ المُرْتَابِ
تنساب مِثلَ الأَرْقمِ المُنْسابِ*********
*********** كأنَّما تَنْظُرُ مِنْ شِهَابِ
بمقلةٍ وَقْفٍ على الصوابِ
ومن قوله فی وصف باز من بزاته:
ذو مقلة تهتك أسْتار الحُجُبْ
كأنَّها فی الرأس مسمارُ ذهبْ ***********
*************یعلو الشمال كالأمیر المنتصبْ
أمْكنه الجودُ فأعْطى ووَهَبْ *************
*************ذو مِنْسَرٍ مثل السِّنان المُخْتَضِبْ
وذَنَبٍ كالذیل ریَّان القصَبْ **************
*************كأنّ فوق ساقه إذا انتصبْ
من حُلل الكَتَّان راناً ذا هُدُبْ
وللصنوبری طردیات مختلفة منها قوله فی وصف باز:
ذو مِنْسّرٍ أقْنى ورُسْغٍ كزِّ*********
******** ومِخْلَبٍ لم یَعْدُ إِشْفا الخَرْزِ
مُسَرْبلٌ مثل حَبیك القَزِّ*********
********أو مثل جَزْع الیمن الأَرُزِّی
لمَّا لَزَرْنا الطیر بعد اللَّزِ**********
*********بأسْفل القاع وأعْلى النَّشْز
آب لنا بالقَبْجِ والإوَزِّ**********
*********من جَبلٍ صَلْدٍ ومَرْجٍ نَزِّ
وقد اشتهر أیضا أبو العباس الناشئ الأكبر بطردیاته، وقد اعتمد
كشاجم الشاعر فی كتابه " المصاید والمطارد " اعتماداً شدیداً على طردیاته.
وله طردیة فی صید أحد الكلاب یستهلها على هذا النمط:
قد أغتدی والفجْرُ فی حِجَابه*********
********** لم یحْلُلِ العُقْدةَ من نقابه
بِأَغْضَفٍ عیْشُه من عذابه**********
**********من صَوْلةٍ بظُفْره ونابه
یَرَاح أن یُدْعَى لیُغْتَدى به*********
********روحة ذی النَّشْوة من شرابه
یَخُطُّ بالبُرْثن فی ترابه **********
*********خطَّ ید الكاتب فی كتابه
فقد جعل الكلب كادحاً وصوّر نشوته حین ندبه صاحبه للصید. ویقول فی
طردیة أخرى على نفس النسق:
یا ربَّ كلبٍ ربُّه فی رزْقِه**********
******** یرى حقوق النفسِ دون حقِّه 

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:26|
نثر فارسی از هزار سال پیش تاكنون، تحولات و تطورات بسیار به خود دیده است:

در اواخر قرن سوم تا اوایل قرن چهارم كه ایرانیان پس از دو قرن بی خطی، صاحب خط شدند، كوشیدند پارسی بنویسند و از نوشتن با انشاء عربی به پارسی بازگردند. دراین خط جدید كه از عربی اقتباس شد طبعاً همسانی خط و ارتباط و علائقی كه با زبان عربی در دویست سال گذشته پیدا كرده بودند موجب ورود لغات عربی به خط و زبان فارسی گشت، اما ایرانیان كه مایل بودند زبان پارسی استقلال خود را حفظ كند،

می كوشیدند كه در ترجمه كتب عربی به پارسی ـ كه بسیاری از آن كتابها را هم خود ایرانیان در زمانی كه خط نداشتند به عربی نوشته بودند ـ لغات پارسی به كار ببرند، همانگونه كه امروزه مترجمی كه مثلاً زبان فرانسه یا انگلیسی یا زبانهای دیگر متنی را ترجمه می كند مایل نیست حتی یك لغت را به صورت اصلی بیاورد و ترجمه ناشده باقی بگذارد.

كتبی كه در آغاز شكل گرفتن خط و زبان جدید فارسی(دری) ترجمه شده بیشتر الفاظش پارسی بود و جز لغاتی اصطلاحی كه ناگزیر بودند صورت عربی آن را عیناً نقل كنند اكثر الفاظ به فارسی نوشته می شد كه نمونه های آن ترجمه تاریخ طبری (موسوم به تاریخ بلعمی) و ترجمه تفسیر طبری و حدودالعالم و نظایر آنهاست. در قرنهای چهارم و پنجم نیز اهتمام به پارسی نویسی ادامه داشت و در اغلب كتب تألیفی این دوران، شواهد گویایی موجود است. اما از اواخر قرن پنجم و اوایل قرن ششم كه عرفان و تصوف در شعر و نثر فارسی گسترش یافت و تعداد نویسندگان و شاعران صوفی و عارف رو به ازدیاد نهاد، ورود لغات عربی به زبان فارسی افزایش گرفت، زیرا زبان عرفان، زبان رمز و راز و كنایات و اصطلاحات عرفانی بود، و چون لغات و اصطلاحات از كتب عرفانی عربی به فارسی می آمد و معمولاً اصطلاح را چه دینی و چه علمی و چه عرفانی به آسانی نمی شد معادل سازی كرد؛ اصطلاحات عرفانی، همچون اصطلاحات دینی در زبان فارسی شیوع یافت.

پیش از این ایرانیان، اصطلاحات دینی را هم غالباً به پارسی برگردانده بودند مخصوصاً اصطلاحاتی كه زیاد مورد نیاز بود. مثلاً به جای «صلوة» نماز گفتند و به جای «صوم» روزه گرفتند و حتی نام نمازهای پنجگانه را به فارسی وضع كردند: نماز بامداد، نماز پیشین، نماز دیگر،‌نماز شام، نماز خفتن.

بعضی لغات و اصطلاحات كه برای هر روز یا برای همه كس در همه حال مورد حاجت نبود معادل سازی نشد مانند: حرب، غزوه، حج، زكوة و مانند آنها.

ورود لغات عرفانی به فارسی، تعداد الفاظ اصطلاحی را دو چندان یا چند برابر كرد، چون پیش از آن فقط لغاتی دینی و فلسفی و كلامی كه بعضی هم یونانی بود و عربی نبود، همانگونه كه به زبان عربی (با وجود آنكه دروازه لغت را عربها به روی لغات بیگانه بسته بودند) وارد شده بود به فارسی هم ورود پیدا كرد، چه به صورت معرب آن و چه به صورت اصلی. اما سیل اصطلاحات عرفانی كه از كتب عربی صوفیان به ادب فارسی سرازیر گشت و حتی جملات و كلمات قصار صوفیان كه اگر به صورت اصلی ادا نمی شد آن تأثیر را نداشت یا اصولاً مطلوب، مفهوم نمی گشت نظیر «اناالحق» حلاج یا «لیس فی جبتی سوی الله» بایزید بسطامی و نظایر متعدد آنها، موجب شد كه پارسی نویسان نتوانند این سیل الفاظ و تعبیرات و عبارات را مهار كنند و به پارسی برگردانند. سُكر و صحو، تجلی و استتار و مراقبه و الفاظ اصطلاحی بی شمار دیگر، الفاظ معدود و محدودی نبودند كه بتوان به آسانی آنها را ترجمه كرد، چرا كه هركدام علاوه بر معنای اصطلاحی ـ كه اصطلاحی به آسانی قابل تبدیل نیست ـ متكی به عباراتی یا اقوالی بودند نظیر «مشاهده الابرار بین التجلی و الاستتار» كه اینگونه عبارات مرجع و مسند و متكای كلماتی چون تجلی و استتار بود. بنابراین اگر می بینیم آن تقیدی كه بزرگانی چون فردوسی( در شعر)و بیهقی(در نثر) در پارسی نویسی داشتند، در نویسندگان و شاعران قرن ششم یا هفتم دیده نمی شود، دلیل آن نیست كه علاقه نویسندگان قرن ششم به پارسی كمتر بوده است، بلكه موضوع و مطلب كلام و نوشته آنان با موضوعات قرن چهارم متفاوت بود. موضوع كار فردوسی و بیهقی، تاریخ ایران و مسائل مربوط به ایران بود و طبعاً مسائل ایران را با واژه های ایرانی می توان بیان كرد، اما مثلاً كتابی كه مربوط به فلسفه یونان باشد طبعاً با اسامی و الفاظ یونانی سروكار پیدا می كند و نمی توان از استعمال لفظ یونانی پرهیز كرد، همچنین است مثلاً تفاوت ترجمه تفسیر طبری كه تفسیر قرآن كریم است با ترجمه تاریخ طبری (بلعمی) كه با زبان عربی كمتر ارتباط دارد.

در متون قرنهای چهارم و پنجم نیز آن دسته از نوشته ها كه صرفاً مربوط به ایران و ایرانی بوده بیشتر الفاظش فارسی است. اما در همین زمان می بینیم كه بعضی نامه ها از سلاطین ایران كه به خلفای عباسی نوشته می شد یا تماماً عربی است یا اگر هم می خواستند با فارسی نویسی شخصیت خود و كشور خود را بنمایانند باز لغات عربی در آن بیشتر از نامه های معمولی داخلی بود، و حتی كاتبان سلاطین در

نامه های داخلی هم برای اظهار فضل مخدوم خود و خود، به نوشتن نامه هایی مشحون از لغات دشوار و حتی مهجور عربی پرداختند. كتابهایی چون «التوسل الی الترسل» و «عنبة الكتبة» شاهد بارز این مطلب است.

 و این اصطلاحات دهان به دهان می گشت موجب شد كه حافظ بگوید: «دهان پر از عربی است.»
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:26|
ان الكتابة عن جبل شامخ ونخلة باسقة كالرائدة ، شاعرة العراق والعرب الاولى ، الشاعرة والناقدة نازك الملائكة ، لها هیبتها ورهبتها ... فان تراثها الادبی وحیاتها من الثراء بحیث لا تكفیه كل المقالات التی صدرت والتی ستصدر . ولا ازعم اننی سآتی بجدید وغریب عما كتبه المختصون والمحبون ، لكننی سأكتب عنها كأمراة ومبدعة فی آن واحد
ومما افخر واعتز به حقا اننی التقبت شخصیا عملاقی الشعر العربی الحدیث : الفقیدة نازك الملائكة ، والفقید الجواهری الكبیر فی ازمان وظروف مختلفة .لم اتحدث معها فی شؤون الادب والثقافة ، فقد كان لقاءا قصیرا كنت فیه مشدودة الاعصاب والفكر ، واعیش مشاعر من نوع خاص .. أحقا انا امام قامة من قامات الادب العربی ..؟ لقد رأیت بام عینی بساطتها اللامحدودة ومیلها للعزلة ... وهذا اهم ما اتذكره من لقائی القصیر معها صیف 1981
وكالكثیرین ، راعنی مشهد تشییعها الفقیر الذی لایلیق ابدا بحجمها وحجم ثورتها الشعریة ، وعسى ان یكون هذا تنفیذا لرغبتها ، فالزهد والابتعاد عن القشور كانا من اهم صفاتها .. بل لعل ذلك كان طریقتها فی رفض ما آل الیه حال وطنها ,العراق وحال الاوطان العربیة الاخرى التی لا تقدر الثقافة واهلها الاّ متى انضموا الى جوقة المطبلین لحكامها .. وهذا ما لم تفعله شاعرتنا ابدا فقد عاشت وماتت عزیزة الجانب وقریبة من نبض الثقافة
ان شاعرتنا ، السیدة نازك الملائكة ، ظلت ومنذ صدور قصیدتها " الكولیرا " عام 1947رمزا لمیلاد الشعر الحر وعلما بارزا من اعلام تحرر المرأة على طول الوطن العربی ، وستبقى حتى بعد وفاتها مرادفا لحركة شعریة تجدیدیة قادت التمرد على القصیدة العمودیة واسست لتجربة لم ینته تفاعلها بعد . غیر ان الجدل حول ریادتها للشعر الحر ما زال قائما ، ومن وجهة نظری مرجع ذلك الى كونها امرأة ، لان المرأة فی بلداننا ومجتمعاتنا لا یحق لها ان تكون البادئة والرائدة لیسیر خلفها الرجال .. ولو كان الشاعر المبدع بدر شاكر السیاب هو الذی ادعى الریادة اولا فلم تكن الدنیا لتقوم ولا الجدل لیحتدم لان هذا یعتبر من المسلمات ... ومهما یكن من امر فاننی وبامكانیاتی المتواضعة اقول : ان من یقرأ مؤلف الملائكة " قضایا الشعر المعاصر " بتمعن سیتأكد من صحة ما ذهبت الیه ای من ریادتها الحقة ، لیس لانها اكدت ذلك حینما كتبت :" كانت بدایة حركة الشعر الحر سنة 1947 ، فی العراق . ومن العراق ، بل من بغداد نفسها ، زحفت هذه الحركة وامتدت حتى غمرت الوطن العربی كله ..." 1 . اقول لیس بسبب هذا وانما لان طریقتها فی البحث فی جذور واسباب ظهور هذا النوع من الشعر ، ظروفها ، اسبابها الاجتماعیة والنفسیة , مزایا هذا الشعر ..الخ لدلیل قاطع على كونها هی الرائدة ، وهی التی شقت الطریق امام اجیال اخرى من الشعراء العراقیین وفی العالم العربی ، كالبیاتی والحیدری وصلاح عبد الصبور و محمود درویش وغیرهم .
ویرى الكثیر من النقاد ان قصیدة " الكولیرا " تمثل واحدة من اقوى اللحظات فی مسیرة الشعر العربی الحدیث . وتقول نازك الملائكة عن هذه القصیدة : " كنت كتبت تلك القصیدة اصور بها مشاعری نحو مصر الشقیقة خلال وباء الكولیرا الذی داهمها . وقد حاولت فیها التعبیر عن وقع ارجل الخیل التی تجر عربات الموتى من ضحایا الوباء فی ریف مصر . وقد ساقتنی ضرورة التعبیر الى اكتشاف الشعر الحر." 2والقصیدة من الوزن المتدارك (الخبب) ونقرأ منها :
طلع الفجر
أصغ الى وقع خطى الماشین
فی صمت الفجر،أصخ،انظر ركب الباكین
عشرة اموات،عشرونا
لاتحص، أصخ للباكینا
ًَّإسمع صوت الطفل المسكین
موتى،موتى،ضاع العدد
موتى ، موتى ، لم یبق عد
فی كل مكان جسد یندبه محزون
لا لحظة اخلاد لا صمت
هذا ما فعلت كف الموت
الموت الموت الموت
تشكو البشریة تشكو ما یرتكب الموت
الا ان هناك من شكك بحداثة هذا اللون فی كتابة الشعر وادعى ان العرب قد قالوا مثله قبلا .. لكن نازك تصر على ان حركة الشعر الحر هی ولیدة عصرنا هذا بدلیل ان "اغلبیة قرائنا مازالوا یستنكرونها ویرفضونها ، وبینهم كثرة لا یستهان بها تظن ان الشعر الحر لا یملك من الشعریة الا الاسم فهو نثر عادی لاوزن له ."3
وعلینا ان لا ننسى ان مختلف الفنون تتعرض الى مثل هذه الهزات التطوریة التقدمیة،كما یتعرض البشر وحركة الحیاة ,وما الشعر الا ظاهرة لا یمكنها ان تقف جامدة امام تطور الانسان المتسارع ،اذ لابد له من ان یجاری هذا التطور ویواكبه ... ولابد له ان یلبی الحاجة الى التجدید التی تفرض نفسها بفعل القانون الذی یتحكم فی حركات التجدید عامة.الاان حالات الریبة والتحفظ من الجدید هی حالات عرفها التاریخ البشری كمسعى لحمایة الموروث والمتعارف علیه وهو وجه من وجوه الدفاع عن النفس ، غیر ان هذا الجدید یفرض نفسه فی النهایة اذا كان اصیلا حقا
وتمثل رد الفعل من الشعر الحر فی رفضه ، وعده بدعة سیئة النیة غرضها هدم الشعر العربی ، لان هذا اللون الجدید حطم استقلال البیت وجعل اشطر القصیدة لا تتقید بعدد معین من التفعیلات ..وقد اتهم الشعراء بانهم كسالى وذوو مواهب شعریة ضحلة ولهذا وجدوا هذه الطریقة التی تحررهم من صعوبة الاوزان العربیة .. لكن الملائكة ترد على ذلك وتفنده مؤكدة ان الحریة لیست اسهل من القیود لان " كل حریة على الاطلاق تتضمن مسؤولیة"4 و "ان الحریة خطرة لانها تتضمن مغامرة فردیة یجازف فیها المرء براحته وكیانه،ولن یقوى على مخاوفها الا من كان شدید الثقة بنفسه."5.وفوق ذلك فان هذا الشكل الشعری الجدید قد مهدت له حركة التجدید والتنویع فی الشكل والاسلوب التی ابتدأت فی عصر النهضة الحدیثة سواء فی مدرسة شعراء المهجر فی امریكا او فی جمعیة(ابولو) فی القاهرة .ولابد ان تكون هناك حاجات روحیة تدفع بالافراد الى ان یبدأوا حركات التجدید وتدفعهم الى احداثه ،ویمكن القول ان حركة الشعر الحر كانت استجابة لحاجة الذهن العربی للبناء على اساس حدیث ،وعلى هذا فانها كانت ضرورة اجتماعیة فشلت كل محاولات وأدها مما "اضطر مؤتمر الادباءالعرب الثالث فی القاهرة الى ان یعترف به رسمیا ویدخله فی ابحاثه الرئیسیة."6
وتعرف نازك الملائكة الشعر الحر بانه :"شعر ذو شطر واحد لیس له طول ثابت وانما یصح ان یتغیر عدد التفعیلات من شطر الى شطر. ویكون هذا التغیر وفق قانون عروضی یتحكم فیه.."7 كما تؤكد بان "اساس الوزن فی الشعر الحر انه یقوم على وحدة التفعیلة. والمعنى البسیط الواضح ..ان الحریة فی تنویع عدد التفعیلات او اطوال الاشطر تشترط بدءا ان تكون التفعیلات فی الاشطر متشابهة تمام التشابه ، فمثلا یكتب الشاعر من بحر الرمل اشطرا تجری على هذا النسق :
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
فاعلاتن فاعلاتن
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
فاعلاتن
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
فاعلاتن فاعلاتن " 8
وهكذا ...
فالشعر الحر اذن ظاهرة عروضیة یتعلق بعدد التفعیلات فی الشطر ویتناول الشكل الموسیقی للقصیدة وهو فی اساسه دعوة الى تطویر الشكل لیكون اسلوبا جدیدا یقف الى جانب القدیم لكنه یتناسب مع عصره .وهو محاولة من الشاعر المعاصر الى التخلص من القشور الخارجیة والعنایة بالمضمون .
ولعل من المهم هنا التطرق الى العوامل الاجتماعیة الموجبة لانبثاق الشعر الحر كما تراها نازك الملائكة،وهی:
1ـ النزوع الى الواقع : حیث تتیح اوزانه الدخول الى الواقعیة ، وتتیح للشاعر الحركة فیما یناسب مشاكل عصره.
2ـ الحنین الى الاستقلال . فالشاعر یرغب فی ان یبتدع لنفسه شیئا مستوحى من حاجات عصره ویكف ان یكون تابعا لامرأ القیس وغیره من القدامى ، فهو بهذا ذو جذور نفسیة مفروضة .
3ـ النفور من النموذج : وهذا یتناسب مع الفكر المعاصر عموما الذی یمیل الى التغییر والتنویع ویرفض الوحدة الثابتة المتكررة ، فالحیاة واللغة ذاتها لا تسیران على نمط واحد ...
4ـ ایثار المضمون :اعتمادا على وحدة الشكل والمضمون ، التی تخضع لها الحركات الاجتماعیة والادبیة فان الشاعر او الفرد المعاصر یتجه الى تحكیم المضمون فی الشكل لیس فی الشعر فقط وانما فی نختلف مظاهر الحیاة .
هذا اضافة الى عوامل اخرى غیر التی ذكرت ...
ان نازك الملائكة وهی تضع ملامح شكل جدید فی القصیدة العربیة ظلت تؤكد على ان القدیم یجب ان یبقى ، لان هذا الجدید لایمكنه ان یتناول كل ما یمكن ان یتناوله الشعر ، خاصة وانها اكدت على ان اوزان الشعر الحر هی ثمانیة فقط من الاوزان الستة عشر فی الشعر العربی ، فمثلا انها لا ترى انه یمكنه ان یكون شعرا ملحمیا .
وقد ظلت نازك وحتى فی شعرها الحدیث تجسد الذات المنطویة التی رافقتها منذ الطفولة وبرعت فی ذلك كما برعت فی التعبیر عن حالة الاغتراب والوحشة والحس المرهف والحزن الصامت .
ان الحدیث عن نازك الملائكة كما ذكرت فی البدایة، لایمكن ان ینقطع .. وكما كتبت عنها وفیها مقالات وبحوث ورسائل جامعیة فستكتب عنها المزید من البحوث والرسائل الجامعیة طالما ظلت قوانین التطور الاجتماعی تتحكم فی حیاتنا وطالما تظل المساعی للتجدید قائمة .
وكامرأة عراقیة ابقى مدینة لها لیس لكونها علما ادبیا شامخا فحسب ، وانما رائدة من رواد نهضة المرأة العراقیة ،التی اختارت الصعب وتحدت التیار وقررت المواجهة ، وكانت من بین اوائل الداعین الى تحرر المرأة ومساواتها وخروجها للعمل وسفورها .
ستبقى نازك منارا وقامة فی الشعر والحیاة لم تنحن .....


1ـ قضایا الشعر المعاصر ص 21
2ـنفس المصدر ص21
3ـ نفس المصدر ص 25
4ـ نفس المصدر ص 37
5ـ نفس المصدر ص 38
6ـ نفس المصدر ص 40
7ـ نفس المصدر ص 58
8ـ نفس المصدر ص 61
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:25|
ولدت غادة السمان فی دمشق عام 1942.
تلقت علومها فی مدرسة البعثة العلمانیة الفرنسیة،
وفی التجهیز الرسمیة بدمشق.
تخرجت من جامعة دمشق تحمل شهادة اللیسانس فی اللغة الإنكلیزیة.
نالت شهادة الماجستیر فی الأدب الإنكلیزی من الجامعة الأمیركیة فی بیروت، عام 1968.
تزوجت د. بشیر الداعوق
صاحب دار الطلیعة للنشر، أسست داراً خاصة لنشر مؤلفاتها.
لها العدید من الكتب فی شتى أنواع الكتابة الأدبیة والإبداعیة.
فی حقل الروایة أصدرت على التوالی:
- بیروت 75، عام 1975.
- كوابیس بیروت، 1979.
- لیلة الملیار، 1986.
- الروایة المستحیلة، فسیفساء دمشقیة، 1997.

وفی حقل القصة القصیرة أصدرت على التوالی المجموعات التالیة :

- عیناك قدری 1962.
- لا بحر فی بیروت 1963.
- لیل الغرباء، 1966.
- حب، 1973.
- غربة تحت الصفر، 1987.
- الأعماق المحتلة، 1987.
- أشهد عكس الریح، 1988.
- القمر المربح، 1994.

أما مقالاتها الأدبیة الإبداعیة ونصوصها الشعریة فقد نشرتها فی 16 كتاباً من بینها:

"أعلنت علیك الحب"
و "الجسد حقیبة سفر"،
و "الرغیف ینبض كالقلب"
و "كتابات غیر ملتزمة"
و "الحب من الورید إلى الورید"
و "القبیلة تستجوب القتیلة"
و "أشهد عكس الریح".

وقد حظیت غادة السمان باهتمام نقدی واسع تمثل بصدور سبعة كتب عن أدبها،
عدا آلاف المقالات والدراسات،
ومن بین أصحاب هذه الكتب: غالی شكری وحنان عواد وشاكر النابلسی وعبد اللطیف الأرناؤوط.

ولها عدا ذلك كتاب مترجم بعنوان "الشعوب والبلدان."

ــــــــــــــــــــــــــ

نموذج من ابداعاتها

((امیرة فی قصرك الثلجی ))
-------------------------

أین أنت أیها الاحمق الغالی
ضیعتنی لأنك أردت امتلاكی ....
* * *
ضیعتَ قدرتنا المتناغمة على الطیران معاً
وعلى الإقلاع فی الغواصة الصفراء ...
* * *
أین أنت
ولماذا جعلت من نفسك خصماً لحریتی ،
واضطررتنی لاجتزازك من تربة عمری
* * *
ذات یوم ،
جعلتك عطائی المقطر الحمیم ...
كنت تفجری الأصیل فی غاب الحب ،
دونما سقوط فی وحل التفاصیل التقلیدیة التافهة ..
* * *
ذات یوم ،
كنتُ مخلوقاً كونیاً متفتحاً
كلوحة من الضوء الحی ...
یهدیك كل ما منحته الطبیعة من توق وجنون ،
دونما مناقصات رسمیة ،
أو مزادات علنیة ،
وخارج الإطارات كلها ...
* * *
لماذا أیها الأحمق الغالی
كسرت اللوحة ،
واستحضرت خبراء الإطارات
* * *
أنصتُ إلى اللحن نفسه
وأتذكرك ...
یوم كان رأسی
طافیاً فوق صدرك
وكانت اللحظة ، لحظة خلود صغیرة
وفی لحظات الخلود الصغیرة تلك
لا نعی معنى عبارة "ذكرى" ..
كما لا یعی الطفل لحظة ولادته ،
موته المحتوم ذات یوم ...
* * *
حاولت ان تجعل منی
أمیرة فی قصرك الثلجی
لكننی فضلت أن أبقى
صعلوكة فی براری حریتی ...
* * *
آه أتذكرك ،
أتذكرك بحنین متقشف ...
لقد تدحرجت الأیام كالكرة فی ملعب الریاح
منذ تلك اللحظة السعیدة الحزینة ...
لحظة ودعتك
وواعدتك كاذبة على اللقاء
وكنت أعرف اننی أهجرك .
* * *
لقد تدفق الزمن كالنهر
وضیعتُ طریق العودة إلیك
ولكننی ، ما زلت أحبك بصدق ،
وما زلت أرفضك بصدق ...
* * *
لأعترف
أحببتك أكثر من أی مخلوق آخر ...
وأحسست بالغربة معك ،
أكثر مما أحسستها مع أی مخلوق آخر ...
معك لم أحس بالأمان ، ولا الألفة ،
معك كان ذلك الجنون النابض الأرعن
النوم المتوقد .. استسلام اللذة الذلیل ...
آه این أنت
وما جدوى أن أعرف ،
إن كنتُ سأهرب إلى الجهة الأخرى
من الكرة الأرضیة ...
* * *
وهل أنت سعید
أنا لا .
سعیدة بانتقامی منك فقط .
* * *
وهل أنت عاشق
أنا لا .
منذ هجرتك ،
عرفت لحظات من التحدی الحار
على تخوم الشهوة ...
* * *
وهل أنت غریب
أنا نعم .
أكرر : غریبة كنت معك ،
وغریبة بدونك ،
وغریبة بك إلى الأبد .
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:24|
تفسیر أرجوزة أبی نواس فی تقریظ الفضل بن الربیع
 (الطبعة الثانیة 1400ه-1979م) - لطیفة الشهابی

كثیراً ما یحلو للمرء أن یرجع بذاكرته إلى الوراء وأن یستعید الماضی، ولاسیما حین یكون هذا الماضی مشرقاً مضیئاً. ومن هنا فإننا نحن العرب، نشعر بنشوة أیما نشوة حین تمر أمام مخیلتنا شرط الماضی الجمیل وإن من أجمل ما یحمله ماضینا ذلك التراث الثقافی الواسع، وتلك اللغة التی وسعت جوانب ذلك التراث، بعد أن وسعت كتاب الله، والتی ما زلنا نتمتع بقراءتها وسماعها، وما زالت من أبرز الروابط التی تربط مواطنینا العرب من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. فكأننا ونحن نعیش مع هذه اللغة الآن، نعیش معها بُعد العمق فی ماضینا. وهذا العمق نسبی دائماً، شأنه شأن الماضی ذاته. فنحن نعیش الآن مع أبی نواس على أنه ماض قدیم بینما عاش معه معاصروه، وهو حدیث مبدع مجدد متحضر یحاول فی بعض قصائده أن یقلد القدماء أو الأعراب المغرقین فی بداوتهم وفصاحتهم.

فقد أراد أولئك الشعراء المحدثون فی العصر العباسی، الذین أثرت فهم الحضارة ورققتهم حیاة المدن أن یثبتوا للعلماء واللغویین أنهم لیسوا أقل قدرة على استیعاب الغریب وتضمینه أشعارهم من أولئك البداة الجفاء من الرجاز أمثال رؤبة والعجاج. وهكذا نظم أبو نواس أرجوزته فی مدح الفضل بن الربیع، سالكاً سبیل أولئك الرجاز المعروفین مثلما فعل بشار من قبله حین تحداه عقبة بن رؤبة، وكان هذا الأخیر ینشد عقبة بن سلم رجزاً، فقال لبشار: (هذا طراز لا تحسنه أنت یا أبا معاذ، فقال بشار: ألی یقال هذا؟! أنا والله أرجز منك ومن أبیك وجدك، فقال له عقبة: أنا والله وأبی فتحنا للناس باب الغریب، وباب الرجز، والله إنی لخلیق أن أسده علیهم، فقال بشار: ارحمهم رحمك الله، فقال عقبة: أتسخف بی یا أبا معاذ وأنا شاعر ابن شاعر ابن شاعر؟.. ثم خرج من عند عقبة مغضباً، فلما كان من غد غدا على عقبة وعنده عقبة ابن رؤبة، فأنشده أجوزته التی یمدحه فیها ومطلعها:

یا طلل الحی بذات الضمد           بالله خبر كیف كنت بعدی

وهكذا كانت أرجوزة بشار المطولة المتنوعة الأغراض والأفكار المحشوة بالغریب الفائضة بالجزالة والقوة تحدیاً صریحاً، كما یؤكد هذا الخبر، لأولئك الرجاز وأمثالهم من الشغوفین بالغریب والجزل من القول.

وربما أمكن أن یقال مثل هذا فی أرجوزة أبی نواس التی مدح بها الفضل ابن الربیع.

وإذا كانت الكتب القدیمة لم تسرد لها خبراً صریحاً یفید التحدی، فإن مجرد مقارنتها بأشعار أبی نواس الأخرى، وما تتسم به تلك الأشعار من وضوح وبعد عن الغریب، ربما دفعنا إلى تصور هذا التحدی المقصود ولاسیما أننا نلاحظ ظاهرة الجزالة والقوة بارزتین فی أشعار المدیح التی قدمها أبو نواس بین یدی الرشید وغیره من وجوه الدولة العباسیة. فكأنما غرض الشاعر أن یثبت مقدرته الكاملة أمام أولئك العرب؛ أو كأنه یدرك أن أذواقهم لا تستریح إلا لهذا النوع من الشعر، وإن كانت تلك القصائد لا تصل إلى ما وصلت إلیه الأرجوزة من الغریب.

وقد طلب أحد أصحاب ابن جنی منه أن یفسر له هذه الأرجوزة، فاستجاب عالمنا الجلیل لرغبته وعمد إلى تفسیرها وتوضیحها.

وجاء الأستاذ محمد بهجة الأثری فأبرز هذا التفسیر إلى عالم الكلمة المطبوعة مضیفاً إلیه كل ما یحتاجه من مقدمات وتعریفات وتحقیقات وتذییلات رآها لازمة.

وبین یدی من هذا الكتاب نسخة من طبعته الثانیة التی طبعها مجمع اللغة العربیة فی دمشق عام 1400ه-1979م.

قدم الأستاذ الأثری لهذه الطبعة بمقدمة مطولة تجاوز عدد صفحاتها تسعین صفحة، جعلها ذات أقسام:

القسم الأول عرف فیه بالكتاب وهو تفسیر أرجوزة أبی نواس لأبی الفتح عثمان ابن جنی، وذكر فیه أن ابن جنی نفسه كان واحداً من حفاظ هذا الرجز والمعنیین به. ومن هنا سأله بعض أصحابه من هؤلاء الشبان البغدادیین أن یفسره له، فاستجاب أبو الفتح "قضاء لحق مودته"، وإن ابن جنی على ما عرف عنه من علم وسعة، كان قد ذكر أنه قرأ الأرجوزة على أستاذه أبی علی الفارسی (لیضم علمه إلى علمه، ویزداد به فهماً لما هو مقبل على شرحه).

ویعدد لنا الأستاذ الأثری فی هذه المقدمة بعض فوائد هذا الشرح؛ وأولها (أنه یصحح لنا بعض شعر هذا الشاعر العظیم الذی انتشر التحریف والفساد فی شعره قدیماً، وزادته الأیام سوءاً). وثانیها (أن ابن جنی قد سجل به مرحلة جدیدة فی كتابة شروح الأشعار القدیمة والمحدثة، وتطویرها بالانتقال من طور الوقوف عند تفسیر الغریب وتدوین اختلاف الروایات إلى طور التوسع فی هذا الشرح وتشقیق الكلام فی فنون شتى من المعارف اللغویة والأدبیة وغیرها).

ویورد لنا المحقق الأدلة الصحیحة المؤكدة نسبة هذا الكتاب إلى ابن جنی، ثم یذكر لنا النسخة التی اعتمدها فی تحقیقه، وكانت نسخة واحدة صادفها فی المدینة المنورة لم یستطع العثور على سواها قبل الطبعة الأولى، ولكنه اعتمد معها على كتب ابن جنی الأخرى فی تحریر هذه النسخة وتصحیحها، كما اعتمد على المعجمات اللغویة، وأخیراً على شروح الشواهد ودواوین الشعراء. ثم عمد إلى زیادة ما تجب زیادته فی الهوامش ففسر ما أهمل ابن جنی تفسیره، ورقم الآیات القرآنیة، وخرج الأحادیث الشریفة، وتقصى الشواهد الشعریة، وترجم للأعلام ترجمات وافیة.

وقد سرد لنا الأرجوزة متوالیة بعد التعریف بالكتاب، مفصولة عن الشرح، وانتقل بعدها فی القسم التالی من المقدمة إلى التعریف بالفضل بن الربیع، فترجم لحیاته وعرفنا بالفترة التاریخیة التی كان یعیش فیها، وبین مركزه فی الدولة العباسیة وطبیعة صلاته مع الخلفاء العباسیین.

ثم وضع أمامنا ترجمة لأبی نواس المادح بعد أن عرفنا بالممدوح، فأعطانا صورة معتدلة الألوان والخطوط لهذا الشاعر الذی اكثرت الكتب القدیمة من الحدیث عنه ومنحته ملامح مضطربة من بعض جوانبها، فحاول المحقق أن یزیل بعض الخطوط التی اعتقدها وهمیة أو بعیدة عن الصحة.

وأخیراً فی القسم الرابع من المقدمة التفت الكاتب المحقق إلى مؤلف هذا الشرح (أبی الفتح عثمان بن جنی) فترجم لحیاته ترجمة مناسبة ذاكراً أصله ونسبه وثقافته، وأساتذته، ومذهبه الدینی، وضابطاً اسمه أو نسبته ومتحدثاً عن مؤلفاته وعن المراجع التی أشارت إلى هذه المؤلفات.

وقد ذكر أن مؤلفات ابن جنی تبلغ الخمسین كتاباً، ولكن ما وصل منها إلى دور المطابع لا یكاد یزید على اثنی عشر كتاباً.

وأخیراً عمد إلى مقدمة أخرى موجزة خصصها للطبعة الثانیة، وهی التی بین أیدینا، وأشار فیها إلى أنه اعتمد لهذه الطبعة مخطوطة أخرى لندنیة إضافة إلى مخطوطة الطبعة الأولى التی كان عثر علیها فی المدینة المنورة. وبین أوجه الالتقاء والاختلاف بین المخطوطتین، ثم ختم مقدمته بمجموعة صور عرضها لبعض صفحات المخطوطتین، مخطوطة المدینة ومخطوطة المتحف البریطانی.

وقد بلغت هذه الأقسام المتنوعة للمقدمة ما یزید على التسعین صفحة رقمها المؤلف بالأرقام غیر العربیة تمییزاً لهان على ما یبدو، عن صفحات الكتاب، التی بدأها بالأرقام العربیة، فكانت مئتین وسبع عشرة صفحة. ثم تلت الكتاب صفحات خمس صحح فیها المحقق ما وقع من أخطاء فی الطبع. وأتبع ذلك بفهرس للألفاظ اللغویة وإلى جانبها معانیها الموجزة بما یقارب السبع عشرة صفحة ثم فهرس المسائل:

آ-مسائل علم العربیة: النحو، الصرف، الاشتقاق.

ب-مسائل العروض والقافیة.

ج-مسائل البیان.

د-مسألة فقهیة.

ه-فوائد أدبیة.

وأتبع ذلك بفهرس الآیات القرآنیة ثم الأحادیث الشریفة وبعدها الأمثال یلیها فهرس أسماء القصائد ثم الأیام والحروب ویلی ذلك فهرس الأشعار ثم الأعلام ثم فهرس الأمم والقبائل والأسر والمذاهب، وقد أشار فی حاشیته إلى أنه لم یضمنه أسماء القبائل والأسر والمذاهب التی وردت فی مقدمة التحقیق. وبعده فهرس البلدان والأمكنة والبقاع.

وأخیراً أشار إلى مراجع المقدمة والتحقیق والتعلیق، فكان تحقیقاً متمیزاً وجهداً مشكوراً أعادنا فیه الأستاذ محمد الأثری إلى صفحات من تراثنا الخالد فی الشعر واللغة والغریب، والشرح والتفسیر، وأسبق لنا هذه الصفحات بمقدمات مفصلة تناول فیها الشاعر المادح، والشخصیة الممدوحة، والمؤلف الشارح لذلك المدح، والجهد الذی بذل لإبراز ذلك كله، ثم عقب بعد تحقیق ذلك الشرح بالفهارس والذیول المتنوعة الكافیة لتسهیل العودة إلى كل ما یحتاجه القارئ من هذا الكتاب.

جزى الله شاعرنا أبا نواس وعالمنا ابن جنی ومحققنا محمد بهجة الأثری خیر الجزاء على ما بذلوه لخدمة تراثنا وحفظ لغتنا التی هی الركن الخالد من أركان حضارتنا فی ماضینا وحاضرنا، والله لا یضیع أجر من أحسن عملاً.

ومن حق القارئ علینا فی الختام أن نذكر له مطلع هذه الأرجوزة الموسومة بمنهوكة أبی نواس لأنها من منهوك الرجز:

وبلدة فیها زور              صعراء تخطى فی صقر

وكأنی بالقارئ حین یعلم أن أ بیات هذه الأرجوزة تنوف على الخمسین بیتاً لن یستغرب أن یأتی شرحها كتاباً برمته. فأی غریب ذاك الذی جشم أبو نواس نفسه مشقة إیراده فی هذه الأرجوزة التی بدأها بوصف البقاع العسیرة والاجتیاز، ثم وصف الجمَل القوی الذی كان مطیة الانتقال عبر هذه البقاع والتی كانت طریقه إلى الممدوح. ثم أخذ بعد ذلك بالمدیح؛ متنقلاً بین شتى الخصال التی یعتز بها العربی بعبارات موغلة فی الصعوبة والغرابة لا یكاد یخیل لقارئها أن قائلها نفسه هو الذی قال:

عاج الشقی على رسم یسائله                 وعجت أسأل عن خمارة البلد

یبكی على طلل الماضین من  أسد              لا در درك قل لی من بنو أسد

دع ذا عدمتك واشربها معتقة                  صفراء تفرق بین الروح والجسد

فاشرب وجد بالذی تحوی یداك لها            لا تدخر الیوم شیئاً خوف فقر غد

وقال أیضاً فی مدح الفضل:

یا فضل جاوزت المدى                فجللت عن شبه النظیر

أنت المعظم والمكبر          فی العیون وفی الصدور

حتى تعصرت الشبیبة                  واكتسبت من القتیر

عف المداخل والمخارج               والغریزة والضمیر

فأی سهولة ووضوح هنا، وأی صعوبة ووعورة هناك؟! ولكنه التحدی والرغبة فی إثبات القدرة على مجاراة الأوائل وهواة أسالیبه
م ومدارسهم.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:23|
العرب یُصَنّفون معارفهُمْ بالشعْر -

نقصد بالتألیف بالشعر عند العرب نَظْمَ الكتاب أو المصنَّف شعراً، سواء كان هذا الكتاب لغویاً أو نحویاً، أو صرفیاً، أو عروضیاً، أو بلاغیاً، أو أدبیاً قصصیاً، أو فقهیاً، أو زراعیاً، أو ملاحیاً، أو فلكیاً، أو ریاضیاً، أو كیمیائیاً، أو طبیاً، أو تاریخیاً...والحقیقة أننا سنُعاین فیما یلی من هذه الدراسة آثاراً شعریة تتصل بكل علم من العلوم السابقة. وربما نذكر نتفاً من الأشعار التی كانت قوام كل مؤلَّف أو مصنَّف للتدلیل والتمثیل.وقد كان العرب وما زالوا، أمة الشعر، فالشعر كان، منذ الجاهلیة، ینثال على كل لسان أو یكاد! وكانت العرب تعلی شأن الشاعر أیّما إعلاء، فقبائلهم حین ینبغ فیها شاعر "تأتی القبائل لتهنئتها، وتصنع الأطعمة، وتجتمع النساء لیلعبن فی المزاهر، كما یصنعون فی الأعراس، ویتباشر الرجال والولدان لأنه حمایة لأعراضهم، وذبٌّ عن أحسابهم، وتخلید لمآثرهم، وإشادة بذكرهم". (العمدة 1: 65).إن الروح الشعریة الطاغیة قد ضربت جذورها فی أعماق النفس العربیة، ثم سرت فی دماء العرب عامة، فآلت بالشعر إلى أن یحتل مكانةً سامیة فی النفوس والعقول معاً، حتى إن بعض المصنِّفین والعاملین فی میدان التألیف والبحث لم یتردد فی التباهی بموهبته الشعریة، فسخّرها للتألیف والتصنیف، وراح ینظم بعض معارفه شعراً، وخاصة تلك التی برع فیها وتعمَّقها وأحصاها، وذلك تغلیباً لرونق النظم وظله الخفیف، على جفاف النثر وظله الثقیل، ورغبة فی تسهیل حِفْظ ما یُرى نفع فی حفظه، فروایة الشعر المضطرب الوزن، تذكّر القارئ أو السامع، بأن خللاً فیه قد وقع فیتدارك ما اختلَّ، ویتذكَّر ما سقط، ویصحح ما جاء فاسداً... فتأتی المعلومة صحیحة وكاملة ومضبوطة.والأمثلة على ما تقدم كثیرة، بل وكثیرة جداً، ففی میدان اللغة، وهو میدان صال فیه العرب وجالوا، واستأثر بالجم من جهودهم الفكریة، نقع على منظومة فی "غریب اللغة وشرحه" لأبی بكر محمد بن القاسم الأنباری (328ه) عنوانها "قصیدة فی مُشْكل اللغة" نشرها الأستاذ عز الدین البدوی النجار فی مجلة مجمع اللغة العربیة بدمشق (مج64، ج4، عام 1989م)، وقد افتتح أبو بكر الأنباری قصیدته بقوله:یا مُدَّعی عِلْمَ الغریبِ والقریضِ والمثَلْنمِّقْ جوابی: ما القزیحُ والشَّقیح والألَلْویجیب الأنباری نفسه عن سؤاله شارحاً: "قال أبو عبیدة: القریض هو القصیدة من الشعر خاصة دون الرجز والقزیح فیه قولان. قال أبو بكر: القزیح: الملیح. تقول العرب: ملیحٌ قزیحٌ. وقال آخرون: القزیح: العجیب. قال أبو بكر: والشقیح: القبیح، یقال قبیحٌ شقیحٌ. والألَل: قال أبو عمرو: البَرْق". ثم یضیف الأنباری فی قصیدته:وما العِمار والعَمار والخَبار والسَّفَلْ؟ویمضی شارحاً بعده الكلمات التی ساقها فی البیت، معتمداً فی ذلك على أئمة اللغة، كصنیعه فی البیتین السابقین.ولم تكن قصیدة أبی محمد بن القاسم الأنباری فریدةً فی بابها، فقد ذكر ابن الندیم (384ه) فی "الفهرست" تحت عنوان: (القصائد التی قیلت فی الغریب): "قصیدة الشرقی بن القطامی" و"قصیدة موسى ن حرنید" و"قصیدة یحیى بن نجیم" و"قصیدة الأبراری" و"قصیدة شبل بن عزرة" و"قصیدة أحمد الأنباری" (الفهرست ص 196).وفی كتب فهارس المخطوطات نطالع إشارات إلى مخطوطات شرحت قصائد فی اللغة، مثل: "شرح مثلث قطرب" (المتوفى سنة 206ه) لمجهول. ومثل شرح منظومة ثعلب المسمى "الموطأ فی اللغة" وقد نهض به عبد الوهاب بن الحسن بن بركات المهلبی (685ه) وأولها بعد البسملة:یا مُوْلعاً بالغضَبِ *** والهَجْرِ والتجنّبِحُبُّكَ قد برَّحَ بی *** فی جِدّه واللعبِ(انظر فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهریة، علوم اللغة العربیة ص 97، 98).وذكرت كتب التراث أیضاً، أن لابن مالك النحوی الطائی (672ه) أرجوزة فی ثلاثة آلاف بیت بعنوان (الأعلام بمثالث الكلام). وفیها ذكر الألفاظ التی لكل منها ثلاثة معان باختلاف حركاتها (انظر مقال رزوق فرج رزوق: "الشعراء التعلیمیون والمنظومات التلعیمیة" فی مجلة المورد العراقیة مج19، ع1، ص 216).وفی میدان النحو الذی حظی هو الآخر بحفاوة بالغة من ذوی الهم العلمی عند العرب، نطالع لجمال الدین محمد بن عبد الله بن مالك الطائی الأندلسی، وهو من أعظم نحاة القرن السابع شهرة، وقد ذكرناه من قبل، نطالع قواعد النحو العربی وقد نُظِمت فی ألف بیت. وعرف هذا العمل فیما بعد ب"ألفیّة ابن مالك". وكانت هذه الألفیة خلاصة نحویة مركزة ظفرت بشرح أكثر من أربعین عالماً. وفی هذه الألفیة یقول ابن مالك فی باب الكلام وما یتألف منه مثلاً:كلامُنا لفْظٌ مُفیدٌ فاستقِمْ *** واسمٌ وفِعْلٌ ثم حرفٌ الكَلِمْونقرأ له فی باب (المبتدأ والخبر) قوله:مبتدأ زیدٌ، وعاذِرٌ خبَرْ *** إنْ قُلْتُ: زیدٌ عاذرٌ مَنِ اعْتَذَرْوكذلك نراه یجمع (إنَّ) وأخواتها وعملها، الذی یخالف عمل (كان) وأخواتها، فی قوله:لأنَّ إنَّ لیتَ لكنَّ لعَلْ *** كأنَّ، عكْسُ ما لِ(كانَ) مِنْ عمَلْومن الكتب النحویة المهمة التی نُظِمت شعراً "الآجرومیة" وهی مقدمة فی النحو ألَّفها أبو عبد الله محمد بن داود بن آجروم الصنهاجی (723ه). وكان فقیهاً ونحویاً ولغویاً ومقرئاً وشاعراً. ولم یكن فی أهل (فاس) فی وقته أعلم منه فی النحو. وقد نظم (الآجرومیة) میمون الفخار، والعربی الفاسی، ومحمد نووی. واسم كتاب النووی هذا "النفحة المسكیة فی نظم الآجرومیة"، وشرف الدین یحیى بن موسى العمریطی (989ه) الذی سمَّى كتابه "الدرَّة البهیَّة فی نظم الآجرومیة" (وهو مطبوع ضمن مجموعة من المتون بما فی ذلك الآجرومیة ذاته، بعنایة أحمد سعید علی، بالقاهرة عام (1949م).ونظم "الآجرومیة" أیضاً عبد الله بن الحاج الشنقیطی (1209ه). وللشنقیطی هذا مؤلفات عدة، أغلبها منظوم، منها مثلاً: نظْم كتاب مختصر الخلیل، ونظم الخزرجیة فی العروض، ونظم رسالة ابن أبی زید القیروانی. ومن أمثلة نظْم الشنقیطی للآجرومیة قوله:قال عُبَیْدُ ربِّهِ مُحَمَّدُ *** اللهُ فی كلِّ الأمورِ أحمدُمُصلّیاً على الرسولِ المُنْتَقى *** وآلهِ وصَحْبهِ ذوی التُّقىوالبعدُ والقَصْدُ بذا المنظومِ *** تسهیلُ منثورِ ابنِ آجرومِوفی باب الإعراب یقول:الإعرابُ تغییرُ أواخِرِ الكَلِمْ *** تقدیراً أو لفظاً فذا الحدّ اغتنمْوذلك التغییرُ لاضطرابِ *** عواملٍ تدخلُ للإعرابِأقسامُه أربعةٌ تُؤمُّ *** رَفْعٌ ونَصْبٌ ثم حَفْضٌ جَزْمُفالأوَّلان دونَ رَیْبٍ وقَعا *** فی الاسمِ والفعلِ المضارعِ معافالاسمُ قد خُصِّصَ بالجرّ كما *** قد خُصِّص الفعلُ بجَزْمِ فاعلما(انظر مقال الأستاذ خلیفة بدیری: نظم متن الآجرومیة فی مجلة كلیة الدعوة الإسلامیة، طرابلس، العدد 6 ص 262-263).وكذلك نظم السیوطی (911ه) ألفیةً فی النحو سماها (الفریدة). وهی مطبوعة. ولها شرح بعنوان "المطالع السعیدة فی شرح الفریدة".وإذا تركنا النحو، وانتقلنا إلى علم الصرف، وهو علم یهتم ببنیة الكلمة العربیة وبأوزانها ومجردها ومزیدها، وإبدالها وإعلالها، وجامدها ومشتقها، وقعنا على أمثلة كثیرة من نظم الصرف)، منها مثلاً "قصیدة أبنیة الأفعال" التی نظمها ابن مالك صاحب الألفیة النحویة المشار إلیه سابقاً. وهذه القصیدة التی تسمى أیضاً بلامیة الأفعال شرحها ابن الناظم ذاته، واسمه بدر الدین محمد بن محمد (686ه). وقد جاءت القصیدة على البحر البسیط، وتقع فی (114) بیتاً. ونشر شرح الابن علیها الدكتور ناصر حسین علی بدمشق عام 1992م بعنوان "زبدة الأقوال فی شرح قصیدة أبنیة الأفعال".وإذا طالعنا كتاب (فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهریة بدمشق- علوم اللغة العربیة) نقع على منظومة صرفیة أخرى بعنوان "الترصیف فی التصریف" نظمها عبد الرحمن بن عیسى العمری المرشدی المكی (1037ه) وأولها:أفضل ما إلیه تصریف الهِممْ *** بحُسن حمدِ الله وهَّاب النِّعمْوتقع هذه المخطوطة فی (12) ورقة ورقمها 10859 (انظر فهرس مخطوطات الظاهریة- علوم اللغة العربیة ص 457).وقد ألَّف ناصیف الیازجی اللبنانی المعاصر كتاباً سماه "الجمانة فی شرح الخزانة". وهذا الكتاب هو أرجوزة فی علم الصرف أسماها (الخزانة)، ثم علَّق علیها شرحاً لها سمَّاه "الجمانة".وطبع هذا الكتاب فی بیروت سنة 1872م. یقول ناصیف الیازجی فی فاتحة كتابه مثلاً:أقول بعد حمد ربٍّ محسنِ *** لا علم لی إلا الذی علَّمنیقد اصطنعت هذه الخزانهْ *** حاویة من شرحها الجمانهْجعلتها فی الصرف مثل القطبِ *** فقُلتُ والله الكریمُ حسبیثم قال:الصرفُ عِلْمٌ بأصول تُعرف *** بها مبانی كَلِمٍ تُصرَّفُوالأحرفُ التی ابتنت منها الكلِم *** إلى صحیحٍ وعلیلٍ تنقسمْوأحرفُ العلَّة واوٌ وألِف *** والیاءُ والباقی بصحةٍ وُصِفْوتشرك الهمزة حرف العلّه *** فتلك بَینَ بین فی المحلّهوفی مجال علوم اللغة العربیة الأخرى كالبلاغة وفروعها، كعلم المعانی، والبیان، والبدیع، یمكن المرء أن یشیر إلى جهود ابن الشحنة (815ه) واسمه أبو الولید محب الدین محمد بن محمد بن أیوب الحلبی الذی ألّف منظومة فی علم المعانی والبیان والبدیع، وقد شرح هذه المنظومة محمد بن تقی الدین أبو بكر الحموی الدمشقی المحبی (1010ه). ومن هذا الشرح نسخة مخطوطة تقع فی (68) ورقة فی دار الكتب الظاهریة (انظر فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهریة- علوم اللغة ص 319-320).وكذلك ألَّف السیوطی (911ه) قصیدة أسماها "عقود الجمان" وهی فی علمی المعانی والبیان، وقد شرحها بنفسه. ومن هذا الشرح نسخة بین مخطوطات الظاهریة (انظر فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهریة- علوم اللغة ص 316).كما یمكن المرء أن یشیر فی مجال البدیع وحده إلى منظومة للشیخ الإمام زین الدین یحیى بن معطی المغربی الزواوی (628ه) جمع فیها شواهد البدیع من أشعار المبرزین من الشعراء، وذلك بأن حدّد نوع البدیع، ثم أعطى الشاهد علیه، وأولها بعد البسملة:یقول ابن معط قُلتُ لا متعاطیا *** مقالة مَن یرجو الرضى والتعاطیاومن هذه المنظومة نسخة فی دار الكتب الظاهریة تقع فی 9 ورقات ضمن مجموع عدد أوراقه 27 ورقة انظر (الفهرس المذكور سابقاً ص 208).وفی مجال العروض مر بنا ذكر نظم الشنقیطی للخزرجیة فی العروض قبل قلیل. ونطالع فی فهارس المخطوطات آثاراً أخرى فی هذا الفن، منها منظومة فی العروض لمحمد بن الحسن الحسینی الشافعی الهروی (676ه) أولها بعد البسملة:أحمدُ مَنْ صلَّى على محمدِ *** وآله نجومِ كلِّ مُهْتَدِوهی من مخطوطات الظاهریة، وقد كتبها ناظمها نفسه. وتقع فی أربع ورقات- (انظر فهرس مخطوطات الظاهریة- علوم اللغة ص 440).وأشار صاحب "معجم المؤلفین" إلى أن إبراهیم بن عبد الله بن جمعان الیمنی الزبیدی (1083ه) قد ألَّف مقطوعة فی العروض سماها (آیة الحائر)- (انظر معجم المؤلفین 1:5). وبین مخطوطات الظاهریة مخطوطة بعنوان "هالة العروض" وهی أرجوزة نظمها محمد صالح بن أحمد بن سعید المنیر الدمشقی (1321ه). قدم بها لعلم العروض وتناول فیها الزحافات والعلل والأبحر والدوائر العروضیة، وختمها بألقاب الأبیات، أتم نظمها فی (الآستانة) فی شعبان سنة 1299ه، وأولها بعد البسملة:یقول صالح بن احمدَ السری *** القدوةُ المشهورُ بالمُنیرِوهی نسخة بخط ناظمها، وتقع فی (8) ورقات (انظر فهرس علوم اللغة المذكور ص 442).وفی میدان الأدب القصصی جرب (أبان بن حمید اللاحقی)، وهو شاعر إسلامی من أهل البصرة، جرّب قدرته فی النظم فی صیاغة كتاب كلیلة ودمنة شعراً. وقد استغرق نظمه لهذا الكتاب ثلاثة أشهر. وبلغت أشعاره (14) ألف بیت، وقدمه إلى یحیى بن خالد البرمكی، فكافأه هذا عشرة آلاف دینار.ونجد فی كتاب (الأوراق) للصولی (335ه) من هذا النظم ما یربو على (80) بیتاً. وأول ذاك النظم قول أبان اللاحقی:هذا كتابُ أدبٍ ومحنهْ *** وهو الذی یُدعى كلیلة ودِمْنهْفیه احتیالاتٌ وفیه رشدُ *** وهو كتابٌ وضَعَته الهِندُومن نظمه مثلاً فی باب الأسد والثور من كتاب كلیلة ودمنة:وإن مَن كان دنیَّ النفسِ *** یرضى من الأرفعِ بالأخسِّكمثلِ الكلب الشقیِّ البائسِ *** یفرح بالعظْمِ العتیقِ الیابسِوإن أهل الفضلِ لا یرضیهمُ *** شیء إذا ما كان لا یرضیهمُوذكر الصولی أیضاً أن "أباناً" هو الذی عمل القصیدة (ذات الحُلَل)، وفیها ذكر مبتدأ الخلق وأمر الدنیا وأشیاء من المنطق، وغیر ذلك، وهی قصیدة مشهورة. ومن الناس من ینسبها إلى أبی العتاهیة، والصحیح أنها لأبان. (انظر كتاب الأوراق للصولی، تحقیق ج. هیورت، بیروت، ط2، 1979، ص 1 وص 46-48).وقد نظم "كلیلة ودمنة" أیضاً (ابن الهبَّاریة) (504ه) وهو الذی نظم أیضاً كتاب (الصادح والباغم). ومن ناظمی كتاب الفیلسوف الهندی، محمد الجلال، وعبد المنعم بن حسن وعلی بن داود كاتب زبیدة-زوج الرشید، وجلال الدین النقاش من القرن التاسع الهجری.وفی مجال الفقه الإسلامی نظم محمد بن علی الرحبی، (المتوفى سنة 577ه) أرجوزة فی أحكام الإرث الإسلامی، وعرف كتابه بمتن الرحبیة نسبة إلیه. وقد شرح هذا المتن كثیرون من العلماء، منهم: أبو بكر أحمد السبتی، وجلال الدین السیوطی، وعبد القادر الفیومی، ومحمد بن صالح الغزی، ومحمد بن محمد الماردینی، وشرح هذا الأخیر مطبوع. وكذلك شرحَ الرحبیة محمد بن خلیل بن خملیون وسمى شرحه: (تحفة الأخوان البهیة على المقدمة الرحبیة). وقد حقق هذا الشرح الأستاذ السائح علی حسین، وطبعه فی طرابلس بلیبیا عام 1990م، تحت عنوان (التحفة فی علم المواریث). وفی أسباب المیراث نقرأ قول الرحبی: (التحفة فی علم المواریث ص 85):أسباب میراث الورى ثلاثهْ *** كلٌّ یفید ربَّهُ الوراثهْوهی نكاح وولاء ونسَبْ *** ما بعدهنَّ للمواریث سبَبْویقول فی موانع الإرث (التحفة ص 89):ویمنع الشخصَ من المیراثِ *** واحدةٌ من عِللٍ ثلاثِرقٌ وقتل واختلاف دینِ *** فافهمْ، فلیس الشك كالیقینِویقول فی باب أصحاب الثُمُن (التحفة ص 102):والثُّمْنُ للزوجةِ والزوجاتِ *** مع البنین أو مع البناتِأو مع أولادِ البنین فاعلمِ *** ولا تظنَّ الجمعَ شرطاً فافهَمِومن الكتب القریبة من الفقه والشرع وصلتنا كُتب تعالج قضیة الإمامة فی الإسلام منذ وفاة الرسول () إلى عصر كاتبها. ومن تلك الكتب كتاب بعنوان (الأرجوزة المختارة) للقاضی النعمان (363ه). وقد حققها إسماعیل قربان حسین، ونشرها ضمن منشورات معهد الدراسات الإسلامیة فی (مونتریال) بكندا. وهذه الأرجوزة تلقی ضوءاً على موقف الفرق المختلفة من قضیة الإمامة والأدلة التی قدمتها كل فرقة، وتعدّ هذه الأرجوزة التی ألّفت فی أیام الخلیفة الفاطمی القائم بأمر الله من أقدم النصوص الفاطمیة فی الإمامة، وفی مطلعها یقول الناظم مثلاً:الحمد لله بدیعٌ ما خَلقْ *** عن غیر تمثیلٍ على شیء سبقْبل سبَقَ الأشیاء فابتداها *** خلقاً كما أراد إذ بَراهاومن كتب الفرق المنظومة شعراً "القصیدة الصوریة" التی ألَّفها الداعی الإسماعیلی الأجل محمد بن علی بن حسن الصوری، وحقَّقها عارف تامر، ونشرها فی نطاق منشورات المعهد الفرنسی للدراسات العربیة بدمشق عام 1955م. وهی كما قال ناشرها:"أقدم المصادر عن الإسماعیلیة، ومن أهم الرسائل التی تنطق بالحقائق، وتمثل العقائد أصدق تمثیل، ومن أحسن المراجع فی تاریخ قصص الأنبیاء وعدد الأئمة المنحدرین من الإمام علی بن أبی طالب حتى الإمام المستنصر بالله الفاطمی.. ولذلك كانت تتناقلها الدعاة ویحافظون على سریتها وعدم تسربها، ولیس بالغریب إذا قلت إن أكثرهم كان یحفظها غیباً بالنظر لاعتمادهم على بیانها الرائع وأصولها وفروعها، ومتانة أسلوبها وترتیبها".ومؤلف هذه القصیدة هو محمد بن علی بن حسن كانت مدینة (صور) مسقط رأسه، لذا نُسِب إلیها، وقد عاش ردحاً فی (طرابلس) داعیة للفاطمیین، وقام بالرحلة فی طلب العلم والحدیث. وقیل إنه سمع بالكوفة من أربعمئة شیخ، وهبط القاهرة فی عهد الإمام المستنصر بالله الفاطمی. واستوطن بغداد سنة 418ه، وقد توفی فیها سنة 441ه.والحقیقة أن هذه الأرجوزة الإسماعیلیة لیست الوحیدة فی تراثنا. فقد شاعت الأراجیز فی العهود الفاطمیة، واستعملت للدعایة وللتعبیر عن الموضوعات الفلسفیة والتعالیم العقائدیة- (انظر ص 17 من القصیدة الصوریة)، ولكی نعرف طریقة هذه المنظومات نسوق هنا مطلع القصیدة الصوریة، وهی فی باب القول بالحمد والاستفتاح (ص 23):الحمد لله مُعِلِّ العِللِ *** ومبدع العقل القدیم الأزلِأبدعه بأمره العظیمِ *** بلا مثالٍ كان فی القدیمِوصیَّر الأشیاء فی هویتهْ *** مجموعة بأسرها فی قدرتهْفهو لها أصل كریم یجمعُ *** فمنه تبدو وإلیه ترجعُسبحانه منْ ملكٍ دیَّانِ *** العقل والنفس له عبدانِجلَّ عن الإدراك فی الضمائرِ *** والوصف بالأعراض والجواهرِوفی مجال الفلاحة، نقرأ لسعد بن أحمد بن لیون التجیبی (750ه) أرجوزة تشمل (1300) بیت. نشرها فی غرناطة، عام 1975 (جواكینا أجوارس أبنیث). وقد كان ابن لیون التجیبی عالماً موسوعیاً له ولَعٌ باختصار الكتب، وتتلمذ على یدیه فی (المریة) من أعلام الأندلس ابن خاتمة الأنصاری، ولسان الدین بن الخطیب، وابن جعفر بن الزبیر، وابن رشید الفهری. وسمى (ابن لیون) أرجوزته "كتاب إبداء الملاحة وإنهاء الرجاحة فی أصول صناعة الفلاحة". وقد عدّد المؤلف فی كتابه هذا أركان الفلاحة شعراً، فكانت حسب قوله:هی الأراضی والمیاه والزبولُ *** والعمل الذی بیانه یطولُونراه یشیر إلى الأرض وما یحفظها أو یفسدها، فیقول مرتجزاً:الفول والترمس والكتَّانُ *** تحفظ الأرضَ وكذا الجلبانُوالدخن مُضعِف لها والجلجلانْ *** وما یكرَّر بها كل زمانْووَرَقُ الحِمِّصِ والكرْسنَّهْ *** مُفْسِدةٌ للأرضِ بالملوحهْونجده یشیر فی موضع آخر إلى أعمار الثمار والنبات فی نظره، فیقول معتمداً على أقوال (ابن بصَّال) و(الطغنری)، وهما عالمان فی الزراعة أیضاً:وعمرُ الزیتون مِنْ عدِّ السنینِ *** ثلاثة ألافٍ حینٌ بعدَ حینِوفی الصنوبرِ عن ابنِ بصَّال *** بمئتی عامٍ یقول استكمالوالطغنری قد قال: ما لا یسقطُ *** ورقُهُ، أعمرُ مما یسقطُوأكثرُ الثمارِ یبلغ المائهْ *** أو نحوها، وقد ترید تبقیهْوكل ما فی النشء منها یسرعُ *** فعمرُه أقصره لا یتَّسعُ(انظر مقال أمین توفیق الطیبی فی مجلة كلیة الدعوة الإسلامیة، طرابلس: كتب الفلاحة الأندلسیة- أرجوزة ابن لیون فی الفلاحة العدد 5، 6 ص 354 فما بعدها).وفی مجال الملاحة یقع الباحث على أراجیز كثیرة، فیطالع لابن ماجد (المتوفى بعد 904ه) الملقَّب بأسد البحر الذی أرشد قائد الأسطول البرتغالی (فاسكو داغاما) فی رحلته لاكتشاف طریق الهند من خلال رأس الرجاء الصالح، أرجوزة، اسمها "حاویة الاختصار فی أصول علم البحار". وقد نشر هذه الأرجوزة الأستاذ إبراهیم خوری بدمشق ضمن منشورات المعهد العلمی الفرنسی. یقول ابن ماجد فی تقدیم أرجوزته:یا أیها الطالبُ عِلمَ الیمِّ *** إلیك نظماً یا له من نَظمِفی العلم والهیئة والحسابِ *** وما هو استنبط للصوابِإن كنتَ ممن جدَّ فی العلومِ *** وذاكر الأستاذ كلَّ یومِیغنیك عن رهمانجات النّثرِ *** هذا الذی نظمتُه بالشعرِوفی میدان الریاضیات یمكن أن نشیر إلى أرجوزة (ابن الیاسمین) فی الجبر والحساب. وابن الیاسمین هو عبد الله بن الحجاج المعروف بابن الیاسمین. وهو من أهالی (فاس). وقد أفرغ علمه فی هذه الأرجوزة الشهیرة، وتوفی ابن الیاسمین عام (600ه). وقد ابتدأ ابن الیاسمین بوضع تعریف شامل وهام لمجال علم الجبر، فقال:على ثلاثة یدور الجبرُ *** المال والأعداد ثم الجَذْرُثم عرَّف المقصود بالمال فی البیت الثانی، فقال:فالمال كلُّ عددٍ مربَّعِ *** وجذرهُ واحد تلك الأضلُعِوالعدد عند (ابن الیاسمین) هو الشیء، أو العدد المجهول، ومربعه هو الكمال. وفی بعض أبیات الأرجوزة یقول:وضربُ كلِّ زایدٍ وناقصِ *** فی مثله زیادةٌ للفاحصِوضربُه فی ضدِّهِ نقصانُ *** فافهمْ هداكَ الملكُ الدیَّانُوقدم الأستاذ بدیع الحمصی بحثاً عن ابن الیاسمین وأرجوزته هذه فی الندوة العالمیة الثانیة لتاریخ العلوم عند العرب فی نیسان عام 1979م. وفی الظاهریة بدمشق سبع نسخ للأرجوزة وشروحها. ویذكر الأستاذ محمود الصغیری أن بالیمن فی (زبید) تحتفظ المكتبات الخاصة بعشرات النسخ من هذه الأرجوزة.انظر (قضایا فی التراث العربی- لمحمود الصغیری، دمشق 1981م ص 155).وفی میدان العلوم التطبیقیة كالكیمیاء والطب والصیدلة حفِل تراثنا العظیم بأراجیز كثیرة جداً، تناولت المعارف التی تنتمی إلى هذه العلوم. ففی مجال الكیمیاء ربما كان دیوان الأمیر العالم الشاعر الأموی خالد بن یزید (90ه) واسمه "الصنعة" هو أقدم ما أُلِّف شعراً فی علم الكیمیاء. وربما أهَّل هذا الدیوان صاحبه لأن یوصف بأنه الشاعر التعلیمی الأول فی التراث العربی. وقد ذكر حاجی خلیفة هذا الدیوان فقال یصفه:(فردوس الحكمة فی علم الكیمیاء لخالد بن یزید بن معاویة الأمیر الحكیم. منظمة فی قوافٍ مختلفة وعدد أبیاتها ألفان وثلاث مئة وخمسة عشر بیتاً، أولها:الحمدُ للهِ العلیِّ الفردِ *** الواحدِ القهَّار ربِّ الحَمْدِیا طالباً بوریسطس الحكماءِ *** خُذْ منطقاً حقاً بغیر خفاءِ(كشف الظنون 1254-1255).ویمكن أن نضیف إلى هذا الدیوان، دیواناً آخر لأبی الحسن علی بن موسى الأنصاری المعروف بابن أرفع رأس (593ه) اسمه "شذور الذهب فی صناعة الكیمیاء". وهو دیوان شعری مرتّب على الحروف، شرحه أیدمر بن علی الجلدكی وسمى الشرح "غایة السرور"، وخمَّسه شرف الدین محمد بن موسى القدسی الكاتب (المتوفى سنة 712ه) تخمیساً حسناً- (انظر كشف الظنون 1027). وقد أضاف الأستاذ رزوق فرج رزوق أن عدد منظوماته فی مخطوطة جامعة برستن بالولایات المتحدة 43 منظومة یبلغ مجموع أبیاتها 1487 بیتاً. وعدد منظوماته فی مخطوطة كلیة الآداب بجامعة بغداد 42 منظومة یبلغ مجموع أبیاتها 1431 بیتاً. (انظر مجلة المورد- بغداد 1990- مج19 العدد الأول ص 213).ومن المعروف أیضاً أن الرازی أبا بكر محمد بن زكریا (313ه/ 925م)- (جالینوس العرب)، وهو من أكابر الكیمیائیین والأطباء العرب، نقل (كتاب الآس) لجابر إلى الشعر، وله قصیدة فی المنطقیات، وقصیدة فی العظة الیونانیة (الفهرست ط تجدد- ص 359). وله أیضاً أرجوزة فی الطب ذكرتها هیا محمد الدوسری فی كتابها "فهرس المخطوطات الطبیة المصورة- الكویت، 1984، ص 27" أولها:الحمد لله الذی بَرانا *** وركَّب العقول والأذهاناومنَّ بالسّماعِ والإبصارِ *** یهدی لها من ذا اعتبارِوآخرها:أما له مُعتبرُ فی نفسهِ *** كیف یصیر جسمه فی رمسِهِبعد النعیمِ جیفةً نتینهْ *** ونفسه بما جنَت رهینهْحتى تؤدیه إلى دار البقا *** والخلدِ إما فی نعیمٍ أو شقاوقد نسخت هذه الأرجوزة عام 1054ه، وتقع فی 8 ورقات، وهی فی (مكتبة جستر بیتی- 5244 مجموع).ومن المعروف أن للرازی أیضاً كتباً كثیرة منها- عدا الحاوی، والمنصوری، والطب الروحانی- كتاب "برء الساعة" وقد حوّل هذا الكتاب إلى أرجوزة محمد بن إبراهیم بن یوسف الحنبلی (971ه) وأعطاها عنوان "الدرر الساطعة فی الأدویة القاطعة". وهی فی 135 بیتاً، وذكر ذلك عمر رضا كحالة فی كتابه: (معجم المؤلفین 8: 223).أما ابن سینا الشیخ الرئیس (428ه)- (بقراط العرب) وشیخ أطبائهم، فقد ألَّف كتاب "القانون فی الطب" الذی ظل مرجعاً أساسیاً لطلبة الطب فی الشرق والغرب حتى أواخر القرن الماضی، ابن سینا هذا ارتأى أن یلخّص المعلومات الطبیة التی وعاها وخبرها وتمرِّس بها فی أرجوزة شعریة تسهیلاً لحفظها، ولینتفع بها تلامذته فی كل مكان وزمان. لذا أنشأ "أرجوزته فی الطب" وهی أرجوزة تقع فی ما یزید على /1300/ بیت.وقد أثَّرت تلك الأرجوزة كثیراً فی تدریس الطب فی المشرق العربی وفی المغرب والأندلس. وكانت عمدة أساتذة الطب لسنین طویلة، وشُرحت كثیراً وعُلِّق علیها، وعورضت واستدرك علیها، وممن استدرك علیها هارون بن اسحق المعروف بابن عزرون، وذلك فی أرجوزته فی الحمیات والأورام، فقد ذكر ابن عزرون أن ابن رُشد قد لاحظ تقصیر أرجوزة ابن سینا فی ذكر الحمّیات والأورام؛ فحفزته تلك الملاحظة على نظم أرجوزة فی هذا الباب... وأكمل محمد بن قاسم بن محمد الفاسی (1120ه) الأرجوزة السینویة بأرجوزة سمَّاها "الدرة المكنوزة فی تذییل الأرجوزة". ومما قاله ابن سینا فی أرجوزته:بدأتُ باسمِ اللهِ فی النَّظْمِ الحَسَنْ *** أذكُر ما جرَّبتُه طولَ الزَّمَنْوفی موضع آخر یقول ابن سینا:الطِّبُّ حِفظُ صحة بُرء مَرَضْ *** من سَبَب فی بِدنٍ عنْهُ عرَضْقِسمتُه الأولى لعِلْمٍ وعمَلْ *** والعِلمُ فی ثلاثةٍ قدِ اكتملْسبعُ طبیعاتٍ من الأمورِ *** وستةٌ وكلُّها ضروریثم ثلاثٌ سُطِّرت فی الكتبِ *** مِن مرَضٍ وعرَضٍ وسبَبِوقد طبعت أرجوزة ابن سینا. ومنها نسخ مخطوطة كثیرة فی الظاهریة- (انظر فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهریة- الطب والصیدلة 1/450).ولابن سینا أیضاً أرجوزة فی التشریح (انظر فهرس مخطوطات الظاهریة- الطب والصیدلة 2/342). وقد شرح ابن رشد (595ه) منظومة ابن سینا هذه. ومن هذا الشرح نسخة مخطوطة فی الظاهریة (فهرس الطب والصیدلة ص 441)، ومنها نسخة مصورة عن مكتبة جستر بیتی (رقم 3993) فی الكویت تقع فی 130 ورقة- (انظر فهرس المخطوطات الطبیة المصورة السابق الذكر- ص 115).وكذلك شرح هذه الأرجوزة محمد بن إسماعیل بن محمد المتطبِّب (ت بعد 988ه). وهو شرح یقع فی 180 ورقة. وعنوانه: "التوفیق للطبیب الشقیق". ومنه نسخة بخط المؤلف فی دار الكتب الوطنیة بتونس (انظر فهرس المخطوطات الطبیة المصورة فی قسم التراث- الكویت 1984، ص 63). و(فهرس دار الكتب الوطنیة تونس 1/8). وانظر (9) أراجیز لابن سینا ذكرها رزوق فرج رزوق فی (مجلة المورد مج 19 العدد الأول لعام 1990 ص 210-211).ونظم أبو عبد الله محمد بن العباس بن أحمد الدنیسری (686ه) أرجوزة فی نظم "مقدمة المعرفة" لبقراط، وأرجوزة فی الدریاق الفاروقی (انظر فوات الوفیات 2: 440) و(هدیة العارفین 2: 136). وكذلك نظم داود بن عمر الأنطاكی (1008ه) ألفیة فی الطب. كما نظم "القانون فی الطب" لابن سینا وشرَحه (انظر كشف الظنون 1313) و(هدیة العارفین 1: 362). والحقیقة أن المنظومات الطبیة كثیرة جداً ولم نذكر منها إلا غیضاً من فیض، وذلك لأن الاستقصاء هنا لیس غرضنا.وإذا تركنا الطب وانتقلنا إلى الفلك، نجد أن العرب قد أحرزوا فی هذا العلم إنجازات عظیمة، ولیس أدل على ذلك من احتواء اللوحة التی وضعها (نیل آرمسترونغ)- أول إنسان وطئت قدماه أرض القمر- على اسم (البتَّانی)، وهو عالم فلكی سوری من الرقة عاش فی القرن الرابع الهجری، وذلك تقدیراً لجهود هذا العالم فی علم الفلك، وإجلالاً لما صنعه فی زمانه من زیجات فلكیة صحیحة. ومن المعروف فی هذا الباب أن لأبی الحسن علی بن أبی الرجال (بعد 432ه) أرجوزة فی الأحكام الفلكیة، وهی مطبوعة- (مجلة المورد مج 19 ع1 لعام 1990 ص 211).ونطالع فی (كشف الظنون ص 1345) ذِكْر قصیدة فی النجوم مزدوجة طویلة ألّفها أبو عبد الله محمد بن إبراهیم الغراوی.وكذلك ذكر د. رزوق فرج رزوق أن محمد بن إبراهیم بن محمد الأوسی المعروف بابن رقام (715ه) له منظومة فی العمل بالاسطرلاب (انظر مجلة المورد مج2 ع1 ص 218).ومن المعروف أن الاسطرلاب آلة فلكیة. كذلك لعبد الواحد بن محمد بن محمد المشهدی (838ه) منظومة فی الاسطرلاب. انظر (هدیة العارفین 1: 632).وفی (كشف الظنون) أیضاً عرفنا أن شرف الدین أحمد بن ادریس بن یحیى الماردینی (728ه) قد ألّف "نظم الدرر فی معرفة منازل القمر"، رتبه على عشرة أبواب كلها منظومة. انظر (كشف الظنون ص 1963).وكذلك نطالع لرضی الدین أبی الفضل محمد بن محمد بن أحمد الغزی (935ه) ألْفیة فی علم الهیئة، وهو علم الفلك ذاته. (انظر مجلة المورد مج 20 ع1 لعام 1992 بغداد ص 133).ولفخر الدین محمد بن مصطفى بن زكریا الدوركی (713ه) قصیدة فی النجوم (هدیة العارفین 2:142-143).وفی میدان التاریخ ألَّف أسعد بن البطریق النصرانی (357ه) كتاباً بعنوان: "نظم الجواهر فی أخبار الأوائل والأواخر" انظر (إیضاح المكنون 2: 658).ونقع فی كتاب (هدیة العارفین) على غیر إشارة إلى منظومات فی التاریخ منها مثلاً أن محی الدین عبد الله بن عبد الطاهر السعدی الجذامی الروحی (692ه) قد نظم سیرة السلطان الظاهر بیبرس (هدیة العارفین 2: 137).وكذلك نظم شهاب الدین محمد أمین الخولی (693ه) سیرة ابن هشام (هدیة العارفین 1/581) و(كشف الظنون 492، 1012).وذكر الزركلی أن عبد الملك بن أحمد الأرمنتی (722ه) قد نظم (تاریخ مكة) للأزرقی على شكل أرجوزة (الأعلام 4: 301).ونظم صلاح الدین خلیل بن ایبك الصفدی (764ه) أرجوزة تاریخیة وشرَحها، وهی بعنوان: "تحفة ذوی الألباب فیمن حكم دمشق من الخلفاء والملوك والنواب" وقد طبع هذه الأرجوزة صلاح الدین المنجد، وفیها یقول مثلاً محدثاً عن محتوى كتابه بعد حمد الله وشكرانه:وبعد، فالمقصود من ذا الرَّجَزِ *** حُسنُ البیان فی كلامٍ موجزِأذكرُ فیه الخُلَفا والأمرا *** على دمشق نسَقاً كما ترىلكنَّه على الحروف رتَّبهْ *** فضیَّعَ المقصود منه واشتبهْولم یصل إلا لنور الدینِ *** وعاقَ ذاك واردُ المنونِوقد ذكرت مَنْ أتى مِن بعدهِ *** لیومنا فاستجلِ دُرَّ عِقْدهِومن الجدیر بالذكر أن المؤلف نفسه قد شرح أرجوزته فی كتاب حمل العنوان ذاته، وقد طبع بدمشق عام 1992 فی جزءین بتحقیق إحسان بنت سعید خلوصی، وزهیر حمیدان الصمصام.ویمكن أن نضیف فی هذا المجال الأرجوزة التی نظمها تاج الدین الحسن بن راشد الحلی (نحو 830ه) وعنوانها "تاریخ الملوك والخلفاء"، وأرجوزة للمؤلف ذاته، وهی تحمل عنوان: تاریخ القاهرة (الأعلام 2: 204).والأرجوزة التی فی تاریخ المعتضد بالله، وهی مطبوعة، وقد ألَّفها أبو العباس عبد الله بن محمد الناشئ المعروف بابن شرشیر (293ه).ونظم عبد العزیز بن أحمد بن سعید الدمیری المعروف بالدیرنی (694ه) سیرة ابن هشام شعراً (انظر هدیة العارفین 1: 581).والحقیقة أن هذا التقلید التراثی أعنی التألیف بالشعر، لم یندثر، بل استمرت نماذجه فی مجرى الثقافة العربیة تطالعنا بین الفینة والأخرى وإن قلّت، بوضوح، عما كانت علیه فی القدیم. وقد راح بعض الشعراء فی أیامنا هذه یستعرضون قدراتهم على النظم فی تألیف بعض الكتب. ومن هؤلاء الشاعر السوری (أحمد الجندی) رحمه الله الذی ألَّف كتاباً بعنوان "قصة المتنبی شعراً". وقد طبعها فی بغداد عام 1973، ثم أعاد طبعها فی دمشق بدار طلاس. وفی هذا الكتاب الشعری یؤرخ (أحمد الجندی) بالشعر لحیاة أبی الطیب المتنبی شاعر العربیة الأكبر، ومالئ الدنیا وشاغل الناس، وإذا فتحنا كتاب الجندی وجدناه یقول (فی ص 7 طبعة بغداد) مثلاً:مرَّ فی خاطر الزمان ولیدُ *** عبقریُّ السماتِ عالٍ فریدُأسمرُ الوجهِ كالمساء جلالاً *** أسودُ العین، باهرٌ ممدودُموجةٌ من رجولةٍ فوق بحرٍ *** یتمطَّى تیاره العربیدُفإذا الشاعرُ العظیمُ حدیثٌ *** یتغنَّى، ونشوةٌ، وقصیدُثم یضیف فی (ص 13) على لسان شاعرنا العظیم، كاشفاً عن بعض سجایاه وخاصائصه:لا أرانی أعیش فی هذه الأر *** ضِ فنفسی یضیقُ عنها زمانیإننی شاعرُ العروبة ضوئی *** ملأَ الأرض بالمنى والأمانیوبشعری سار الزمان وغنى الرَّ *** كبُ فی البیدِ مُطرباتِ الأغانیوبعد، فإننا نخلص من خلال العرض الموجز السابق إلى نتائج نصوغها على النحو التالی:1-إن التألیف بالشعر عند العرب كان قد بدأ مع فجر عهدهم بالتدوین والتصنیف، وبعبارة أخرى منذ القرن الهجری الأول، وحتى أیام الناس هذه، ومن المعروف هنا أننا نرید نظم المعارف والعلوم، ولا نقصد إبداع المسرح الشعری الذی یشكل نسقاً معرفیاً آخر.2-إن بحر الرجز لم یكن البحر الوحید الذی ركبه المؤلفون فی مؤلفاتهم الشعریة، فهناك بحور أخرى كالبسیط وغیره من البحور، نظمت علیها ألوان من المعارف متباینة. وقد كان بحر الخفیف مثلاً هو بحر أشعار المرحوم أحمد الجندی التی مثّلنا بها قبل قلیل.3-إن العرض السابق، على وجازته، وعلى الرغم من أنه جاء للتمثیل والتدلیل، لا للاستیفاء وللاستقصاء یدل على أن هذا الباب واسع جداً، وأنه تناول مختلف جوانب المعرفة، وثمة جوانب أخرى لم نعرض لنماذج لها فیما تقدّم. وهذا إن دل على شیء، فإنما یدل على مواهب العرب الشعریة الغزیرة، وعلى أثر الشعر فی نفوسهم كما یدل على عظیم عطائهم التصنیفی، وهو عطاء یكاد المرء یزعم أن الأمة العربیة لا تضاهیها فیه أیة أمة على وجه هذه البسیطة.مصادر البحث ومراجعه:-ابن الأنباری، محمد بن القاسم، قصیدة فی مشكل اللغة، دمشق 1989 (مستل من مجمع اللغة العربیة بدمشق).-ابن خملیون، محمد بن خلیل: التحفة فی علم المواریث، تحقیق السائح علی حسین- لیبیا، طرابلس 1990.-ابن رشیق: العمدة فی صناعة الشعر ونقده، تحقیق محمد محی ا لدین عبد الحمید، بیروت 1974- ط4.-ابن ماجد: حاویة الاختصار فی أصول علم البحار، تحقیق إبراهیم الخوری، منشورات المعهد الفرنسی للدراسات العربیة بدمشق.-ابن الندیم: الفهرست، تحقیق رضا تجدد، بیروت 1971.-البغدادی: هدیة العارفین، بیروت، دار الفكر 1982.-الجندی، أحمد: قصة المتنبی شعراً، بغداد 1973.-حمصی، أسماء: فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهریة- علوم اللغة العربیة- دمشق 1973.-خلیفة، بدیری: نظم متن الآجرومیة، مقال فی مجلة كلیة الدعوة الإسلامیة، لیبیا، طرابلس، العدد السادس لعام 1989.-خلیفة، حاجی: كشف الظنون عن أسامی الكتب والفنون، بیروت، دار الفكر 1982.-الخیمی، صلاح: فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهریة، الطب والصیدلة، دمشق 1981.-الدوسری، هیا محمد: فهرس المخطوطات الطبیة المصورة بقسم التراث، الكویت 1984.-رزوق، فرج رزوق: الشعراء التعلیمیون والمنظومات التعلیمیة، مقال فی مجلة المورد العراقیة، المجلد 19، العدد الأول، والمجلد 20، العدد الأول، بغداد 1992.-الزركلی، خیر الدین: الأعلام، بیروت، ط5، 1980.-الصغیری، محمود: قضایا فی التراث العربی، دمشق 1981.-الصفدی، خلیل بن ایبك: تحفة ذوی الألباب فیمن حكم دمشق من الخلفاء والملوك والنواب، تحقیق إحسان خلوصی، وزهیر حمیدان الصمصام، دمشق 1992.-الصوری، محمد بن علی بن حسن: القصیدة الصوریة، تحقیق عارف تامر، منشورات المعهد العلمی الفرنسی للدراسات العربیة، دمشق 1955.-الصولی، أبو بكر: الأوراق، تحقیق ج. هیورث، بیروت، ط2، 1979.-الطیبی، أمین توفیق: كتب الفلاحة الأندلسیة، مقال فی مجلة كلیة الدعوة الإسلامیة، العدد 6، طرابلس، لیبیا 1989.-الكتبی، ابن شاكر: فوات الوفیات، تحقیق إحسان عباس، بیروت.-كحالة، عمر رضا: معجم المؤلفین، بیروت، دار إحیاء التراث العربی، د.ت.-محمد بن محمد، بدر ا لدین: زبدة الأقوال فی شرح قصیدة أبنیة الأفعال، تحقیق ناصر حسین علی، دمشق 1992.-القاضی، النعمان: الأرجوزة المختارة، تحقیق إسماعیل قربان حسین، مونتریال، كندا.-الیازجی، ناصیف: الجمانة فی شرح الخزانة، بیروت 1872.

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:22|
وحشیات أبی تمام

بدأت فكرة الاختیارات الشعریة منذ العصر الأموی بدوافع متفاوتة الأهمیة مختلفة المقاصد، فمنها ما یتصل بالنزوع القبلی وما یقتضیه من ضرورة الحرص على مآثر القبیلة وفضائلها وتخلید مكارمها، وهذا لا یكون إلا بجمع أشعارها المتفرقة والحفاظ على دواوین شعرائها إن كانوا من المكثرین، فقد ذكر صاحب "الفهرست" أن الشیبانی جمع أ شعار أكثر من ثمانین قبیلة، وأن السكری جمع أشعار ذهل وشیبان وكنانة وغیرها من القبائل، كما جمع دواوین امرئ القیس والفرزدق وغیرهما من الشعراء، ومنها ما یتصل بالتأدب الخلقی العام وما یستتبع من تعلیم الفصاحة والبیان وتربیة النشء على مآثر الأجداد وفضائلهم، ومن هذا النوع كتاب المفضلیات الذی جمعه المفضل الضبی مؤدب المهدی بن المنصور، فأشار علیه المنصور بأن یختار لكل شاعر أجود ما قال، فأنفذ المفضل إشارته فكانت المفضلیات(1)، ثم تلا تلو المفضل الضبی فی هذا النهج عبد الملك بن قریب الأصمعی فصنع الأصمعیات، وأبو زید القرشی فصنع جمهرة أشعار العرب، ومنها ما یتصل بالخوف على اللغة بعد اتساع الدولة وتمازج الشعوب من أ ن تشوبها العجمة فتذهب بفصاحتها وصفائها، فنهض العلماء یثبتون قواعد اللغة والنحو مؤیدة بما وصل إلیهم من فصیح الشعر جاهلیه ومخضرمه، ولولا القرآن الكریم وهذه المجموعات الشعریة لاختلت موازین اللغة وضعفت السلائق وحار الدلیل.

على أن هذه الاختیارات بالإضافة إلى المعلقات لم تكن إلا أشتاتاً مختلطة من جیاد القصائد وروائع المقطعات لا تقوم على وحدة تقصد ولا نسق یراد، إلى أن جاء أبو تمام شاعر العربیة الكبیر فوضع دیوان الحماسة، فكان أول اختیار یقوم على التصنیف والتبویب ویعتمد على الفنون الشعریة الرائجة التی بلغت فی ذلك العصر غایة الامتیاز والوضوح، ثم اتبعه بالوحشیات وهو الحماسة الصغرى  التی سنقف عندها بعد قلیل.

وكأن فكرة الحماسة قد راقت عدداً من الأدباء بعد شیوعها وانتشارها وتبین أهمیتها، فنهضوا یقلدونها ویؤلفون على غرارها كتباً سموها الحماسة أیضاً جمعوا فیها ما تناثر من القصائد والمقطعات التی تجمع شرف المعنى وسمو المقصد ونادر الغرض إلى براعة الأداء وجمال العبارة وحسن التعبیر، حتى بلغت هذه الحماسات عشراً هی بحسب تتابعها الزمنی: "حماسة البحتری، وحماسة أبی بكر بن المرزبان، وحماسة أحمد بن فارس القزوینی، والحماسة العسكریة لأبی هلال العسكری، وحماسة الظرفاء من أشعار المحدثین والقدماء لأبی محمد عبد الله العبدلكانی الزوزنی، وحماسة الأعلم الشنتمری، والحماسة الشجریة لهبة الله العلوی بن الشجری، والحماسة البصریة لصدر الدین البصری، والحماسة المغربیة لأحمد بن عبد السلام الجراوی والحماسة للعباس بن علی البغدادی النجفی"(2).

على أن هناك مجموعات أخرى من المنتخبات والمختارات بلغت الثلاثین تقریباً لم تلتزم بتسمیة الحماسة وكان لها الفضل فی جمع الشعر العربی وحفظه إذ لا تزال مصدراً من المصادر التراثیة الوافیة.

وهذه الحماسة منها ما التزم أو قارب الالتزام بمنهج أبی تمام فی تقسیمه حماسته وتسمیة أبوابها، ومنها ما شذ عنه شذوذاً بعیداً ونحا نحواً وفقاً لقواعد ذوقیة أو أسس فكریة خاصة، فإذا كان أبو تمام قد جعل حماسته فی عشرة أبواب هی: باب الحماسة فالمراثی فالأدب فالتشبیب فالهجاء فالأضیاف والمدیح فالصفات فالسیر والنعاس فالملح فمذمة النساء فإن الشاعر البحتری قد فصل وأوسع فجعل حماسته فی مئة وأربعة وسبعین باباً، وأن ابن الشجری قد جعل حماسته فی خمسة عشر باباً وعشرین فصلاً، أما الوحشیات فقد جاءت مطابقة فی عدد أبوابها وتسمیاتها للحماسة الكبرى، مع تغییر طفیف لتسمیة الباب الثامن وهو باب السّیر والنعاس، إذ أطلق علیه أبو تمام فی الوحشیات باب المشیب.

ولقد طارت شهرة الحماسة فی الآفاق وانتزعت إعجاب القدماء من رجال الأدب واللغة، وتناصرت الآراء على أهمیتها حتى "وقع الإجماع من النقاد على أنه لم یتفق فی اختیار المقطعات أنقى مما جمعه أبو تمام(3)"، كما حكى الصولی أنه سمع المبرد یقول: سمعت الحسن بن رجاء یقول: ما رأیت أحداً قط أعلم بجید الشعر قدیمه وحدیثه من أبی تمام"(4)، ونقل التبریزی "أن أبا تمام فی اختیاره الحماسة أشعر منه فی شعره"(5)، بل أن كتاب الحماسة أصبح مضرب المثل فی الحسن والإتقان، فهذا البیهقی یترجم للقبیصی أحد علماء الفلك فی عصر سیف الدولة ویثنی على كتابه "المدخل إلى علم النجوم" فیقول "وهو فی كتب النجوم مثل كتاب الحماسة بین الأشعار".

فكان لابد للحماسة بعد ذلك أن یشمر للعنایة بها وشرحها عدد من العلماء اختلفت مذاهبهم وتنوعت اتجاهاتهم واهتماماتهم، فمنهم من شغلته المعانی الشعریة فأقبل یفسرها ویوضحها، ومنهم من قصر شرحه على مسائل الإعراب أو اللغة، ومنهم من تتبع النصوص فذكر الأخبار والأسباب التی قیل من أجلها الشعر، ومنهم من وقف شرحه على تصحیح نسبة الأبیات إلى أصحابها مع العنایة ببیان اشتقاق أسمائهم، فلا غرابة إذا رأینا الأستاذ فؤاد سیزكین یحفظ لنا فی سفره الجلیل "تاریخ التراث العربی" أسماء هذه الشروح التی بلغت ستة وثلاثین شرحاً(6)، على أن شرحی المرزوقی فالتبریزی یعدان من أوسع هذه الشروح وأبعدها شهرة وانتشاراً.

أما الوحشیات أو الحماسة الصغرى فلم تنل ما نالته الحماسة الكبرى من الحظوة والإقبال، ولم یلتفت إلیها العلماء بالشرح والدراسة، وقد یعزیها بعض العزاء أن أدیباً كبیراً فی عصرنا الحاضر هو الأستاذ عبد الله الطیب قد أصدر مجموعة مختارة من الشعر العربی أطلق علیها اسمه "الحماسة الصغرى"، والأشد من ذلك أن كتاب الوحشیات لم یأت على ذكره أحد من رجال الأدب القدماء إلا التبریزی فی مقدمة شرح الحماسة، والقاضی الباقلانی فی كتابه إعجاز القرآن: 177، والعینی فی شرح شواهد الألفیة بهامش الخزانة: ب 2: 404، أو لعله ذكر فی مواضع أخرى لم تكتشف بعد(7)، هذا مع أن أبا تمام قد اختاره كما یقول ناسخه البوازیجی بعد اختیاره كتاب الحماسة الكبرى ولم یروه، ولكن وجد بعده مكتوباً فی مسودة بخطه مترجماً بكتاب الوحشیات.

إلا أن الزمان أبى إلا أن ینتصف للوحشیات وینتشلها من مغاور النسیان أو الإهمال لترى النور زاهیة بهیّة فی إخراجها أنیقة فی طباعتها، إذ أتیح لها عالم جلیل ومحقق ثبت عرف بالغیرة على التراث الأدبی هو الأستاذ عبد العزیز المیمنی الراجكوتی أستاذ اللغة العربیة فی جامعة علّیكره- الهند، فقد حقق أبیاتها تخریجاً وضبطاً، وأشار إلى أصولها فی كتب الأدب ومجامیع الشعر، ورد بعض مقطعاتها إلى أصحابها، وذكر ما فیها من خلاف فی الروایة بعد سبر لغور معانیها بمسبار الفهم والرویة، معتمداً فی ذلك كله على نسخة فریدة فی دار الكتب المصریة مصورة عن الأصل المحفوظ بكتبخانة السلطان أحمد الثالث فی استنبول، ثم نهض علامة هذا العصر المحقق الأستاذ محمود شاكر فزاد فی حواشیها بما عنّ له من إشارات علمیة وتنبیهات ذكیة ومن بعض الشروح العارضة لغوامض الألفاظ التی تغنى النص وتزیده جلاءً ووضوحاً، ثم أعید النظر فی العمل بعد تمامه والفراغ منه فاستدرك العالمان الجلیلان على الحواشی ما یمكن أن یضاف إلیها من حصیلة المراجعة والتقلیب فی المصادر الأدبیة بعد رویة وأناة، وألحقا هذا المستدرك فی آخر الكتاب، ثم أتبعاه بخمسة فهارس تفصیلیة تعین أولی البحث والدراسة، فاجتمع بذلك جهد إلى جهد، وفضل إلى فضل، ثم دفعا الكتاب إلى دار المعارف فی مصر فظهر فی العدد الثالث والثلاثین من سلسلة ذخائر العرب سنة ثلاث وستین وتسعمائة وألف.

ومع ذلك فإن منهج العمل فیه ظل قائماً على التحقیق والضبط وتقدیم النصوص الشعریة على صورتها المثلى، وهو بعد بحاجة إلى مزید من الشرح والتفسیر والإیضاح مما یتمم العمل ویقاربه من حدود الكمال(8).

فلنرجع إلى ذلك الزمان ولندع التبریزی فی مقدمة شرحه للحماسة یحدثنا عن الظروف والملابسات التی أدت إلى تألیف هذین الكتابین.

یقول التبریزی: "وكان سبب جمع أبی تمام الحماسة أنه قصد عبد الله بن طاهر وهو بخراسان فمدحه... وعاد من خراسان یرید العراق، فلما دخل همذان اغتنمه أبو الوفاء بن سلمة فأنزله وأكرمه، فأصبح ذات یوم وقد وقع ثلج عظیم قطع الطریق ومنع السابلة، فغم أبا تمام ذلك وسر أبا الوفاء، فقال له: وطن نفسك على المقام، فإن هذا الثلج لا ینحسر إلا بعد زمان، وأحضر خزانة كتبه فطالعها واشتغل بها وصنف خمسة كتب فی الشعر منها كتاب الحماسة والوحشیات وهی قصائد طوال فبقی كتاب الحماسة فی خزائن آل سلمة یضنون به ولا یكادون یبرزونه لأحد حتى تغیرت أحوالهم، ثم ورد همذان رجل من أهل دینور یعرف بأبی العواذل فظفر به وحمله إلى أصبهان، فأقبل أدباؤها علیه ورفضوا ما عداه من الكتب المصنفة فی معناه، فشهر بهم، ثم فیمن یلیهم(9).

أما بقیة خمسة الكتب التی ذكرها التبریزی لأبی تمام عدا الحماستین فهی كتاب اختیار الشعراء الفحول أو فحول الشعراء "تلقط فیه محاسن شعر الجاهلیة والإسلام فأخذ من كل قصیدة شیئاً، حتى انتهى إلى إبراهیم بن هرمة"(10)، وكتاب الاختیار من أشعار القبائل، یقول الآمدی عنه: "اختار فیه من كل قبیلة قصیدة وقد مر على یدی هذا الكتاب"(11)، وكتاب نقائض جریر والأخطل الذی ثبت أنه منسوب إلیه خطأ.

لقد كان أبو تمام إذاً واحداً من الأعلام الأفذاذ فی الشعر والأدب، التقت فی شخصیته الأدبیة تیارات ثقافیة متنوعة كان المجتمع العربی إبان العصر العباسی یتفتح علیها ویغتنی بكنوزها، فنهل من الثقافة العربیة علوم القرآن والحدیث واللغة والمنطق وعلم الكلام، بالإضافة إلى الموروث الشعری الذی جمع ألوان الحكمة وفنون البیان، ونهل من الثقافة الیونانیة الفكر الفلسفی بما فیه من جدل عقلی ومطارحات ذهنیة، فظهر ذلك كله جلیاً فی مذهبه الشعری من حیث احتفال شعره بالمعانی المكثفة مما یحتاج إلى استنباط وشرح وتفسیر، فخرج بذلك عن مذهب الطبع والعفویة إلى مذهب الصنعة والتحكم العقلی، وتروی كتب الأدب أنه كان رجلاً یعد لمواهبه كل ما تحتاجه من خبرة علمیة ومعرفة فكریة، فغری بالكتب والمطالعة وعمق صلته بكل ما یمت إلى فن الشعر ویقوی الملكة ویرفد الموهبة، یقول ابن المعتز وهو یترجم لأبی تمام فی طبقاته: "حدثنی أبو الغصن محمد بن قدامة قال: دخلت على حبیب بن أوس بقزوین وحوالیه من الدفاتر ما غرق فیها فما یكاد یرى، فوقفت ساعة لا یعلم بمكانی لما هو فیه، ثم رفع رأسه فنظر إلی وسلم علی، فقلت له: یا أبا تمام، إنك لتنظر فی الكتب كثیراً وتدمن الدرس، فما أصبرك علیها! فقال: والله مالی إلف غیرها ولا لذة سواها، وإنی لخلیق أن أتفقدها أن أحسن، وإذا بحزمتین واحدة عن یمینه وواحدة عن شماله، وهو منهمك ینظر فیها ویمیزهما من دون سائر الكتب، فقلت: فما هذا الذی أرى من عنایتك به أوكد من غیره؟ قال: أما التی عن یمینی فاللات، وأما التی عن یساری فالعزى أعبدهما منذ عشرین سنة، فإذا عن یمینه شعر مسلم بن الولید صریع الغوانی وعن یساره شعر أبی نواس".

وهذا الخبر یجد ما یؤیده فی قول الآمدی: "فهذه الاختیارات تدل على عنایته بالشعر، وأنه اشتغل به وجعله وكده، واقتصر من كل الآداب والعلوم علیه، وأنه ما فاته كثیر من شعر جاهلی ولا إسلامی ولا محدث إلا قرأه وطالع فیه"(12).

أما تسمیة الكتاب بالوحشیات فلأنه ضم بین دفتیه شوارد من الشعر ومقطعات منها ما عرف قائلوها، وإن كانوا من المغمورین المقلین من شعراء الجاهلیة والعصر الإسلامی، ومنها ما ظل غفلاً من النسبة لم یعرف قائلوها، فكأن قارئها لم یأنس بها من قبل ولم تلامس سمعه ولم تسترع نظره، وإن كانت للمشهورین المعروفین من الشعراء، ففیها نقع على أبیات لعمر وبن معد یكرب وبشار بن برد والفرزدق وجریر وكثیر عزة وأبی نواس ومسلم بن الولید والمجنون وأبی العتاهیة.

وأما تسمیته بالحماسة الصغرى فلأنه لا یختلف عن كتاب الحماسة منهجاً وتبویباً، فكلاهما اختیار موسع لا یقف عند قبیلة واحدة أو شاعر واحد، وإنما یجمع من الشعر ما ینهض شاهداً على ذوق أبی تمام وعمق فهمه لفن الشعر ودوره فی الحیاة الإنسانیة، ولاسیما فی حیاة العرب الذین لم یكن لهم فن سواه، فكان مستودع أحلامهم ومستقر تصوراتهم، على أن الوحشیات أضیق حجماً من الحماسة وأقل عدد مقطعات، فإذا كانت الحماسة الكبرى قد بلغت نحواً من ثمانمئة وإحدى وثمانین مقطوعة فإن الوحشیات قد بلغت خمسمئة وثلاث مقطوعات، إلا أن باب الحماسة من الأبواب العشرة قد جاء فی مئة وتسع وتسعین وحشیة، وذلك لأن هذا الباب أوسع من غیره فی الشعر العربی بشكل عام.

"ولكن العجب كل العجب من التبریزی حین وصف الوحشیات بأنها قصائد طوال، وهذا ما یجعلنا نشكك فی اطلاعه علیها"(12)، إذ هی فی الغالب الأعم تتراوح عدة أبیات المقطوعة منها بین البیت الواحد وعشرة الأبیات، ولم یكد یخرج عن هذا العدد إلا أربع قصائد بلغ أطولها سبعة وأربعین بیتاً والثانیة خمسة وثلاثین بیتاً والثالثة خمسة وعشرین بیتاً والرابعة عشرین بیتاً.

ویتبین من البحث فی هذه المقطعات ما یلی:

1-إن أبا تمام كان یكتفی أحیاناً بإیراد عدد محدد من الأبیات ینتقیها من قصیدة تروى فی كتب الأدب تكون عدة  أبیاتها أكثر مما جاء فی الوحشیات، فنراه یروی لخلف الأحمر بیتین یهجو فیهما قوماً فیقول:

أناس تائهون لهم رواء                 تغیم سماؤهم من غیر وبلِ

إذا انتسبوا ففرع من قریش          ولكن الفعال فعال عُكلِ

والأبیات سبعة رویت فی عیون الأخبار وغیره من كتب الأدب، كما یروی ثلاثة أبیات للعتبی یرثی بها أولاده الستة الذین فقدهم فیقول:

وكنت أبا ستة كالبدور               فقد فقؤوا أعین الحاسدینا

فمرّوا على حادثات الزمان           كمرّ الدراهم بالناقدینا

وحسبك من حادث بامرئ           ترى حاسدیه له راحمینا

وهی اثنا عشر بیتاً فی عیون الأخبار أیضاً.

وهذا الانتقاء یدل لدى الفحص على أن أبا تمام قد مضى فی اختیاره وفق نهج مسبق یقوم على إبعاد فضول القول وحشو الكلام والاكتفاء بما قل من القصیدة ودل، وأما بقیة الأبیات فقد یراها تشتت التجربة وتفقدها التركیز والإیجاز، أضف إلى ذلك أن هذا المختار یسهل حفظه وتردیده والاستشهاد به فی مواقف الحیاة المماثلة وأما أن ندعی أن أبا تمام لم یكن یعرف بقیة الأبیات فهذا لا یقوم له دلیل ولا تدعمه حجة وهو أقرب عهداً بهؤلاء الشعراء وأوسع معرفة وأكثر حفظاً للشعر، وقد عرفنا من قبل أنه لم یكن یكتفی بما تملیه علیه حافظته، بل كان قد أقبل على خزانة الكتب فطالعها واشتغل بها كما یقول التبریزی.

2-إن أبا تمام كان یعمل قلمه فی بعض المفردات الشعریة فیغیرها ویبدلها كما یحلو له لیستقیم المعنى وتعتدل الفكرة ویأتی البیت فی صیاغته على حسب ما یرضی ذوقه ویصیب هواه، ولقد كان المرزوقی فی مقدمة شرحه للحماسة الكبرى قد تنبه لذلك وصرح به فی قوله: "حتى إنك تراه ینتهی إلى البیت الجید فیه لفظة تشینه، فیجبر نقیصته من عنده، ویبدل الكلمة بأختها فی نقده، وهذا یبین لمن رجع إلى دواوینهم فقابل ما فی اختیاره بها"(13)، ثم نجده فی شرحه للحماسیة ذات الرقم (347) یورد قول ابن العمید: "إنی لأتعجب من أبی تمام مع تكلفه رمّ جوانب ما یختاره من الأبیات، وغسله من درن بشع الألفاظ، كیف ترك تأمل قوله: فلیأت نسوتنا، وهذه لفظة شنیعة..".

وقد وقع الأمر نفسه فی الوحشیات غیر ما مرة، وأشار إلیه الأستاذ محمود شاكر فی زیاداته على الحواشی، واتهم أبا تمام مرة بالتخلیط وأخرى بالإفساد، ففی الوحشیة ذات الرقم (397) لكعب بن ذی الحبكة النهدی روى أبو تمام البیت الأول على هذا النحو:

أترجو اعتذاری یا بن أروى ورجعتی          عن الحق قدماً غال حلمَك غولُ

وروایته: "إلى الحق دهراً"، وذلك فی تاریخ الطبری (5: 97) ومعجم الشعراء للمزربانی (345) ومعجم البلدان مادة "دنیاوند"، ولا یخفى ما طرأ على المعنى من اختلاف جراء اختلاف الروایة. وفی الوحشیة ذات الرقم (471) روى أبیاتاً فی وصف أولها قول الشاعر:

یكفیك من قَلَع السماء مهندٌ                  فوق الذراع ودون بَوع البائع

وصواب الروایة كما فی الحیوان (5: 88): "قلع السماء عقیقة"، ویعلق الأستاذ محمود شاكر على هذا البیت بقوله: و "قلع السماء" قطع من السحاب كأنها الجبال، و"العقیقة" البرق یشق السحاب كأنه سیف مسلول، وأما أبو تمام فقد غیر الشعر فأفسده.

ولكنی أرى أن الضمیر فی الأبیات التالیة عائد إلى مذكر لا إلى مؤنث، إذ یقول الشاعر بعد ذلك:

صافی الحدیدة قد أضر بجسمه                 طول الدّیاس وبطنُ طیر جائع

أُمر المواطرُ والریاحُ بحمله             فحملنه لمضایر ومنافع

وهذا ما سوغ لأبی تمام فیما أعتقد تغییر اللفظ بما یتفق وسیاق الأبیات، هذا إلى أن روایة البیت فی الأشیاء والنظائر تطابق روایة الوحشیات.

ومع ذلك فإذا صحت هذه التهمة على أبی تمام وأن هذا التغییر لیس من عمل الرواة أو النساخ فإنها لا تنهض حجة مؤذنة بوصم الشاعر بالحیاد عن الأمانة فی النقل والروایة، وهذا الأستاذ عبد السلام هارون یقول: "وهذه التهمة: تهمة أبی تمام بتغییر النصوص التی اختارها والتی یدعمها المرزوقی فی أثناء شرحه بما یظهرها ویقویها كان جدیراً بها أن تنزل بقیمة الحماسة باعتبارها نصوصاً یستشهد بها فی علوم اللغة والعربیة، ولكنا نجد العلماء مجمعین على تزكیة أبی تمام فی الحماسة، وعلى تزكیة الحماسة ونصوصها، بل یعدون صنیعه فی الحماسة داعیة إلى الوثوق بشعر أبی تمام والاستشهاد بشعره، وفی ذلك یقول الزمخشری: "وهو وإن كان محدثاً لا یستشهد بشعره فی اللغة، فهو من علماء العربیة، فأجمل ما یقوله بمنزلة ما یرویه، ألا ترى إلى قول العلماء: الدلیل على هذا بیت الحماسة، فیقنعون بذلك لوثوقهم بروایته وإتقانه"(14).

3-إننا نجد فی بعض أبواب الوحشیات مقطعات یصعب أن تعد من الباب الذی هی فیه: إلا إذا حاولنا أن ندیم البحث فی مضمون هذه الأبواب وحقیقة تسمیاتها مقرین أن قضیة الفصل بین الفنون قضیة وثیقة الصلة بالمعنى الشعری لا بالشكل والصیاغة، وأن نظر أبی تمام فی فنون الشعر وأغراضه یتصف بالتمكن والإحكام، وهو الخبیر بمعانی الشعر، المدرك لآفاقه ومرامیه، إذ كان سباقاً إلى التمییز بین هذه الفنون على تشعبها أو تداخلها فی كثیر من الأحیان.

فهذان مثلاً بیتان للأحوص قد تضمنها باب الحماسة یقول فیهما(15):

فیا بعل لیلى كیف تجمع سلمها                وحربی وفیها بیننا كانت الحرب

لها مثل ذنبی الیوم إن كنتُ مذنباً              ولا ذنب لی إن كان لیس لها ذنب

فكیف نقتنع أنهما من الحماسة والشاعر فیهما یعرض طرفاً من مأساة حبه، وینكر على زوج محبوبته أن یقابل زوجته بالمسالمة ویقابل الشاعر بالمغاضبة وقد ثبت أن بینهما اتفاقاً فی العواطف لا یواریه الشاعر ولا یتخفى منه، وربما كان بینهما تواصل ولقاء. ولیس من المعقول أن یكون لفظ الحرب فی البیتین قد أدى أبا تمام إلى أن یسلكهما فی الحماسة.

والأعجب من ذلك أننا نجد فی باب الحماسة أیضاً أبیاتاً نسبها أبو تمام إلى عیسى بن فاتك وهو رجل من الخوراج، یقعد عن الحرب إشفاقاً على بناته، فهو یخشى إذا أصابته المنیة أن تنزل بهن الفاقة والبؤس والفقر، وأن یعشن بعده فی كنف جلف من الأعمام یظلمهن ولا یحسن إلیهن، فیقول(16):

لقد زاد الحیاة إلیَّ حباً                  بناتی إنهن من الضعاف

أحاذر أن یذقن البؤس بعدی                   وأن یشربن رنقاً بعد صاف

وأن یعرین إن كسی الجواری                  فتنبو العین عن كُرْمٍ عجاف

وأن یضطرهن الدهر بعدی           إلى جلف من الأعمام جاف

ولولاهن قد سومت مهری           وفی الرحمن للضعفاء كاف

تقول بنیتی أوص الموالی               وكیف وصاة من هو عنك خاف

والحماسة فی الأصل تعنی التشدد، ثم كثر استعمالها واتسع معناها حتى صارت تطلق على الشجاعة التی هی الأولى من صفات العرب وأم فضائلهم، لما فیها من معنى الشدة على النفس والقرن، وعلى هذا فإن أبا تمام حین اختار للحماسة لم ینظر إلى معناها الضیق المحسوس من الكر والفر والإیقاع بالأقران والتصدی للخصوم فی ساحات الحرب، بل نظر إلى معناها العام، وإلى بعض ما یتفرّع عنها من خصال كالنخوة والصبر على الأرزاء والمحن والاعتزاز بالشهامة فی وقت السلم وفی وقت الحرب، وعلى ذلك فكأن الشاعر الأحوص كان یرى من الحماسة أن یتحلى بعل لیلى بالنخوة والشهامة والصبر على الأرزاء، فیكبت غیظه ویكف أذاه ویكون له من عقله وحلمه ضابط لما اشرأب فی نفسه من غضب ونزق، ما دامت الزوجة قد اشتركت مع الشاعر فی الذنب.

ثم لعل هذا الشاعر الخارجی كان یرى من الحماسة التی تتضمن تلك المعانی السالفة أن یمكث إلى جوار بناته الضعیفات یرعاهن ویفیض علیهن من مشاعر الأبوة ما یكف عنهن الأذى ویحفظ علیهن كرامتهن، وأن حرمه ذلك من متعة الجهاد ومشاركة الفرسان فی مصاولة الأقران، فهذا كهذا حماسة ونجدة وحمیة.

ولقد كان المرزوقی قد أشار إلى هذه الظاهرة أیضاً فی شرحه دیوان الحماسة إذ وقف عند مقطوعتین تصوران عقوق الأبناء والدیهم ما یتوهم أنهما لیستا من باب الحماسة فی شیء فیقول(17): "فإن قیل: بماذا دخل هذه الأبیات وما یتلوها وهو فی معناها فی باب الحماسة؟ قلت: دخلت فیه بالمشكلة التی بینها وبین ما تقدمها من الأبیات المنبئة عن المفاسدة بین العشائر، وما یتولد فیها من الأحن والضغائن، المنسیة للتواشج والتناسب، المنشئة لهتك المحارم، المبیحة لسفك الدماء وقطع العصم، إذ كان عقوق البنین للآباء وتناسی الحرم فیه مثل ذلك وهو ظاهر بین".

ومع صلاح هذه التعلیلات فإن من الصعب أن نجد تسویغاً لوجود أبیات فی الخمرة والدعوة إلى الشراب قد سلكت فی باب النسیب إلا أن نقدّر كما قدر أبو تمام أن النسیب صِنْوُ الخمرة وتوأمها فی التأثیر فی النفس ودفعها إلى حالة واحدة من الانتشاء(18)، كما قال الشاعر متغزلاً(19):

هی الخمر فی حسن وكالخمر ریقها            ورقة ذاك اللون من رقة الخمر

وقد جُمِعَتْ فیها خمورٌ ثلاثةٌ          وفی واحد سكر یزید على السكر

وقد نبه المرزوقی أیضاً إلى دخول الحماسیات ذوات الأرقام (178 و 481 و 585) فی باب النسیب وهی لیست منه.

4-أن أبا تمام ساق هذه المقطعات عاریة عن ذكر المناسبة التی قیلت فیها، وبتعبیر آخر: أسقط عنها الثوب التاریخی الذی تتلفع به، ثم جاراه فی ذلك سائر أصحاب الحماسات والمختارات، ولقد نعلم أن الشعر العربی القدیم إبداع وثیق الصلة بمجریات الحیاة الیومیة شدید الارتباط بالفعل الواقعی وبالتجارب الخاصة، وأن ذكر المناسبة یضع القصیدة فی إطارها الزمانی والمكانی ویسهل على المتلقی فهمها وتذوقها، فبعض اللوحات الشعریة قد تتغلق فیها سبل التواصل بین الشاعر والقارئ ویعتاص الولوج إلیها ما لم تقدم بإشارة إلى الواقعة الحیة التی حفزت الشاعر إلى صیاغتها وإیداع أفكاره وعواطفه فیها، وما أظن هذه الظاهرة التی تتبدى فی الوحشیات وفی الحماسة أیضاً من قبیل الإهمال أو السهو، فربما تبین للمتأمل أن شاعرنا الفذ كان قد قصد إلى ذلك قصداً حین أدرك بذكائه المرهف وحسه الشعری النفاذ أن الإبداع الشعری أمر یختلف كل الاختلاف عن عملیة تسجیل الوقائع والأحداث، فالشاعر یسعى إلى تسجیل ماهو محتمل وممكن لا ما هو آنی واقعی، وبما أن الشعر یلهم ولا یعلم نراه ینزع إلى الإثارة وتنمیة الحس الجمالی بالحیاة، فكأن أبا تمام حین جعل هذه المقطعات تنسل من خیام عصرها وتتفلت من ذاكرة زمنها أرادها أن تنطلق فی زمن أرحب وعصر أوسع لتحل فی ذاكرة المستقبل خالدة متجددة، ثم لیقف القارئ أمام الأبیات، ولیستوح منها ما یشاء وفق طبیعته وبنیته النفسیة واستعداده الفنی، ولیخرج منها بتصورات وانطباعات ربما تختلف أو تتفق وتصورات الشاعر وانطباعاته فی زمن القصیدة الخاص، وبذلك یصبح الشعر نفسه باعثاً محرضاً یهیمن على القارئ ویحرك وجدانه وروحه ویضعه فی بؤرة الإبداع والإلهام.

5-آن لنا بعد لك كله أن نتساءل: ما المعیار الفنی الذی اهتدى إلیه أبو تمام فی اختیاره هذه المقطعات، فالوحشیات كتاب، والكتاب سواء أكان جمعاً أم تألیفاً یقوم على خطة بینة ومنهج سدید ورؤیة تحدد معالمه وتوحد أصوله، وقبل الإجابة عن هذا السؤال یحسن بنا أن نتحرى الفروق بین القصائد والمقطعات، إذ أن الوحشیات ومثلها الحماسة غلبت علیها المقطعات القصیرة التی تصل فی بعض الأحیان إلى بیت واحد مفرد، فالقصائد غالباً ما تكون طویلة تصور تجربة شمولیة ذات استشراف واسع یمتد فیها النفس وتكثر التفصیلات، وربما تشتمل على عدد من الأغراض والموضوعات، ولهذا تقتضی العنایة الفنیة وجودة البناء وحسن المدخل وبراعة التخلص والانتقال، أما المقطعات فهی معاناة مباغتة تصور حالة انفعالیة فی موقف انفعالی عابر، وإن كانت فی الغالب حادة قاسیة، ولهذا تقتضی التركیز والتكثیف وتتطلب التعبیر القائم على الإشارة والإیجاز.

ولقد كان المرزوقی قد تعرض لهذا المعیار وجعل له حیزاً فی مقدمة شرحه للحماسة فرأى (20) "أن أبا تمام كان یختار ما یختار لجودته لا غیر، ویقول ما یقوله من الشعر بشهوته، والفرق بین ما یشتهى وما یستجاد ظاهر".

ففی هذا القول ما یدل على أن المرزوقی یرى أن مذهب أبی تمام فی اختیاره یختلف عن مذهبه فی شعره، ثم نفاجأ بعد سطرین من هذا الكلام بقوله: "وهذا الرجل لم یعمد من الشعراء إلى المشتهرین منهم دون الإغفال، ولا من الشعر إلى المتردد على الأفواه، المجیب لكل داع، فكان أقرب، بل اعتسف فی دواوین الشعراء جاهلیهم ومخضرمهم، وإسلامیهم ومولدهم، واختطف منها الأرواح دون الأشباح، واخترف الأثمار دون الأكمام، وجمع ما یوافق نظمه ویخالفه لأن ضروب الاختیار لم تخف علیه، وطرق الإحسان والاستحسان لم تستتر عنه".

ولا یخفى ما فی كلام المرزوقی من تناقض فی الحكم وتعارض فی الرأی على ما فیه من رغبة واضحة فی إنصاف أبی تمام ووصفه بالاعتدال والموضوعیة، وعندی أن أبا تمام فی اختیاره لم یغادر فی قلیل ولا كثیر مذهبه الذی ارتضاه لنفسه وطریقته التی استنها لشعره، فإنه وإن كان من غیر المعقول أن یجد فی شعر السابقین له ممن عاشوا فی عصر غیر عصره واغتذوا بثقافة غیر ثقافته ما یتفق ومذهبه كل الاتفاق من حیث الإكثار من المجاز، والاعتماد فی الشعر على العقل ومقاییسه المنطقیة، وعلى البدیع وما یفید فی تلوین المعنى وتشقیقه لم یأل جهداً فی البحث عن الشعر الذی ینصرف إلى المضمون دون الشكل، وإلى ما فیه معنى جدید فی تصویر المواقف الإنسانیة المتأزمة والحالات النفسیة المتصادمة، والعدول عن الشعر الذی تصفو ألفاظه وتروق عباراته ویطرب إیقاعه، وفی ذلك ما فیه من الالتزام برؤیته الخاصة للشعر وموقفه من أصوله مما یثبت أحد شقی كلام المرزوقی حین قال: "واختطف منها الأرواح دون الأشباح واخترف الأثمار دون الأكمام" وهل كان قصد أبی تمام فی شعره، إلا إلى أرواح المعانی وأثمارها دون أشباح الأسالیب وأكمامها، وهو الذی یصف شعره بقوله:

ولكنه صوب العقول إذا انجلت               سحائب منه أعقبت بسحائب

فهذا باب الحماسة یغص بالمواقف التی یصل فیها الشاعر إلى حد من الهیاج النفسی والانفعال المحتدم مما لا یقل براعة وتأثیراً عن أقوى المشاهد المأساویة التی یعرضها شكسبیر فی مسرحیاته، فمن ذلك مثلاً ما قاله توبة بن مضرس السعدی إذ قتل رهط خاله أخویه طارقاً ومرداساً، فجزع علیهما جزعاً شدیداً، وقال فیهما مراثی جیدة، وظل یبكیهما حتى طلب إلیه الأحنف بن قیس أن یكف، فلما أبى لقبه بالخنّوت وهو الذی یمنعه الغیظ أو البكاء عن الكلام، ثم بدا له أن یقتل خاله ثأراً لأخویه، ولو أدى ذلك إلى تفطر قلب أمه رمیلة حزناً على أخیها، ففعل وقال(21):

بكت جزعاً أمی رُمیلة أن رأت                دماً من أخیها فی المهند باقیا

فقلت لها لا تجزعی أن طارقاً          خلیلی الذی كان الخلیل المصافیا

وما كنت لو أُعطیت ألفی نجیبة                وأولادَها لغواً وستین راعیا

لأقبلها من طارق دون أن أرى                 دماً من بنی عوف على السیف جاریا

وما كان فی عوف قتیل علمته                  لیوفینی من طارق غیر خالیا

وهذا نهیك القشیری یُقتل واحد من أفراد عشیرته، ویلطخ الدم ثیابه وینتهب بزه، لم لا تهب العشیرة للثأر، ویقعد زعماؤها وأولیاء أمورها متخاذلین مستكینین إلى الملذات، یتعاطون الخمور وینعمون بالسمر على ضفاف الینابیع والغدران، فیلتهب غیظاً منهم وغضباً، ویمتزج الغیظ بالأسف الهادر فی داخله، فیفضح شأنهم ویعلن على الملأ مثالبهم، ثم یلتفت إلیهم مهدداً متوعداً فیقول(22):

ألهى موالیَّ الخمور وشربُها            وعقیلةُ الوادی ونهی الأخرمِ

وأخوهم فی القوم یُقسم بزُّه          بثیابه ردعٌ كلون العندم

ضربت علیَّ الخثعمیة نحرها           إن لم أصبحكم بأمر مبرم

تعدو به فرسی وترقص ناقتی          حتى یشیع حدیثكم فی الموسم

وتطالعنا فی باب الهجاء أبیات حادة الوقع شدیدة الأسر تتعاظم فیها شكوى الشاعر من ابنه الذی أساءت أمه تربیته، فانتهب مال أبیه وعقه ولم یراع كبر سنه وانحناء عظامه، ثم مضى لا یرجى منه البر والإحسان فیقول(23):

تظلَّمنی مالی خلیجٌ وعقنی             على حین صارت كالحنیّ عظامی

وكیف أرجِّی البر منه وأمه           حَرامیَّة، ما غرنی بحرام

لعمری لقد ربیته فرحاً به             فلا یفرحن بعدی أب بغلام

ویضم باب النسیب بیتین لمجنون بنی عامر یرسمان صورة فذة لحالة النفس العاشقة حین تثقل علیها وطأة الحب وتلهبها لفحات الذكرى، فإذا بالمفردات الحیة المجسدة تغدو بدیلاً موضوعیاً للإحساس المجرد الموغل فی طغیانه وهیمنته فیقول(24):

كأن بلاد الله حلقة خاتم               علیَّ فما تزداد طولاً ولا عرضاً

كأن فؤادی فی مخالیب طائر           إذا ذكرتك النفسُ زاد به قبضا

وفی باب النسیب أیضاً یطالعنا بوح شجی ملفع بالخجل والتصون والخشیة یترقرق من امرأة من طیئ تتجاذبها قوتان عارمتان لا تستطیع لهما دفعاً، قوة یستفزها القلب بما فیه من شهوة وعاطفة وصبوة، وقوة یستفزها العقل بما فیه من تحكم وأناة وامتثال للقیم، فإذا بها ترى محبوبها أصفى من ماء المزن الذی تجمع فی الأودیة فمرت علیه النسائم الصیفیة فجردته من القذى فغدا عذباً نقیاً لذة للشاربین، ولكن أنى لها أن تستجیب له وتنهل منه وهی التقیة التی تخشى على نفسها من عواقب الإثم والخطیئة فلتمض فی طریقها على ما فی النفس من حرارة الظمأ ولتسجل هذه الخلجات فی هذه الأبیات(25):

فما ماء مزن من شماریخ شامخ                 تحدر من غرٍّ طوال الذوائب

بمنعرج أو بطن واد تحدرت           علیه ریاح الصیف من كل جانب

نفى نسمُ الریح القذى عن متونه              فلیس به عیب تراه لشارب

بأطیبَ ممن یقصر الطرفَ دونه                 تقى الله واستحیاءُ بعض العواقب

وحسبی ما عرضت من قطوف أبی تمام وعناقید اختیاراته شاهداً على ذوقه الرفیع الثاقب وشاعریته التی تجلت فی إبداعه كما تجلت فی اختیاره، وأخلق بالحماسة الصغرى هذه أن تسمى الأنسیات بعد أن ظلت قروناً مدیدة ترفل بثیاب الوحشیات.

محمد كمال- حلب

*       *       *

الحواشی:

(1)ذیل الأمالی: 132.

(2)فؤاد سیزكین. تاریخ التراث العربی، الشعر: 106-120.

(3)دیوان الحماسة، شرح المرزوقی: 10.

(4)المصدر السابق: 14.

(5)شرح التبریزی للحماسة: 1: 3.

(6)الحاشیة رقم (2).

(7)محمود شاكر، مقدمة الوحشیات: 10-11.

(8)بدا لی أن أزید فی حواشی الكتاب ما ظهر لی عرضاً من ملاحظات:

-الحاشیة ذات الرقم (27): البیتان الأخیران فی دیوان المعانی.

-الحاشیة ذات الرقم (186): فی (اللسان: قزع): وقال ابن الأعرابی هو للكمیت بن ثعلبة. وكذلك نسب الآمدی البیت الثانی فی الموازنة: 56 إلى الكمیت بن ثعلبة.

-الحاشیة ذات الرقم (339): فی الأغانی 20/106 الأبیات منسوبة إلى ابن أبی عیینة.

(9)شرح التبریزی الحماسة: 1: 4.

(10)الآمدی، الموازنة: 55.

(11)المصدر السابق.

(12)الراجكوانی: الوحشیات المقدمة.

(13)المرزوقی- شرح دیوان الحماسة: 14.

(14)عبد السلام هارون، مقدمة تحقیق دیوان الحماسة: 9.

(15)الوحشیة: 144.

(16)الوحشیة: 138.

(17)المرزوقی، شرح دیوان الحماسة: ص756.

(18)انظر الوحشیات: 314- 315- 339-344.

(19)الوحشیة: 301.

(20)ص13.

(21)الوحشیة: 121.

(22)الوحشیة: 166.

(23)الوحشیة: 404، ویبدو أن أبا تمام خلط بین اللعین المنقری واسمه منازل بن زمعة وصاحب هذه الأبیات واسمه منازل بن فرعان، أو أن نسبة الأبیات إلى اللعین من عمل النساخ، والغریب أن فرعان أبا منازل كان قد تزوج على أمه امرأة شابة، فغضب منازل واستاق إبل أبیه واعتزل مع أمه، فقال فیه فرعان أبیاتاً رواها أبو تمام فی دیوان الحماسة (الحماسیة ذات الرقم 603).

(24)الوحشیة: 327.

(25)الوحشیة: 337.

*      *       *

المراجع:

(1)الأعلام للزركلی.

(2)الأمالی لأبی علی القالی.

(3)تاریخ التراث العربی لفؤاد سیزكین.

(4)حماسة أبی تمام.. شرح المرزوقی.

(5)شرح أبی تمام.. شرح التبریزی.

(6)دراسة فی حماسة أبی تمام لعلی النجدی ناصف.

(7)عیون الأخبار لابن قتیبة.

(8)الفهرست لابن الندیم.

(9)الموازنة للآمدی.

(10)الوحشیات.. تحقیق عبد العزیز المیمنی الراجكوانی.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:22|
النقد العربــــی ومناهجـــــه


1- مفهـــوم النقــــــد:

النقد عملیة وصفیة تبدأ بعد عملیة الإبداع مباشرة، وتستهدف قراءة الأثر الأدبی ومقاربته قصد تبیان مواطن الجودة والرداءة. ویسمى الذی یمارس وظیفة مدارسة الإبداع ومحاكمته الناقد ؛لأنه یكشف ماهو صحیح وأصیل فی النص الأدبی ویمیزه عما هو زائف ومصطنع. لكن فی مرحلة مابعد البنیویة ومع التصور السیمیوطیقی وجمالیة التقبل، استبعد مصطلح الناقد وصار مجرد قارئ یقارب الحقیقة النصیة ویعید إنتاج النص وبناءه من جدید. وتسمى مهمة الناقد بالنقد وغالبا ما یرتبط هذا الأخیر بالوصف والتفسیر والتأویل والكشف والتحلیل والتقویم. أما النص الذی یتم تقویمه من قبل الناقد یسمى بالنص المنقود.

هذا، ویخضع النقد لمجموعة من الخطوات والإجراءات الضروریة التی تتجسد فی قراءة النص وملاحظته وتحلیله مضمونا وشكلا ثم تقویمه إیجابا وسلبا. وفی الأخیر، ترد عملیة التوجیه وهی عملیة أساسیة فی العملیة النقدیة لأنها تسعى إلى تأطیر المبدع وتدریبه وتكوینه وتوجیهه الوجهة الصحیحة والسلیمة من أجل الوصول إلى المبتغى المنشود.

وإذا كانت بعض المناهج النقدیة تكتفی بعملیة الوصف الظاهری الداخلی للنص كما هو شأن المنهج البنیوی اللسانی والمنهج السیمیوطیقی، فإن هناك مناهج تتعدى الوصف إلى التفسیر والتأویل كما هو شان المنهج النفسی والبنیویة التكوینیة والمنهج التأویلی (الهرمونیتیقی Herméneutique).

وللنقد أهمیة كبیرة لأنه یوجه دفة الإبداع ویساعده على النمو والازدهار والتقدم، ویضیء السبیل للمبدعین المبتدئین والكتاب الكبار. كما أن النقد یقوم بوظیفة التقویم والتقییم ویمیز مواطن الجمال ومواطن القبح، ویفرز الجودة من الرداءة، والطبع من التكلف والتصنیع والتصنع. ویعرف النقد أیضا الكتاب والمبدعین بآخر نظریات الإبداع والنقد ومدارسه وتصوراته الفلسفیة والفنیة والجمالیة، ویجلی لهم طرائق التجدید ویبعدهم عن التقلید.
2- مـــفهــــوم المنهــــج النقدی:

إذا تصفحنا المعاجم والقوامیس اللغویة للبحث عن مدلول المنهج فإننا نجد شبكة من الدلالات اللغویة التی تحیل على الخطة والطریقة والهدف والسیر الواضح والصراط المستقیم. ویعنی هذا أن المنهج عبارة عن خطة واضحة المدخلات والمخرجات، وهو أیضا عبارة عن خطة واضحة الخطوات والمراقی تنطلق من البدایة نحو النهایة. ویعنی هذا أن المنهج ینطلق من مجموعة من الفرضیات والأهداف والغایات ویمر عبر سیرورة من الخطوات العملیة والإجرائیة قصد الوصول إلى نتائج ملموسة ومحددة بدقة مضبوطة.

ویقصد بالمنهج النقدی فی مجال الأدب تلك الطریقة التی یتبعها الناقد فی قراءة العمل الإبداعی والفنی قصد استكناه دلالاته وبنیاته الجمالیة والشكلیة. ویعتمد المنهج النقدی على التصور النظری والتحلیل النصی التطبیقی. ویعنی هذا أن الناقد یحدد مجموعة من النظریات النقدیة والأدبیة ومنطلقاتها الفلسفیة والإبستمولوجیة ویختزلها فی فرضیات ومعطیات أو مسلمات، ثم ینتقل بعد ذلك إلى التأكد من تلك التصورات النظریة عن طریق التحلیل النصی والتطبیق الإجرائی لیستخلص مجموعة من النتائج والخلاصات التركیبیة. والأمر الطبیعی فی مجال النقد أن یكون النص الأدبی هو الذی یستدعی المنهج النقدی، والأمر الشاذ وغیر المقبول حینما یفرض المنهج النقدی قسرا على النص الأدبی على غرار دلالات قصة سریر بروكوست التی تبین لنا أن الناقد یقیس النص على مقاس المنهج. إذ نجد كثیرا من النقاد یتسلحون بمناهج أكثر حداثة وعمقا للتعامل مع نص سطحی مباشر لایحتاج إلى سبر وتحلیل دقیق، وهناك من یتسلح بمناهج تقلیدیة وقاصرة للتعامل مع نصوص أكثر تعقیدا وغموضا. ومن هنا نحدد أربعة أنماط من القراءة وأربعة أنواع من النصوص الأدبیة على الشكل التالی:

• قراءة مفتوحة ونص مفتوح؛

• قراءة مفتوحة ونص مغلق؛

• قراءة مغلقة ونص مفتوح؛

• قراءة مغلقة ونص مغلق.

وتتعدد المناهج بتعدد جوانب النص (المؤلف والنص والقارئ والمرجع والأسلوب والبیان والعتبات والذوق….)، ولكن یبقى المنهج الأفضل هو المنهج التكاملی الذی یحیط بكل مكونات النص الأدبی.
3- النقد االعربــــــی القدیــــــم :

ظهر النقد الأدبی عند العرب منذ العصر الجاهلی فی شكل أحكام انطباعیة وذوقیة وموازنات ذات أحكام تأثریة مبنیة على الاستنتاجات الذاتیة كما نجد ذلك عند النابغة الذبیانی فی تقویمه لشعر الخنساء وحسان بن ثابت. وقد قامت الأسواق العربیة وخاصة سوق المربد بدور هام فی تنشیط الحركة الإبداعیة والنقدیة. كما كان الشعراء المبدعون نقادا یمارسون التقویم الذاتی من خلال مراجعة نصوصهم الشعریة وتنقیحها واستشارة المثقفین وأهل الدرایة بالشعر كما نجد ذلك عند زهیر بن أبی سلمی الذی كتب مجموعة من القصائد الشعریة التی سماها "الحولیات" والتی تدل على عملیة النقد والمدارسة والمراجعة الطویلة والعمیقة والمتأنیة. وتدل كثیر من المصطلحات النقدیة التی وردت فی شعر شعراء الجاهلیة على نشاط الحركة النقدیة وازدهارها كما یبین ذلك الباحث المغربی الشاهد البوشیخی فی كتابه "مصطلحات النقد العربی لدى الشعراء الجاهلیین والإسلامیین".

وإبان فترة الإسلام سیرتبط النقد بالمقیاس الأخلاقی والدینی كما نلتمس ذلك فی أقوال وآراء الرسول (صلعم) والخلفاء الراشدین رضوان الله علیهم.

وسیتطور النقد فی القرن الأول الهجری وفترة الدولة العباسیة مع ابن قتیبة والجمحی والأصمعی والمفضل الضبی من خلال مختاراتهما الشعریة وقدامة بن جعفر وابن طباطبا صاحب عیار الشعر والحاتمی فی حلیته وابن وكیع التنیسی وابن جنی والمرزوقی شارح عمود الشعر العربی والصولی صاحب الوساطة بین المتنبی وخصومه…

هذا، ویعد كتاب "نقد الشعر" أول كتاب ینظر للشعریة العربیة على غرار كتاب فن الشعر لأرسطو لوجود التقعید الفلسفی والتنظیر المنطقی لمفهوم الشعر وتفریعاته التجریدیة. بینما یعد أبو بكرالباقلانی أول من حلل قصیدة شعریة متكاملة فی كتابه "إعجاز القرآن"، بعدما كان التركیز النقدی على البیت المفرد أو مجموعة من الأبیات الشعریة المتقطعة. وفی هذه الفترة عرف النقاد المنهج الطبقی والمنهج البیئی والمنهج الأخلاقی والمنهج الفنی مع ابن سلام الجمحی صاحب كتاب "طبقات فحول الشعراء فی الجاهلیة والإسلام"، والأصمعی صاحب "كتاب الفحولة"، وابن قتیبة فی كتابة "الشعر والشعراء"، والشعریة الإنشائیة خاصة مع قدامة بن جعفر فی "نقد الشعر" و"نقد النثر". واعتمد عبد القاهر الجرجانی على نظریة النظم والمنهج البلاغی لدراسة الأدب وصوره الفنیة رغبة فی تثبیت إعجاز القرآن وخاصة فی كتابیه "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة". ولكن أول دراسة نقدیة ممنهجة حسب الدكتور محمد مندور هی دراسة الآمدی فی كتابه: "الموازنة بین الطائیین: البحتری وأبی تمام". وقد بلغ النقد أوجه مع حازم القرطاجنی الذی اتبع منهجا فلسفیا فی التعامل مع ظاهرة التخییل الأدبی والمحاكاة وربط الأوزان الشعریة بأغراضها الدلالیة فی كتابه الرائع "منهاج البلغاء وسراج الأدباء" والسجلماسی فی كتابه "المنزع البدیع فی تجنیس أسالیب البدیع"، وابن البناء المراكشی العددی فی كتابه"الروض المریع فی صناعة البدیع".

ومن القضایا النقدیة التی أثیرت فی النقد العربی القدیم قضیة اللفظ والمعنى وقضیة السرقات الشعریة وقضیة أفضلیة الشعر والنثر وقضیة الإعجاز القرآنی وقضیة عمود الشعر العربی وقضیة المقارنة والموازنة كما عند الآمدی والصولی، وقضیة بناء القصیدة عند ابن طباطبا وابن قتیبة، وقضیة الفن والدین عند الأصمعی والصولی وغیرهما… وقضیة التخییل الشعری والمحاكاة كما عند فلاسفة النقد أمثال الكندی والفارابی وابن سینا وابن رشد والقرطاجنی وابن البناء المراكشی والسجلماسی… لكن هذا النقد سیتراجع نشاطه مع عصر الانحطاط لیهتم بالتجمیع وكتابة التعلیقات والحواشی مع ابن رشیق القیروانی فی كتابه "العمدة" وابن خلدون فی "مقدمته".
4- النقد العربی الحدیث والمعاصر:

مع عصر النهضة، سیتخذ النقد طابعا بیانیا ولغویا وخاصة مع علماء الأزهر الذین كانوا ینقدون الأدب على ضوء المقاییس اللغویة والبلاغیة والعروضیة كما نجد ذلك واضحا عند حسین المرصفی فی كتابه "الوسیلة الأدبیة"، وطه حسین فی بدایاته النقدیة عندما تعرض لمصطفى لطفی المنفلوطی مركزا على زلاته اللغویة وأخطائه البیانیة وهناته التعبیریة.

ومع بدایة القرن العشرین، سیظهر المنهج التاریخی أو كما یسمیه شكری فیصل فی كتابه "مناهج الدراسة الأدبیة فی الأدب العربی" [1] النظریة المدرسیة؛ لأن هذا المنهج كان یدرس فی المدارس الثانویة والجامعات فی أوربا والعالم العربی. ویهدف هذا المنهج إلى تقسیم الأدب العربی إلى عصور سیاسیة كالعصر الجاهلی وعصر صدر الإسلام وعصر بنی أمیة والعصر العباسی وعصر الانحطاط أو العصر المغولی أو العصر العثمانی ثم العصر الحدیث والعصر المعاصر. وهذا المنهج یتعامل مع الظاهرة الأدبیة من زاویة سیاسیة، فكلما تقدم العصر سیاسیا ازدهر الأدب، وكلما ضعف العصر ضعف الأدب. وهذا المنهج ظهر لأول مرة فی أوربا وبالضبط فی فرنسا مع أندری دوشیسون André Dechesson الذی ألف كتاب "تاریخ فرنسا الأدبی" سنة 1767م. ویقسم فیه الأدب الفرنسی حسب العصور والظروف السیاسیة ویقول:" إن النصوص الأدبیة الراقیة هی عصور الأدب الراقیة، وعصور تاریخ السیاسة المنحطة هی عصور الأدب المنحطة". [2]

وقد اتبع كثیر من مؤرخی الأدب العربی الحدیث منهج المستشرقین فی تقسیم الأدب العربی (بروكلمان، وجیب، ونالینو، ونیكلسون، وهوار…)، ومن هؤلاء جورجی زیدان فی كتابه "تاریخ آداب اللغة العربیة" الذی انتهى منه سنة 1914م. وفی هذا الكتاب یدعی السبق بقوله:" ولعلنا أول من فعل ذلك، فنحن أول من سمى هذا العلم بهذا الاسم"، وفی موضع آخر یقول إن المستشرقین أول من كتب فیه باللغة العربیة، [3] والشیخ أحمد الإسكندری والشیخ مصطفى عثمان بك فی كتابهما "الوسیط فی الأدب العربی وتاریخه" [4] الذی صدر سنة 1916م. وكان تاریخ الأدب عندهما هو العلم "الباحث عن أحوال اللغة، نثرها ونظمها فی عصورها المختلفة من حیث رفعتها وضعتها، وعما كان لنابغیها من الأثر البین فیها…. ومن فوائده:

1- معرفة أسباب ارتقاء أدب اللغة وانحطاطه، دینیة كانت تلك الأسباب أو اجتماعیة أو سیاسیة، فنستمسك بأسباب الارتقاء، ونتحامى أسباب الانحطاط.

2- معرفة أسالیب اللغة، وفنونها، وأفكار أهلها ومواضعاتهم، واختلاف أذواقهم فی نثرهم ونظمهم، على اختلاف عصورهم، حتى یتهیأ للمتخرج فی هذا العلم أن یمیز بین صور الكلام فی عصر وصوره فی آخر، بل ربما صح أن یلحق القول بقائله عینه.

3- معرفة أحوال النابهین من أهل اللغة فی كل عصر، وما كان لنثرهم وشعرهم، وتألیفهم من أثر محمود، أو حال ممقوتة، لنحتذی مثال المحسن، ونتنكب عن طریق المسیء". [5]

ومن المؤرخین العرب المحدثین أیضا نذكر محمد حسن نائل المرصفی فی كتابه "أدب اللغة العربیة"، وعبد الله دراز وكیل مشیخة الجامع الأحمدی فی كتابه "تاریخ أدب اللغة العربیة"، وأحمد حسن الزیات فی كتابه "تاریخ الأدب العربی" الذی اعتبر المنهج السیاسی فی تدریس تاریخ الأدب العربی نتاجا إیطالیا ظهر فی القرن الثامن عشر. ونستحضر فی هذا المجال كذلك طه حسین وشوقی ضیف وأحمد أمین فی كتبه المتسلسلة "فجر الإسلام" و"ضحى الإسلام" و"ظهر الإسلام"، وحنا الفاخوری فی كتابه المدرسی "تاریخ الأدب العربی"، وعمر فروخ فی تأریخه للأدب العربی، وعبد الله كنون فی كتابه "النبوغ المغربی فی الأدب العربی".

لكن هذا المنهج سیتجاوز من قبل النقاد الذی دعوا إلى المنهج البیئی أو الإقلیمی مع أحمد ضیف فی كتابه "مقدمة لدراسة بلاغة العرب"، والأستاذ أمین الخولی فی كتابه "إلى الأدب المصری"، وشوقی ضیف فی كتابه "الأدب العربی المعاصر فی مصر"، والدكتور كمال السوافیری فی كتابه "الأدب العربی المعاصر فی فلسطین"….

وسیرفض المنهج السیاسی المدرسی والمنهج الإقلیمی الذی یقسم الأدب العربی إلى بیئات وأقالیم فیقال: أدب عراقی، وأدب فلسطینی، وأدب جزائری، وأدب أندلسی، وأدب تونسی….وسیعوضان بالمنهج القومی مع عبد الله كنون الذی یرى أن الجمع القومی ینفی" جمیع الفوارق الاصطناعیة بین أبناء العروبة على اختلاف بلدانهم وتباعد أنحائهم، كما ینبغی أن ننفی نحن جمیع الفوارق الاعتباریة بین آداب أقطارهم العدیدة فی الماضی والحاضر. ذلك أن الأدب العربی وحدة لاتتجزأ فی جمیع بلاده بالمغرب والمشرق، وفی الأندلس وصقلیة المفقودتین…

وهناك قضیة شكلیة لها علاقة بالموضوع، وهی هذا التقسیم إلى العصور الذی ینبغی أن یعاد فیه النظر كالتقسیم على الأقطار؛ لأنه كذلك تقلید محض لمنهاج البحث فی الأدب الأوربی، ولعله تقلید له فی العرض دون الجوهر، وإلا فلیس بلازم أن یكون لعصر الجاهلیة أدب ولعصر صدر الإسلام أدب ولعصر الأمویین أدب، وهكذا حتى تنتهی العصور، وتكون النتیجة تعصب قوم لأدب وآخرین لغیره مما لا یوحى به إلا النزعات الإقلیمیة وهی إلى مذهب الشعوبیة أقرب منها إلى القومیة العربیة." [6]

ویبدو أن المنهج الذی یتبناه عبد الله كنون هو منهج ذو مظاهر دینیة قائمة على الوحدة العربیة الإسلامیة بأسسها المشتركة كوحدة الدین ووحدة اللغة ووحدة التاریخ ووحدة العادات والتقالید ووحدة المصیر المشترك. لكن عبد الله كنون سیؤلف كتابا بعنوان" أحادیث عن الأدب المغربی الحدیث"، وبذلك یقع فی تناقض كبیر حیث سیطبق المنهج الإقلیمی البیئی الذی اعتبره سابقا نتاجا للشعوبیة والعرقیة.

وإلى جانب هذه المناهج، نذكر المنهج الفنی الذی یقسم الأدب العربی حسب الأغراض الفنیة أو الفنون والأنواع الأجناسیة كما فعل مصطفى صادق الرافعی فی كتابه "تاریخ الأدب العربی"، وطه حسین فی "الأدب الجاهلی" حینما تحدث عن المدرسة الأوسیة فی الشعر الجاهلی التی امتدت حتى العصر الإسلامی والأموی، وشوقی ضیف فی كتابیه "الفن ومذاهبه فی الشعر العربی" و"الفن ومذاهبه فی النثر العربی" حیث قسم الأدب العربی إلى ثلاث مدارس فنیة: مدرسة الصنعة ومدرسة التصنیع ومدرسة التصنع، ومحمد مندور فی كتابه "الأدب وفنونه"، وعز الدین إسماعیل فی "فنون الأدب"، وعبد المنعم تلیمة فی "مقدمة فی نظریة الأدب"، ورشید یحیاوی فی "مقدمات فی نظریة الأنواع الأدبیة". فهؤلاء الدارسون عددوا الأجناس الأدبیة وقسموها إلى فنون وأنواع وأغراض وأنماط تشكل نظریة الأدب.

أما المنهج التأثری فهو منهج یعتمد على الذوق والجمال والمفاضلة الذاتیة والأحكام الانطباعیة المبنیة على المدارسة والخبرة، ومن أهم رواد هذا المنهج طه حسین فی كتابه "أحادیث الأربعاء" فی الجزء الثالث، وعباس محمود العقاد فی كتابه "الدیوان فی الأدب والنقد" ومقالاته النقدیة، والمازنی فی كتابه "حصاد الهشیم"،و میخائیل نعیمة فی كتابه "الغربال". بینما المنهج الجمالی الذی یبحث عن مقومات الجمال فی النص الأدبی من خلال تشغیل عدة مفاهیم إستیتیقیة كالمتعة والروعة والتناسب والتوازی والتوازن والازدواج والتماثل والائتلاف والاختلاف والبدیع فیمثله الدكتور میشال عاصی فی كتابه "مفاهیم الجمالیة والنقد فی أدب الجاحظ" والذی صدر سنة 1974م عن دار العلم للملایین ببیروت اللبنانیة.

ومع تأسیس الجامعة الأهلیة المصریة سنة 1908م، واستدعاء المستشرقین للتدریس بها، ستطبق مناهج نقدیة جدیدة على الإبداع الأدبی قدیمه وحدیثه كالمنهج الاجتماعی الذی یرى أن الأدب مرآة تعكس المجتمع بكل مظاهره السیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة والثقافیة. وقد تبلور هذا المنهج مع طه حسین فی كتابه "ذكرى أبی العلاء المعری" و"حدیث الأربعاء" الجزء الأول والثانی، وقد تأثر كثیرا بأستاذه كارلو نالینو وبأساتذة علم الاجتماع كدوركایم ولیڤی برول وابن خلدون صاحب نظریة العمران الاجتماعی والفلسفة الاجتماعیة. وقد سار على منواله عباس محمود العقاد فی كتابه "شعراء مصر وبیئاتهم فی الجیل الماضی"، ففیه یعمد الناقد إلى دراسة شعراء مصر انطلاقا من العرق والزمان والمكان من خلال مفهوم الحتمیة التی تربط الأدب جدلیا ببیئته.

ومع ظهور النظریات الإیدیولوجیة الحدیثة كالنظریة الاشتراكیة والشیوعیة، سیظهر المنهج الإیدیولوجی الاشتراكی والمنهج المادی الجدلی فی الساحة النقدیة العربیة مع مجموعة من النقاد كمحمد مندور وحسین مروة وسلامة موسى وعز الدین إسماعیل ومحمد برادة وإدریس الناقوری وعبد القادر الشاوی……

ومع بدایة الستینیات، ستفرز ظاهرة المثاقفة والترجمة والاطلاع على المناهج الغربیة مجموعة من المناهج النقدیة الحدیثة والمعاصرة كالبنیویة اللسانیة مع حسین الواد وعبد السلام المسدی وصلاح فضل وموریس أبو ناضر وكمال أبو دیب وجمیل المرزوقی وجمیل شاكر وسعید یقطین، كما ستتبلور أیضا البنیویة التكوینیة التی تجمع بین الفهم والتفسیر لتعقد تماثلا بین البنیة الجمالیة المستقلة والبنیة المرجعیة كما نظر لها لوسیان گولدمان وسیتبناها كل من محمد بنیس وجمال شحیذ ومحمد برادة وطاهر لبیب وحمید لحمدانی وسعید علوش وإدریس بلملیح وعبد الرحمن بوعلی وبنعیسى بوحمالة…

وإلى جانب المنهج البنیوی اللسانی والتكوینی، نذكر المنهج الموضوعاتی أو الموضوعیة البنیویة التی تدرس الأدب العربی على مستوى التیمات والموضوعات ولكن بطریقة بنیویة حدیثة مع سعید علوش فی كتابه "النقد الموضوعاتی"، وحمید لحمدانی فی كتابه "سحر الموضوع"، وعبد الكریم حسن فی كتابه "الموضوعیة البنیویة دراسة فی شعر السیاب"، وعلی شلق فی كتابه "القبلة فی الشعر العربی القدیم والحدیث".

أما المنهج السمیوطیقی فسیتشكل مع محمد مفتاح ومحمد السرغینی وسامی سویدان وعبد الفتاح كلیطو وعبد المجید نوسی وسعید بنكراد… من خلال التركیز على شكل المضمون تفكیكا وتركیبا ودراسة النص الأدبی وجمیع الخطابات اللصیقة به كعلامات وإشارات وأیقونات تستوجب تفكیكها بنیویا وتناصیا وسیمیائیا.

وبعد أن اهتم المنهج الاجتماعی بالمرجع الخارجی وذلك بربط الأدب بالمجتمع مباشرة مع المادیة الجدلیة أو بطریقة غیر مباشرة مع البنیویة التكوینیة، واهتم المنهج النفسی بربط الأدب بذات المبدع الشعوریة واللاشعوریة مع عزالدین إسماعیل والعقاد ومحمد النویهی وجورج طرابیشی ویوسف الیوسف، كما اختص الأدب الأسطوری بدراسة الأساطیر فی النص الأدبی كنماذج علیا منمطة تحیل على الذاكرة البشریة كما عند مصطفى ناصف فی كتابه "قراءة ثانیة لشعرنا القدیم"، ومحمد نجیب البهبیتی فی كتابه "المعلقة العربیة الأولى"، وأحمد كمال زكی فی "التفسیر الأسطوری للشعر القدیم"، وإبراهیم عبد الرحمن فی "التفسیر الأسطوری للشعر الجاهلی"، وعبد الفتاح محمد أحمد فی "المنهج الأسطوری فی تفسیر الشعر الجاهلی"، فإن جمالیة التلقی ونظریة الاستقبال مع إیزرIzer ویوس Yauss الألمانیین ستدعو الجمیع للاهتمام بالقارئ والقراءة بكل مستویاتهما؛ لأن القراءة تركیب للنص من جدید عن طریق التأویل والتفكیك، مما سینتج عن نظریة القارئ ظهور مناهج جدیدة أخرى كالمنهج التفكیكی والمنهج التأویلی.

ومن النقاد العرب الذین اهتموا بمنهج القراءة نجد حسین الواد فی كتابه "فی مناهج الدراسات الأدبیة"، ورشید بنحدو فی الكثیر من مقالاته التی خصصها لأنماط القراءة (القراءة البلاغیة، والقراءة الجمالیة، والقراءة السوسیولوجیة، والقراءة السیمیائیة….)، وحمید لحمدانی فی كتابه "القراءة وتولید الدلالة، تغییر عاداتنا فی القراءة"، ومحمد مفتاح فی كتابه "النص: من القراءة إلى التنظیر". أما التفكیكیة فمن أهم روادها الناقد السعودی عبد الله محمد الغذامی فی كتابه "الخطیئة والتكفیر" وكتاب "تشریح النص"، وكتاب "الكتابة ضد الكتابة"، والناقد المغربی محمد مفتاح فی "مجهول البیان" وعبد الفتح كلیطو فی كثیر من دراساته حول السرد العربی وخاصة "الحكایة والتأویل" و"الغائب". ومن أهم رواد النقد التأویلی الهرمونیتیقی نستحضر الدكتور مصطفى ناصف فی كتابه "نظریة التأویل"، وسعید علوش فی كتابه "هرمنوتیك النثر الأدبی".

ولا ننسى كذلك المنهج الأسلوبی الذی یحاول دراسة الأدب العربی من خلال وجهة بلاغیة جدیدة وأسلوبیة حداثیة تستلهم نظریات الشعریة الغربیة لدى تودوروف، وجون كوهن، وریفاتیر، ولوتمان، وبییرغیرو، ولیو سبیتزر،وماروزو… ومن أهم ممثلیه فی الأدب العربی الدكتور عبد السلام المسدی فی كتابه "الأسلوب والأسلوبیة"، ومحمد الهادی الطرابلسی "فی منهجیة الدراسة الأسلوبیة"، وحمادی صمود فی "المناهج اللغویة فی دراسة الظاهرة الأدبیة"، وأحمد درویش فی "الأسلوب والأسلوبیة"، وصلاح فضل فی "علم الأسلوب وصلته بعلم اللغة"، وعبد الله صولة فی "الأسلوبیة الذاتیة أو النشوئیة"، ودكتور حمید لحمدانی فی كتابه القیم "أسلوبیة الروایة"، والهادی الجطلاوی فی كتابه "مدخل إلى الأسلوبیة". وثمة مناهج ومقاربات ظهرت مؤخرا فی الساحة العربیة الحدیثة كلسانیات النص مع محمد خطابی فی كتابه "لسانیات النص" والأزهر الزناد فی "نسیج النص"، والمقاربة المناصیة التی من روادها شعیب حلیفی وجمیل حمداوی وعبد الفتاح الحجمری وعبد الرزاق بلال ومحمد بنیس وسعید یقطین… وتهتم هذه المقاربة بدراسة عتبات النص الموازی كالعنوان والمقدمة والإهداء والغلاف والرسوم والأیقون والمقتبسات والهوامش، أی كل ما یحیط بالنص الأدبی من عتبات فوقیة وعمودیة، وملحقات داخلیة وخارجیة.
خلاصـــة تركیبیــــة:

هذه هی أهم التطورات المرحلیة التی عرفها النقد العربی قدیما وحدیثا، وهذه كذلك أهم المناهج النقدیة التی استند إلیها النقاد فی تحلیل النصوص الإبداعیة وتقویمها ومدارستها نظریا وتطبیقیا. ویلاحظ كذلك أن هذه المناهج النقدیة العربیة ولاسیما الحدیثة والمعاصرة كانت نتاج المثاقفة والاحتكاك مع الغرب والاطلاع على فكر الآخر عن طریق التلمذة والترجمة. وقد ساهم هذا الحوار الثقافی على مستوى الممارسة النقدیة فی ظهور إشكالیة الأصالة والمعاصرة أو ثنائیة التجریب والتأصیل فی النقد العربی.

وعلیه، فقد ظهر اتجاه یدافع عن الحداثة النقدیة وذلك بالدعوة إلى ضرورة الاستفادة من كل ماهو مستجد فی الساحة النقدیة الغربیة كما نجد ذلك عند محمد مفتاح ومحمد بنیس وحمید لحمدانی وحسین الواد وصلاح فضل…، واتجاه یدعو إلى تأصیل النقد العربی وعدم التسرع فی الحكم سلبا على تراثنا العربی القدیم ومن هؤلاء الدكتور عبد العزیز حمودة فی كتبه القیمة والشیقة مثل: "المرایا المقعرة"، و"المرایا المحدبة"، و"الخروج من التیه". لكن هناك من كان موقفه وسطا یدافع عن التراث ویوفق بین أدواته وآلیات النقد الغربی كمصطفى ناصف فی كثیر من كتبه ودراساته التی یعتمد فیها على أدوات البلاغة العربیة القدیمة، وعبد الفتاح كلیطو فی "الأدب والغرابة" و"الحكایة والتأویل"، وكتابه "الغائب"، وعبد الله محمد الغذامی فی كتابیه "القصیدة والنص المضاد" و"المشاكلة والاختلاف".
حواشی

[1] الدكتور شكری فیصل: مناهج الدراسة الأدبیة فی الأدب العربی، دار العلم للملایین، بیروت، لبنان، الطبعة السادسة، 1986، ص:17-24؛

[2] نقلا عن أحمد نوفل بن رحال: دروس ابن یوسف، النجاح الجدیدة، الدار البیضاء، ط1، 2000، ص:95؛

[3] أحمد نوفل: نفسه، ص:97؛

[4] أحمد الإسكندری ومصطفى عثمان: الوسیط فی الأدب العربی وتاریخه، دار المعارف بمصر، ط1، 1916م،

[5] نفس المرجع السابق، ص:4-5؛

[6] عبد الله كنون: خل وبقل، المطبعة المهدیة، تطوان، المغرب، بدون تاریخ، ص:148-158؛
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:21|
قراءة فی بنیة القصیدة المدحیّة

مدحیة القطامی- نموذجاً

ظل الشعر العربی عهداً طویلاً دیوان العرب، وسِجل مفاخرهم ومآثرهم، نهض بتصویر عواطفهم وأفراحهم وأحزانهم وتأملاتهم، مؤصلین عبر هذه المسیرة الطویلة قواعده وأصوله المكتملة النضج والبناء.

بید أن هذه المكانة للشعر العربی القدیم، لم تنل حظها من التقویم الصحیح، إذ اتسمت الرؤیة النقدیة للقصیدة العربیة –لا سیما المدحیة- ردحاً من الزمن برؤیة جزئیة ترتكز على وحدة البیت، وتسلیط الضوء على معطیات أخرى قد یتصل بعضها بذات المبدع، أو بمؤثرات العصر التاریخیة والسیاسیة، وسواها، دون التركیز على البناء الكلی للعمل الأدبی. ومن ثمَّ تولدت تلك الإشكالیة التی تصف القصیدة العربیة بالتفكك لافتقادها الوحدة العضویة(1).

وهذا الحكم تبناه بعض المستشرقین، ومن دار فی فلكهم من الباحثین العرب، وهذا الحكم كان نتاج فقدان القراءة المتعمقة، إلى جانب قیاس القصیدة العربیة على نماذج القصیدة الغربیة التی تختلف عنها بطبیعة مبدعها، ومؤثرات إبداعها.

وقد أشار بعض النقاد العرب إلى مدى الغبن الذی أصاب القصیدة العربیة نتیجة قیاسها على نماذج غربیة، یقول د. شكری عیاد: "على كثرة ما كُتِب فی النقد العربی الحدیث حول القصیدة التقلیدیة فقد عانت دائماً من قیاسها على أجناس مختلفة من الشعر الأوربی، ولوحظ افتقارها إلى "الوحدة العضویة" لا سیما أن الإلحاح على وحدة البیت جعل وحدة القصیدة أشبه بنافلة، أو شذوذاً عن القاعدة"(2). وتقول د. حیاة جاسم: "تعرّض هذا التراث إلى هجمات كثیرة، ومطاعن متعددة، لعل من أخطرها تلك التی ترمی القصیدة العربیة بالتفكك، وافتقادها الوحدة، وترى أنها مزق متناثرة، وصور متناقضة لا تربطها إلا القافیة. وقد كُتبت فی ذلك المقالات والدراسات الجزئیة؛ ولكن ما كتب لا یستند إلى نظرة شاملة للشعر العربی، وإنما یقوم على دراسة ضیقة، كما أن الكثیر مما كُتب متأثر بمقاییس النقد الغربی، ویحاول تطبیق تلك المقاییس على الشعر العربی..."(3).

وهذه الرؤیة النقدیة للقصیدة العربیة أفقدتها الكثیر من إیحاءاتها، وآفاقها الجمالیة؛ إذ من البدهی أن الإبداع سواء كان شعراً أم نثراً لا تتضح دراسته إلاَّ فی إطار المؤثرات المختلفة المحیطة به، لأن هذه المؤثرات هی المحرك الحقیقی للتجربة الشعوریة التی هی نتاج كل إبداع.

ومع العلم بأنه لیس هناك قراءة نهائیة للنص الأدبی، وأن لكل نص رؤیته الخاصة فإن هذه الدراسة تعدُّ محاولة من المحاولات التی تسلط الضوء على بعض العلاقات والسمات التی شكلت صیاغة القصیدة العربیة تشكیلاً عضویاً، جعلت منها وحدة واحدة من التعبیر، وذلك من خلال القراءة المتعمقة التی تسبر أغوار النص، وتتعاطف معه، وترى فی القصیدة على أنها نفثة شعوریة متكاملة، متجاهلة أی حكم انطباعی وسم به الشعر الجاهلی.

ومن هنا أصبح الناقد أو المتلقی ینهض بدور رئیس فی الكشف عن آفاق النص، وإیحاءاته من خلال القراءة المتفحصة التی لم تعد قراءة واحدة، بل قراءات متعددة لها نظریاتها المختلفة؛ منها ما یسمى ب "القراءة الاستبطانیة" وهی القِراءة التی تستنطق النص، وتكشف علاقاته الفنیة، ومحاولة الربط بین أجزائه(4). ومنها ما أسماه (تودوروف) (Todorov) القراءة الشعریة، (POETIC READING) تلك القراءة التی تقود إلى نتائج تتواءم مع الافتراضات الأولى التی یفترضها القارئ(5). ومنها ما یسمى ب "شعریة التلقی" "فكما أن هناك جمالیات أو شعریة إبداع هناك جمالیات أو شعریة تلقٍ..." والشعر طریقة إبداع وتلقٍ، بل الأدب عموماً، فهو –كما یقول الغذامی-: "عملیة إبداع جمالی من منشئه، وهو عملیة تذوق جمالی من المتلقی"(6).

وعلى ضوء ما تقدم فإن هذه الدراسة سوف تسلك مسلك القراءة الشعریة الاستبطانیة التی تتعمق النص، وتكشف عن علاقته الفنیة التی تربط بین أجزائه، بما یكشف عن فعالیة النص وإیحاءاته، وآفاقه الجمالیة، بحیث یفضی الخطاب الشعری فی نهایة المطاف إلى تعاطف وحوار ودی بین الشاعر والمفسر، مما یؤدی للانتقال من ظاهر المعنى إلى معنى المعنى. فالتفكك المزعوم للقصیدة العربیة، غالباً، هو نتاج فقدان الربط المنطقی، وهذا الربط قد نجده فی الدراسات التی تتناول مناهج المدارس التفكیكیة والسریالیة، إذ تكون القصیدة مفككة، لكن الناقد قد یلتقط لها هذا الربط، ویدلل علیه بصورة أو بأخرى.

والقصیدة التی نقف إزاءها بالقراءة الشعریة الاستبطانیة هی قصیدة القطامی: "إنا محیوك فاسلم أیها الطلل" والقطامی: اسم من أسماء الصقر(7)، ولقب هذا الشاعر بذلك لقوله: (8):

یَحُطُّهن جانباً فجانبا *** حَطَّ القُطامِیِّ قَطا قَواربا

وقد اختلف فی اسمه الأول، فالسمعانی فی الأنساب ذكر أن اسمه هو: "عُمیر بن شییم بن عمرو بن عباد بن بكر بن عامر بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبیب"(9) وابن سلاّم ذكر أن اسمه هو: "عمرو بن شییم بن عمرو، أحد بنی بكر بن حبیب بن عمرو بن غَنْم من تغلب"(10).

والقطامی عدَّه ابن سلاَّم فی الطبقة الثانیة من الشعراء الإسلامیین. ووصف شعره بالفحولة ورقة الحواشی، وحلاوة الشعر(11). وأضاف المرزبانی إلى هذه الصفات كثرة الأمثال فی شعره(12). وذكر البغدادی أن القطامی كان نصرانیاً فأسلم، وهو ابن أخت الأخطل النصرانی المشهور(13).

وغلب على شعره المدیح الذی تغلفه العاطفة الصادقة مشیداً بما لدى الممدوح من الفضائل، ومكارم الأخلاق. وقد سجلت كتب التراث الأدبی والنقدی هذه المزیّة فی شعره؛ فذكرت غیر قصیدة وجهها لمدح زُفَر بن الحارث حین افتكه من الأسر، وأعطاه مئة من الإبل، وردّ علیه ماله(14).

وهذه الظاهرة المدحیة لم تكن غریبة على المجتمع العربی، فقد ذكر الجاحظ روایة عن الخلیفة الراشد عمر بن الخطاب –رضی الله عنه- قوله: "من خیر صناعات العرب الأبیات یقدمها الرجل بین یدی حاجته، یستنزل بها الكریم، ویستعطف بها اللئیم"(15).

ویقول د. شوقی ضیف: جرت عادة الشعراء منذ العصر الجاهلی على الإشادة بالأشراف، وذوی النباهة، ووصف خصالهم بالكرم والحلم والشجاعة والوفاء وحمایة الجار، وسوى ذلك، وكان لا یُعدّ السید فیهم كاملاً إلا إذا أشاد بنباهته ومآثره غیر شاعر، ومضوا على هذه السنة فی الإسلام(16).

وقصیدة القطامی التی سنتناولها بالدراسة تمثل قمة شعره المدحی؛ یقول أبو عمرو ابن العلاء: "أول ما حرك من القطامی ورفع من ذكره أنه قدم فی خلافة الولید بن عبد الملك دمشق لیمدحه، فقیل له: إنه بخیل لا یعطی الشعراء. وقیل بل قدمها فی خلافة عمر بن عبد العزیز، فقیل له: إن الشعر لا یَنْفُق عند هذا، ولا یعطی شیئاً، وهذا عبد الواحد بن سلیمان فامدحه. فمدحه بقصیدته التی أولها: (17)

إنا محیوك فاسلم أیها الطلل *** وإن بلیت وإن طالت بك (الطیل)

ومدحیّة القطامی تعدّ من عیون شعر المدیح، اعتمدها القرشی فی جمهرته، وابن عساكر فی تاریخه، والأصفهانی فی أغانیه، وسواهم.

وهذه القصیدة خضعت لنظام القصیدة المدحیة التی یغلب علیها تعدد الموضوعات، وهی التی حدد منهجها ابن قتیبة فی كتابه: "الشعر والشعراء"(18) فقال: "وسمعت بعض أهل الأدب یذكر أن مقصد القصید إنما ابتدأ فیها بذكر الدیار والدمن، فبكى وشكا، وخاطب الربع، واستوقف الرفیق؛ لیجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنین إذ كان نازلةُ العَمد فی الحلول والظَّعن على خلاف ما علیه نازلة المَدَر، لانتقالهم عن ماء إلى ماء، وانتجاعهم الكلأ، وتتبعهم مساقط الغیث حیث كان. ثم وصل ذلك بالنسیب، فشكا شدة الوجد، وألم الفِراق، وفرط الصبابة والشوق، لیمیل نحوه القلوب، ویصرف إلیه الوجوه، ولیستدعی به إصغاء الأسماع إلیه؛ لأن التشبیب قریب من النفوس، لائط بالقلوب،

لما قد جعل الله فی تركیب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فلیس یكاد أحدٌ یخلو من أن

یكون متعلقاً منه بسببٍ وضارباً فیه بسهم حلال أو حرام. فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء

إلیه، عقَّب بإیجاب الحقوق، فرحل فی شعره، وشكا النصب والسهر، وسُرى اللیل، وحرَّ

الهجیر، وإنضاء الراحلة والبعیر. فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء وذمامة التأمیل، وقرر عنده ما ناله من المكاره فی المسیر، بدأ فی المدیح "فبعثه على المكافأة، وهزَّه للسماح، وفضَّله على الأشباه، وصغَّر فی قدره الجزیل.

فالشاعر المجید من سلك هذه الأسالب، وعَدَّل بین هذه الأقسام، فلم یجعل واحداً منها أغلب على الشعر، ولم یُطل فیُمِلَّ السامعین، ولم یقطع وبالنفوس ظمأ إلى المزید"(19).

ولدى تأمّل قصیدة القطامی نجدها تنهل من أشجان ذاته بمحیطها الجغرافی والبیئی، معبرة عن أزمة مزدوجة: أزمة الذات، وأزمة الحیاة، منسابة فی فضاء تعبیری بلغ ثلاثة وأربعین بیتاً. وقد تنوّعت موضوعاتها ما بین: الوقوف على الطلل، فالحكمة، والنسیب، ووصف الرحلة والراحلة، وذكریات الأغید الربل، ثم الأخذ بالمدیح.

وقد نجح فی صهر معاناته فی ثنائیة: "القلق والأمل" القلق إزاء شظف الحیاة الصحراویة وقسوتها، جاعلاً من الذات موضوعاً، ومن الموضوع ذاتاً؛ مختزلاً أسى الإنسان فی أسى الذات، محلقاً فی فضاء تفاؤلی، رحب، یقتضی التوجه إلى المورد العذب، إلى الممدوح، لتحقیق الأمل بمستقبل أفضل!

وهذا التجاذب بین المعنیین لم یسیطر على جو القصیدة فحسب؛ بل كان الدافع الحقیقی لإنشائها، ومن ثمَّ تآلفت موضوعاتها فی تیار شعری واحد، مشدود بعاطفة الحب: حب الشاعر لطلل المحبوبة، حبه للحكمة، حبه للناقة، ثم حبه وإعجابه بممدوحه، وهذه الثنائیة: نتلمسها على صعید السیاق الشعری، وعلى صعید الأدوات التعبیریة.

1-السیاق الشعری:

یتحدث القطامی عن أزمته، وأزمة الإنسان فی الصحراء، لا على شاكلة الشعراء التقلیدیین بصوت منفرد، منكفئ على الذات، بل بصوت جماعی منفتح على الحیاة، مستفتحاً القصیدة، بتحیة الطلل، تحیة ینفذ منها من ثابت الفناء والخراب، إلى ثابت الأمل والحیاة، حیث یتداعى حدیث الذكریات الذی ما زال ماثلاً فی الأذهان، على الرغم مما طرأ من متغیرات:(20)

1-إنا محیوك فاسلم أیها الطلل *** وإن بلیتَ وإن طالت بك الطِّولُ(21)

2-أنى اهتدیتَ لتسلیم على دمنٍ *** بالغَمر غیَّرهن الأعصُرُ الأُولُ(22)

3-صافتْ تعمجُ أعناقُ السیول به *** من باكر سبِطٍ أو رائحٍ یَبِلُ(23)

4-فَهُنَّ كالخِلل الموشیِّ ظاهِرُها *** أو كالكتابِ الذی (قد مسَّه) البَللُ(24)

وهكذا تجلت فی مستهل القصیدة أولى سمات هذه الثنائیة بتلك المشاعر القلقة لذلك التحول الذی واكب موطن الذكریات –طلل الحبیبة- ثم بمشاعر الأمل التی اقترنت بتحیة السلام، وهی تحیّة مترتبة على السلامة وحیاة مترتبة على التحیة، بما ادخرته من رؤى تفاؤلیة مستقبلیة.

ثم تتوالى معالم هذه الثنائیة المفعمة بحس المكان وأسى الذات تتراءى من خلال هذا الرصد الإنسانی لما واكب حیاة الناس من متغیرات انسابت فی أبیات الحكمة بتلك المقابلات المصورة للآلام والآمال:(25)

5-كانت مَنَازِلُ منا قد یُحِلُّ بها *** حتى تغَیَّر دهرٌ خائِنٌ خَبِلُ(26)

6-لیسَ الجدیدُ به تبقَى بشاشَتُه *** إلا قلیلاً ولا ذو خُلَّةٍ یَصِلُ(27)

7-والعیشُ لا عیشَ إلاّ ما تقرُّ به *** عیناً ولا حال إلاّ سوفَ ینتقلُ(28)

8-والناسُ مَنْ یَلْقَ خیراً قائلون له *** ما یشتهی ولأُمِّ المخطِئ الهَبَلُ(29)

9-قد یُدرك المتأنی بعضَ حاجَتِه *** وقد یكونُ مع المُستَعجِلِ الزَّللُ(30)

10-وقد یُصیبُ الفتى الحاجاتِ مُبْتَدِراً *** ویستریحُ إلى الأخبارِ من یَسَلُ(31)

ومن ناحیة أخرى فقد نهضت أبیات الحكمة بخصوصیة دلالیة، من خلال تلك المقابلات التی وظفت توظیفاً فنیاً فی طرحها لوجهی الحیاة: القاتم والمشرق، أو (القلق والأمل) مما شكل لحمة صوتیة فی بنیة القصیدة بصفتها وحدةً تعبیریة.

ویبدو أن تصویر الشاعر لأزمة العلاقات الاجتماعیة وما أضحى علیه منطق الحیاة قد عزز لدیه معاناة القهر وزفرات الألم، لتخلخل القیم، ثم انبثاق الصوت الداخلی المضطرم للارتحال، وتحقیق الأمل بالاستقرار، ممهداً لابتداء مسیرة الارتحال التی یتجاذبها المعنیان، منطلقاً من البیت الذی یمثل ومضة الأمل، تتراءى فی الأفق البعید، ممثلة باسم "علیة" ذلك الاسم الموحی بالعلو والرفعة، وسمو الغایة:(32)

11-أمستْ عُلّیة یرتاحُ الفؤادُ لها            وللرواسِم فیما دونها عَمَلُ(33)

بید أن هذا العلو، وسمو الغایة لا یمنعان من الوصول إلیها، مهما واكب الرحلة من مشاق، والراحلة من جهد وإنضاء:

12-بكل مُنخَرِقٍ یجری السرابُ به *** یُمسی ورَاكِبهُ من خَوفِه وَجِلُ(34)

13-یُنْضِی الهِجَان التی كانتْ تكونُ به *** عُرْضِیَّةٌ وهِبابٌ حین تُرتَحلُ(35)

14-حتى ترى الحُرَّةَ الوَجْنَاءَ لاغِبةً *** والأرحبیَّ الذی فی خَطْوِه خَطَلُ(36)

15-خُوْصاً تُدیرُ عیوناً ماؤها سَرِبٌ *** علَى الخدود إذا ما اغرورقَ المُقَلُ(37)

16-لواغِبَ الطَّرف منقوباً حَواجِبُها *** كأنه قُلَبٌ عادیَّةٌ مُكُلُ(38)

17-ترمی الفجَاجَ بها الركبان مُعْتَرِضاً *** أعناقَ بُزَّلِهَا مُرْخىً لها الجُدُلُ(39)

وهكذا یرسم الشاعر لوحةً مجسمة متحركة لرحلة الصحراء، صارخة الألوان، ثلاثیة الأبعاد: بركبانها، وحیوانها وطبیعتها، مازجاً التصویر الحسی مع النفسی والبیئی.

ومع تنامی مسیرة الرحلة یتراءى تفعیل دور الراحلة كأداة تضامنیة مع أزمة الشاعر النفسیة عبر شعور بالمساندة الوجدانیة، آملاً بتحقیق الغایة المنشودة:(40)

18-یمشینَ رَهْواً فلا الأعجازُ خاذلة *** ولا الصدورُ على الأعجازِ تَتَّكِلُ(41)

19-فهُنَّ مُعْتَرِضَاتٌ والحَصى رَمِضٌ *** والریح ساكنةٌ والظِّلُ مُعْتَدِلُ(42)

20-یَتْبَعن مائرة العینین تَحسِبُهَا *** مجنونةً أو ترى ما لا ترى الإبلُ(43)

21-لما وَرَدْنَ نَبیّاً واستَتَبَّ بنا *** مُسْحَنْفِرٌ كخطوط السِّیْح مُنْسَحِلُ(44)

22-على مكانٍ غَشَاش لا یُنیخُ به *** إلا مُغَیِّرُنَا والمُسْتَقِی العَجِلُ(45)

ویتابع الشاعر نشیده الشعری عبر ذلك التناسق الكونی، مجسداً آفاق لوحته الصحراویة بكل تفصیلاتها الدقیقة:(46)

23- ثم استمر بها الحادی وجنَّبها *** بَطنَ التی نَبْتُها الحَوْذَانُ والنَّفَلُ(47)

24-حتى وَرَدْنَ رَكیَّات الغُویْر وقد *** كاد المُلاءُ من الكَتانِ یشتَعِلُ(48)

25-وقد تعرجتُ لمَّا وَرَّكتْ أرَكَا *** ذاتَ الشِمالِ وعن أیمانِنا الرِّجَلُ(49)

26-على منادٍ (دعانا) دعوةً كشفتْ *** عنا النعاسَ وفی أعناقِنَا مَیَلُ(50)

وهكذا استطاعت ریشة الفنان الدقیقة استیعاب كل جزئیة فی هذه المنظومة الصحراویة: بركبانها، وإبلها، وبُزلَها، وأمتعتِها، وأماكِنها، وفجاجِها، وكثبانها، ونَباتِها، وآبارِها، وسرابِها، وشح مائِها، وانحسارِ ظلِها، وسكونِ ریاحها، وسرى لیلها، وقیظ نهارها، ورَمَضِ حَصبائها، كل ذلك یوحی بأن الرحلة أوشكت على الانتهاء، متزامنةً مع تلك الدعوة التی تجاوزت الجبال الشماء موحیَّة باستشراف بعض المفاجآت:(51)

27-سمعتُها ورِعَانُ الطَّوْدِ مُعْرِضَةٌ *** من دونها وكثیبُ الغَینة السَهلُ(52)

28-فقلتُ للرَّكْبِ لما أن علا بِهمُ *** من عن یمین الحُبیَّا نظرة قَبَلُ(53)

29-ألمحةً من سَنَا بَرق رأى بصری *** أم وجهَ عالیةَ اختالتْ به الكِلَلُ(54)

30-تُهدِی لنا كُلَّ ما كانتْ عُلاوتُنَا *** رِیحَ الخُزامى جرى فیها النَدى الخَضِلُ(55)

أجل.. لقد أشاع ذلك النداء إیقاظاً شعوریاً وتفتحاً نفسیاً لدى الشاعر، ملمحاً بتلاشی أزمة القلق، وتفتح مشاعر الأمل، متزامناً مع إطلالة وجه عالیة الذی ملأ الكون ألقاً وبشراً وعبیراً أخاذاً. واستشعار ذلك الأمل قد أحدث نوعاً من الابتهاج النفسی الذی هیأ لتداعی أو استشراف مناخ عاطفی مع امرأة غیداء ذات حسن وجمال:(56)

31-وقد أبیتُ إذا ما شئتُ مَالَ معِی *** على الفراشِ الضجیعُ الأغیدُ الرَّبِلُ(57)

32-وقد تُباكرنی الصهباءُ ترفَعُها *** إلیَّ لینةٌ أطرافها ثَمِلُ(58)

ثم تتصعد إشراقة الأمل فی الخطاب الشعری بالتفات الشاعر إلى ناقته التی شاطرته رحلة العناء والقلق، فلیكن لها حظ من بهجة الأمل:(59)

33-أقولُ للحرف لمَّا أن شَكَتْ أُصُلاً *** مَتَّ السِّفَارِ وأفنى نَیِّها الرحلُ(60)

34-إن ترجعی من أبی عثمانَ مُنْجَحَةً *** فقد یهونُ على المُسْتَنِْجِحِ العَمَلُ(61)

ثم تمضی القصیدة عبر ذلك الانفتاح النفسی مشكلةً نقلة معنویة مؤدیة للالتئام التام بین بعدی الثنائیة، من خلال الوصول إلى الممدوح(62)، مما اقتضى آلیة جدیدة فی التقنیة الشعریة، منها تداخل الخاص مع العام، فعطاء الممدوح سیحقق آماله وآمال أهل المدینة قاطبة. ومنها توجه الخطاب الشعری من الأنا إلى الآخر، ومن الضمیر الأحادی إلى الجمعی؛ فالنشید المدحی یتراءى حتى نهایته بضمیر جمعی، وكأن فضائل القوم مجتمعة قد اختزلت فی الممدوح، مشكلةً منظومة من القیم الدینیة والاجتماعیة:(63)

35-أهلُ المدینة لا یَحزُنك شأَنَهُم *** إذا تخاطأ عبدَ الواحِدِ الأَجلُ

36-أما قُریشُ فلن تلقاهُمُ أبداً *** إلاَّ وهم خَیرُ من یَحفَى وینتعلُ

37-إلاَّ وهم جَبَل اللهِ الذی قصرتْ *** عنه الجبالُ فما سوّى به جَبَلُ

38-قومٌ هُمُ ثبَّتوا الإسلام واتَّبعوا *** قولَ الرسول الذی ما بعده رسُلُ(64)

39-مَنْ صَالحوه رأى فی عَیْشِه سعَةً *** ولا یرى مَنْ أرادوا ضَرَّه یَئِلُ(65)

ثم یشكل القطامی من هذا الفیض الغطائی وأصالة المنبت علاقة تكافؤ وتوحد مع الممدوح؛ فكلاهما فی موقف الأخذ والعطاء؛ فالشاعر یسدی إلیه عبیر ثنائه، والممدوح یزجی إلیه سحائب جوده، مشكلاً منهما خیطاً شعوریاً كان بمثابة التلاحم الحقیقی لثنائیة القلق والأمل، ذلك المخزون النفسی الذی أسفر بعد طول عناء وانتظار عن تحقق الحلم المنشود الذی فاق كل التوقعات(66):

40-كَمْ نالنی منهُم فَضْلٌ علَى عَدَمٍ *** إذ لا أكادُ من الإقتار أحتملُ(67)

41-وكَمْ من الدهر ما قد ثبَّتوا قدمی *** إذ لا أزالُ مع الأعداءِ أنتَضِلُ(68)

أجل... فقد تحقق الأمل! ومما عزز اللذة بتحققه أن الشاعر تلقاه فی سیاقه التاریخی والاجتماعی والنفسی؛ ذلك العطاء الذی لم یشبه مَنٌ أو محاباة أعداء، ولا غرو فی ذلك فالشیء من معدنه لا یستغرب، فهم الملوك، أبناء السیادة والجود:(69)

42-فلا هم صَالحوا مَنْ یبتغی عَنَتی *** ولا هُمُ كدَّروا الخیرَ الذی فَعلوا(70)

43-همُ الملوكُ وأبناءُ الملوكِ لهم *** والآخذون به والسَادةُ الأُوَلُ(71)

وبهذه الأبیات یكون الخطاب الشعری قد أوفى على النهایة، كما أوفى على الغایة، إذ نهضت القصیدة بدورها الحیوی فی صنع القرار الحاسم فی حیاة الشاعر؛ فقد ذكر صاحب الأغانی عن أبی عمرو بن العلاء "أن القطامی عندما أنشد القصیدة لعبد الواحد فقال له: كم أمَّلتَ من أمیر المؤمنین؟ قال: أمَّلتُ أن یعطینی ثلاثین ناقة! فقال: قد أمرتُ لك بخمسین ناقة موقرةً بُرَّاً وتمراً وثیاباً، ثم أمر بدفع ذلك إلیه"(72).

وهكذا انتظم السیاق الشعری فی نسق تعبیری متآلف حیث ابتدأ بزفرات القهر والقلق، وانتهى بإشراقة التفاؤل والأمل، تلك التی تتلمسها على صعید الأدوات التعبیریة.

2-الأدوات التعبیریة:

شكلت لغة الخطاب الشعری بشتى مستویاتها دوراً تأسیسیاً فی تجسید ثنائیة "القلق والأمل" بكونها ثابتاً من ثوابت القصیدة، تلك التی تجلت على صعید: المعجم الشعری، الحقول الدلالیة، العبارات، المفردات، الإیقاع الداخلی، الموسیقى الخارجیة.

أ-المعجم الشعری:

وفق القطامی فی انتقاء معجمه الشعری انتقاء: "أستاذ بلیغ یعرف كیف یستدعی انتباهك، ویشد اهتمامك... أدیب یسمعك مختارات من أجمل الشعر العربی، وأكثره فصاحةً وسحراً.."(73).

ومع أن الشاعر قد اختار معجمه الشعری من اللغة التی ألفناها فی العصر الجاهلی إلا أن القطامی قد تصرف فی معطیاتها بما یتلاءم وموقفه النفسی؛ ففی الرحلة الصحراویة حیث مشاعر القلق فی ذروتها تداعت اللغة بأوابدها وشواردها وخشونتها، مثل: دمن، منخرق، الوجناء، فجاج، مستحنفر، غشاش- الخ.." وعند توجهه إلى الممدوح حیث إشراقة الأمل اتجهت اللغة من الوعورة والخشونة إلى الرقة والعذوبة، والتحضر، ویؤید ذلك أن النشید المدحی فی مجمله قد كفانا مؤنة البحث عن مستغلق المعانی وغریبها.

ب-الحقول الدلالیة:

تنوعت الحقول الدلالیة مشكلة معبرة موحیة بدلالتها على الحالات النفسیة المتعاقبة للشاعر، وهی:

-حقل الفناء : وینطلق من الطلل، ویعبر عن فناء الذات، أو درجة الإحباط النفسی، ویتجسد فی: الطلل، بلیت، دمن، غیرهن، الأعصر الأول، صافت، الخلل، الكتاب المبلل، تغیر، دهر خائن، خبل، بشاشته، تبقى قلیلاً، حال تنتقل.

-حقل الصحراء: ویمثل مرحلة البرزخ، ویتماهى فیه: الفناء بالحیاة، والموت بالبعث، وهو معبر الشاعر من الطلل إلى الممدوح، ویصطبغ بالخوف، وترقب المجهول، ویتمثل فی: المنخرق، السراب، وجل، ینضی، لاغبة، خوصاً عیونها، منقوباً حواجبها، مائرة العینین، الفجاج، الحصى رمض، مسحنفر، غشاش، یشتعل.

-حقل العبور : ویتراءى فیه ذكر المحبوبة والشوق إلیها مع بدء الوصول للممدوح، ومنه: یمشین رهواً، الحادی، نبتها الحوذان والنفل، الركب، لمحة، سنا برق، وجه عالیة، الخزامى، الندى الخضل، الأغید الربل، الصهباء، لینة الأطراف.

-حقل الأمل : ویتماهى فیه لقاء الممدوح بتحقیق الأمل، ممثلاً فی: (أبو عثمان)، أهل المدینة، قریش، خیر، جبل الله، ثبَّتوا، صالحوا، عیش، سعة، نالنی، فضل، الخیر، الملوك، أبناء الملوك، السادة الأول.

ومع تعدد هذه الحقول الدلالیة كان هناك ثابتان یؤلفان بینها، هما: ثابتا الحركة والاستقرار، وكان الجسر الرابط بینهما: أبیات الحكمة.

ج-العبارات:

نهضت عبارات الحكمة بوظیفة تعبیریة ثنائیة الغایة؛ فإلى جانب كونها الرابط بین الحقول الدلالیة، قد حققت نوعاً من العزاء النفسی للشاعر، بالانتقال من عالم الطلل، عالم القلق والكبت النفسی، إلى عالم الآخر، عالم تتواصل فیه الحیاة ویتنسم فیه عبیر الصحة النفسیة، منتفعاً بحصاد التجارب الإنسانیة الثَّرة حیال ما یعتمل الحیاة من صراع ومتغیرات؛ لا سیما وأن الناس یجاملون السعید ویتنكرون للخائب الشقی، إذن الحیاة صعبة، ولا بد فیها من إثبات الذات، فلینطلق إلى أفق آخر، ولیكن بتأن وحذر:

والناس من یلق خیراً قائلون له *** ما یشتهی ولأمّ المخطئ الهُبَلُ

قد یدرك المتأنی بعض حاجته *** وقد یكون مع المستعجل الزلل

فاستعمال (قد) مع الفعل المضارع نهض بمغزى دلالی فی احتمال حدوث الفعل، وفی هذا دلالة على أن الأمل الذی یسعى إلیه قد یتحقق، كما قد یكون مع المستعجل الزلل، إذن لا بد من التریث، والبحث عن الأفضل، والأفضل یتراءى عند رجل الفضل والجود، فلیشد الرحال إلى أبی عثمان، حیث الأمل المنشود.

وهاجس الرجل بالتفاؤل یتراءى منذ مطلع القصیدة، فالتحیة للطلل فی مستهل القصیدة لا تعنی السلام المجرد، بل السلامة، ویؤید ذلك أن من معنى "الطِّول" طیلة العمر؛ جاء فی اللسان: أطال الله طِولك، أی عمرك:

إنا محیوك فاسلم أیها الطلل *** وإن بلیت وإن طالت بك الطَوْلُ طِوَلَكَ

 وهذا یسلمنا أن تراكیب القصیدة تجسد ثابت الحیاة إزاء ثابت الفناء، ویعزز ذلك تشبیهه آثار الطلل بالكتاب الذی مسه البلل ومع ذلك لم تطمس حروفه ومعانیه، وبالسیف الذی تقادم عهده ولم تمح آثار وشیه وجماله:

فهن كالخلل الموشیِّ ظاهرها *** أو كالكتاب الذی قد مسه البلل

وهذا التجاذب بین الزوال والبقاء فی البیت الواحد یوحی بالرحیل العاطفی من ناحیة وبالتطلع للأمل المرتقب، وحب الحیاة من ناحیة أخرى.

د-المفردات:

زخرت أبیات القطامی بمفردات تجاوزت دلالتها المعجمیة إلى دلالة إیحائیة. من ذلك استخدامه لمفردة: "الرواسم" لخصوصیة معناها؛ فهو لم یستخدم مفردة أخرى ترادفها فی معناها ك الرواحل –مثلاً- لأن لفظ الرواسم یوحی بتصور الإبل وهی ترسم على الأرض بأخفافها موحیّةً بمسار الرحلة الصحراویة بكل أبعادها الحسیة والنفسیة. وأیضاً استخدامه لمفردة "الجبل" فهی توحی بمغزى عمیق، ینهض بمعنى الاستقرار والثبات، وعندما یوصف به الممدوح فهذا یعنی تعزیز الثقة بالعطاء، لا سیما إذا كان هذا الجبل شامخاً كالطود العظیم.

ومن ناحیة أخرى نهضت مفردات الأنوثة بوظیفة دلالیة مكثفة عمَّقت تلك الثنائیة، مُشَكِّلَةً عنصراً شعریاً ذا قطبین، الأول: المحبوبة الرمز، وتراءى باسم "علیة" ذلك الاسم الموحی بالعلو والرفعة، والتطلع للأمل المرتقب؛ ولذلك صورها فی مطلع القصیدة بأمل یحن إلیه؛ لكنه بعید المنال، یقتضی شد الرحال، وتجشم الصعاب.

أمستْ علیة یرتاح الفؤاد لها *** وللرواسم فیما دونها عملُ

وعندما أوشك الأمل یلوح بالأفق بدا وجه "علیة" مشرقاً یملأ الآفاق بعبیره الأخاذ، مقترناً بذكر البرق؛ والبرق مصدر للمطر، والمطر حیاة الأرض، وحیاة الأنفس، ومن ثمَّ كان ارتباطه باسم علیة موحیاً بأنها رمز للأمل، لحیاة الشاعر، ویدعِّم ذلك امتزاجه بریا طیبة، مضمخاً بالندى وشذى الخزامى، كنایة عن سمو العطاء وسخائه:

ألمحة من سنا برق رأى بصری *** أم وجه عالیة اختالت به الكلل

تهدی لنا كل ما كانت علاوتنا *** ریح الخزامى جرى فیها الندى الخضل

أما القطب الآخر لخصوصیة مفردات الأنوثة فقد تبدى بذكریات "الأغید الربل" تلك المحبوبة التی تربطها بالشاعر علاقة عاطفیة، تتراءى بالسعادة التی استشرفها قبیل الوصول إلى الممدوح، وهذا الوجود الأنثوی "للأغید الربل نهض بوظیفة أخرى مشكلاً لبنة من بنیة القصیدة المدحیة التی یُعدّ الغزل أحد أركانها، إلى جانب إبانته عن رمزیة اسم "علیة" وأنه لیس اسم الحبیبة على الحقیقة.

ومن المفردات التی وظِّفت توظیفاً إیحائیاً تلك المقابلات التی طرحتها أبیات الحكمة كاشفة عن الجوانب القاتمة والمضیئة فی أخلاقیات الناس وسلوكهم، ممثلة بتلك الثنائیات: الماضی والحاضر، الفقر والغنى، السعید والشقی، السخط والرضى، الصواب والزلل، تحقق الحاجة وإخفاقها، المبادرة والتواكل، العجلة والأناة، تهلیل الناس للمحظوظ وتنكرهم للخائب.

ه-الإیقاع الداخلی:

شكل الشاعر إیقاع قصیدته العام وفق الإیقاع الخلیلی الجهیر الصوت على نغمات بحر البسیط، بید أن الموسیقا الداخلیة للنص زادت من التناغم الموسیقی محاولة المزاوجة بین الشكل والمضمون لتوصیل الرسالة الشعریة، بطریقة جذابة إلى المتلقی.

وقد انسابت هذه الموسیقا وفق مظاهر عدة، كان منها: الصوت، والكلمة، والعبارة، والتوازی بین التراكیب فی ثنایا الأبیات.

فعلى صعید الاستخدام الصوتی كثَّف القطامی من استخدام حرف الهمزة، متكئاً على خصوصیتها الصوتیة المؤثرة، فالهمزة: "انفجار صوتی یثیر انتباه السامع، فاستعملها العربی فی مقدمة معظم أحرف النداء. كما یدل صوتها الانفجاری على الحضور والبروز، فتصدرت ضمائر المتكلم والمخاطب، وما إلى ذلك.."(74)

إذاً لم یكن ولید المصادفة استهلال الشاعر قصیدته بحرف الهمزة، بل واشتمال البیت الأول أیضاً على أربعة حروف همزیة.

ومن نماذج الاستخدام الصوتی تكرار حروف بعینها فی الشطر الواحد، وأحیاناً فی البیت الواحد، من ذلك على سبیل المثال:

ورود حرف "اللام" وهو حرف الروی ست مرات فی البیت الأول، وحرف "الطاء" خمس مرات.

ورود حرف "التاء" ثلاث مرات فی الشطر الأول من البیت الثانی.

ورود حرف "النون" أربع مرات فی البیت الخامس.

ورود حرف "الیاء" أربع مرات فی البیت السادس.

وعلى هذه الشاكلة تتكرر بعض هذه الأحرف وسواها فی ثنایا الأبیات، مما یحقق إیقاعاً موسیقیاً داخلیاً، لیس قائماً على البحر والقافیة، بل على الحركة الداخلیة القائمة على تردد الحرف نفسه واختلاف حركاته فی البیت الواحد، فالموسیقا تسیر فی صعود وهبوط وفق الحركات الداخلیة للحروف متلائمة مع الإیقاع العام؛ من ذلك ما نجده من ورود حرف اللام فی البیت الأول ست مرات بحركات متعددة:

إنا محیوك فاسلمْ أیها الطَّلَلُ *** وإن بَلِیتَ وإن طَالَت بل الطِّولُ

فاللام ابتداءً وردت مفتوحة واختفت وعادت مفتوحة ومضمومة ثم اختفت، ثم جاءت مكسورة واختفت، إلى أن عادت مضمومة مشكلة حرف الروی للقصیدة.

كما تجلى النغم الداخلی وفق مظاهر أخرى نتلمسها بتردد ألفاظ بعینها فی ثنایا الأبیات، مثل قوله: "إلا وهم، كم، إذ لا، فلا هم، هم"(75).

36-أما قریش فلا تلقاهم أبداً *** إلاَّ وهم خیر من یحفى وینتعلُ

37-إلاَّ وهم جَبَل الله الذی قصرتْ *** عنه الجبالُ فما سوّى به جَبَلُ

40-كم نالنی منهم فضل على عَدَمٍ *** إذ لا أكاد من الإقتار أحتملُ

41-وكم من الدهر ما قد ثبَّتوا قدمی *** إذ لا أزال مع الأعداء أنتضلُ

42-فلا هم صالحوا من یبتغی عَنَتی *** ولا هم كدَّروا الخیر الذی فَعَلوا

43-هم الملوك وأبناء الملوك هُمُ *** والآخذون به والسادة الأولُ

وهذا التردد اللفظی قد حقق توازناً إیقاعیاً متناغماً مع الإیقاع الشعری العام.

الإیقاع الخارجی:

شكل الإیقاع الخارجی لمدحیة القطامی میسماً من میاسم الوحدة التعبیریة للقصیدة، فكما هو معلوم أن الوزن العروضی، أو الإیقاع الخارجی یتداعى تبعاً لطبیعة التجربة الشعوریة؛ فالقصیدة تقول ما تقول ابتداءً من إیقاعها الشعری ثم بفضائها التعبیریة الذی یترجم الحالة النفسیة للشاعر مما یوحی بصدق التجربة وتأثیرها. وقد نهض هذا الإیقاع الموسیقی للقصیدة لیخدم الحالة الشعوریة: القلقة ثم المستقرة، فبدا متساوقاً مع هذا التیار الذی اتضح فی تلك المراوحة لحركة الانتقال والسیر عبر الصحراء صعوداً وهبوطاً متناغماً مع حركات تفعیلات البحر البسیط:

مستَفعِلن فَاعِلن مستفعِلن فَاعِلن *** مستَفعلن فَاعِلن مستَفعِلن فَاعِلن

إلى جانب ما أداه حرف القافیة من وظیفة إیقاعیة تراءت بحرف اللام المضمومة المشبعة المتجهة للأعلى متلائمة مع مسار الرحلة فی توجهها الارتقائی نحو الممدوح.

وعلى هذا فالإیقاع الشعری بمحوریه: الداخلی والخارجی قد نهض بوظیفة تعبیریة انضوت فی ثنایا المنظومة العامة للمدحیة، التی شكلت ثنائیة: "القلق والأمل" ركیزتها الرئیسة. مما یمنحنا الثقة للقول: إن القصیدة العربیة التقلیدیة عامة، والمدحیة على وجه الخصوص، لیست على إطلاقها، مفككة الأغراض، مشتتة الأوصال، إنما قد نجد فیها هذا التواصل العضوی الذی هو أداة الناقد والمتلقی لاستعادة وجوده وغایته.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:20|
لمحات.. من أدب أواخر العهد العثمانی فی مدینة حمص 

هذه باقة من الحدیث عن بعض شعراء حمص فی نهایة العهد العثمانی، لم أشأ أن تتخذ طبیعة البحث فی اتجاه واحد، ولكنی أردت لها أن تكون حُسوة طائر ولمحة عابر، إنها إلمامة السائح العجلان یلاحقه نفیر القطار وإلحاح المسافرین.. فإلى بعض المعالم لاكلها.. ولعل إلمامة أخرى وأخرى تتیح لنا الولوج إلى الخبایا والزوایا...

الحدیث عن أدب القرن التاسع عشر فی حمص خاصة وبلاد الشام عامة حدیث ذو خصوصیة، فلیس موضوعه ذاك الموضوع الممتع المشوق، ولا أفقه ذاك الأفق الرحیب المترامی الآفاق الذی یجذب إلیه المتشوق الظامئ، ولیست فیه تلك الومضات الذكیة الرائعة التی تعجب بها العقول، ولا تلك العواطف الدافئة التی تستكین إلیها النفوس.

هذه الأحكام السلبیة التی بدأت بها كلامی قد تكون صادقة على العموم، ولكن أیضاً قد لا تكون شاملة على الرغم من صدقها، فالباحث لا یمكن أن یفقد فی خضم ذلك الأدب بصیص نور هنا وقبساً من النار هناك، وأن من الصخر لما یتفجر منه الأنهار. وإذا كنا لا ننتظر أنهاراً ولا سواقی تتفجر من شعر شعراء ذلك القرن، ولا نتوقع بزوغ شموس منهم فی سماوات الشعر وآفاقه... فإننا لا نعدم لدیهم بعض الدفء والإخلاص نلمسه ونحسه فی مقطوعات من شعرهم وخاصة فی شعر التوسلیات والمدائح النبویة والقصائد ذات المنحى الصوفی.

ونعود إلى مدینة حمص وإلى تاریخ الأدب فیها: یخبرنا الأستاذ المرحوم رفیق فاخوری(1) فی مقالة له أن النشاط الأدبی بدأ یدب فی حمص منذ عام 1930 أو قبله بقلیل، أما الزمن الذی سبق هذا التاریخ فقد وجد فیه أدب لا یسمو على مستوى الأدب العثمانی إلا بمقدار... فالعقم والكلفة یسودانه، وربما فضله أدب عصر الانحطاط من حیث الشكل وسلامة التعبیر(2).. ویمكن أن نضیف إلى قول الأستاذ الفاخوری قولنا: أن تفاهة الموضوعات هی غالباً ما یتسم به شعر تلك المرحلة وأدبها إلا ما نجا لسبب أو لآخر.

ومن الجدیر بالذكر ههنا أن شعر شعراء حمص فی تلك المرحلة من الصعب جمعه، فباستثناء دیوان الشیخ أمین الجندی ودیوان مصطفى زین الدین لا یوجد بین أیدینا أثر آخر مطبوع إلا ما قام بنشره میخائیل بطرس معماری من شعر بطرس كرامة(3) وإبراهیم الحورانی(4) ولم أقف علیهما، أما الآثار الأخرى فهناك دیوان تام حصلت على مصورة له من الظاهریة بدمشق وهو دیوان محمد درویش عجم(5)، وهناك دیوان عمر نبهان الموجود لدی مخطوطاً.. وأخبرنی الأستاذ عبد المعین الملوحی أن لدیه مخطوطاً یشتمل على شعر الشیخ زكریا الملوحی ولم أره.. أما سائر القصائد لسائر الشعراء فهی موزعة فی كنَّاشات لدى الأسر، وبعض الأسر ضنین بها حریص علیها.. ولكن ذلك الحرص لا یستمر فی الأجیال الجدیدة ولا ینتقل إلیها- وقد یكون الحق إلى جانبها- مما یؤدی إلى ضیاع كثیر من آثار شعراء المدینة فی ذلك العصر واندثار أخبارهم.

ومن الملاحظ التی یجب تقدیمها أن أولئك الشعراء كان جمهورهم من فئة العلماء، علماء الدین، الذین لهم مشاركة فی عدد من فنون العلم كالفقه والأصول والمنطق والقراءات... وكان الشعر لدیهم مظهراً من مظاهر البراعة والتمیز من الآخرین.. فالشیخ العلامة خالد الأتاسی(6) معروف فی تاریخ الفقه والقانون بشرحه العظیم للمجلة(7)، ولكنه كان یقول الشعر، والشهید عبد الحمید الزهراوی معروف بعمق ثقافته الحكمیة والفلسفیة والفقهیة والسیاسیة وكان یقول الشعر وقد یرتجله، وعلمت من الشیوخ أن له دیواناً أتلف برمیه فی البئر لدى مداهمة الأتراك لبیته.. وقل مثل ذلك فی سائر الشعراء فی تلك المرحلة، فقد كان معظمهم من حملة العلم ونقلته وملقنیه إلى الأجیال التالیة، ولم یكونوا من الشعراء أصحاب الرؤیة النفاذة الخلاقة ولا من أصحاب الریادة والإبداع.. وأرى أن مثل هذا الحكم لا ینطبق على حمص وحدها وإنما یمكن تعمیمه على بلاد الشام، فقد كان الشعر الحی الخلاّق مفقوداً إلا من بعض الومضات، وكانت سوریة كما یقول الأستاذ أحمد الجندی(8): عالة فی الثقافة الأدبیة والإنتاج الفنی على مصر، ومرتبطة بها ارتباطاً أدبیاً وثیقاً، ولم یكن لدینا شاعر یحسب حسابه، وشعراؤنا آنذاك لم یتأثروا بأحد ولم یؤثروا فی أحد، بل كانوا ینضحون من ذاكرتهم ما وعت من المحفوظات ینظمونها مجدداً.. أو فی قالب آخر دون أن یتكلفوا إیراد معنى نفیس أو خیال طریف... لأن إلهامهم الشعری كان مقصوص الجناح مهیضاً لا یستطیع الارتفاع والسمو إلى الأجواء العالیة، فكلهم قد تعلموا النظم، ولكنهم لم یلهموا الشعر، لذلك یمكننا أن نعد عشرین واحداً منهم ممن یجید النظم، ومع ذلك قد لا نحظى بقصیدة واحدة لهم جمیعاً تستحق تسمیتها بالشعر. ولكن إذا كانت هذه الأحكام صحیحة أو على قدر محدود من الصحة فما فائدة تتبع أخبار هؤلاء الشعراء وما الغایة من الاهتمام بشعرهم أو الكاتبة عنهم؟!

والجواب: إن ذلك الجیل یمثل حلقة من حلقات تاریخنا الأدبی قد تعجبنا أو لا تعجبنا ولكنها كانت حقیقة واقعة فهی تستحق التسجیل والحفظ والبحث والدرس ولها ما لها وعلیها ما علیها، وهی على كل حال كانت مرآة لعصرها، وإذا كان ذلك العصر یتصف بالخمود والخمول فمن أین التألق والصفاء؟

ویجب أن نذكر أن شعراءنا فی تلك المرحلة كانوا علماء شعراء فی عصر یعز فیه وجود القارئ الكاتب ربما فی حی بأكمله أو فی أسرة بقضها وقضیضها.. فآثارهم إذن هی من أهم ما تبقى لنا من آثار عقلیة لجیل كامل. زد على ذلك أن كثیراً من الأحداث المحلیة كإقامة بناء ما أو مجیء والٍ أو رحیل باشا أو حدوث شغب... كل ذلك كان یسجل فی الشعر.. فشعرهم بغض النظر عن قیمته الأدبیة یتضمن فوائد تاریخیة واجتماعیة وأثریة. هذا ولعل ولوجنا حرم أولئك الشعراء ومخالطتنا لشعرهم سیعدل من أحكامنا العامة القاسیة تجاه بعضهم على الأقل، وسأختار بعض شعراء ذلك العصر وأتحدث بإیجاز عن كل واحد منهم، وسأبدأ بأعرفهم وأكثرهم شهرة وشیوع ذكر، أعنی بالشیخ أمین الجندی.

الشیخ أمین الجندی:

ولد فی حمص عام 1766م وبها تلقى علومه الأولى على الشیخ محمد الطیبی والشیخ یوسف الشمسی، وتابع تحصیله فی دمشق على ید عدد من علمائها كالشیخ أحمد العطار وعبد الرحمن الكزبری وغیرهم، وله فیهم قصائد مدیح رنانة. وعرف الشیخ بتعلقه بآل الكیلانی ومدیحه لهم. ولما جاء إبراهیم باشا سنة 1247هـ قرّب الشیخ أمیناً إلیه وجعله ندیمه، وكان الشیخ ینظم القصائد مصوراً انتصارات إبراهیم باشا وهزائم الأتراك:(10)

هذا ولما فاض جور الترك فی *** ظلم العباد وصار أمراً مشكلا

وتظاهرت أعمالهم بمقاصد *** ومظالمٍ وحوادثٍ لن تقبلا

سلبوا البلاد من العباد فلا ترى *** فی حكمهم ذا نعمة متمولا

والملك ملك الله یؤتیه الذی *** قد شاء لا هو بالوراثة والولا

من یخبر الأتراك أن جیوشهم *** هُزمت وأن "حسینهم" ولَّى إلى

وقد لا تكون لهذا الشعر أهمیة فنیة، لكن الخطورة فیه آنذاك والأهمیة الكبرى أنه أنكر حق الأتراك فی الحكم وجعلهم من المغتصبین له ومن المحرّفین لكتاب الله، وقرر أن الحكم إنما هو للعرب، لذلك شن حملة شعواء فی هذه القصیدة على أنصار الأتراك من العلماء السائرین فی ركابهم، والذین یزینون أعمالهم على أنها هی الحق ویشاركونهم فی ارتكاب المظالم:

ومشایخ الإسلام أصبح جهلهم *** علَماً فلم تر قط منهم أجهلا

وقضاتهم للسحت قد أكلوا فهل *** أبصرت حیاً من مضرّتهم خلا

زعموا أولی الأمر الولاة وغرّهم *** فی الآیة الاصغا لمن قد أوّلا

نعم الخلافة فی قریشٍ أصلها *** وبها لقد جاء الحدیث مسلسلا

ولا شك أن هذا الصوت نادر آنذاك، له قیمته القومیة وإن كان فجاً من الناحیة الفنیة. وقد سافر الشیخ أمین الجندی إلى القاهرة صحبة إبراهیم باشا الذی قدمه إلى والده محمد علی باشا بقوله: أتیت لك بأعز هدیة من البلاد الشامیة. وأنشد الشیخ الجندی بین یدی محمد علی قصیدة امتدحه بها، ابتدأها بغزل جمع فیه ما استطاع من السابقین:

بدت شمساً وماست سمهریا *** وغنت بلبلا ورنت ظُبیا

وسلَّت من لواحظها جهاراً *** على العشاق عضباً مشرفیا

مهاةٌ ما رآها البدر إلا *** تمنى أن تكون له محیا

سرتْ والنور یغشاها سُحیراً *** وعرف المسك یصحبها ملیا

وسرتُ وراءها وأنا سعید *** بلثمی نعلها الرطب الذكیا

وبعد أن لثم نعلها وصل الشیخ إلى ما یسمیه علماء البدیع بحسن التخلص فانتقل من الغزل إلى المدیح:

إلى أن أجلستنی فوق عرشٍ *** لدى قصر حوى روضاً بهیا

ذكرت لها الأفاضل فاستهلتّ *** بمن لأبی الحسین غدا سمیا

إماماً عارفاً براً تقیا *** خفاجیاً كریماً أریحیا

ویستمر بإیراد معانی المدیح مستعرضاً ما وعته ذاكرته.. ولا أرید أن أطیل فی الحدیث عن الشیخ الجندی لأن حیاة الرجل وشعره ومواقفه یمكن أن تقصر حدیثنا علیه وما إلى هذا قصدنا، لذلك سأختصر حدیثی بإشارات سریعة إلى ما أراه هاماً فی شعره.

لا شك فی أن الشیخ كان مشغوفاً بالجمال، ذا قدرة رائعة على النظم، ولكن سلاسل التقلید الشعریة كانت أقوى منه ومن غیره فرسف فی أغلالها، فامتلأ دیوانه بالتخمیس والتشطیر واستخدام مصطلحات العلوم التی كثیراً ما أساءت إلى الشعر وسلبته تدفقه وحیویته.. ومع ذلك ففی دیوانه ومضات ولموسیقاه نفثات ومن منا لا یطرب لقول الشیخ ترتله حناجر المنشدین:

یا غزالی كیف عنی أبعدوكْ *** شتتوا شملی وهجری عودوكْ

 ***

قلت: رفقاً یا حبیبی قال: لا *** قلت: راعِ الودَّ یا ریم الفلا

قال: من یهوى فلا یشكو البلى *** قلت: حسبی مدمعی لی قال: لا

 ***

ذاب قلبی فی هوى بیض اللَّمى *** واستهلّ الدمع من عینی دما

ثم ودعت حیاتی عندما *** فأرقونی. یا ترى كیف السلوكْ

ومن لا یترنح مع ضربات الإیقاع على قوله:

هیَّمتنی تیَّمتنی *** عن سواها أشغلتنی

عاتبی ماذا علیها *** باللقا لو أتحفتنی

ولا یزال شعره یغنَّى حتى أیامنا، وسمعت أن أصحاب هذا الفن فی حلب یعتنون بأدوار الشیخ الجندی عنایة فائقة.

وأترك الشیخ الجندی وأنتقل إلى الحدیث عن شعراء لم تطبع دواوینهم، وقد عاش أكثرهم وتوفی فی القرن التاسع عشر، وأحدهم كان مخضرماً بین التاسع عشر والعشرین، ولكنه فی أشعاره لم یكن سوى امتداد لما كان علیه الشعر قبله على الرغم من معاصرته لشوقی وحافظ ولغیرهم من مبدعی الشعر. وسأذكرهم حسب تسلسل وفیاتهم الأقدم فالأقدم وسیكون المقدم ذكره الشیخ زكریا الملوحی.

زكریا الملوحی:

هو زكریا بن إبراهیم بن علی الملوحی، ولد وتوفی فی حمص، ورجح المرحوم أدهم الجندی أن وفاته ربما كانت بین عامی 1843-1848م. وذكر الجندی أنه لم یعثر لهذا الشاعر إلا على أبیات قلیلة رواها فی كتابه.

وقد ساقت إلی المصادفة كنَّاشاً اشتمل فیما اشتمل علیه، على عدة قصائد للشیخ زكریا مما جعل.. فی الإمكان التعریج على شعر هذا الشاعر فی حدود ما عثرنا علیه.

القصائد التی حفظها الكنَّاش معظمها ذو منحى صوفی، وهی على قلتها تدل على علو كعب الشاعر وعلى مقدرته على نظم القریض، كما تشیر إلى التأثیر العمیق الذی أحدثته ثقافته الدینیة والصوفیة فی شعره.

والحق أن الشیخ كان ینهج فی شعره منهجاً مطروقاً ویسیر فی طریق لاحبة عبَّدها من سبقه من شعراء التصوف. وأتى هو ینسج على منوالهم، ویشطِّر أشعارهم أو یخمّسها، ویستخدم أسالیبهم الرمزیة فی التعبیر عن حبه للذات الإلهیة وذلك بالغزل الحسی فی الظاهر، وإفهام هذا الغزل بالرموز التی تصرف المعانی عن ظواهرها وتشیر إلى المقصود منها، وتبعد عن الخاطر تلك المعانی الظاهرة الطافیة على السطح، ولنأخذ مثالاً على ذلك بعض أبیات له من قصیدة "مد المدید":

ذات حسن ذكرها سكَر *** وجها تعنو له الصورُ

مذ تبدّت فی محاسنها *** تنجلی حارت بها الفكر

إن هذا الكون مظهرها *** یقظة یا من له نظر

نسبةٌ هذا الجمال لها *** ظاهراً، فالمبتدا الخبر

فالبدایة كما نرى غزلیة وعادیة جداً، ثم أتت التلمیحات والعبارات التی تصرفنا عن الدلالات الحسیة إلى فهم ما یرنو إلیه الشاعر وهو التغنی بجمال الذات الإلهیة المتجلیة ظاهراً فی جمال هذا الكون.

ویمیل الشیخ الملوحی فی معظم ما وجدناه من شعره إلى استخدام مصطلحات العلوم التی یعرفها، ویفسح المجال لولعه الشدید بالمحسنات البدیعیة، ویتفنن فی إیرادها، ولنقف لدن هذه الأبیات: (من الطویل)

أریح الصبا مُرّی على حیّ من أهوى *** وقولی له: مضناك أودت به الأهوا

وحییه عنی یا ریاح تحیة *** معنعنة عنها حدیث الهوى یروى

وبثِّیه أشجانی ووجدی ولوعتی *** وكیف عِنانی عنه فی الحب لا یُلوى

أبیت اللیالی ساهر الطرف ساجیاً *** وروض هجوعی كله یابس أحوى

وأصبح مسلوب الجنان مولِّها *** كمجنون لیلى غارقاً لا أرى الصحوا

وطُور اصطباری دكه عاصف الجوى *** غراماً بمن أضحى فؤادی له مأوى

وأثر الصنعة أبرز من أن یخفى، وكأن الشاعر یصوغ شعره صیاغة عقلیة، فهو یمد یده إلى معارفه المتنوعة یتناول منها ما یرید، لیبنی به القصیدة، فتأتی القصیدة كأنها بناء استمدت حجارته من مقالع مختلفة، لكن الغایة توحد هذا التعدد، وما الغایة ههنا سوى أن الشاعر یعبر عن مواجده بهذه الطریقة التی ارتضاها لنفسه، وارتضاها عصره لشعرائه. وقد لاحظنا استخدامه لمصطلحات بعض العلوم "معنعنة، حدیث، یروى" كما لاحظنا كیف استمد من القرآن سورة الطور الذی دُك لمَّا تجلى الرب لموسى، وأخذ من الأدب قصة مجنون لیلى إلى أن وصل فی النهایة إلى تقریر حبه لأحبائه حتى الموت. وقبل أن ندع الشیخ زكریا أحب أن نستمع إلى مقطوعة أخرى من شعره الصوفی: (من الطویل)

حبیب له بالحسن قامت شهوده *** وأُدهش فی مجلى المال شهوده

إذا شامه المشتاق أوما بوجهه *** ركوعاً، وإن حیَّاه طال سجوده

بأوج البها قد أشرقت شمس حسنه *** ولاحت بأفلاك المعانی سعوده

فما جنَّة الفردوس إلا لقاؤه *** وما النار والأهوال إلا صدوده

فهل أنت یا أعمى البصیرة مبصر *** من الحسن ما عینی وقلبی یروده

وفی ختام حدیثنا عن الشاعر نشیر إلى أن الرجل كان معروفاً بلقب الحافظ لحفظه القرآن، وكان عالماً بالموسیقا بارعاً فی الخطابة، حاضر البدیهة، له موشحات بدیعة، وقد كف بصره فی أواخر حیاته، ولا یزال بعض الناس فی حمص حتى أیامنا هذه یحفظون له أبیاتاً فی تاریخ وفاة أو ولادة أو بناء. ویبدو أنه كانت له مكانته فی مدینته وكانت له مشاركة ما فی الحیاة الفنیة آنذاك.

رسلان زین العابدین: (ت 1879م)

انتقل الآن إلى الحدیث عن شاعر آخر، عرف فی حیاته بالأدیب، واشتهرت أسرته بسبب لقبه بآل الأدیب.

على یمین الخارج من سوق الحشیش باتجاه الغرب، وقد خلف وراءه مسجد القاسمی، وتحت أقواس عقدٍ متداعیة وإلى الأمام قلیلاً تقع "زاویة" مهجورة الآن، یتصدرها قبر الجد علی زین العابدین الذی أتى إلى حمص من ناحیة (أورفه) فی تركیا منذ حوالی مائتی عام، وأقام عقبه من بعده فی حمص.

خلَّف الشیخ علی ولداً واحداً هو الشیخ رسلان الذی عُرف بأدبه وشعره ولقِّب بالأدیب، وقد ذكره الوفائی(11) فی تاریخه فقال فیه: "كان رجلاً عالماً أدیباً فاضلاً عاقلاً متكلماً" وكان شأن آثاره شأن غیرها من آثار معاصریه فقد آلت إلى الضیاع ولم یقم أحد بحفظها حتى ذووه فإنهم لم یحفظوا شیئاً منها، وبعد البحث والسؤال عثرت له على قصیدة واحدة لدى الأستاذ عبد المهیمن زین العابدین، وهی مطبوعة فی مصر وعدد أبیاتها (89) بیتاً، وهی لا تختلف فی شیء عن قصائد المدیح النبوی المعروفة فی تلك الأیام. فالشاعر یحشد كل صفات المدیح وأخبار المعجزات التی تنسب إلى رسول الله  ویقارنها بمعجزات غیره من الرسل ثم یفضله علیهم، ثم یخلص إلى الاعتذار عن تقصیره فی مدیح الرسول، وتتسم القصیدة عموماً بالركاكة الأسلوبیة آفة العصر آنذاك قال:

یقولون لی: تمم لنا وصف أحمدٍ *** فإنك ذو علم ولست بجاهل

فقلت لهم عدّوا النجوم جمیعها *** ولا تهملوا عدّ النجوم الأوافل

فإن تستطیعوا عدّها بتمامها *** فقولوا لمثلی: صف لأكمل كامل

وینتقل الشاعر بعد ذلك إلى الاستغاثة بالرسول متوسلاً بنسبه الشریف طالباً الرحمة ببركة النسب والقرابة:

وإنی لفرع من فروعك سیدی *** ولی نسبة للمرتضى بالتناسل

فكم من مرة یا خیر من وطئ الثرى *** تداركنی من كید ضدّ مزایلی

ثم یتوسل بكبار الصحابة واحداً واحداً حتى یصل إلى التوسل بشیخ الطریقة القطب عبد القادر وبسائر المشایخ كالدسوقی والرفاعی والبدوی إلى أن یصل إلى حسن الختام:

وصلّ إلهی كل وقت وساعة *** على المصطفى نور البدور الكوامل

كذا الآل والأصحاب ما قال واقع *** بباب ندى المختار حطت رواحلی

وكان الشاعر بدأ قصیدته بقوله:

بباب ندى المختار حطت رواحلی *** فحاشا لطه أن یرد لسائلی

هو الحامد المحمود والحاشر الذی *** هو الواصل الموصول بل خیر واصل

ولا شك أن للشیخ شعراً كثیراً بدلیل شهرته بالأدیب، ولكن لیس بین أیدینا غیر هذه القصیدة، لذلك یمكننا أن نقول اعتماداً علیها: إنه كان شاعراً عادیاً لم یستطع أن یخرج عن ركاكة الأسلوب السائدة فی عصره، ولكنه على كل حال یبقى اسمه إبان عصره شاعراً- كائناً ما كانت نظرتنا إلى الشعر- بل كانت له شهرة بذلك ونال سمعة طیبة وحسن ذكر.

توفی الشیخ رسلان سنة 1879 ودفن بمقبرة "باب هود".

محمد عجم "ت 1894":

هو محمد بن عبد الرحمن عجم، ذكره الأستاذ عمر رضا كحالة فی معجم المؤلفین ولم یذكر له تاریخ ولادة ولا وفاة، إلا أن المؤرخ عبد الهادی الوفائی ذكر أن وفاته كانت عام 1312 = 1894م.

هذا الشاعر جمع دیوانه بنفسه، وذكر فی مقدمته أنه جمع شعره نتیجة لإلحاح أصدقائه، ویقول: أنه استنكف مراراً لأنه لیس من فرسان هذا المیدان، لكن من قبیل التقلید- وهذه عباراته-. ویستفاد من قراءة الدیوان أن صاحبه كان یعمل موظفاً "عدّاد أغنام" وكان یحرص على مدیح الرسمیین آنذاك.

بدأ دیوانه بقصیدة بمدیح الرسول تبركاً، ثم انتقل إلى مدیح "البكوات" و"الأفندیة" فمن نماذج مدیحه قوله یمدح محرّم "بیك" بن إسماعیل "بیك" قائمقام حمص سنة 1292هـ: (من الكامل)

إن طاب عیشك بالمسرة أو صفا *** قبل الفوات، فوات دهراً أنصفا

خذ فرصة اللذات صاح ولا تكن *** ممن تمنَّع بل تمتَّع بالصفا

لیل العناء لقد تولى هارباً *** إذ سلّ برق الأنس سیفاً مرهفا

والسحب جاد على الرباء بطلِّه *** والروض فی زهَر الربیع تزخرفا

فبخٍ بخٍ طابت مواسم أنسنا *** والهمُّ عنا قد ترحَّل واختفى

هذا محرّم قد وفى لسمیِّه *** وبطالع الإسعاد جاد وأتحفا

هیَّا نهنیه بأسرع همةٍ *** فی خیر عامٍ بالمسرّة قد وفى

ثم یستطرد الشاعر فی ذكر صفات الممدوح، فمحرم بیك لیث الشرى ودری اللفظ ویوسفی الحسن إلى ما هنالك...

فإذا ما انتهینا من باب المدیح انتقل بنا الشاعر إلى التشطیر والتخمیس والمطرزات، ثم یلی ذلك الأدوار الغنائیة، فنستمع لدیه إلى مثل هذه الأنغام: (مجزوء الرمل)

یا نسیم الصبح بلِّغ *** جیرة الشِّعب الیمانی

حال صبّ مستهامٍ *** یرتجی نیل الأمانی

یلی ذلك باب للرثاء ولذكر العمران، وباب الألغاز وآخر للهجاء، وهجاؤه بذیء اللفظ عاهر الصور، یستخدم فیه ما هب ودب من ألفاظ بذیئة ولعل هذا ما دفع المؤرخ الوفائی إلى الإعجاب به فقال: وله هجو ظریف. إننا أمام شاعر أنصف نفسه وشعره منذ مقدمة دیوانه فهو یعترف بأنه یقول ما یقول من باب التقلید، والحقیقة أنه نظَّام، ولكن لیس من المستوى الرفیع ولا الوسط.. وقیمة دیوانه لا تنبع من قیمة شعره ولكن من كونه یقدم لنا نموذجاً تاماً من أدب ذلك العصر، ولأنه یقدّم لنا فوائد تاریخیة تتعلق بجزیئات تاریخ المدینة كأسماء القضاة والحكام وتاریخ بعض الأبنیة، ولیته اقتصر على ذلك، ولكنه ملأ دیوانه بقصائد ذات مناسبات تافهة كولادة طفل أو زواج فلان وموت فلانة من الناس العادیین الذین لیس لهم خبر یروى ولا أثر یحفظ ولا عمل یذكر. ولا ینجو شعره فی أحسن حالاته من ركاكة أسالیب العهد العثمانی، وقد لا یخطئ طرافة الفكرة ولكن لا یستقیم لدیه التعبیر عنها، لنسمعه مثلاً یقول: (من الكامل)

لو كان لی كالعاشقین عواذل *** لجعلت ذمّ العاذلین تغزُّلی

ولو أنهم حشدوا جیوش مكایدٍ *** لسعیت فی تشتیتهم وتوصلی

لكن محبوبی تعشَّق نفسه *** فی نفسه وكذاك أعظم مشكل

قد هام فی لاهوته ناسوته *** فُقد العذول فما یكون تحیِّلی

فإذا ما نظرنا إلى هذه العبارات "توصلی، وكذاك أعظم مشكل... الخ" أدركنا ما تجنیه ركاكة التعبیر على الفكرة مهما تكن طرافتها.

ومن أمثلة مطرزاته "والمطرزة مقطوعة من المنظوم إذا أخذت الحرف الأول من كل بیت من أبیاتها تركب لدیك الاسم المقصود" قوله مطرزاً باسم "عارف": (من الوافر)

علقت بأغیدٍ حلو التثنی *** وقلبی من لظى الهجران خائفْ

أبى قربی لدیه وصدّ عنی *** غزالٌ قد حوى أسنى اللطائف

رنا عجباً وهزّ قضیب بان *** كحیلُ الطرف مسدول السوالف

فقلت له رویدك فی المعنَّى *** فأنت بحالة العشاق عارف

ولا أحب أن أطیل أكثر من ذلك فی كلامی عن محمد عجم، وفی الحدیث عنه متسع ولكنی أحب أن أنقل إحساساً فحواه أن الرجل ربما كان یملك فطرة شاعر وتوثبه، لكن ثقافة عصره وتقالیده الفنیة كانت أقوى منه بكثیر، فسار على الدرب وقنع بالشعر صنعة عقلیة طریقها النظم.

وأتساءل: أیستحق دیوانه أن یحقق وینشر؟

أظن أنه یمكننا أن نجیب بـ(لا) فلیس هناك ما یسوغ نشر مثل ذاك الشعر وقد لا یستحق ثمن الورق الذی سیطبع علیه..

ویمكننا أن نجیب بـ(نعم) على تردد، لا لأن الشعر یستحق ذلك، وإنما لبعض الفوائد التی یمكن أن یستمد شیئاً منها بعض الباحثین فی أمور ذلك العصر من الوجهة الاجتماعیة والسیاسیة والاقتصادیة والأدبیة.

عمر نبهان ت 1898م:

هو الشیخ عمر بن عبد القادر نبهان، لم أستطع تحدید ولادته، ولكنه بالتأكید ولد فی مطلع القرن التاسع عشر، ولم أستطع الحصول على تفصیلات تتعلق بنشأته وأطوار حیاته، ولكن من الثابت فی حدود ما سمعته أن نشأته كانت دینیة خالصة، یخالطها زهد وتقشف ورغبة عن متع الحیاة، كان یعمل حتى الظهر فقط، وما بعده خصصه للعبادة وطلب العلم مرافقاً أولاده الأربعة إلى حلقات العلم فی المسجد: عبد القادر وحامد ومحمد وأحمد، ویبدو أنه كانت له مبادرة إلى عمارة المساجد أو ترمیمها، فهناك مسجد لا یزال یحمل اسمه فی "باب الدریب" كما تدل لائحة أسماء المساجد فی مدیریة الأوقاف بحمص، وهناك مسجد آخر مشهور باسم مسجد الشیخ عمر فی الحمیدیة، وحدثنی بعضهم أنه المقصود به.

عثرت على دیوانه الصغیر مصادفة، وهو مكتوب بخطه، وقد قصر شعره على مدح الرسول الأعظم، وقدم لدیوانه بمقدمة حدد فیها موضوع شعره فقال: "فهذا ما یسر الله تعالى من مدح سید المرسلین وحبیب رب العالمین محمد " وقد كان شعره منسجماً مع مقدمته، فلا نعثر فی دیوانه على بیت واحد تقرب به وتزلف إلى أحد، وله قصیدتان فی مدح شیخه أحمد الاروادی ولیستا فی حقیقة أمرهما إلا امتداداً لمدیحه النبوی وسنقدم بعض نماذج من شعره قبل تقدیم تعلیقنا الأخیر، قال یمدح الرسول: (من الكامل)

قسماً بمكة والحطیم وما حوى *** قلبی سوى مدح ابن رامة ما حوى

وبطیبةٍ والبانِ ثم بحاجرٍ *** وبمرقدٍ جسمُ الحبیب به ثوى

كم لیلة قد بتِّها متفكراً *** وبمهجتی نار یؤججها النوى

شوقاً إلى تلك الأماكن لا إلى *** (حمص) وإن نسبوا لها طیب الهوى

یا خیر مبعوث أتى بشریعة *** غراء فیها من تمسَّك ما غوى

حاشا محبك أن یبوء بخیبةٍ *** ولكل شخصٍ فی المحبة ما نوى

یا أیها الشادی- فدیتك- لی أعد *** ذكر الحجاز ولا تعرّض بالنوى

وأعد علیّ ثنا أجلّ الأنبیا *** طه الذی ما كان ینطق عن هوى

إن هذا الشاعر كما نرى ینطلق انطلاقاً عفویاً فی شعره لا تغلَّه المحسَّنات، ولا تكبله القیود، ولكن ما یسیء إلى شعره هو تلك الركاكة الأسلوبیة التی نلمحها بین حین وآخر، والركاكة لا تعنی الغلط ولا تعنی العامیة، وإنما تتمثل فی العجز عند التصرف باللغة، وتنشأ من عدم تمكن الأدیب من اللغة التی یكتب بها لافتقاره إلى معرفة أصولها وإدراك أسرارها، ولقلة بصره بالفروق الدقیقة بین دلائل المفردات ومعانی التراكیب ومناسبات الجمل وروابطها(12)، وأول دلائل الركاكة شعورنا بثقل الشعر الذی نقرؤه وإحساسنا بأن الشاعر یرقِّع شعره هنا ویرفوه هناك، فمن عبارة زائدة، ومن قافیة قلقة، ومن ضرورة قبیحة. والحق أن الركاكة كانت آفة الكتابة والشعر فی عصور الانحدار ولیست مقصورة على القرن التاسع عشر، ولكن ربما بلغت أوجها فی تلك القرون المتأخرة.

ونعود الآن إلى شاعرنا الشیخ عمر، كنا ذكرنا أن له قصیدتین فی مدح شیخه أحمد الاروادی، ویبدو من قراءة النصین أنهما قیلا بمناسبة وصول الاروادی إلى حمص، وهو شیخ النقشبندیة، وكان وصوله یوماً مشهوداً بدلیل ما ذكره الوفائی: "فصادف یوماً بأن الشیخ أحمد الاروادی كان مشرّفاً لحمص وحاضراً عن طریق طرابلس من بلده جزیرة ارواد، فخرجت العالم لملاقاته...".

وهؤلاء المشایخ أعنی المتصوفة كانوا آنئذ یتمتعون بسلطة أدبیة واسعة، وكانوا موئلاً یحتمی بهم الناس من ظلم الحكام وعسف الأشقیاء، كما أشارت إلى ذلك حوادث كثیرة ذكرها المؤرخ الوفائی. وسنستمع الآن إلى شیء مما قاله الشاعر فی استقبال شیخه: (من الكامل)

خذ من وجوه العارفین إشارة *** وبشارة تنجی من الهلكات

واسأل بهم مولاك ما ترجوه من *** كشف الهموم وسائر الخیرات

فهم الوسیلة فی الدُّنا لمن اهتدى *** وبهم نروم زیادة الحسنات

لما أتى (حمصاً) بدا بدر الهنا *** فیها وأشرق طالع الشطحات

وأنالنا من فیضه ذخراً لنا *** نلقاه یوم العرض فی المیقات

یوماً یرى فیه السعید نجاته *** وعلیه راضٍ بارئ النسمات

فمدیحه لشیخه مرتبط بالمعانی الدینیة، ولیس بعیداً عن المدیح النبوی، لأنه كان یرى أن شیخه مسلسل النسب إلى الحضرة النبویة. ویمكن أن نلخص أحكامنا بأن هذا الشاعر یتسم بالبساطة والعفویة والانطلاق مع مواجده، متحرراً بقدر ما تتیحه له ظروفه من قیود المحسنات والزخارف، ولولا الركاكة التی وقعت فی شعره لكان حكمنا على شعره أقل قسوة من أحكامنا العامة التی قدمناها بین یدی هذه السطور.

ولیسمح لنا القارئ أن ننتقل به الآن إلى شعر الطرافة، شعر المآكل، إلى مائدة مصطفى زین الدین الحافلة بأطایب الطعام.

مصطفى زین الدین (ت 1900م)(11):

من شعراء حمص فی القرن التاسع عشر من یدخل شعرهم فی باب الطرافة وحدها، فالشعر عندهم لیس تعبیراً عن مواجد ولا صبوات، وإنما الهدف منه الإطراف وإمتاع الأسماع بما تهواه وتضحك له الأفواه. ومن هذا النمط وعلى هذه الطریقة كان مصطفى زین الدین.

ولد هذا الشاعر فی حمص عام 1245هـ- 1826م ودرس على علمائها، واطلع على معالم الثقافة العامة المعروفة فی عصره على ید شیوخ مدینته، وحفظ الشعر وتعلَّق بالموسیقا، وكان حسن الصوت، لذلك كله اهتم به الشیخ أبو النصر ابن الشیخ عمر الیافی صاحب المنظومات والقدود وصحبه معه إلى الآستانة. وصار زین الدین منشد الحضرة عند الشیخ الیافی، ثم سافر إلى المدینة المنورة، ثم طاف البلاد المصریة. ولما عاد الشیخ زین الدین إلى حمص وجد شهرة الشاعر الحموی المعروف بالهلالی(14) قد طارت فی الآفاق فدفعته شهوة الشهرة إلى منافسته، فشمر عن ساعد الهمة لمعارضته ومبارزته.

وكان زین الدین شدید الفطنة والزكانة فقلَّب نظره وأعمل رأیه فرأى أن اهتمام الناس بمآكلهم وإشباع بطونهم یفوق اهتمامهم بما یقدمه الهلالی من غزلیات ومن مدائح یقدمها لشخصیات مدینته.. لذلك جعل زین الدین شعره فی وصف المآكل والقدور، فكان یأخذ قصائد الهلالی ویعارضها مستبدلاً موضوعها بما یقدمه من وصف للمآكل، فكان الناس ینصرفون عن الهلالی وشعره ویقبلون على قراءة معارضات زین الدین، وبعضهم كان یحفظها ویرویها، فكان ذلك یشعل الغیظ ویثیر الحنق فی صدر الهلالی.

وقد كتب لأشعار زین الدین البقاء بسبب اهتمام الناس بها، وقام أحد أصدقائه وهو الأدیب محمد الخالد جلبی(15) بجمع أشعاره فی دیوان سماه "تذكرة الغافل عن استحضار المآكل الموسوم بالمعارضات الزینیة على المنظومات الهلالیة"(16).

ولزین الدین أشعار غیر شعره فی وصف المآكل، وهی على نمط شعر عصره من حیث الاحتفال بالبدیع والتطریز وما شابه ذلك، وسنقف الآن مع بعض نماذج من شعره مما قاله فی المآكل، معارضاً قصائد الهلالی: (من الخفیف)

قذف الدهن من فواه القدور *** واستوى الطبخ واستقامت أموری

ودعاة الطعام نادوا هلموا *** أیها الجائعون خمص الخصور

وأجیبوا فیها المدارج صفَّت *** فی ضواحی المیماس بین الزهور

بین قوم على اللحوم عكوف *** قد تبدت خرفانهم كالبدور

یا صدیراً حوى الكنافة بصما *** من یفی حق سعیك المشكور

وتسیر القصیدة على هذا النمط، تذكر السمن ونوعه وریحه، ثم تذكر "القطایف" و"القراص" والرز والحلیب واللبن وغیرها.

ولعل سبب اتجاه زین الدین ونجاحه فی هذا المضمار أنه كان شدید الولع بالطعام وأطایبه، وقد ذكر مترجمه الحلبی قصصاً تكاد لا تصدق عن نهمه وشدة حبه للطعام وإكثاره منه، حتى لقد كان یأكل وحده قدر ما یأكله عدد من الرجال مجتمعین، وسمعت أیضاً بعض الأخبار التی تؤكد ما ذكره الحلبی. وله قصص طریفة، فقد سافر إلى حماه ورفع علیه الهلالی دعوى فی المحكمة وحضر المحاكمة أعیان البلد ووجوهها لیشهدوا تلك المحكمة الأدبیة الطریفة، وقد سجل ما دار فیها من مطارحات ومحاورات، وكان الناس یهتمون بشعره وحسب علمی فقد طبع دیوانه ثلاث طبعات على الأقل.

ومن شعره فی غیر المآكل ما رواه المرحوم أدهم الجندی فی كتابه أعلام الأدب والفن: (من الطویل)

رمانی بسهم من لحاظٍ فواتكٍ *** غزال له دانت أسود المعارك

فما البدر یحكیه ولا الغصن إن بدا *** أو اختال من ثوب البها فی مسالك

یلذ لی التعذیب فی حب من غدا *** وأصبح من دون البریة مالكی

ونختتم حدیثنا عن الشاعر بوقوفنا معه وهو یتحدث عن الكبة: (من الرمل)

هاتها كبة هبرٍ بُسطت *** بالصوانی بعد ضرب وامتهان

یا لها حمراء بالسمن انقلا *** وجهها بالفرن آناً بعد آن

منسف الرز به جیء بعدها *** ذو محیا منه قد ضاء المكان

ولا یخفى ما فی نظم زین الدین من ركاكة أسلوبیة تشفع لها طرافة الموضوع وضیق حیزه.

توفی الشیخ زین الدین إثر نزلة صدریة فی حمص عام 1319هـ = 1900م وقد أعقب من الذكور المرحوم نجیب زین الدین الذی ما زال یضرب المثل حتى الآن فی حمص بنداوة صوته وجمال أدائه وروعة غنائه.

الشیخ عبد الحمید الزهراوی (ت 1916):

كان من المفروض أن یكون مسك الختام أن نتحدث عن السید عبد الحمید الزهراوی لكننا تحدثنا عنه لدى نشرنا شعره فی مجلة التراث العربی مما أغنانا عن التكرار ههنا. ونأمل أن یتاح لنا أن ننشر مقالة أخرى حول شخصیات من العصر نفسه.

وقد رأینا أن نلحق بهذا المقال قصیدة الشیخ أمین الجندی التی مدح بها إبراهیم باشا وهی غیر منشورة فی دیوانه كما أشرنا، وقد ساعدنی فی قراءتها وقدم قراءات صحیحة فیها أخی الأستاذ خالد الزهراوی، ومع ذلك فقد بقیت فیها هنات لم نستطع استدراكها. ویجب أن نشیر إلى أن نشرها إنما هو لقیمتها القومیة آنذاك لا لقیمتها الأدبیة، وقد عثرت علیها مكتوبة على كراس بالحبر الصینی على ورق قدیم متآكل، لذلك رأیت فی نشرها حفظاً لها من التلف والضیاع، ویجب أن أشیر أیضاً أن بعض استعمالات الشیخ فی قصیدته لبعض الألفاظ كانت عامیة. أما الأحداث التاریخیة التی أشارت إلیها القصیدة فیمكن مراجعتها ومعرفة الشخصیات التی ذكرت فیها فی كتاب مختصر تاریخ سوریة للمطران یوسف الدبس 2: 287 وكتاب المناقب الإبراهیمیة والمآثر الخدیویة ص 48 وما بعدها وسائر الكتب التی فصلت القول فی تاریخ محمد علی وابنه إبراهیم باشا.

الحواشی:

(1)-المرحوم الأستاذ رفیق فاخوری من شعراء قطرنا البارزین، عمل طوال حیاته بالتعلیم. ولد 1909 وتوفی سنة 1985 كتب عنه الأستاذ أحمد الجندی فی كتابه شعراء سوریة.

(2)-من مقالة للمرحوم الفاخوری نشرت فی مجلة المعلم العربی، العدد: 3، آذار 1970.

(3)-بطرس بن إبراهیم كرامة 1774- 1851م. انظر أعلام الأدب والفن لأدهم الجندی 1: 36.

(4)-إبراهیم الحورانی 1844-1916 انظر أعلام الأدب والفن 1: 46.

(5)-دار الكتب الظاهریة بدمشق برقم 6869.

(6)-الشیخ خالد الأتاسی: 1834-1908. انظر أعلام الأدب والفن: 38.

(7)-طبع فی عدة مجلدات فی حمص بإشراف ابنه الشیخ محمد طاهر الأتاسی. بدأ بطبعه عام 1930 وطبع آخر جزء منه وهو السادس عام 1937، والمقصود بالمجلة أنها كتاب یحتوی على القوانین الشرعیة والأحكام العدلیة المطابقة للكتب الفقهیة. حررتها لجنة من العلماء فی المشیخة الإسلامیة إبان العصر العثمانی وبین یدی الطبعة الثانیة منها طبعت فی مطبعة الجوائب عام 1298هـ.

(8)-شعراء سوریة: 10 (طبع دار الكتاب الجدید- بیروت 1965).

(9)-انظر حلیة البشر فی تاریخ القرن الثالث عشر 1: 329.

(10)-هذه الأبیات من قصیدة لم تنشر فی دیوانه المطبوع، ولدی نسخة منها مخطوطة.

(11)-عبد الهادی الوفائی 1843-1909. وتاریخه مخطوط وهو بحوزتنا وننوی نشره بالاشتراك مع الأستاذ ریاض البدری.

(12)-د.عبد العزیز الأهوانی: ابن سناء الملك: 37 (طبع مكتبة الانجلو بمصر 1962).

(13)-انظر أعلام الأدب والفن 1: 39 وحلیة البشر فی تاریخ القرن الثالث عشر 3: 1521.

(14)-انظر أعلام الأدب والفن 1: 183.

(15)-محمد خالد الجلبی 1867-1926. انظر أعلام الأدب والفن 1: 57.

(16)-طبع هذا الدیوان عدة طبعات. 
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:19|
الموت هو من أكثر الموضوعات التی تحفل بها أعمال الشعراء والروائیین والمسرحیین المحدثین. فوعی الإنسان بان حیاته لها بدایة ولها نهایة دفعه إلى تأمل القوى التی تقف وراء الوجود ومعنى الوجود وطبیعته. وبالرغم من أن كل كاتب یعالج قضیة الموت بشكل مختلف فإن النقاد والباحثین توصلوا إلى جملة من الطرق التی تعالج بها فكرة الموت فی الأدب.



قدم الكتاب المحدثون الموت على انه المشكلة الوجودیة النهائیة التی تثیر كثیرا من القلق لأنها تفتح طریقا لاكتشاف الذات. كما أن الموت یمكن فهمه فی سیاق اكبر یتمثل فی انه جزء من دورة طبیعیة من الفناء والتجدد. وقد عالج بعض كتاب الكومیدیا السوداء والكتاب العبثیین الموت بشكل هزلی وجعلوه فكرة تبعث على الضحك. ومع ذلك فان هؤلاء الكتاب یدركون أن الموت موضوع على درجة عالیة من الجدیة. ویحمل الموت فی الأدب العدید من المضامین الرمزیة، فارتبط بالهروب والانسحاب فأصبح بذلك مصدرا من مصادر المعانی فی الأدب.



احتل الموت فی الروایة والقصة القصیرة الحدیثة مكانا بارزا. یرى النقاد فی أعمال فرانز كافكا Franz Kafka ودی اتش لورانس D. H. Lawrence اهتماما وجودیا بمشكلة الموت التی تقف وراء حالات من الاستلاب والخوف والانسحاب والتقوقع فی داخل الذات من اجل تجنب مواجهة قوى الموت والفناء. والموت فی أعمال الكتاب المحدثین یرتبط فی الغالب بأفراد تتعاون قوى داخلیة وخارجیة لفصلهم عن الإنسانیة على نحو رمزی. ویرى الباحثون أن اهتمام الكتاب المحدثین بدراسة الموت یفتح لكثیر منهم الطریق أمام فهم أكمل للحیاة وكیف یحیاها الإنسان. ففی أعمال كتاب من امثال غیرترود شتاین Gertrude Stein وایتالو سفیفو Italo Svevo وخاصة فی كتابه – اعترافات زینو- یفضی التأمل والبحث فی محدودیة الحیاة البشریة إلى فهم الهویة الشخصیة وإلى الكشف عن معنى الحیاة. وقد استعمل الكتاب المحدثون الموت كاستعارة ساخرة للحیاة والفن فی القرن العشرین، فالموت یتسلل إلى ثنایا القصة والى عقول الشخصیات ویرسم شكلا عبثیا لقصر حیاتهم ولا جدواها.



وتمتد أشكال الهزل الأسود فی الروایة إلى میدان الدراما فیبحث كتاب الكومیدیا المأساویة ومسرح العبث من أمثال سامیویل بیكیت Samuel Beckett ویوجین یونسكو Eugène Ionesco وهارولد بنتر Harold Pinter الجانب الهزلی للموت. ومع ذلك فان النقاد اكتشفوا كثیرا من التنوع فی كتابات هؤلاء المسرحیین. یعتقد بیكیت انه فی وجه عجزنا عن فهم الموت ومعناه لا یسعنا إلا أن نضحك من عبثیة هذا الكون. ویرى النقاد أن یونیسكو فی معالجته لفكرة الموت أكد معنى الحیاة وجدواها. أما یوجین أونیل Eugene O'Neill وتنیسی ولیامز Tennessee Williams فاستعملا الموت لتتویج الحدث المأساوی على خشبة المسرح وانهائه. وقال الناقد فیلیب ارماتو إن مسرحیات تنیسی ولیامز هی بحث شاعر عن حل للمشكلات التی تولدت من وعی الانسان بحتمیة الموت. بینما رأى ناقد اخر هو روبرت فیلدمان ان مسرحیات یوجین أونیل تعبیر عن الشوق إلى الموت هربا من آلام الحیاة.



هذه المواقف من الموت تنعكس فی الشعر كذلك. ویرى النقاد أن أكثر الشعراء الذین بحثوا فی الموت هم الذین كتبوا أشعارا اعترفوا فیها بمكنونات نفوسهم من امثال سیلفیا بلاث Sylvia Plath وآن سیكستون Anne Sexton وروبرت لویل Robert Lowell وجون باریمان John Berryman. فی أشعار هؤلاء وأمثالهم یقع الوعی بحتمیة الموت فی أعماق الخبرة الحیاتیة، وهی الخبرة التی أدت فی حال بلاث وسیكستون إلى الانتحار. 
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:18|
 النظرة التفاؤلیة عند نازك الملائكة



الموجز

مع أن الشاعرة كانت متشائمة شدیدة التشاؤم فی بدایة حیاتها الشعریة؛ لأنها كانت مفعمة بالاتجاهات الرومنسیة و غلب علیها التشاؤم المطلق و كانت تشعر بالضیق والألم ولا ترى غیرالأزمة والشقاء فی الحیاة و لكن تدریجیا غیرت نظرتها حول الموت و فلسفة الحیاة و بدأت تنظر إلى الحیاة بمنظار جدید فیه مسحة من التفاؤل لیكون بلسما لدائها و مرهما لشفائها وخفّ من حدّة تشاؤمها حیث أصبحت متفائلة بعد تجربتها الفكریة و كثرة مواردها الأدبیة و بعد أن نضج عقلها و فكرها حول مسائل الحیاة. و نرى هذا التغییر حتى فی عنوان مطولتها من "مأساة الحیاة" إلى" أغنیة للإنسان"، فی الواقع آراؤها المتشائمة قد زالت و حلّ محلّها الإیمان بالله و الاطمئنان إلى الحیاة و جو مأساة الحیاة تبدد شیئا فشیئا.

الكلمات الرئیسیة: فلسفة الحیاة، مأساة الحیاة، التفاؤل، أغنیة للإنسان،الاتجاهات الرومنسیة.

التمهید

آمنت الشاعرة أن الحیاة كلها ألم و إبهام و تعقید؛ و اعترفت إلى فناء الإنسان وأنه محكوم إلى الفناء والموت بشع جدا كما تقول:" لم تكن عندی كارثة أقسى من الموت و كان الموت یلوح لی مأساة الحیاة الكبرى، ذلك هو الشعور الذی حملته من أقصى صبای إلى سن متأخرة". وعندما تصف خطیئة الإنسان تعدّ الموت لعنة السماء؛ لكنها ترى فیه أمنا و راحة لأنه سبیل لراحة الإنسان من عناء الحیاة و بالفعل تؤمن بما قال"شوبنهور": " إن أعظم نعیم للناس جمیعا هو الموت".

وبالفعل آمنت بقول" ویلیام جیمز": " إن أكثر دواء تأثیرا لعلاج الآلام و الأحزان هو الإیمان و الاعتقاد". و كان التغییرعاما و شاملا حتى فی عنوان مطولتها من مأساة الحیاة إلى أغنیة للإنسان، فی الواقع قد زالت آراؤها المتشائمة و حلّ محلّها الإیمان بالله و الاطمئنان إلى الحیاة و جو مأساة الحیاة تبدد شیئا فشیئا

قررت نازك الملائكة أن تجد السعادة التی كانت قد بحثت عنها كثیرا فی مختلف الأوساط فلم تجدها وانتهت رحلتها فی هذا المجال بالخیبة، فقد عبرت عن تمسكها بالحیاة فی هذه الحیاة الدنیا ؛ لأن حب الحیاة أمرلا ینفصل عن الحیاة نفسها وأن الإنسان یجد لذة كبرى فی أن یحیاها، مهما كان طبعها و صعدت من إحساسها بالیأس و العدم إلى قمة الرجاء والأمل و آمنت بأننا یجب أن نستسلم للقدر خاضعین؛ لأن العالم یواصل سیرته حتى بدوننا و آمنت بأن الإنسان مهما یفكر فی آلامه و آلام أبنائه ومواطنیه والمجهولات والأسرار والألغاز؛ لكن یجب ألا یعكس الیأس والقنوط و الألم …..فقط، بل یجب أن یكون للتفاؤل مكانه كشأن أشخاص كثیرین الذین وقفوا أمام الكون و مجهولاته و أسراره و كانوا حیارى و لكنهم یرون جمال الحیاة و خیرها و سرورها و أن الحیاة تجری فی نظام سرمدی و على الإنسان أن ینضم بكل حسناته و سیئاته حتى یبلغ ذروة المعرفة و قمتها. و مهما یتأمل فی الآلام الإنسانیة والألغاز والمجهولات لا ینصرف عن الحیاة؛ لأنه لم یجیء الحیاة لیشقى و یصب الهموم على نفسه؛ بل أتاها لتتنعم بها و بطیباتها و ملذاتها و مسراتها و یتمتع بها وأن یكون مسلكه تجاه الحیاة إیجابیا و ینظر إلیها بمنظار التفاؤل و لتكن فلسفتها الابتسام دائما مادام حیا و ینتهز فرصة الحیاة قبل أن تفلت من یده.

و أخیرا آمنت الشاعرة بأن جمیع ما فی ید الإنسان عاریة و ودیعة و لایبقى لدیه طول الحیاة فیخرج من یده آجلا أو عاجلا، ثم شعرت بأن الدنیا قد تغیرت فی نظرتها فعزمت أن تواجه الحیاة بغیر ما كانت تواجهها قبل ذلك، و آمنت بأن:

فلنلذ بالإیمان فهو ختام الیأس و الدمع و الشقاء الآتی لأنه: كاسح الأعین الحزینة من أدمعها الهامرات فی الظلمات فهاجرت إلى الله و عرفته: عرفتك فی ذهول تهجدی، و قرنفلی أكداس عرفتك فی اخضرار الآس عرفتك عند الفلاح یبعثر فی الثرى الأغراس وتزهر فی یدیه الفأس عرفتك عند طفل أسود العینین، و شیخ ذابل الخدین عرفتك عند صوفیّ ثریّ القلب و الإحساس و…….

و تُعلّم الإنسان طریق التسلط على الحزن حیث نراها فی قصیدة " خمس أغان للألم" تثیر فكرة صراع الإنسان فی سبیل الغلبة والاستعلاء على آلامه بأیة وسیلة یستطیعها، حیث تقول:

أ لیس فی إمكاننا أن نغلب الألم؟ نرجئه إلى صباح قادم؟ أو أمسیه؟ ننقُلُه؟ نقنعه بلعبة؟ بأغنیة؟ بقصة قدیمة منسیّة النغم؟( نازك الملائكة، دیوان، ج2،ص57٤).

وهنا نذكر مختارات من أشعارها التی تسود علیها روح التفاؤل:

مع أنها– كما تقول نفسها – كان الباعث على نظم مطولتها الأولى التشاؤم و الخوف من الموت، لكنها بالفعل تؤمن به؛ لأنه ینجو بالحی الشقی من الخوف و سبب الخلاص من هذه الحیاة الطافحة بالأسى و الظلام و تتفاءل به فی قولها:

أ فلیس الممات فی میعة العمر إذن نعمة على الأحیاء حین ینجو الحی الشقی فی الخوف و یغنی فی داجیات الفناء تاركا هذه الحیاة و ما فیها من الزیف والأسى و الظلام بین فك الریاح و القدر العاتی و نوح الشیوخ و الأیتام ( دیوان، نازك الملائكة، ج1، ص٤22).

و ترى فی الموت بلسما لنجاة الأحیاء من الأحزان و ترى فیه خلد الحیاة:

سأرى فیك بلسما ینقذ الأحیاء مما یلقون من الأحزان سأرى فی الممات خلد حیاتی حین تعفو عنی المُنی و الجروح ( دیوان، نازك الملائكة، ج1،ص229).

وهذا رأیها عن الموت:

إنه الموت ذلك الواهب العادل ملقی الهمود فی كل قبر و مریق الفناء فی كل خد و ذراع و كل نحر و صدر (دیوان، نازك الملائكة، ج1،ص387).

و تسلم على الموت: فسلام أیها الموت سلام یا رفات ( دیوان، نازك الملائكة، ج1،ص٦50)

و تحس بالراحة لأن: استرحنا، كُشف اللغز و مات المبهم وتلاشت حرقة الأحلام فی لون العیون ( دیوان، نازك الملائكة، ج2، ص8٤3).

و تعتقد أن الدنیا تبتسم إذا: هیا معی تبتسم الدنیا إذا أنت ابتسمت ماذا یثیر أساك ما دمنا نظل أنا و أنت؟ هیا معی فاللیل مختلج الدجى حبا و شعرا وعرائس الأحلام تفرش دربنا لونا وعطرا (دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص297).

و آمنت بأن یمكن لنا التغلب على الألم: ومن عساه أن یكون ذلك الألم؟ طفل صغیر ناعم مستفهم العیون تسكته تهویدةُ و رقبة حنون و إن تبسمنا و غنّینا له یَنَم ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص58٤).

و لنا یمكن أن ننساه: سوف ننسى الألم سوف ننساه إننا بالرضى قد سقیناه ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص1٤٦).

و ترى كل شیء جمیلا؛ لأن: تعال لنحلم، إن المساء الجمیل دنا و لین الدجى و خدود النجوم تنادی بنا ( دیوان، نازك الملائكة، ج2، ص٤23).

و رغم أزمتها النفسیة، ترى أن النفس ملیئة بالخیال و فیها یوجد الصفاء؛إذن تحبها:

سأحب نفسی فی ارتعاش ظلالها تحیا عصور ملأى بألوان الخیال و هناك فی أحنائها ألقی الجمال سأحب نفسی فی صفاء ظلالها أجد الصفاء و قد وصلناها معنا یحیى الجمال ( دیوان، نازك الملائكة، ج2، ص7٦3).

و تحب الحیاة و ما فیهامن أجل: سأحب الحیاة من أجل ألحانك یا بلبلی الحزین و أحیا سأرى فی النجوم من نور أحلامك ظلا مخلدا أبدیا أحب الحیاة بقلبی العمیق و أمزجها واقعها بالخیال أحب الطبیعة حب الجنون أحب النخیل أحب الجمال فأعشق ذاتی ففی عمقها خیال وجود عمیق الظلال ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص181).

و تُعلّمنا كیف نواجه الحیاة إذا جرحتنا: و إن جرحتنا أكف الحیاة سكبنا الرضى فی شفاه الجراح و ذقنا حنین الجمال اللذیذ و ملح مدامعنا الباردة ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص3٤٤).

و تفتخر بأنها: هنا أنت بنت حقول الجنوب و ألوانها قبستِ العذوبة و الدفء من سحر غدرانها و هذا الصفاء صفاء الحیاة هناك، همسك شدو الرعاهْ لقطعانها ( دیوان، نازك الملائكة، ج2، ص٤37).

و تعتقد علینا أن ننسى الأمس: و انس أمسا ملأ الكون خطوبا آن للأفراح أن تمحو الكروبا آن أن أحیی الأمانی وأغنّی و معی قلبی و أشعاری و لحنی (دیوان، نازك الملائكة، ج1،ص22٦).

عندما تنظر إلى الآفاق تبدو لها هكذا: جزیرة الوحی من بعید تلوح كالمأمل البعید الرمل فی شطها ندی یرشف من دجلة البرود و القمر الحلو فی سماها أمنیة الشاعر الوحید لاحت على البعد ضفّتاها أمنیة العالم الجدید ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص585).

و تؤمن بالله؛ لأنه خالق هذا الكون و أن وراء هذه الحیاة حیاة بدون الحزن و الألم:

فوراء الحیاة معنى عمیق لیس تفنیه سودة الأحزان هو معنى الألوهة الخالد المرجوّ خلق الوجود و الأزمان ( دیوان، نازك الملائكة، ج1،ص237).

فوراء التراب قلب له فی رحمة الله مأمل لیس یفنى مأمل الخافق الذی ضمه الله إلى عدله فأغمض عینا ( دیوان، نازك الملائكة، ج1،ص90٦)

و تحس باعتداد النفس و أن الشمس نارها لن تمزق نغمتها؛لأن:

جنون نارك لن یمزق نغمتی مادام قیثاری المغرد فی یدی اللیل ألحان الحیاة و شعرها و مطاف آلهة الجمال الملهم كم سرت تحت ظلامه و نجومه فنسیت أحزان الوجود المظلم و على فمی نَغَم إلهی الصدى تلقیه قافلة النجوم على فمی ( دیوان، نازك الملائكة، ج1،ص89٤).

و تتفاءل بالجمهوریة العراقیة فی٤1 تموز سنة 1958م:

فرح الأیتام بضمة حب أبویة فرحة عطشان ذاق الماء فرحة تموز بلمس نسائم ثلجیهْ فرح الظمآن بنبع ضیاء فرحتنا بالجمهوریّهْ..( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص5٤٤).

و تتفاءل بالوحدة العربیة ؛لأنها تعود بالحیاة و هی ضوء فی لیلة ظلماء:

تعود مع الوحدة العربیة تعلن الوحدة الكبیرة ضوءا وسلاما فی لیلة لیلاء أعلنتها أمنیة العرب الكبرى و حلم الأجداد و الآباء ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص521).

و تتفاءل كذلك بمستقبل العالم العربی حیث تقول:

یافا وحیفا فی غد نلتقی فنحن والضوء على الموعد تبقى فلسطین لنا نغمة قدسیة على فم المنشد و نسرنا الشامخ لم ینثنی أمام باب الزمن الموصد غدا فلسطین لنا كلها كأن إسرائیل لم توجد (دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص98٤).

و أخیرا طلع الفجر من وراء الظلام و قد قاربت حدود الرجاء: طلع الفجر من وراء الدیاجی یا عیون الشهید نامی قرّی ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص523).

و الیوم حان الفجر یا أمتی فنحن قاربنا حدود الرجاء ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص517).

إذن رأینا كیف تفاءلت بالحیاة و ما فیها، بعد أن آمنت بالله و حل محل آرائها المتشائمة نظرة التفاؤل و نظرت إلى الدنیا و ما فیها بمنظار التفاؤل. و بعد أن تفاءلت بالحیاة تصف لیالی الصیف هكذا:

یا هدوءا مطمئنا یا فضاء مرحا لدْن البریق یشرب الأنجم كأسا من رحیق یا رؤى تقطر لونا أنت عطر و نعومهْ و حفیف و انحدارات أشعهْ و نجوم عكست فی عمق ترعهْ و أناشید رخیمهْ أنت ینبوع سكون و حماسات و عطر و برودهْ یا وساد الأنجم الجذلَى البعیدهْ یا مصبا للحنین أنت للأحلام مأوى یا ملاذا باردا عذبَ الجوار لخدود حَمَلت عبء النهار و اقتل الآن نشوى ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص٦52).

و تصف الربیع هكذا: إنه الشیخ ربیعْ ذلك الشیخ المَرِح ذو الثیاب الخُضر و الوجه البدیع و الجبین المنشرح كلما طافت خطى نیسان بالدنیا أطلّا من كُوى غرفته عذبا طروبا هاتفا: أهلا و سهلا…….

و فی وصفها الكوارث وا لفواجع لغتها سهلة سلسة دون أی غلاظة تحكی عن تشاؤمها الكثیف. نظمت الشاعرة خلال الفیضان الرهیب عام٤195م التی أغرقت بغداد:

لم یزل یتبعنا مبتسما بسمة حب قدماه الرطبتان تركت آثارها الحمراء فی كل مكان إنه قد عاث فی شرق و غرب فی حنان ذلك العاشق إنا قد عرفناه قدیما إنه لا ینتهی من زحفه نحو رُبانا و له نحن بنیْنا، و له شِدْنا قُرانا إنه زائرُنا المألوف ما زال كریما كل عام ینزل الوادی و یأتی للقانا.( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص533).
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:17|
التشاؤم الاجتماعی عند نازك الملائكة



الموجز

اعتنى الشعراء الكثیرون بدراسة الموضوعات الاجتماعیة بما أنهم یرون استخفاف الشعب و ذلهم أمام احتلال الأجانب و ظلمهم و استبدادهم و مسألة الجهل و التأخر و التخلف و غیر ذلك.

الشعر الاجتماعی الذی یعالج فیه الشاعرآلام شعبه والأمراض الاجتماعیة كالجهل والفقر والأمیة یدعو إلى تحریر المرأة وتربیة الأطفال ویكشف مضارّ بعض المفاسد الاجتماعیة كالقماروالفحشاء وما إلى ذلك و یتحدث كثیرا عن المسائل الوطنیة و العنایة والحنان على المظلومین والبؤساء والفقراء و فی هذا المجال یرید الشاعر ترقیة شعبه، إصلاح المفاسد وزینة الإنسان نفسه بالخصال الحمیدة و فضائل أخرى؛ لأن نتیجتها تآلف المجتمع والسعادة فی الحیاة و التآخی بین الناس.و یحاول رفع مستوى الناس الاجتماعی بمكافحة الجهل والأمیة ونشرالعلم وإثارة الرغبة فی التعلم و التحصیل ویرى أن الجهل سبب آفات مختلفة فی جمیع طبقات المجتمع وأنه أرض مستعدة لجمیع المفاسد و الشرور .

إذن تنبع آلام الشاعر من أجل القضایا الاجتماعیة السائدة فی المجتمع الذی یعیش فیه، تؤثر فی حدة تشاؤمه وأشعاره تتحدث عن تلك الأوضاع الفاسدة و تبین الخراب و الدمار فی مجتمعه فی أسلوب متشائم حزین الكلمات الرئیسیة: القضایا الاجتماعیة، الشعرالاجتماعی، المفاسدالاجتماعیة، إصلاح المفاسد.

التمهید

بعض الأحیان یشغل الشاعر بالبیئة التی یعیش فیها و آلامه نابعة من أجلها و الأوضاع السیاسیة و الاجتماعیة السائدة فی المجتمع الذی یعیش فیه تؤثر فی حدة تشاؤمه و أشعاره تتحدث عن تلك الأوضاع الفاسدة و تبین الخراب و الدمار فی مجتمعه فی أسلوب متشائم حزین و یحكی شعره عن عصبیته و التزامه بما یجری حوله و یبرهن ضیقه الشدید و السید"الكفراوی" یسمی هذا النوع من الشعراء بالثوار السلبیین (الكفراوی، محمد عبد العزیز، تاریخ الشعر العربی، ج٤،ص10٤).

الشاعر الیوم شاعر الجماهیر والمجتمع، إذن یجب علیه أن ینزل إلى مستوى الشعب والمجتمع ویخاطبهم بالمستوى السهل و بلغة یفهمونها ومهما یكن الموضوع خطیرا معقدا فاللغة التی یستعملها الشاعر سهلة و لو كانت فی أشد الموضوعات تعقیدا.

فتحت السیدة نازك الملائكة عیونها إلى الآفاق الوسیعة الإنسانیة و كانت شدیدة الحساسیة إزاء تموجات العالم الفكریة بصورة عامة و المجتمع العراقی بصورة خاصة وهذا التألم و الحزن كان الباعث على تشاؤم الشاعرة، إذن ألمها لیس ألما شخصیا بل:

سأحمل قیثارتی فی غد
و أبكی على شجن العالم (دیوان نازك الملائكة،ج1،ص9٦5)

و كل ما ترید، هو أن تجد سبیلا للإصلاح، هی تعلم جیدا بأن الشعر مرتبط بالعواطف والشعور و ینادی القلوب والأفئدة؛ لهذا السبب تأثیر الشعر أكثر وأعمق فتتمسك بهذه الوسیلة ربما تصلح المجتمع.

اعتمدت الشاعرة فی شعرها على أفكار وعواطف مستمدة من حاجات المجتمع و كثیرا ما كان الغرض فی نظم الأشعار غایة اجتماعیة و كانت متصلة بعصرها و لم تنفصل عنه و تعیش فی بیئة التی أوجدت فیها. قلبها الرقیق، حیاتها المؤلمة و الحزینة، اطلاعها على الشقاء المنتشر و المحن و المصائب فی طبقات الأمة المختلفة دافع إلى الشفقة و الحنان والاتصال بالمجتمع و هكذا كانت اجتماعیة و تحس برسالتها الاجتماعیة إحساسا خاصا و قامت بها مخلصة؛ لأنه لا بدّ للشاعر الذی یرى المسائل الاجتماعیة و یرید أن ینشد فیها، نظر دقیق إلى الحقیقة و الواقع لیرى الضعف والرخوة والركود و…فی المجتمع، لهذا السبب غشی على بصیرتها و نظرتها طبع متشائم؛ لأنها لم تر من المجتمع الذی كانت فیه إلا الكآبة الألیمة و مأساة الحیاة المؤلمة و سیطرت على عقائدها الشخصیة مسحة التشاؤم و لم یكن فی إمكانیتها أن تضع على هذا التشاؤم بلسم التفاؤل فی هذا الأوان.

فسدت أحوال الأمة خاصة فی الحرب العالمیة الثانیة و بعدها و امتد هذا الفساد إلى كل بیت و كوخ؛ حتى إلى كل قلب و فكر من متاعب و أزمات سیاسیة و اقتصادیة و اجتماعیة و ما إلیها. و تحس نازك الملائكة بآلام إنسانیة مرزئة متصلة بعواطفها و أحلامها الخاصة و قد تعرضت لكثیر من التجارب المریرة فی حیاتها نتیجة لأسفارها و تقلبها من الشرق و الغرب و تستغرق فی آلامها وتذوب فی بیئتها حتى تصیر جزءا منها و ترى الشعب فی نفسها و فی نفسها الشعب، حیث تعتقد بأن الإنسان إضافة عن وجوده الفردی مسؤول عن جمیع الناس و كل البشرو تسعى لتلمس جذور الإنسان الممتدة فی الواقع.

إن الظروف التی كان یعانیها المجتمع العراقی آنذاك و الأزمات و الظلمات التی تراكمت حولها و اسودت الدنیا فی عینها و تعقدت الدنیا شدیدا قد انتهت إلى المحنة فی نفسها و كانت منشأ هذا الحزن و الألم فی قلبها و تبدو علاماتها فیها.

إذن تشاؤمها لا ینبع من نفسها وحدها بل إنما ینبع من مجتمعها قبل كل شیء؛ لأن الفساد قد عم المجتمع؛ بما أنه كان فی الاحتلال الإنجلیزی و بعده كان فی انتدابه و هناك لا فرق بین الاحتلال و الانتداب و كان المجتمع العراقی فی حیاة البؤس و الشقاء و الیأس مما كان یتلاحق علیه من الكوارث و الفواجع و مما یجر إلى الحرمان و الجوع و تشرید الأطفال و النساء و ازدیاد المآسی و الأحزان.

إذن طبیعی بأن تسود الشعر روح التشاؤم خلال الحرب و یطفح بالحزن و الألم خاصة حدثت حروب داخلیة كثیرة فی المجتمع العراقی و الأهم منها الحرب العالمیة حیث زادت فی تشاؤمها؛ لإحساسها بآلام مجتمعها و شهدت حوادثها بأم عینها . و هی كشأن سائر الشعراء الملتزمین تشعر شعورا عمیقا بآلام الحیاة التی یحیاها وطنها و تعكسها محنته و ترى فساد الوطن دون الأمل و الرجاء فی تحقق آمالها والآخرین من أبناء الوطن . إذن الحالة الاجتماعیة بسبب المسائل المختلفة تستدعی شدة الألم و الیأس و قد أصبح المجتمع ملیئا بالخرافات المضرة دون حقائق نافعة و قد عنى بما لایعنیه و ترك ما یعنیه، فتشاؤمها مستمد من تشاؤم مجتمعها؛ لأن موجات الیأس و الحزن كثرت خاصة أیام الاحتلال و الانتداب على جمیع الشباب و النفوس؛ فتشاؤمها كان طبیعیا .

تصور الشاعرة المجتمع العراقی الذی كان یعانی من الآلام و الهموم فی هذه الحقبة من التاریخ أو فی هذا العصر الذی نظمت فیه شعرها . و لم یكن شعورها وفقا على خلجات نفسها و أحداث حیاتها فقط؛ فهی قد شاركت الشعب فی مصائبه و سمعت شكاوى المظلومین و الفقراء نالت الشاعرة بعض النواحی الاجتماعیة وعالجت مشاكل مجتمعها؛ مع أنها تعنی بذاتها و تتحدث عما فی نفسها، لكنها لا تغفل عن المجتمع الذی تعیش فیه؛ لأن نفسها تذوب فی المجتمع و ترى نفسها فیه؛ كأنها ذرة منها تعیش فی بقائه و تموت بموته.

تصور الشاعرة طفلة نائمة فی الشارع لیلا من أجل فقرها و أن البرد كیف ینهشها فترتعش من الرعد و تعبر عن ألمها،جوعها و فقرها فی قصیدة " النائمة فی الشارع" وتقول:

    فی الكرّادة، فی لیلة أمطار و ریاحْ
    و الظلمة سقف مُدّ و ستر لیس یزاح
    فی منعطف الشارع، فی ركن مقرور
    حرست ظلمة شرفة بیت مهجور
    كان البرق یمر و یكشف جسم صبیّهْ
    رقدت یلسعها سوط الریح الشتویهْ
    رقدت فوق رخام الأرصفة الثلجیهْ
    تُعول حول كراها ریح تشرینیهْ (نازك الملائكة، دیوان، ج1، ص9٦2).

أو تصف مشكلة إمرأة فی زقاق بغداد فی قصیدة " مرثیة إمرأة لا قیمة لها" أو عندما تبحث عن السعادة فی قصور الأغنیاء و تصف عیشهم فی البذخ و الترف و مشاكلهم الروحیة و تقارن حیاتهم و حیاة الفقراء فی قصیدة " القصر و الكوخ". و تصف مشاكل الریفیین بأن سكانه فقراء محرومون و یعیشون عیشة البؤس و العذاب ثم تصور راعیا صغیرا یأكله الذئب و تصف الثلوج التی تهبط طوال الشتاء و تحرم الفلاحین من استنبات الأرض و نتیجته انتشار الجوع والحزن بینهم و موت مواشیهم وتقول:

    حدّثونی ما لی أراكم حزانى؟
    كل راع فی وحشة و اكتآب
    كل راع جهم الملامح لا
    یشدو و لایزدهیه سحر الغاب
    فهو عند الینبوع ینظر فی الظل
    إلى الأفق شاحبا مصدوما
    ممعنا فی الجمود و الصمت كالموتى
    یناجی الفضاء یرعى الغیوما
    لم تزل قربه على العشب النادی
    عظام لكائن مقتول
    هو ذاك الراعی الصغیر الذی
    راح طعاما للذئب بین الحقول ( نازك الملائكة، دیوان، ج1، ص98).

و تصور هذه الآلام و الأزمات و المشاكل الاجتماعیة بصورة جیدة من أجل ارتوائها بتفكراتها الرومنسیة الطافحة التی تمتعت بها بألوانها المختلفة. و ألمها الحزین الذی اعتراها مع مرور الزمن و تعمقت جذوره فی أعماق حیاتها و وجودها، حیث یزید إیمانها بعبثیة الحیاة كلها و تعتقد أن الحیاة كلها ألم و إبهام و تعقید، لیس نفسیا فقط بل ألم إنسانی و ألم المجتمع البشری.

وفی هذا المنطلق نذكر شذرات من أشعارها:

تبكی الشاعرة على شجن العالم حینما ترى ركب الجیاع والحزانى:

    و أبصرت عند ضفاف الشقاء
    جموع الحزانى و ركب الجیاع
    سأحمل قیثارتی فی غد
    و أبكی علی شجن العالم ( نازك الملائكة، دیوان، ج1، ص9٦5).

أو عندما ترى بشرا جائعین فی القرى:

    خیّبتها القرى و دجاها الحزین
    إن فی أرضها بشرا جائعین
    لم تجد عندهم غیر دمع سخین ( نازك الملائكة، دیوان، ج1، ص٤٤٦).

و لا یمكن لهم أن یفكروا فی العوالم العالیة لأنهم فی صراع مع الجوع دائما:

    كیف یرقى الجیاع فی عالم الروح
    و هم فی حبالة الجسم أسرى
    هؤلاء الجیاع فی عزلة الحرمان
    تمتد حولهم أسوار
    لفّ أرواحهم حجاب كثیف
    و انطوت فی عیونهم أسرار ( نازك الملائكة، دیوان، ج1،ص1٤٤).

و تصف القرى و ساكنیها و أكواخهم هكذا:

    تلك أكواخهم حصیر و أحجار
    و بؤس مخیم لا یزاح
    تخجل الشمس أن تمر علیها
    و یحید الضحى و یكبو الصباح
    غرف رثّة المداخل و الجدران
    سود تجول فیها الریاح
    فی دجاها یعیش قوم جیاع
    نضبت فی أیدیهم الأقداح
    جیاع فی ظلمة الكوخ لم
    تدر بأحزانهم عیون الصباح
    یا دیارا سكانها الجوع و الحمى
    خواء من الندى و الحنان ( نازك الملائكة، دیوان، ج1، ص39٤).

و تعتقد أن الإنسان لم یستطع أن یبید الفقر و الشقاء فی الحیاة:

    هل غلبنا الشقاء و الفقر فی أرجاء
    هذا الكون الطحین الذلیل
    و الصغار العراة هل وجدوا مأوى
    و دفئا عبر الشتاء الطویل
    و الأذى و الشرور هل دحرتها
    الحرب یا من حملتموها لظاها
    أسفا لم یزل على الأرض من
    یتخذ الكأس و المجون إلها
    لم تزل فی الوجود أغنیة تقطر
    حزنا على شفاه جیاع
    فی هتافات لاجئین رمتهم
    محنة الحرب للغنى و الضیاع ( نازك الملائكة، دیوان، ج1،ص390).

و تبكی على أشقیاء الأرض بقولها:

أو دعینی أبكی على أشقیاء

الأرض بین الحنین و الحرمان ( نازك الملائكة، دیوان، ج1،ص155).

و یشتد تشاؤمها عندما تشاهد صرخات الجیاع و دموعهم و شقاءهم:

    اقلعی اقلعی بنا قد سئمنا
    صرخات الجیاع فی كل شعب
    قد رأینا الدموع فی كل عین
    و شهدنا الشقاء فی كل قلب ( نازك الملائكة، دیوان، ج1،ص109)
     
    أو عندما تشاهد الجوع و الفقر و عدم الرخاء، حیث تقول:
    
    أین؟ ضاع الخیال و الحلم
    الفاتن ضاع الجمال ضاع الرخاء
    لیس إلا دنیا من الجوع و الفقر
    علیها یعذب الأبریاء ( نازك الملائكة، دیوان، ج1،ص7٤).

تصف الشاعرة حالة الریفی أنه:

لیس تحت الصفصاف إلا بیوت

الطین و السقم و الطوى والبكاء ( نازك الملائكة، دیوان، ج1،ص109).

و تصرخ حینما تنظر إلى حالتهم فی الشتاء:

لیس یدری ما یفعل الجوع و الحزن

بأهل الأكواخ كل شتاء ( نازك الملائكة، دیوان، ج1، ص٦10).

و یكفی الأرض دمع البائسین و الأیتام:

حسب هذی الأرض الكئیبة دمع

البائسین الجیاع و الأیتام ( نازك الملائكة، دیوان، ج1،ص138).

ثم تخاطب الإنسان أنه لم یقدر أن یتغلب على الفقر والحرمان و تسأل عنه:

    هل تغلبتم على الفقر و الأحزان
    و السقم أیها الواهمونا ( نازك الملائكة، دیوان، ج1،ص59).
    
    و تجیب نفسها عن هذا السؤال بأن الإنسان لم یقدر علیه:
    لم تزل فی الوجود أغنیة الحزن
    یغنی بها الضعاف الجیاع
    لم یزل فی الوجود مرضى حیارى
    أبدا تعتریهم الأوجاع (نازك الملائكة، دیوان، ج1،ص59).

و ترى أن الغنی یستثمر الفلاح الذی یعیش عیشة السوء، فی الحقیقة ترى فی واقع المجتمع الإنسان الحریص الجشع كل الحرص یظهر قدرته على الضعفاء:

    فكنوز الغنی یجمعها الفلاح
    فی عمره الشقی الكسیر
    ذلك الكادح المعذب فی
    القریة بین المحراث والناعور
    فهو یلقی البذور و الترف
    الهافئ یجنی و تشهد الأحزان
    و یموت الفلاح جوعا لیفتر
    لعینی ربّ القصور النعیم ( نازك الملائكة، دیوان، ج1،ص159).

تشاهد الشاعرة هذه القضایا و سوء الحالة الاجتماعیة فیشتد تشاؤمها ، حیث تملأ آهاتها الفضاء: طغت فی الفضاء آهاتنا الحیرى

تغنی رجاءنا المصروعا ( نازك الملائكة، دیوان، ج1،ص0٦1).

ربما یمكن أن نعتبر هذه القصیدة لها خیر وصف فی هذا المنطلق- القضایا الاجتماعیة-، عندما ترى طفلة نائمة جائعة على أرض الشارع فی الشتاء:

    أیام طفولتها مرّت فی الأحزان
    تشرید، جوع، أعوام من الحرمان
    إحدى عشرة كانت حزنا لا ینطفئ
    و الطفلة جوع أزلی تعب ظمأ
    و لمن تشكو؟ لا أحد ینصت أو یعنی
    و المجتمع البشری صریع رؤى و كؤوس
    و الرحمة تبقى لفظا یقرأ فی القاموس
    و ینام فی الشارع یبقون بلا مأوى
    لا حمى تشفع عند الناس ولا شكوى
    هذا الظلم المتوحش باسم المدنیة
    باسم الإحساس ، فوا خجل الإنسانیة

( نازك الملائكة، دیوان، ج1،ص279).

أو عندما تشاهد امرأة فقیرة فی الشارع و تصف حالتها كیف تموت ؟ و یموت مثلها كثیرون من الناس الذین نسمیهم سواد الناس و تصور حالة أزقة بغداد و شوارعها كیف یسودها الفقر و الحرمان فی قصیدة" مرثیة إمرأة لا قیمة لها" ( نازك الملائكة، دیوان، ج1،ص273).

    ذهبت و لم یشحب لها خد و لم ترجف شفاه
    تسمع الأبواب قصة موتها تُروى و تُروى
    لم ترتفع أستار نافذة تسیل أسى و شجوا
    لتتابع التابوت بالتحدیق حتى لا تراه
    إلا بقیة هیكل فی الدرب ترعشه الذِكَر
    نبأ تعثر فی الدروب فلم یجد مأوى صداه
    فأوى إلى النسیان فی بعض الحفر
    یرثى كآبته القمر
    و اللیل أسلم نفسه دون اهتمام للصباح
    و أتى الضیاء بصوت بائعة الحلیب و بالصیام
    بمُواء قطّ جائع لم تبق منه سوى عظام
    بمشاجرات البائعین، و بالمرارة و الكفاح
    بتراشق الصبیان بالأحجار فی عُرض الطریق
    بمسارب الماء الملوّث فی الأزقه، بالریاح
    تلهو بأبواب السطوح بلا رفیق
    فی شبه نسیان عمیقْ
 

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:17|

التشاؤم النفسی عند نازك الملائكة



الموجز

كان بعض الشعراء و الأدباء مشغولین بأنفسهم و یعكفون على آلامهم الخاصة و هذا اللون من شعر المعاناة و الألم الذی یهتم الشاعر ببیان آلامه النفسیة و معاناته ینبع جمیعاَ من أصل واحد و هو الإحساس بالضیاع و الخواء و عبثیة الحیاة. و كانت أدبیاتهم مبنیة على التشاؤم لأنهم ساخطون على الدنیا متبرمون بالعالم و لا یرون فیه إلّا شراَ مستطیراَ لا سبیل إلى دفعه و طفحت دواوینهم بشعر المعاناة و الألم و الحزن فالحیاة عندهم شر كلها و إن فی ازدرائهم للحیاة مغالاة و تشاؤماَ مضرین و یصرخون متألمین لأنهم فقدوا كل أمل و قوة فهم لا یرون فی الحیاة غیر ظلام و فناء و یحسون بالقنوط غافلین عن قیمة الحیاة. و من هؤلاء " نازك الملائكة" التی تكون الحیاة عندها ملیئة بالهموم و الشقاوات و فی نفسها تشاؤم مرّ كثیف و الحیاة فی نظرتها متعقدة مع الخیبة و الخشیة فتعبر عن أحاسیسها و عواطفها الذاتیة الحزینة و تنكفئ إلى ذاتها خاصة حینما ترى أن كلما تغنیت من أحلام جمیلة محض سراب و لیست له حقیقة، أو تجد نفسها محاطة بالأحزان و الآلام تدفع بها حالة من التأمل و المعاناة و الجهد الفكری.

الكلمات الرئیسیة: نازك الملائكة، تشاؤم، عبثیة الحیاة، شعر المعاناة، الإحساس بالضیاع.

المقدمة

هناك أشخاص كثیرون مسلكهم أمام الحیاة و المجتمع سلبی و یؤدی ذلك إلى عزلتهم و ینتهی إلى نوع من العدم و الفناء و یرون أن الحیاة كلها شر؛ لأنه غالب على الخیر و من هؤلاء الذین شاهدوا شرور الحیاة " دیدرو" فإنه یقرر أن المرء حیوان ضارّ لو ترك لطبیعته و "فولتیر" یعتقد بتأصل الشر و "باسكال" یعتقد بوحدة الإنسان و جهل مصیره حیث یقول: " حین أنظر إلى هذا العالم الصامت كله، و فیه الإنسان لا نور لدیه، متروكاَ لنفسه، كأنه ضالّ فی هذا الجانب من العالم دون أن یدری من الذی و ضعه فیه و ما مصیره بعد الموت عاجزاَ عن كل معرفة……" (د. غنیمی هلال، محمد، قضایا معاصرة فی الأدب و النقد، ص 71). أو "لابروییر" یرى الشر أصیلاَ فی الناس و یقول: "لا ینبغی أن نغضب على الناس حین نرى قسوتهم و كفرانهم بالصنیع و ظلمهم و نسیانهم للآخرین، فهم هكذا خلقوا و هذه طبیعتهم". أو مثلاَ یرى "سارتر" أن الخیر فی العالم شعلة ضئیلة تهددها ریاح الشر كل جانب و "البیر كامو" یعتقد بعبثیة الحیاة و استعصائها فی ذاتها علی الفهم (نفس المرجع، ص 75).

تعبر نازك الملائكة عن عواطفها الذاتیة الحزینة و تنكفئ إلى ذاتها عندما تحس بالفراغ و الضیاع و تشعب الأهداف و غموض الغایات كأنها تدور فی حلقة مفرغة لا تعرف لها نهایة تنتهی إلیها و تعترف بالحقیقة المرة هی أن عالم الرؤى و الأحلام الذی التمسته فی الطبیعة سجن آخر لها من لون جدید فلهذا تطلب الخلاص منه. فی هذا الأوان تحس بأن الموت غایة لها لأنها بلغت النهایة و تلاقت الموت على فراشها و ذاقت لذته و استعدت نفسها للرحیل خاصة أنها كانت بین فكی الموت بسبب حمى شدیدة أصیبت بها و غلب الیأس علیها و لا حیلة لها أن ترحب بالموت بما أن حیاتها تنقضی قریبا والألحان تموت على شفتیها قبل أن تقول كل ما عندها و تدفع نفسها إلى حب الحیاة رغم الموت و ترید الحیاة من أجل أن تقول أناشیدها كلها و بعد لا تبالی أن یجیء الموت و یخطفها:

ربما تنقضی حیاتی قریبا

و تموتُ الألحانُ فی شفتیّا

لیْس فی الكونِ بعد شعری ما یغری

فؤادی فمرحبا بالممات

فإذا ما أتممت لحنی كما أهوى

فماذا أریده من حیاتی (نازك الملائكة،دیوان، دار ج1،ص 18)

و عندما تنفجر الآلام فی وجودها قویة وتتناقض الحیاة أمامها و كل ما یكون فی وجودها و إحساسها تناقض الواقع والحقیقة فی هذه اللحظة تحس ببطلان وجودها و خواء أعماقها العاطفیة و تسعى فی البحث عن معنى للوجود الإنسانی و تؤمن بعبثیة الحیاة فتسری فی أشعارها روح التشاؤم و النقمة و مكتبها الشعری أو حالتها النفسیة مفعمة‌بالرومنسیة و هی تدفق فی إبداعها نغما حزینا و فكرا متشائما نتیجة المرارة و الخیبة فی أعماق المحن و الأزمات و یزید التشاوم فیها . و فی هذه الحالة تمیل أن تعود إلى الماضی الجمیل و تهرب من قیود الزمان لأن فیه تحررا –كما هو شأن الشعراء الرومنسیین (د غنیمی هلال، محمد، الرومانتیكیة،ص73)- و تستعرضه بكل تفاصیله و جزئیاته،ربما تقنع نفسها لفشل تجربتها و تحس بالیأس و التمزق و الاغتراب، فی الحقیقة تقابل بین حالتین – كما یعتقد الدكتور" المهنا"(مجلة الشعر فصلیة مصریة، العدد1٤، ینایر٦198م ص10)- و یقول:"……حالة الاغتراب التی یمثلها الماضی المفعم بالحرارة مع أنه میت من الناحیة المعنویة و حالة الاغتراب التی یعكسها الحاضر الخامد على رغم من أنه لم یفقد حرارة الحیاة و تمكن لها العودة إلی الماضی لأن فشل التجربة لا یعنی نهایة التجربة". تمثل نازك الملائكة درجة عظیمة من الألم النفسی و هو میراث نفس فاشلة تطمع فی المستقبل دون أن تنسى خذلان الماضی و قد أدركت هذا الموضوع فهما تاما خاصة بعد أن خرجت من المحیط العربی إلى محیط أجنبی و اشتد صراعها الذاتی و مقتضیات الحیاة من حولها . تلجأ الشاعرة إلى الأزمان من أجل هذه الأزمات، الزمن الماضی بكل ما فیه و انتظار الغد أی مواجهة القبور و الترحب بالموت لأنه یخلصها من هذه الأزمات و لو تكون باردة؛كما تقول:

ومن القبر ذلك المظلم البارد (نازك الملائكة،دیوان،ج1،ص83٦)

القبر ضمك فی برودته (نازك الملائكة،دیوان،ج2،ص٦13)

أو یكون صورة من الوحشة والصمت والظلام:

لم أجد غیر وحشة الیأس

و صمت مثل صمت القبور

أی قبر أعددت لی أ هو كهف؟

ملء أنحائه الظلام الداجی (نازك الملائكة،دیوان،ج1،ص25)

إذن تلجأ الشاعرة إلی دائرة الأزمان و هی الدائرة التی سمتها "یوتوبیا"منطقة یتعطل فیها حكم الزمن و رغم ذلك عالم یموت فیه الضیاء و مرة یضیئه القمر و لكن الصفة الثابتة لها أنها أفق أزلی لا یدركه الفناء كما یعتقد الدكتور" شوقی ضیف"(فصول فی الشعر و نقده، دار المعارف بمصر، ص ٦9). و قد نظمت فی عنائها النفسی و قلق نفسها و صورت خوفها و فزعها و ألمها تصویرا رائعا و تشعر فی حیاتها شعورا عمیقا بأن الشر و الشؤم یلازمانها و لا مفر منهما إلا أن تتخلص من الحیاة و تستقبل الموت و ما الفائدة فی هذه الحیاة الملیئة بالمشقات و الصعاب و یلیق بها أن تستریح من عذابها و عنائها و تحس بلهیب الیأس المتقد فی أعماق نفسها . و أزمتها النفسیة أمام الوجود و الكون و أسرار الحیاة و مصیرها شدید الحدة، فهی كثیرة التفكر فی آلام الإنسان و مصیره و وجوده و الكون و ألغازه و الموت وأسراره و حاولت لتكشف أسرار الحیاة و الطبیعة و ما بعدها فیسری التشاؤم فی أشعارها فتحزن و تبتئس و تكتئب و لون الحیاة بكآبة نفسها وأفكارها السوداء یلح علیها. و یقول الدكتور" هدارة" إنها استخدمت كلمة" لیس"فی مطولتها " مأساة الحیاة " خمسا و سبعین مرة و أطلق علیه "النزعة اللیسیة " لتضاف إلى " النزعة اللاأدریة "(د.هدارة ،محمد مصطفى ،دراسات فی الشعر العربی الحدیث، ص 93)

نرى طابعها أنه هو الحزن و الاضطراب و القلق النفسی و المعاناة، من أجل انهیار آمالها الواسعة و اشتهرت بشاعرة الحزن و البكاء و النواح و كل من یقرأ شعرها یشعر بالحزن الذی تعیش فیه الشاعرة و ینبع من أعماق قلبها و مصدر الآلام لا یخبو فی نفسها؛ و فی هذا المنطلق نذكر أشعارها التی تعبر عن تشاؤمها أمام الكون و الحیاة و الأسرار و الألغاز و تعرف من تفكراتها و نظریاتها حولها. بدأت الشاعرة نظم مطولتها الأولى فی الثانی و العشرین من عمرها التی هی صورة واضحة من اتجاهات الرومانسیة التی غلبت علیها فی هذه الفطرة من حیاتها و كان من مشاعرها التشاؤم و الخوف من الموت، و عنوان هذه المطولة "مأساة الحیاة" و العنوان نفسه یدل على تشاؤمها المطلق خاصة أنها تعتقد بأن الحیاة كلها ألم و إبهام و تعقید و موضوع هذه القصیدة الطویلة فلسفی یدور حول الحیاة و الموت و ما وراءهما من الأسرار و الألغاز؛ و تبدأ بهذه الأبیات:

عبثاَ تحلمین شاعرتی ما

من صباح للیل هذا الوجود

عبثاَ تسألین لن یكشف السر

و لن تنعمی بفكّ القیود (نازك الملائكة، دیوان مأساة الحیاة، ص 21).

و ترى أن الأفق مجهول و لا فائدة للنظر فیه؛ لأنه لا یتجلى و القدر مستغلق صامت:

أبداَ تنظرین للأفق المجهول

فهل تجلى الخفی

أبداَ تسألین و القدر الساخر

صمت مستغلق أبدی (نازك الملائكة، دیوان مأساة الحیاة، ص 22).

تحدثت الشاعرة كثیراَ فی أشعارها عن الإنسان و عن سر وجوده كما تحدثت عن عجزه عن معرفة هذا الكون الغامض المعقد و تعتقد أن حیاة الإنسان مجهولة غامضة ملیئة بالأسرار و الآلغاز التی لم یكن فی إمكان أحد أن یكشفها حتى الآن و مضمون الشعرها الیأس و العجز عن حل هذه الأسرار و الألغازو الرجاء لا طائل تحته:

نحن نحیا فی عالم لیس یُدرى
سره فهو غیهب مجهول
أی شیء هذا الفضاء؟ و ما سر
دجاه ؟ هل خلفه من حدود؟
هو سر الحیاة دقّ على الأفهام
حتى ضاقت به الحكماء
ما الذی یطلع النجوم على الكون
مساء؟ ما كنه هذا الوجود؟
فأیأسی یا فتاة ما فهمت من
قبل أسرارها ففیم الرجاء؟ (نازك الملائكة، دیوان مأساة الحیاة، ص 23).

و تعتقد أن النسان لیس بقادر أن یكشف الأسرار لكنها تسعى أن تجد السعادة و هناك صراع للوصول إلیها و لكن أخیراَ تقنع بالجهل و تریح نفسها من عناء الصراع فی سبیل وصولها لأنه لا یوجد أحد أن رآها إذن تبقى كلغز:

فیم لا تیأسین؟ ما أدرك الأسرار

قلب من قبل كی تدركیها

أسفاَ یا فتاة لن تفهمی الأیام

فلتقنعی بأن تجهلیها

نحن ندعوه بالسعادة لكن

لیس منا من ذاقه أو رآه

ذلك اللغز ذلك الحُلُم المحجوب

خلف الضباب أین تراه ؟ (نازك الملائكة، دیوان مأساة الحیاة، ص 22).

و تعتقد أن الألم جزء لا ینفصل عن الوجود الإنسانی و عقوبة طبیعیة و أنه دائما َمع الحیاة و هذا الجرح عمیق عندما كان الإنسان فی شبابه و لا فائدة من البقاء مادامت الحیاة تجرح الإنسان بالأسى و العذاب :

    كل ما فی الوجود یؤلمنی الآن
    و هذی الحیاة تجرح نفسی (نازك الملائكة، دیوان، ج 1، ص ٤3).
    كل ما فی الوجود یجرحنی الآن
    و لون الحیاة یطعن نفسی (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 257).
    و أكفّ الحیاة تجرحنی فیم
    بقائی؟ حسبی أسى و عذابا
    فی ربیع الشباب ما أعمق الجرح
    إذا كانت الحیاة شبابا (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 250).
    و لا مفر للإنسلن من آلامه و هو محاصر بها مادام یعانی الحیاة:
    أین أمضی یا رب أم كیف أنجو
    من قیود الفناء والأیام
    ضاق بی العالم الفسیح فیا
    للهول أین المفر من آلامی (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 213).
    و لا یمكن أن یفر من الأوهام و الأفكار:
    آه لو كان فی الحیاة مفر
    من شقاء الأوهام و الأفكار (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٤18).

و ترید أن تفهم ماذا تصنع بها المأساة فی المستقبل المجهول و ماذا یستقبلها من أجل هذا تنادی القلب بقولها :

حدثی القلب أنت أیتها المأساة

یا من قدسمیت بالحیاة

ما الذی تصنعین بی فی الغد المجهول

ماذا تری مصیر رفاتی ؟ (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 25).

لهذا السبب تقرر أن تسأل عن اللیل ربما یظهر لها ما ترید و لكن تشاهد الأوهام تسخر منها و لا تجیبها و یبقی سؤالها فی هذا المجال بدون جواب:

    طالما قد سألت لیلی لكن
    عزّ فی هذه الحیاة الجواب
    لیس غیر الأوهام تسخر منی
    لیس إلا تمزق و اضطراب (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٦2).

كما تكون الحیاة مبهمة، إن الموت لغز أیضاَ و حل هذا اللغز صعب جداَ و ما زال یبقی لغز عمیقاَ:

    هل فهمتُ الحیاة كی أفهم الموت
    و أدنو من سره المكنون
    لم یزل عالم المنیة لغزاَ
    عزّ حلاَ علی فؤادی الحزین (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٦2).
    و أكفّ الحیاة تجرحنی واللغز
    یبقی لغزاَ عمیقاَ خفیاَ
    تتحدی الأحیاء قهقهةُ الموت
    و تبقی الحیاة لیلاَ دجیا (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 8٤2).
    و كما أن الحیاة قد جرّعتها الحزن و الیأس، المنایا لا تهتم بأمنیاتها:
    ولْتَجرّعنی الحیاة كؤوس الحزن
    و الیأس ما یشاء شقاها
    هل ستصغی إلی رجائی المنایا
    إن تمنیت صمتها و دجاها
    إن تمنیت أن آعیش فما
    یستمع الموت أو یمد سنینا
    أو تمنیت أن أموت فما یرحم
    حلمی ولست القى المنونا (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 27).
    و ترى الموت غالباَ منتصراَ و أننا أمامه ضعفاء:
    هكذا الموت غالب أبد الدهر
    و نحن الصرعى الضعاف الحیارى
    و له النصر و الفخار علینا
    فاندبوا مادعوتموه انتصارا (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 58).
    و إن المهم هو إرادة القدر:
    هكذا مما یریده القدرالمحتوم
    لا ما تریده آمالی (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 28).

طبعاَ تعود الشاعرة بنسبة الشر فی نفس الإنسانیة إلی خطیئة آدم و حوّاء و تؤكد على هذا الموضوع عدة مرّات خاصة فی مطولتها" مأساة الحیاة" و أغنیة للإنسان" و الشیطان نجح فی قهر الإنسان و غرس نزعة الشر فی وجود الإنسان بخضوعه لإرادته:

لیت حوّاء لم تذق ثمر الدوحة

لیت الشیطان لم یتجنا

علمتنا ثمارنا فكرة الشر

فكان الحزن العمیق العاصر (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 200)

و أحیاناَ تفكرفی الذنب الذی ارتكبه آدم بحیث یحق العذاب على البشر جمیعاَ و تقول:

    حسبها أننا دفعنا إلیها
    ثمن العیش حیرة و دموعا
    أی ذنب جناه آدم حتى
    نتلقى العقاب نحن جمیعا (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 38).
    والحیاة عندها منبع شر و شقاء و اضطراب و لا مهرب منها و تصفها هكذا:
    لقبوها الحیاة و هی اضطراب
    أبدی و لهفة لا تقر
    و امتداد للانهایة لا یبدأ
    لا ینتهی و أین المفر؟(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 3٦1)
    و ترون الحیاة منبع شر
    لیس منها منجى و لیل شقاء
    هی هذی الحیاة زارعة الأشواك
    لا الزهر و الدجى و لاالضیاء
    هی نبع الآثام تستلهم الشر
    وتحیا فی الأرض لا فی السماء(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 37)
    و تصفها أنها كساقیة تسقی كؤوس السم و تعطیها للعطاش:
    هی هذی الحیاة ساقیة السم
    كؤوب یطفو علیها الرحیق
    أومأت للعطاش فاغترفوا منها
    ومن ذاتها فلیس یفیق(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 37)
    والحیاة الإنسانیة شقاء دائم:
    عالم كل من على وجهه یشقى
    و یقضی الأیام حزنا و یأسا
    عبثا فالحیاة سنته الحزن
    و حكم الآهات والدمع جار(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 8٦٤)
    كما ضاق قطرة من نعیم
    أعقبتها من الأسى ألف قطرة
    و مهداتها هی:
    هی هذی الحیاه لاتمنح الأحیاء
    إلا العذاب و الأهوالا(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 3٤1)
    وقد بلغ التشاؤم فبها إلى حد ترى أن الحیاة كلها مأساة من بدایتها ألی نهایتها:
    ما أفظع المبدأ و المنتهى
    ما أعمق الحزن الذی نحمل(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص٦52)

و العالم الملیئ بالشقاء و الألم ولا فائدة فی تهذیب النفس لأنها حاملة الشر و البغضاء:

    هكذا شاءت المقادیر للعالم
    إثم و شقوة و حروب
    و هی النفس تحمل الشر و البغض
    فماذا یفیدها التهذیب (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 50)
    ولا نجاة من الكون المعذب المسوق إلى الأحزان:
    كیف ینجو من الأسى ومتى یشفى
    فی الموجعات و الآلام؟
    یالهذا الكون المعذب فی قید
    من الشرو الأذى و الآثام
    كیف ینجو و الطبع و القدر القاسی
    یسوقان إلى الأحزان (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 51)
    و هناك لیس أی شفاء لهذا الیأس و الحزن؛ لأن:
    لیس یشفیهم من الحزن و الیأس
    دواء فالداء فی الأرواح (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 87)
    و لا یوجد أی رخاء و راحة حتى فی القبر:
    افتحوا هذه القبور و هاتوا
    حدّثونا أین الغنى و الرخاء؟ (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٦5)

مع أنها تعتقد بأن الموت كارثة أقسى و تعتقد أن تشاؤمها قد فاق تشاؤمها" شوبنهاور" لأنه كان یعتقد أن الموت نعیم یختم عذاب الإنسان أما هی فلم تكن عندها كارثة أقسى من الموت و هو یلوح لها مأساة الحیاة الكبرى و أن التشاؤم و الخوف من الموت من مشاعرها. لكنها بالفعل تؤمن بأنه یخلص الإنسان من الشقاء و الألم و تؤمن بقول شوبنهاور: إن أعظم نعیم للناس جمیعا هو الموت؛لأنها تجد فیه راحة لا تجد ها فی الحیاة و لفظ الموت قد ذكر كثیرا فی عالمها الشعری حتى فی عناوین قصائدها الكثیرة؛ " عیون الأموات" ، "أنشودة الأموات" ، "بین فكّی الموت" ، "قلب میت" و…. و ترحب به و تلقاه غیر محزونة و لا سیما فی میعة شبابها إذن فلسفتها العملیة تثبت خلاف آرائها و عقائدها فی هذا المجال:

عدت أخشى الحیاه أفرق منها
و أراها دعابة لا تطاق
فإذا ما أتممت لحنی كما أهوى
فماذا أریده من حیاتی
لیس فی الكون بعد شعری ما یغری
فؤادی فمرحبا بالممات
سوف ألقى الموت المحجّب روحا
شاعریا یحب صمت التراب
و فؤادا یرى الممات شبابا
للمنى و الشعور أی شباب
سوف ألقاك غیر محزونة یا
موت فی میعة الشباب الغرید (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 218).

و ترى هموم الشباب أحر الهموم و الأحزان و الحیاة كلها ملیئة بالیأس و الحزن حتى مبهجات الحیاة:

یا هموم الشباب فیم تكونین

أحرالهموم و الأحزان

ها أنا فی الشباب تقتلنی الوحدة

و الصمت و الأسى یا هموم

أینما أتجه فثمة أحزان

أراها و وحشة و وجوم

كل شیء أراه یملأنی حزنا

و یأسا من مبهجات الحیاة(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 209)

و تشكو من خیبة أحلامها؛ لأنها:

یا خیبة الأحلام ما أبقیت لی

إلا ضلال كآبتی و ظلامی(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 87٤)

و تحس بالعجز و ترید الرأفة:

آه فارأف بفتاة حطّم الدهرُ مناها

و أفاقت لیهدّ الحزن و الیأس قواها(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٦1٦)

و ترىأن لهذه الشكوی الحزینة لیست فائدة:

آه لا بد من أسانا فماذا

نفع هذی الشكوى الحزینة منا(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٦23)

و أخیرا تنفر من كل شیء و تحس بالسآمة حتى فی التفكیرو البقاء و الواقع و إلخ ولا ترید أن تعیش روحها مثل الناس:

و أنفر من كل ما فی الوجود

و أهرب من كل شیء أراه(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٤5)

روحی لاتعشق أن تحیا مثل الناس

أنا أحیانا أنسى بشریة إحساسی(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 98)

قد سئمت التفكیر یا لیلی الساحی

و ألقیت بالكتاب الحبیب

قد سئمت الأمل المر الكذوبا

أیها الغادر لا تنظر إلیّا(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 570)

قد سئمت الواقع المر المملا

ولقد عدت خیالا مضمحلا

ففیم أعیش ؟ سئمت البقاء

و شاق حیاتی صمت العدم(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 599)

و قصارى القول إذا تطرفنا إلی أشعارها رأینا أن روح التشاؤم كیف سرت فی نفسیة الشاعرة ، و فی نفسها نوع من الیأس و التشاؤم الذی قد تسرب فی كلماتها و ألفاظها و قد آل المطاف بها أن تضجرت بكل شیء فی الحیاة و لا ترید أن تحیا مثل السائرین و آمنت بأننا نعیش فی العالم الذی:

نحن نحیا فی عالم كله دمع

و عمر یفیض یأسا و حزنا

تستشفی عناصر الزمن القاسی

بآهاتنا و تسخر منا(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 1٦1)

و تعیش فی عالمها الذی رسمت لنفسها و العالم الذی فرض على نفسها و هو سر التألم و التمزق فی حیاتها. و من أجل هذا العالم الملیء بالأحزان و الآلام الذی رسمت الشاعرة لنفسها،و الحیاة فیه جافة باردةو لا معنی للعیش فیه تعتقد بوجوب استقبال الموت لأنه:

    لنمُت فالحیاة جفّت و هذه الأكؤس
    الفارغات تسخر منا
    و سكون الحیاة فی جسد الأحلام
    لم یبق قط للعیش معنى
    و فراغ الآهات أثبت أنا
    قد فرغنا من دورنا و انتهینا
    و لمذا نبقى هنا نسمع الموت
    ینادی بنا فلم لا نجیب؟
    لنمت فالریاح تجرح وجهینا
    و لون الدجى عمیق رهیب(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٦10)
    و هناك سبب آخر لاستقبال الموت،هو:
    عصرتنی الحیاة لم یبق معنى
    لوجودی، لأدمعی،لحیاتی
    كل شیء یلوح لی عدما مرا
    و لغزا مكنفا بالشكاة(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٤٦2).
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:16|
نازك الملائكة




بدأتْ نظم الشعر بالعامیة العراقیة قبل سِنّ العاشرة ثم نَظمتْ أول قصیدة بالعربیة الفصحى وهی فی العاشرة من العُمر.

تجید الشاعرة العزف على آلة العود التی درستها لمدة ست سنوات فی معهد الفنون الجمیلة. الصفحة الأولی
نبذة عن حیاة نازك الملائكة

ولدت الشاعرة نازك الملائكة فی بغداد عام 1923م ، ونشأت فی بیت علمٍ وأدب ، فی رعایة أمها الشاعرة سلمى عبد الرزاق أم نزار الملائكة وأبیها الأدیب الباحث صادق الملائكة ، فتربَّت على الدعة وهُیئتْ لها أسباب الثقافة . وما أن أكملتْ دراستها الثانویة حتى انتقلت إلى دار المعلمین العالیة وتخرجت فیها عام 1944 بدرجة امتیاز ، ثم توجهت إلى الولایات المتحدة الأمریكیة للاستزادة من معین اللغة الانكلیزیة وآدابها عام 1950 بالإضافة إلى آداب اللغة العربیة التی أُجیزت فیها . عملت أستاذة مساعدة فی كلیة التربیة فی جامعة البصرة .

تجید من اللغات الإنجلیزیة والفرنسیة والألمانیة واللاتینیة ، بالإضافة إلى اللغة العربیة ، وتحمل شهادة اللیسانس باللغة العربیة من كلیة التربیة ببغداد ، والماجستیر فی الأدب المقارن من جامعة وسكونس أمیركا .

مثّلت العراق فی مؤتمر الأدباء العرب المنعقد فی بغداد عام 1965 .

آثارها : لها من الشعر المجموعات الشعریة التالیة :

- عاشقة اللیل صدر عام 1947.

- شظایا ورماد صدر عام 1949 .

- قرارة الموجة صدر عام 1957 .

- شجرة القمر صدر عام 1965 .

- مأساة الحیاة وأغنیة للإنسان صدر عام 1977 .

- للصلاة والثورة صدر عام 1978 .

- یغیر ألوانه البحر طبع عدة مرات .

- الأعمال الكاملة - مجلدان - ( عدة طبعات ) .

ولها من الكتب :

- قضایا الشعر المعاصر .
- التجزیئیة فی المجتمع العربی .
- الصومعة والشرفة الحمراء .
- سیكولوجیة الشعر .

كتبت عنها دراسات عدیدة ورسائل جامعیة متعددة فی الكثیر من الجامعات العربیة والغربیة .

نشرت دیوانها الأول " عاشقة اللیل " فی عام 1947 ، وكانت تسود قصائده مسحة من الحزن العمیق فكیفما اتجهنا فی دیوان عاشقة اللیل لا نقع إلا على مأتم ، ولا نسمع إلا أنیناً وبكاءً ، وأحیاناً تفجعاً وعویلاً " وهذا القول لمارون عبود .

ثم نشرت دیوانها الثانی شظایا ورماد فی عام 1949 ، وثارت حوله ضجة عارمة حسب قولها فی قضایا الشعر المعاصر ، وتنافست بعد ذلك مع بدر شاكر السیاب حول أسبقیة كتابة الشعر الحر ، وادعى كل منهما انه اسبق من صاحبه ، وانه أول من كتب الشعر الحر ونجد نازك تقول فی كتابها قضایا الشعر المعاصر " كانت بدایة حركة الشعر الحر سنة 1947 ، ومن العراق ، بل من بغداد نفسها ، زحفت هذه الحركة وامتدت حتى غمرت الوطن العربی كله وكادت ، بسبب تطرف الذین استجابوا لها ، تجرف أسالیب شعرنا العربی الأخرى جمیعاً ، وكانت أول قصیدة حرة الوزن تُنشر قصیدتی المعنونة " الكولیرا " وهی من الوزن المتدارك ( الخبب) . ویبدو أنها كانت متحمسة فی قرارها هذا ثم لم تلبث أن استدركت بعض ما وقعت فیه من أخطاء فی مقدمة الطبعة الخامسة من كتابها المذكور فقالت :عام 1962 صدر كتابی هذا ، وفیه حكمتُ أن الشعر الحر قد طلع من العراق ومنه زحف إلى أقطار الوطن العربی ، ولم أكن یوم أقررت هذا الحكم أدری أن هناك شعراً حراً قد نظم فی العالم العربی قبل سنة 1947 سنة نظمی لقصیدة (الكولیرا) ثم فوجئت بعد ذلك بأن هناك قصائد حرة معدودة قد ظهرت فی المجلات الأدبیة والكتب منذ سنة 1932 ، وهو أمر عرفته من كتابات الباحثین والمعلقین لأننی لم أقرأ بعد تلك القصائد فی مصادرها " .
نازك الملائكة.. ونقد النقد

مصطفى عاشور

ولدت نازك صادق جعفر الملائكة فی (غرة محرم 1342هـ= 23 من أغسطس 1923م) فی بیت عرف بالعلم والأدب فی بغداد، فأبوها من مدرسی اللغة العربیة المتبحرین فی علومها وآدابها، أما أمها "سلمى عبد الرزاق" فكانت شاعرة مجیدة ولها دیوان منشور بعنوان "أنشودة المجد".

تفتحت الموهبة الأدبیة لنازك مبكرا فاتجهت منذ صغرها إلى دراسة الأدب القدیم، واستفاضت فی دراسة النحو وقرأت ودرست عیون التراث العربی اللغوی والأدبی، وكانت شدیدة النهم للقراءة حتى إنها قرأت كتاب "البیان والتبیین" للجاحظ فی ثمانیة أیام؛ وهو ما أصابها بمرض مؤقت فی عینیها، وتحكی عن نفسها أنها كانت تشعر بالرهبة والخوف إذا لم تقرأ ثمانی ساعات یومیا.

التحقت بدار المعلمین العالیة وتخرجت فیها سنة (1364هـ= 1944م)، وفی عام (1367هـ= 1947م) نظمت أول قصیدة فی الشعر الحر بعنوان "الكولیرا"، وقالت عن القصیدة بأنها "ستغیر خریطة الشعر العربی".

- حصلت على الماجستیر من الولایات المتحدة عام (1370هـ= 1950م) فی الأدب المقارن وأجادت اللغة الإنجلیزیة والفرنسیة والألمانیة واللاتینیة، ثم عادت عام (1374هـ= 1954م) ثانیة إلى الولایات المتحدة لدراسة الدكتوراة فی البعثة التی أوفدتها الجامعة العراقیة، واطلعت على الأدب الفرنسی والصینی والألمانی والهندی.

- وبعد عودتها للعراق عملت بكلیة التربیة ببغداد سنة (1377هـ= 1957م)، ثم انتقلت إلى جامعة البصرة وتزوجت فی عام (14384هـ= 1964م) من الأستاذ الدكتور "عبد الهادی محبوبة" رئیس جامعة البصرة.

- رحلت إلى الكویت مع زوجها وعملا بالتدریس فی جامعة الكویت، ومنحتها الجامعة عام (1406هـ= 1985م) إجازة تفرغ للعلاج بعدما أصیبت بمرض عضال ثم عادت إلى العراق ومنها إلى القاهرة لتكمل علاجها الطبی بسبب نقص الأدویة فی العراق بسبب الحصار الأمریكی. واتخذت نازك وزوجها وابنها الوحید الدكتور "براق" القاهرة سكنا ومستقرا دائما.

- وبعد وفاة زوجها الدكتور "محبوبة" سنة (1422هـ= 2001م) عاشت فی عزلة بعیدا عن ضجیج الحیاة، مما حدا ببعض الصحف أن تنشر أخبارا عن وفاتها رغم أنها ما زالت على قید الحیاة.

- جمعت الدكتورة "نازك الملائكة" بین الشعر والنقد، ونقد النقد، وهی موهبة لم تتوفر إلا للنادر من الأدباء والشعراء، وأصدرت عددا من الدواوین والدراسات النقدیة والأدبیة، فمن دواوینها "عاشقة اللیل" عام (1367هـ= 1947م) و"شظایا ورماد" عام (1369هـ= 1949م)، و"قرارة الموجة" عام (1377هـ= 1957م)، و"شجرة القمر" عام (1388هـ= 1968)، وجمعت دواوینها فی مجلدین ضخمین ونشرا فی بیروت. ومن دراستها النقدیة "قضایا الشعر المعاصر" و"الأدب والغزو الفكری" و"محاضرات فی شعر علی محمود طه" و"سیكولوجیا الشعر".

- وقد حصلت "نازك الملائكة" على عدد من الجوائز الأدبیة منها جائزة الإبداع العراقی عام (1413هـ= 1992م) وجائزة البابطین للشعر.

- وكانت قصیدة "أنا وحدی" آخر قصائدها المنشورة التی رثت بها زوجها الدكتور "محبوبة".

توفیت یوم الخمیس 21 من حزیران - یونیو 2007 فی القاهرة، وقد نشرت الشرق الأوسط التقریر التالی عنها

رحیل نازك الملائكة رائدة الشعر العربی الحدیث

تشیع فی جنازة رسمیة ببغداد القاهرة: جمال القصاص وأیمن حامد الدمام: عبید السهیمی بیروت : سوسن الأبطح غیب الموت فی القاهرة مساء اول من أمس الأربعاء، الشاعرة العراقیة نازك الملائكة رائدة الشعر العربی الحر، عن عمر یناهز 84 عاما، إثر هبوط حاد فی الدورة الدمویة وبعد معاناة طویلة مع أمراض الشیخوخة.

وأفاد منصور عبد الرزاق الملحق الثقافی العراقی بالقاهرة، بأن رئیس الوزراء العراقی نوری المالكی أمر بنقل جثمان الشاعرة الراحلة من القاهرة لتدفن فی بلدها العراق فی جنازة رسمیة. وقدم المالكی العزاء إلى أسرة الشاعرة والى الشعراء والمثقفین العراقیین ووصف المالكی الشاعرة الراحلة بـ«ابنة العراق الغالیة».

ولدت نازك الملائكة فی بغداد فی 28 أغسطس (آب) عام 1923 فی أسرة محبة للثقافة والشعر، وتخرجت فی دار المعلمین العالیة ببغداد عام 1942، ثم التحقت بمعهد الفنون الجمیلة وتخرجت فی قسم الموسیقى عام 1948 وفی عام 1959 حصلت على شهادة الماجستیر فی الأدب المقارن من جامعة وسكونسن بالولایات المتحدة، وعینت أستاذة فی جامعة بغداد وجامعة البصرة ثم جامعة الكویت. ومع تدهور الأوضاع السیاسیة فی العراق غادرته الملائكة، وأقامت لبعض الوقت بعدة دول عربیة، وفی عام 1989 اختارت الإقامة فی القاهرة بشكل دائم، ورفضت العودة إلى العراق، وفی منزل بسیط بضاحیة مصر الجدیدة عاشت مع أسرتها الصغیرة برفقة زوجها عبد الهادی محبوبة، الذی توفی قبل عدة سنوات وابنها الوحید البراق. وخلال تلك الفترة آثرت الملائكة العزلة والابتعاد عن الأضواء والمهرجانات الثقافیة حتى أنها لم تحضر احتفالیة التكریم، التی أقامتها لها دار الأوبرا المصریة فی 26 مایو (أیار) عام 1999، بمناسبة مرور نصف قرن على انطلاقة مسیرة الشعر الحر فی الوطن العربی.

وحاولت «الشرق الأوسط»، الاتصال بنجلها الوحید البراق، لكنه اعتذر عن عدم الحدیث عن أمه الرؤوم ـ على حد قوله ـ لانشغاله بمراسم نقل جثمانها إلى بغداد، لكنه أفاد بأنه سیقیم لها مساء الیوم سرادق عزاء فی أحد مساجد لقاهرة. دشنت نازك الملائكة عام 1947 بقصیدتها «الكولیرا» ما عرف بالشعر الحر فی الأدب العربی، وقد كتبتها تضامنا مع مشاعر المصریین، الذین حصد هذا الوباء أرواح الكثیرین منهم، خاصة فی الریف المصری، لكنها فی الطبعة الخامسة من كتابها الشهیر «قضایا الشعر المعاصر» أقرت بأن قصیدتها لم تكن قصیدة الشعر الحر الأولى، بل سبقتها قصائد نشرت منذ عام 1932. تركت نازك الملائكة تراثا شعریا وأدبیا مهما، بدأته بدیوانها الشعری الأول «عاشقة اللیل» عام 1947 ببغداد، ثم توالت مجموعاتها الشعریة ومنها: «قرار الموجة» 1957، «شجرة القمر» 1968، «یغیر ألوانه البحر» 1977، «للصلاة والثورة» 1978. كما صدرت لها بالقاهرة عام 1997 مجموعة قصصیة لفتت أنظار النقاد بعنوان «الشمس التی وراء الغیمة». وإضافة إلى كتابها النقدی الرائد «قضایا الشعر المعاصر» تركت نازك الملائكة عددا من المؤلفات الأدبیة المهمة، منها دراسة فی علم الاجتماع بعنوان «الجزیئیة فی المجتمع العربی»، «الصومعة والشرفة الحمراء» و«سیكولوجیة الشعر». حصلت نازك الملائكة فی عام 1996 على جائزة البابطین الشعریة.

وأثناء ملتقى القاهرة الدولی للشعر العربی، الذی نظمه المجلس الأعلى للثقافة بمصر فی شهر فبرایر (شباط) الماضی، طرح اسم نازك الملائكة ضمن الأسماء المرشحة للفوز بالجائزة، لكن لجنة التحكیم اختارت الشاعر الفلسطینی الكبیر محمود درویش لیفوز بتلك الجائزة. وكان رئیس اتحادی الكتاب المصریین والعرب محمد سلماوی، قد طالب الشهر الماضی بعلاج نازك الملائكة، كما أصدرت مجموعة من المثقفین والسیاسیین العراقیین المقیمین فی مصر بیانا قبل نحو أسبوعین، طالبوا فیه الحكومة العراقیة بتولی علاج نازك الملائكة، إلا أن أسرة الشاعرة الراحلة سارعت بإصدار بیان نفت فیه تدهور صحتها، وأكدت عدم حاجتها إلى تدخل أی جهة فی حیاة الشاعرة الكبیرة. شوشة: أهم شاعرة عربیة معاصرة فی مصر نعى الشعراء والكتاب رحیل الشاعرة العراقیة الكبیرة نازك الملائكة. وقال الشاعر فاروق شوشة إن الشاعرة العراقیة الراحلة كانت أهم شاعرة عربیة فی النصف الثانی من القرن العشرین، إذ ثبتت موقع الریادة للمرأة الشاعرة فی حركة الحداثة الشعریة، عندما قاد زملاؤها فی العراق السیاب والبیاتی والحیدری حركة التجدید الشعری. ویضیف شوشة أن الشاعرة الراحلة كان لها أیضا دورها النقدی المهم عندما كتبت عن هذه الحركة الجدیدة فی كتابها «قضایا الشعر المعاصر» شارحة أسباب هذه الحركة الجدیدة ودواعیها ومستقبلها. كما كتبت مؤلفا نقدیا مهما عن الشاعر علی محمود طه، كانت فی الأساس مجموعة محاضرات ألقتها فی مصر فی مطلع الستینات. ویوضح شوشة أن الشاعرة الراحلة كان لها أیضا دور ثقافی باعتبارها من علامات التنویر فی الحركة الثقافیة المعاصرة، وقامت بترجمة نماذج عدیدة من الشعر الإنجلیزی لفتت فیه الأنظار إلى شعراء مهمین.

وعن خصائص نازك الملائكة الشعریة قال شوشة إنها كانت مولعة بالتأمل، نتیجة لطابع العزلة الذی كانت تعیش فیه، إذ كانت الشاعرة الراحلة انطوائیة لا تمیل للحیاة الاجتماعیة ولا للعلاقات الواسعة. وقال شوشة إن الشاعرة الكبیرة اختارت مصر لتكون وطنها فی سنوات المرض الأخیرة، إذ كانت مرتبطة بالحیاة الثقافیة المصریة ارتباطا وثیقا وبقیت تعیش فی شقتها بالقاهرة مع ابنها الوحید البراق، تعبیرا عن حبها واعتزازها بمصر. أبو سنة: صوت مرهف وعقل نقدی بارز وقال الشاعر المصری محمد إبراهیم أبو سنة أن رحیل الشاعرة العراقیة الكبیرة یعد خسارة كبیرة للشعر العربی المعاصر، إذ أنها واحدة من ثلاثة رواد بادروا إلى اقتحام ساحة الحداثة الشعریة، أما الآخران فهما بدر شاكر السیاب وعبد الوهاب البیاتی، وبهذا رحل الثالوث الرائد الذی غیر وجه القصیدة فی القرن العشرین.
ویضیف أبو سنة، أن نازك الملائكة كانت صوتا مرهفا وعقلا نقدیا بارزا، امتلكت ناصیة الثقافة العربیة العمیقة، وكذلك استقت من مشارب الثقافة الغربیة، خاصة الإنجلیزیة والأمیركیة. ویتابع أبو سنة أن اتصال الشاعرة الراحلة بحركة التجدید مع زملائها السیاب والبیاتی لم یمنع بروز صوتها الأنثوی الخاص، الذی اتسم بهذه الرقة الفیاضة فی اللغة والصورة الشعریة النضیرة، والعمق فی الإحساس بالأشیاء، وهی خصائص تمیز المرأة وتمیز نازك الملائكة على وجه التحدید.

وقال أبو سنة أن الشاعرة العراقیة أبدعت تسعة دواوین، وكانت قصیدتها الأولى بعنوان «الكولیرا» كتبتها فی عام 1947، وعبرت فیها عن اهتمامها بالقضایا الاجتماعیة والقومیة بعد انتشار وباء الكولیرا فی مصر ذلك العام، حیث بوحی من ضمیرها الوطنی هذا الحادث الاجتماعی لتكتب هذه القصیدة الرائدة.

ویضیف أبو سنة أن البعض رأى فی نازك الملائكة شاعرة تقف على الأعراف بین حدود الكلاسیكیة والرومانتیكیة والواقعیة، فهی لم تبحر بعیدا فی میدان الحداثة، واستطاعت أن تكبح جماح ثورتها الحداثیة نحو إطار متوازن ومعتدل لا یقطع الصلة بین التراث وحركة الحداثة. ویرى أبو سنة أن نازك الملائكة قد تعجلت فی محاولة وضع قواعد لقصیدة التفعیلة قبل أن تنضج هذه القصیدة، غیر أن نازك ـ بحسب أبو سنة ـ كانت حریصة على القصیدة العربیة، وكانت تخشى من انزلاق حركة الحداثة إلى نوع من الفوضى فبادرت بوضع قوانین وتنبؤات، ویضیف أبو سنة أن تحذیر نازك الملائكة للشعراء من التورط فی حداثة تمیل إلى التجریب والتغریب كان تحذیرا فی محله، لأن القصیدة انتقلت بعد ذلك إلى مرحلة التفریط والإفراط، وتمیزت بالفوضى وصارت أطلال أشباح لنماذج مترجمة من الشعر الأجنبی.

- إیمان بكری: تركناها فی عزلتها من جانبها قالت الشاعرة المصریة إیمان بكری إن نازك الملائكة كانت واحدة من أبرز الأصوات النسائیة الإبداعیة التی فرضت نفسها ووجودها وكان لها الفضل فی ترسیخ حركة التجدید فی الشعر العربی، كما تمیزت بالشجاعة فی طرح مشروعها الأدبی وسط كوكبة من عمالقة الشعر العربی الحدیث، وهذا فی حد ذاته انتصار للصوت النسوی فی حركة الشعر الجدیدة. وقالت إیمان بكری إن موت نازك الملائكة مأساة حقیقیة، واستطردت قائلة إن الموت أمر مقدر على كل إنسان، لكن موت شاعرة العراق على هذا النحو هو المأساة ذاتها، إذ أنها عاشت كل تلك السنوات بیننا، لكن لم یحاول واحد إجراء حوار معها یغوص فی مكنونات امرأة مبدعة كنا نرید الاستدفاء بوجودها بجوارنا. وتضیف بكری أننا أهدرنا فرصة كبیرة للولوج إلى عوالم نازك الملائكة، حتى أن كثیرین من الشعراء العرب والمنسوبین إلى الثقافة كانوا یعتقدون أنها رحلت منذ زمن بعید. مشیرة إلى أنه من الخطأ ترك أی مبدع یقع فی حالة الكآبة والعزلة، ولا بد من الالتفاف حوله ومساعدته فی استعادة حیاته الأدبیة. وتضیف بكری أن شعر الراحلة تمیز باستحداث الكلمات والتغییر فی القالب الشعری، والتحدی وكسر التقلید الذی كان قد بدأ یأكل فی الشعر العربی. كما تمیز بالرقة والعذوبة والصدق فی التعبیر وخلق أجواء جدیدة، غامضة فی بعض الأحیان لكنها تشعل الوجدان وتحفز العقل.
كتاب سعودیون : نازك الملائكة مثلت تحولا شعریا مكتملا

اعتبر الأدباء والنقاد السعودیون رحیل الشاعرة العراقیة نازك الملائكة، حدثاً بالغ الأهمیة، وذلك لأهمیة موقعها فی الخریطة الشعریة العربیة الحدیثة، فالشاعرة تعد من أوائل الشعراء الذین كتبوا القصیدة العربیة الحدیثة، فی ما یعد كثیر من النقاد قصیدتها «الكولیرا»، التی نشرتها فی عام 1947، الشرارة الأولى، للشعر العربی الحدیث، التی فتحت باباً واسعاً للتجدید فی الشعر العربی

- الملا: الملائكة كانت تعی دورها یقول الشاعر أحمد الملا، مدیر نادی المنطقة الشرقیة الأدبی: «وفاة الشاعرة العراقیة نازك الملائكة، لها دلالتان: الأولى تاریخیة والثانیة حدثیة، فالتاریخی فی وفاة نازك الملائكة، لا یشك أحد فی دور الشاعرة، فی المسیرة الشعریة العربیة الحدیثة، حیث أن الشاعرة أسست لحركة التجدید الشعری العربی المعاصر، لكن ذلك لا یعنی الریادة، لأن من یطلق الشرارة الأولى لیس بالضرورة أن یكون الرائد فی هذا المجال، ومن یستحق لقب رائد هو من رسخ المبادئ بشكل أكبر، ولذلك هناك خلافات كثیرة حول مكتشف التجربة الشعریة الحدیثة، لكن لا أحد یشك فی أن الملائكة والشاعر بدر شاكر السیاب لهما دور كبیر فی ذلك.

والموقف الآن لا یبحث فی هذا المجال، بقدر ما یبحث فی أهمیة نازك الملائكة ودورها فی التیار الذی عمل على مسألة التجدید الشعری والفكری العربی فی هذا المجال، خاصة أن دورها لم یقتصر على كتابة الشعر فقط، وإنما بحثت فی الجانب النقدی فی هذه التجربة، من خلال كتابها الرائع والمهم «قضایا الشعر العربی المعاصر»، وهذا یعطی دلالة أنها كانت تمارس دورها عن وعی ولیست صدى لتجارب أخرى.

ویضیف الملا: «أما فی الشق الثانی، وهو الحدث (الوفاة) فمن الأسف أن تجد أحد المبدعین ینتهی بهذا الشكل وبدون أی تقدیر، وفی مكان مجهول، بینما المتوقع أن یكون له اهتمام فی حیاته وما بعد مماته. للأسف اننا فی العالم العربی والعالم الثالث عموماً نتذكر مبدعینا ونكرمهم بعد رحیلهم، ویكون حدیثنا عنهم بشكل تطهیری وبشكل یوحی برفع اللائمة عن أنفسنا تجاههم، بینما فی المجتمعات التی تحترم قدراتها وتحترم مبدعیها، تحتفی بهم فی حیاتهم وبعد مماتهم، فقبل موت الشاعرة كانت هناك مطالبات عدیدة برعایة الشاعرة والاهتمام بصحتها، لكن لم یكن هناك التجاوب المأمول مع وضع الشاعرة من قبل المؤسسات المختلفة فی الوطن العربی، وهذا ینسحب على كثیر من المبدعین، الذین یكونون فی أمس الحاجة إلى الرعایة والاهتمام، لكن ذلك لا یأتی إلا بعد فوات الأوان، وما نتمناه فی كل حدث مثل هذا أن یتم الاهتمام بالمبدعین قبل وأثناء معاناتهم، ولیس بعد رحیلهم».

- الزهرانی: موتها انسحاب للشعر من المشهد العبثی الدكتور معجب الزهرانی استاذ الأدب العربی بجامعة الملك سعود، بالریاض، والناقد الأدبی یقول: «تمثل نازك الملائكة، لحظة تحول مهمة جداً فی الشعریة وكذلك سیاق الشعریة العربیة الحدیثة، وهی بقدر ما القی الضوء حولها، ستظل هناك نقاط ملتبسة فی هذا اللحظة التحولیة المثیرة للأسئلة، فقبلها حاول بعض الشعراء المهجریین، احداث نوع من أنواع الثورة فی لغة القصیدة العربیة وفی موضوعاتها وفی أشكالها، ولكن أن تأتی نازك الملائكة وتشخص هذا التحول فی قصائدها، وكذلك السیاب، فهذا ما یثیر الأسئلة، وفی اعتقادی أنه ما زالت هناك حاجة ماسة للبحث فی لحظة التحول هذه، رغم ما كتب عنها من دراسات نقدیة». ویضیف الزهرانی: «الذی یثیر اهتمامی الشخصی عندما أدرس الأدب العربی الحدیث أو حینما أكتب موضوعا حوله، أن الموروث الشعری المكتنز فی الذاكرة العراقیة، سواء الفردیة أو الجماعیة أو المكانیة، إلى الآن لم یبحث بشكل معمق، ونحن بحاجة إلى بحوث تغامر فی هذا الاتجاه تماماً، كأن نقول إن ذاكرة السرد النثری عریقة فی مصر، أو ذاكرة الشعر التقلیدی بنوعیة الفصیح والشعبی عریقة فی الجزیرة العربیة، هناك ذاكرة شعریة ثریة ومتنوعة فی بلاد وادی الرافدین، واعتقد أننا بحاجة إلى دراسات معمقة فی هذا المجال، ویجب أن تستصحب هذه الدراسات دراسات الفكر الفلسفی والأنثربولوجی الحدیث، كشرط أساسی، إذ لا تكفی الدراسات النقدیة والبلاغیة المعتادة، وهذا من شأنه أن یلقی ضوءاً جدیداً على هذا التحول، الذی وجد ناضجاً ومكتملا على ید نازك الملائكة وبدر شاكر السیاب، ولا یكفی أن نقول إنهما تأثرا بالشعر الأنجلیزی، أو بفلان من الشعراء، هذا المقولات تریح الذهن من عناء البحث، لكن هناك حاجة إلى بحوث معمقة فی المناطق المجهولة.

ویبین الزهرانی، نازك الملائكة ربما تكون هی من دشن هذا التحول، وأعطى له مشروعیة التسمیة، لكنها لم تكن وحدها التی مثلت التحول فی المستوى الجمالی، ربما یكون السیاب مثل هذا الجانب بعمق وبجدیة أكثر من الملائكة، لكن المصاحبة النقدیة التی حاولت من خلالها الملائكة أن تتبعها فی كتابتها المبكرة عن قصیدة التفعیلة، والشعر الحر، أیضاً مثیرة للتساؤل والاهتمام، لأنها محاولة جدیة لوضع وتقنین جمالیات هذه الظاهرة واستكشاف قوانینها، وربما نقطة ضعف نازك الملائكة أنها كانت مثل الحصان الذی یركض فی فضاء الشعر، حیث كانت تركض باللغة إلى الأمام، لكنها عندما كانت تنظر تعود إلى الخلف، حیث كانت تستخدم الكثیر من مفاهیم العروض التقلیدیة، وبالتالی كانت هناك مفارقة بین تنظیراتها ونصها الشعری، وهذا ما تنبهت له فی كتاباتها المتأخرة نوعاً ما، لكنها تظل لحظة رمزیة باهرة، ویلح أننا فی أمس الحاجة إلى المزید من البحوث للإلقاء الضوء على هذه اللحظة.

ویرى الدكتور معجب الزهرانی، أن موت الشاعرة له دلالة تتسع لتشمل فضاءات مشرقیة كثیرة، كأنما انسحابها هو موت سلمی، موت سعید، كما یقول البیر كامو فی أحد كتبه، یقابل هذا الموت العنیف هذا الموت العبثی، الذی یكاد یفقدنا حس التعاطف معه لأن هناك من یمارسه بمنظور المقدس الوطنی أو المقدس القومی أو المقدس الدینی، وبالتالی هو موت عبثی یأخذ شكل الجریمة، بینما نازك الملائكة تلك الشاعرة المرهفة الرائدة ماتت بسلم وسلام، وكأنما هی تنسحب من مشهد لم یعد صالحاً للشعر.

* شعراء لبنانیون : ستبقى منارة مشعة > أحب من نازك الملائكة وجهها الأول، الوجه الشجاع والمغامر، من خلال «عاشقة اللیل»، والمقدمة القویة للدیوان، ومن خلال خروجها على النمطیة الكلاسیكیة فی الشعر وتحطیم القیود فی مجتمع محافظ جداً، كالعالم العربی والعراق. امتازت نازك الملائكة فی تلك المرحلة الأولى بشجاعة ورؤیا، وبنبض إنسانی وألم عال جداً، ثم اكملت الشعریة برؤیا نقدیة من خلال كتابها عن القصیدة الحرة. وهو اول كتاب نقدی جریء عن معنى القصیدة الحرة، ومغامرة الشعر العربی المعاصر. بهذا الكتاب سبقت الجمیع، لكنها بعد ذلك انتكست، وسیطر علیها الطابع العراقی المحافظ، وربما النجفی، فتراجعت عن مغامراتها التحدیثیة وعادت إلى الصراط المستقیم، والكلاسیكیة، لتنتج قصائد، إذا ما قیست بالحداثة، فهی لا شیء، وإذا ما قیست بالكلاسیكیة فمستواها متدن. وهنا دخلت نازك الملائكة فی سجن من ظلمة الذات والسجن الاجتماعی حتى الموت. فی البدایات، تقدمت نازك الملائكة على عبد الوهاب البیاتی وبدر شاكر السیاب وبلند الحیدری، كانت أكثر جرأة منهم جمیعا ومبادرة، وأكثر تقدماً من فدوى طوقان، وسلمى الخضراء الجیوسی، لكن الحداثة تحلیق دائم، وهی لم تفعل وإنما طوت جناحیها ونامت، فنامت عنها عیون الشعر.

- الشاعر محمد علی شمس الدین: أحب منها وجهها الأول قبل ثلاثة أعوام، وقعت على نسخة عتیقة من أحد دواوین نازك الملائكة، موقع بخطها، وبقلم أسود سیّال، مهدى إلى الصحافی والمخرج فاروق البقیلی. سحرنی اسمها على الدیوان، واصفرار ورقه، وخطها الجمیل، كالجزء الثانی من اسمها.

عدت إلى البیت لم أنم لیلتها، وانا أقرأ شعراً رومانسیاً لسیدة دخلت أسطورة الأدب الحدیث، كأول من كسر العمود الشعری، قبل ان تتوارى، مفضلة الحیاة ربما على الكتابة، والسكینة او الوحدة أو الألم الصامت على مشقة الإبداع الشعری. «كأس حلیب مثلج ترف»، أظنه مطلع بیت للملائكة فی وصف القمر، حفظته من الكتاب المدرسی، وكنت كلما قرأت بیتاً فی دیوانها المسحور، تلك اللیلة، استعید حالاتی الشخصیة على مقاعد الدراسة، كما تأملت قاموسها الشعری، ولعبتها الماكرة من غیر تصنع، المتعمقة دونما استغراق فی غموض اللاوعی وتموجاته. لا أخفی انی قرأتها، برغبة من یحاول اكتشاف تاریخ أدبی للتحول الخارق الذی طرأ على القصیدة العربیة فی أربعینات القرن الماضی، عبر ما عرف بقصیدة التفعیلة والشعر الحر، قبل ان یتحقق الاختراق الأعظم والأرحب عبر قصیدة النثر، بآفاقها وامتداداتها اللامتناهیة. على ان هذا لا یعنی أن شعر الملائكة تركنی محایداً، لجهة الجمال والصور التی رسمت فی نفسی دوائر من الغیم، واقواس قزح لطیفة، وتلك السیولة القمریة التی تجری فی حبرها كنهر أو ساقیة سماویة. هذا العشق (الملائكی) لا یتسرب إلیه شر إلا شر الألم واللوعة من العشق، رجلاً كان أم وجوداً أم ذاتاً، مألومة بالأسئلة، شعریة كانت أو فكریة.

- الشاعر جوزیف عیساوی: قرأتها كمن یحاول اكتشاف تاریخ أدبی > بغیابها تنطفئ منارة شعّت منذ نصف قرن، بجدیدها فی الشعر، قاله البعض تجدیداً، ورأى البعض الآخر فیه ثورة على التقلید. غیر أننی أجد فی نازك الملائكة أصالة كلاسیكیة نتعلم منها كیف یكون التجدید من داخل الأصول، ولیس طفرة هجینة من خارج كل منطق وكل إرث. نازك الملائكة ستبقى فی شعرنا العربی ضوءاً لا ینطفئ، لأن المنارة تبقى مشعة، ولو انطفأ نورها، لأن البحارة یعرفون مكانها غیباً وإلیها یلجأوون. الشاعر هنری زغیب: منارة ولو انطفأت * شعراء لبنانیون : ستبقى منارة مشعة

- أحب من نازك الملائكة وجهها الأول، الوجه الشجاع والمغامر، من خلال «عاشقة اللیل»، والمقدمة القویة للدیوان، ومن خلال خروجها على النمطیة الكلاسیكیة فی الشعر وتحطیم القیود فی مجتمع محافظ جداً، كالعالم العربی والعراق. امتازت نازك الملائكة فی تلك المرحلة الأولى بشجاعة ورؤیا، وبنبض إنسانی وألم عال جداً، ثم اكملت الشعریة برؤیا نقدیة من خلال كتابها عن القصیدة الحرة. وهو اول كتاب نقدی جریء عن معنى القصیدة الحرة، ومغامرة الشعر العربی المعاصر. بهذا الكتاب سبقت الجمیع، لكنها بعد ذلك انتكست، وسیطر علیها الطابع العراقی المحافظ، وربما النجفی، فتراجعت عن مغامراتها التحدیثیة وعادت إلى الصراط المستقیم، والكلاسیكیة، لتنتج قصائد، إذا ما قیست بالحداثة، فهی لا شیء، وإذا ما قیست بالكلاسیكیة فمستواها متدن. وهنا دخلت نازك الملائكة فی سجن من ظلمة الذات والسجن الاجتماعی حتى الموت. فی البدایات، تقدمت نازك الملائكة على عبد الوهاب البیاتی وبدر شاكر السیاب وبلند الحیدری، كانت أكثر جرأة منهم جمیعا ومبادرة، وأكثر تقدماً من فدوى طوقان، وسلمى الخضراء الجیوسی، لكن الحداثة تحلیق دائم، وهی لم تفعل وإنما طوت جناحیها ونامت، فنامت عنها عیون الشعر.

- الشاعر محمد علی شمس الدین: أحب منها وجهها الأول > قبل ثلاثة أعوام، وقعت على نسخة عتیقة من أحد دواوین نازك الملائكة، موقع بخطها، وبقلم أسود سیّال، مهدى إلى الصحافی والمخرج فاروق البقیلی. سحرنی اسمها على الدیوان، واصفرار ورقه، وخطها الجمیل، كالجزء الثانی من اسمها.

عدت إلى البیت لم أنم لیلتها، وانا أقرأ شعراً رومانسیاً لسیدة دخلت أسطورة الأدب الحدیث، كأول من كسر العمود الشعری، قبل ان تتوارى، مفضلة الحیاة ربما على الكتابة، والسكینة او الوحدة أو الألم الصامت على مشقة
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:15|
التصـــوف و الأدب




یعد التصوف من أهم المباحث الأساسیة التی یدرسها الفكر الإسلامی إلى جانب علم الكلام والفلسفة والفكر العربی المعاصر. وقد قطع التصوف الإسلامی أشواطا كثیرة فی تطوره إلى أن تحول إلى طرق وزوایا ورباطات دینیة للسالكین والمریدین یقودهم شیخ أو قطب. وقد قامت هذه الطرق والزوایا بأدوار إیجابیة تتمثل فی خدمة الناس والفقراء والمحتاجین على مستوى الاجتماعی، والدعوة إلى الجهاد على المستوى السیاسی، بید أن هناك من الزوایا الطرقیة التی كان لها دور سلبی یتمثل فی مهادنة الاستعمار والتحالف معه ضد السیادة الوطنیة ومصلحة الشعب. هذا، وللتصوف علاقة وطیدة بالأدب نثرا وشعرا، إذ استعان المتصوفة بالشعر للتعبیر عن مجاهداتهم وشطحاتهم العرفانیة، كما استعانوا بالنثر لتقدیم قبساتهم النورانیة وتجاربهم العرفانیة الباطنیة. إذاً، ما هی علاقة التصوف بالأدب بصفة عامة والشعر بصفة خاصة؟

1- مفهـــوم التصوف:

من یتأمل الاشتقاقات اللغویة لكلمة التصوف، فإنه سیجد أن الكلمة تدل على عدة معان كالدلالة على الصفاء والصفو؛ لأن هم المتصوف هو تزكیة النفس وتطهیرها وتصفیتها من أدران الجسد وشوائب المادة والحس، وقد تشیر الكلمة إلى أهل الصفة الذین كانوا یسكنون صفة المسجد النبوی، ویعیشون على الكفاف والتقشف وشظف العیش، ویزهدون فی الحیاة الدنیا. وهناك من یربط التصوف بلباس الصوف ؛ لأن المتصوفة كانوا یلبسون ثیابا مصنوعة من الصوف الخشن، فی حین ذهب البیرونی إلى أن التصوف مشتق من كلمة صوفیا الیونانیة، والتی هی بمعنى الحكمة. وعلى الرغم من تعدد معانی كلمة التصوف، فإن الدلالة الأمیل إلى المنطق والصواب هی اشتقاقها من الصوف الذی یشكل علامة تمیز العارف وتفرد الزاهد عن باقی الناس داخل المجتمع العربی الإسلامی، وقد یكون هذا تأثرا بالرهبان النصارى أو تأثرا بأحبار الیهود.

ویقصد بالتصوف فی الاصطلاح تلك التجربة الروحانیة الوجدانیة التی یعیشها السالك المسافر إلى ملكوت الحضرة الإلهیة و الذات الربانیة من أجل اللقاء بها وصالا وعشقا، ویمكن تعریفه كذلك بأنه تحلیة وتخلیة وتجل، ویمكن القول أیضا بأن التصوف هو محبة الله والفناء فیه والاتحاد به كشفا وتجلیا من أجل الانتشاء بالأنوار الربانیة والتمتع بالحضرة القدسیة.

ویلاحظ أن لكل متصوف تعریفا خاصا للتصوف حسب التجربة الصوفیة التی یخوضها فی حضرة الذات المعشوقة. وإذا كان الفلاسفة یعتمدون على العقل والمنطق للوصول إلى الحقیقة، وعلماء الكلام یعتمدون على الجدل ، والفقهاء یستندون إلى الظاهر النصی، فإن المتصوفة یتكئون فی معرفتهم على القلب والحدس الوجدانی والعرفان اللدنی متجاوزین بذلك الحس والعقل نحو الباطن. لذا یعتبر التأویل من أهم الآلیات الإجرائیة لفهم الخطاب الدینی والصوفی على حد سواء.

ویقوم التصوف الإسلامی على موضوعات بارزة تغنی عوالمه النظریة والعملیة ، وهذه المواضیع هی: المجاهدات والغیبیات والكرامات والشطحات. أی ینبنی التصوف على مجموعة من المقامات والأحوال والمراقی الروحانیة عبر مجاهدة النفس ومحاسبتها ، والإیمان بالصفات الربانیة ومحاولة استكشافها روحانیا ووجدانیا، ورصد الكرامات الخارقة التی قد تصدر عن العارف السالك أو المرید المسافر أو الشیخ القطب، فتبرز العوالم الفانطاستیكیة، وتنكشف الأسرار الكونیة ومفاتیح الغیب أمام العبد العاشق الذی انصهر فی حب معشوقه النورانی . وتتحول الممارسات والأقوال والعبارات العرفانیة عند بعض الصوفیة إلى شطحات لا أساس لها من الصحة والواقع، وتكون اقرب من عالم التخریف والأسطورة والأحلام.

ویستعیر التصوف مصطلحاته من عدة معاجم كالمعجم الفلسفی والمعجم الأدبی والمعجم النحوی والمعجم الصرفی والمعجم الكیمیائی، والمعجم الفقهی، والمعجم الأصولی، والمعجم القرآنی، والمعجم النبوی….

2- مراحل التصوف:

یمكن تقسیم أطوار التصوف إلى عدة مراحل أساسیة یمكن إجمالها فی المراحل التالیة:

أ‌- مرحلة الزهـــد:

انطلق التصوف الإسلامی مع مجموعة من الزهاد والأتقیاء الورعین الذین كانوا یعتكفون فی المساجد، یقضون حیاتهم فی عبادة الله وتنفیذ أوامره واجتناب نواهیه . وكان أهل الصفة فی عهد الدعوة الإسلامیة من الزهاد الذی ارتضوا حیاة التقشف والفقر وسبیل الفاقة؛ لأن الدنیا زائلة بینما الآخرة باقیة. وكان الرسول ( صلعم) نموذجا حقیقیا للزهد والورع والتقوى ، إذ لم ینسق مع مغریات الحیاة الدنیا، بل كان یكبح نفسه من أجل نیل رضى الآخرة. ولقد سار الصحابة رضوان الله علیهم على نفس الطریق الذی سار فیه النبی المقتدى ، فآثروا حیاة النسك والزهد والتقشف والورع من أجل نیل مرضاة الله وجنته العلیا.

ب- مرحلة التصوف السنی:

لم یظهر التصوف السنی إلا بعد مرحلة الزهد والتقشف فی الدنیا واختیار حیاة الورع والتقوى والإخلاص فی الاعتكاف والإكثار من الخلوة و التخلی عن الدنیا واستشراف الآخرة. وسمی بالتصوف السنی ؛ لأنه كان مبنیا على الشریعة الإسلامیة وأحكام الشرع الربانی، أی إن الصوفیة كانوا یوفقون بین الباطن والظاهر أو یؤالفون بین الشریعة النصیة والباطن العرفانی. وبتعبیر آخر، كان المتصوفة السنیون یستندون إلى الكتاب أولا، فالسنة النبویة ثانیا مع الابتعاد عما یغضب الله و تمثل أوامره والابتعاد عن الحرام وارتكاب الذنوب والمعاصی والارتماء فی أحضان الذات المعشوقة. ومن أهم المتصوفة السنیین نذكر: الحسن البصری الذی عرف بالخوف الصوفی، والمحاسبی الذی أوجد أصول التصوف والمجاهدة، والقشیری المعروف بالرسالة القشیریة، والغزالی صاحب كتاب " منقذ الضلال" والذی یعد من السباقین إلى التوفیق بین الظاهر والباطن على ضوء الشریعة الإسلامیة، ورابعة العدویة المعروفة بالمحبة الإلهیة، والجنید ، وأبو نصر السراج، وابن المبارك ، ومالك بن دینار، وعبد القادر الجیلانی، وأحمد البدوی، وأحمد الرفاعی، وابن عبدك….

ج- مرحلة التصوف الفلسفی:

انتعش التصوف الفلسفی إبان العصر العباسی فی منتصف القرن الثالث الهجری مع انتشار الفكر الفلسفی، والاحتكاك بثقافات الشعوب المجاورة ، وترجمة الفكر الیونانی من قبل علماء بیت الحكمة الذی بناه المأمون فی بغداد لنقل تراث الفكر الهیلینی وفكر المدرسة الإسكندریة إلى اللغة العربیة. وبطبیعة الحال، سیتأثر التصوف الإسلامی بالمؤثرات الخارجیة والمؤثرات الداخلیة على حد سواء كما نجد ذلك واضحا لدى الحلاج صاحب نظریة الحلول، والبسطامی صاحب نظریة الفناء، وابن عربی صاحب فكرة وحدة الوجود، ناهیك عن شطحات غریبة فی تصوف ابن الفارض والشریف الرضی وجلال الدین الرومی ونور الدین العطار والشبلی وذی النون المصری والسهروردی. هذه النظریات الصوفیة هی التی ستدفع المستشرقین لربط التصوف بالمعتقدات المسیحیة والیهودیة والعقیدة البوذیة والنرڤانا الهندیة والتصوف الفارسی.

3- الأدب الصوفی:

أ‌- الشعر الصوفی القدیم:

یمكن تقسیم الأدب الصوفی إلى ثلاثة أطوار: الطور الأول یبدأ من ظهور الإسلام وینتهی فی أواسط القرن الثانی للهجرة؛ " وكل ما بین أیدینا منه طائفة كبیرة من الحكم والمواعظ الدینیة والأخلاق تحث على كثیر من الفضائل، وتدعو إلى التسلیم بأحكام الله ومقادیره، وإلى الزهد والتقشف وكثرة العبادة والورع، وعلى العموم تصور لنا عقیدة هذا العصر من البساطة والحیرة.

والطور الثانی یبدأ من أواسط القرن الثانی الهجری إلى القرن الرابع. وهنا یبدو ظهور آثار التلقیح بین الجنس العربی والأجناس الأخرى، وفیه یظهر اتساع أفق التفكیر اللاهوتی، وتبدأ العقائد تستقر فی النفوس على أثر نمو علم الكلام. وفیه یظهر عنصر جدید من الفلسفة. والأدب الصوفی فی طوریه الأول والثانی أغلبه نثر، وإن ظهر الشعر قلیلا فی طوره الثانی. وفی الطور الثانی هذا یبدأ تكون الاصطلاحات الصوفیة والشطحات.

أما الطور الثالث فیستمر حتى نهایة القرن السابع وأواسط القرن الثامن، وهو العصر الذهبی فی الأدب الصوفی، غنی فی شعره، غنی فی فلسفته، شعره من أغنى ضروب الشعر وأرقاها، وهو سلس واضح وإن غمض أحیانا." [1]

هذا، وقد تطور الأدب الصوفی نثرا وشعرا، وبلغ الشعر الصوفی ذروته مع ابن العربی وابن الفارض فی الشعر العربی، وجلال الدین الرومی فی الشعر الفارسی. ولم یظهر الشعر الصوفی إلا بعد شعر الزهد والوعظ الذی اشتهر فیه كثیرا أبو العتاهیة ، و قد ظهر الشعر الصوفی كذلك بعد شعر المدیح النبوی وانتشار التنسك والورع والتقوى بین صفوف العلماء والأدباء والفقهاء والمحدثین كإبراهیم بن أدهم، وسفیان الثوری، وداود الطائی، ورابعة العدویة، والفضیل بن عیاض، وشقیق البلخی، وسفیان بن عیینة، ومعروف الكرخی ،وعمرو بن عبید، والمهتدی. ویعنی هذا أن الشعر الصوفی ظهر فی البدایة عند كبار الزهاد والنساك، ثم" أخذت معالمه تتضح فی النصف الأول من القرن الثالث الهجری. فذو النون (ت245هــ) واضع أسس التصوف، ورأس الفرقة لأن الكل أخذ عنه وانتسب إلیه، وهو أول من فسر إشارات الصوفیة وتكلم فی هذا الطریق.

ولم ینته القرن الثالث الهجری حتى أصبح الشعر الصوفی شعرا متمیزا یحمل بین طیاته منهجا كاملا للتصوف، وأما الذین جاؤوا بعدهم فإنهم تمیزوا بالإفاضة والتفسیر." [2] ویقول الدكتور شوقی ضیف فی هذا السیاق:" ومنذ أواخر القرن الثالث الهجری تلقانا ظاهرة جدیدة فی بیئات الصوفیة، فقد كان السابقون منهم لاینظمون الشعر بل یكتفون بإنشاد ماحفظوه من أشعار المحبین وهم فی أثناء ذلك یتواجدون وجدا لایشبهه وجد، أما منذ أبی الحسین النوری المتوفى سنة 295هـ فإن صوفیین كثیرین ینظمون الشعر معبرین به عن التیاع قلوبهم فی الحب آملین فی الشهود مستعطفین متضرعین، مصورین كیف یستأثر حبهم لربهم بأفئدتهم استئثارا مطلقا، نذكر منهم سحنون أبا الحسین الخواص المتوفى سنة 303، وأبا علی الروذباری المتوفى سنة 322 ، والشبلی دلف بن جحدر المتوفى سنة 334 وجمیعهم من تلامذة الجنید.

وواضح أن العصر العباسی الثانی لم یكد ینتهی حتى تأصلت فی التصوف فكرة المعرفة الإلهیة ومحبة الله كما تأصلت فكرة أن الصوفیة أولیاء الله ،" [3] وقد ترتب عن هذا أن اشتهر كثیر من الصوفیة فی العصر العباسی كالسری السقطی الذی یعد أول من تكلم فی لسان التوحید وحقائق الأحوال ، وهو أیضا أول من تكلم فی المقامات والأحوال قبل ذی النون المصری [4]، وسهل بن عبد الله التستری، والجنید، والحسین بن منصور المشهور باسم الحلاج، والحسن بن بشر، ویحیى بن معاذ، وأبی سعید الخراز، وحمدون القصار النیسابوری، والمحاسبی، وابن العربی ، وابن الفارض، والشریف الرضی، والنفری صاحب كتابی:" المواقف" و" المخاطبات". ومن أصول التصوف عند هؤلاء العارفین: التمسك بكتاب الله تعالى، والاقتداء بسنة رسول الله( ص)، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وأداء الحقوق. [5] ویقول الجنید:" طریقنا مضبوط بالكتاب والسنة، ومن لم یحفظ القرآن ولم یكتب الحدیث ولم یتفقه لا یقتدى به". [6] ومن الشعراء الذین مالوا إلى الكتابة الصوفیة جحظة البرمكی إبان العصر العباسی حیث یظهر تجلده ومحاسبته للنفس ومیله إلى التزهد والتقشف فی الحیاة وارتضاء عیش الفقر والضنك بدلا من الارتماء فی أحضان الدنیا الفانیة:

    إنی رضیت من الرحیق بشراب تمر كالعقیق
    ورضیت من أكل السمیـــــد بأكل مسود الدقیق
    ورضیت من سعة الصحـــــن بمنزل ضنك وضیق

وعرفت رابعة العدویة بكونها شاعرة فلسفة الحب ؛ لأنها حصرت حیاتها فی حب الذات الربانیة والسهر المستمر من أجل استكشافها لقاء ووصالا:

    أحبك حبین: حب الهوى
    وحبا لأنك أهل لذاكـــــــا
    فأما الذی هو حب الهوى
    فشغل بذكرك عمن سواكا
    وأما الذی أنت أهل له
    فكشفك لی الحجب حتى أراكا
    فلا الحمد فی ذا ولا ذاك لی
    ولكن لك الحمد فی ذا وذاكا

واعتبر ذو النون القرآن الكریم محرك القلوب والهمم والوجدان الروحی، و عده السبب لكل تذلل عرفانی یصدر عن المحب العاشق:

    منع القرآن بوعده ووعیده
    مقل العیون بلیلها أن تهجعا
    فهموا عن الملك الكریم كلامه
    فه۫ما تذل له الرقاب وتخضعا

ویشید ذو النون بمحبة الله التی توصل العارف السالك إلى النجاة والفوز برضى الله ووصاله اللدنی:

    من لاذ بالله نجــــا بالله
    وسره مــــرّ قضاء الله
    لله أنفاس جـــــــرت لله
    لاحول لی فیها بغیر الله

ویعظم الجنید حضور الله فی قلبه الذی یعمره بهواه ، ولا یستطیع أن ینساه مادام أن الله هو المستند والمعتمد:

    حاضر فی القلب یعمره
    لســـت أنساه فأذكره
    فهو مولای ومعتمدی
    ونصیبی منـــه أوفره

ویبین الجنید شوقه نحو الذات الإلهیة فی لحظات اللقاء والفراق وتعظیمه للحضرة الربانیة أثناء تواجدها فی قلب العارف المحب:

    وتحققتـــك فی الســــر
    فنــاجـــاك لســــــانی
    فاجتمعــــــنا لمعان
    وافترقـــــنا لمعـــــانی
    إن یكن غیبك التعظـ
    ـیم عن لحظ عیانی

فلقد صیرك الوجد من الأحشــــــاء دانی [7]

ویتبنى الجنید فی بعض الأبیات الشعریة نظریة الفناء فی الذات الربانیة على غرار أبی یزید البسطامی، ویكون الفناء عن طریق تجرد النفس عن رغباتها وقمعها لشهواتها وانمحاء إرادتها والفناء فی الذات الإلهیة كما فی هذا البیت الشعری:

أفنیتنی عن جمیعی
فكیف أرعى المحلا

وقد عمل الجنید على إرساء نظام الطرق الصوفیة وتحدید مسالك العارفین ونظام المریدین فی التصوف الإسلامی. ومن شعراء المحبة الإلهیة وفكرة الفناء الصوفی عبر انمحاء الإرادة البشریة وذوبانها فی الإرادة الربانیة الشاعر الصوفی أبو الحسین سحنون الخواص الذی قال:

    وكان فؤادی خالیا قبل حبكـــم
    وكان بذكر الخلق یلهو ویمزح
    فلما دعا قلبی هواك أجابه
    فلست أراه عن فنائك یــــــبرح
    رمیت ببین منك إن كنت كاذبا
    وإن كنت فی الدنیا بغیرك أفرح
    وإن كل شیء فی البلاد بأسرها
    إذا غبت عن عینی بعینی یملح

ومن الشعراء الذین تغنوا بفكرة الفناء والمحبة الإلهیة الشاعر الصوفی أبو علی الروذباری:

    روحی إلیك بكلها قد أجمعت
    لو أن فیها هلكها ما أقلعت
    تبكی علیك بكلها عن كلها
    حتى یقال من البكاء تقطعت

وتشید میمونة السوداء بالعارفین السالكین الذین یحبون الله ویسلكون فی تجلدهم الروحانی مقامات وأحوالا من أجل الاتحاد بالله ومعانقته والاتصال بجبروته وقدسیته النوارنیة:

    قلوب العارفین لها عیون
    ترى ما لا یراه الناظروما
    وألسنة بسر قد تنــــاجی
    تغیب عن الكــــرام الكاتبینا
    وأجنحة تطیر بغــیر ریش
    إلى ملكــــوت رب العالمینا
    فتسقیها شراب الصدق صرفا
    وتشرب من كؤوس العارفینا

 [8]

ویعد الحلاج من كبار الصوفیة الذین تغنوا بالذات الربانیة ، وقد استطاع أن یبرهن على وجود الله اعتمادا على التجلی النورانی والمحبة الروحانیة التی یعجز عن إدراكها أصحاب الظاهر والحس المادی:

    لم یبق بینی وبین الحق اثنان
    ولا دلیـــل بآیات وبرهان
    هذا وجودی وتصریحی ومعتـقدی
    هذا توحد توحیدی وإیمانی
    هذا تجل بنور الحق نائره
    قد أزهرت فی تلالیها بسلطان
    لایستدل على الباری بصنعته
    وأنتــــم حدث ینبی عن أزمان

ویزور الحلاج حبیبه فی الخلوات ویذكره سرا وجهرا، ویدركه بالقلب الوجدانی فی الحضور والغیاب قربا وبعدا، ویفهم جیدا كلمات الرب من خلال تجلیاته النورانیة وحضرته القدسیة واللدنیة:

    لی حبیب أزور فی الخلوات
    حاضر غائب عن اللحظات
    ماترانی أصغی إلیه بسمع
    كی أعی ما یقول من كلمات
    كلمات من غیر شكل ولا نط
    ــق ولا مثل نغمة الأصوات
    فكأنی مخاطب كنت إیا
    ه على خاطری بذاتی لذاتی
    حاضر غائب قریب بعید
    وهو لم تحوه رسوم الصفات
    هو أدنى من الضمیر على الو
    هم وأخفى من لائح الخطوات

بید أن الحلاج یسقط فی فكرة الحلول والتی تعنی حلول اللاهوت فی الناسوت، وتذكرنا هذه الفكرة الصوفیة بالمعتقد المسیحی الذی یؤكد الطبیعة الثنائیة للمسیح. وقد أودت هذه الفكرة بمتصوفنا إلى الصلب والإعدام حینما خرج إلى الناس وهو یقول: أنا الله أو أنا الحق، وما فی جبتی إلا الله، وفی هذا یقول الحلاج:

    سبحان من أظهر ناسوته
    سر سنا لاهوته الثاقب
    ثم بدا لخلقه ظاهرا
    فی صورة الآكل والشارب
    حتى لقد عاینه خلقه
    كلحظة الحاجب بالحاجب

وفی موقع آخر یؤكد هذه الحلولیة بقوله الشعری:

    مزجت روحك فی روحی كما
    تمزج الخمرة بالماء الزلال
    فإذا مسك شیء مسنی
    فإذا أنت أنا فی كل حال
    ویقول أیضا:
     
    أنا من أهوى، ومن أهوى أنا
    نحن روحان حللنا بدنا
    فإذا أبصرتنی أبصرته
    وإذا أبصرته أبصرتنا

وهذه الشطحات الصوفیة هی التی دفعت المستشرقین إلى ربط التصوف الفلسفی بالمؤثرات الخارجیة بعیدا عن القرآن والسنة، إذ أرجعوا التصوف الإسلامی إلى مصادر خارجیة كالمسیحیة والیهودیة و الفارسیة والبوذیة والأفلاطونیة المحدثة. و من جهة أخرى، یلقى الصوفیة فی مسالكهم الوجدانیة ومقاماتهم أنواعا من البلاء والمحن خاصة أثناء خلوتهم الروحانیة التی تستلزم الصبر والتجلد والفقر والمعاناة والضنى من أجل لقاء الله والاتصال به حضرة وتجربة وانكشافا كما فی هذین البیتین للشاعر العباسی أبی الحسن النوری:

كم حسرة لی وقد غصت مرارتها
جعلت قلبی لها وقفا لبلواك
وحق ما منك یبلینی ویتلفنی
لأبكینك أو أحظى بلقیاك [9]

ویعد ذو النون المصری أول من تحدث عن الأحوال والمقامات الصوفیة إلى جانب السری السقطی، وهو حسب شوقی ضیف:" الأب الحقیقی للتصوف، هو أول من تكلم عن المعرفة الصوفیة فارقا بینها وبین المعرفة العلمیة والفلسفیة التی تقوم على الفكر والمنطق، على حین تقوم المعرفة الصوفیة على القلب والكشف والمشاهدة، فهی معرفة باطنة تقوم على الإدراك الحدسی، ولها أحوال ومقامات" . [10] وإلیكم أبیات ذی النون المصری وهو یناجی ربه روحانیا:

    أموت وما ماتت إلیك صبابتی
    ولا قضیت من صدق حبك أوطاری
    تحمــــــــــل قلبی ما لا أبثه
    وإن طال سقمی فیك أوطال إضراری

أما ابن العربی فیقول بوحدة الوجود الناتجة عن تجاوز ثنائیة الوجود: وجود الله ووجود الكون، فعن طریق امتزاجهما فی بوتقة عرفانیة واحدة تتحقق الوحدة الوجودیة بین العارف والذات الربانیة، كما یؤمن ابن عربی بتعدد الأدیان مادامت تنصب كلها على محبة الله واستجلاء ملكوته روحانیا:

    عقد الخلائق فی الإله عقائدا
    وأنا اعتقدت جمیع مااعتقدوه
    وقال ابن عربی أیضا:
    
    لقد صار قلبی قابلا كل صورة
    فمرعى لغزلان ودیر لرهبان
    وبیت لأوثان وكعبة طائف
    وألواح توراة ومصحف قرآن
    أدین بدین الحب أنى توجهت
    ركائبه فالحب دینی وإیمانی

ومن الشعراء الذین اشتهروا بالكتابة الصوفیة ابن الفارض المصری الذی عاش ما بین القرن السادس والسابع الهجری( 576هـــ- 632هـ )، وتأثر بالتجربة الصوفیة للسهروردی. وكتب عدة قصائد صوفیة من أشهرها تائیته الكبرى وكافیته التی یتغزل فیها بالذات الربانیة مبدیا لواعجه وتشوقه إلى الحضرة الربانیة كاشفا عواطفه الصادقة ولهفته لرؤیة الله :

    ابــــق لی مقلـــة لعلــی یومـــــــا
    قبل مـــوتی أرى بها من رآكا
    أین منی مارمت؟ هیهات بل أیـــ
    ن لعیـــنی باللحــــظ لثم ثراكا
    وبشیری لو جاء منك بعطف
    ووجودی فی قبضتی قلت هاكا
    قد كفى ماجرى دما من جفون
    لی قرحی! فهل جرى ما كـفاكا
    فانا من قلاك فیــــــــك معنى
    قبل أن یعرف الهــــوى یهـــواكا
    بانكساری بذلتی بخضوعی
    بافتقـــــاری بفـــاقـــتی لغنــــــاكا
    لاتكلــــنی إلى قوى جلد خا
    ن ، فإنی أصبحــت من ضعــفاكا
    كنت تجفو وكان لی بعض صبر
    أحسن الله فی اصطباری عزاكا!
    كم صدود عساك ترحم شكوا
    ی، ولو باستماع قولــی عساكا!
    شنّع المرجفون عنك بهجری
    وأشاعـــــوا أنی سلـوت هــــواكا
    ما بأحشائهم عشقت، فأسلو
    عنــــــك یوما. دع یهجر حاشاكا
    كیف أسلو ؟ ومقلتی كلما لا
    ح بریـــــق تلفتت للقـــــــــــــاكا
    كل من فی حماك یهواك لكن
    أننــــــا بكــــــل مـــن فی حماكا

ومن ممیزات الشعر الصوفی القدیم السمو الروحی، واستكناه المعانی النفسیة العمیقة ، والخضوع لإرادة الله القویة، والإكثار من الخیال ، واستعمال الرمزیة والشطحات الصوفیة، والجنوح نحو الإبهام والغموض، والتأرجح بین الظاهر والباطن، والتأثر بالشریعة الإسلامیة كما هو شأن التصوف السنی ، وتمثل المصادر الفلسفیة والعقائد الأجنبیة كما هو حال الشعر الصوفی الفلسفی.

ب‌- الأدب الصوفی الحدیث:
إذا كان الكثیر من المتصوفة هم الذین كتبوا الأشعار الصوفیة فی محبة الله وفنائه فی الشعر العربی القدیم، ففی العصر الحدیث نجد الشعراء هم الذین دبجوا تجارب صوفیة فی قصائد ذاتیة وجدانیة كما فی القصائد الرومانسیة عند عبد الكریم بن ثابت فی مصنفه الشعری :" دیوان الحریة" الذی قدم فیه الشاعر رحلات صوفیة وجدانیة یقوم بها الشاعر السالك المسافر بتعراجه فی السماء ، وهو فی حالة سكر وانتشاء، ولا یعود إلى وعیه إلا مع فترة الصحو ویقظة اللقاء والوصال. ولابد أن نذكر شاعرا رومانسیا آخر أبدع الكثیر من القصائد الصوفیة ألا وهو: الشاعر المصری محمود حسن إسماعیل كما فی دیوانه الشعری:" قاب قوسین" الذی یقول فیه معبرا عن حالة الكشف الصوفی والتجلی الربانی:

    مزقی عن وجهــــك الیانع، أسمال القنــاع
    وارفعی الستـر، بلا خوف على أی متــاع
    زادك النور، وفی دربك ینبـــوع الشعــاع
    فانفذی…فالسر إن سرت على قیــد ذراع
    واصرعی الموج، ولو أقبلت من غیر شراع

. [11]

ت‌- الشعر الصوفی المعاصر:

مع انطلاق الشعر العربی المعاصر أو ما یسمى بشعر التفعیلة منذ منتصف القرن العشرین، بدأ الشعراء یشغلون التراث فی شعرهم على غرار تجربة إلیوت فی دیوانه "أرض الیباب" ، حینما اتكأ على الموروث الأسطوری لنعی الحضارة الغربیة وإعلان إفلاسها. واقتداء بإلیوت، غدا الشعراء العرب المعاصرون یوظفون التراث الأسطوری والتاریخی واستخدام الأقنعة الدینیة والفنیة والأدبیة والصوفیة، وتشغیل الرموز المكانیة والطبیعیة واللغویة من أجل خلق قصیدة الرؤیا والانزیاح التی تتجاوز طرائق الاجترار والامتصاص والاستنساخ فی التعامل مع التراث إلى طریقة الحوار والتناص قصد خلق تعددیة صوتیة تحیل على المعرفة الخلفیة للكاتب ومرجعیاته الثقافیة وسمو حسه الشعری، وجمعه بین المتعة والفائدة فی شعره.

وقلما نجد شاعرا عربیا معاصرا یكتب شعر التفعیلة أو الشعر المنثور بدون أن یوظف التراث أو یشغل الكتابة الصوفیة أو یستلهم الشخصیات الصوفیة أو یستعمل تعابیر المعرفة اللدنیة أو یستحضر مقتبسات المتصوفة والوعاظ أو ینحو منحاهم فی التخییل والتجرید واستعمال الرموز و الاستعانة برشاقة الأسلوب وتلوین النصوص الشعریة بنفحات الدین والعرفان الباطنی. هذا، وإن استعارة" الشخصیات الصوفیة مثلت ظاهرة واضحة فی الشعر المعاصر، وقد اختار شعراؤنا المعاصرون شخصیات عدیدة من أهل التصوف واجهوا بها قارئ قصائدهم، واتخذوا منها قناعا یتحدثون به ومن ورائه عن مشاغلهم ومعاناتهم ومواقفهم. ولیس ذلك فحسب، بل نجد الشاعر المعاصر أحیانا یندمج فی الشخصیة الصوفیة ویحل فیها حلولا صوفیا. ویتحد بأبعادها بفعل تشابه أحواله بأحوالها." [12] ومن الشعراء الذی وظفوا الخطاب الصوفی نذكر: بدر شاكر السیاب و نازك الملائكة وعبد الوهاب البیاتی وأدونیس وصلاح عبد الصبور ومحمد الفیتوری وخلیل حاوی ومحمد عفیفی مطر ومحمد محمد الشهاوی وأحمد الطریبق أحمد ومحمد السرغینی وحسن الأمرانی ومحمد بنعمارة وعبد الكریم الطبال وأحمد بلحاج آیة وارهام ومحمد علی الرباوی وآخرین.

وقد استعار هؤلاء الشعراء مجموعة من الشخصیات الصوفیة كشخصیة النفری عند أدونیس، وشخصیة السهروردی وفرید الدین العطار وجلال الدین الرومی عند عبد الوهاب البیاتی، وشخصیة الحلاج عند صلاح عبد الصبور فی قصیدته الدرامیة" مأساة الحلاج"، وعبد الوهاب البیاتی فی قصیدة بعنوان" عذابات الحلاج"، وأدونیس فی قصیدة تحت عنوان" مرثیة الحلاج"، وشخصیة إبراهیم بن أدهم عند الشاعر التونسی محیی الدین خریف، وشخصیة رابعة العدویة عند نازك الملائكة فی قصیدتها" الهجرة إلى الله".

ویمتاز الشعر الصوفی المعاصر باستعمال التناص بكثرة فضلا عن الاستشهاد بالمستنسخات والمقتبسات والشذرات العرفانیة. كما یشغل الشعراء المعاصرون فی قصائدهم ودواوینهم الشعریة خطاب الانزیاح الصوفی و الرموز الإحالیة والعبارات الموحیة الرشیقة. وهناك من الشعراء من سقط فی خاصیة الإبهام والغموض خاصة الشاعر الحداثی أدونیس الذی حول كتاباته الشعریة إلى طلاسم من الصعب تفكیكها و فهمها وتأویلها . وهناك من أحسن توظیف التناص الصوفی فی سیاقه الشعری الملائم إبداعیا، وهناك من وظف العبارات العرفانیة والمفاهیم الصوفیة دون أن یعیش التجربة أو یستكنهها بشكل جید؛ مما أوقع نصوص الكثیر منهم فی التصنع الزائد والتمحل الشعری.
خاتمــــة:

ویتضح لنا مما سبق ، أن المتصوفة والشعراء على حد سواء استعملوا الكتابة الشعریة للتعبیر عن تجاربهم العرفانیة وأحوالهم الذوقیة ومجاهداتهم النفسیة ومقاماتهم الباطنیة.

هذا، وقد ترابط الشعر مع التصوف منذ مرحلة مبكرة لینتعش الشعر الصوفی مع القرن الثالث من العصر العباسی. وقد سبق هذا الشعر ما یسمى بشعر الزهد وشعر المدیح النبوی اللذین سبقا الشعر الصوفی منذ فترة مبكرة. وقد آثرنا أن یكون موضوعنا منصبا على الشعر الصوفی مرجئین الكتابة النثریة إلى دراسة لاحقة إن شاء الله.
وعلیه، فقد بینا أن الشعر الصوفی عرف عدة أطوار فی القدیم والحدیث، ففی القدیم ارتبط التصوف بشعر الزهد وشعر المتصوفة السنیین، لینتقل بعد ذلك إلى شعر المتصوفة الغلاة أو المتصوفة الفلاسفة. وإذا كان الشعر الصوفی فی القدیم من نظم المتصوفة ، فإن الشعر الصوفی فی العصر الحدیث والمعاصر من نسج الشعراء المبدعین الذین صاغوا قصائد صوفیة فی إطار تجارب كلیة أو جزئیة أو فی شكل استشهادات تناصیة موحیة أو فی شكل مستنسخات تناصیة وظیفیة وغیر وظیفیة.
حواشی

[1] أحمد أمین: ظهر الإسلام، المجلد الثانی، 3-4، دار الكتاب العربی، بیروت، لبنان، ط 1969، ص:173؛

[2] - د. علی جمیل مهنا: الأدب فی ظل الخلافة العباسیة، الطبعة الأولى 1981، مطبعة النجاح الجدیدة ، الدار البیضاء، ص:173؛

[3] - د. شوقی ضیف: العصر العباسی الثانی، دار المعارف بمصر، ط 2 ، ص:113-114؛

[4] د. شوقی ضیف: العصر العباسی الثانی، دار المعارف بمصر، ط 2 ، ص:109؛

[5] أبو عبد الرحمن السلمی: طبقات الصوفیة، طبعة لیدن، 1960م، ص: 141؛

[6] أبو عبد الرحمن السلمی: طبقات الصوفیة، طبعة لیدن، 1960م، ص: 141؛

[7] أبو نصر السراج: اللمع، طبعة دار الكتب الحدیثة 1960م، ص:283؛

[8] انظر النیسابوری: عقلاء المجانین، ترجمة میمونة، طبعة دمشق، سوریا، 1924م؛

[9] أبو عبد الرحمن السلمی: طبقات الصوفیة، طبعة لیدن، 1960م، ص: 153؛

[10] شوقی ضیف: العصر العباسی الثانی، ص:475-476؛

[11] محمود حسن إسماعیل: دیوان قاب قوسین، ط الأولى، 1964م، دار العروبة، القاهرة، ص:10؛

[12] محمد بنعمارة: الأثر الصوفی فی الشعر العربی المعاصر، شركة النشر والتوزیع ، المدارس، الدار البیضاء، ط 1، 2001م، ص: 266؛

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:14|
إبراهیم ناجی




نشأته وحیاته :

ولد إبراهیم ناجی بن أحمد ناجی بن إبراهیم القصبجی إبراهیم ناجی فی حی شبرا بالقاهرة فی الحادی والثلاثین من شهر دیسمبر عام 1898، لأسرة القصبجی المعروفة بتجارة الخیوط المذهبة، عمل والده فی شركة البرق (التلغراف)، وهی شركة إنجلیزیة، یوم كانت مصر تحت الهیمنة البریطانیة، فأجاد اللغة الإنجلیزیة، وتمكن من الفرنسیة والإیطالیة، وكان شغوفاً بالمطالعة، وامتلك فی بیته مكتبة حافلة بأمهات الكتب، فنشأ ابنه إبراهیم على حب المطالعة، وشجعه أبوه على القراءة، وكان یهدی إلیه الكتب، فأتقن العربیة والفرنسیة والإنجلیزیة والألمانیة، وأمه هی السیدة بهیة بنت مصطفى سعودی التی ینتهی نسبها إلى الحسین علیه السلام، وتمت بصلة قربى من جهة الأخوال إلى الشیخ عبدالله الشرقاوی ولما حاز ناجی شهادة الدراسة الثانویة سنة 1917 انتسب إلى كلیة الطب، وتخرج فیها سنة 1923، وافتتح عیادة بمیدان العتبة بالقاهرة، وكان یعامل مرضاه معاملة طیبة، وفی كثیر من الحالات لا یأخذ منهم أجرة، بل یدفع لهم ثمن الدواء، ثم شغل عدة مناصب فی وزارات مختلفة، فقد نقل إلى سوهاج ثم المنیا ثم المنصورة، واستقر فیها من عام 1927 إلى عام 1931، حیث رجع نهائیاً إلى القاهرة، وكان آخر منصب تسلمه هو رئیس القسم الصحی فی وزارة الأوقاف.

حكایته مع جماعة أبوللو: تفتحت موهبة إبراهیم ناجی الشعریة باكراً، فقد نظم الشعر وهو فی الثانیة عشرة من العمر، وشجعه والده علیه، وفتح له خزائن مكتبته، وأهداه دیوان شوقی ثم دیوان حافظ ودیوان الشریف الرضی، ومن شعره فی الصبا قصیدة قالها وهو فی الثالثة عشرة من عمره، عنوانها "على البحر"، وفیها یقول

إنی ذكرتك باكیا

والأفق مغبر الجبین

والشمس تبدو وهی

تغرب شبه دامعة العیون

والبحر مجنون العباب

یهیج ثائره جنونی

اهتم بالثقافة العربیة القدیمة فدرس العروض والقوافی وقرأ دواوین المتنبی وابن الرومی وأبی نواس وغیرهم من فحول الشعر العربی، كما نـهل من الثقافة الغربیة فقرأ قصائد شیلی وبیرون وآخرین من رومانسیی الشعر الغربی.

بدأ حیاته الشعریة حوالی عام 1926 بترجمة بعض أشعار الفرید دی موسییه وتوماس مور شعراً وینشرها فی السیاسة الأسبوعیة ، وانضم إلى جماعة أبوللو عام 1932م حیث الشعراء العرب الذین استطاعوا تغییر صورة القصیدة العربیة لشكل أكثر تحرراً من القواعد الكلاسیكیة ، وكان أیضا یكتب الدراسات النقدیة كدراسته عن الشاعر الفرنسی بودلیر. فی شهر سبتمبر من عام 1932 صدر العدد الأول من مجلة جمعیة أبولو، وكان رئیس تحریرها أحمد زكی أبو شادی، وقد اشترك إبراهیم ناجی مع أحمد زكی أبو شادی فی إصدار المجلة، وفی العدد الثانی من المجلة تم الإعلان عن تأسیس جمعیة أبوللو الشعریة وفی 10 أكتوبر من نفس العام اجتمع لفیف من الأدباء فی كرمة ابن هانئ، وفیهم إبراهیم ناجی، وانتخب أحمد شوقی رئیساً للجمعیة، ولكنه توفی بعد أربعة أیام، فخلفه نائبه مطران خلیل مطران، وكان إبراهیم ناجی من الأعضاء المؤسسین، وبعد أقل من عام جرت انتخابات جدیدة فی 22 سبتمبر عام 1933 وانتخب مطران رئیساً وأحمد محرم وإبراهیم ناجی وكیلین وأحمد زكی أبو شادی سكرتیراً.

هدفت هذه الجماعة إلى البعد عن الأغراض التقلیدیة للشعر والاتجاه للذاتیة أی تعبیر الشاعر عن مكنوناته بصورة اكثر عمقا كذلك الابتعاد عن أدب المناسبات والتحرر من الصنعة والتكلف، وعلى صفحات المجلة نشر إبراهیم ناجی معظم ما كتب من شعر وما ترجم، وكان من أشهر ما ترجمه قصیدة "البحیرة" للشاعر الفرنسی لامارتین وقصیدة "أغنیة الریح الغربیة" للشاعر الإنجلیزی الرومنتیكی شیلی، وقد صدر من المجلة خمسة وعشرون عدداً من سبتمبر1932 إلى دیسمبر1934، ثم توقفت عن الصدور. اشتهر ناجی بشعره الوجدانی ورأس رابطة الأدباء فی مصر فی الأربعینیات من القرن العشرین وعرف عنه تأثره بالشاعر مطران خلیل مطران وأحمد شوقی.

وبعد صدور دیوانه الأول سافر فی شهر یونیو مع أخیه إلى تولوز فی فرنسا، لیساعد أخیه على الانتساب إلى إحدى الكلیات هناك، ومنها سافر إلى لندن لحضور مؤتمر طبی، وفی لندن قرأ النقد الحاد الذی كتبه طه حسین عن دیوانه الأول، كما قرأ هجوم العقاد علیه، فشعر بخیبة كبیرة، وبینما كان یجتاز أحد الشوارع، صدمته سیارة، فنقل إلى مستشفى سان جورج، ولبث فیه مدة، فقد دخل رأس عظمة الساق فی فتحة الحوض فهشمته، وكان یعانی بالإضافة إلى ذلك من داء السكری، ورجع إلى مصر یائسا من الشعر والأصدقاء، وأخذ یكتب قصائد الهجاء فی هذا وذاك، بل أخذ یترجم ویكتب القصص، فكتب قصة "مدینة الأحلام"، تحدث فیها عن حبه الطفولی الأول، ونشرها مع قصص أخرى مؤلفة ومترجمة فی كتاب یحمل العنوان نفسه، قال فی مقدمته: "وداعاً أیها الشعر، وداعاً أیها الفن، وداعاً أیها الفكر". ثم نقل الشاعر إلى وزارة الأوقاف، حیث عیّن رئیس القسم الطبی، فاطمأنت نفسه، لما وجد فیها من تقدیر وتكریم، وقد عاصر ثلاثة وزراء كانوا یقدرون الشعر والشاعر، وهم عبد الهادی الجندی وإبراهیم الدسوقی أباظة وعبد الحمید عبد الحق وفی هذه المرحلة أخذ یمدح كل من له ید العون وكان من أبرز من مدحهم إبراهیم الدسوقی أباظة وزیر الأوقاف، وقد جمع كل ما قاله فی مدحه من شعر تحت عنوان: "الإبراهیمیات" وضمنه دیوانه الثانی "لیالی القاهرة" لكنه أخرج من وظیفته عام 1952، ولم یكن یدخر شیئا فعاش فی ضنك وتنكر له أقرب الناس إلیه، بمن فیهم زوجته، وأخذ ینغمس فی السهر، وفی هذه المرحلة تعرف إلى الممثلة زازا وأحبها ، ونظم فیها قصیدة مطولة باسمها مصوراً إیاها بالربیع الذی حل على خریف حیاته كان ناجی یهمل صحته، ولا یأخذ العلاج، وقد ألح علیه داء السكری، إلى أن وافاه الأجل فی 25 مارس 1953 عن عمر ناهز الخامسة والخمسین، ودفن إلى جوار جده لأمه الشیخ عبد الله الشرقاوی، فی مسجده بجوار الحسین صدرت عن الشاعر إبراهیم ناجی بعد رحیله عدة دراسات مهمة، منها: إبراهیم ناجی للشاعر صالح جودت ، وناجی للدكتورة نعمات أحمد فؤاد ، كما كتبت عنه العدید من الرسائل العلمیة بالجامعات المصریة . الألم والفراق فی شعر ناجی :

مما سبق فإن ناجی مر بظروف صعبة فی حیاته وتخلى عنه الأقارب والأحباب فی أحیان كثیرة.. ولكن كانت أول تجربة تعمق نظرته البائسة للحیاة هی محبته أیام الدراسة الثانویة لفتاة كانت زمیلته وتعلقه بها حتى أنها حینما تزوجت بغیره تهدمت مشاعره وكتب أكثر قصائده شهرة عن نظرته لهذه التجربة مصوراً أن ما بقی من الشاعر مجرد أطلال لروحه ولكنه عاد فی نهایة القصیدة یستسلم للقدر ، وحملت القصیدة عنوان "الأطلال" وتقع فی أكثر من مائة وثلاثین بیتاً فی شكل مقاطع، یتألف كل مقطع من أربعة أبیات، أكثر المقاطع منظومة على الرمل، وقد غنت أم كلثوم مقاطع منها مع بعض التعدیل فی الألفاظ وضم مقاطع من قصیدة أخرى عنوانها "الوداع". یا فؤادی لا تسل أین الهوى كان صرحاً من خیال فهوى وكان یشعر دوما بنوع من الفراق عن الأحباب وكتب یقول : سألتك یا صخرة الملتقى متى یجمع الدهر ما فرقا إذا نشر الغرب أثوابه وأطلق فی النفس ما أطلقا أریك مشیب الفؤاد الشهید والشیب ما كلل المفرقا وبحسب الناقد أحمد زیاد المحبك " یعبر إبراهیم ناجی فی معظم شعره عن نزوع فردی رومانسی حزین، فشعره ذاتی، یكاد یكون خالصاً للحب والوجدان، بل للقهر والحرمان، فهو یعبر عن حب محروم، ویصدر عن رؤیة متشائمة، ونظرة حزینة، وروح مكتئبة". فی قصیدته أنوار المدینة یقول ضحكت لعینی المصابیح التی تعلو رؤوس النیل كالتیجان ورأیت أنوار المدینة بعدما طال المسیر وكلت القدمان وحسبت أن طاب القرار لمتعب فی ظل تحنان وركن آمان فإذا المدینة كالضباب تبخرت وتكشفت لی عن كذوب امانی قدر جرى لم یجر فی الحسبان لا أنت ظالمة ولا انا جانی أما عضو الهیئة العلمیة بجامعة الإمام صادق الإیرانیة رقیة رستم بور فتعلق على التشاؤم فی شعر ناجی بقولها: "عاش الشاعر فی القرن العشرین وظل متشائما بكل مظاهر الحیاة فهو یتشاءم بالدنیا وما فیها وبالحب والهوى حینا آخر ومرجع ذلك یبدو إلى أن الشاعر الرومانسی یجد سعادته فی ظلال الحب باعتباره عاطفة یمكنها أن تضم الكون بأسره ولذا فهو دائما أبدا حزینا یبحث عن عالم المثل الذی ینشده" . نستمع له حزینا یقول: إنی امرؤ عشت زما نی حائرا معذبا أمشی بمصباحی وحی داً فی الریاح متعب أمشی به وزیته كاد به ان ینضبا عشت زمانی لا أرى لخافقی متقلبا غیر أنه وجد للشاعر العدید من الأبیات المتفائلة نوعاً بالطبیعة على وجه الخصوص مثل قصیدته الربیع والتی یخاطبه فیها بقوله: مرحى ومرحى یا ربیع العام أشرق فدتك مشارق الأیام بعد الشتاء وبعد طول عبوسه أرنا بشاشة ثغرك البسام وابعث لنا أرج النسیم معطراً متخطراً كخواطر الأحلام وغیرها قصیدة لإبنیه عماد وأمیرة: یا ابنتی إنی لأشعر أنی ملأت مهجتی شموس منیرة أشرقت فرحتان عندی فهذی لعماد وهذه لأمیرة أنتما فرقدان ، وهو جدید بالذی ناله وأنت جدیرة اغنما كل ما یطیب وفوزا بالمسرات والأمانی الوفیرة وافرحا بالذی یطیب ویرجى عیشة نضرة وعین قریرة الإنتاج الشعری وهجوم طه حسین والعقاد :

كان أوّل ما صدر لإبراهیم ناجی هو دیوان (وراء الغمام) الذی نشرته له جماعة أبولو عام 1934، ویغلب علیه الحزن والتعبیر عن الحب المحروم، ویضم بعض القصائد المترجمة، وقُوبل هذا الدیوان بهجومٍ قاسٍ من النقّاد, ولاسیّما طه حسین وعباس العقاد، فقد نقده طه حسین نقداً مرّاً فی كتابه "حدیث الأربعاء" واصفاً شعره بأنّه ذو جناحٍ ضعیفٍ لا یقدر على التحلیق وفضل علیه الشاعر علی محمود طه الذی وصفه بأنه مهیأ لیكون جبّاراً فی فنّه، أمّا العقاد فكان أكثر حدّة وعُنْفاً, فوصف شعر ناجی بالتصنع والمرض بل لم یكتف بهذا الوصف فاتّهم ناجی بسرقة شعر ولعلّ هذا النقد القاسی الذی تعرّض له ناجی والذی كاد بسببه أن یهجر الشعر كان سبباً رئیسیاً فی قلّة الدواوین الشعریّة التی أصدرها فی حیاته, إذ لم یصدرْ له سوى دیوانٌ واحد بعد ذلك وهو دیوان "لیالی القاهرة" الذی صدر عام 1943، ویقصد بلیالی القاهرة لیالی الحرب العالمیة الثانیة، التی نشبت أواخر عام 1939 وهو یعبر فیها عن كراهیته للحرب التی حرمته من سهر اللیالی ونشرت له دار المعارف بعد وفاته دیوانه الثالث: (الطائر الجریح) عام 1957، وفی سنة 1960 أصدرت وزارة الثقافة المصریّة "دیوان ناجی" وهو دیوان "شامل" ضمّ دواوین ناجی الثلاثة بالإضافة إلى بعض القصائد المتناثرة التی لم تَرِد فی أیٍّ من الدواوین السابقة. وقد قام بجمعه كلٌّ من الدكتور أحمد هیكل ، أستاذ الأدب العربی بكلیة دار العلوم وقتها، والشاعرین; أحمد رامی وصالح جودت بالإضافة إلى شقیق الشاعر, محمد ناجی. ثم أصدرت دار العودة فی بیروت عام 1986 دیوان إبراهیم ناجی، وقد ضم دواوینه الثلاثة، وبرغم الإنتاج الشعری القلیل للشاعر مقارنة بمعاصریه، إلا أنه لم یكتف بالشعر فقط، فقد كانت له نشاطات فی الترجمة، حیث قام ناجی بترجمة بعض الأشعار عن الفرنسیة لبودلیر تحت عنوان (أزهار الشر)، وترجم عن الإنجلیزیة روایة (الجریمة والعقاب) لدیستوفسكی، وعن الإیطالیة روایة (الموت فی إجازة)، كما نشر دراسة عن شكسبیر، وقام بإصدار مجلة حكیم البیت ، وألّف بعض الكتب الأدبیة مثل مدینة الأحلام وعالم الأسرة وغیرهما. لقد كان ناجی دائما محل انتقاد من آراء تعیب علیه قلة روح الإیمان والاعتماد على الله للعیش مطمئن النفس بدلاً من الشعور بالملل من الحیاة والأحیاء، وقد تمیز الشاعر فی رأی البعض بالنزعة الروحیة الأشبه بالصوفیة وتبرز فی كثیر من التعبیرات التی استخدمها مثل (جعلت النسیم زادا لروحی)(أسكر نفسی)(صحا القلب منها). أما الشاعر نفسه فقد هجا كثیراً أولئك الذین یكلفون القراء الاطلاع على أشعارهم الضعیفة ممن یصفهم بعدم الموهبة ویقول فی قصیدة له مخاطبا شاعر من ذاك النوع: أیها الحی وما ضر الورى لو كنت متا أو شعر ذاك لا بل حجر ینحت نحتا تلقم الناس وترمیهم به فوقا وتحتا ناجی متهم بضعف الوطنیة عاب الكثیر من النقاد على ابراهیم ناجی أنه كان منصب تركیزه على الشعر العاطفی الرومانسی وقصائد الهجر هی أغلب ما تركه للأجیال ، غیر أن هناك رأی آخر یرى أن الشاعر من جهة لم تجمع كل قصائده فإنتاجه الحقیقی أكبر من الدواوین القلیلة المجمعة ولم یكن یهتم بحفظ شعره الذی ألقاه فی العدید من المناسبات والدلیل على هذا كشف الأستاذ حسن توفیق للعدید من القصائد المجهولة للشاعر بإصدار الأعمال الشعریة الكاملة ، ومن جهة أخرى فهناك العدید من القصائد التی تبرهن على حبه لأمته العربیة ، ومن الفریق الأول الدكتور والأدیب محمد مندور بقوله "قد أوشك معظم شعره أن یصبح قصیدة غرام متصلةٍ وإن تعدّدت أحداثها وتنوّعت أنغامها"، ومن الفریق الثانی الدكتور طه وادی الذی رأى بأن قصیدة "لیالی القاهرة" نوعٍ الغَزِل العجیب لحبٍّ آخر وحبیبةٍ أخرى, وأنّه غزلٌ فی حبّ مصر, وحسرةٌ على ما أُصیبتْ به من عدم القدرة على قهر أعدائها، كذا الأستاذ الناقد مصطفى یعقوب عبد النبی والذی برر الأمر بكثرة القصائد المجهولة لناجی. ومنها قصیدة بعنوان "المجد الحی" ضمن كتاب "أدب العروبة" الذی أصدرته جماعة أدباء العروبة وهی جماعة أدبیة ترأسها الوزیر الأدیب إبراهیم الدسوقی أباظة ومنها یا أمّة نبتتْ فیها البطولاتُ لا مصر هانت ولا الأبطال ماتوا ویدل أیضا على ذلك قصیدته المنشورة ضمن "المجلّة الطبیة المصریة" عام 1937 ضمن رصد وقائع المؤتمر الطبّی التاسع الذی حضره عددٌ من الوفود الطبیّة العربیّة ومنهم إبراهیم ناجی قال فیها: یا شاعرَ الوادی وغرّید الرّبى قُلْ للضیوفِ تحیّةً وسلاما مصرالعریقُ وفادُها حفَظْتُ لكُم َهْداً على طُول المَدى وزِمَاما لستُمْ بها غُرَباءَ, أَنْتُمْ أَهْلُها أَنّى حَللَتُم تَنّزِلُون كِراما

ومنها أیضا: الشّرْقُ مَهْدٌ للنبوغِ ومَوْلدٌ للمجْدِ فیه رَبَا وشَبّ غُلاما زَكَت النبوّة فی حِمَاهُ ورعْرعتْ وتألّقت كالفرقدیّنِ نِظَاما مُوسى الذی شَقّ العُبابَ وفجّر الصخّر العنیدَ سواكباً تترامى عیسى الذی فدّى الوجودَ وعلم الغفّران والإحسانَ والإكراما ومحمّدٌ یَكْفیكَ أنّ محمّداَ بیّن البریّةِ أَوْجَدَ الإسلاما هذا هو الشّرْقُ العظیم لم یَزَلْ نوراً لمن رَام الهدى وإماما ومن قصیدة بعنوان مصر یفتتحها بقوله: أجل إن ذا یوم لمن یفتدی مصرا فمصر هی المحراب والجنة الكبرى أجل عن ماء النیل قد مر طعمه تناوشه الفتاك لم یدعو شبرا فهلا وقفتم دونها تمنحوها أكفاً كماء المزن تمطر خیرا سلاما شباب النیل فی كل موقف على الدهر یجنی المجد أو یجلب الفخرا تعالوا فقد حانت أمور عظیمة فلا كان منا غافل یصم العصرا شباب نزلنا حومة المجد كلنا ومن یغتدی للنصر ینتزع النصرا أعلام الأدب العربی فی شعر ناجی : أحب الشاعر إبراهیم ناجی الكثیر من الرفقاء من أعلام الأدب العربی ومنهم الأدیب السوری الراحل سامی الكیالی والذی قال فیه یا أیها الضیف العزیز نعمت بالعیش الحسن صدر الشام حنا علیك ومصر لو تدری أحن قمنا لها كل بنا حیة رسول مؤتمن والأرز الطود المعصب بالجلال المطمئن یا مؤنس المصری فی حلب وما ننسى المنن وفی رثاء الشاعر مطران خلیل مطران قال یا نفس إن راح الخلیل وعنده ورد الخلیل فعجلی برحیلی هو مصرع للعبقریة روعت فی عرشها والتاج والإكلیل أما فی الشاعر أحمد شوقی فرثاه یقول قل للذین بكوا على شوقی النادبین مصارع الشهب وا لهفتاه لمصر والشرق ولدولة الأشعار والأدب هذا طریق قد ألفناه نمشی وراء مشیع غال كم من حبیب قد بكیناه لم یمح من خلد ولا بال وفی الأستاذ إبراهیم دسوقی أباظة إذا أخذ البدر المنیر مكانه وملك آفاق السما وتمكنا فذلك تكریم الربیع لروضه جلاها الأباظیون ورافة الجنى وأنت الذی فك القیود جمیعها عن الشعر تأبى أن یهان فیسجنا قالوا عنه :

لقبه الشعراء من أبناء جیله بشاعر الأطلال نسبة للملحمة الكبیرة المعنونة بهذا العنوان. الدكتورة نعمات أحمد فؤاد: "كان ناجی سریع الانفعال كثیر الأوهام قلق الظنون طاغی الحس رفاف النفس هفاف المشاعر، وكلها عوامل تظهر أثرها فی صاحبها فی كل ما یصدر عنه" . الأمیر عبد الله الفیصل: " یعد ناجی من ابرز الشعراء الذین أقرأ لهم واحبهم " .

الناقد مصطفى یعقوب عبد النبی " على الرغم من أنّ جماعة "أبوللّو" والتی تعدّ من أبرز الظواهر الأدبیة فی تاریخ الأدب العربی المعاصر, قد ضمّت عشرات الأسماء من الشعراء العرب, إلاّ أن إبراهیم ناجی یقف فی مقدّمة تلك الأسماء

الناقد الشهیر مصطفى عبد اللطیف السحرتی:" كان ناجی ظاهرةً شعریّةً فریدةً, بهرت بیئتنا الأدبیة فی مطلع الثّلْث الثانی من هذا القرن, شاعریّةً مجدّدةً نفرت من القوالب القدیمة; شاعریّة غنائیّة وجدانیّة مبدعة" .

الدكتور محمد مندور فی معرض تعلیقه على قصیدة ناجی الشهیرة "العودة" حیث یقول: "هذه القصیدة التی أَحسبها من روائع النّغم فی الشّعر العربیّ الحدیث, على الرغم من كونها تندرج تحت فن عربیّ قدیم, وهو فن بكاء الدیار. ومع ذلك امتازت بالجدة والجمال

الدكتور شوقی ضیف الرئیس السابق لمجمع اللغة العربیة : " كلّ شعر ناجی رومانسیٌّ خالًصٌ, وأخرج الشعر من باب الرؤیةِ والخیال إلى باب الحقیقة والتجربة الواقعة".
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:13|
الوصف أساس النظم فی الأدب الأندلسی



الملخص

ان الاندلس متعددة الاوصاف فی شبه جزیرة مترامیة الاطراف ومتعددة المناخات من سواحل البحر الابیض المتوسط حتی الاقیانوس الاطلسی، وهذا یعنی بان الادب الاندلسی ملون بالوان الطبیعة، و قدابدع فی وادیه شعراء کثیرون.

فشبه جزیرة ایبریا تتآلف من عناصر جبلیة وسهلیة وتشغل الهضبة الکبری حیزاً واسعاً، ففیها من السهول والجبال والشلالات المتفاوتة وثلوج کثیرة من غرناطة حتی سفوحة، فالوصف فی أدب الأندلس من الأمور الأساسیة فی شعر الشعراء، من بدایة القرن الثانی حتی التاسع المیلادی.

الکلمات الدلیلیة : الشعراء – الأندلس – الوصف – المدن – البحار ، والأنهار.

المقدمة

إن الأندلس بلاد غزیرة عند العرب، والمسلمین و هی جنة الغرب، لأن فیها حضارة غنیة، ورفیعة، و قد نشأت فی مدنها، و ربوعها فکانت حضارة المسلمین کالکواکب اللامعة المضیئة فی سماء امتلأت بالظلمة، فکانت أوروبا تلک السماء المظلمة حیث یحترق فیها الفلاسفة، و المفکرون.

فمن الذین کانوا یعیشون فی الاندلس و هم فلاسفه کابن رشد و ابن باجه و ابن طفیل ، کان بجانبهم اطباء و ریاضیون و فلکیون و مهندسون خلقوا منهاجنة للفکر و واحةً للعقل و کان الی جانب هولاء المفکرین فنانون و ادباء و شعراء و لغویون ، قدملاوا رحابها سحراً و غردوا اناشید الحیاة . لقداسست المکتبات الخاصه للشباب تزود بالکتب العربیة و اخذ کل منهم یلتحق فی منتدیات الادب و یدخل الجامعات العربیة، حتی اصبحت اللغة العربیة هی لغة الثقاقة ، و اضطر أکثر الأساتذة فی تلک الدیار یلقون محاضراتهم باللغة العربیة.

لقد وصف الشعراء الأندلسیون العرب تلک البلاد وصفاً نستنبط منها أنها کانت أهلاً لذلک، لأن الأندلس علی مدی ثمانیة قرون أصبحت مرکزاً حضاریاً لامعاً، ومنارة علمیة و ثقافیة وأدبیة.

لما کانت الأندلس بلاد الطبیعة الساحرة، والمناظر الخلابة و الأزهار و الورود و النوار و الریاحین و الجداول و الغدران و الافیاء و الاغصان .لقد کان من الطبیعی ان یحفل شعراوها بوصف هذه الطبیعة الخلابه متمثلین فیها کل المعانی ، و لذلک ترکوا فیها تراثاً فی وصف الروضیات و ما یلحق بها و لایوجد عند امة اخری من تلک التی مارست الأدب الرفیع.

فالمسعودی یصف تلک البلاد بقوله فی مروج الذهب : (والعنبر کثیر بارض الاندلس یجهز الی مصر و غیرها و یحمل الی قرطبه من ساحل لهایقال له شنترین و شذونه وتبلغ الاوقیه منه بالاندلس ثلاثة مثاقیل ذهباً

و قال الشیخ أحمد بن محمدبن موسی الرازی: (بلد الأندلس هو آخر الإقلیم الرابع إلی المغرب و هو عند الحکماء بلد کریم البقعة ، طیب الشربه،کثیر الأنهار الغزیرة و العیون العذبة. (المسعودی،مروج الذهب ج1 ،162) و کما قیل حول غرناطة وصف الشعراء الاف البیت من أشعارهم فی وصف الأندلس لکل مدینة قصائد خاصة ذی بحور متنوعة منها:

    غرناطة مالها نظیر
    ما مصر؟ ما الشام؟ ما العراق
    ما هی الا العروس تجلی
    وتلک من جملة الصداق

 [1]

و لقد فتنت جمال تلک البلاد شعراءها و استهوتهم،فابدعوافی وصفها وغنوا بجمالها و حنوا الیها کما یقول ابن خفاجه فی وصف الاندلس:

    یا اهل اندلس لله درکم
    ماء و ظل و انهار و اشجار
    ما جنة الخلد الا فی دیارکم
    ولو تخیرت ،هذا کنت اختار
    لا تختشوا ،بعدذا،ان تدخلوا سقراً
    فلیس تدخل ،بعدالجنة النار

 [2]

فالوصف له معان متنوعة و هو احد اغراض الشعر من العصر الجاهلی حتی العصر الحدیث و استوضح فی المعجم بهذا المعنی:(استو صفت الطبیب لدائی ،اذا سالته ان یصف لی ما اعالج به،و و صف الشی ای حلاه و اصل الوصف الکشف و الاظهار کماقال ابن الرومی:

اذا وصفت ما فوق مجری و شاحها

غلائلها ردت شهادتها الازر

    (ابن الرومی،دیوان،ج3،ص448)

یقول شوقی ضیف حول القصیدة الجاهلیه: ما اشبه القصیده عندهم بفضائهم الواسع الذی یضم اشیاء متباعده لاتتلاصق، فهذا الفضاء الرحب الطلیق هو الذی املی علیهم صورة قصیدتهم ( شوقی ضیف، الادب الجاهلی،68) فلذلک اخذ الشعراء فی العصر الجاهلی یصفون الحیاة الصامتة و الحیة مع ان وصف الریاض لم یکن بینهم شیئاً متداولا لان اراضیهم کانت خالیه عن ذلک خلافاً للاندلس فلذلک یقول المرقش الاکبر:

    هل تعرف الدارعفا رسمها
    الا الاثافی و مبنی الخیم
    امست خلاءً بعد سکانها
    مغفرة ماان بها من ارم

 [3]

ولکن الوصف فی الادب العباسی یتزاید شیئا فشیئاً و اخذت الریاض تکثر فی ارض العراق و نری ابن الرومی یصف ،ریاضاً کثیرة ویصف ناعورة جمیله تدور بالمیاه:

    وناعورة شبهتها حین البست
    من الشمس ثوباً فوق اثوابها الخضر
    بطاووس بستان یدور و ینجلی
    و ینفض عن اریاشه بلل القطر

 [4]

و من الشعراء الوصافین للادب الاندلسی ابن حمدیس یصف التماثیل السود و هی تقذف المیاه من افواهها بقوله وصفاً رائعا:

    وضراغم سکنت عرین ریاسة
    ترکت خریر الماء فیه زئیرا
    و تخالها والشمس تجلولونها
    ناراً والسنها اللواحس نورا
    فکانما سلت سیوف جداول
    ذابت بلانارٍ فعدن غدیرا

 [5]

و هذا شاعر آخر متذوق بالشعر اللطیف و هو ابوبکر محمدبن سیرین السسبتی و کان یعیش فی غرناطه و یحیها ، فلما نزل بها الثلج،ضاق بها بعض اصدقانه و انشد ابوبکر ابیاتاً رقیقه موشیةً بالتوریة و الجناس و حسن التعلیل دون غلو و مبالغة قائلاً: [6]

    رعی الله من غرناطه متبوءاً
    یسر حزیناً اویجیر طریداً
    تبرم منها صاحبی عند مارای
    مسارحا بالثلج عدن جلیدا
    هی الثغر صان الله من اهلت به
    و ماخیرثغر لایکون برودا

فی وصف الازهار:

هناک شعراء آخرون خصصوا شعرهم بوصف الازهار منها شقائق النعمان و النیلوفر والنرجس و الورد و وصفوما وصفوا فیها حتی احسن وصفهم فالشقائق لونها احمر القانی وقد عمد الشعراء الی الاکثار من الاضفاء علیها شکل الحروب و هو ابوالفضل العیاض یصف الشقیق بقوله:

غیر بعید عن بیت الخالدی

انظر الی الزرع و خاماته

کتائباً تحفل مهزومه

شقائق النعمان فیها جراح  [7]

و هذا ابن الزقاق له ابیات فی الشقیق من ارق ماقاله الاندلسیون حول هذه الزهرة البهیجه و ان کان قد اقام علیها حد السرقه علی حسب التعبیر الفقهی حسین جعلها مذنبه فی نظر الغمام سارقةً حمرة الخدود:

    و ریاض من الشقائق اضحی
    یتهادی بها نسیم الریاح
    زرتها و الغمام یجلد منها
    زهرات تروق لون الراح
    قلت ماذنبها؟فقال مجیباً
    سرقت حمرة الخدود الملاح [8]

والمعتمد بن عباد یصف النیلوفر باحسن وجه بقوله: [9]

    یا ناظرین ندی النیلوفر البهیج
    و طیب مخبره فی الفوح والارج
    کانه جام در فی تالقه
    قد احکموا وسطه فصاً من التسبیح

و هناک ابی زمرک یصف الورد و القرتفل توصیفاً جمیلاً لیس له مثیل بقوله:

اتونی بنوار یروق نضارةً کخد الذی اهوی و طیب تنفسه و ما ابصرت عینی کزهرقرنفل حکی خد من یسبی الفواد و عرفه اقر بعینی ان اری الزهر یانعاً و قد نازع المحبوب فی الحسن وصفه  [10]

اما ابن خفاجة و هو شاعر القرن الخامس فی الاندلس وعرف بشاعر الوصف فی عصر ملوک الطوائف یصف الورود والریاض باجمل شکل ممکن بقوله:

    فیابرد ذاک الماء هل منک قطرة
    فها انا استسقی غمامک صادیا
    وقف حیث سال النهر ینساب ارقما
    وهب نسیم الایک ینفث راقیا
     
    ویصف من جهة اخری مدینه بلنسیة کانها بنت کاعب و البستها ورود بقوله:
    
    کان بلنسیة کاعب
    وملبسها السندس الاخضر
    اذا جئتها سترت وجهها
    با کمامها، فهی لاتظهر
    وفی ابیات اخری قائلاً:
    
    بلنسیة جنة عالیة
    ظلال القطوف بهادانیة
    عیون الرحیق مع السلبی
    ل و عین الحیاة بهاجاریة
     [11]

و أرجو فی الختام ان اکون قدوضحت بعض النقاط للوصف وسوف أبین فی المستقبل القادم وصفاً خاصاً فی مقال آخر والسلام علی من اتبع الهدی.
المصادر والمراجع

   1. الإحاطه فی أخبار غرناطه / لسان الدین الخطیب / تحقیق محمد عبدلله – مکتبة الخانچی / 1977 م
   2. ازهار الریاض فی اخبار عیاض / المقری التلمسانی / اللجنة المشترکه / الامارات/ 1987 م
   3. البیان المغرب فی اخبار اندلس و المغرب / ابن عذاری المراکشی / دار الکتاب العربی لبیا / 1973 م
   4. تاریخ ابن خلدون / منشورات الکتاب اللبنانی / بیروت / 1968 م
   5. دیوان ابن حمدیس الصقلی / تحقیق احسان عباس / دار صادر بیروت / د ت.
   6. دیوان ابن خفاجه /تحقیق عمرفاروق الطباع / دارالقلم / 1988 م
   7. دیوان ابن رومی / تحقیق حسین نصار / دارالکتاب / القاهرة / 1973 م
   8. دیوان ابن دراج / تحقیق محمود مکی / المکتب الاسلامی / دمشق / 1989 م
   9. دیوان ابن الزقاق / تحقیق عفیقه دیوانی / دارالتقافة / بیروت 1989 م
  10. الشعر و الشعراء / ابن قتیبه / دار التقافة / بیروت 1980 م
  11. فلائد العقیان / فتح بن خاقان / مطبقة التقدم العلمیه / 1320 ه
  12. ابن زمرک الاندلسی / حیاته و ادبه / صالح عبدالسلام البغدادی / منشورات الجانعه /1988 م
  13. نفح الطیب / المقری التلمسانی / إحسان عباس / دار صادر / 1968 م

حواشی

[1] (نفح الطیب،ج1، 173)

[2] (الخفاجی،دیوان،113)

[3] (المجانی،ج1،229)

[4] (ابن رومی،دیوان،ج3، 449)

[5] (نفح الطیب، ج3، ص32)

[6] (نفح الطیب،ج1، 166)

[7] (نفح الطیب،ج3)

[8] (نفح الطیب،ج4)

[9] (قلائد العقیان،ص275)

[10] (نفح الطیب،ج4، 684)

[11] (ابن خفاجه،دیوان6)
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:12|
رومنطیقیة القلب الحزین قصیدة
الوصف عند خلیل مطران

الأسد الباكی نموذجا



أقحم شعر الوصف فی أدبنا العربی ضمن الشعر الغنائی أو الوجدانی أو الذاتی وهو الشعر الذی یعبر فیه الشاعر عن ذاته أو "أناه " و بلفظ موجز رؤیا الذات أو موقفها من العالم و الوجود بخلاف الشعر الموضوعی أو التمثیلی حیث یعبر فیه الشاعر عن ذات الأمة ، غیر أن شعر الوصف فی أدبنا العربی القدیم ظل وصفا میكانیكیا لا تندغم الذات فیه فی الموضوع أو لا تتصل وشائج القرابة بین الذات الشاعرة و موضوعها ، فیظل الوصف خارجیا ترى فیه أثر كد الذهن فی خلق القرائن أو إدراكها بین المقتبس منه( المشبه به ) والمقتبس له ( المشبه)عن طریق التشبیه الصریح أو الاستعارة وترى التفنن فی ذلك ومحاولة السبق فی ابتكار التشبیهات و الاستعارات ولكن من غیر أن یصیر الشاعر قلب الوجود وروحه فلا یسع العالم حینها إلا أن یكون مظهرا لتلك الذات، ذلك أن الوصف بغیر هذا المعنى یكون أقرب إلى العلم منه إلى الفن لأن میكانیكیته تحید به عن روح الشعر التی هی فی الصمیم رؤیا وذلك لأنك فی الشعر لا تطلب الحقائق الموضوعیة وإنما تطلب كیانا شعریا فی تفاعله مع الوجود ورؤیته له، وذلك الكیان الشعری هو أشبه بالبناء المشمخر الذی تدخله لأول مرة مكتشفا سرادیبه وردهاته وغرفه متذوقا جماله واقعا على فرادته وأنت واثق أنك لم تقع على مثله من قبل على كثرة ما دخلت إلى الدور والقصور وبالمختصر فالشعر هو الرؤیا والفرادة معا لأن الروح الشعریة لا تقبل الاستنساخ والتقلید إعدام لها وتجنی على روح الشعر، وقد غاب هذا المفهوم العمیق للشعر عن أذهان أسلافنا ونقادنا القدامى فانصرفوا إلى النقد الفقهی أو تتبع السرقات الأدبیة واكتشاف مصادرها لولا محاولات من هنا ومن هناك تخرج من تلك الصحراء منقذة أناها ملقیة بها فی إصرار فی مملكة الشعر المعروفة بحدودها المتعالیة على سواها من الممالك ولعل امرأ القیس أفضل الشعراء الذین فروا بجلدهم من صحراء التیه لائذین بمملكة الشعر وترى الوصف عنده لصیقا فی معظم الأحوال بذاته ویغدو الوجود بمظاهره ملونا بلون ذاته وخیر مثال على ذلك هو وصفه للیل:

ولیل كموج البحر أرخى سدوله

علی بــأنواع الــهموم لــــیبتلی

فقــــــلت لـــه لما تمطى بصلبه

وأردف أعـــــجازا وناء بكلكل

ألا أیـــها اللیل الطویل ألا انجل

بصبح وما الإصباح منك بأمثل

فاللیل هنا لیس لیلی ولیلك أو لیل الكائنات الذی تسكن فیه إلى بعضها البعض ولیس بلیل موضوعی نستمتع فیه بجمال النجوم وروعة السكون بل هو لیل خاص ملون بلون الذات الحزینة الخائفة منه والذی ترى فیه غولا یناور ویتهجم محاولا إزهاق روح الشاعر وسكینته وأنت إذا أردت مثلا للوصف الموضوعی أو الذی أسمیناه میكانیكیا فلن تعدمه لأنه الكثرة الطاغیة فی شعر الوصف فی أدبنا القدیم فمنه قول امرئ القیس فی وصف سرعة جواده :

مكر مفر مقبل مدبر معا

كجلمود صخر حطه السیل من عل

أو قول طرفة فی وصفه الطلل :

لخولة أطلال ببرقة ثهمد

تلوح كباقی الوشم فی ظاهر الید

أو كقول الأعشى فی وصف مشیة حبیبته:

كأن مشیتها من بیت جارتها

مر السحابة لاریث ولاعجل

أو كقول المتنبی فی وصف جثث الأعداء:

نثرتهم فوق الأحیدب نثرة

كما نثرت فوق العروس الدراهم

أو كقول أبی تمام فی نفس الغرض :

تسعون ألفا كــــــآساد الشرى

نضجت جلودهم قبل نضج التین والعنب

وتستطیع أن تجد لذلك أمثلة كثیرة فی شعر البارودی وإسماعیل صبری وحافظ وشوقی ولا یتسع المقام للاستطراد فی ضرب الأمثلة. غیر أن الشعر الحدیث وفی تأثره بالشعر الغربی الفرنسی والإنجلیزی خاصة وفی العب من نظریات النقد عند أعلامه فی الغرب تنبه إلى ذلك وأدرك بعض الشعراء أن الشعر فی حقیقته رؤیا وكان هذا أهم مظهر من مظاهر التجدید قبل النظر فی الأوزان والقوافی لاأثر فیه للتقلید أو الاستنساخ ولعل شاعرنا الكبیر خلیل مطران أبرز الشعراء المحدثین الذین أدركوا ذلك ونفذوا ببصیرتهم إلى حقیقة الشعر ولبابه. وخلیل مطران( 1872- 1943) شاعر القطرین العربی الصمیم المنحدر عن الغساسنة ملوك الشام وكان أخر ملك منهم جبلة بن الأیهم الذی أسلم وقد قال الشاعر مشیرا إلى نسبه العریق هذا:

ألا یابنی غسان من ولد یعرب

وأجدادكم أجدادی العظماء

وبقیت بقیة منهم لم تسلم محتفظة بنصرانیتها، ونزحت إلى لبنان بعض العائلات منها كعائلة مطران التی تمذهبت بالأرثوذكسیة فی البدء ثم تكثلكت وأما اللقب الذی لحق بهم فذلك أن أحد أجداد الشاعر كان مطران كنیسه ببعلبك، وقد تعرضت عائلة الشاعر للاضطهاد وإلى مصادرة الأملاك التابعة لهم فی وادی البقاع من قبل الولاة التابعین للباب العالی فی استانبول فنزحت إلى الإسكندریة ثم إلى القاهرة وفیها عاش الشاعر ونبه ذكره مشتغلا بالصحافة فی جریدة " الأهرام" ثم أصدر عام 1900 "المجلة العربیة" وعام 1902 أصدر الجوائب. والشاعر أحد أركان النهضة الشعریة فی العصر الحدیث جمع بین الملكة الشعریة والملكة اللغویة ودقة التصویر والدفق العاطفی والتمكن من الأدب العربی قدیمه وحدیثه إضافة إلى اتقانه اللغتین الفرنسیة والإنجلیزیة ومطالعته للأدبین الفرنسی والإنجلیزی خاصة الرومنطیقی منه كشعر ووردزورث وشلی وجون كیتس وبایرون وألفرید دی موسیه وفرلین ورامبو وهوغو ولامارتین وغیرهم ثم فوق ذلك كله حس إنسانی رفیع ونبالة خلق وصفاء ضمیر واستقامة نفس فلا یذكر غیره إلا بالخیر كما ترفع عن النقد الجارح والقذف والحسد وأخلاقه شهد له بها معاصروه، ویكفی دلیلا على رهافة حسه ووفائه أنه دخل مرة إلى حدیقة فی القاهرة فلقی فتاة فی عمر الزهور أعجب بها وخفق لها فؤاده بمشاعر الوداد فحام حولها حومان النحل حول الزهر من 1897 إلى 1903 غیر أن الفتاة ماتت مصدورة فحزن الشاعر لموتها وصمم على حیاة العزوبیة وكتب فی رثاء الراحلة قصیدة یقول فی مطلعها:

سررت فی العمر مره

وكنت أنت المسره

فقد كان مطران إذا رجل عفة واستقامة عانى من شظف العیش وكدح بشرف مترفعا عن سفاسف الأمور وفی نظراته حزن تكشف عن ألم دفین وحسرة متمكنة من النفس لعلها حسرة الزوال وانفضاض المجالس وبطلان الحیاة وتهافت ملذاتها ورغائبها ثم سلطة القدر وسیفه المسلط على الإنسان إذ لا یمكن الإنسان من نیل رغائبه ولعل موت حبیبته أسوأ مؤشر على ذلك. وفی شعر مطران هدوء وسلاسة فهو غیر شوقی المقتفی أثر الشعراء الكبار كالمتنبی وأبی تمام والبحتری وهو غیر حافظ صاحب المزاج الحاد وقد كانت كلماته المنتقاة موحیة بذلك ، مجلجلة بتأثیر من طفولته المشردة وكهولته التعیسة من غیر زوج وولد وكأنه أراد للناس حیاة غیر حیاته فثار على الخصاصة سلیلة الفقر والطبقیة . أما خلیل مطران فهو كالنهر إذ استوى فی سهل یجری هادئا متمهلا بلا صخب أو ضوضاء متأملا الوجود بنظرة حانیة لا یخفى على المتأمل انكسارها ونفس یغلفها شعور بالأسى ولكنها هادئة لا تثور كالبركان وتقذف بحممها فی شعرها فتحرق القارئ معها . لقد كان الشاعر الإنجلیزی ووردزورث ینصح الشعراء أن یتمهلوا فلا ینبغی أن یمسك الشاعر بقلمه كلما خفق قلبه أو اضطرمت مشاعره، أی أن یكون الشعر استجابة عارضة لمؤثر خارجی بل یجب علیه أن یتأنى ویترك المشاعر تهدأ والزمن یفعل فعله لیذهب الزبد جفاء وما ینفع الناس والفن یبقى وتنجلی الغاشیة عن الأشیاء لأن العاطفة القویة تلفها كالضباب، وهی قویة صاخبة معربدة تلمع كالشهاب فجأة ثم تخبو رویدا رویدا وتنتهی رمادا. وقد سلم مطران من هذه الآفة التی تسئ إلى الشعر فصانه عن أن یكون زبدا أو رمادا. وفی قصیدته" الأسد الباكی" وهی من عیون الشعر الحدیث ولاتعنی الحداثة أن یكون الشعر على نسق شعر التفعیلة والكثیر منه رغاء، إنما الحداثة هی الوعی بالزمن و الإندغام فی العصر فی علاقته الجدلیة بالماضی منفصلا متصلا ومتصلا منفصلا وبإضافة شیء إلى المعمار الإنسانی لا بكلمة تلوكها الألسن وتمجها القلوب الانسانیة الحقة. ولقد كتب الشاعر هذه القصیدة إثر أزمة خانقة عاشها الشاعر وطوحت به ذلك أنه فشل فی مشروع من مشاریع حیاته حیث عمل من عام 1909 إلى عام 1912 بالتجارة وربح وخسر ثم قام بصفقة مضاربة خسر فیها أمواله واعتزل بعین شمس یائسا ولم یعد إلى القاهرة إلا بعد توسل الأحباب والأصحاب. والعنوان ذاته موحی بعمق الأزمة فالأسد على سبیل الاستعارة دال على معانی الرجولة وصفاتها الجوهریة كالقوة الروحیة والشهامة والترفع عن الصغائر وتأتی الصفة لاحقة بالموصوف لتوحی بالعجز تحت وطأة الظروف وقسوة الزمن فیأبى الشاعر أن یریق ماء وجهه ویتزلف وینافق استجلابا للسلامة أو الرفاه ولا یسعفه غیر الدمع أبلغ تعبیر عن عمق الجرح وهو فی حد ذاته لغة قوامها كیمیاء الجسد لا اللفظ السالك مجرى الطعام وسخونته وشفافیته البلوریة هما آیة الصدق مع النفس والعالم ، والحق أن خصیصة الوصف الحلولی هذه لم یكن مطران وحده هو ممثلها فی شعرنا الحدیث فقد تخلص هذا الشعر فی صیغته الحداثیة من آفة الذات والموضوع فهما واحد ولیس العالم إلا حلول الشاعر فیه وتلونه بلونه فهو لیس عالما حیادیا بل مزاجیا وفی وسع علم النفس أن یمدنا بمفاتیح تفتح أبواب الفهم وتنیر حلكات الطریق ولعل الإسقاط خیر ما یسعفنا به هذا العلم من مكتشفاته فی دنیا النفس القریبة البعیدة، ذلك أن عالم اللاوعی وعظمة خطره فی الحیاة الإنسانیة واستعصائه على المراقبة والتحری فهو كالحزب السری ینشط فی الخفاء ویجید المكر والتلاعب ولا یحب العلن لتعوده على حیاة الخفاء فیجئ الوصف أحیانا فیه إشارات من العقل الباطن بل هو كضربات الفرشاة التی تكمل رسم اللوحة وكثیرا ما تكون تلك الضربات حاسمة، وهنا تحدیدا یتجلى معنى التمایه بین الذات والموضوع وهو ما عنیناه بالإندغام، ولا تقف الصورة الشعریة عند هذا الحد فالرؤیا الشعریة تتمرد على الواقع وتخرق المألوف ولا تساوم فی حریتها وشفافیتها واندفاعها نحو الآفاق بقوة عجیبة یضفی علیها الحلم مسحة رومنطقیة أو صوفیة ویزیدها الرمز أحیانا إیحائیة أو ضبابیة تحافظ بها على رونقها، وخیر مثال على هذا الوصف الذی أسمیناه بالحلولی هذا المقطع للسیاب فی وصف مصباح الإضاءة اللیلیة فی دروب المبغى البغدادی:

وكأن مصباحیه من ضجر

كفان مدهما لی العار

كفان بل ثغران قد صبغا

بدم تدفق منه تیار

فإذا كان هذا المقطع یعكس حالة الشبقیة التی كانت تعذب الشاعر حد الفناء ، فإن الوصف هنا تجاوز الحدود المألوفة ففیه حركیة الكفین والثغرین والتشبیه هنا خلاق فهو من قبیل تشبیه الجامد بالحی ثم تأتی دلالة العار وهی دلالة دینیة أخلاقیة فی ذات الوقت موحیة بالإحساس بالذنب وارتكاب المعصیة، غیر أن النزوة الجسدیة والقوة الشهوانیة أقوى وأغلب فتلون الوجود كله بلونها القانی . وأما فی قصیدة خلیل مطران فكثیرا ما نقع على هذا الوصف الذی أسمیناه بالوصف الحلولی حیث یتأنسن الوجود بفعل رؤیة الشاعر التی ترى الوجود حیا فاعلا دینامیكیا بمظاهره لا مجرد أحجام وكتل وأرقام فترى الشاعر یحاوره محاولا الوقوف على خفایاه كاشفا إیاها كقوله:

شاك إلى البحر اضطراب خواطری

فیجیبنی بریاحه الهوجاء

واللمسة الرومنطیقیة واضحة هنا خاصة فی قوله " بریاحه الهوجاء" إلا أن البحر هنا صار یجسد جبروت الطبیعة وقهرها وهو موقف للذات المغلوبة التی صارت ترى الوجود وكأنه تآمر علیها فلتحمل صلیبها إلى ذروة الجلجلة وحیدة فی معاناتها ولو كلفها ذلك حیاتها ! ثم یأتی الوصف متتابعا متلاحقا فالشاعر ود لو أن قلبه كالصخر لا یتألم ولا ینزف وكأنه حسد الصخرة على بلادتها وعدم إحساسها ولو أن السقم والبرحاء نفذا إلى أعماقها فهدت صلادتها وخففت من غلواء الداء وتباریحه على الشاعر . لقد غدت الطبیعة والشاعر هنا واحدا ولم تعد موضوعا وهذا ما یضفی على التشبیهات دینامیكیة ویخرجها عن رتابة التشبیهات الكلاسیكیة:

ثاو على صخر أصم ولیت لی

قلبا كهذی الصخرة الصماء !

ینتـــابها موج كموج مكارهی

ویــــفتها كالسقم فی أعضائی

أما البحر ذاته فعاد إلیه الشاعر لیضفی علیه سمة الإنسان فألحقه بزمرة الیائسین، وأی یأس؟ إنه یأس الشاعر ذاته الذی أسقطه على الوجود فتلون كله بلون أسود ، وكأن مفتاح الرؤیا تجلى فی معنى لفظة " كن أیها الوجود" فكان كما أراده الشاعر وجودا ذاتیا لاحقیقة له إلا فی قرارة نفس الشاعر. ویمكن فهم ذلك كله بالعودة إلى علم النفس حیث تبحث الذات إذا وقعت فی كمین عن نظراء لها أصیبوا بما أصیبت به لتخف الغلواء وهو ما یجسده القول المأثور " إذا عمت خفت" وقد عمت البلوى هنا الوجود كله فالصخرة بلواها فی بلادتها والبحر فی كمده والوجود كله سأمان والأفق معتكر:

والأفق معتكر قریح جفنه

یغضی على الغمرات والأقذاء

ولن تجد فی الشعر العربی قدیمه وحدیثه شاعرا أبدع فی وصف الغروب شأن خلیل مطران وفی الواقع فوصفه استبطان للذات وكشف لخفایاها بترصد عناصر اللوحة الطبیعیة المتجلیة فی غروب الشمس ، ولقد رأى فیه الشاعر عبرة، وأیة عبرة؟ لعلها عبرة الاضمحلال والزوال وقدیما قال الشاعر:

منع البقاء تقلب الشمس

وطلوعها من حیث لا تمسی

وطلوعها حمراء صافیة

وغروبها صفراء كالورس

الیوم أعلم مایجیء به

ومضى بفصل قضائه أمس

غیر أن الشاعر یرى الظلام طمسا للیقین وذهابا بالنور الذی تمثل جنازته ، فالظلام یذكر بالهجوع الأبدی لولا أن الشمس تشرق غدا والحیاة تبدأ دورتها من جدید لكن وحشة الروح وكآبة النفس ظلمة دامسة لن تشرق علیها شمس السرور وحق للشاعر أن یتألم لها:

یاللغروب ومابه من عبرة

للمستهام وعبرة للرائی !

أولیس نزعا للنهار وصرعة

للشمس بین جنازة الأضواء؟

أولیس طمسا للیقین ومبعثا

للشك بین غلا ئل الظلماء؟

أولیس محوا للوجود إلى مدى

وإبادة لمعالم الأشیاء؟

حتى یكون النور تجدیدا لها

ویكون شبه البعث عود ذكاء

ولا غرض للاستفهام هنا إلا الإثبات. أما السحاب فقد تلون بلون الدم والدم فی عرف الرومنطیقیین رمز المعاناة والتباریح فلا بأس أن یشبه به خواطره الحزینة مادام قد رأى الوجود كله بتأثیر من نفسه كئیبا:

وخواطری تبدو تجاه ناظری

كلمى كدامیة السحاب إزائی

وولع الشاعر بالحمرة یمتد حتى إلى الدمعة وقد عهدناها بلوریة شفافة عند الرومنطیقیین ولكنها عند الشاعر غدت حمراء:

والشمس فی شفق یسیل نضاره

فوق العقیق على ذرى سوداء

مرت خلال غما متین تحدرا

وتقطعت كالدمعة الحمراء

وقد خان الشاعر التوفیق هنا فلو أننا سلمنا معه بحمرة الدمعة وقلنا أنها اختلطت بالدم الذی كان الشاعر ینزف به مما به من تباریح ،فأی شئ یقطع الدمعة الحمراء؟ وهو یرید وصف احتجاب جزء من قرص الشمس وراء السحاب الأحمر ولو كان أراد غیر ذلك لكان أجدر به أن یقول "وتنزلت " مثلا إذا برز قرص الشمس ثانیة بعد احتجابه بالغمام. وترى الشاعر فی النهایة أقام مناحة وجودیة وتأبینا كونیا له ، ومادام الشاعر هو قلب الوجود وإذا كان القلب تعیسا حزینا فلن یضخ إلى الوجود إلا الكآبة والیأس، فبكت الطبیعة لبكائه والزمن جسد للشاعر معنى الزوال بهذا المشهد الرومنطیقی الحزین الجامع بین لوعة المعنى ودلالة اللون:

فكأن آخر دمعة للكون قد

مزجت بأدمعی لرثائی

وكأنی آنست یومی زائلا

فرأیت فی المرآة كیف مسائی !

وأما البحر الذی اختاره الشاعر لقصیدته فهو الكامل وهو یتسع بتفعیلاته الست المتكررة "متفاعلن" السباعیة لتضمن المعنى والشجن والدفق العاطفی ویزیده إضمار " متفاعلن" جرسا موسیقیا عذبا تستلذه الأذن ویعلق بالقلب وأما الضرب بإضمارمتفاعلن وحذف النون مع إسكان اللام لتغدو " مستفعل" فهو أعذب ما فی الكامل على كثرة أعاریضه وأضربه وحتى البارودی فی رثائه لزوجته تخیر هذا الضرب. لقد كنا نعد الوصف فی الشعر مهارة ذهنیة ولغویة معا تظهر براعة الشاعر فیه فی تمثل المشبه به وكلما كان فریدا غیر مسبوق وكانت علاقته بالمشبه وطیدة كلما كان الشاعر ذا عبقریة مفلقة فجاء مطران وزاد على هذا بأن أنسن الطبیعة واندغم فیها ووصفها من خلال وجدانه على سبیل التمایه أی أن تغدوا الذات والموضوع واحدا وهو بذلك مدین بلا شك للرومنطیقیة الغربیة التی اغتذى بلبانها وتمثل " الرؤیا" التی نص علیها ولیم بلیك، وقد ساعده على ذلك إضافة إلى الدفق الوجدانی وقوة المخیلة وخصبها امتلاك الأداة أی اللغة التی طوعها لأغراضه البیانیة ولا عجب فمن یزعم أن الغساسنة أجداده لا جرم أنه یمتلك ناصیة اللغة وقد أفلح الشاعر فی ذلك إلى حد بعید وستبقى قصیدته " الأسد الباكی" خیر ما یمثل مذهبه الجدید فی فن الوصف على الرغم من مسحة الكآبة البادیة علیها
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:12|
مطالب جدیدتر
مطالب قدیمی‌تر