ابزار وبمستر

متــــرجـــــم عـــربی - دکتر مهدي شاهرخ
تعریفه:
هو هذا اللون من الشعر الذی یهدف به الشعراء إلى تعلیم الناس شئون دنیاهم وأخراهم، وتزویدهم بالحقائق والمعلومات المتعلقة بحیاة الفرد والجماعة، وأسرار الطبیعة وما وراء الطبیعة..
1-فهو یعالج الأخلاق والعقیدة والعبادة، ویتناول الخیر والشر، والفضیلة والرذیلة ، وما ینبغی الإنسان أن یكون علیه، وما یجب أن یتحاشاه ویتباعد عنه … یسلك الشاعر فی ذلك أسالیب الترهیب والترغیب والنصح والعظة..
2-ویتناول التاریخ والسیر: فیقرر ویبین الأنساب والأصول والفروع، وتسلسل الحوادث وترتیبها، ویبحث العلل والأسباب، ویربط النتائج بمقدماتها…
3-ویعرض للعلوم والفنون والصناعات، فیقرر الحقائق المتعلقة بشأنها، ویضع لها القواعد ویستنبط لها القوانین.
یقوم الشاعر بكل أولئك لیقدمها لقمة سائغة لمن یرید تعلیمه، فتعیها ذاكرته، وتسجلها حافظته، فیسهل علیه استدعاؤها واستحضارها فی الوقت المناسب.
وبهذا ترى أن المیادین التی یعمل فیها هذا اللون من الأدب، أو الشعر الذی نسمیه (تعلیمیا) ثلاثة میادین:
(1) أصول الأخلاق والعقائد.
(2) السیر والتاریخ.
(3) الحقائق والمعارف المتعلقة بالعلوم والفنون والصناعات.
عند الیونان:
عرفت الیونان هذا اللون من الأدب عند جماعة من شعرائها القدامى، ومن أشهرهم (هزیود ) فی القرن الثامن قبل المیلاد، وكان من أهم الأعمال المنسوبة إلیه قصیدتان: أولاهما التی تتناول موضوعی الأخلاق والعقائد، والمعارف والحقائق المتعلقة بالفنون والصناعات. فهی تتحدث عن الجانب الخلقی وتوجه مجموعة نصائح وعظات بصدد العدالة، والظلم والقناعة والجشع، وعناصر كلٍّ منها، وأصوله ونتائجه بضرب الأمثال والحقائق التاریخیة والسماویة والأرضیة… كما تعرض أعمال الحقل وما یتصل بها، فیبین فصول السنة وما یلائمها من ضروب الزراعة، وما تحتاج إلیه من أداة وفن...
والقصیدة الثانیة هی: (التیوجونیا).. أو أنساب الآلهة، وتعرض للآلهة، فتبین نشأتهم وأنسابهم وأصولهم وشعبهم، وتترجم لكل منهم، فتفصل وظائفه وأعماله وتاریخ حیاته 1.
وعند الهنود:
وعرف الهنود أیضا هذا الضرب من الشعر، فراحوا ینظمون به جملة من المعارف والعلوم التطبیقیة ، مما دفع (البیرونی ) إلى الشكوى من أنهم كانوا یعمدون إلى نظم قواعد الریاضیات والفلك، لأن ذلك یخرجهم أحیاناً عن ضبط القواعد وما یستلزمه من دقة فی التعبیر لا تتسنى فی النظم2 .
لدى العرب:
أما بالنسبة للأدب العربی؛ فیذهب الذاهبون إلى أن العرب لم یعرفوا هذا اللوّن من الأدب إلاّ فی وقت متأخر نتیجة اتصالهم بالفكر الوافدِ فهناك من یرى أن هذا التأثیر ناشئ عن الثقافة الهندیة التی اتصل بها العرب فی العصر العباسی، ومن هؤلاء الأستاذ أحمد أمین 3 وشكری فیصل4، ویرى آخرون أن ذلك من مكتسبات الثقافة الیونانیة5 .
على أن الدكتور طه حسین یرى أن أبان بن عبد الحمید اللاحقی هو مبتكر هذا الفن فی الأدب العربی، إذ یقول: "... یظهر أن أبان هو أول من عنی بهذا الفن6 ...". ویقول عنه فی موضع آخر"... فهو إمام طائفة عظیمة من الناظمین، نعنی أنه ابتكر فی الأدب العربی فنّاً لم یتعاطه أحد من قبله، وهو فن الشعر التعلیمی"7 .
ویذهب شوقی ضیف إلى رأیین متناقضین كلّ التناقض، متعارضین التعارض كلّه، ولا ندری على أیهما استقر رأیه النهائی بإزاء المسألة !.. ففی كتابه: العصر العباسی الأول، یرى أنه " فن استحدثه الشعراء العباسیون، ولم تكن له أصول قدیمة، ونقصد فن الشعر التعلیمی الذی دفع إلیه رقى الحیاة العقلیة فی العصر، فإذا نفر من الشعراء ینظمون بعض المعارف أو بعض السیر والأخبار"8 … بینما یذهب الدكتور شوقی ضیف فی كتابه الآخر ( التطور والتجدید فی الشعر الأموی) مذهباً آخر یوشك- فی رأینا- أن یكون صائباً، ولكنه لم یسر فیه إلى آخر الشوط، كما سنرى بعد…
فهو یذهب ههنا إلى أن الشعر التعلیمی ذو نشأة عربیة خالصة فی آخر القرن الأول الهجری وأول الثانی، أو قل فی أواخر دولة الأمویین.. إذ أن أراجیز الرُّجاز و بخاصة رؤبة والعجاج قد كانت متوناً لغویة، وبالتالی فهو النواة والبذرة التی انبنى علیها الشعر التعلیمی فی جانب الكلام المنظوم، وتطور فی جانب النثر فكانت المقامات... ویقول الكاتب : "ونحن نؤمن بأن هؤلاء الرّجاز-وفی مقدمتهم رؤبة- هم الذین أعدوا شعراء العصر العباسی لا للشعر التعلیمی فحسب، بل لاقتباسهم للغریب فی أشعارهم، فالغریب أصبح جزءا هاما فی مادة الشعر عند الشعراء الممتازین من أمثال بشار وأبی نواس وأبی تمام..." 9
ویقول عن رؤبة وعن أبیه العجاج: "والإنسان لا یلم بدیوانیهما حتى یقطع بأنهما كانا یؤلفان أراجیزهما قبل كل شیء من أجل الرواة، ومن اجل أن یمداهم بكل غریب، وكل أسلوب شاذ، ومن هنا كنا نسمی هذه الأراجیز متونا لغویة، وقد بلغت هذه المتون صورها المثالیة عند رؤبة، فهو النمو الأخیر لهذا العمل التعلیمی الذی أرادته المدرسة اللغویة من جهة، والذی استجاب له الرجّاز من جهة أخرى. ولعل هذا ما جعل اللغویین یوقرونه أعظم التوقیر، فأبو الفرج یقدمه فی ترجمته بقوله: "أخذ عنه وجوه أهل اللغة: وكانوا یقتدون به ویحتجون بشعره ویجعلونه إماماً.." 10 ویقول الدكتور ضیف: "والأرجوزة الأمویة من هذه الناحیة تعد أول شعر تعلیمی ظهر فی اللغة العربیة 0011" ویقول: "... ومهما یكن فقد ألهمت الأرجوزة الأمویة الشعراء فی العصر العباسی أن یقوموا بنظم شعرهم التعلیمی، كما ألهمت أصحاب النثر وضع المقامة"12 .
وهذا الذی ذهب إلیه الكاتب یوشك أن یكون صواباً لولا أنه قصر به قلیلا... ذلك أننا نرى أن هذا اللون من الأدب لم تكن بذرته قد بذرت فی هذه المرحلة من العصر الأموی، ولكن البذرة قد نبتت واستوت على سوقها منذ زمن بعید بعید !!.
من أین أتت الخدعة ؟
ونحن نرجح تخطئة الذین ذهبوا إلى أن الشعر التعلیمی إنما عرفه الأدب العربی مع ما عرفه من الثقافة الدخیلة، والفكر الوافد- شرقیّة وغربیّة، هندیّة ویونانیّة- أو ابتكر فی هذا العصر العباسی ابتكاراً بسبب امتزاج الأفكار والثقافات وتوالدها، أو أن الأرجوزة الأمویة هی التی وجهت إلیه الشعراء العباسیین!..ِ
إن الخطأ قد أتى هؤلاء الكاتبین من جهة ( التطبیق).. فهم یُعَرِّفون الشعر التعلیمی تعریفاً نظریاً جیداً، واضح الحدود والمعالم، بیّن القسمات والسمات، وحین تأتی مرحلة التطبیق العملی یجانبهم التوفیق، ولا یجدون إلا بعض الجزئیات أو الأقسام فی فترة معینة من الزمان تنطبق علیها هذه النظریات، ومن هنا ینطلقون إلى القول بأن هذا الفن كان عدما فیما مضى ثم أصبح له وجود منذ هذه الفترة التی اسُموها بالعصر العباسی، أو على أحسن الفروض العصر الأموی !..
إن هؤلاء الكتّاب یعرفون الشعر التعلیمی بمثل ذلك التعریف الذی صدّرنا به هذا الحدیث، ثم یقسمونه ثلاثة أقسام كما رأینا.
كل ذلك فی أسلوب یخلو فی الغالب من المقومات الفنیة كالخیال والأسلوب الطلی الجمیل بقصد تسهیل الحفظ والتذكر13 .
ثم هم حین یأتون إلى مرحلة النظر فی الأدب العربی منذ جاهلیته، وهل حوى نماذج من الشعر التعلیمی، یذهبون تلك المذاهب التی أشرنا إلیها فیما تقدم !.
رأینا:
ومع أن ما فی الشعر التعلیمی- فی عمومه- من مآخذ وعیوب أكثر مما فیه من حسنات وفضائل ( وأن ما فیه من مثالب ونقائص لا یدعو إلى الدفاع عنه، والتحمس للقول بأن العرب قد عرفوه فی أدبهم، نقرر أن الأدب العربی منذ جاهلیته قد شارك فی هذا اللون من الفن بكل أقسامه التی قدمناها:
(1)فبالنسبة للتاریخ وذكر القرون الخالیة والأمم البائدة، قد امتلأ الأدب العربی بشعر الشعراء فی ذلك، وقد كان ذلك أحد المنطلقات التی انطلق منها جماعة من الشعراء خصوصاً أولئك الذین كانوا على شیء من الثقافة الدینیة والعلمیة كأمیة بن أبی الصلت، وعدی بن زید… 14 الخ من ذلك قصیدة عدی فی منشأ الخلق وقصته خلق آدم وحواء وهبوطهما من الجنة التی یقول فیها:
اسمع حدیثاً كما یوماً تُّحدثه عن ظهر غیب إذا ما سائل سألا
أن كیف أبدى إله الخلق نعمته فینا، وعرّفنا آیاته الأُولا
كانت ریاح وماءٌ ذو عرانیة
..
. وظلمة لم تدع فتقاً ولا خللا
فأمر الظلمة السوداء فانكشفت وعزل الماء عما كان قد سفلا
.

.
..
وبسط الأرض بسطاً ثمّ قدّرها تحت السماء سواء مثل ما فعلا
.
وجعل الشمس مصراً لا خفاء به
. بین النهار وبین اللیل قد فصلا
.
قضى لستة أیام خلیقته وكان أخرها أن صوّر الرجلا
.
وعاه آدم صوتاً فاستجاب له
. بنفحة الروح فی الجسم الذی جبلا
.
ثم استمر الشاعر یتحدث عن خلق حواء وإسكانها مع زوجها الجنة، ونهیهما عن أكل الشجرة، إلى أن أخذ یتحدث عن العقاب الذی أنزل بالحیة جزاء ما أغوت آدم وزوجه، فیقولن:
فلاطها اللّه إذ أغوت خلیفته
. طول اللیالی ولم یجعل لها أجلا
.
تمشی على بطنها فی الدهر ما عمرت
. والترب تأكله حزناً وأن سهلا 15
.
وینظم عدی قصة الزّباء وجذیمة وقصیر، تلك القصة التاریخیة المشهورة:16
ألا یا أیها المثرى المرجّى
. ألم تسمع بخطب الأولینا
.
دعا بالبقة الأمراء یوماً
. جذیمةُ حین ینجوهم ثبینا
.
فطاوع أمرهم وعصى قصیراً
. وكان یقول- لو تبع- الیقینا
.
ودست فی صحیفته إلیه
. لیملك بضعها ولأن تدینا
.
فأردته ورغب النفس یرد
. ویبدی للفتى الحَین المبینا
وخبّرت العصا الأنباء عنه
. ولم أرمثل فارسها هجینا
.
وقدمت الأدیم لراهشیه
. وألفى قولها كذباً ومنینا
.
ومن خدر الملاوم والمخازی
. وهن المندیات لمن منینا
.
أَطفّ لأنفه الموسی قصیر
. لیجدعه، وكان به ضنینا
فأهواه لمارنه فأضحى
. طلاب الوتر مجدوعاً مشینا
.
وصادفت امرءاً لم تخش منه
. غوائله وما أمنت أمینا 17
.
وهكذا تسیر القصیدة فی تصویر الحادثة وقصها... الخ.
(2) فإذا انتقلنا إلى لون آخر من الشعر التعلیمی فی الجاهلیة، وهو ذلك الذی أسموه ( حقائق الفنون والعلوم والصناعات) وجدنا له مثالاً صارخاً للشاعر الجاهلی ( الأخنس بن شهاب)… وهذه القصیدة یذكر فیها سكنى قبائل نجد قبیلة قبیلة، فهی من هذه الناحیة تدخل فی علم تقویم البلدان- أو ما یسمى بالجغرافیة- فمما جاء فی هذه القصیدة:-
فمن یكُ أمسى فی بلاد مقامه
. یسائل أطلالا بها لا تجاوب
.
فلا بنة حطّان بن قیس منازل
. كما نمّق العنوان فی الرّق كاتب
.
لكل أناس من معدِ عمارة
. عروض إلیها یلجؤون وجانب
.
لكیز لها البحران والسِّیف دونه
. وإن یأتهم ناس من الهند هارب
.
تطایر من أعجاز حوش كأنها
. جهام أراق ماءه فهو آیب
.

.
وبكر لها برُّ العراق وإن تخف
.

.

. یحل دونها من الیمامة حاجب
.
وصارت تمیم بین قفٍ ورملة لها من جبال منتأى ومذاهب
.
وكلب لها خبّ، فرملة عالج
. إلى الحرة الرجلاء حیث تحارب
.
وغسّان حیّ عزّهم فی سواهم
. یجالد عنهم خسّر وكتائب
.
وبهراء حیّ قد علمنا مكانهم
. لهم شرك حول الرصافة لاحب
.
وغارت إیاد فی السّواد ودونها
. برازیق عجم تبتغی من تحارب
.
ونحن أناس لا حجاز بأرضنا
. مع الغیث ما نلقى ومن هو غالب
.
ترى رائدات الخیل حول بیوتنا
. كمعزى الحجاز أعوزتها الزّرائب 18
.
فالقصیدة- كما ترى- من الشعر التعلیمی دون ریب؛ ذلك لأن المقصود منها هو بیان مساكن هذه القبائل فی جزیرة العرب والعراق وما إلیهما.
(3) أما القسم الثالث من الشعر التعلیمی، وهو الذی یتناول العقائد والأخلاق, فهو فی الشعر الجاهلی أكثر من أن یحصى عدداً، خصوصاً عند هؤلاء الشعراء من أمثال أمیة بن أبی الصلت وعدی، وزهیر... فإذا جئنا إلى العصر الأموی، وجدنا هذا الضرب من الشعر قد تمثل بوضوح فی عدة موضوعات، أولها: أنه نظمت به الكیمیاء- أو الصنعة كما كانوا یسمونها..-ِ فلقد روى المسعودی أن حكیم آل مروان- خالد بن یزید بن معاویة الذی اشتهر باهتمامه بالكیمیاء قد وضع منظومة فی هذه الصناعة، ذكر فیها طریقة تحویل المعدن الخسیس إلى جوهر نفیس، یقول فیها:
خذ الطّلْق مع الأشْقِ
. وما یوجد فی الطرق
.
وشیئاً یشبه البرقا
. فدبِّره بلا حرق
.
فإن أحببت مولاكا
. فقد سوِّدت فی الخلق 19
.
كما استخدم هذا الشعر فی تعلیم غریب اللغة كما قدمنا فی صدر هذا الحدیث عند الكلام عن الأرجوزة الأمویة، التی أسهمت فی إبراز صورة الشعر التعلیمی العباسی، وفی المقامة فی جانب النثر فیما بعد.. ولقد وقعت محاولة لاستخدام هذا اللون فی شرح فروع الدین - فی رأی عبد الملك بن مروان - من أحد شعراء العصر، فوقف عبد الملك فی سبیلهِ ..وذلك فیما یروى من أن الشاعر الأموی ( الراعی النمیری) قد أنشد عبد الملك بن مروان قصیدته التی یشكو فیها السعادة وهم یأخذون الزكاة، حتى إذا بلغ قوله:
أخلیفة الرحمن إنّا معشر
. حنفاء نسجد بكرة وأصیلا
.
عرب نرى للّه فی أموالنا
. حق الزكاة منزلا تنزیلا
.
قال عبد الملك: لیس هذا شعراً، هذا شرح إسلام وقراءة آیة 20 !...
وهكذا استمر الأمر، نرى شیئا من الشعر التعلیمی فی هذا الموضع أو ذاك، حتى إذا جاء العصر العباسی، رأینا الشعراء ینظمون به فی جملة موضوعات ومسائل علمیة وتاریخیة وقصصیة إظهاراً للبراعة، ودلالة على قدرتهم على التجدید والابتكار، وتدلیلاً على أنهم قد ألموا بمعارف العصر، وثقافات الأمم الأخرى التی نقلت إلى العربیة.. وأنهم قد صاروا على شیء من هضم هذا الذی ترجم، فهم یسهمون بدورهم فی نقله وإیصاله إلى الآخرین عن طریق هذا اللون من الشعر !.. ومن أوائل هؤلاء الشعراء الذین أخذوا من هذا الفن بطرف السید الحمیری (105- 173 ه) الذی كان مفتوناً مغرماً بنظم القصص والمناقب والأخبار التی تروی عن علی وأبنائه. من ذلك ما یروى من أنه سمع محدثاً یذكر أن النبی صلى اللّه علیه وسلم كان ساجداً، فركب الحسن والحسین على ظهره، فقال عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه: " نعم المطیّ مطیكما!.." فقال النبی صلى الله علیه وسلم: "ولنعم الراكبان هما" !.. فانصرف السید الحمیری من فوره، فقال فی ذلك:
أتى حسن والحسین النبی
. وقد جلسا حجره یلعبان
.
فغدّاهما، ثم حیّاهما
. وكانا لدیه بذاك المكان
.
فراحا وتحتهما عاتقاه
. فنعم المطیة والراكبان
.
ولیدان أمّهما بَرَّة
. حَصان مطهّرة للحصان
.
وشیخهما ابن أبى طالب
. فنعم الولیدان والوالدان 21
.
ومن ذلك ما یروى من أن علیاً كرم الله وجهه. عزم على الركوب، فلبس ثیابه وأراد لبس خفیه فلبس أحدهما، ثم أهوى إلى الآخر لیأخذه، فانقض عقاب من السماء فأخذ الخف وحلّق به ثم ألقاه، فسقط منه أسود- ثعبان- وانساب فدخل جحراً، فلبس الخف، وحین سمع السید ذلك قال فی سرعة:
ألا یا قوم للعجب العجاب
. لخف أبی الحسین وللحباب
.
أتى خفاً له وانساب فیه
. لینهش رجله منه بناب
.
فخرّ من السماء له عقاب
. من العقبان أو شبه العقاب
.
فطار به، فحلق ثم أهوى
. به للأرض من دون السحاب
.
إلى جحر له فانساب فیه
. بعید القعر لم یرتج بباب
.
كریه الوجه أسود ذو بصیص
. حدید النّاب أزرق ذو لعاب
.
ودفع عن أبی حسن على
. نقیع سمامه بعد السیاب22
.
وسید هذا المیدان غیر مدافع هو أبان بن الحمید اللاحقی المتوفى سنة 200 ه الذی برع فیه حتى ذهب كثیر من الكاتبین إلى أنه مبتدع هذا الفن ومبتكره فی الأدب العربی على غیر مثال سابق، فنظم فی السیر والتاریخ الفارسی، إذ نظم سیرة أردشیر وسیرة أنو شروان 23 وكتاب بلوهر, وكتاب حكم الهند24 ، كما نظم القصیدة المسماة ( ذات الحلل) فی نشأة الخلق وأمر الدنیا وضمنها شیئاً من المنطق. ومن الناس من ینسبها إلى أبی العتاهیة، والصحیح أنها لأبان25. ولیس بین أیدی الناس من كلّ أولئك الآن شیء- ونظم كذلك فی فرائض الصوم والزكاة أرجوزة مزدوجة، ونظم كلیلة ودمنة فی خمسة آلاف بیت26، أو فی أربعة عشر ألف بیت27... لم یبق منها إلاّ جزء یسیر أورده الصولی فی الأوراق, كما أثبت شیئاً من مزدوجة الفرائض.
یقول أبان فی مزدوجة الفرائض شارحاً أحكام الصوم والزكاة:
هذا كتاب الصوم وهو جامع
. لكل ما قامت به الشرائع
.
من ذلك المنزل فی القرآن
. فضلاً على من كان ذا بیان
.
ومنه ما جاء عن النیِّ
. من عهده المتبع المرضیِّ
.
صلى الإله وعلیه سلّما
. كما هدى الله به وعلّما
.
وبعضه على اختلاف الناس
. من أثر ماضٍ ومن قیاس
.
والجامع الذی إلیه صاروا
. رأی أبی یوسف مما اختاروا
.
قال أبو یوسف: أمّا المفترض
. فرمضان صومه إذا عرض
.
.
والصوم فی كفارة الأیمان
.

.

.

. من حنث ما یجری على اللسان.
.
ومعه الحج وفی الظهار
. الصوم لا یدفع بالإنكار
.
وخطأ القتل وحلق المحرم
. لرأسه فیه الصیام فافهم
.
فرمضان شهره معروف
. وصومه مفترض موصوف
.
والصوم فی الظهار إن لم یقدر
. مظاهر یوماً على محرر
.
والقتل إن لم یك عمداً قتله
. فإن ذاك فی الصیام مثله
.
شهران فی العدة كاملانِ
. متصلان لا مفرّقان
.
والحنث فی روایة مقبولهْ
. ثلاثه أیامها موصوله
.
ومثلها فی عدة الأیام
. للمحرم الحالق فی الإحرام
.
ثلاثة یصومها إن طلقا
. لا بأس إن تابعها أو فرّقا28
.


وهذا أنموذج من نظمه لكلیلة ودمنة، یقول فی المقدمة:
هذا كتاب أدب ومحنه
. وهو الذی یدعى كلیل دمنه
.
فیه دلالات وفیه رشد
. وهو كتاب وضعته الهند
.
فوصفوا آداب كل عالم
. حكایة عن ألسَن البهائم
.
فالحكماء یعرفون فضله
. والسخفاء یشتهون هزله
.
وهو على ذاك یسیر الحففا
. لذّ على اللسان عند اللفظ
.
یا نفس لا تشاركی الجهّالا
. فی حب مذموم كّان قد زالا
.
یا نفس لا تشقی ولا تُعَنیّ
. فی طلب الدنیا ولا تمنیِّ
.
ما لم ینله أحد إلا ندِمْ
. إذا تولىّ ذاك عنه وسدم
.
دنیاك بالأحباب والإخوان
. كثیرة الآلام والأحزان
.
وهی وإن نیل بها السرور
. آفاتها وغمها كثیر
.
ویقول فی باب الأسد والثور:
وإنّ من كان دنیءَ النّفس
. یرضى من الأرفع بالأخس
.
كمثل الكلب الشقی البائس
. یفرح بالعظم العتیق الیابس
.

.
وإن أهل الفضل لا یرضیهم
.. شیء إذا ما كان لا یغنیهم
.
كالأسد الذی یصید الأرنبا
. ثم یرى العیر المجد هربا
.
فیرسل الأرنب من أظفاره
. ویتبع العیر على أدباره
.
والكلب من رقته ترضیه
. بلقمةٍ تقذفها فی فیه
.
ویقول فی الباب ذاته:
وباذل النّصح لمن لا یشكره
. كطارح فی سبغ ما یبذره
.
لا خیر للعاقل فی ذی المنظر
. إن هو لم یحمده عند المخبر
.
ولیس فی الصدیق ذكر الصفاء
. خیر إذا لم یك ذا وفاء
.
الرجل العاقل من لا یسكره
. كأس سمو واقتدار یبطره
.
فالجبل الثابت فی أصوله
. لا تقدر الریح على تحویله
.
والناقص العقل الذی لا رأی له
. یطغى إذا ما نال أدنى منزله
.
مثل الحشیش أیّما ریح جرت
. مالت به فأقبلت وأدبرت29
.
وبنظم أبان لهذا الكتاب، ولقیانه المكافأة الجزیلة من البرامكة، وبإقبال الناس علیه، أقبل غیره من الشعراء على نظم هذا الكتاب كذلك، والنّسج على منواله.
ومن هنا تدافع الشعراء ینظمون الشعر التعلیمی فی عدة أبواب من المعارف والعلوم والفنون، فاستخدموه فی الصراع العقدی والمذهبی، وفی الحكمة والموعظة، وفی الفلك والنجوم، والسیرة والتاریخ، وفی اللهو والمجون والحب وأصوله وقوانینه !...
ففی میدان الصراع العقدی والمذهبی:
كان بشر بن المعتمر یفید من هذا اللون الشعری فی الصراع المذهبی، وتأیید وجهة نظر الاعتزال، وتابعه جماعة من الشعراء الذین أثارهم بشار بن برد بما ذهب إلیه من تفضیل النار على الأرض، وإبلیس على آدم فی أبیاته التی یقول فیها:
إبلیس أفضل من أبیكم آدم
. فتبینوا یا معشر الأشرار 30
.
فتصدوا له یردون علیه مبینین أن للأرض الفضل على النار، ذلك لأنها أصل النار، وأنّ النار موجودة فیها (بالقوة)، وأنّ فی الأرض أعاجیب لا تحصى ولا تعد من المعادن والنبات والعناصر الأخرى...
فلبشر قصیدتان طویلتان رواهما الجاحظ فی الحیوان، أولاهما فی ذمّ فرق الإباضیة والرافضة والحشویة، وذكر فیها أصنافاً من الحیوان، وتحدث عن أعاجیبها وطبائعها، وما تقتات به، مستدلاً بذلك على قدرة الخالق، وقد بدأها بالحكمة، فقال:
الناس دأباً فی طلاب الغنى
. وكلهم من شأنه الختر
.
كأذؤب تنهشها أذؤب
. لها عواء ولها زفر
.
تراهم فوضى وأیدی سبا
. كل له فی نفسه سحر
.
تبارك الله وسبحانه
. بین یدیه النفع والضر
.
من خلقه فی رزقه كلهم
. الذیخ والتیتل والعفر
.
ویعدد أصناف الحیوان، وكیف تعیش وتقتات، حتى ینتهی من ذلك إلى قوله:
إنی وإن كنت ضعیف القوى
. فالله یقضی وله الأجر
.
لست إباضیاً غبیّاًولا
. كرافضی غرّه الجفر
.
كما یغرّ الآل فی سبب
. سَفْراً، فأودى عنده السفْر
.
كلاهما وسّع فی جهل ما
. فعاله عندهما كفر
.
لسًنا من الحشو الجفاة الألى
. عابوا الذی عابوا ولم یدروا 31
.
والقصیدة الثانیة تتحدث عن العالم وما فیه من المخلوقات المختلفة الأجناس، ویعدد الشاعر الحیوان وأوضاعه مستدلاً بذلك على حكمة الله، مستخلصاً من ذلك أن العقل وحده هو الذی ینبغی أن یهتدی به الناس، وألاّ یتخذوا غیره رائداً مرشداً كما یفعل من ضلوا واحتكموا إلى التقلید:
أما ترى العالم ذا حشوة
. یقصر عنها عدد القطر
.
أوابد الوحش وأجناسها
. وكل سبع وافر الظفر
.
وبعد أن یعدد أجناساً من الحیوان، یقول:
فكم ترى فی الخلق من آیة
. خفیة الحسبان فی قعر
.
أبرزها الفكر على فكرة
. یحار فیها واضح الفجر
.
لله در العقل من رائد
. وصاحب فی العسر والیسر
.
وحاكم یقضی على غائب
.

. قضیة الشاهد للأمر
.
ثم یعود الشاعر فیعدد الحیوان ویذكر طبائعه، وأنه فی طلب رزقه یقلد بعضه بعضا، وعلى مثالهم فی هذا أبناء آدم، إلاّ أنهم مختلفون فی الدین، ومتفاوتون فی الرأی والقدر، وقد تحكمت فیه واستولت عادة الاتباع والتقلید:
وكل جنس فله قالب
. وعنصر أعراقه تسری
.
وتصنع السرفة فیهم على
. مثل صنیع الأرض والبذر
.
والأضعف الأصغر أحرى بأن
. یحتال الأكبر بالفكر
.
متى یرى عدوه قاهرا
. أحوجه ذاك إلى المكر
.
كما ترى الذئب إذا لم یطق
. صاح فجاءت رسلاً تجری
.
وكل شیء فعلى قدره
. یحجم أو یقدم أو یجری
.
والخلد كالذئب على خبثه
. والفیل كالأعلم كالوبر
.
والعبد كالحرّ وإن ساءه
. و الأبغث الأعثر كالوبر
.
لكنهم فی الدّین أیدی سبا تفاوتوا فی الرأی والقدر
.
قد غمر التقلید أحلامهم
. فناصبوا القیاس ذا السَّبر
.
فافهم كلامی واصطبر ساعة
. فإنما النجح مع الصبر
.
وانظر إلى الدنیا بعین امرئ
. یكره أن یجری ولا یدری32
.
وحین أنشأ بشار قصیدته المتقدم ذكرها فی تفضیل النار وإبلیس على الأرض وآدم أنشأ صفوان الأنصاری قصیدته المضادة فی تفضیل الأرض وآدم، فقال :
زعمت بانّ النار أكرم عنصراً
. وفی الأرض تحیا بالحجارة الزند
.
وتخلق فی أرحامها وأرومها أعاجیب لا تحصى بخط ولا عقد
.
وفی القعر من لج البحار منافع
. من اللؤلؤ المكنون والعنبر الورد
.
وفی قلل الأجبال خلف مقطم
. زبرجد أملاك الورى ساعة الحشد
.
وفی الحرّة الرجلاء تلقی معادن
. لهن مغارات تبجس بالنقد
.
من الذهب الإبریز والفضة التی
. تروق وتصبی ذا القناعة والزهد
.
وكلّ فلزّ من نحاس وآنك
. ومن زئبق حی ونوشادر یسدی
.

.

.
وكلّ یواقیت الأنام وحلیها
. من الأرض والأحجار فاخرة المجد
.
.وفیها مقام الحل والركن والصفا
. .ومستلم الحجاج من جنة الخلد 33
.
كما شارك فی الرد على بشار أیضاً سلیمان الأعمى_ أخو مسلم بن الولید قائلاً:
لابدّ للأرض إن طابت وان خبثت
. من أن تحیل إلیها كلّ مغروس
.
وتربة الأرض إن جیدت وإن قحطت
. فحملها أبداً فی إثر منغوس
.
وبطنها بفلزّ الأرض ذو خبر
. لكل جوهرة فی الأرض مرموس
.
وكلّ آنیة عمت مرافقها
. وكل منتقد فیها وملبوس
.
وكل ما عونها كالملح مرفقة
. وكلها مضحك من قول إبلیس 34
.
فی میدان الموعظة والحكمة:
ومن أبرز الشعراء الذین استخدموا الشعر التعلیمی فی الموعظة والحكمة أبو العتاهیة الذی كانت له عدة قصائد تعلیمیة أسهم بها فی میدان نقل العلم والمعرفة للآخرین، و "... أخذت مكانها فی تربیة الذوق الإسلامی وتهذیب الناشئین 000" 35 ... ومن أبرز قصائده هذه أرجوزته المعروفة بذات الأمثال التی یقف فیها موقف المعلم من تلامیذه، أو الحكیم الواعظ الذی یوجه الناس ویریهم سبیل الرشاد من منبره... وهی أرجوزة مزدوجة ینفرد كل بیت فیها بقافیة یشترك فیها شطران، ویذكر أبو الفرج أنها طویلة جداً 36 . وفیها أربعة آلاف مثل 37 ولكنه لم یثبت منها فی أغانیه إلاّ ثلاثة وعشرین بیتاً 38 إلاّ أن جمع دیوانه قد أورد منها ما یقرب من الخمسین بیتاً 39 .
وأبو العتاهیة فی ذات الأمثال هذه یأتینا بحكم أخلاقیة وأمثال سائرة سجّل فیها خلاصة تجاربه وآرائه فی الحیاة مصوغة صیاغة مضغوطة مركزة فی أخصر عبارة بحیث تبدو فی صورة الأمثال السائرة- كما هو واضح من اسمها- فتخف على الألسنة، وتعلق بالذاكرة، فیسهل تداولها، ویسرع فی الذهن استدعاؤها واستحضارها، ومن هنا یحتسبها من یحتسبها فی الشعر التعلیمی40 ، ویضعها من یضعها فی أدب الحكمة !..
والقصیدة لا تعرض لموضوع واحد، أو لفكرة واحدة، ولكنها تعرض لعدة موضوعات، ولأفكار شتى، فكلّ بیت یعرض فكرة مستقلة، وقد تشترك عدة أبیات فی عرض فكرة، ولكن یظل كل بیت وحدة قائمة بذاتها، ترض جانبا مستقلا من جوانب الفكرة العامة 41 . یقول أبو العتاهیة:
...حسبك ما تبتغیه القوت
. ما أكثر القوت لمن یموت
.
الفقر فیما جاوز الكفافا
. من اتّقى الله رجا وخافا
.
إن كان لا یغنیك ما یكفیكا
.

. فكل ما فی الأرض لا یغنیكا
.
إن القلیل بالقلیل یكثر
. إن الصفاء بالقذى یكدّر
.
ومنها:
لكل شیء معدن وجوهر وأوسط وأصغر وأكبر
.
وكل شیء لاحق بجوهره
. أصغره متصل بأكبره
.
مازالت الدنیا لنا دار أذى
. ممزوجة الصفو بألوان القذى
.
الخیر والشر بها أزواج
. لذا نتاج، ولذا نتاج
.
من لك بالمحصن ولیس محصن
. یخبث بعض ویطیب بعض
.
لكل إنسان طبیعتان
. خیر وشر وهما ضدان
.
والخیر والشر إذا ماعدّا
. بینهما بؤن بعید جدا
.
وهكذا تمضی الأرجوزة التی یتضح فیها تعدد الموضوعات وتشتت الأفكار الذی رّبما كان السبب فیه أنها لم تنظم فی وقت واحد، وإنما نظمت فی أوقات متباینة متباعدة، كلما خطر للشاعر خاطر، وعنت له فكرة جدیرة بالتسجیل أسرع إلى تسجیلها رجزاً وألحقها بدفتره42 .
ومن شعره هذا مذكراً بالموت وسكراته، لائماً على نسیانه والسهو عنه:
حتى متى تصبو ورأسك أشمط
. أحسبت أن الموت فی اسمك یغلط
.
أو لست تحسبه علیك مسلّطا
. ویلی ، وربك إنه لمسّلط
.
ولقد رأیت الموت یفرس تارة
. جثث الملوك وتارة یتخبط
.
فتألف الخلان مفتقداً لهم
. ستشط عمن تألفن وتشمط
.
وكأننی بك بینهم واهی القوى
. نضواً تقلص بینهم وتبسط
.
وكأننی بك بینهم خفق الحشا
. بالموت فی غمراته یتشحظ
.
وكأننی بك فی قمیص مدرجاً
. فی ریطتین ملفف ومخیط
.
لا ریطتین كریطتی متنسم
. روح الحیاء ولا القمیص مخیط 43
.
ویمكن النظر فی هذه النصوص التی أوردناها من قبل لبشر بن المعتمر، وصفوان الأنصاری، وسلیمان الأعمى- باعتبارها نماذج للحكمة والموعظة، بل هی من صمیم ذلك دون ریب، كما یمكن اعتبار آداب وأشعار الوعاظ والزهاد من الأدب التعلیمی فی الصمیم!..
الاستعمار.. ودوره فی تخریب التعلیم فی البلاد الإسلامیة
یقول المستشرق الإنكلیزی (هاملتون جب):
"لقد استطاع نشاطنا التعلیمی والثقافی عن طریق المدرسة العصریة والصحافة أن یترك فی المسلمین- ولو من غیر وعی منهم- أثرا یجعلهم فی مظهرهم العام ( لا دینیین) إلى حد بعید، ولا ریب أن ذلك هو اللب المثمر فی كل ما تركت محاولات الغرب لحمل العالم الإسلامی على حضارته من آثار).
ویقول الدكتور عبد الحلیم محمود- شیخ الجامع الأزهر السابق رحمه الله:
(إن الأمر قد وصل بالاستعمار أن صاغ خریجی كلیات الحقوق، بحیث لا یفهمون بعد (اللیسانس) كتابا عربیا فی المواد التشریعیة، ولیس الأمر بغریب، إن جدول التدریس فی كلیات الحقوق یخصص عشرین محاضرة فی الأسبوع للقوانین الأوروبیة، ومحاضرتین فقط للشریعة الإسلامیة)

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:11|
المجون فی شعر بشار بن برد دوافعه وأبعاده
ـــ د.أحمد علی محمّد(*)

المقدمة:

دواعی البحث ومشكلته ومنهجه:

كانت دوافع أغلب الدراسات الأدبیة التی تناولت موضوع المجون فی الشّعر العباسی خاصة تتركز حول أثر الظروف التاریخیة التی أسهمت فی نشوء تلك الظاهرة، فكانت النتیجة التی خلص إلیها معظم تلك الدراسات لا تخرج عن حدود الأحكام العامة والتقییدات المنهجیة التی یظهر بموجبها الشعراء وكأنّهم انتظموا فی مدارس وهیئات منظمة وحملوا أفكاراً محددة ثم أشاعوها بصورة مقصودة، ومن هنا تسنى لكثیر منهم الكلام على تیارات ومذاهب واتجاهات لها خصائصها الفكریة والفنیة الممیزة، والواقع أنّ هذا النهج المدرسی فی دراسة الفن قائم على مغالطة واضحة، ذلك لأنّ الفن خارج عن التقیید، وبعید عن التصنیف، لأنّه محكوم بالخصوصیة، من أجل ذلك كان تلمس الحقائق الموضوعیة فی دراسة ظواهر الفن لا یأتی بما هو موصولٌ بطبیعته.

إنّ التصنیفات المنهجیة لا تكترث فی النتاجات الأدبیة إلا بما هو متكرر أو ما یشكّل خطوطَ ظاهرةٍ عامة، لتكون هنالك نتائج وخصائص ومقومات مشتركة لهذه الفئة من الشعراء أو تلك، وهنا تكمن الخطورة التی یخضع بموجبها الشّعر إلى أفكار مصممة مسبقاً، فإصرار الباحثین على استخلاص القیم العامة والخصائص المشتركة یلغی مفهوم الخصوصیة لكلّ شاعر بل لكلّ نصٍّ، لأنّ الشّعراء مختلفون فیما بینهم، واستجابتهم للأفكار متباینة. هذا أمر، وأمرٌ آخر أنّ الشعر العربی فی كلّ تفصیلات تاریخه لم یكن منبعثاً عن اتجاهات فكریة، ولم یكن ملتزماً بالتعبیر عنها بصورة قسریة إلا ما كان من شعر الفِرَقِ، وهذا لیس اتجاهاً عاماً فی الشعر العربی على أیة حال، أو أنّ شعر الفِرق لم یشكّل لدى القارئ العربی حضوراً دائماً فی الذاكرة، وإنّما هو شعر تستدعیه الحوادث التاریخیة والصراعات المختلفة التی كانت قائمة بین المذاهب والأحزاب، وقد أكد الزمّان أنّ الشّعر الجید الذی عبر عن صموده الأزلی هو الشّعر الذی قیل بمعزل عن الظروف التی كانت تحیط به، وخارج إطار الأفكار التی كانت سائدة فی حقبة من الحقب أیضاً، بدلیل أننا نقرأ شعر المتنبی والبحتری وابن الرومی الیوم لما یمثله ذلك الشّعر من خصوصیة، ومن هنا أصبح یلبی عندنا حاجة جمالیة تشبع رغبتنا للتمیز والإبداع.

لقد آثر أغلب من درس الشعر وَفْق تیارات فكریة اعتباره دلیلاً على وجود تلك الأفكار وشیوعها وبیان آثارها فی الواقع، بمعنى أنّ هذا النمط من الدراسات لم یُعْنَ بالظاهرة الأدبیة، لأنّ المجون على سبیل المثال شكّل لدیهم موضوعاً فكریاً، فكان الشعر حاملاً لذلك الموضوع، والأصل أن یُدرس المجون على اعتباره موضوعاً فنیاً غیر تابع للأفكار أو الأحداث، لأنّ الشّعر فی الحقیقة لا یستطیع التعبیر عن الأفكار الدقیقة كما یعبر عنها النثر، وإذا ما حدث مثل ذلك خرج الشّعر على طبیعته، بدلیل أنّ الذین حاولوا تضمین الشّعر الأفكار والمعارف العلمیة حولوه إلى قوالب جامدة دخلت فی إطار الشعر التعلیمی الذی یخلو من روح الفنّ، والحقّ أنّ الشّعر هو الذی یخلق الأفكار ویبتكر المعانی ویثیر الانفعالات ومن ثَمَّ یحمل الناس على التأثر والتواصل والتمثل، یقول أبو تمام:

ولولا خلالٌ سنّها الشّعرُ ما دَرَى          بُغَاةُ المعالی أین تُؤتى المكارمُ

ومن الدراسات التی بالغت فی تصنیف الأسباب الموضوعیة لظاهرة المجون دراسة هدارة الموسومة بـ "اتجاهات الشعر فی القرن الهجری الثانی" حیث وضع الباحث یده على جملة من الأسباب التی جعلت من المجون تیاراً فنیاً جارفاً، وقد حدد أولاً الإطار الزّمنی لهذه الظاهرة بالقرن الهجری الثانی ملغیاً المحاولات الفنیة السابقة فی هذا الموضوع لأنّها لم تشكّل عنده تیاراً فنیاً له خصائصه ومقوماته الممیزة، ثم حدد مفهوم المجون بقوله: "هو ارتكاب المآثم والدعوة إلى التحلل الأخلاقی، ومجانبة الآداب بدعوى الحریة الفكریة"([2">)، والسؤال الذی یطرح نفسه هنا: هل الشعر عبر فواصل تاریخه كان ینطق بما یوافق الأخلاق والفضائل؟ ثم متى كان الجانب الأخلاقی أو حتى الموضوع الشعری معیاراً لجودة الفنّ عامة والشّعر خاصةً؟ وهل موضوع الهجاء ـ وهو من أوسع أبواب الشعر العربی ـ بعیدٌ عن ارتكاب المآثم والتحلل الأخلاقی، وخصوصاً ذلك الهجاء الذی یعمد فیه الشعراء إلى القذف والفحش؟ ثم هل كان الغزل العربی أو حتّى المدیح خالصاً لوجه الأخلاق؟

إذا كان المجون عند هدارة ما هو إلا التصریح بالمآثم والتحلل الأخلاقی ومجانبة الآداب، فإنّ باباً واسعاً فی الشّعر العربی دخل فی المجون، وعلیه فإنّ الباحث لم یوفق فیما أرى بتحدید هذا المفهوم تحدیداً موضوعیاً، أو أنّه لم یستطع ضبطه بما یوافق مجالات استخدامه الحقیقة، فما اصطلح علیه بشعر المجون وإن كان متسعاً إلا أنه لا یخرج عن حدود العبث مع ما ینطوی علیه ذلك المفهوم من عوالق وملابسات، وتحت هذا الإطار یمكن أن ندرج مجون بشار ومجون أبی نواس. والعبث لم یكن منقطعاً عن الأسباب والدوافع الشخصیة، من أجل ذلك كان مجون بشار یختلف عن مجون أبی نواس، لأنّ هنالك من الأسباب النفسیة والاجتماعیة والثقافیة والطباع ما یجعل المجون نزوعاً فردیاً یدل على سمات خاصة، إذ الناس فی هذه الأمور مختلفون، فهم وإن تقاسموا صفة العبث إلا أنّ لكلّ فرد دوافعه، ثم إن مؤدى العبث بین الشعراء متباین، فعبث بشار لم یصل إلى درجة تعابث أبی نواس مثلاً، كما أنّ عبث أبی دلامة لم یصل إلى درجة عبث بشار، فهؤلاء جمیعاً كانوا من المجان ولكن لكلّ نفر منهم أسبابه ودوافعه.

لقد وقف كلّ من د. طه حسین وفلهوزن وعبد الرحمن بدوی كما یصور هدارة([3">)، عند أسباب المجون، فزعم د. طه حسین أنّ التماجن فی الشعر قد بدأ بتحول السلطة من الأمویین إلى العباسیین، ویرمی من وراء ذلك إلى أنّ العنصر الفارسی كان له الأثر البارز فی نشوء هذه الظاهرة، ثم تبنّى هدارة هذا الرأی عندما لاحظ أنّ أغلب الشعراء المُجّان كانوا من الموالی، وهذا مؤداه إلى أمرین: الأول یشی بأنّ عهد بنی أمیة كأنّه عهد لم یُعَبّر فیه الشّعراء إلا عن الفضائل، وهذا غیر صحیح على الإطلاق فصور النقائض التی شارك فیها كبار شعراء بنی أمیة كلّها فی الهجاء القائم على التهتك وتتبع سوءات الشعراء والطعن فی أنسابهم وتحقیرهم إلى الحدّ الذی تنتفی فیه إنسانیتهم، ثم إنّ شعر الفرزدق وما فیه من فحش هل یُصَنّف خارج دائرة المجون؟

وإذا أعدنا النظر فی غزل الأمویین كغزل عمر بن أبی ربیعة ووضاح الیمن وغیرهما، فهل نجد فی ذلك الغزل ما یخالف غزل بشار وأبی نواس؟ والأهم من ذلك هل كان الشعر الجاهلی بمنأى عن التعابث والمجون، فماذا بشأن خمریات الأعشى هل تخرج عن المجون؟ وهل نستطیع أن نعد شعر الأعشى ومجاهرته بشرب الخمرة وفتونه بها إلى الدرجة التی صرفته عن الدخول فی الإسلام أقل من ظاهرة فنیة؟

ما معنى الربط بین المجون وتحول السلطة من الأمویین إلى العباسیین إذن؟

والثانی یتصل بالحكم النقدی المعزول عن الموضوعیة، فهل كان كلّ شعراء المجون من الموالی؟ ألم یكن أبو دلامة زند بن الجون والحسین بن الضحاك الخلیع وغیرهما على رأس شعراء المجون فی العصر العباسی؟

لقد تسنى للدكتور هدارة أن یقول: "إنّ المجون لم یكن دعوة ساذجة بریئة تدعو إلى الترف والتظرف الاجتماعی فحسب، وإنما هو نتیجة مؤثرات عمیقة اجتماعیة وفكریة ودینیة"([4">).

من أجل ذلك جعل الشعوبیة من دوافع المجون عند الشعراء الموالی على اعتبار الشعوبیة كما قال: "كانت تهدف إلى تحطیم معنویات المسلمین ودس الأكاذیب والمفتریات فی أصول دینهم حتى ینتقموا لأصولهم الفارسیة"([5">)، فلما وصل فی بحثه إلى ذكر بعض الشعراء العرب قال: "هنالك من شعراء المجون من لا صلة لهم بالشعوبیة والذی دعاهم إلى ذلك عوامل اجتماعیة وثقافیة"([6">)، وهذه نتیجة محیرة تثیر جملةً من التساؤلات أبرزها: كیف تجتمع أهداف الشعوبیة التی تحضّ الشعراء الأعاجم على إشاعة الفساد والتحلل والإباحیة لتخریب بنیة المجتمع العربی من الداخل تمهیداً للقضاء على وحدته وتسریع انهیاره، مع الأسباب الاجتماعیة والثقافیة النابعة من صمیم المجتمع العربی والتی تدفع هی الأخرى الشعراء العرب إلى الفساد والتحلل والإباحیة، ثم ما مؤدى ذلك؟ هل البنى الاجتماعیة والثقافیة فی المجتمع العربی العباسی أسهمت هی الأخرى فی مجون شعرائها لتهدم نفسها بنفسها أیضاً، أقول كیف اجتمعت أهداف الشعوبیة مع العوامل الثقافیة والاجتماعیة فی نشوء ظاهرة المجون إذا كانت بالفعل ذات أغراض سیاسیة؟

إنّ المجون عند هدارة مقدمةٌ وفاتحة وتمهیدٌ للزندقة، فإذا كان المجون قد انحصر بالتعبیر عما یجانب الخلق القویم والدعوة إلى الإباحیة، فإن الزندقة عنده تلامس الشعور الدینی والعقیدة، فكلّ معنىً تردد فی شعر العباسیین الذین ظهروا فی القرن الثانی یشكك فی سلامة العقیدة هو داخل فی الزندقة والإلحاد، وعلى هذا الأساس عدّ الزندقة كالمجون محصورة فی شعراء القرن الهجری الثانی، وهذا اعتبار خاطئ أیضاً لأنّ الزندقة المرادفة للإلحاد لا تتصل بزمن دون زمن، ولو أردنا تبیان ذلك لضاق المقام بنا.

لسنا فی الواقع ننكر أثر الشعوبیة فی بث الفرقة بین طبقات المجتمع، ولسنا بصدد نفی تهمة الشعوبیة عن الشعراء الموالی، فهذا أمر یثبته التاریخ، غیر أننا ننكر بشدة أن تكون هناك أسبابٌ ودوافعُ واحدة لتعابث الشعراء ومجونهم، ومن ثمّ فإنّ إقرار نتائج عامة فی هذا الموضوع یضر بالشعر موضوع الدراسة الأدبیة، لأنّ ذلك فی اعتقادی یدخل فی باب دراسة تاریخ الأفكار ولا یدخل فی دراسة الشعر لأنّ الشعر ینبغی أن ُدرس لذاته، غیر تابع للتاریخ ولا الأفكار ولا العقائد، وعلیه فإننا نرید دراسة ظاهرة المجون فی شعر بشار فی إطارها الخاص وأسبابها الشخصیة المتصلة بالشاعر، ومن ثم تبیان أبعادها فی شعره، والتساؤل بعد ذلك عن قیمتها الفنیة والمكانة التی تشغلها فی تاریخ بشار الشعری، فی محاولة لفهم شخصیته وتقدیر الفنّ الذی جاء به، مصورین مشكلة البحث بالتساؤل الآتی: إذا كان بشار بن برد ماجناً زندیقاً، وهو فی مجونه وزندقته مدفوع إلى "تحطیم معنویات المسلمین ودس الأكاذیب فی دینهم حتى ینتقم لأصوله الفارسیة" ([7">) كما قال هدارة على اعتباره شاعراً شعوبیاً ومولى، فكیف تقبّلَه القارئُ المسلم، وكیف تسنم المكانة السامقة فی سماء الشعر العربی، ولماذا قدمه النقاد العرب المسلمون على سائر شعراء عصره، ولماذا لا یزال الدرس الأدبی یحفل به وبشعره كل هذا الاحتفال؟ وبمعنى آخر: ما أثر مجون بشار مع قبح ما یعنیه المجون فی تقییم شخصیته وشعره؟ وهل كان الناس فی العصور المنصرمة قد وضعوا مجونه جانباً حین حكموا على جودة شعره؟ أم أن الأحكام القاسیة التی أطلقها النقد الحدیث على بشار ومجونه فیها من العسف والظلم ما لم یره المتقدمون؟

أما المنهج الذی نرید من خلاله النظر إلى مجون بشار فقائم على عرض الأخبار التی ساقها الأدباء وعلى رأسهم الأصفهانی، المتصلة بمجونه وتحلیلها ومناقشتها ومقابلتها بأشعاره المشهورة فی هذا الباب. ومن ثم عرض آراء بعض المحدثین فی مجون بشار وتحلیلها ومحاورتها بغیة الوصول إلى فهم واضح لدوافع وأبعاد قضیة المجون فی شعر بشار، وقد استقامت لنا خطة هذا البحث فجعلناه فی ثلاث نقاط أساسیة:

ـ ظواهر مجون بشار.

ـ دوافع مجونه النفسیة والاجتماعیة والفكریة.

ـ أبعاد المجون وأثره فی تقییم شخصیته وشعره.

1. مجون بشار:

لقد علقت شبهةُ المجون والزندقة بشخصیة بشار من جراء سلوكه قبل كلّ شیء، فهو بطبیعته متبرم بالناس مفطور على استعدائهم، إذ شحذ لسنه منذ الصغر بهجائهم، حتى لكأن موضوع الهجاء كان وسیلة لإثبات وجوده، ثم كان موضوع الغزل مجالاً آخر لتثبیت تلك التهمة على اعتبار الغزل كان أداته للتعبیر عن اللذة والمتعة التی كان یمیل إلیها بطبیعته، فكان مجونه متردداً بین هجائه وغزله على نحو خاص حتّى قال یونس النحوی على نحو ما روى ابن سلام: "العجیب من الأزد یدعون هذا العبد ینسب بنسائهم ویهجو رجالهم یعنی بشاراً"([8">).

هجاء بشار وشبهة المجون:

كان بشار ـ على نحو ما یذكر الأصفهانی ـ قد قال الشعر ولما یبلغ عشر سنین، فكأن أول عهده بالشعر یهجو الناس، "فإذا هجا قوماً جاؤوا إلى أبیه فشكوه فیضربه ضرباً شدیداً، فكانت أمه تقول: كم تضرب هذا الصبی الضریر، أما ترحمه؟ فیقول: بلى والله إنی لأرحمه، ولكنه یتعرض للناس فیشكونه إلی، فسمعه بشار فطمع فیه فقال: یا أبت إن هذا الذی یشكونه منی إلیك هو قول الشعر، وإنی إن ألممت علیه أغنیتك وسائر أهلی، فإن شكونی إلیك فقل لهم ألیس الله یقول: لیس على الأعمى حَرَجٌ فلما أعادوا شكواه قال لهم بُرد ما قاله بشار فانصرفوا وهم یقولون فقْه بُرد أغْیظ لنا من هجاء بشار"([9">).

وواضح أنّ بشاراً منذ صغره قد أدرك خطورة الهجاء، وأثره البالغ فی الناس فشحذ لسانه بذمهم لیهابوه ویتجنبوا معرة لسانه، وفی الوقت نفسه جعل من الهجاء وسیلة للتكسب فروی عنه أنّه قال: دخلت على الهیثم بن معاویة وهو أمیر البصرة فأنشدته:

إنّ السلام أیّها الأمیر             علیك والرحمة والسرور

فسمعته یقول: إن هذا الأعمى لا یدعنا أو یأخذ من دراهمنا شیئاً، فطمعت فیه فما برحت حتى انصرفت بجائزته"([10">). ولذلك كان الموسرون بالبصرة یسترضونه تجنباً لهجائه، وهو بطبعه لم یكن یحسن مصانعة الناس، ومن ثم لم یكن بارزاً فی المدح كبروزه فی الذم، وقوله فی الخبر الآنف لأبیه: "أغنیك وسائر أهلی" عظیم الدلالة على میله الشدید إلى الهجاء، وتكریسه هذا الموضوع للنیل من الخصوم ومن ثم حصوله غصباً على جوائزهم.

كل الهجاء سلاحاً ذا حدین، فهو من جهة أسلوب ناجع فی رد ع الخصوم والنیل منهم انتقاماً وتشفیاً، وبالفعل كان الناس فی مختلف طبقاتهم ومراكزهم یخافون لسانه، لأنه فاحش القول وشعره سائر بین الناس، یتناقله المغنون وتنشده الجواری وتنوح به النائحات، كما كانت مجالس العلماء تحفل بأشعاره أشد ما یكون الاحتفال، إذ الأصمعی وهو من النقاد المتشددین كان یرى أن بشاراً خاتمة الشعراء، ولولا أنه متأخر عن زمن الفحول لكان قدّمه على كثیر منهم، وهو من جهة أخرى السبب الذی أحدث جفوة بینه وبین الناس، بل كان هجاؤه باباً للقدح فی عقیدته، وإبراز مجونه وزندقته، ولیس ذلك فحسب بل كان الهجاء سبباً فی مقتله كما سنرى.

إذن بشار من محترفی الهجاء، تصید فیه سقطات الخصوم، وأمعن فی تصویر مباذلهم، وقد تمرس فی هذا الباب كما تروی الأخبار، إذ حمل فی نفسه صور النقائض التی كانت تدور بین أعلام الشعر الأموی، ولهذا اختلف إلى المربد وعاین جولات الخصوم فی التهاجی، وقد أحب أن یشارك فی ذلك، فقال: "هجوت جریراً لم یجبنی ولو أجابنی لكنت اشعر الناس"([11">) إذ أراد أن یمتحن قدرته البیانیة فی الهجاء فكانت نفسه تنازعه إلى مقارعة جریر وغیره من كبار الشعراء.

وما إن تمكن من هذه الأداة الجارحة حتى انخرط فی مهاجاة أعلام عصره، وكبار الشخصیات إذ نراه یتعرض للمفكرین والزهاد والنقاد والنحاة والشعراء، فكان هجاؤه لواصل بن عطاء قد أضفى على شخصه رنیناً هائلاً، وبالمقابل أشعر خصمه بإهانة بالغة، والخلاف بین الرجلین غامض إذ لم تفصل المصادر فیه، وكل ما هناك أن بشاراً كان فی بادئ أمره من أصحاب الكلام، وكذلك كان واصل بن عطاء، فلما صار واصل إلى الاعتزال وصار بشار كمما یقول الأصفهانی إلى الرجعة، حدث اختلاف بین الرجلین من حیث المذهب الفكری، فانقلبت العلاقة بینهما من علاقة ود وإعجاب، إذ سجل الأصفهانی شعراً یمدح فیه بشار واصلاً ویشید بخطبه وبلاغته، إلى علاقة عداء وخصومة، فهجاه هجاء موجعاً فی قوله:

مالی أشایع غزّالاً لـه عنق                 كنِقْنِقِ الدَّوِّ إن ولّى وإن مثَلا

عُنقَ الزرافةِ ما بالی وبالُكمُ                 أتكفرون رجالاً أكفروا رجلا؟

فما كان من واصل إلا أن حرّض الناس علیه متهماً إیاه بالزندقة والفجور، فكان یقول فی مجالسه: "أما لهذا الأعمى الملحد المكنیّ بأبی مُعاذ من یقتله، أما والله لولا أن الغیلة سجیة من سجایا الغالیة لدسَسْت له من یبعج بطنه فی جوف داره"([12">).

وواضح أنّ الخصومة بین الرجلین حملت واصل بن عطاء على اتهام بشار بالزندقة، وكانا قبل ذلك على ود ومحبة، والسؤال هنا: هل كان بشار قبل مخالفته واصل بن عطاء ملتزماً بالمبادئ داعیاً إلى المثل متقیداً بالأعراف، وهل كان تحوله إلى المجون بعد ما دب الخلاف بینه وبین واصل؟ فی الحقیقة أنّ مجون بشار مرتبط بمحاولاته الأولى فی النظم بدلیل أنّه كان یهجو الناس منذ صغره ویتعرض لأنسابهم ویقدح فی أعراضهم، غیر أنّ واصلاً فیما یبدو لم یثره كل ذلك فی بدایة الأمر لأنّه كان على وفاق مع بشار، ولما اختلفا أخذ یبین عَواره ویتتبع سقطاته فی أشعاره الماجنة ویدعو الناس إلى قتله والتخلص منه كما یبین الخبر الآنف.

________________________________________

* باحث من سوریة.

([2">)  اتجاهات الشعر فی القرن الهجری الثانی، محمد مصطفى هدارة، ص:203.

([3">)  حدیث الأربعاء، طه حسین، 2/81، وتاریخ الإلحاد، عبد الرحمن بدوی.

([4">)  اتجاهات الشعر، محمد مصطفى هدارة، ص230.

([5">)  المرجع نفسه ص215.

([6">)  المرجع السابق.

([7">)  المرجع السابق، ص218.

([8">)  الأغانی للأصفهانی: 3/149.

([9">)  الأغانی للأصفهانی: 3/146.

([10">)  المرجع نفسه.

([11">)  نفسه 3/162.

([12">)  نفسه.

لم یسلم العلماء والنحاة من هجاء بشار فقد عرّض بالأصمعی وسیبویه وغیرهما من الأعلام بسبب بعض ما أخذا علیه فی اللغة أو النحو، فهو مثلاً یهجو سیبویه ویعیره بأمه الفارسیة، وهنا نلتفت إلى ناحیة مهمة تتصل بشعوبیته، وموقفه الباطن أو الظاهر من الصراع بین العرب والأعاجم، فقد قیل إنّ بشاراً شعوبی متعصب للعجم دون العرب، وهذا الأمر كما أظن ناجم عن مواقف شخصیة أكثر من كونه موقفاً سیاسیاً أو فكریاً أو ثقافیاً، فالمتأمل شخصیة بشار یجد أنّه رجلٌ حاد الطباع متقلب المزاج سریع الاستجابة لما حوله شدید الانفعال، یمكن أن یثور لأقل الأسباب، فماذا یمكن أن نتوقع منه حین یكون فی مجلس فیدخل أعرابی فینال منه ویزدریه، یقول الأصفهانی: "دخل أعرابی على مَجْزَأة بن ثور السدوسی وبشار عنده وعلیه بزّة الشعراء، فقال الأعرابی: من الرجل؟ فقالوا: شاعر، فقال: أعرابی هو أم مولى؟ قالوا: بل مولى، فقال ما للموالی وللشعر؟ فغضب بشار وسكت هنیهة ثم قال: أتأذن لی یا أبا ثور؟ قال: فقل ما شئت یا أبا معاذ فقال":

خلیلی لا أنام على اقتسار                 ولا آبى على مولى وجار

لقد رأى كثیر من الدارسین فی مثل هذا الشاهد ما یدل على شعوبیة بشار، إذ عاب على العرب عاداتهم وسخر من أحوالهم، وبالمقابل افتخر بأصله الفارسی، والصحیح أن مثل هذا الشعر لا یخرج عن الإطار الذی قیل فیه والمناسبة المتصلة به، والدافع الذی حمل بشاراً على قوله، فلا یعدو كونه ردة فعل طبیعیة من قبل شاعر كبیر كبشار.

وما من أحد ینكر عصبیة بشار لأصوله الفارسیة، ومبالغته فی الإشادة بنسبه، واعتزازه الشدید بقومه، ولكن هذا الأمر لا ینحل بالضرورة عن مسألة التحزب، أو العمل المنظم فی إطار الشعوبیة لبلوغ أهداف سیاسیة كما توهم بعض الدارسین، بل ینحل عن موقف شخصی، وكیف لا؟ وبشار قد بلغ ما بلغ من الشهرة وذیوع الصیت وعلو القدر، فلیس أقل من أن یدافع عن ذاته ویرد كید الخصوم بكل ما أوتی من قوة، لأنه فی مثل هذه الظروف یدافع عن ذاته وشاعریته وتمیزه، من أجل ذلك لم یكن متسامحاً حتى مع سیبویه وهو من أصل فارسی حین عاب علیه قوله:

تلاعب نینان البحور وربما                  لهوت بها فی ظل مرؤومة زهر

فقال سیبویه لم أسمع بنون ونینان، فلما بلغ ذلك بشار بن برد قال فی هجائه([1">):

أَسِبْوَیْهِ یا بن الفارسیة ما الذی             تحدثت عن شتمی وما كنت تنبذ

وهذا یدل على أنّ بشاراً لم یدخر وسعاً فی اكتساح الخصم مهما كان، سواء أكان من العرب أو الفرس، وهذا أمر كما قلنا یتصل بطباعه ونفسیته ولم یكن بحال من الأحوال طویة أو فكرة خبیئة یحارب من أجلها لبلوغ هدف من الأهداف، لهذا كان الهجاء عنده ناجماً عن مواقف معینة ومرتبطاً بمناسبات محددة.

لقد كان هجاء بشار متلوناً بتلون المواقف التی عاشها، ومختلفاً باختلاف الشخصیات التی تناولها، وهو من ثم صورة واقعیة لتفصیلات حیاته الخاصة، وقد انحل فی ذلك الهجاء نزوعه الفطری إلى هذا الغرض الفنی الذی وجد فیه ذاته وعبر به عن وجوده، والواقع أن عاهته قد لعبت دوراً بارزاً فی هذا الأمر، فكانت تدفعه إلى درء شر الخصوم بالذم والمهاجاة، من أجل ذلك انحط فی هجائه لیتناول به صغار الشعراء أمثال حماد عجرد، وحماد أدنى طبقة منه كما یقول الجاحظ: "بشار فی العیوق، وحماد فی الحضیض"([2">)، ولیس ذلك فحسب بل شهر الهجاء بوجه عامة الناس والسوقة، وهذا ما أذهبَ بشاشة شعره، وجعله هدفاً للخصوم لیوجهوا السهام إلى عقیدته أولاً، كالذی كان یصنعه حماد عجرد وقد دس علیه كثیراً من الأقوال، ونحله بعضاً من الأشعار ثم أشاعها فی الناس لیبرزه فاسقاً ماجناً، ولعل أخطر تلك الأشعار التی حرفها قوله:

یا بن نهبى رأسی علی ثقیل                 واحتمال الرؤوس خطب جلیل

ادع غیری إلى عبادة الاثنیـ               ـن فإنی بواحد مشغول

یا بن نهبى برئت منك إلى الله              جهاراً وذاك منی قلیل

وقال الأصفهانی: "فأشاع حماد هذه الأبیات لبشار، وجعل فیها مكان "فإنی بواحد مشغول" فإنی عن واحد مشغول" لتصح علیه الزندقة، فمازالت الأبیات تدور فی أیدی الناس حتى انتهت إلى بشار فاضطرب منها وجزع، وقال أساء بذمی، والله ما قلت إلا "فإنی بواحد مشغول" فغیرها حتى شهرت فی الناس"([3">).

ولم یكن بشار قد اقتصر على هجاء العامة والدهماء من الناس، وإنما تجاسر على الكبراء والقادة والرؤساء، وهذا أسهم بدوره فی تشنیع سیرته، فقد روی أنه هجا روح بن حاتم فحلف أن یقتله، غیر أنّ بشاراً استجار بالمهدی فشفع له عند روح، ثم هجا العباس بن محمد، كما هجا غیره من الكبراء، وقد كان هجاؤه للخلیفة المهدی فیه ختام حیاته إذ قتله بتهمة الزندقة وتفصیل ذلك ما أورده الأصفهانی فی قوله: "خرج بشار إلى المهدی ویعقوب بن داود وزیره فمدحه ومدح یعقوب فلم یحفل به ولم یعطه شیئاً، ومر یعقوب ببشار یرید منزله فصاح به بشار: "طال الثواء على رسوم المنزل" فقال یعقوب فإذا تشاء أبا معاذ فارحل، فغضب بشار وقال یهجوه:

بنی أمیة هبوا طال نومكم                   إنّ الخلیفة یعقوب بن داود|

ضاعت خلافتكم یا قوم فالتمسوا          خلیفة الله بین الزق والعود

فلما طالت أیام بشار على باب یعقوب دخل علیه وكان من عادة بشار إذا أراد أن ینشد أو یتكلم أن یتفل عن یمینه وشماله ویصفق بإحدى یدیه على الأخرى ففعل ذلك وأنشد:

یعقوب قد ورد العفاة عشیة               متعرضین لسیبك المنتاب

فسقیتهم وحسبتنی كمونة                 نبتت لزارعها بغیر شراب

مهلاً لدیك فإننی ریحانة          فاشمم بأنفك واسقها بذناب

طال الثواء علی تنظر حاجة                شمطت لدیك فمن لها بخضاب

تعطى الغزیرة درها فإذا أبت               كانت ملامتها على الحلاب

یقول لیعقوب: أنت من المهدی بمنزلة الحالب من الناقة الغزیرة التی إذا لم یوصل إلى درها فلیس ذلك من قبلها إنما هو من منع الحالب منها، وكذلك الخلیفة لیس من قبله لسعة معروفة إنما هو من قبل السبب إلیه، فلم یعطف ذلك یعقوب علیه وحرمه، فانصرف إلى البصرة مغضباً، فلما قدم المهدی البصرة أعطى عطایا كثیرة ووصل الشعراء، وذلك كله على یدی یعقوب فلم یعط بشاراً شیئاً من ذلك، فجاء بشار إلى حلقة یونس النحوی فقال: هل ههنا أحد یحتشم؟ قالوا له: لا. فأنشأ بیتاً یهجو فیه المهدی، فسعى به أهل الحلقة إلى یعقوب، فقال یونس للمهدی إن بشاراً زندیق وقامت علیه البینة عندی بذلك وقد هجا أمیر المؤمنین فأمر ابن نهیك أن یضرب بشاراً ضرب التلف ویلقیه بالبطیحة"([4">).

ومن الملاحظ أن المهدی أمر بقتل بشار بسبب الهجاء لا بسبب الزندقة، فالزندقة كانت شبهة حاضرة لكل من یخرج على أمر الخلیفة أو یهجوه، ولو تأملنا علاقة بشار بالمهدی لعلمنا أن الخلیفة لم یستعده بسبب شعره قبل هذه الحادثة، فسوف نعرض صوراً لاحقة لعبث بشار مع المهدی وتطاولـه على القیم وتعرضه لكبار الشخصیات كما هو الشأن فی قصته مع خال المهدی، غیر أن هجاءه لابن داود ثم تعرضه للخلیفة جعله یدفع حیاته ثمناً لذلك التعابث، ومن الطریف أن یونس النحوی كما یذكر الخبر الآنف قد استشف زندقة بشار وبدت له البینة من خلال هجاء الخلیفة لیس غیر، مما یشی أن الرجل راح ضحیة شعره، ثم كان هنالك من یرید التخلص منه فأوغر صدر الخلیفة علیه لیقتله بتهمة الزندقة، وتروی المصادر متابعة للخبر السابق أن المهدی لما ضرب بشاراً "بعث إلى منزله من یفتشه وكان یتهم بالزندقة فَوُجِد فی منزله طومار فیه بسم الله الرحمن الرحیم، إنی أردت هجاء آل سلیمان بن علی لبخلهم فذكرت قرابتهم من رسول الله  فأمسكت"([5">).

غزل بشار وشبهة المجون:

كان الغزل باباً آخر ثبتت من خلاله زندقة بشار، ذلك لأنه كان یمیل إلى الغزل كمیله إلى الهجاء، لا بل كان غزله فی نظر الزهاد والمصلحین أشد خطراً على الناس من هجائه، لشیوع شعره وسرعة انتشاره وسهولة جریانه على الألسنة، إضافة لما كان ینطوی علیه من إباحیة وفساد، فقیل لیس فی البصرة غزل ولا غزلة إلا ویروی شعر بشار، من أجل ذلك كثر من هاجمه فقال سوار بن عبد الله ومالك بن دینار: "ما شیء أدعى لأهل هذه المدینة إلى الفسق من أشعار هذا الأعمى"([6">)، وكان واصل بن عطاء یقول: "إن من أخدع حبائل الشیطان وأغواها لَكلماتُ لهذا الأعمى الملحد"([7">)، والواقع أن هذه المخاطر التی تصورها المصلحون والمفكرون والزهاد فی غزل بشار كانت فی غایة المبالغة، وخصوصاً أنّ نفراً من النقاد لم یرَ فی شعره كل هذا الفساد الذی أشیر إلیه، فقد قیل للمهدی حین منع بشاراً من ذكر النساء فی شعره: "ما أحسب شعر هذا أبلغ فی هذه المعانی من شعر كُثَیّر وجمیل وعروة وقیس بن ذریح وتلك الطبقة"([8">) غیر أنّ المهدی كما تقول المصادر كانت عنده غیرة على النساء فمنع بشاراً من التغزل بهن فقال: "لیس كلّ من یسمع تلك الأشعار یعرف المراد منها وبشار یقارب النساء حتى لا یخفى علیهن ما یقول وما یرید وأی حرة حصان تسمع قول بشار فلا یؤثر فی قلبها، فكیف بالمرأة الغزلة والفتاة التی لا همّ لها إلا الرجال"([9">)

إنّ موقف المهدی من غزل بشار لا یستقیم على قاعدة واحدة، فهو وإن كان غیوراً على النساء، خائفاً من الفتنة التی یصنعها بشار فی قلوبهن، إلا أنّه فی مجالسه الخاصة كان یدعوه إلى إجازة ما یرتج علیه من أبیات فی الغزل، كالذی رواه الأصفهانی فی قوله: "نظر المهدی" إلى جاریة تغتسل.... فأنشأ یقول: نظرت عینی لحینی، ثم ارتج علیه فقال من بالباب من الشعراء قالوا: بشار، فإذن له فقال أجز: نظرت عینی لحینی، فقال بشار:

نظرت عینی لحینی                نظراً وافق شینی

سترت لما رأتنی                  دونه بالراحتین

فقال له المهدی قبحك الله ویحك أكنت ثالثنا... فضحك وأمر له بجائزة"([10">).

وتأویل موقف المهدی المتباین من غزل بشار أنّه لما شاع وانتشر فی الناس، أضحى ذلك باباً فی إغواء النساء، ومجالاً للفساد والإباحیة، وقد لاحظ أن غزله یختلف عن غزل المتقدمین لكونه مكشوفاً للناس، ولیس ذلك فحسب بل بدا فی غزله خبیراً بأحوال الحسان عارفاً طباعهن، مما جعل بعض العشاق یفتنون النساء بشعره، فروی أنّ رجلاً جاء إلى بشار فقال له: أنت بشار، قال: نعم، فقال: آلیت أن أدفع لك مئتیّ دینار، وذلك أنی عشقت امرأة، فجئت إلهیا فكلمتها فلم تلتفت إلی فهممت أن أتركها فذكرت قولك:

قاس الهموم تنل بها نجحا                   واللیل إن وراءه صبحا

لا یؤیسنك من مخبأة             قول تغلظه وإن جرحا

عسر النساء إلى میاسرة          والصعب یمكن بعدما جمحا

وقیل.. لما سمع المهدی هذه الأبیات قال لبشار: "أتحض الناس على الفجور وتقذف المحصنات المخبآت، والله لئن قلت بعد هذا بیتاً واحداً فی نسیب لآتین على روحك"([11">).

2 ـ دوافع المجون عند بشار:

یَصْدُرُ مجون بشار بن برد عن التعابث بصورة أساسیة، ولیس التعابث فی حال من الأحوال تطاولاً مقصوداً على أعراف المجتمع وقیمه، أو انتفاضاً على واقع، أو موقفاً فكریاً هادفاً، وإنما هو میل فطری، واتجاه ذاتی یخلو فیه الرجل إلى متعته ولذته ویتحلل من قیود كثیرة كانت مفروضة علیه، والمهم أن المجتمع قد قبل عبث بشار وغیره بصورة فن وشعر، ذلك لأن بشاراً فی تعابثه قد لاذ بالفن الذی وفر له هامشاً للحریة الفردیة، وكان فی الوقت ذاته مضماراً لتخطیه القیم والمبادئ، وقد ركب أسلوب التعابث والتظرف، وكان هذا الأسلوب مقبولاً عند أشد الخلفاء غیرة وحیاءً أعنی الخلیفة المهدی الذی قبل تعابث بشار فی كثیر من المواقف من باب التسلی والإضحاك، فقد روی أن یزید بن منصور الحمیری دخل على المهدی وبشار عنده ینشده شعراً فقال لبشار: ما صناعتك؟ فقال: أثقب اللؤلؤ فضحك المهدی ثم قال لبشار: ویلك أتتنادر على خالی، فقال: وما أصنع به یرى شیخاً أعمى ینشد الخلیفة شعراً ویسأله عن صناعته([12">).

كان بشار إذن یمیل إلى الدعابة والهزل والتظرف والعبث، وكان لعاهته أثر بالغ فی ذلك، لأنه كما یقول دائماً، یرید التفوق على المبصرین، ولم یكن لدیه وسیلة لبلوغ ذلك سوى العبث الذی عبر به عن وجوده، كما كان أسلوبه فی الإبداع، من أجل ذلك أشار فی غیر موضع من أشعاره إلى أنه أجاد الوصف مع أنه كفیف، وقد ذكر ذلك على لسان إحدى النساء:

عجبت فطمة من نعتی لها                  هل یجید النعت مكفوف البصر

ومرة أخرى یتكلم فی شعره على عاهته مشیراً إلى أن تلك العاهة لم تلغ تفرده أو تقضِ على ذكائه وعبقریته:

عمیت جنیناً والذكاء من العمى            فجئت عجیب الظن للعلم موئلا

وكان أوجع الهجاء فی نفس بشار ذاك الذی یطول شكله، أو یشیر إلى عاهته، لهذا قیل إنه بكى لما شبهه حماد عجرد بقرد أعمى، فقیل له ما یبكیك من هذا الشعر؟ فقال: إنه یرانی ولا أراه.

إن بشاراً كان یدرك أنه لم یستطع مبارزة المبصرین من الشعراء وغیر الشعراء، لأنه كان یشعر أنه مكشوف لبصرهم، وهم مستورون عنه لا یستطیع أن یجسد معایبهم الخلقیة على نحو ما كان خصومه یجسدون عاهته وشكله، لهذا ما كان یزعجه شیء فی هجاء الشعراء مثلما یزعجه تصویرهم إیاه بالقرد لأن هذا التصویر صادف إحساساً لدیه بقبح المنظر وسوء الطباع. وهنا ترسخ فی نفسه كره للناس وتبرم شدید بهم، ومن ثم تحول ذلك الإحساس إلى تطاول وتمرد وعبث، فبطریق التعابث أراد تجاوز قصوره، وبطریق ازدراء القیم أراد التعبیر عن حریته المطوقة بالمحدود، وبطریق التهتك أراد أن یعوض ما حرمته الطبیعة من نعمة البصر، ولكن مع كل ذلك لم یكن بشار یسعى إلى العبث سعی القاصد الناقم، وإنما كان یبلغ ذلك بلوغ الساذج البسیط الذی لم یجد فی نفسه الشخص القادر على التمام لعیب فی نفسه وشكله، فمن هنا آثر ترك نفسه على سجیتها، فقطع الحیاة عابثاً لا یقیم وزناً للحدود، وكان لأصحابه دور بارز فی كل ذلك، ففی مسألة التعابث كان منقاداً أكثر من كونه قائداً، رُوِیَ أنّ رجلاً یقال له سعد بن القعقاع یشارك بشار فی المجانة "فقال له وهو ینادمه: ویحك یا أبا معاذ قد نسبنا الناس إلى الزندقة فهل لك أن تحج بنا حجة تنفی ذلك عنا، قال: نِعْمَ ما رأیت، فاشتریا بعیراً ومحملاً وركباً فلما مرا بزرارة قال له: ویحك یا أبا معاذ ثلاثمئة فرسخ متى نقطعها مل بنا إلى زرارة نتنعم فیها فإذا أقبل الحاج عارضناهم بالقادسیة وجززنا رؤوسنا فلم یشك الناس أن جئنا من الحج فقال له بشار: نِعمَ ما رأیت وإنی أخاف أن تفضحنا، قال لا تخف فمالا إلى زرارة یشربان الخمر ویفسقان، فلما نزل الحاج بالقاسدیة راجعین أخذا بعیراً ومحملاً وجزا رؤوسهما وأقبلا وتلقاهما الناس فقال سعد بن القعقاع:

ألم ترنی وبشاراً حججنا          وكان الحج من خیر التجاره

خرجنا طالبی سفر بعید          فمال بنا الطریق إلى زراره

فآب الناس قد حجوا وبَرّوا                وأُبنا موقرین من الخساره([13">)

ویكشف لنا هذا الخبر حقیقیة عبث بشار، فهو فی قرارة نفسه یرید أن یزیل عن نفسه صفة الزندقة التی نسبها الناس إلیه، ولما عرض علیه ابن القعقاع الحج وافق وقال: نِعْمَ ما رأیت، ثم غرر به سعد فأقنعه أن الرحلة إلى الحج طویلة ولیس بوسعهما بلوغ الغایة فعرض علیه ثانیة أن یمیلا إلى زرارة إلى أن یعود الحجاج لیعودا معهم وكأنهما قد أدیا الفریضة، غیر أن سعداً فضح الأمر فی الشعر الذی قاله وكان بشار یخاف من ذلك وقد حدث. فبشار فی هذه الحكایة منقاد على اعتباره كفیفاً یحتاج لمن یقوده ویذهب به، وقد برزت نیته الصادقة فی إزالة التهمة عنه غیر أن رفیق السوء هو الذی غرر به فكانت المسألة برمتها لا تخرج عن حدود التعابث والمجون، ولو كان بشار یضمر فی نفسه سوء الاعتقاد لكان رفض فكرة الحج من أساسها.

3. أبعاد المجون وأثره فی تقویم شعر بشار:

إن ما جاء به الباحثون من آراء حول مجون بشار لا یؤخذ بكلیته، كما أنه لا یرد فی جملته، وربما كانت تصوراتهم إزاء موضوع المجون بدوافعه السیاسیة والفكریة أو حتى العرقیة منوطةً بالواقع التاریخی الذی عاش فیه بشار، غیر أن ما یحتمل النظر فی جملة الأسباب التی دعت بشاراً إلى التعابث والتمرد والتطاول على القیم هو أن الخلفاء كانوا یتهاونون فی ردع المتماجنین من الشعراء، فالمهدی مع تشدده لم یزدجر بشاراً على عبثه ومجونه، وإنما أمر بقتله حین هجاه، فكان ظاهر تهمته رمیه بالزندقة والإلحاد، وأما باطنها فهو الهجاء كما تجمع المصادر التی تكلمت على موت بشار، ولیس ذلك فحسب بل إن عدداً من الخلفاء كانوا قد اتخذوا من الشعراء المجان ندماء ومسامرین بغرض التسلی، وكان بشار ینال الأعطیات الجزلة من جراء تماجنه، وبمعنى أن عین الرقیب كانت تغفل عن مجونه طالما أن ذلك المجون لا یشكل خطراً على ذوی السلطان، أو ینال من شخصیاتهم.

ویبدو أن هذه المسألة كانت واضحة فی أذهان نقاد الشعر القدیم وعلى رأسهم الأصمعی والجاحظ، فالأصمعی كان من أوثق الرواة وأصدقهم وأغزرهم علماً، وأوسعهم معرفة بصناعة الشعراء، كما أنّ الجاحظ من أظهر النقاد الذین أمعنوا النظر فی جمالیات العربیة، وقد حمله ذلك على تألیف أهم كتاب یبین مآثر اللغة وبیانها الساحر، وقد تعصب للعرب بفضل لغتهم، وهذان الرجلان كانا من أشد المناصرین لمذهب بشار فی الشعر، ولیس ذلك فحسب بل إن الأصمعی أوشك أن یختم الشعر به، كما أن الجاحظ جعله على رأس طبقة الشعراء المحدثین حین قال: "بشار من أصحاب الإبداع والاختراع"([14">)، ثم رفع ناقد مثل ابن رشیق من قدره فقدمه على سائر الشعراء: "أتى بشار بن برد وأصحابه فزادوا معانی ما مرت بخاطر جاهلی ولا مخضرم ولا إسلامی"([15">) كما أحصى النقاد معانیه المولدة والفریدة حتى فاق الشعراء جمیعاً بما جاء به من خطرات الفؤاد وتجلیات الوجدان وقد تناقلت الكتب من معانیه المولدة قوله:

یا قوم أذنی لبعض الحی عاشقة             والأذن تعشق قبل العین أحیانا

وهذا كله یثبت أن بشاراً قد تسنّم ذروة الشعر العربی زمناً، وقد أقر له الأقدمون بالتفوق والعبقریة، ولم یكن مجونه حائلاً دون الاعتراف بفضله، وقد كان الأصمعی وهو عربی شهد لبشار بالشاعریة، ولم یثنه عن الاعتراف بفضله ما كان یظهره بشار من عداء للعرب، وكذا الجاحظ المعتزلی لم یصده هجوم بشار على المعتزلة وواصل بن عطاء عن الإشادة بشعره.

ومؤدى ذلك أن النقاد القدامى لم ینظروا إلى مجون بشار بعیداً عن ظروفه الخاصة، إذ المجون عند بشار وغیره موضوع فنی، والموضوع فی الواقع یمثل مادة الشعر، والحكم النقدی لا یهتم بالمادة بمقدار اهتمامه بالصیاغة وسبل تجویدها، ومن الطبیعی أن یرتقی بشار المكانة السامقة التی وضعه فیها النقاد، ذلك لأنه امتلك ناصیة البیان وأجاد فی صناعته إجادة لم تتوافر لكثیر غیره من شعراء العربیة.

كما أن شخصیة بشار لم تكن مكروهة لإسهامه فی المجون، لأن المجون كما قلنا موضوع فنی، وكذا تعابثه كان مقبولاً فی مجتمع لأن الفنان بنوازعه الممیزة ومزاجه المتقلب وطباعه الحادة كان یمثل حضوراً دائماً فی المجتمع لأن رصیده فی الإبداع یفوق سلبیاته، ولهذا حفل الدرس الأدبی فی القدیم ببشار وشعره بإبداعاته ومباذله ولم یكن المجون فی حال من الأحوال یحجب النظر عن محاسن أشعاره، والأهم من ذلك أن مجون بشار وزندقته لم یَعْدما إشارات المنصفین إلى أنه متهم، وقد حاولنا فیما تقدم الوقوف عند بعض الشواهد والأخبار التی تلفت النظر إلى هذه الناحیة، ظناً منا أن شاعراً كبیراً كبشار نال شهرة وحظوة فی عصره لم یعدم منافساً أو عدواً یتقول علیه ویدس فی أخبار ما یشوه صورته، والحق أن مجمل الأخبار التی عرضناها فی هذا الباب تحمل على الظن أن بشاراً كان متهماً، وهو بطبیعة الحال لیس بریئاً تماماً من كل ما نسب إلیه، غیر أن صورة المجون التی رسمت له كانت مضخمة أوسع ما یكون التضخیم، ومن عجب أن الباحثین المحدثین قد أسهموا فی تضخیم مجون بشار فإذا به یستحیل إلى تیار قوی تنعكس فیه أسباب وأهداف ونتائج هی فی ظنی أكبر من بشار ومن شعره، وما أعده جنایة بحق بشار بن برد فی الدراسات المحدثة التی تكلمت على مجونه أنها استبعدت تماماً كل إشارة یمكن أن تنصفه أو تبعد عنه صفة المجون والزندقة([16">).

المراجع:

1 ـ اتجاهات الشعر فی القرن الثانی الهجری، محمد مصطفى هدارة، مصر، دار المعارف، 1963.

2 ـ الأغانی لأبی الفرج الأصفهانی، طبعة مصورة عن طبعة دار الكتب المصریة.

3 ـ حدیث الأربعاء، طه حسین، مصر، دار المعارف.

4 ـ دراستان: من قتل بشار، والخیر والشر فی لزومیات المعری، محیی الدین صبحی، دمشق، وزارة الثقافة، 1981.

5 ـ العمدة فی محاسن الشعر وآدابه ونقده، ابن رشیق القیروانی، تحقیق محمد قرقزان، بیروت، دار المعرفة، 1981.

________________________________________

([1">)  نفسه: 3/167.

([2">)  البیان والتبیین للجاحظ: 1/64.

([3">)  الأغانی: 3/169.

([4">)  نفسه: 3/187.

([5">)  نفسه.

([6">)  نفسه: 3/184.

([7">)  نفسه.

([8">)  نفسه.

([9">)  نفسه.

([10">)  نفسه.

([11">)  نفسه 30/192.

([12">)  نفسه.

([13">)  نفسه: 3/179.

([14">)  البیان والتبیین للجاحظ: 1/59.

([15">)  العمدة لابن رشیق: 2/970.

([16">)  هنالك دراسات قلیلة أشارت إلى الظلم الذی لحق بشار بن برد منها دراسة لمحیی الدین صبحی (من قتل بشاراً).
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:10|
خلیل الخوری رائد الروایة العربی


ثمة مبرران لاخراج خلیل الخوری (1837 - 1907) من العتمة. المبرر الاول یكمن فی مرور مائة عام على وفاته. أما المبرر الثانی فیعود الفضل فیه الى الباحث المصری محمد عبد التواب الذی أقنع «المجلس الاعلى للثقافة» لاعادة نشر روایة الخوری «وی اذن لست بافرنجی» باعتبارها باكورة الروایات العربیة. ولكن إلى أی مدى حقق هذا النص شروط الفن الروائی؟ وفی ای ظرف كتب ونشر وطلع على الناس؟ ظروف كتابة «وی اذن لست بافرنجی» تستقیها «الشرق الأوسط» من أرشیف منتصف القرن التاسع عشر، وتستطلع رأی صاحبها، وأهل ذاك الزمان بها.

الروایة ذات العنوان الطریف «وی اذن لست بافرنجی»، لیست الباكورة الیتیمة لهذا النهضوی المغمور. فقد اصدر عام 1858، باكورة الصحف العربیة فی المشرق العربی وهی «حدیقة الأخبار»، وهی رابع صحیفة بعد «الوقائع المصریة» الصادرة فی القاهرة 1828، و«مرآة الأحوال» 1855، و«السلطنة» 1857، الصادرتان فی اسطنبول. وقبل ان نغلق الهلالین على بواكیر خلیل الخوری، یجدر التنویه بأنه اشترك فی تأسیس «الجمعیة العلمیة السوریة» فی بیروت، وهی أول جمعیة ثقافیة فی العالم العربی تضم مسؤولین وأعضاء من كل الادیان والمذاهب. كذلك، كان الشاعر والروائی خلیل الخوری الحلقة الاولى فی سلسلة الادباء الذین اصدروا دوریات سیاسیة فی لبنان والمشرق العربی مثل الشاعر بشارة عبدالله الخوری الملقب بـ «الاخطل الصغیر» الذی اصدر جریدة «البرق» فی بیروت. وللاسف لیست كل بواكیر الخلیل مفیدة. فبعد عشر سنوات من صدور «حدیقة الاخبار» كدوریة نهضویة مستقلة، حوّلها صاحبها فی 13 اغسطس (آب) 1868 الى جریدة رسمیة، وتحوّل حضرته فی عام 1870 من كاتب مقاتل فی سبیل التمدن والحریة والعدالة، الى مكتوبجی یراقب الصحف ویرفع التقاریر عنها الى الوالی، مما یسبب فی توقیفها. واذا كانت «حدیقة الاخبار» اول جریدة مستقلة فی بیروت تصبح جریدة رسمیة للولایة، فإن صاحبها كان اول مكتوبجی بیروتی بعد ان كان هذا المنصب حكرا على الموظفین الاتراك.

ولنعد الى الروایة للاجابة عن بعض الاسئلة التی تطرحها مقدمة الطبعة الجدیدة التی كتبها الباحث المصری سید البحراوی: هل صدرت «وی اذن لست بافرنجی» عام 1859؟ وهل كانت مجهولة حتى اكتشفها محمد عبد التواب؟ وهل كانت من ألفها الى یائها - باستثناء مدخلها التقلیدی - «روایة حقیقیة فی المعنى الفنی للروایة» على حد تأكید الزمیل عبده وازن فی «الحیاة» بتاریخ 8 نوفمبر (تشرین الثانی) 2007؟

منذ ان اصدر ابن مدینة «الشویفات» الصغیرة المجاورة للعاصمة بیروت «جرناله» حرص على نشر حلقة من روایة مترجمة عن الفرنسیة فی كل عدد. الا ان عدد 13 اكتوبر (تشرین الثانی) 1859 تضمن العبارة التالیة: «اذا كنت ایها القارئ مللت من مطالعة القصص المترجمة، وكنت من ذوی الحذاقة، فبادر إلى مطالعة هذا التألیف الجدید المسمى: وی.. اذن لست بافرنجی». والمطالعة ستحصل من خلال سلسلة حلقات نشرها المؤلف فی اعداد جریدته على مدى 18 شهرا. ذلك ان الكتاب الذی احتضن الروایة بعید ظهور الحلقة الاخیرة منها فی «حدیقة الاخبار» صدر فی عام 1861، بدلیل الاعلان الذی نشره المؤلف فی جریدته بتاریخ 21 مارس (آذار) 1861 وقال فیه «هذا المؤلف الجدید المحتوی على نقد مختلف یسرّ القارئ ولا یخلو من الفائدة بطریقة هزلیة مقصود بها الجد مع روایة شهیة المطالعة. الذی تلاه الجمهور مشهوراً بالتدریج فی (حدیقة الاخبار) قد نجز طبعه الآن كتابا مستقلا مغلفا بورق سمیك ملوّن، وسیباع بسعر عشرة قروش للنسخة. والذی یأخذ منه اكثر من خمسین نسخة دفعة واحدة یخصم له، فی المائة، عشرون».

مما تقدم، یمكن القول ان الروایة نشرت فی كتاب مستقل عام 1861. اما ما جرى فی عام 1859، وتحدیداً فی الشهر العاشر منه، فهو بدء نشر الروایة على حلقات وفی كل عدد من الجریدة «اذا سمح الوقت»، او بالاحرى مساحة الصفحات المحدودة، التی لم تسمح بنشر حلقة فی كل عدد، مما استدعى عاماً وستة اشهر لنشر روایة صغیرة.

ولنقلب الصفحة على السؤال الثانی المتعلق باكتشاف الروایة. فی سیاق ترجمته لحیاة خلیل الخوری، نوه فیلیب طرازی فی الجزء الاول من كتابه «تاریخ الصحافة العربیة» بالروایة فقال ان «وی اذن لست بافرنجی، هو كتاب اخلاقی وضعه على اسلوب القصة وضمنه انتقاداً دقیقاً على الاخلاق والعادات مع ملاحظات لطیفة على المتنبی والفنس دی لامرتین». وكرّت السبحة.

الكتاب الذی یحتضن الروایة موجود فی المكتبات العامة، وكذلك هو حال «حدیقة الاخبار». لذلك، لیس اكتشافاً العثور على الروایة. ولكن، ما یستحق التنویه بالنسبة للباحث محمد سید عبد التواب، هو كشفه ان الروایة هی باكورة الروایات العربیة. وبالطبع یجب ان یرد هذا الحكم بتحفظ. فمن یمكنه الجزم بعدم العثور على روایة عربیة اخرى یعود صدورها الى تاریخ سابق لعام 1861 حیث صدرت الروایة فی كتاب مستقل، او عام 1859 حیث بدأ مؤلفها بنشرها فی حدیقته على حلقات.

یبقى السؤال الثالث والاخیر. هل روایة «وی اذن لست بافرنجی» حائزة على الشروط الفنیة، خصوصاً اذا علمنا انها كتبت منذ 148 سنة، خاصة وان مقدمتها مباشرة وتنظیریة وخاتمتها لا تمت الى الفن الروائی بصلة. فالمقدمة تشبه فی مضمونها المقالات الفكریة والاجتماعیة التی نشرها الخوری فی جریدته وقارن خلالها بین الشرقیین والغربیین على اصعدة «العلوم والمعارف والمبادىء العلمیة». وكرر فی سیاق المقدمة ما سبق واكد علیه الرواد الذین سبقوه ومنهم اسعد یعقوب الخیاط والمعلم بطرس البستانی: «اننا نرید ان یكون الانكلیزی انكلیزیاً والفرنساوی فرنساویاً والعربی عربیاً». وحسناً فعل حین استدرك فی القسم الاخیر من مقدمته القصیرة، وقرر الاحجام عن ایراد «كلما هو خاطر فی بالنا من الافكار السامیة، لاننا نخشى ملل القارىء وربما ایضاً لا یخلو الامر اننا نحن قد مللنا». اما الخاتمة فكانت اكثر تنظیراً ومباشرة، إذ یقول الخوری: «لا یجب ان نستهجن كل شیء لأنه افرنجی، ولا نستحسن كل شیء لانه عربی. فإن لكل قوم احسانات واساءات لا تخفى عمن تمعن بالحقائق. وعلینا معشر العرب ان نحدق النظر، ونتأمل بفكر خال من شوائب الغرض، بأبناء عمنا بین البشر القاطنین القارة الاوروبیة، ونأخذ عنهم فقط ما كان واسطة لتقدمهم علینا بدرجات التمدن والتهذیب». ولكن الاخذ عن الاجانب لا یجوز ان یرادف السرقة، بل ان یكون اقتباساً وبما یتناسب «مع الروح الأهلیة لكل امة».

صحیح ان الروایة ملتزمة وتستهدف تنویر قارئها. ولكن المقدمة والخاتمة كانتا اقرب الى الخطاب النهضوی المباشر، منهما الى الكلام الادبی المداور الذی یقتضیه المنهج الفنی لصیاغة الروایة.

ما تقدم لا یقلل من قیمة روایة «وی اذن لست بافرنجی»، واعتراف محمد عبد التواب بریادة خلیل الخوری فی فن الروایة العربیة. فالروایة كتبت فی عام 1859 ولیس فی عام 2007. والاعتراف بریادة شامی یندر حدوثه من الباحثین المصریین.

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:9|
الجلال والجمال فی شعر ابن عربی
 - د. محمد علی آذرشب *

مقدمات
یمثل ابن عربی قمة من قمم العرفان فی تاریخنا الإسلامی، وأودّ قبل الدخول فی أدب ابن عربی أن أشیر إلى بعض الملاحظات بشأن العرفان والأدب لتكون مقاربة لما أبتغی تقدیمه فی هذا المقال.
1- العرفان - الناس.
ابتلی معظم قادة الفكر وأصحاب الكلمة فی عالمنا الإسلامی منذ فترة مبكرة بالابتعاد عن الناس، وشاع فقه السلطة الذی یبرر للحاكم كلَّ ما یمارسه من ظلم وتسلط واستبداد، وأصبح أكثر أصحاب المدارس الفكریة وكتّاب التاریخ والفقه والحدیث یمارسون أعمالهم لخدمة السلطة، وأضحى لهم من المكان والجاه ما جعلهم یتنافسون على التقرب من السلطان، على حساب ترك عامة الناس یكابدون ویعانون ویكدحون ویجوعون ویقتلون ویسجنون دون أی اهتمام بمعاناتهم،بل وأكثر من ذلك عملوا على تبریر ما ینزل بهم باعتباره قضاءً وقدراً لیس لهم أن یعارضوه.
وإلى جانب هذا التوّجه كان هناك التوجّه الإسلامی الأصیل الذی اهتمّ بالناس، فكان فقهه فقه الناس، وكانت حركته للدفاع عن الناس، وعن كرامتهم وعزّتهم وشخصیتهم. وتمثّل هذا الاتجاه بالدرجة الأولى بمدرسة أهل بیت رسول الله (ص).
فكان دعاة هذه المدرسة یقدمون من الفكر والفقه ما ینفع الناس، ویتحركون لتحریر الناس من عبودیة الطاغوت والشهوات تحقیقاً لعزتهم وكرامتهم. والطریف أن الحركات المنحرفة التی أرادت أن تستقطب الجماهیر مثل حركة الزنج والقرامطة رفعت هی أیضاً شعارات الدفاع عن مدرسة أهل البیت لعلمها بما فی هذه الشعارات من دوافع تستحث الجماهیر على الحركة وتستقطب عواطفها.
والعرفان نشأ فی أحضان مدرسة الناس، نجد جذوره الأولى فی "نهج البلاغة" و"الصحیفة السجادیة" وخطب "مجموعة كربلاء" وتعالیم "الصادقین"، ثم انتشر وتبلور بین "الناس" بعیداً عن توجهات السلاطین. واستمرّ مع الناس یربیهم ویرفعهم ویسمو بهم، ویصونهم من السقوط والهزیمة والاستسلام للواقع الفاسد.
ونرى العرفاء یعلنون على مرّ التاریخ ولاءهم لآل بیت رسول الله (ص)، ومن ذلك قول ابن عربی یرویه عنه القاضی نور الله الشوشترى فی كتابه مجالس المؤمنین:
على رغم أهل البُعد یورثنی القربى *** رأیت ولائی آل طه وسیلة
بتبلیغه إلاّ المودة فی القربى *** فما طَلَبَ البعوث أجرا على الهدى
العرفان إذن مدرسة الناس التی تأبى أن تجعل درجات كرامة الناس مرتبطة بما یملؤون به أذهانهم فی المدارس
یقول الإمام الخمینی:
جوت به عشق أعدم از حوزه عرفان، دیدم
أن یه خواندیم وشنیدیم، هن باطل بود
2- العرفان - العزّة
الدعوة إلى الارتباط بالله هی دعوة إلى التحرر من العبودیة لما سوى الله، هی دعوة للترفع عن السقوط فی عبودیة المال والشهوة والسلطة والجاه، من هنا یستشعر الإنسان عزّته فی كنف الله: (من كان یرید العزّة فلله العزّة جمیعاً) سورة فاطر 35/10، (أیبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جمیعاً) سورة النساء 4/139، (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنین) سورة المنافقون 63/8، من هنا فإن جماعة الفقراء لا یلینهم الطمع، ولا یفلّ ساعدهم المتاع، ولا تدق أعناقهم فضول العیش.
یقول ابن عربی:
أنا عزّ العزّ ما ملكت *** نفسی ذات الذلّ والعدم
(دیوان/ 23)
ویقول عن عزّة حسامه، وهی كنایة عن دفاعه المستمیت عن عزّته:
نصبت حساماً للردى فی فرنده *** شعاع له بین الفریقین فیصل
حملت به لا أرهب الموت والردى *** ولا أبتغی حمداً له النفس تعمل
ولكن لیعلو الدین عزّا وشرعنا *** إلى موضع منه الطواغیت تسفل
\(الدیوان /67)
هذه العزّة هی التی جعلت جماعة العارفین تسترخص الحیاة للدفاع عن أوطانها أمام الغزاة فی مختلف العصور، جدیر بالذكر أن زعماء الثورات وحركات المقاومة فی العصر الحدیث ینتمون بدرجة وأخرى إلى مدارس العرفان، ولا أدل على ذلك من ضجیع ابن عربی فی مثواه الأخیر الأمیر عبد القادر الجزائری، والإمام الثائر) الثانی روح الله الموسوی الخمینی.
3- العرفان - النفس
"النفس البشریة، التی تمثل جانب الطین والصلصال والحمأ المسنون تقف دائماً أمام تجلی نفخة رب العالمین فی هذا الموجود البشری، والعرفاء تحدثوا كثیراً عن هذا التعارض. ونفخة رب العالمین تتجلّى فی العشق، ولا یكون الإنسان عاشقاً إذا كان غارقاً فی "الذاتیة"، ولا یرى الإنسان وجه الحقیقة إذا كان راسفاً تحت ركام ذاتیته المستفحلة.
وكل الذین عشقوا فأبدعوا فی جمیع العلوم والفنون أناس تخلّصوا من ذاتیاتهم الضیقة وانطلقوا إلى رحاب نفخة رب العالمین فیهم سواء كانوا تحركوا عن قصد فی هذا الانطلاق أم عن دون قصد.
من هنا فكل المبدعین فی الدنیا وكلّ من برزت مواهبهم فی مجال من المجالات هم أناس تحرروا بدرجة وأخرى من ذاتیاتهم فعشقوا وخطوا خطوات على طریق العرفان.
لا یمكن لأصحاب الآثار الفنیة والعلمیة والأدبیة الخالدة إلاّ أن یكونوا عاشقین، وهم فی عشقهم دخلوا ساحة العرفان شاؤوا أم أبوا.
فالعرفان أساس كل ابتكار خالد وفن ساحر.
العرفان هجرة الإنسان من نفسه إلى معشوقه، یقول الإمام الخمینی:
هجرت ازخویش غوده سوى دلدار رویم
واله شمع رخش كشته وبروانه شویم
ویخطئ من یظنّ أنه مبدع أو مبتكر أو فنان أو أدیب ممتاز إذا كان یتحرك من أجل ذاته وشهرته وماله لا یمكن للمواهب أن تسجّل عطاءها إلاّ إذا كان العشق حادیها. ولا یمكن أن یكون الإنسان عاشقاً إذا كانت قبلته ذاته ونفسه، فلیترك مثل هذا الإنسان الطریق للعشاق ولیكف عن تقوّل العشق.
یقول الإمام الخمینی:
سَرِ خودكیر وره عشق به رهوار سیار
كر ندارى سرِ عشّاق وندانی ره عشق
وما أجمل الشاعر العربی الذی عبّر عن هذه الحقیقة بلغة شعریة عامیة مغنّاة أطربتنا أیام الشباب إذ قال:
حبّ إیه اللی انته جای تقول علیه
أنت عارف قبل معنى الحبّ إیه
كان هواك خلاّك ملاك
إنت لو حبیت یومین
لیه بتتجنه كده عالحبِّ لیه
ویعبر الإمام الخمینی عن تجاوز العارف لذاته حین یدخل فی عالم العرفان والعشق فیقول:
جسم بیمار ترادیدم وبیمار شدم
من به خال لبت أی دوست كرفتارسدم
همجو منصور خریدارسر دارشدم
فارغ ازخودتشدم وكوس "أنا الحق" بزدم
4- العرفان - الأدب
الأدیب الممتاز مثل كلّ فنان ومبتكر ممتاز عاشق یخرج من إطار ذاتیة الطین لیرتفع إلى عمق هذا الكون، مع اختلاف بین الأدباء فی درجة هذا العشق حسب مستوى هذا الأدیب أو ذاك.
فالأدیب إذن عارف، ویستطیع فی لحظات توهّج مشاعره أن یرتبط بعالم أسمى من هذا العالم المادیّ المحدود فیقدّم لنا تجربة شعوریة خالدة ینقلها لنا شعراً أو نثراً ذا تأثیر خالد فی المستمع والقارئ.
والشعر بالذات یعبّر أفضل تعبیر عن مفهوم الأدیب لأنه "الفناء المطلق بما فی النفس من مشاعر وأحاسیس وانفعالات، حین ترتفع هذه المشاعر والأحاسیس عن الحیاة العادیة، وحین تصل هذه الانفعالات إلى درجة التوهج والإشراق أو الرفرفة والانسیاب على نحو من الأنحاء.." (النقد الأدبی/ 57)
من هنا نستطیع أن نفهم سبب انتشار لغة الشعر عند العرفاء، لأن اللغة العادیة لا تستطیع أن تعبّر عن توهّج المشاعر، فلابد أن تصحبها الموسیقى والخیال والظلال لكی تستطیع أن تنقل الشحنة العاطفیة المتراكمة فی نفس العارف.
الجلال والجمال
كثر الحدیث عن معنى الجلال والجمال وعن ارتباط الاثنین مع ما بینهما من تضاد على الظاهر، فالجلال مظهر الغلبة والقهر والقدرة، والجمال مظهر اللطف والرحمة. وهو كلام طویل لا طائل تحته، لأن الإنسان العاشق یرى دائماً فی معشوقة الجلال والجمال. قال الشاعر العربی:
أهابك إجلالا وما بك قدرة *** علیّ ولكن ملء عین حبیبها
وقال آخر:
یصرعن ذا اللب حتى لا حراك به *** وهن أضعف خلق الله إنسانا
ویذكر ابن عربی أنه ما ذاق فی نفسه القهر الإلهی قط ولا كان له من هذه الحضرة فیه حكم. (الفتوحات 4/316).
ولكنه هو یذكر فی فصّ الآدمی (ص54):
"إن الحق وصف نفسه بأنه ظاهر وباطن، فأوجد العالمَ عالمَ غیب وشهادة، لندرك الباطل بغیبنا، والظاهر بشهادتنا.
ووصف نفسه بالرضا والغضب، وأوجد العالم ذا خوف ورجاء فتخاف غضبه وترجو رضاه. ووصف نفسه بأنه جمیل وذو جلال، فأوجدنا على هَیبة وأُنس، فعبّر عن هاتین الصفتین بالیدین".
ویرى ابن عربی أن التجلی الإلهی للبشر لا یكون إلاّ فی جلال جماله یقول: "ولحضرة الجلال السُبُعات الوجهیة المحرقة، ولهذا لا یتجلى فی جلاله أبداً، ولكن یتجلى فی جلال جماله لعباده، فیه یقع التجلّی، فیشهدونه مظهر ما ظهر من القهر الإلهی فی العالم" (الفتوحات 3/543).
وكما ذكرت إن الجلال والجمال مترابطان، إذا تجلّى الجمال ملك شغاف القلب وقهر العاشق، وخلق فی نفسه هیبة ورهبة ووجلا. فالإنسان العاشق دائماً بین خوف ورجاء یعتوران فی قلبه فیزداد اندفاعاً نحو طلب رضا المعشوق وتحقیق المُثُل التی یطلبها المعشوق.
وفی الأدب العرفانی الفارسی یشبّهون صباحة وجه الحبیب بتجلّی الجمال، ویشبهون ذؤابة شعر المعشوق على صدغیه وسحر عیونه النجلاء بتجلّی الجمال. یقول الشاعر:
تجلّى كَه جمال وكَه جلال است
رخ وزلف أن معانی امثال است
ومما لاشك فیه أن صباحة وجه الحبیب لا تكتمل إلاّ بعقارب الصدغین وسحر العینین، وهكذا الجمال لا یكتمل إلا بهذا السحر الذی یصرع ذا اللب حتى لا حراك له.
وبمناسبة قول ابن عربی بأن الله "جمیل ذو جلال، فأوجدنا على هَیبة وأنس، فعبّر عن هاتین الضفتین بالیدین" أقول إن الإمام الخمینی یتحدث عن هذه الید فی أشعاره بأنها الید اللطیفة معبراً عن الجلال بالید باعتبارها رمز القدرة، وعن الجمال باللطیفة. یقول:
باده ازدست لطیف تودراین فصل بهار
جان فزاید، كن در این فصل بهار أمده ام
لماذا ینشد الإنسان الجمال؟
عن هذا السؤال كثرت الأجوبة فی المدارس الفلسفیة، غیر أن ابن عربی ینقل عن رسول الله (ص) حدیثاً له دلالته البالغة فی التعبیر عن النظریة الجمالیة لدى هذا العارف، وفی الإجابة عن السؤال المذكور.
فی الفتوحات (ج4، ص369) یروى عن صحیح مسلم قوله (ص): "إن الله جمیل یحب الجمال"
فالله جمیل وهذا كاف لیعبّر عن سبب اتجاه الإنسان نحو الجمال، وهكذا نحو كل صفات جلال الله وجماله كالعلم، والقدرة، والسعة، والغنى، والكرم، والانتقام من الظالمین، ونصرة المظلومین، والقهر، والغلبة و...
فالإنسان مخلوق بفطرته لكی یكدح كدحاً نحو الله لیلاقیه، والكدح نحو الله لیس قطع مسافة مكانیة، بل قطع أشواط على طریق التخلق بأخلاق الله. هذه هی فطرته التی فُطِر علیها، إنه یتجه بفطرته نحو المثل الأعلى، فإن كان مؤمناً بالله الواحد الأحد اتجه نحو المثل الأعلى الحقیقی الذی خلق الإنسان ورسم له طریق تكامله اللامتناهی، وإن كان كافراً اتجه أیضاً نحو مثل أعلى، ولكن نحو مثل أعلى سرابی:
مثل الذین كفروا ...
الإمام الخمینی فی شعره العرفانی یعبّر عن هذه الحقیقة.. حقیقة أن الإنسان مخلوق وهو عاشق هائم فی طلب المعشوق بقوله:
مازاده عشقیم ویسر خوانده جامیم
درست وجابنازی دلدار تمامیم
5- العرفان والغزل
الغزل إظهار الشوق إلى المحبوب، والحدیث عن لوعة فراقه، وذكر أوصاف جلاله وجماله، وإذا تحدّد هذا المحبوب بامرأة معینة فإن هذه المرأة هی الوسیلة التی ینتقل منها المتغزل من النسبی إلى المطلق، وهی النافذة التی یطلّ منها الغزلیّ إلى عالم الجمال المطلق.
مما تقدم لا نرى الوصف الحسّی للمرأة وذكر العلاقة الجنسیة بها من الغزل، لأنه یتعارض مع روح الغزل التی ترید أن ترفع الشاعر إلى عالم الجمال المطلق.
والواقع أن كل شاعر عاشق، وكل عاشق عارف، ولو جفّ العشق لجفّت روح الشعر والعرفان أیضاً فی نفس الإنسان. ولانطفأت النار الملتهبة فی صدره.
یقول العطار فی منطق الطیر/ ص186- 187 بعد أن یسمى العشق الوادی الثانی من الأودیة السبعة:
بعد از أن، وادیّ عشق آید یدید
غرق اتش شد كبی كه أنجار سید
عاشق أن باشد كه جون أتش بود
كرمْرو، سوزنده وسركش بود..
عقل درسوداه عشق استادنیست
عشق، كار عقل مادرزادنیست
عشق اینجا أتش است وعقل دود
عشق جون أمد كَر یزد عقل زود
أی: إن وادی العشق یغرق العاشق فی النار، غیر أن العاشق الحقیقی كالنار ساخن وحارق وطاغ.. والعقل لیس بحاكم فی دنیا العشق، فوظیفة العشق غیر مهمة العقل، فالعشق نار والعقل دخان، وإن شبت النار زال الدخان، وإن جاء العشق فرّ العقل بسرعة.
وفی الأبیات حدیث عن العلاقة بین الشعور والعقل لا مجال لذكره فی هذا الحدیث.
وابن عربی ممن عاش فی وادی العشق، وتحدث عنه فی غزل عبّر فیه عن جلال المحبوب وجماله.
وهنا أشیر إلى أن غزل ابن عربی لم یكن فی الله مباشرة وإنما كان فی امرأة، أمرأة عاشت حیاة حقیقیة أو خیالیة، ولا فرق بین الاثنتین، المهم أنهما ملكتا قلبه، وأثارتا فی نفسه الشوق إلى الجمال المطلق.
ومن الطریف أن تكون المرأة الأولى إیرانیة أصفهانیة وهی التی نظم فیها أشواقه وأحسن قلائده یقول:
"لما نزلت بمكة سنة خمسمائة وثمان وتسعین، ألفیت جماعة من الفضلاء، ولم أرَ فیهم مع فضلهم مثل أبی شجاع بن رُستَم الأصفهانی، وكان لهذا الشیخ بنت تقید النظر وتزین المحاضر، علمُها عَمَلُها، علیها مسحةُ مَلَك وهمّة مَلِك، فقلدناها من نظمنا فی هذا الكتاب أحسن القلائد، فكل اسم أذكره فی هذا الجزء فعنها یكنی، ولم أزل فیما نظمته، فی ذا الجزء على الإیماء إلى الواردات للإلهیة، والتنزلات الروحیة، والمناسبات العلویة، جریا على طریقتنا المُثلى، والله یعصم قارئ هذا الدیوان مَنْ سبقَ خاطرُه إلى ما لا یلیق بالنفوس الأبیة والهمم العلیة المتعلقة بالأمور السماویة.."
هی بنت العراق بنت إمامی *** وأنا ضدَّها سلیلُ یمانی
هل رأیتم یا سادتی أو سمعتم *** أنّ ضدین قطّ یجتمعانِ
لو ترانا برامةٍ نتعاطى *** أكؤساً للهوى بغیر بَنانِ
والهوى بیننا یسوق حدیثاً *** طیباً مطرباً بغیر لسانِ
لرأیتم ما یذهبُ العقلُ فیه *** یمنٌ والعراق مقتنعانِ
كذب الشاعر الذی قال قبلی *** وبأحجار عقله قد رمانی
أیها المنكح الثریّا سهیلا *** عَمْرَكَ الله كیف یلتقیان
هی شامیة إذا ما استهلّت *** وسهیل إذا استهلَ یمانی
مرضی من مریضة الأجفان *** علّانی بذكرها علّانی
هَفَت الوُرق بالریاض وناحت *** شجْوُ هذا الحَمام مما شجانی
بأبی طفلةٌ لعوب تَهادى *** من بناتِ للخدرِ بین الغوانی
طلعت فی العِیان شمسا فلما *** أفلت أشرقت بأفقِ جنانی
یا طلولاً برامةٍ دارساتٍ *** كم رأت من كواعبٍ وحسانِ
بأبی ثم بی غزالٌ ربیب *** یرتعی بین أضلعی فی أمانِ
ما علیه من نارها فهی نور *** هكذا النور مُخمِدُ النیرانِ
یا خلیلیَّ عرّجا بعَیانی *** لأرى رسم دارها بِعیانی
فإذا ما بلغتما الدار حُطّا *** وبها صاحبیَّ فلتبكیانی
وقفا بی على الطلول قلیلا *** نتباكى، بل أبْكِ مما دهانی
الهوى راشقی بغیر سهام *** الهوى قاتلی بغیر سنانِ
عرّ فانی إذا بكیت لدیها *** تُسعدانی على البُكا تُسعدانی
واذكروا لی حدیث هندٍ ولبنى *** وسلیمى وزینبٍ وعِنانِ
ثم زیدا من خاجر وزرود *** خبراً عن مراتع الغِزلانِ
واندبانی بشعر قیس ولیلى *** وبَمیٍّ والمبتلى غیلانِ
طال شوقی لطفلة ذات نثرٍ *** ونظامٍ ومنبرٍ وبیانِ
من بنات الملوك من دار فُرسٍ *** من أجلِّ البلادِ من إصبهان
كنت أطوف ذات لیلة بالبیت فطاب وقتی، وهزّنی حال كنت أعرفه، فخرجت من البلاط من أجل الناس، وطفت على الرسل، فحضرتنی أبیات، فأنشدتها أُسمِع بها نفسی ومن یلینی لو كان هناك أحد، فقلت:
لیت شعری هل دروا *** أیّ قلب ملكوا
وفؤادی لو دوى *** أیّ شِعب سلكوا
أتراهم سلموا *** أم تراهم هلكوا
حار أرباب الهوى *** فی الهوى وارتبكوا

فلم أشعر إلاّ بضربة بین كتفیّ بید ألین من الخزّ، فالتفت فإذا بجاریة من بنات الروم لم أرَ أحسن وجهاً ولا أعذب منطقاً، ولا أرقّ حاشیة، ولا ألطف معنى، ولا أدق إشارة، ولا أظرف محاورة منها، قد فاقت أهل زمانها ظرفاً وأدباً وجمالاً ومعرفة" ثم تبدأ هذه الجاریة تستنشده الأبیات.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:9|
لوركا قتیل اسبانیا المرتحل فی شعر السیاب والبیاتی ودرویش (2-2) - قصائد لمدن مسحورة تشهد علی مصرع شاعر - د. عدنان الظاهر
فیدیریكو غارسیا لوركا شاعر إسبانی متمیز قتله الحرس الأسود الفاشی عام 1936 وهو فی الثامنة والثلاثین من عمره فی غرناطة آوائل الحرب الأهلیة (1936 ــ 1939) التی قاد الثورة المضادة فیها الجنرال فرانكو إذ نجح فی عبور مضیق جبل طارق من جهة المغرب یقود أربع فرق عسكریة وكان یقول لدیَّ هناك داخل إسبانیا طابور خامس. من فرانكو جاء هذا المصطلح الذی أصبح شهیراً فی عالمی السیاسة والحرب.كان لوركا محسوباً علی الیسار السیاسی وكان معادیاً للدكتاتوریة. أشهر أعماله مسرحیة (عُرُس الدم). تمیّز بطریقة جدیدة فی كتابة الشعر تمتزج فیها رمزیة وسوریالیة شعراء عشرینیات القرن الماضی الفرنسیین المعروفین مع أسلوب كتابة الحكایات التراثیة الشعبیة الأندلسیة.كما كان له هوی خاصاً بتراث وأغانی غجر الأندلس. الفارس وغریمه
فی المقطع الرابع ینسی البیاتی غرناطة المدینة المسحورة فینصرف مأخوذاً إلی وصف واحدٍ من مشاهد مصارعة الثیران المعروفة فی إسبانیا. لقد سبق وأن مهّد الشاعر لذلك فی المقطع الأول، فلقد ذكر أنكیدو قاتل الثور السماوی. فی هذا المقطع نری أنكیدو لا جسداً بارداً طریح فراش الموت بل إنساناً معدّاً إعداداً جیداً لمصارعة الثیران. لكن مع فارق جدَّ كبیر: یطعن الفارسُ غریمَه البهیمة طعنةً غیر قتّالة، لكنه هو، الفارس أنكیدو، من یخسر المبارزة فی نهایة المطاف إذ یسقط قتیلاً مضرجاً بدمائه الساخنة. الثور یخور جریحاً فی الساحة وسط تهریج جمهور المتفرجین. هل سقط الثور كالفارس المصارع قتیلاً؟ السطر الأخیر فی هذا المقطع لا یفصح عن ذلك صراحةً (والثورُ فی الساحةِ مطعوناً بأعلی صوتهِ یخور). فالفعل یخور قد یعنی الخوَر (تخورقواه فیسقط علی الأرض حیّاً لكنْ منهوك القوی أو أن یسقط میتاً) وقد یعنی الخُوار (خوار الثور، مثل عواء الكلب ومواء القطط...). فی وسط هذا المقطع نقرأ (فمانِ أحمرانِ فاغرانْ) وهی إشارة واضحة تدل علی سقوط كلٍّ من الفارس والثور الخصم قتلی.
هل یجوز لی أن أُطلق علی هذا المقطع إسم (مشهد مصارعة الثیران)؟ وهل یجوز لی أنْ أقترح حذف هذا المقطع من مجمل القصیدة المكرّسة أصلاً للشاعر الفذ لوركا؟ أُرجّحُ بقاء المقطع كما هو، فلوركا إبن إسبانیا وإسبانیا أرض مصارعة الثیران العنیفة التی تسیل فیها دماء الثیران أو الفرسان أو كلیهما أحیاناً. أراد البیاتی أن یقولَ إن بلداً كهذا وإن أرضاً كهذه وإنَّ شعباً كهذا مُهیأةٌ بطبیعتها لوقوع كارثة إنقلاب الردة الدمویة التی وقعت عام 1936 وكان من أبرز ضحایاها الشاعر فیدیریكو غارسیا لوركا. اللوحة تمثّلُ خلفیةً ممتازة وتمهیداً لما وقع وكان البیاتی بحق بارعاً فی رسم صور مشهد مصارعة الثیران. یُخیل لی أن البیاتی أفاد كثیراً من رسوم لوحة الرسّام الإسبانی بیكاسو الشهیرة (غیورنیكا) التی خلّد فیها بالأسود والأبیض مأساة مدینة غیورنیكا التی دمرتها الطائرات الألمانیة خلال الحرب الأهلیة إیاها التی أشعل فرانكو فتیل حرائقها. لقد أعان بذلك هتلر قرینه الجنرال فرانكو. فی هذه اللوحة یقف ببرود ثور كبیر مثل ثیران المصارعة كأنه خرج لتوّهِ منتصراً وسط وضعٍ متوتر مشحون بأجواء الموت والخراب والدمار. سیف مكسور وأصابع مقطوعة ورؤوس مشوّهة وأم تحمل طفلاً تبحث عن الأمل والخلاص فی بصیص من ضوءِ مصباحٍ معلّق فوق الرؤوس. هل هذا الثور البارد الأعصاب هو الجنرال الدموی فرانكو بعینه؟ الثور الذی فاز بمعركة الصراع وخرج منتصراً علی شعب بأكمله بعد أن أغرقه بالدماء والموت والحرائق. أین مكان الشاعر لوركا فی هذه اللوحة؟ أین لوركا صاحب مسرحیة (عُرُس الدم)؟
إذا قتل الشاعر دیك الجن حبیبته وأحرق جثتها فی ساعة سكرٍ وجبل من رمادها كأساً
لشرابه فإن لوركا ما كان حبیباً ولا كان أثیراً لدی قاتله فرانكو كما هو معلوم.لم یُحرقْ جثمانُه ولا أحدَ یعرف أین تمَّ دفن جسده وتحت أیة تربةٍ فی غرناطة. إذن لا سبیلَ للمقارنة أو المقابلة بین الواقعتین. قصیدة (دیك الجن) جاءت فی الدیوان بعد مراثی لوركا مباشرةً.
مرّةً أخری، نواجه فلسفة البیاتی وإیمانه القوی الراسخ أنَّ بعض مظاهر الطبیعة ووقائع الحیاة تتكرر بهذا الشكل أو بذاك. النتیجة واحدة وإنْ تعددت وتنوّعت الوسائل والتفصیلات. فكما أنَّ عائشة تبقی عائشة، المرأة حواء وإبنة حواء بصرف النظر عمّا تقوم به من أدوار.كذلك الموت، یبقی موتاً مهما تعددت سبل تنفیذه، سواء جاء نتیجة طعنة سیف أو خنجر أو جاء نتیجةً لطعنةٍ بقرن خنزیرٍ أو ثور أو بإطلاقة حرسٍ فاشیٍّ أسود أو بشظیة قنبلة مدفع أو برصاصة عدو فی إحدی جبهات القتال أو أن یموتَ الإنسانُ حتف أنفه فی بیته علی سریر نومه أو علی سریر أحد المستشفیات. وعلیه فإنّ الموت هو سریر واحد یضطجع علیه مناصفةً كلٌّ من لوركا القتیل وعشیقة دیك الجن القتیلة.
أفلم یقل شاعر مجهول:
ومن لم یمتْ بالسیفِ مات بغیرهِ
تعددت الأسبابُ والموتُ واحدُ
وقال أبو الطیب المتنبی:
فطعمُ الموتِ فی أمرٍ حقیرٍ
كطعمِ الموتِ فی أمرٍ عظیمِ

یتكلم البیاتی فی المقطع الأخیر وهو السادس عن المدن التی أخلفت المدینة المسحورة غرناطة. إنه یضع المدن الأكثر سوءاً فی مقابل المدن الأكثر نقاءً وجمالاً. فمدرید أضحت عاصمة الدیكتاتور فرانكو بعد أن سقطت مدینة النور غرناطة. مدرید التی إنبطحت أمام جحافل الفاشیست أصبحت مدینة (الضرورة) التی تقرض الفئرانُ فیها الرجال الذین یتشوهون ویتلوثون لا محالةَ فی أوساخ مثل هذه المدن وبما أتی به الطوفان من أعراف
وتقالید لا تمتُّ بصلةٍ لأعراف وتقالید مدینة النور المسحورة. لقد قابل المدینة الرأسمالیة الجدیدة مدرید برمزٍ لمدینة وحضارةٍ كانت تسیر فی الطریق لبناء الإشتراكیة، وكان لوركا محسوباً علی الیسار الإشتراكی.
فی هذا المقطع یتلمس المرء خیوطاً ضعیفة متأثرة بما كتب الشاعر الإنجلیزی توماس إلیوت فی قصیدته الشهیرة (الأرض الخراب) The Waste Land.
درویش ولوركا
لوركا هو عنوان قصیدة محمود درویش، كلمة واحدة فقط، كلمة بسیطة. القصیدة تنتشرُ علی أربع صفحات صغیرة (نفس قیاس صفحات دیوان السیاب) جعل الشعر فیها علی شكل رباعیات ذكر فیها مدرید مرتین ولوركا ثلاث مرات وكذا ذكر إسبانیا ثلاث مرّاتٍ. وكسابقیه الشاعرین إلتزم درویش إیقاع التفعیلة ودرج مثلهما علی الوقوف علی القوافی وآواخر الأبیات أو السطور إلاّ فیما ندر من الحالات.
هل ظلمتُ الرجل إذ وضعته فی صف واحدٍ وعلی منصّة واحدة من حیث الإرتفاع عن مستوی الأرض مع السیابالسیاب والبیاتی شدیدَ الإعجاب بقصیدة محمود درویش. نعم، وبقیتُ كذلك بعد أن فرغت من دراسة هاتین القصیدتین. وجدته یتخذ لنفسه فی هذه القصیدة مكاناً لائقاً فی ذات الحافلة التی یستقلها مع السیاب والبیاتی. ولكی نتفهم قصیدته جیداً علینا أن نفهم أنَّ ظروفه وتكوینه وثقافته تختلف بشكل جوهری عن ظروف وتكوین وثقافة الشاعرین الآخرین. ما كان علیلاً ومنبوذاً ومحُارباً فی رزقه ولقمة أطفاله وقبیح الصورة كالسیاب الذی كان أشدهم معاناة وأكثرهم بؤساً فی حیاته القصیرة. ولا كان فقیراً مُدقِعاً شدید التلوّن السیاسی كالبیاتی الذی ذاق الحالین فی حیاته الطویلة: المُرَّ فی موسكو والحلو فی القاهرة ومدرید وعمّان ثم دمشق حیث یرقد جثمانه تحت ثراها.
تشرّدٍ وحرمان ومنافٍ
لقد رأی كلٌ منهم شیئاً من لوركا فی نفسه أو رأی شیئاً من نفسه فی لوركا. ثلاثتهم شعراء إنخرطوا بهذا الشكل أو ذاك فی العمل السیاسی وتحمّلوا جرّاء ذلك ما تحمّلوا من فصل من الوظائف وتشرّدٍ وحرمان ومنافٍ. لكن یظلُ درویش متمیزاً بأمور كثیرة أخری تباعد ما بینه وبینهما. فهو ربیب حیفا المُترف وشاعر فلسطین المبرِّز ومدلل الشعراء العرب والنخبة العربیة المثقفة، وهوالمناضل الثابت من أجل فلسطین سیاسةً وعقیدةً.لم ینقلبْ ولم یتلون ولم یتغیر كما فعل صاحباه. عانی ما عانی فی بیروت بعد الإجتیاح الإسرائیلی للبنان. ثم أصبح بعد ذلك أحد الوجوه البارزة فی منظمة التحریر الفلسطینیة وسفیراً لفلسطین فی باریس.كل هذه العوامل مجتمعةً تجعله مختلفاً عن صاحبیه فی أسلوب التعامل مع موضوع تراجیدی معقد كموضوع مصرع لوركا. لا یقل عن ذلك أهمیةً موضوع المرأة فی أشعاره. فبیئته المنفتحة فی حیفا وصداقاته المنوعة مع الجنس الناعم ثم إقامته الطویلة فی بیروت ثم سفارته فی باریس عاصمة الثورات والعطور والجمال والمتاحف والزهور والأناقة والترف الحضاری... كل هذه العوامل جعلت الشاعر دونما أدنی ریب مخلوقاً آخر یختلف جذریاً عن السیاب الذی كان یشكو أبداً من الحرمان الجنسی وحین تزوج قرینته أم غیلان لم یعرف إمرأة أخری سواها. وكذلك كان الأمر مع عبد الوهاب البیاتی، فقد قضّی أعوام شبابه الباكر وأعوام الدراسة فی دار المعلمین العالیة من دون أن یعرف طعم الحب أو الصداقة مع الجنس الآخر. فی شعره نجد إشاراتٍ كثیرة عن الحب لكنها مجرد نظم وتلفیق (وشطحات صوفیة) وبقایا أمانی سنیِّ المراهقة. وحین إقترن بإبنة عمه أم علی لم یعرف إمرأةً سواها علی الإطلاق. أردتُ أن أقول إنَّ روح وتربة وطینة محمود درویش ونشأته وبیئاته الرقیقة والناعمة والأرستقراطیة أحیاناً أعدّته لأن یكون شاعر رومانس وفتنة وجمال وغزل متمیزاً ومتفوقاً علی صاحبیه. هل من عجب حین نجد الشاعر یمزج هذه الأجواء المخملیة بألفاظ العنف والخروج عن (الأتیكیت) الدبلوماسی الذی تعلّمه فیما بعد فأتقنه فی باریس سفیراً لبلده فلسطین؟ نقرأ فی قصیدته ألفاظاً مثل الدم والزلزال والإعصار والریاح والزئیر وتطایر أحجار الشوارع والنظر الشزْر والأسیاف والجرح والإعدام. عاش وعایش درویش كارثة إحتلال فلسطین ومحنة شعبه تحت الإحتلال والتفرقة والتعسف. ترك أو أُجبرَ علی ترك وطنه لیجد نفسه بعد ذلك فی بیروت محاطاً بالدماء والخراب والقصف العشوائی والموت الیومی أثناء الإجتیاح الإسرائیلی عام 1982. هل كان الشاعر یتنبأ بما سیقع فی لبنان ساعات كتابته لهذه القصیدة فأفرغ فیها تفاصیل نبؤته وإختلط فیها الماضی الجمیل العریق بالمستقبل المظلم الأسود حیناً والأحمر دماً أحیانا؟ هذا ما حصل. نقرأ أغلبَ ما جاء فی قصیدة (لوركا) لمحمود درویش:
(عفوَ زهرِ الدم یا لوركا وشمسٌ فی یدیكْ
وصلیبٌ یرتدی نارَ قصیدةْ
أجملُ الفرسانِ فی اللیلِ یحجّون إلیكْ
بشهیدٍ وشهیدةْ.
هكذا الشاعرُ زلزالٌ وإعصارُ میاهْ
وریاحٌ إنْ زأرْ
یهمسُ الشارع للشارعِ قد مرّت خطاهْ
فتطایرْ یا حجرْ.
القصیدة واضحة تفصح بتواضع جمٍّ عن مضامینها. إنها خالیة من بُنی السیاب الفكریة المعقدة والتجرید والتضمین والتقدیم والتأخیر وشراع كولومبس. ولا نجد فیها إستطرادات البیاتی وخلطه الأوراق المحكم وتهویماته الصوفیة وإفراطه فی الرمز والرجوع إلی التأریخ القدیم سائحاً وبحاراً ممتازاً. لیس فیها أنكیدو وعشتار وعائشة وأمیرات بابل وصور مصارعة الثیران وقائمة الحیوانات الطویلة. لا شیءَ من ذلك فیها. إنها أُغنیة تصدح بالنغم والإیقاعات التی تدخل النفس بسهولة وعفویة. یتكلم عن شاعر قتیل من خلال أجواء دینیة مسیحیة (الصلیب) والتراتیل ثم یذكر الإله والموسیقی والحج والشهادة والصلاة والأقمار. أجواء وطقوس كنسیة معروفة فی البلدان المسیحیة وكان لوركا مسیحیاً فی إسبانیا الكاثولیكیة.لقد قاد فرانكو إنقلاب الردة الأسود بدعوی إنقاذ المسیحیة الكاثولیكیة من الإلحاد.
والبیاتی لأقارن بین ما قال هو وما قال الشاعران الآخران حول موضوع واحد؟ الجواب كلاّ. الغریب ــ وما أكثر الغرائب فی الحیاة ــ إنی كنت قبل أن أدرس قصیدتی الفرسان والقمر
ثم لا ینسی درویش وقد ذكر الموسیقی والتراتیل أن یذكر آلة العزف الإسبانیة المشهورة (الجیتار) والغجر الذین یستخدمون هذه الآلة فی غنائهم المرافق لرقصة (الفلامنكو) الأندلسیة ذائعة الصیت. ثم تعود عروق محمود بالضرب علی أوتار روحه وطبیعته الرومانسیة فیذكر أجمل الفرسان والقمر ــ العُش والحسناء وحدیث الحب وأجمل الفتیان وعطر زهر البرتقال.لم نجد هذه الأجواء الفارهة فی قصیدة السیاب لكن قد نجد القلیل القلیل جداً جداً منها فی قصیدة البیاتی. أحسبُ أنَّ المحاكمة الأكثر عدلاً هی فی مقارنة هذه القصیدة بالذات مع أشعار نزار قبانی التی قالها عن إسبانیا والأندلس وغرناطة وقصر الحمراء وهی كثیرة فی دواوین نزار. لیس لدی شك فی أنَّ درویش قد درس جیداً وإستوعب أشعار نزار هذه وتمثلها وهضمها فتأثر بها عمیقاً قبل أن یجلس لیكتب قصیدة (لوركا). الرجل لا ینكر تأثره بباقی الشعراء، وتلكم فضیلة یُحمد علیها.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:8|
یقول أدونیس : "الشعر رؤیا بفعل ،و الثورة فعل برؤیا "ومن هنا فهو یوضح الجدل بین الشعر و الثورة و ما فی الشعر من شوق إلى الحیاة المتحركة المتصاعدة ،و ما فی الثورة من نار الإلهام الشعری ،ومن هذا المنطلق تبرز أهمیة بدر شاكر السیاب كواحد من أبرز أعلام الحركة الشعریة المعاصرة بوجهها الثوری ،و هنا تنزل قصیدته "أنشودة المطر "من مجموعته التی تضم أشهر قصائده ، و التی ألفها فی فترة كان وضع العراق متأزما على جمیع الأصعدة ،
إثر استقالة رئیس الوزراء فاضل الجمالی و فشله فی الإصلاحات الزراعیة والاجتماعیة و قد زاد شقاء الشعب حدته
فیضان دجلة الذی هدد بغداد فی ربیع 1954 م ، و آلم السیاب أن یرى مثل هذا الشقاء فی بلاده و تذكر أیام ضیاعه و تشرده فی الكویت و فقره وهو بعید عن العراق ، فاضطرم الحنین فی أعماقه إلى ربوع بلاده و إذا بقصیدة تتولد عن قریحته ، تختلف عن قصائده هی أنشودة المطر ، نشرها فی مجلة الآداب جوان 1954م و نشرت سنة 1960م ضمن المجموعة ، جاء فی مقدمتها كلمة للسیاب یقول فیها :"إنها من وحی أیام الضیاع فی الكویت على الخلیج العربی " .
إن أنشودة المطر ، تندرج ضمن النصوص التی تنتمی إلى الحقل الوجدانی ، و فیها عمق المعانی الوطنیة بربطه بین الحبیبة و الوطن ، كما صورت تداعیات السیاب المستوحاة من ذاكرة الحب و الطفولة و من ذكریات الغربة و النضال .
بنیت قصیدة أنشودة المطر على مجموعة من الحركات المتداخلة ، ینبنی هیكلها الخارجی على تسع مقطوعات ،
و ینبنی هیكلها الداخلی على ثلاث علاقات : علاقة الشاعر بالحبیبة ثم علاقة الشاعر بالأم ،و أخیرا علاقة الشاعر بالوطن ، و تدور القصیدة حول محور واضح تدور حوله كل المعانی ،وهو كلمة مطر عنصر موحد لكل الحركات المتداخلة فی نسیج النص ، یربط بین الحبیبة التی یخصبها المطر و بین الأم التی استحالت إلى عنصر من عناصر الطبیعة
و بین الوطن العراق الذی تحوله إلى خصوبة .
إن كلمة مطر منبع حركة مسترسلة تنبض منها المعانی و تنمو و منها ینسج الشاعر أحاسیسه و یتواصل فی الزمان .
و كلمة مطر طاقة صوتیة توزعت توزیعا متنوعا و بأشكال مختلفة ، بصورة مثلثة الإیقاع تردد ست مرات كلازمة كبرى ، و بصورة ثنائیة تردد مرتین كلازمة متوسطة تردد خمسا و ثلاثین مرة و بصورة مفردة الإیقاع تردد ثلاث عشرة مرة كلازمة صغرى .
فالشاعر أحدث تنویعات على كلمة مطر و قد أضفى هذا التردید على القصیدة جوا طقوسیا أو قداسیا یوحی بابتهالات الشاعر فی حضرة أنثى ،و هنا تكشف كلمة مطر دلالتها الرمزیة ، أبرزه النقاد و ربطوه بتموز و بعشتار رمز الخصب عند الكلدانیین ،و نلاحظ ارتفاع الشاعر بدلالة الماء لم یبق فی مفهومه الضیق كعنصر من عناصر الطبیعة بل جعله عبارة ذات طاقة سحریة تعطی دفقها الشعری فی القصیدة .
و بدخول كلمة مطر فی شبكة من العلاقات مع بقیة المفردات اكتسبت إمكانات متعددة من الدلالات تتظافر جمیعا لتوحی بمفهوم الثورة ، كما جاءت هذه الكلمة على لسان الأطفال و على لسان الصیاد و على لسان المهاجرین و فی صوت الرحى و على لسان الشاعر و فی ترجیع الصدى ، والمطر فعل تغییر فی الطبیعة و فی النفس .
تنفتح القصیدة بمطلع غزلی یحدد فیه الشاعر عنصر الزمن ، وقت السحر ، زمن فاصل بین الموت والحیاة بین الظلام و النور ، زمن التردد بین منزلتین الأمل و الیأس ، حالة من القلق و التوتر .

موضوع الغزل فی هذه القصیدة عینا الحبیبة حشد فیهما الشاعر الطبیعة بزمانها و بمكانها یأشجارها و بعمرانها ،
بلیلها و بنهارها ، خرج فیهما عن صورة العینین التقلیدیة إلى صورة أكثر طرافة تلتحم فیها الحبیبة بالطبیعة ،
و بهذا یعلن المطلع عن طابع القصیدة الوجدانی ، و تبدأ الحركة بالعینین فتنشأ ساكنة سكونا كلیا ساعة المیلاد،
ثم تتصاعد حركتها باتجاه العناصر الطبیعیة فتشهد تحولات كثیرة ( تورق الكروم . ترقص الأضواء. تنبض النجوم )
و یأتی الخطاب الشعری دفقا من المعانی ،و حشدا من الصور تتنامی شیئا فشیئا ، وتتولد صورة العینین : غایتا نخیل ساعة السحر ، صورة رومنسیة توحی بالهدوء و السكینة ، والصورة الثانیة لشرفتین ینأى عنهما القمر ، صورة توحی بحركة الفعل تنأى و بمفهوم البعد فی القصائد التقلیدیة و لكن التعبیر عنه جاء بأسلوب جدید اعتمد على الإیحاء .
و صورة ثالثة ، تجلت فی ابتسام العینین ،ربطها الشاعر بحركة الطبیعة ، و كأن الحیاة مصدرها عینی الحبیبة ، كما یوحی فعل ابتسم بالسعادة التی تتحقق بفضل حركة العینین ، هذه الصور حسیة بصریة تساهم الحركة تدریجیا فی تشكیلها و نحتها .
و عناصر الطبیعة تتجمع فی العین على أساس اعتبار العین محل البصر و وسیلة الرؤیا و النفاذ إلى عناصر الوجود .
و عناصر الطبیعة تخص العراق ، غابات نخیل فتتطلع الرؤیا نحو الوطن الحبیب .
و ینطلق الخطاب فی القسم الأول من القصیدة فی اتجاه أول ،من الشاعر إ لى الحبیبة ، یصور فیه أثر الضباب فی نفسه ، معبرا عن حزنه بالبكاء ، ویعود بنا فعل " تستفیق " إلى ذاكرة الشاعر ،یصوغها فی شكل ومضات واقعیة
تمتزج بالمسار الغنائی الإنشادی ، وتسمه بنبرة واقعیة ، و تجعله یكشف عن المتناقضات .
و نتساءل عن المعنى الذی حمله الشاعر لإنشاد الأطفال للمطر ؟ و للإجابة نكتفی بالإشارة إلى أننا نستطیع أن
نأخذ كلمتی الأطفال و العصافیر فی معناهما الحقیقی و تظل الوحدة مع ذلك موحیة نتیجة الصورة التی ترسمها و ما تخلفه من أبعاد تخییلیة لكن الرمز یسحب على الكلمتین فتوحی الأولى بتجدد الحیاة ،و طفولة العالم البریء ،و تدل الثانیة على الحریة والانطلاق ، ومن هنا یتمكن الشاعر من استدراج السامع و یحمله فی رحلة ذهنیة ،داخل عالم الدلالات المتنوعة .
و نحن أمام هذا التركیب الإنشادی ،كأننا بالشاعر یقص علینا أنشودة الأناشید ، رابطا بین همومه والعالم الخارجی
و ینغلق القسم الأول باللازمة جعلها الشاعر على لسان الأطفال ،لأنه ربط بین واقعه و ماضیه و أسس التقابلیة بین حاضره الملیء بالقلق و الحزن ،و طفولته السعیدة مؤكدا حنینه إلى الماضی ، كما نلاحظ جملة من التداعیات
بین الشاعر و ذاته ،فیقع المزج بینه و طفولته و قدسیة المطر .
أما القسم الثانی فی القصیدة ،یتغیر فیه عنصر الزمن : " تثاءب المساء " ، زمن یؤدی به الشاعر معنى الحزن و یتدرج بنا عن طریق التداعی ، فیصلنا صوت الشاعر من أعماق الذكرى المنبثقة من طبقة الوعی السفلی ،و تحتل تداعیات الشاعر المنبثقة من ذاكرة الطفولة حیزا مهما فی سلسلة التداعیات و تصدر عنها أغلب الومضات الواقعیة النابعة من الماضی ، ویتقابل القسم الثانی مع القسم الأول ، فالطفولة فیه تنشد الفرح ، و فی الثانی یتكثف معنى الحزن عن طریق ذكرى الموت ، كما أن الذاكرة لا تبنی أحداثا منسقة فی الزمان حسب مسار منطقی ، إنما تصدر من مخزون الألم و الحرمان .

و فی هذا القسم ربط الشاعر بین الجو الممطر الموحی بالكآبة و بین كآبة الطفل الیتیم و عمق حزنه بسؤاله ، وهنا
یضمن الشاعر الخطاب الشعری مضمونا قصصیا : قصة یتمه واصطدامه بالموت ، كما صور الشاعر معاملة الكبار للصغار فی قضیة الموت فهم لا یصرحون بها و لو همسا ، و یضمن الشاعر قصة الصیاد الحزین الذی یلعن المیاه و المطر لیضیف مأساة جدیدة دون أن یصرح بها فنفهم أن المطر تحولت إلى مصدر شقاء بعد أن كانت مصدر سعادة
و یتدرج الشاعر فی رسم علامات الحزن فی الوجود ، فیبدؤها بحزن الطفولة المصدومة بالموت و یربطها بحزن الصیاد الشقی و بحزنه ، فتبدو معاناته المكثفة ، و تبرز صورة المطر المتناقضة و یتوجه الشاعر إلى كل الذوات و یصبح الخطاب مرثیة تكسبه لغة المراثی لونا قاتما ( دموع _ لحود _تنشج _المزاریب ) .
و یستعید الشاعر فی هذا القسم طیف الحبیبة ، یبوح لها بحزنه بسبب المطر ، و یستعید جملة من الأحداث كان فیها غریبا بعیدا عن وطنه ، یصوغها فی شكل ذكریات و فی نفس تفجعی و یتحول الخلیج إلى رمز یجسد فیه الشاعر معنى الغربة و الضیاع و یساهم الصدى فی تعمیق غربته صدى یرجعه الخلیج كالنشیج و یضاعف الاستفهام حزنه ،و یأتی خطاب الشاعر مترجرجا مثل الدموع یؤدیه كاف التشبیه :(كالدم المراق ، كالجیاع ، كالحب ، كالأطفال كالموتى ) ضرب من الاختناق أو ما یشبه الاحتضار .
فی القسم الثالث یتحول السیاب من ذاكرة الغریب اللاجئ إلى ذاكرة المناضل المقموع فی العراق ، ویوظف كلمة العراق توظیفا سیاسیا واضحا و یتدرج فی تعریة واقع وطنه و یحمل مدلول المطر معنى الثورة على القهر الاجتماعی و السیاسی ،و یربط بین المطر و بین جوع الفقراء الدائم و یتفاءل بالثورة التی تهب الحیاة لكل الناس .
و هنا یصور المأساة الجماعیة من خلال نشید المهاجرین ، نلمس عمق الفاجعة ، فالجوع دائم رغم خصوبة الأرض
و الرحى لا تطحن حبا بل تطحن الحجر ،و التمر الردیء و فی دورا نها تدعو إلى الثورة و تظهر مرة أخرى ثنائیة الحیاة والموت و تتحول تجربة الشاعر من بعدها الذاتی إلى بعد إنسانی أعمق ، لتعانق جرح الإنسان فی كل زمان و فی كل مكان ویصبح الخطاب الشعری احتجاجا على لسان المضطهدین للتعبیر عن تطلعاتهم ولتحقیق حیاة فضلى
و بلوغ إنسانیتهم كما لعبت الأصوات دورا هائلا فی التعبیر عن الثورة ، إذ خلقت جوا حماسیا مكثفا أداه صوت الرحى و نداء الشاعر و أصوات المهاجرین ،و زاد الشاعر هذا الواقع إیقاعا درامیا بتضمینه قصة الغریق المجسدة
لمأساة الإنسان و صراعه مع الطبیعة .
قصیدة أنشودة المطر ،جاءت فی شكل ابتهال ، مزج فیها الشاعر بین الغنائیة الحالمة و بین الواقعیة الحادة ، و جاء فیها الرمز على جملة من الثنائیات منها : الحیاة و الموت _الذات و الموضوع _الجفاف و الخصب _الظلام و النور _الحزن والفرح . و یبرز صوت الشاعر مبتهلا فی حضرة عشتار الهة الخصب و العطاء ، ربة الطبیعة والحیاة المتجددة و التی تستمد صفاتها من عناصر الطبیعة . كما لعب الرمز دور الرابط الأساسی لجمیع العلاقات ، فتبنى
الحركة من الأنثى رمز الطبیعة إلى الأم و من الأم إلى العراق إلى الخلیج ، إلى المطر ، حلقة دائریة تمثل دورة الحیاة .
و نهض الرمز بوظیفة أخرى هامة فی كسر خط الغنائیة الرومنسیة الحالمة و خلق حركة انفعالیة توحی بنغم تفجعی
یبرز عمق المفارقات المتجذرة فی عمق الوجود المجسدة للصراع الإنسانی فی جل مظاهره .
إن الرمز فی قصیدة أنشودة المطر ،كسر هندسة القصیدة التقلیدیة ، و جعل بنیتها تجمع بین الشعر والغناء و القصة
و الخطاب الباطنی و تستقطب موضوعات متعددة یتداخل فیها الذاتی بالموضوعی و تنفصل عما یسمى فی النقد
بالغرض و تجعل الحیاة بكل مفارقاتها غرضها الرئیسی .
و نلاحظ حركة التداعیات التی تصلنا عبر صوت الشاعر الذی یحملنا من الحاضر إلى الماضی ثم یربط الحاضر بالمستقبل ، ثم یتحرك صوته من الغور إلى السطح و من الذات إلى الواقع الخارجی و تفصح ذاكرة الشاعر عن مخزونها فی شكل ومضات واضحة ، تنبثق من ذاكرة الطفل و من ذاكرة الغریب اللاجئ و من ذاكرة المناضل المقموع ،و هذه التداعیات بمثابة الأساس الذی تتكئ علیه القصیدة و قد ظهرت فی شكل صور تتوالد فصار
النص تراكما من الصور ، أولها صور تنبنی على التشبیه وهی طریقة تحصر الصورة فی مجرد وظیفة الوصف
أما الصور التی بناها الشاعر على الطباق فقد استطاعت أن تبرز المفارقة الكامنة فی عمق الحیاة .
و یبدو التناغم بین الصورة و الموسیقى الداخلیة ، فنلاحظ كثرة الأصوات المتضمنة لحرف الشین ، المؤدیة لوشوشة صوت المطر ، و بعض الصور أداها الشاعر بأسلوب الجناس و الطباق و الوسائل البلاغیة القدیمة و بهذا التلوین من التصویر ، تخرج قصیدة أنشودة المطر عن التصنیف الكلاسیكی إذ الصورة فیها وحدة بنائیة محوریة توحی بالأفكار و تلح علیها، وارتكز إیقاع القصیدة الداخلی على أسلوب التعاود وهو أهم عواملها فقد تكررت كلمة : مطر : 35 مرة و كلمة خلیج : 7 مرات ،و كلمة الردى :5 مرات و كلمة العراق : 5 مرات . و تكرار جملة ( یاواهب … ) و ( فی كل قطرة مطر ) و تكرار اللازمتین الأولى تختص بالمدى و الثانیة تتعلق بالمطر و عموما فإن طابع العبارة یغلب علیها طابع الماء : (نهر .مجداف .یغرق . بحر .سحاب . غیوم .مطر . قطرة خلیج .. الخ ).
إن ما یمكن الإشارة إلیه أن إثراء القصیدة بالبناء القصصی الدرامی بلغ أقصاه فی أنشودة المطر ،وقد ألغت رومنسیة الماضی بشكل غیر واضح و رسمت الخطوط الكبرى للقصیدة العربیة المعاصرة مجسدة قلق البحث
و التجدید فی أفق مستقبلها .
و لعلنا نتساءل عن توظیف بدر شاكر السیاب للأسطورة فی هذه القصیدة ، وللإجابة لابد من الإشارة أن قصائده السابقة لم تكن الأسطورة فیها دائما قادرة على الالتحام العضوی لما جاء فیها من ثقل فی التوظیف و لما كانت الألغاز فیها واردة لتضلیل الرقابة ، ولكنه فی قصیدة "أنشودة المطر "،أم دیوانه المسمى بها ابتكر فیها رمزا خاصا
به هو "المطر "، جعله یلف النص و یتغلغل فی جسده ، له شحنة دلالیة ثریة وهو العمود الذی انطلاقا منه تتفرع القصیدة فی اتجاهین ، اتجاه اسطوری واتجاه واقعی .
كما نسجل كیف تناول السیاب موضوع الخصب فی الطبیعة فقد وثب به وثبة عبقریة و حمل المطر رمز الثورة الاجتماعیة التی یرید أن تتفجر فی العراق ،و كیف جسد بإیقاع صوت المطر صورة درامیة فی المفارقات بین الخیر
و الشر و المجاعة و الاخضرار ، لقد جعل السیاب كلمة مطر رمزا أفرغ فیه معاناته و رؤیاه .
إن الأبعاد الأسطوریة فی القصیدة أهم مفاتیح فضاء المعنى و الالمام بأسطورة الخصب الأساسیة ، أسطورة أدونیس و عشتروت ، فضاء دلالی تتجدد منه دورة الحیاة ، و تنبع منه جل العلاقات : علاقة الابن بأمه _علاقة الأنثى بالطبیعة _علاقة الفصول بالموت و المیلاد _علاقة الصیاد بالماء _علاقة الغریق باللؤلؤ _ علاقة الماء بالماء فی دورته _علاقة الذكر بالأنثى علاقة الوطن بالأرض الأم عشتروت _علاقة الشاعر بالمجتمع _
إن الأسطورة عالم لخلق فضاء الصورة و البنیة الأسطوریة عمارة تشكل عروق الواقع و أنسجته .و أنشودة المطر رمز الأمل و الانتصار على القمع و البوار ،و الأسطورة فیها عالم لخلق فضاء الصورة و بنیتها عمارة تشكل عروق الواقع و أنسجته و جمع حقلها الدلالی تجربة السیاب السیاسیة و الاجتماعیة و الذاتیة و الرؤیا الشعریة التحدیثیة
ورغم ما فیها من أصداء شعر ألیوت و من أساطیر الخصب البابلیة و الكنعانیة بشكل عام تبقى إنجازا باهرا من إنجازات الشعر العربی فی الخمسینات .

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:8|
دلائل الاحتباس الشعری فی القرن الثانی الهجری



یحمل التاریخ فوق ظهره كتبا جمة، یطوی بعض سجلاتها تارة ویترك أخرى مفتوحة تارة أخرى، بعضها مدونة بأحبار سود مطرزة على جلد ذی نفس غیر عاقلة تحكی فترة رخاء وأخرى حبّرتها النصول بالقانی من الدماء على جلد ذی نفس عاقلة، وشكلت السیاط فی بعضها خطوط الصفحات یكتب فوقها الجلاد ما یرید، تحكی فترة شدة وعناء. وتاریخ المسلمین تقلب بین هذین النوعین من الجلود، ومالت الكفة إلى جلود البشر، فشهدت المجتمعات المسلمة على مدى أربعة عشر قرنا سماءأ صافیة فی بعضها وفی أكثرها تلبدت بالحالك من الغیوم تمطر عذابات.

ومثلَ القرن الثانی الهجری علامة فارقة فی تاریخ المسلمین، حیث شهد الثلث الأول منه تنازع روح الدولة الأمویة إلى الترقوة صاحبتها عملیات قمع شدیدة للثورات والانتفاضات حتى خرجت، وانهار جسد الدولة الأمویة لتحل الروح فی جسد الدولة العباسیة مؤذنة بعهد جدید ومعلنة عودة الحكم إلى الفرع العباسی من قریش، بدلا من علویّها، وكما قام الحكم الأموی على الدم لمدة قرن من الزمان ابتدأ الحكم العباسی بالدم.

هذه التحولات الكبیرة فی تاریخ المسلمین، كان للشعراء حضورهم فی تسجیل وقائعها وتضمینها فی صدور قصائدهم وأعجازها، وبخاصة ما یتعلق بالنهضة الحسینیة التی كانت تغذی حركات المعارضة، أعمل الدكتور الشیخ محمد صادق محمد الكرباسی جهده وسجلها فی كتابه "دیوان القرن الثانی" قسم "الحسین فی الشعر العربی القریض" من سلسلة دائرة المعارف الحسینیة، الذی صدر عن المركز الحسینی للدراسات فی لندن، فی 396 صفحة من القطع الوزیری، والذی غطى الفترة الزمنیة (24/7/719م) حتى (29/7/816م).

الإحتباس الشعری

ولكن رغم التحولات الكبیرة والخطیرة التی شهدها المسلمون فی القرن الثانی، وبخاصة قبل وبعد سقوط الأمویین فی العام 132 هـ، فان الشعر العربی الخاص بالنهضة الحسینیة، تقلصت مساحته، ویعزو المؤلف ذلك إلى شدة البطش الذی كان یمارسه النظام الأموی، صحیح إن عهد عمر بن عبد العزیز (101 هـ) شهد رفع سب الإمام علی وأهل بیته (ع) ولعنه من على المنابر، ولكن هذه الفترة استمرت ثلاثین شهرا فقط، وعاد الظلم من جدید على شیعة أهل البیت (ع) بصورة أشد، ولما كان الشعراء یمثلون الطبقة الواعیة من المجتمع فمن باب أولى أن یكون الظلم الواقع علیهم أشد قسوة، ولهذا فان الموالین من الشعراء انكفأوا على أنفسهم أو إنهم تعرضوا للتهمیش، وهاجر بعضهم أو هجّر وأُبعد، وضاعت عدد غیر قلیل من المقطوعات فی زحمة الظلم والمطاردة، كما كان العهد الأموی یمارس الدس والدجل من جانب ومن جانب آخر یشتری الذمم لإنتاج الأحادیث الكاذبة أو القصائد المضادة لفضائل أهل البیت (ع)، ولذلك اقتصر الشعر الحسینی على الولائیین لأهل بیت النبی (ص) وكان هذا واحد من أسباب انحسار رقعة الشعر الحسینی، واحتباس حرارته فی صدور الموالین، ولعل أبو الفرج الأصفهانی (ت 356 هـ) خیر من یعبّر عن هذه الظاهرة الأدبیة بقوله: "وقد رثى الحسین بن علی صلوات الله علیه جماعة من متأخری الشعراء أستغنی عن ذكرهم فی هذا الموضوع كراهیة الإطالة، وأما من تقدم فما وقع إلینا شیء رثی به، وكانت الشعراء لا تقدم على ذلك مخافة من بنی أمیة وخشیة منهم".

ولم یختلف الحال بعد زوال العهد الأموی، فالظلم الواقع على شیعة أهل البیت (ع) ازدادت وطأته، وبخاصة بعد أن توسد العباسیون الحكم واقتعدوا نمارقه، مع إنهم دخلوا قصر الرئاسة من بوابة الثأر لدماء الإمام الحسین (ع) والرضا من أهل البیت (ع)، فعلى سبیل المثال وصل الأمر بهارون العباسی (ت 193 هـ) أن طلب من وزیره الفضل بن الربیع (ت 208 هـ)، بنبش قبر الشاعر منصور بن سلمة النمری (ت 190 هـ)، حتى یستخرج جثته ویحرقها، لان هارون تناهى إلى سمعه أبیاتا للنمری فی رثاء الإمام الحسین (ع)، أزعجته كثیرا، كان مطلعها:

شاء من الناس راتع هامل … یعللون النفوس بالباطلْ

وفار تنور غضبه عند البیت:

ألا مساعیر یغضبون لها … بسِلّة البِیض والقنا الذابلْ

وقد بلغ الظلم الزبى، وضیقوا الدائرة على أئمة أهل البیت (ع) بین سجن وقتل وسمّ، حتى قال الشاعر:

والله ما فعلت أمیة فیهم… معشار ما فعلت بنو العباس

ولكن البیت وان كان یقدم صورة للواقع الذی كان علیه أبناء الرسول (ص) فی العهد العباسی، لكن العهد الأموی أسس لهذا العدوان بقتله الإمام الحسین (ع) ولذلك صدق القول "لا یوم كیومك یا أبا عبد الله الحسین". وبشكل عام فان طبقات الشعراء فی القرن الثانی الهجری یحصرهم المحقق الكرباسی فی أربع: طبقة موالیة للحكم، وثانیة موالیة للرسول (ص) وأهل بیته (ع)، وثالثة مستقلة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وقفت على أعراف الحیاة، ورابعة سائرة وراء مصالحها ترى حیاتها فی تجنب الإنشاد فی الإمام الحسین (ع) لما قد یجلبه الحق من همّ وحرمان وإبعاد.

مفاهیم خاطئة

عندما یتناهى إلى سمع المرء كلمة "الرفض والروافض" فان ذهنه سیقوده إلى شیعة أهل البیت (ع) ویسوقه فكره إلى سقیفة بنی ساعدة التی جرت فیها "بیعة الفلتة" للخلیفة أبی بكر التیمی (ت 13 هـ) والنبی محمد (ص) بعد لم یدفن، ورفض شیعة علی (ع) أمثال عمار بن یاسر وسلمان الفارسی وأبو ذر الغفاری لمثل هذه البیعة. وعندما یتناهى إلى السمع كلمة السُنّة والسنیون، فان الذهن سیقود المرء إلى السقیفة نفسها واصطفاف قادة من المهاجرین إلى جانب الخلیفة. ولكن الحقیقة مختلفة جدا، فلا السقیفة أنتجت المسلمون الروافض ولا هی ابتدعت المسلمون السنّة، فالروافض كما یؤكد البحاثة الكرباسی مصطلح نشأ فی القرن الثانی الهجری، على ید المغیرة بن سعید المقتول فی العام 119 هـ إشارة إلى الرجال الذین رفضوا الالتحاق بثورة زید بن علی السجاد المستشهد فی العام 121 هـ، فكما یقول السجستانی (ت 250 هـ) والنوبختی (ت 310 هـ) ما حاصله: "إن المغیرة بن سعید هو الذی سمّاهم الرافضة لمّا رفضوا زیداً وفارقوه فی الكوفة وتركوه حتى قتل"، ولذلك یقول ابن منظور فی لسان العرب: 5/267: "والروافض جنود تركوا قائدهم وانصرفوا، فكل طائفة منهم رافضة والنسبة إلیهم رافضی، والروافض قوم من الشیعة سموا بذلك لأنهم تركوا زید بن علی".

ومثل ذلك یقال فی مصطلح السنّة، فمن الوهم المعرفی والخطأ الشائع القول إن المصطلح إشارة إلى سنّة الرسول محمد (ص)، أو أن المصطلح من إفرازات السقیفة، بل هو من مبتدعات الماكنة الإعلامیة الأمویة، أطلق لأول مرة على الذین امتنعوا من سبّ الإمام علی (ع) فی خلافة عمر بن عبد العزیز، فكان الواحد منهم یلتقی صاحبه فی السر ویسأله هل أنت سُنِّی یعنی ممن یعمل بسنّة معاویة فی سب الإمام علی وسبطیه (ع)، وكان الواحد إذا امتنع من السب عمداً أو سهواً التفت إلیه جلیسه وقال له: نسیت السنّة یا شیخ! مما یدل أن اللعن كان یتم بصوت مسموع فی أثناء الصلاة وخارجها!!، ثم استقرت التسمیة تدریجیا، ویعبر الفقیه الكرباسی عن أسفه، لأن: “التسمیتین انحرفتا عن مسمّیهما فقیل لأتباع مدرسة أهل البیت (ع) رافضة ولأتباع المدارس الأخرى سنّة".

الاختبار الصعب

فی الواقع أن حب أهل البیت (ع) والولاء لهم لیس من الأمور الهینة، فالولائی الحقیقی یختبر عند الامتحان، والشاعر الملتزم یبان التزامه عند الملمات والشدائد، ولذلك فلا عجب أن الإنشاد فی حق بیت النبوة من المنازل الكبیرة والمراتب السامقة، ولذلك ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) (ت 148 هـ): (من قال فینا بیت شعر بنى الله له بیتا فی الجنة). وهذه المنزلة صعبة، بخاصة عندما تكون السیوف مصلة على الرقاب، ولهذا لا یخفی الشاعر یوسف بن لقوة الكوفی المتوفى فی القرن الثانی إحساسه فی قصیدة من الخفیف تحت عنوان "مالی مجیر سواهم" یقول فی مطلعها:

أحمد الله ذا الجلال كثیراً … وإلیه ما عشت ألجی الأمورا

إلى أن یقول:

إنّ صرف الزمان ضعضعَ رُكنی … ما أرى لی من الزمان مجیرا

لیس ذنبی إلى الزمان سوى أننی … أحببت شُبّرا وشبیرا

وعلیا أباهما أفضل الأمة … بعد النبی سبقا وخیرا

فعلى حبهم أموت وأحیا … وعلى هدیهم اُلاقی النشورا

فالشاعر هنا لا یبالی إن وقع الموت علیه، وهذه من طبیعة الشعراء الملتزمین الذین یدركون حقیقة الولاء لأهل البیت النبوی (ع) وما یجر علیهم من إبتلاءات، لانهم یؤمنون فی الوقت نفسه أن مآلهم إلى خیر، من هنا فان الشاعر كمیت بن زید الأسدی (ت 60-126 هـ) مات على الولاء شهیدا على ید والی الكوفة یوسف الثقفی، وقد اشتهر بلامیته، عندما أنشدها على الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع)، حیث رفع الإمام (ع) یدیه بالدعاء وقال: (اللهم اغفر للكمیت ما قدّم وما أخّر وما أسرّ وما أعلن وأعطه حتى یرضى)، ووقع الدعاء فی محله، لان الشهادة فی سبیل الحق منزلة عظیمة لا یلقاها إلا ذو حظ عظیم. فاللامیة المعنونة بـ "عجب لا ینقضی" من بحر الطویل، ومطلعها:

ألا هل عم فی رأیه متأمل … وهل مدبر بعد الإساءة مقبل

اختص 15 بیتا منها فی وصف الإمام الحسین (ع) فی معركة الطف وما حل به وبأهل بیته، إلى أن یقول:

كأنّ حسینا والبهالیلُ حوله … لأسیافهم ما یختلی المتبقِّلُ

یخضن به من آل أحمدَ فی الوغى … دماً طُلّ منهم كالبهیم المحجلُ

وغاب نبیُّ الله عنهم وفقدُهُ … على الناس رُزءٌ ما هناك مُجلَّلُ

فلم أرَ مخذولا أجلَّ مصیبةً … وأوجبَ منه نُصرةً حین یُخذلُ

ومن مفارقات الدهر وصروفه، وبعد قرون من الإهمال المتعمد للحكومات المتعاقبة، قررت وزارة الدولة للسیاحة والآثار العراقیة فی عهد ما بعد 9/4/2003م، فی بیان صادر عن رئاسة الوزراء فی العشرین من آذار مارس العام 2007، إجراء مسح لإعمار قبر الشاعر المنسی، الواقع على تل كمیت غرب ناحیة الكمیت على بعد 40 كیلومترا من مركز مدینة العمارة، عرفانا بالجمیل لدور هذا الشاعر الشهید فی الدفاع عن مقدسات الأمة الإسلامیة بعامة والشعب العراقی بخاصة، ودفاعا عن العراق الذی ولد فی كنفه وقدم له أدبه وما یملك، واستشهد على صعیده بسیوف أعدائه التی هوت على بطنه وبقرته حتى مات محتسبا صابراً، وكانت آخر كلماته قبل أن تفیض روحه إلى بارئها "اللهم آل محمد اللهم آل محمد اللهم آل محمد".

سید القرن

ما یلفت النظر فی قصائد الولاء، أن الشاعر إسماعیل بن محمد الحِمیَری المتوفى فی العام 178 هـ كان سید الموقف الشعری فی القرن الثانی الهجری، جاهر بفضائل أهل البیت (ع): "وأعلن مناقبهم دون تهیّب أو تردّد، فلم یدع منقبة وردت إلا ونظمها وكثرة ما فی هذا القرن من شعره یبیّن ذلك"، إذ كانت له 33 مقطوعة شعریة من مجموع 94 مقطوعة لـ 39 شخصیة وقف الشیخ الكرباسی علیها من بین مئات المصادر وأمات المراجع التاریخیة، یلیه عبد الله بن الزبیر الأسدی وله 18 مقطوعة ثم الكمیت وله 6 مقطوعات، وسدیف ابن میمون المكی (146 هـ) وله 5 مقطوعات، وكلا من الشاعر كثیر عزة الخزاعی (105 هـ) وأبو نؤاس الحكمی (198 هـ) ولهما أربع مقطوعات، وتوزعت البقیة بین ثلاث واثنین ومقطوعة أو بیت واحد. كما استدرك المؤلف بمقطوعتین من شعر القرن الأول الهجری. ولعل من أشهر ما یتصف شعر القرون الأولى القریبة من عصر النبوة والإمامة، أنها تترجم أحادیث الرسول أو وقائع حصلت فی عهده، فیأخذ الشعر دوره القدیم فیكون دیوان عهد الرسالة كما كان من قبل دیوان العرب، وهكذا كان شعر الحِمیَری المتصف بالجرأة والشجاعة، ومن ذلك بیتان من البحر الكامل تحت عنوان :نعم الراكبان" یصف طلب أبی بكر من النبی (ص) حمل الحسن أو الحسین لما رآهما والنبی یحملهما، فرد علیه (ص): "نعم المطی مطیهما ونعم الراكبان هما"، فینشد:

مَن ذا الذی حمل النبی برأفة … ابنیه حتى جاوز الغمضاءا

مَن قال نِعم الراكبان هما ولم … یكن الذی قد قال منه خفاءا

أو قصیدة فی وصف ما جرى فی كربلاء أنشدها فی محضر الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) بطلب منه حیث أجلس حرمه خلف ستر فبكى الإمام (ع) وارتفع الصراخ والبكاء من داره، والحمیری ینشد من مجزوء الكامل تحت عنوان "الأعظم الزكیة":

أُمُرر على جدَث الحسیـــ … ـن وقل لأَعظُمه الزكیّة

یا أعظُما لا زلتِ من … وطفاءَ ساكبة رویّة

ما لذّ عیشٌ بعد رضِّكَ بالجیاد الأعوجیّة

قبرٌ تضمّن طیِّباً آباؤه خیرُ البریّة

الوسیلة وأشیاء أخرى

من الأمور التی خضعت للجدال بعد فترة من عصر الرسالة الإسلامیة هی مسألة الشفاعة والتوسل بالنبی وأهل بیته الكرام، ففی حین یقر القرآن الكریم مسألة الوسیلة، بقوله سبحانه فی سورة المائدة: 35: (یا أیها الذین آمنوا اتقوا الله وابتغوا إلیه الوسیلة)، وقوله سبحانه فی سورة الأنبیاء: 28: (ولا یشفعون إلا لمن ارتضى)، غیر أن بعض المدارس الفكریة المتأخرة، حاولت تحت دعوى التوحید نسف مسألة الوسیلة التی مَنّ الله بها على بعض عباده الذین اصطفى، ومنهم النبی محمد (ص) وأهل بیته الكرام (ع) الذین أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهیرا، وأكدتها الروایات والأحادیث. وقد كانت هذه المسألة فی العصر الأول من المسلمات بحیث وردت فی أبیات الشعراء ولم یجدوا فی ذلك حرجا، من ذلك قصیدة للفرزدق (ت 110 هـ) فی مدح أهل البیت (ع) یقول فی بعضها من البسیط:

من معشر حبُّهم دِینٌ وبغضهم … كُفرٌ وقربهم منجىً ومعتصمُ

یُستدفعُ السوءُ والبلوى بحُبِّهم … ویُستدبُ به الإحسانُ والنِّعمُ

مُقدَّمٌ بعد ذكر الله ذكرُهُمُ … فی كل بدءٍ ومختوم به الكَلِمُ

إن عُدّ أهلُ التقى كانوا أئمتهُم … أو قیلَ مَن خَیرُ أهلِ الأرض قیلَ همُ

ومن ذلك قصیدة لأبی نؤاس (ت 198 هـ) فی الشفاعة، من الكامل تحت عنوان "الحصن الحصین" یقول فیها:

مُتمسِّكاً بمحمد وبآله … إن الموفَّقَ مَن بهم یستعصمُ

ثمّ الشفاعة من نبیِّك أحمدٍ … ثم الحمایة مِن علیٍّ أعلمُ

ثم الحسینُ وبعده أولادُه … ساداتنا حتى الإمام المُكتمُ

سادات حُرٍّ ملجأٌ مُستعصَمٌ … بِهم ألوذُ فذاك حِصنٌ مُحكم

ومما تؤرخه المقطوعات، هو لون اللباس الذی كان یرتدیه المعزون بفقد قریب أو عزیز، إذ كان الأسود والأخضر إشارة إلى الحزن والمصاب، وهذا ما نستبینه من قصیدة سیف بن عمیرة النخعی المتوفى فی القرن الثانی الهجری، من بحر الكامل فی مائة وستة أبیات حملت عنوان: جلّ المصاب"، وتعتبر هذه القصیدة من أطول القصائد فی دیوان القرن الثانی أنشأت فی رثاء الإمام الحسین (ع)، یقول الشاعر فی بعض أبیاتها:

إبكِ الحسینَ بلوعةٍ وبعبرةٍ … إن لم تجدها ذُب فؤادك واكثِرِ

وآمزج دموعَك بالدماء وقَلَّ ما … فی حقه حقًّا إذا لم تَنصُرِ

والبس ثیاب الحزن یوم مُصابِهِ … ما بین أسودَ حالكٍ أو أخضرِِ

فعساك تحظى فی المعاد بِشِربةٍ … مِن حوضهم ماءٍ لذیذٍ سُكَّرِِ

بید أن الأقوام عند العزاء تختلف فی ملبسها، فبعض یرتدى الأبیض وآخر الأصفر، ویكثر استعمال الأسود، ویقل استخدام الأخضر، والشاعر یؤرخ لتلك الفترة حیث كان الأسود والأخضر هما اللونان المستعملان عند المسلمین، وبمرور الزمن اختص الأخضر بنسل أهل البیت (ع) والذین یطلق علیه لقب السادة، حیث یضعون فی مجالس العزاء على الإمام الحسین (ع) قطعة خضراء على الكتف أو حول الخاصرة إلى جانب رداء اسود، فیما یكتفی غیرهم بالأسود.

ویصاحب الملبس البكاء، لان البكاء فی واقع الأمر إظهار للحزن الشدید على ما حلّ بالإسلام من قتل سید شباب أهل الجنة (ع)، حیث یمثل البیت النبوی عدل القرآن، وهما وصیة رسول الله (ص) فی أمته، ولهذا أصاب الشاعر جعفر بن عفان الطائی المتوفى حدود عام 150 هـ كبد الحقیقة فی قصیدته من الطویل بعنوان "لیبك على الإسلام"، عندما أنشد:

لیبكِ على الإسلام مَن كان باكیا … فقد ضُیِّعَت أحكامُهُ واستُحِلَّت

غداةَ حُسینٌ للرماح دَریئةٌ … وقد نَهِلَت منه السیوفُ وعَلّتِ

كما تحرى الشاعر خالد بن معدان الطائی المتوفى حدود عام 103 هـ، صدقا فی قصیدته من البسیط المعنونة "جاؤوا برأسك" عندما أنشد:

فكأنما بكَ یا بنَ بنت محمدٍ … قتلوا جهاراً عامدین رسولا

قتلوكَ عطشاناً ولم یترقَّبوا … فی قتلكَ التأویلَ والتنزیلا

ویُكبِّرون بأن قُتلتَ وإنما … قتلوا بك التكبیرَ والتهلیلا

ولذلك فلا عجب أن تمطر السماء دما على الإمام الحسین (ع) كما بكت من قبل على النبی یحیى بن زكریا (ع)، ویخلد الشاعر سیف النخعی هذه الواقعة فی ملحمته "جلّ المصاب":

وعلیه أمطرت السماءُ وقبلُهُ … یحیى دماً وسواهما لم تُمطرِ

بین عصرین یشكل القرن الثانی الهجری علامة فارقة تفصل بین عصرین من حیث الإنتاج الأدبی فی جانبیه المنثور والمنظوم، بین العصر الجاهلی وعصر المخضرمین (من البعثة حتى نهایة عصر الخلافة الراشدة فی العام 40 هـ)، إذ أصاب العربیة اللحن وتهجنت بعض مفرداتها، وكان هذا من آثار اختلاط المسلمین بالثقافات واللغات الأخرى وورود غیر العرب ولحنهم فی اللغة، ولذلك كما یقول المصنف: "فقد بدأت اللغة العربیة تشعر أنها لم تعد على أصالتها الأولى بل امتزجت بمفردات جدیدة بدأت تنعكس على الأدب العربی" ولذلك ضعف الاستشهاد بقول الشاعر فی بیان اللغة وقواعدها وآدابها: "فكان أن انتهت فترة الاحتجاج بقول الشاعر بعد بشار بن برد المتوفى عام 168 هـ"، لكن القرآن الكریم ظل هو المعین الذی لا ینضب والذی لن یتسنّه ماؤه.

ویستظهر المحقق الكرباسی من مجمل دیوان القرن الثانی الهجری أمور عدة، أهمها:

أولا: غلب الاتجاه السیاسی على الكثیر من القصائد، وبخاصة لدى الكمیت بن زید الأسدی الذی یمثل فی هذا الجانب وبحق فارس الحلبة.

ثانیا: غلبت صبغة المعارضة والتمرد على الواقع السیئ، على الكثیر من القصائد، بخاصة وان القرن شهد تحولات سیاسیة خطیرة كان السیف هو الحاكم فیها والدماء تسیل من تحت شفرتیه، وكان الشاعر منصور بن سلمة النمری فارس المیدان فیه.

ثالثا: سعى شعراء الولاء إلى تخلید كل منقبة لأهل البیت وردت فی القرآن أو على لسان النبی محمد (ص) إلى قصائد، لتخلید تلك المناقب والمكارم، وكان الشاعر إسماعیل بن محمد الحِمیَِری سید الموقف. رابعا: ولأن النهضة الحسینیة تتجدد، فان باب الرثاء ظل مفتوحا للشعراء على مصراعیه، وقد أبدع فیه عدة من الشعراء، كالنمری والحِمیَری، واشتهر الشاعر سلیمان بن قتة التمیمی الدمشقی بقصیدته المعنونة "وإنّ قتیل الطف"، ومطلعها:

مررتُ على أبیاتِ آلِ محمدٍ … فلم أرَها أمثالَها یومَ حُلَّتِ

وأخیرا

لا یخلو أی مجلد من مجلدات دائرة المعارف الحسینیة البالغة نحو 600 مجلد وصدر منها حتى الیوم 34 مجلدا، من فهارس قیّمة فی أبواب كثیرة، تختلف من مجلد إلى آخر حسب الباب الذی یطرقه الكاتب، وفی هذا الدیوان، نتابع من خلال: فهارس المتن: فهرس الأعلام والشخصیات، القبائل والإنسان والجماعات، القوافی والروی، البحور والأوزان. ونتابع فی فهارس الهامش: فهرس الأبیات وأنصافها، التأریخ، الناظمین والشعراء، الأعلام والشخصیات، القبائل والأنساب والجماعات، اللغة. وفی الفهارس المشتركة بین المتن والهامش، نتابع: فهرس الآیات المباركة، الأحادیث والأخبار، الأمثال والحكم، مصطلحات الشریعة، المصطلحات العلمیة والفنیة، الطوائف والملل، الوظائف والرتب، الآلات والأدوات، الإنسان ومتعلقاته، الحیوان ومتعلقاته، النبات ومستحضراته، الفضاء ومتعلقاته، الأرض ومتعلقاتها، المعادن، الأماكن والبقاع، الزمان، الوقائع والأحداث، المؤلفات والمصنفات، المصادر والمراجع، مؤلفی المراجع، وفهرس الخطأ والصواب. وفی سبیل أن یقف القارئ على وجهات نظر غربیة واستشراقیة للنتاج الشعری الولائی فی القرن الثانی الهجری، ختم الدكتور محمد صادق الكرباسی كتابه بقراءة نقدیة للدكتور بیار جون لویزارد، وهو مستشرق فرنسی مسیحی المعتقد، باحث فی المركز الوطنی للأبحاث والعلوم، وبروفیسور فی المؤسسة الوطنیة للغات الشرقیة، قال فیه: "وفی هذا العصر – القرن الثانی للهجرة- حیث المشاعر العلویة كانت متوهجة، كما تؤكد على ذلك الحركات المناوئة للأمویین والعباسیین، لم یصلنا إلا القلیل من ذلك الشعر الذی نظم فی رثاء الإمام الثالث، وما وصلنا فهو تصور فیه مشاعر المحبة تجاه حفید النبی"، وعبر عن كبیر تقدیره للجهد المبذول فی الكتاب، ذلك: "أن العمل الموسوعی للشیخ محمد صادق محمد الكرباسی یبدو مدهشا، حیث أثمرت جهوده من خلال القصائد التی كان من الصعب جمعها وتقدیمها بإخراج الموضوع إخراجا رائعا".

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:7|
اللغة الشعریة عند السیاب .. والثورة على الشعر الكلاسیكی القدیم


یشكل السیاب محور الثورة على الشعر الكلاسیكی القدیم الذی كان سائداً فی بدایة القرن العشرین ولكن السیاب الى جانب نازك الملائكة استطاع ان یخرج من عباءة التقلید والانتصار لنفسه عندما اخذ یسیر فی نمط الشعر الحدیث فابداع السیاب لغة جدیدة یتفق فیها المضمون مع الشكل والفكرة مع الصوت فالنبرة الصوتیة

عند السیاب تتغیر بتغیر الفكرة وهی تخط بین مدلول الكلمة وبین شكلها . لقد استطاع السیاب بالوسائل الجدیدة ان یتصور حالات الازمة عند الانسان الحدیث وقد ظهرت مهارة السیاب الشعریة فی تجدید العروض الذی شكل ازمة فی العالم العربی فی الاربعینیات من القرن المنصرم فالموسیقا الجدیدة لاشعار السیاب تحررت من اسر القافیة فكانت التجربة الشعریة تجسیداً للعاطفة الرومانتیكیة وللمباشرة الواقعیة فالسیاب الى جانب نازك الملائكة وعبد الوهاب البیاتی وغیرهم من الشعراء وسعوا امكانیة النموذج الشعری الفردی الى حد كبیر جداً ولكن السیاب قد بدأ على الطریقة الرومانتیكیة فهو متأثر جداً بـ بودلیر فی مجموعتیه الشعریتین « ازهار ذابلة » « اساطیر » .‏

فقد كتب السیاب قصیدة مؤكداً تنوع العاطفة لدیه یقول :‏

دیوان شعر ملؤه غزل بین العذارى بات ینتقل‏

انفاسی الحرى تهیم على صفحاته والحب والامل‏

وستلتقی انفاسهن بها وترف فی جنباته القبل‏

ان بدایة السیاب كانت اشعاراً مملوءة بالشفافیة والعفة والاستعارة التی تثیر المشاعر وتكثر فیها الصور التی تطلق العنان للفكر ان یحلق فی سماء هذه الكتابات التی خطها شاعر عانى الامرین فی مدینته یقول : سوف امضی / اسمع الریح تنادینی بعیداً / فی ظلام الغابة اللفاء والدرب الطویل / یتمطى ضجراً ، والذئب یعوی، والافول / یسرق النجم ، كما تسرق روحی مقلتاك / فاتركینی اقطع اللیل وحیداً / سوف امضی فهی مازالت هناك / فی انتظاری .‏

نلاحظ اللغة السوداویة التی تصبغ شعر السیاب فهو متشائم حتى فی غزله ولكن ما یجعلك تحلق معه هو الصور الجمیلة التی یفاجئنا بها فی كل شعر نقرؤه فهو یحاول ان یشد القارئ مهما كان بعیداً عنه كی یندمج معه ویشاركه همومه یقول : الزورق النائی وانات المجادیف الطوال / تدنو على مهل .. وتدنو فی انخفاض وارتفاع / حتى اذا امتدت یداك الیّ فی شبه ابتهال / وهمست « هاهو ذا یعود » رجعت فارغة الذراع/ .‏

فلغة السیاب مجازیة خارقة حیث ان مثل هذه الاستعارات والمجازات غریبة ولكنها اصبحت عادیة عنده لانها اللغة التی میزته عن شعراء عصره .‏

فالمجادیف لا تئن ومع ذلك جعلها مشخصة تئن وتحزن وهذه لیست لغة عادیة ولكنها لغة استخدمها شاعر بارع فوظفها خیر توظیف فی شعره .‏

فالسیاب شاعر ارتبط وانعجن بنخیل العراق وذاب صبابة لانه حاد یشتاق الى رشفة من نهر دجلة الذی عاش جنبه وزرع على ضفتیه احلى الذكریات وهو الشاعر المطرود الذی حرم ان یقضی بقیة حیاته فی ارضه فهو قد تطرق الى مختلف مشاكل المجتمع الانسانی لان حداثة واتساع مجموعة المواضیع ادت الى اتساع الوسائل التشبیهیة وترسیخ المعنى الرمزی الذی یسمح بنقل ادق التفاصیل عن الرغبات المخفیة .‏

یقول فی قصیدته غریب على الخلیج :‏

جلس الغریب ، یسرح البصر المحیر فی الخلیج / و یهد أعمدة الضیاء بما یصعد من نشیج / أعلى من العباب یهدر رغوه و من الضجیج / صوت تفجر فی قرارة نفسی الثكلى : عراق / كالمد یصعد ، كالسحابة ، كالدموع الى العیون / الریح تصرخ بی : عراق .‏

كما انه یتذكر فی قصیدته ( المخبر ) و هذا شیء طبیعی لانسان بعید عن وطنه یتذكر فیه أدق التفاصیل یقول :‏

الحقد كالتنور فی : إذا تلهّب بالوقود / الحبر و القرطاس - أطفأ فی وجوه الامهات / تنورهن . و اوقف الدم عن ثدی المرضعات /.‏

لم یظهر السیاب فی دور المصور الفوتوغرافی لما یراه من مناظر فی هذه الطبیعة بل كان یسعى بكل ما یملك من سعة الأفق وقوة الفكر الى إثارة القارئ على استیعاب العناصرالتی تكلم عنها و ذلك من خلال الموسیقا الرائعة التی تتناغم لتشكل تفعیلات رائعة لذلك نحن لا نتصور عنده استعمالاً متكرراً و مستمراً فی اشعارنا الیومیة الحالیة للكلمة ، و قد استعملها السیاب دائماً یقول :‏

یمد الكرى لی طریقاً الیها : / من القلب یمتد عبر الدهالیز عبر الدجى و القلاع / الحصینة / و قد نام فی بابل الراقصون / و نام الحدید الذی یشحذونه /.‏

ان السیاب دائم التذكر لبلدته جیكور فهو یذكر نخیلها و الاصداف الموجودة فی نهر البویب فنجد ان لغته فی الوصف الغنائی العاطفی المخصص لبلده و لنهر بویب التی یتخلل قریته جیكور یقول :‏

أود لو أطل من أسرة التلال / لألمح القمر / یخوض بین ضفتیك ، یزرع الظلال / ویملأ السلال بالماء و الاسماك و الزهر / اود لو أخوض فیك ، أتبع القمر / و اسمع الحصى یصل منك فی القرار .‏

أما إذا دخلنا الى الجانب الغزلی و فن عاطفة الحب حیث ان عاطفة الحب فی الشعر العاطفی تتجلى من خلال الصور المتداخلة البدائیة التی تصور احساسه العالی بالطبیعة و خاصة فی النساء الجمیلات فهو یفجر من خلال اشعاره رغبته العاطفیة الجامعة فالشهوات الجسدیة تتكرر كثیراً فی اشعاره الى جانب الكلمات المنمقة یقول :‏

ترف شعورهن علی . تحملنی الى الصین / سفائن من عطورنهودهن .اغوص فی بحر من الأوهام ،و الوجد / فألتقط المحار أظن فیه الدرثم تظلنی وحدی / جدائل نخلة فرعاء / فأبحث بین أكوام المحار . لعل لؤلؤة ستبزغ منه كالنجمة .‏

و هناك عنصر بالغ الأهمیة كان موجوداً فی شعر السیاب ألا و هو توظیف الأسطورة فی الشعر حیث وظفها خیر توظیف و استطاع بإتقان الشاعر المبدع ان یجعل الأساطیر مادة تخدم شعره یقول ناجی علوش عن استخدام السیاب للأسطورة : ( لم یستطع أحد من الشعراء العرب أن یستعمل الأسطورة و الرمز إن هذا الكلام یدل على أن النمط الذی استخدمه السیاب فی الشعر كان متسلسلاً بهذا المقدار . كما استطاع السیاب ان یستعملها .‏

فمن النادر ان نرى عنده اشعاراً لم تمثل الرموز الخرافیة أو الاسطورة و هذا ما نلاحظه فی قصیدتی « مدینة بلا مطر » و « سربروس فی بابل » و فی حالات أخرى تصادف الأسطورة مقدمة فی القصائد الشعریة بكلمة واحدة فقط وهی معزولة تماماً منفصلة عن الموضوع الرئیس ، و عن قرائن الكلام و ان وجود هذه الكلمة یبرره و یسوغه فقط ، الموضوع الثانوی العارض و المتفرع عن الموضوع الرئیس و هذا ما حدث فی قصیدة « المومس العمیاء ».‏

یقول الدكتور فاخر میّا «لوكان السیاب أول شاعر عربی استعمل الأساطیر القدیمة كما أكد «علوش» لما وجب علینا أن نورد ماقاله السیاب نفسه متعجباً بمقدرة أبی تمام وموهبته على كسر واخضاع المقولات القدیمة فی الإبداع «یقول السیاب» ان استعمال الأسطورة فی الشعر لیس جدیداً على الأدب العربی فلعل شاعرنا العربی الكبیر أبا تمام أول من استخدمها بین كل الشعراء العالم ولوسار الشعراء العرب من بعد أبی تمام على خطه الشعری لكان بیننا الیوم الكثیرون ممن یضارعون ایلوت وستویل وسواهما ».‏

ویعود علوش ویقول «إن الأسطورة فی شعر السیاب لیست واضحة تماماً ..لقد حاول شرح ولعه وحبه للأساطیر لكنه لم یستطع ایجاد مخارج مقنعة لاستعماله هذا فی الشعر العربی» .‏

فمثلاً سندباد السیاب هو مغامر جریء كما ورد فی ألف لیلة ولیلة یعود بالبضائع من خلف البحار وبالقصص البریة المتوحشة یقول.‏

وجلست تنتظرین عودة سندباد من السفار /والبحر یصرخ من ورائك بالعواصف والرعود / هو لن یعود / أو ماعلمت بأنه أسرته آلهة البحار /فی قلعة سوداء فی جزر من الدم والمحار / هو لن یعود /ورحل النهار /فلتر حلی ،هو لن یعود /.‏

إن أبطال قصص الف لیلة ولیلة تستعمل أحیاناً وسائل سحریة للوصول الى أهداف شخصیة أو إلى أهداف انسانیة ومن الوسائل التی استعملها السیاب الحصان الطائر والبساط الطائر یقول.‏

آه لوعندی بساط الریح /لوعندی الحصان الطائر/ آه لو رجلای كالأمس تطیقان المسیر ! /لطویت الأرض بحثاً عنك /لكن الجسور ا قطعتها بیننا الأقدار .مات الشاعر فی وانسدت كوى الأحلام /آه یاجمیلة إن ابداع السیاب ابداع جدید یتفق فیه الشكل مع المضمون فی الشعر الحدیث حیث استطاع بالوسائل التجدیدیة أن یتخیل ویتصور حالة الأزمات والكوارث التی تواجه الانسان فی المجتمع وقد ظهر ذلك جلیاً فی التجدید الشعری الذی سار علیه السّیاب یسبق طائفة العشراء الذین تزاحموا فی عصره .‏
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:6|

یمكن القول ان البدایة الحقیقیة للمنهج الاجتماعی كانت فی مطلع القرن العشرین ، ومن ابرز اعلامه (كارل ماركس) ، الذی ارتبط باسمه نوع من النقد الاجتماعی هو (النقد الماركسی) . فقد سعى (ماركس) إلى دراسة الادب والفن بصورة عامة على غرار رؤیة اجتماعیة ترى ان العمل الفنی یحیى فی عالم اجتماعی ، وان الصراعات بین الطبقات تؤدی الى خلق الفن ، كما أنَّ الاعمال الفنیة تتألف دائماً فی موضوعات لها دلالة اجتماعیة
ان المبدأ الاساس فی النقد الماركسی هو الانعكاس الموضوعی وتمثل الادب للواقع ، إذ تؤكد نظریة الانعكاس ، ان الحیاة الاجتماعیة على بنیتین :بنیة دنیا تتمثل فی الانتاج المادی ، وبنیة علیا تتمثل فی الانتاج الفكری المتضمن نظماً سیاسیة وقوانین وفلسفات وعلوماً وآداباً وفنوناً ، وما اتصل بذلك من مظاهر ثقافیة مختلفة ، والبنیة الدنیا هی الاساس الحقیقی الذی ینبنى علیه المجتمع . فالادب والفن انعكاس للواقع الموضوعی ، ومن ثم وسیلة من وسائل المعرفة ، یقول بلیخانوف فی هذا الاتجاه لیس صحیحاً ان الفن یعبر عن مشاعرالناس وعواطفهم وحدها ، كلا انه یعبر عن عواطفهم وافكارهم معاً ، یعبر عنها لا على نحو مجرد ، وانما بالصور
لقد ارتبطت نظریة الانعكاس بفكرة الایدولوجیا ، وصار الالتزام بالتجارب الانسانیة ، واحداً من مقومات النقد الماركسی ، فضلاً عن ضرورة المحتوى الثوری ، مشفوعاً بصیاغة جمالیة فائقة ، وانكار الانفصال بین المعیارین الجمالی والسیاسی، وعندما نصل الى (لوكاتش) ، نجد انَّه اسهم فی تطور الواقعیة الاشتراكیة ، بوصفها مذهباً فی الادب والفن ، على وفق رؤیة فلسفیة خاصة به نتجت عن فهم خاص للماركسیة تماشیاً مع ظروف ما بین الحربین والمد الفاشی ، وتراجع الثورة فی العالم ، وقد حوى ذلك كله كتاب (لوكاتش) الرؤیا للعالم
اما فی عالمنا العربی ، فكان لجهود اسماعیل ادهم ، وشبلی شمیل ، وسلامة موسى ، ویحیى حقی ، ومحمد مندور ، ومحمود امین العالم ، ورجاء النقاش ، اثر كبیر فی تبلور النقد الاجتماعی فی النقد العربی الحدیث ویعد الدكتور محمد مندور من البارزین فی هذا الاتجاه ، فقد حمل شعار (الادب نقد الحیاة) ، ونادى بالالتزام فی الادب إذ انه یرى بأن الوقت قد حان "لكی یلتزم الادباء والفنانون بمعارك شعوبهم وقضایا عصرهم ومصیر الانسانیة كلها . ویحدد الدكتور محمد مندور مفهوم النقد الاجتماعی مبیناً انه "یرتكز على منطق العصر وحاجات البیئة ، ومطالب الانسان المعاصر ... ، ولا یكتفی بالنظر فی الموضوع ، بل یتجاوزه الى المضمون أی ما یفرغه فیه الادیب والفنان من افكار واحاسیس ووجهة نظر
ثمة ناقد اخر له اسهامٌ كبیر فی النقد العربی هو الناقد محمود امین العالم الذی اصدر كتابه (فی الثقافة المصریة) بالاشتراك مع عبد العظیم انیس دعا فیه الادباء والفنانین الى الالتزام بقضایا عصرهم ، ومشكلات مجتمعهم ، غیر ان هذا الالتزام ، لا یتم على حساب الادب والفن ، وانما من خلال تفاعل حقیقی بین الشكل والمضمون.
ان كلام محمود امین المتقدم ، یدل على ان صاحبه كان واعیاً بان أی تصور للادب والفن ، مهما كان متطوراً ، لایمكنه ان یلغی من حسابه مسألة الفن ذاته ، ومسألة الجمال والشكل ، لان الواقع بنظرهِ هومجموع العلاقات المتشابكة بین الانسان والعالم المحیط به ، بین الحاضر والمستقبل ، بین التجارب الذاتیة والاحلام والعواطف والأخیلة .
من خلال ما تقدم نستطیع القول بأن حضور المنهج الاجتماعی قد ازداد فی الحركة النقدیة التی واكبت ظهور الشعر الحر ، لاسیما ما یخص الشاعر عبد الوهاب البیاتی إذ أن قسماً كبیراً من نصوصهِ الشعریة كان تعبیراً عن هذا الواقع ، وما یحدث فیه من تقلبات سیاسیة واجتماعیة واقتصادیة ، لذلك نجد عدداً من الدراسات النقدیة تطرقت الى هذه القضیة وحاولت اظهارها بشكل او بآخر ، ومن بین هذه الدراسات : (الرؤیا فی شعر عبد الوهاب البیاتی) لمحیی الدین صبحی / و (الرؤیا الابداعیة فی شعر البیاتی) لعبد العزیز تشرف ، و (الالتزام والتصوف فی شعر عبد الوهاب البیاتی) لعزیز السید جاسم ، و (شجرة الرماد المواجد فی شعر البیاتی) للدكتور وفیق رؤوف ، و (النموذج الثوری فی شعر عبد الوهاب البیاتی) لمجموعة من النقاد العراقیین والعرب ، و (مأساة الانسان المعاصر فی شعر عبد الوهاب البیاتی) لمجموعة من النقاد العراقیین والعرب والغربیین .
لقد حظی البیاتی باهتمام كبیر من قبل الناقد (محمد زفزاف) ولا سیما فی دراسته الموسومة بـ (النموذج الثوری فی شعر عبد الوهاب البیاتی) ، إذ حاول الناقد الدخول الى عالم البیاتی الشعری من خلال مقدمة تناول فیها ثورة الادباء والشعراء على الواقع الاجتماعی والسیاسی السائد فی تلك الفترة التی عاشها البیاتی ، ویمضی الناقد فی رصد النمو الثوری فی شعر البیاتی الذی یغنی للثورات من المحیط الى الخلیج باحثاً عن المدینة الفاضلة المنسیة فی التاریخ، ویشیر الناقد الى تغیر واضح فی اشعار البیاتی لذلك كانت (اباریق مهمشة) و (المجد للاطفال والزیتون) و (كلمات لا تموت) تعبر عن البساطة والوضوح فی شعر البیاتی ، إلا انه تحول بشكل واضح فی (الذی یاتی ولا یاتی) و (سفر الفقر والثورة) و (الموت فی الحیاة) ، ویحاول الناقد ان یتلمس الخطوط التی سار علیها الشاعر واستلهم من خلالها الابعاد التاریخیة والواقعیة والاسطوریة لیخرج بنتیجة حاول تلخیصها بأنها عائدة الى التراث الفارسی فی صورة (عمر الخیام) ، وتاریخ العراق القدیم فی صورة (انكیدو وكلكامش) ، وتاریخ العراق الحاضر ، وتجربة الشاعر مع وطنه الام ، والتراث العربی الاسلامی ، والتأریخ القدیم بصفة عامة لیؤكد ان البیاتی كان دائم الرجوع الى الماضی محاولاً ربطه بالحاضر.
من جانب اخر یشیر الناقد ، الى الحس الانسانی الذی تعمق فی شعر البیاتی مما دفعه الى الارتقاء بماضیه وبماضی الانسانیة الى حاضر والى مستقبل ، عن طریق تحول كل القوى الادراكیة وكل التاریخ ، وكل الاساطیر الى شیء واحد فقط اسمه (الثورة).
ویشیر الناقد الى انه على الرغم من التشاؤم وذكر الموت الذی یهیمن على معظم اشعار المجموعة الشعریة (الموت فی الحیاة) إلا ان البیاتی یوضح لنا ان الثوری متوقع لموته العاجل او الآجل ، وهذا سِرُّ قوتهِ وصمودهِ، كما یبین ان حكایة (الموت والحیاة) سیطرت على المجموعة الشعریة للشاعر حتى بدت كما لو كانت قصیدة واحدة ، فالبیاتی یستقطب التأریخ ویجمع الحوادث ویحولها الى رمز لیعید حكایة الموت فی الحیاة أو التعذیب الثقافی.
واللافت للنظر ان الناقد لم یبق اسیراً لمعطیات المنهج الاجتماعی وانما افاد من أطروحات المناهج الأخرى ، وهی جزء من رؤیته النقدیة الناضجة ، التی ترى امتزاج الشكل بالمضمون فی أی عمل ادبی لذلك كانت أفادته من معطیات المنهج الاسطوری وبعض اجراءات المنهج النفسی متساوقة مع تلك الرؤیة .
وتعدُّ دراسة الدكتور (احسان عباس) واحدة من الممارسات النقدیة ، التی عالجت شعر البیاتی فی ضوء اجراءات المنهج الاجتماعی ، اذ اختار الدكتور (احسان عباس) قصیدة (سوق القریة) بوصفها أنموذجا شعریاً مختلفاً عمّا تعارف علیه لدى الشعراء فی ایضاح النزعة الاجتماعیة .
یبدأ الناقد دراسته مباشرةً عن طریق تحلیل قصیدة (سوق القریة) وهی القصیدة التی حظیت بقراءات متنوعة بین النقاد ، ویقف فی بدایة قراءته التحلیلیة عند لفظة (الشمس) لكونها تصلح ان تكون تحدیداً زمنیاً كما تصلح ان تشیر الى معاناة الناس المحتشدین، ویؤكد الناقد ان فی القصیدة حلماً كبیراً بل سلسلة من الاحلام التی اسقطها الشاعر على السوق ، ویؤكد اهمیة عنصر المفارقة فی القصیدة التی یقیمها الشاعر بین القریة والمدینة مستمداً حكمه على المدینة من تصور الفلاحین لها وهم یقولون لدى عودتهم منها :
والعائدون من المدینةِ
یالها وحشاً ضریر
صرعاه موتانا واجساد النساء
والحالمون الطیبون
هذه المفارقة تضیف بؤساً الى بؤس الریفیین ، وینسون وهم (الحاصدون المتعبون) انهم مسخرون جسدیاً ومعنویاً لیزرعوا صاغرین كی یأكل الاقطاعیون .
یشیر الدكتور (احسان عباس) الى ان هذه القصیدة اقرب ما تكون الى لوحة الرسم وكل ما افادته من الشكل الجدید هو حریة الاختیار فی الاحصاء ، وارسال الاقوال والحكم دون مدخل.
ویستمر الناقد بالابحار فی خلیج البیاتی الشعری لیؤكد ان هذه القصیدة على الرغم من كل الدلالات التی تحملها لا تستطیع ان تعطینا تصوراً كاملاً عن جمیع الروافد التی تعمل مُشكِّلة التیار البیاتی، لذلك عَمد الناقد الى اخذ قصیدة اخرى وهی قصیدة (مسافر بلا حقائب) التی یفتتحها البیاتی بقولهِ :
من لا مكان
لا وجه لا تأریخ لی ، من لا مكان
تحت السماء وفی عویل الریح اسمعها تنادینی
"تعال!"
یشیر الدكتور (احسان عباس) الى انه لن یعمد الى تحلیل القصیدة ، ولكنه یسجل بعض الملاحظات التی بدأها بكون القصیدة تقدم معجماً لفظیاً متكاملاَ، كما انها (تجسد واقع الغربة الذی یعانیه الشاعر ، وهذهِ الغربة لیست غربة عن الذات وانما هی غربة میتافیزیقیة لانبتات الصلة بالمكان والزمان (التاریخ) ، ویؤكد الناقد بان البیاتی فی هذه القصیدة مؤمنٌ بإستحالة استردادهِ لهویتهِ لان الشاعر یؤكد انه سیبقى بلا وجهٍ ولا تاریخ ولا مكان ، ویخلص الدكتور (احسان عباس) فی نهایة تحلیله الى انه اذا كان كل من نازك والسیاب قد اشتركا فی ارتیاد شكل جدید ، فإن البیاتی كان اسبق المجددین الى تغییر طبیعة المحتوى فی ذلك الشكل . لقد القى الأولان حجراً فی ماء الشعر وسَرَّهُما – الى حین – اندیاح الدوائر واتساع اقطارها فی ذلك الماء ، وذهب الثالث یعمل على تحویل مجرى ذلك الماء لیسقی غراساً مختلفة.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:5|
البنائیة الأسطوریة عند السیاب
فی قصیدة
(سربروس فی بابل)
تقدم لنا التصورات البنائیة بطابعها الأسطوری ابنیه تركیبیة تشیر الى عملیة البناء الذی یتعلق بالكیفیة التركیبیة للنصوص الشعریة ، هذه الابنیة التی تقوم بتصور الوقع الاسطوری بوظیفة ذهنیة بفرز نموذج یقیمه الفعل العقلی بعد الفراغ من عملیات التشكیل المدروسة بتراتبیة بنائیة وهی توجد بالقوة التصوریة ، وبفعل التمثیل بمعالمها حتى یصل بالمبحث الاسطوری الى الدراسة المستفیظة والحالة المتتابعة للاحتمالات التی یتسع لها مصطلح البنائیة الاسطوریة عند السیاب ، وان التصمیم الذی یتعلق بهیكلیة هذه المنظومة الاسطوریة باعتبارها منظومة تتعلق بالكشف الحسی والادراك الظاهر للخصائص المتمثلة فی العنصر التركیبی للصورة التجریبیة للاسطورة وهی تعتمد على رموز عملیات التوصیل المتشكلة بالوقائع وان تعریف البنائیة الاسطوریة للشعر بانها اٍحكام دقیق لعملیات التولید الذهنیة بوقائع تتمثل فی الوصف لبنیة القصیدة عبر الاجابة على اسئلة تقتضی التمییز بین هذه التصورات المختلفة للبنیة الاسطوریة وهو الاصطلاح الذی تحدده نتائج ذات طابع موضوعی یحتكم فیه التولید والخلق الشعری الى اسس معرفیة . والسیاب اتخذ من هذه الوحدات البنائیة للاسطورة المكون المتشكل وفق قوانین الصیاغة وعنصر التمییز بین المنظومة الاسطوریة وطبیعة الوقائع التی تتصل بالظاهرة الصوتیة للقصیدة الى جانب رمزها المتمثل بالقدرة على اثارة هذه التصورات الذهنیة من الناحیة الدلالیة ، وعلیه فان العناصر التی تتعلق بالجانب الاتصالی الصوتی للمفردة الشعریة الذی نسمیه العنصر الموضوعی لحركة الاسطرة ، وقصیدة السیاب (سربروس فی بابل ) هی نسج اتصالی لحلقة مفقودة داخل هذه الوقائع فی العراق وان اساسیاتها مرتبطة بحالة التشابه البنائیة من الناحیة الاسطوریة بین المدلول الخارج للحدث ، والمدلول الداخلی لتركیبة البنیة السیاسیة فی العراق وهی البنیة الموضوعیة التی تكشفت للوهلة الاولى بالسیطرة الاستعماریة على العراق واقامة منظومات سیاسیة خاویة وخائبة قامت بتجریدها للاشیاء وفق حجة (البنائیة السیاسیة الجدیدة) وقد تشكلت هذه البنائیة السیاسیة على مجموعة من المنظومات السیاسیة ذات الدلالة الخارجیة وقد مثلت هذه المنظومات احكاما اسطوریة شكلت فی حینها اتجاها ت تاریخیة وشخصیة اعطته رؤیة جدیدة لعالم اسطوری تكمن فیه هذه الصورة البشعة المحكومة بالعلاقات المطلقة احیانا والمباشرة من الناحیة الفوضویة فی بناء هذه المنظومات. والبنیة الاسطوریة عند السیاب خاضت غمار هذه الصراعات متصلة بتركیب النص الشعری ونسجه اللغوی – والصوتی الخفی الذی یظهر فی اسطورة ( سربروس فی بابل) وهو الكلب الذی یحرس ( مملكة الموت) فی الاساطیر الیونانیة القدیمة حیث یقوم عرش (برسفون) الهة الربیع بعد ان اختطفها اله الموت وقد صور دانتی (فی الكومیدیا الالهیة ) حارسا ومعذبا للارواح الخاطئة( ).
والسیاب یمیز بین البنیة من ناحیة الاسلوب الاسطوری وهی تتصل بتركیبة النص والبنیة المتعلقة بالنسج اللغوی الاسطوری ، وفی الحالة الثانیة یتشكل النص الشعری عند السیاب حیث نرى البنیة تتصل بالحكایة ووظیفة الزمن والشخصیات وهیكل الاحداث الذی یشكل الخلیة اللغویة بمستویاتها الصوتیة وامكانیاتها البنائیة فی تاكید مهمة النص الشعری واهتمامه بفروع المعرفة الصوتیة المتخفیة والمضمرة داخل النص الشعری وهی تبحث عن الاسس النظریة لكی تجعل البحث النظری داخل هذه النصوص هی من الاهتمامات المتعمقة فی اشعار القاریء الجاد بان هناك معطیات عدیدة تقوم بعملیة التحلیل لهذا الاشعار الصوتی الخفی وهو یبلور نقطة عمیقة الجذور فی خلق هذا الكشف الدقیق للخصائص الاصیلة فی نظم الایقاع الصوتی الخفی، وقد یظهر هذا النظم عند السیاب وفق تراكیب عدیدة من الاختلافات ذات الدلالات العمیقة وهی القادرة بالمقابل على اضاءة حقائق قیمة ترتبط بالبنیة الاسطوریة وعقول تلك المجامیع البشریة التی تعین هذا الفهم من التطورات التی تحدث فی هذه التشكیلات ذات النظام الایقاعی الظاهر وفق اسس جذریة تتعلق بالدور التكوینی لاساسیات التوازن الاسطوری من الناحیة اللغویة الذی یقوم به التركیب الشعری وفق الصیغة الكیفیة من منظومة اللغة وتفاصیلها الصوتیة الخفیة التی تبلغ عنصر المبحث الشعری الذی یركز على المنظومة الایقاعیة التی تتناسب والمجال الطبیعی لحركة الاسطورة فی (سربروس فی بابل) وهنا یتشكل الفضاء الاسطوری عند السیاب بواسطة مركبات متعددة المستویات یطغی علیها الفعل الدلالی داخل اختلافیة للبنیة وفق قیمة دلالیة للمعنى بانكماش مجال التعدد للمعانی وازدیاد الاكتمال فی الفائدة التی تجعل ثراء المضمون من الناحیة الفنیة هو الجانب الامكانی فی الاستبعاد للمعانی المترهلة ،ونحن مع رای الجرجانی فی المعنى الذی (ینقسم الى قسمین)(قسم انت ترى احد الشاعرین فیه قد اتى بالمعنى غفلا ساذجا ، وترى الاخر قد اخرجه فی صورة تروق وتعجب)( ) المعنى الذی یاتی غفلا وفی الصورة الاخرى الذی یاتی مصنوعا ویكون ذلك اما لانه متاخرا قصر عن متقدم واما لانه هدى متاخرا لشیء لم یهتد الیه المتقدم. مثال ذلك:
قال البحتری:
لیل یصادفنی ومرهفة الحشا
ضدین اسهره لها وتنامه


وقول المتنبی :
وقیدت نفسی فی ذراك محبة
ومن وجد الاحسان قیدا تقیدا
وقول المتنبی:
وماثناك كلام الناس عن كرم
ومن یسد طریق العارض الهطل
وقول الكندی:
عزُّوا وعزَّ بعزهم من جاوروا
فهم الذرى وجماجم الهامات
فی هذه الابیات تتشكل الصور بعملیة اختلافیة ، وان البنائیة الشعریة التی تقول (ان المعنى فی هذا البیت هو المعنى فی ذلك ولاخلاف فی معنى عائد الیك فی البیت الثانی فی هیأته وصفته، وان الحكم فی البیتین كحكم الاسمین فی منظومة اللغة مثل (سربروس فی بابل) حسب ماتقوله الاسطورة الیونانیة ، ولكن السیاب جمع (سربروس) وهی كلمة یونانیة مع كلمة تخص حضارة بابل وسربروس كلب یحرس مملكة الموت فی الاساطیر الیونانیة – ولاعلاقة بین سربروس وبابل لان الكلمة الیونانیة لایجمعها جنس واحد مع بابل لان بینهما اختلاف كبیر فی تفاصیل المعنى ولكن هناك تطابق بین سربروس ووجوده الان فی العراق ، والسیاب كان یمیز بین هذه الاساطیر ومسمیاتها لانها تؤدی وظیفة تكاد تكون مطلقة من الناحیة الفنیة وهی تتمازج وتتداخل وتنسجم مع خواصها الاسطوریة برغم التصویر المتناقض فی نظر السیاب الذی انتج هذا التناقض فهو السبیل الى حالة الصیرورة الوجودیة واستمرار الحیاة برغم الاحتلال ورغم مایحدث من انتهاكات مریبة وهذا یذكرنا بقصیدة السیاب (وصیه من محتضر) حین یقول:
این العراق؟ واین شمس ضحاه تحملها سفینة
خیر البلاد سكنتموها بین خضراء وماء
هی جنة فحذار من افعى تدب على ثراها .
هذا یعنی ان الرمز الاسطوری عند السیاب كان رمزا ستراتیجیا فی بابل ولو كان الناقد المبدع عبالجبار عباس حیا لغیر رایه فی مفهوم الاسطورة عند السیاب لجعلها مفهوما ستراتیجیا ولیس كنایة بلاغیة ولیس فرصة للتلذذ باكتشاف الحقائق او الاختفاء وراء هذه الرموز ، وان الوظیفة الاسطوریة لاتنتهی بمجرد الانكشاف للقاریء لتشكیلة هذه الرموز وان سربروس هو لیس رمزا للطاغیة قاسم فقط انما هو رمز لاكبر احتلال عسكری (امیركی بریطانی للعراق) فی العصر الحدیث وفی هذا السیاق اتذكر قال لی الناقد الانطباعی المبدع عبدالجبار عباس ( انی كتبت كتاب السیاب بشكل سریع) ثم یستدرك الناقد الراحل فی الصفحة (196) من كتابه السیاب قائلا ( ان السیاب عمد الى الاكثار من الاساطیر لحاجة تنكریة) ویقول ( ان الاساطیر فی شعره لیست حلیة جمالیة تضاف الى قصائده ویمكن الاستغناء عنها ، بل امست ضرورة فنیة واسلوبا راسخا یبنی به قصیدته حتى لو لم یكن ثمة حرج من مضمون القصیدة بدلیل انه عمد الى هذه الاساطیر فی هجائه للشیوعیین فی قصیدة ( رؤیا 1956) وهذا اعتراف من الناقد المبدع عبالجبار عباس بان الاساطیر تؤدی وظیفة تنكریة قد یصح فی قصیدة ( سربروس فی بابل )( ) وهو رمز اسطوری عبر عن خیبة امل سیاسیة لم تحقق الحلم المنشود فی العراق .
یقول السیاب :
لیعوِ سربروس فی ا لدروب
فی بابل الحزینة المهدمة
ویملأ الفضاء زمزمة ،
یمزق الصغار بالنیوب ، یقضم العظام
ویشرب القلوب
عیناه نیزكان فی الظلام
وشدقه الرهیب موجتان من مُدى
تخبیء الردى .
و العلاقة التی تربط الاسطورة باللغة تكون من خلال ابراز الصورة ومظاهر التكوین فی التشكیلة المرئیة للصورة الشعریة وهی تقتضی رسالة لغویة تحدث داخل مجموعة من الاشیاء وهی تنتقل الى السیاق الاسطوری فی اللغة ، لانها تتخلل اللحظة الحرجة فی التصور داخل مكون لغوی اسطوری یتمتع بالمعنى الدلالی للاسطورة وهو مقتضى جدید لانطولوجیا الاسطورة عند السیاب حیث تعود هذه الجذور الى مفهوم الحاضر الوجودی فی فلسفة الاسطورة وفی اللحظة الراهنة عند السیاب وهو یكتب النص الشعری لانه أقتضاء یتعلق ببیان هذا العنصر الوجودی للاسطورة وملامحه الحاضرة فی مسار التذكیر الواقعی فی (سربروس فی بابل) وهو ایضا الزامی فی تبیان الموجود فی الحاضر ، والامر یتعلق فی مسار الكلب الذی یحرس مملكة الموت فی الاساطیر الیونانیة باعتباره لحظة خطابیة راهنة تتعلق بالحدث التاریخی للاسطورة لانه الكشف عن القیمة الاسطوریة فی ثنایا وجودها الذی تمیز بالتحدیث فی اطارها الفلسفی وهو تساؤل عن اللحظة ودلالتها اللغویة ومدى الامكانیة التی توفرها الاسطورة فی تدشین التحدیث كمسار یتمحور داخل منظومة التاریخ التی ارست الاشكالیة التقنیة كما تفسرها النصوص الاسطوریه ، وهی قیمة تقع فی مركزیة حركة التاریخ لانها اثبتت خصوصیة هذا التحدیث الاسطوری داخل نصوص السیاب الشعریة ، والسیاب اسس هذا التوازن الاسطوری فی فلسفة التحدیث وعمد على نقله خطابیا داخل شروط امكانیه ومعرفیة وهی تتحرك بملاحظة جد تحدیثیة وفق مقتضیات الحالة الراهنة ، فالكلب (سربروس ) هو نفس الكلب الذی یجوب العراق من شماله الى جنوبه حالیا وهو نفس العراق المهدم وسربروس الذی یمزق اطفاله( بالنیوب ویقضم العظام) وینشر الخراب والمكان هو العراق ولبنان وفلسطین الحقول التجریبیة فیما یتعلق بتحلیل النص الشعری بانطولوجیا الحاضر، ویرى السیاب ان التشخیص الدقیق لفلسفة الاختیار الاسطوری فی اللحظة الراهنة هو الشكل الممتد داخل اسس منهجیة تندرج داخل النص الشعری ،هذا المنهج اللاسطوری هو الذی شكل حفریات المعرفة منذ البدایة لدى السیاب وهو التجسید الحقیقی لما یحدث باختیار یمتد عبر التاریخ . والسیاب حول هذا الرصد للوحدات الاسطوریة بتجذیر یتعلق بالمقولات الواعیة التی تولدت بلغة اتصالیة عالیة الوقع بعد ان قوض مفهوم الوظیفة التنكریة للاسطورة التی اشتملت الحس التاریخی الذی یلوذ به السیاب كما یتهمه البعض من النقاد هنا وهناك فی كتب النقد ، فالسیاب لابس التاریخ بالاسطورة وبشكل تحدیثی باعتبارها تحول فی الانساق وتباین فی الانشطار الذی اصبح یطبع مسار النص الشعری للسیاب .
اشداقه الرهیبة الثلاثة احتراق
یؤج فی العراق-
لیعِو سربروس فی الدروب
وینبش التراب عن الهنا الدفین
تموزنا الطعین،
یاكله : یمص عینیه الى القرار ،
فی هذه الابیات یشكل المنظور اللغوی بانساق فلسفة الاسطورة واقعا جدلیا یستطلع اشكالیة التاریخ ، اننا نستطیع ان نفكك هذا التشكیل فی اللغة الاسطوریة وفق انموذج بنائی یعكس دعامة الوجود الصوتی الخفی للنص وفق مركزیة الماضی والحاضر ووفق رؤیة ارسطیة تفترض التاسیس اللغوی باقتراب یصور تدرج هذه العملیات وفق زمنیة لغویة تتقدمها المصدریة السیكولوجیة وفق منظومة تعتمد الثنائیة ( السیكولوجیة) الذهنیة فی استعمال یجذر التعیین بنظریة اللغة وذهنیة القدرة التطبیقیة للاسطورة واعادة تشكیل الوعی باستدعاء حركیة التاویل لنمطیة التفكیك الارسطی لهذه الوحدات التی تشكلت بنواة النظریة البنائیة فی اللغة ، فالسیاب افصح عن الابنیة النصیة باحتیاطی وفره ببناء سابق فی حلقة القص الاسطوری ورهافة فی النسج الشعری حیث طور هذه التكوینیة الاسطوریة بمشاهدة وسماع (العواء لسربروس) فی الدروب وفق منطق اجرائی انتجه السیاق الفلسفی للنص وفق انتقائیة تاملیة ماخوذة من تجربة الیباب لالیوت وعملیة النبش فی التراب والبحث الدقیق فی ثنایا التركیب للاسطورة فی (تموزنا الطعین) والسیاب واصل تتبع الواقعة المحسوسة سسیولوجیا انه الفعل العملی لتجمیع الحدود الفلسفیة للاسطورة داخل بوتقة التفكیك التعاقبی الذی شكله الصوت فی (یاكله یمص عینیه الى القرار) وهذا تحول فی المنظور الرؤیوی عند السیاب فی فلسفة اللغة الاسطوریة من وجهة النظر المركزیة للابنیة النصیة وهی تقوم بتاهیل الوعی الاسطوری من وجهة نظر دالة وشروح تمرر هذا الارث الفلسفی للاسطورة عند السیاب .
یقصم صلبه القوی، یحطم الجراء
بین یدیه ، ینثر الورود والشقیق .
اواه لو یُفیق
الهنا الفتیُ، لویبرعم الحقول ،
لو ینثر البیادر النضارفی السهول،
لو ینتضی الحسام ، لویفجر الرعود والبروق والمطر
ویطلق السیول من یدیه. اه لو یؤوب !
ان المباشرة بتمثیل العودة لحقیقة بعث الحیاة من جدید لانها العنصر الوسیط الذی یربط بین لغة التمثیل هذه من الناحیة (السیمیولوجیة) لانها تفعل فعل التجاوز لحدود اللغة العادیة ای لغة الاداة الى لغة الاسطورة الفلسفیة وهذا موضوع یعكس المبحث (السیمیولوجی) فی وحداته الدالة الكبرى لان المنحى اللغوی الذی ینتهجه السیاب فی هذه الاشكالیة هو منحى الرسائل المشفرة التی تتواصل مع العام الاسطوری لفلسفة اللغة وفق دراسة بنائیة تتموضع داخل الوظیفة الشعریة لانها الاهمیة الدقیقة فی اقتضاء الضرورة لان السیاب یقوم بایقاف الانماط التقلیدیة للغة ذلك بانتقاله الى العمق لینشر البیادر النضار فی السهول ، فهو یربط التفاوت الاختلافی فی اللغة وفق سیمیولوجیا تاسیسیة لرموز اسطوریة یستخدمها السیاب كرسائل مشفرة یحاول ان یتواصل مع الرمزیة التقلیدیة للغة وبالمحاور اللغویة الاوسع فی ظل سیمیولوجیة التواصل (الانثروبولوجی للغة) (لو ینتضی الحسام ، لویفجر الرعود والبروق والمطر ) ویطلق السیول من یدیه . اه لو یؤوب !) وهذه حالة التصنیف للابنیة اللغویة وفق تلك المعاییر المشفرة عند السیاب من الناحیة الاسطوریة . والسیاب اعتمد علاقة التجاور الحسی فی اللغة، فالاشارة عنده ترتبط (بالدال والمدلول) وهی تتجاوز المنحى الواقعی الى مشهد الواقع الاسطوری ، وهناك علاقة ایقونیة تتمركز فی الدال والمدلول فهی ترتبط بالمشاركات الشكلیة وتظهر اثناء القراءة او فی التصویر اللغوی للمشهد فی حقیقته الاسطوریة ( الهنا الفتی لو یبرعم الحقول). لقد اتخذ السیاب فی بنائه الاسطوری دلالة تحدیثیة قائمة بین ماحدث فی العراق فی المرحلة الماضیة ای فی العام 1959 وبین ما یحدث الان من اشكالیات وتجاوز فی ظل الاحتلال العسكری الامیركی البریطانی للعراق ، ففعل التشابه قائم بین المرحلتین التاریخیتین قبل العام 1958 وامتداداتهما فیما بعد وما حصل من نزاعات سیاسیة ، هذه التركیبة او المعادلة الرمزیة فهی تؤكد الدال والمدلول فی الرابطة الفعلیة بین الداخل والخارج والحالة الرمزیة التی لم تنفصل لانها تمثل مرجعیات رمزیة واسطوریة مختلفة ، واننا نلاحظ هذا التنوع التدریجی القائم على الانتقال داخل الحدث التاریخی من مرتبة تحدیثیة فی النص الى مرتبة تحدیثیة اخرى وهی تتشكل من الناحیة اللغویة على اساس تقلیدی فی عملیة تفصیل الحدث كما قلنا فی بدایة هذا البحث ، الا ان الوظیفة الاسطوریة هی التی تخضع هذه المستویات من البنیة اللغویة الى الحالة الضروریه فی تكوین الصیرورة ، وهو مظهر اشاری مشفر عند السیاب لانه یكتسب اهمیة (سیمیولوجیة) من ناحیة انتاج الرمز الاشاری لیتفاعل مع العناصر الایقونیة التی تتمثل فی الدوائر اللغویة المشفرة مع الاخذ بعین الاعتبار الرموز اللغویة الاداتیة التی تنبنی بالتقابل مع هذه المفاصل الرمزیة المحددة بالسیمیولوجیا الثقافیة وهی تضفی على النص عدة من الدلالات والاعتبارات السسیولوجیة العامة .
یقول السیاب:
لحافنا التراب ، فوقه من القمر
دم ، ومن نهود نسوة العراق طین .
ونحن اذ نبض من مغاور السنین
نرى العراق ، یسال الصغار فی قراره :
(ما القمح ؟ ماالثمر ؟ )
ماالماء ؟ ماالمهود ؟ ماالاله ؟ ماالبشر ؟
فالتقسیم الذی تمحور فی العلاقة السیمیولوجیة الخاصة بین (سربروس الامیركی فی العراق) وهی الاشارة التی تتضمن العلاقة بین الدال والمدلول وفق منظومة (داخلیة وخارجیة) وهی ترتبط باشارات تتكون من سیاقات متجاورة ومعروفة ، اما التشابه الحسی (لسیمیولوجیا اللغة) التی تركزت على التجاور الواقعی وفق انموذج لغوی اسطوری واضح وهو یشیر الى العلاقة الایقونیة بین الدال والمدلول بالمشاركة النوعیة التی تظهر للمتلقی لهذه الابیات الشعریة التحدیثیة عند السیاب لتضع التشابه وفق النسبة والتناسب فی اطار مراحل تاریخیة تتجلى فیها المشاهد (السسیولوجیة الحسیة) وتلتقی فیها الصیغ المتناظرة بقساوة تلك الابعاد التاریخیة ، والتشابه الحاصل فی المحصلات فی العراق ماقبل العام 1958 وما بعدها وبین احتلال العراق فی العام 2003 من قبل الامبراطوریة العسكریة الامیركیة ، فالذی حصل هو صدق حدس السیاب فی التحدیث للنص الشعری وماشكله من رموز اسطوریة فی الكلب (سربروس) هذا الكلب الاسطوری الذی ظهر فی مرحلتین تاریخیتین من اخطر المراحل التأرخیة التی حدثت فی العراق الذی شكل التنوع فی الدلالة التحدیثیة فاصبح معناه الرمزی یقع طردیا فی سلم التاریخ وفی المقدمة فی تصویر فعل هذا التجاور وقوته اللغویة الاسطوریة وتراثه وعمقه الرمزی ، والسیاب یهدف من هذا التحدیث السسیولوجی للنص الشعری عبر البحث السیمیولوجی ووفق وظیفة بنائیة فی تمثیل قائمة من الاسئلة ، ولذلك ینبغی ان نحدد طریقة الانبثاق فی تفصیل معیار الحدث الشعری وهو یتركب من الاشیاء لیتصل بتلك المحاور السیمیولوجیة التی تشیر الى الضرورات الدالة فی ( ما القمح؟ ما الثمر ؟ ما الماء ؟ مالمهود ؟ ما الاله ؟ ما البشر ؟ ) هذه الضرورات من الاسئلة تتعرض لجوانب سیكولوجیة وسسیولوجیة واقتصادیة ودینیة اضافة الى الدلالة الرمزیة التكوینیة وهذا یرتبط بتشكیلة الانبثاق التی تتعلق بمنهجیة التحدیث للنص الشعری عند السیاب ، فكـان جواب السیاب:
رفیقة الزهور والمیاه والطیوب ،
عشتار ربة الشمال والجنوب ،
تسیر فی السهول والوهاد
تسیر فی الدروب
تلقط منها لحن تموزاذا انتثر ،
تلمه فی سلة كأنه الثمر
لكن سربروس بابل – الجحیم
یحبُ . فی الدروب خلفها ویركض
ان الوصول الى البنیة السیمیولوجیة یؤكدها الاختیار التوثیقی للدلالة فی انتظام یستخلصه كشف القواعد العملیة للغة الاسطوریة وفق المستوى التوقیتی الذی الزمه التناول لزمنیة عشتار الدالة من الناحیة الاسطوریة , وهی زمنیة متغیرة وفق حتمیات واختیارات تتوضح انظمتها بالبحث على مستوى التاریخ للوصول الى حالة ایقاعیة تؤكد سر المتغیرات فی الوعی السیمیولوجی للاسطورة ،وهنا یتم اخضاع العنصر السیاقی الى مفهوم الدوائر الدلالیة وفق استیعاب ینبثق بدلالة اختلافیة للاسطوره(عشتار ربة الشمال والجنوب ) و(تلقط منها لحم تموز اذا انتثر ،) وهنا تاتی وظیفة النظم الدلالی المتعلقة بالمنهجیة السیمیولوجیة طبقا للحالة البنائیة ، والسیاب یتمثل تصوره للاشیاء من خلال تواصل حلقة الانبثاق للاتصال بالموضوع السیمیولوجی للاسطورة وتشیر دلالة الاشیاء الى الحالة الضروریة التی یتركب فیها مستوى الوعی للاسطورة والتضامن الذی تقتضیه الوحدات المتبادلة سواء على المستوى اللغوی للاسطورة او مستوى الانساق التوفیقیة داخل البنیة اللغویة ، فالاختیار یأتی مرة اخرى فی نظر السیاب بحركة الفعل الانبثاقی حیث تنبعث عشتار بحكم التوفیقیة الاسطوریة وبرغم الخضوع السیاقی وتدرجه واحتمالاته ، فالمنظومة الاسطوریة تتناسب بشكل عكسی مع حجم الواقعة والوقیعة التی احدثها (سربروس فی عشتار ) لكن الادلة اللغویة تشیر الى عملیة التوازن عند السیاب وهی عودة البنیة الاسطوریة فی التدرج والتقنیة فی الانبعاث . هذا التدرّج هو الذی یحدد مفهوم التغایر الذی یحدث فی سیمیولوجیة اللغة بصفته تطابقا یفضی الى حاجة واستجابات لوسائط تتموضع فی الاتساق والمكوث والاجابة على كل الاحتمالات التی یحدثها ( سربروس فی بابل وفی عشتار حصرا)
یمزق النعال فی اقدامها یعضعض ،
سیقانها اللدان ، ینهش الیدین او یمزق الرداء.
یلوث الوشاح بالدم القدیم
یمزج الدم الجدید بالعواء .
لیعوِ سربروس فی الدروب
لینهش الالهة الحزینة ، الالهة المروعه ،
فان من دمائها ستخضب الحبوب
سینبت الاله ، فالشرائح الموزعة
تجمعت ؟ تململت . سیولد الضیاء
من رحم یترُُّ بالدماء .
لقد افرغ السیاب اللغة من التلیّف والخضوع الى طائلة الذات الاسطوریة وعممها بالواقعة وبحركة تصویریة مثلت أداة التبادل فی هذه الوقائع من صیغ اللفظ السیمیولوجی الذی افصح عن معناه بطریقة منفتحة على الحس والربط الجدلی بین هذا التموضع داخل الحس والنسج داخل الجملة الشعریة بافتراض مبحث سیمیولوجی یخضع العلامة الى الدلالة كما فی (لینهش الالهة الحزینة ، الالهة المروعة ، فان من دمها ستخضب الحبوب) فالمبحث الدلالی اكتسب الجدیة فی الاتصال بالاخر حیث استند الى المطابقة فی اللغة والتوثیق الاسطوریین وفق مقاومة تتشكل بالواقعة لعشتار والعودة الى الجذور الفكریة للاسطورة الرافدینیة باعتماد المغزى السسیولوجی، لان هذا الافتراض یذكرنا بالمغزى الفكری وفق دلالة لغویة تشكل المحتوى لهذا الفكر الرافدینی ، والسیاب موضع المستوى الدلالی حین موضع اللغة وطوع الاسطورة تحت هامش التاویل باستهداف یمتلك انعكاسیة مرتبطة بالخطاب الشعری المتین الذی وضع ارضیة للدلالة تحت رایة اللغة الاسطوریة بانجاز تخاطبی ذی اهمیة ( انثروبولوجیة) مكن السیاب من خلال التعبیر الاسطوری واللغة المؤسطرة العالیة الخصوبة ان یؤكد هذا الانفتاح داخل رؤیة جدلیة وجودیة تعنی بحركة الاتصال والتواصل مع جدلیة التاریخ من خلال الكشف اللغوی للاسطورة وعلاقتها التحدیثیة بالنص الشعری صاحب الجاذبیة العلائقیة فی التحدیث .

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:4|
تحلیل الخطاب.. مقدمة للقارئ العربی




تقدیم:

مصطلحات كل علم تالیةٌ له فی الوجود، وكلّما تقدّم العلم إلاَّ ونمت مصطلحاته، وتحدَّدت معانیها، ممّا یفرض على العلم حتمیَة الرُّجُوع إلى ذاته لتأمُّلها ومساءلتها بمناقشة تصوُّراته ومصطلحاته، وإذا لم یفعل ذلك فالتاریخ كفیلٌ بأنْ یقومَ بهذا العمل، ممّا یفضحه أمام ذاته وأمام الآخرین.

وتسعى هذه المساءلة، التی أحسبها مقدمة للقارئ العربی، إلى استنطاق بعضٍ من الموروث النقدی والمصطلحی العربی والغربی من منظور معجمی ودلالی وتنظیری بما یكفل الوقوف على دلالات: النص والخطاب وما یعتریهما من تداخل وتلازم مع كلٍّ من التحلیل والنّقد والقراءة.

هذا وأخشى أن أكون فی تقدیمی لهذا البحث مثلُ الذی آخذه على المشتغلین فی حقل الدراسات اللسانیة والنقدیة من الاختلاط والتراكم وغیاب النّسق، وإذن تكون مداخلتی هذه دلیلاً ذاتیاً على الموضوع الذی تتصدّى له، ولا ضَیْر، لأنّ مطلق التصریح بهذا الوعی الذاتی خطوةً نحو تجاوز هذا الوضع.

أولاُ: بین النص والخطاب:

1-النص:

النّون والصّاد أصل صحیح یدلّ على رَفْعٍ وارتفاعٍ وانتهاء فی الشیء. یقالُ:نصَّ الحدیثَ إلى فلان: رَفَعه إلیه. والنَّصُّ فی السَّیْر أَرْفَعُه. ومِنَصَّةُ العَرُوس منه أیضاً. وباتً فُلاَنٌ مُنْتَصّاً على بعیره، أی مُنْتَصِباً. ونَصُّ كلِّ شیء:مُنْتَهاهُ. ونَصَصْتُ الرَّجُلَ: استقْصَیْتُ مسألتَه عن الشیء حتّى تستخرجَ ما عنده. وهو القیاسُ،لأنّك تبتغی بُلُوغَ النِّهایة. ومن هذه الكلمة النَّصْنَصَةُ: إثباتُ البعیر رُكْبَتَیْه فی الأرضِ إذا هَمَّ بالنُّهُوض. والنَّصْنَصَةُ: التَّحْریكُ. والنُّصَّةُ: القَصَّةُ من شَعْر الرَّأْس، وهی على مَوْضِعٍ رَفیعٍ.

ومن المنظور الاصطلاحی، فإن النص "نسج تتخلّله جملة من الوحدات الدالة والمفاهیم القائمة"، وهو تعریف "رولان برث". وانطلاقا من تعریف النص المقترح من "تودوروف فإن النص لا یقع فی المستوى نفسه الذی تقع فیه الجملة، كما أنه لا یقع موقعها من حیث المفهوم. وعلى هذا الأساس فإن النص یجب أن یتمیز عن الفِقْرة باعتبارها وحدة نمطیة من عدة جمل، لذا، یمكن عدُّها علامة من علامات الترقیم. كما أنّ النصّ فی تصوّّر "تودوروف" یتحدّد باستقلالیته وانغلاقه (أی له بدایة ونهایة)، كما أنّه ذو محتوى دلالی متجانس متكامل، ویمتاز بالوضوح، بینما سعى بنفنیست" إلى القول بأنّ: "الجملة إبداعٌ لیس له تعریف، وتنوّعٌ بدون حدود، وهی الحیاة نفسها للغة فی أثناء الفعل".

كما انتهى محمد مفتاح إلى أنَّ النصّ "مدوَّنة حدث كلامی ذی وظائف متعدّدة"، وذلك على الرّغم من إقراره المبدئی بأنَّ "للنصّ تعاریف عدیدة تعكس توجهات معرفیة ونظریة ومنهجیة مختلفة".

فبوصفه:

- "مدوَّنة كلامیة"، یعنی أنّه لیس صورة فوتوغرافیة أو رسما أو عمارة أو زیّاً، وإن استعان الدَّارس برسم الكتابة وفضائها وهندستها فی التحلیل.

- "حدث": یقع فی زمان ومكان معیّنیْن لا یعید نفسه إعادة مطلقة مثله فی ذلك مثل الحدث التاریخی.

- "تواصلی": یهدف إلى إیصال معلومات ومعارف ونقل تجارب إلى المتلقی.

- "تفاعلی": على اعتبار أنَّ أهم وظائفه التفاعلیة للنصّ اللغوی هی تلك التی تقیم علاقات بین أفراد المجتمع وتحافظ علیها، علماً بأنّ الوظیفة التواصلیة فی اللغة لیست كلّ شیء.

- "مغلق": ونقصد انعلاق سمته الكتابیة الأیقونیة التی لها بدایة ونهایة، ولكنّه من الناحیة المعنویة هو:

- "توالدی": كون الحدث اللغوی لیس منبثقاً من عدم، وإنّما هو متولّد من أحداث تاریخیة ونفسانیة ولغویة، وتتناسل منه أحداث لغویة لاحقة به.

تلك هی أهم "المقومات الجوهریة الأساسیة "للنص من وجهة نظر بنیویة، واجتماعیة أدبیة، ونفسیة دلالیة، ووفق منظور تحلیل الخطاب".

فالنص إذن، منعكس لثقافة المجتمع بكافة شبكاته المعقدة عبر التاریخ والجغرافیة والعلاقات بین الأفراد أی أنه ذاكرة ملخصة للنظام المعرفی للمجتمع. فالنص أیا كان هو مجموعة من العلاقات اللغویة التی تخدم فكرة أو مجموعة أفكار أو مفاهیم قابلة للتفسیر والشرح والتأویل مما یمهد لتطویع النص لقراءات جدیدة أو تأكید قراءة ما.

2- الخطاب:

لغة: من خَطَبَ: یقال خاطَبَهُ، یُخَاطِبُهُ خِطاباً، والخُطْبَةُ من ذلك، وهی: الكلام المَخْطُوبُ به. والخَطْب: الأمر یقعُ، وإنَّما یُسَمَّى بذلك لما یقعُ فیه من التَّخاطُب والمُراجَعَة. وفَصْلُ الخِطاب: أی خِطابٌ لا یكونُ فیه اخْتِصارٌ مُخلٌّ ولا إسْهَابٌ مُمِلٌّ.

وهو فی الاصطلاح: الكلام بین اثنین بوساطة شَفَهیة أو مَكْتُوبة أو مَرْئِیَة، والخِطَابُ: الرِّسَالةُ، وهو ممّا أقرّه مَجْمعُ اللغة العربیة بالقاهرة.

وهو فی عرف ج. دوبوا من وجهة نَظَرٍ لسَانِیة متعدّدُ المفاهیم، إذْ یُمكن أن یكون:

1- الكلام

2- مرادف للملفوظ

3- ملفوظ أكبر من الجملة

فإذا وقفنا على هذه المفاهیم الثلاثة، ألفینا رولان بارث نتصر للتحدید الثالث، ویتّخذه مرتكزاً لتحلیله البنیوی، فمن وجهة نظر القواعد فهو سلسلة متتالیة من الجمل. ولكن التحلیل اللسانی للخطاب ینطلق من التعریف الثانی (خطاب/ ملفوظ)، إذ المنطلق یضع حدوداً للطرح بین ما هو لسانی وغیر لسانی، ذلك لأنّ اللسانیات تسعى لمعالجة الملفوظات المجتمعة، ودراسة مسارها عندما تحدّد قواعد للخطاب وقوانین، وتصفه وصفاُ معقولاً وقابلاً للملاحظة والتأمّل كسلسلة متتالیة من الجمل.

ثانیاً- لماذا اعتماد الخطاب المكتوب دون المنطوق؟

اللغة نظام. والنّظام اللغوی أنماطٌ عرفیة تنتظم فی الأصوات والكلمات والتراكیب للتعبیر عن المعانی والتجارب والأحداث والمشاعر. أمّا الأنماط، فهی صور المفردات، نحو (فَعَلَ، فُعِلَ) وبالنسبة للأسماء (المجرّد والمزید). فالأنماط إذن: صیغ تواضع علیها الأفراد فی مجتمع ما وتنتظم فیها الأصوات والكلمات (إذ لا یمكن أن نقول مثلاً فی "المَجْلِس" (على وزن مَفْعِل) "تَجَلَّسَ"، أی أنّ كلّ حرف یأخذ موضعه المُحدّد من الصیغة.

وبناءً على ما سبق یمكن أن نجمل مستویات الأداء اللغوی فی ثلاثة أمور أساسیة، هی:

1- الأداء العامّی: الذی ینقل ما فی الحیاة الیومیة بتراكیب وأصوات فیها الاضطراب والعُجْمة.

2- الأداء العلمی لنقل الأفكار، ویكون بأصوات وتراكیب تعتمد الصحّة فحسب.

3- المستوى الفنّی لنقل التجارب: ویظهر فی أصوات وتراكیب تعتمد الفصاحة والبلاغة، إذ یجب أن نختار الأغراض المناسبة لهذا الفن أو ذاك (ترحّم، أسىً، رثاء)، وأن نختار التعبیر الصحیح البلیغ والعبارة المؤثّرة قصد التأثیر بأسالیب فنیة تناسب المقام وتعتمد ضوابط مشتركة توافق القیاس والسّماع.

إن اللغة مجموعة من العناصر اللغویة التی یعتمدها المتكلم أو الكاتب فی صیاغته نصوصه، بینما فی مجال الخطاب یعتمد موروثه اللغوی المكتسب أداة لإنجاز رسالة خاصة، وفق ملابسات وظروف معینة. وعلى هذا فالخطاب لا یكافئ اللغة فی شیء بل یختلف عنها جملة وتفصیلا.

ثالثاً:- بین الخطاب الأدبی والنصّ الأدبی:

إن المجتمع ینتج نصوصاً أدبیة، وعلى اللغوی أن یكتفی بعرض جملة من المفاهیم والحدود الكفیلة بإیضاح خصائص أسلوبیة على نحو تحدیده مواقع النّعوت فی مثل: (سعید أشقر اللّون) و (سعید وسیمٌ قسیمٌ)، فالنَّعتُ فی المثال الأوّل وصفی، وفی المثال الثّانی تقویمی، وعلى هذا فالنصّ الأدبی إیحائی الدّلالی بینما یرمی الخطاب الأدبی یرمی إلى التواصل الأدبی (نظریة الأدب)، والمشكلة إزاء ذلك لا تزال قائمة، یضاف إلى ذلك أنّ الخطاب التأویلی لا یزال حقلاً معرفیاُ لا یمكن حصره على وجه من الوجوه. كما أنّه لا یمكننا بأی حال من الأحوال أن نضع النصّ الأدبی الشعری والنّصوص العلمیة والدینیة (تجوّزاً) على قدر من المساواة فی المعالجة والمعاملة. "لذلك فالنصُّ الشّعری مثلاً لیس مدوَّنة أحكام سماویة تقدّم مسبقاً أجوبة عمّا تطرحهُ من أسئلة. فخلافاً للنصّ الدینی الشّرعی الذی یعدُّ حجّةً والذی یتعیّنُ إدراك معناه الجاهز على كلّ امرئ یمتلك أذنیْن للسَّماع، فإنّ النصّ الشعری متصوَّرٌ على أنّه بنیَة تقتضی أن ینمو فیها، ضمن فهم متَحاوَرٍ حُرٍّ، معنىً لیس مُنَزَّلا من أوّل وهلة، بل معنىً یتمُّ تفعیلهُ خلال تلقیّه المتعاقب التی یُطابقُ تسلسلُها الأسئلة والأجوبة. وجمالیة التلقی تحدّد لنفسها غایة الكشف عن الكیفیة التی یتمُّ بها تشكُّلُ المعنى حین یُنجزُ الشّاعر صراحةً هذا التسلسل الذی یظلُّ على العكس كامناً فی أغلب الأحیان".

فجمالیة التلقی إذن، دعوة إلى تأویل جدید للنص الأدبی یروم استجلاء سمات التفرّد وإبداع فیه (أو نقیضهما الإتّباع ووالابتذال) لا باستنطاق عمقه الفكری فی حدّ ذاته أو وصف سیرورة تشكّله الخارجی كما هی فی ذاتها، وإنّما بتحدید طبیعة وقعه وشدّة أثره فی القراءة والنقّاد من ردود فعلهم وخطاباتهم. فهی إذن نقدٌ للنصّ بنقد تلقّیه، الأمر الذی یعدم أیّ علاقة بین جمالیة التلقّی ونقد النّقد.

على أن من الدَّارسین المحدثین من یوجب الإقرار بأنه من "العبث، البحث عن فوارق أو أوجه التقارب بین الخطاب والنص، ذلك لأنّ مفهوم الخطاب احتضنته علوم لسانیة وقَعَّدت له، فصار حقلاً من حقولها، ولمّا تلقّفه المعجم النقدی للعلوم الإنسانیة انزاح عن خصوصیته اللسانیة، فعرَف توسّعاً فی الاستعمال، وإنْ حرص بعض الدّارسین فی حقول العلوم الإنسانیة والاجتماعیة على الاحتفاظ بجوهر مرجعیته اللسانیة. لكنّنا عندما نُعاین استعمالاته فی كتاباتهم ونقابلها بالدراسات اللسانیة الصّارمة، تظهر الهوّة كبیرة. أمّا مصطلح النصّ، إذا لم یستقر له تصوُّرٌ لدى المنظّرین، حیث اعترفوا بصعوبة تحدید ماهیته، فمن العسیر أیضاً التقریب بینه وبین الخطاب، ذلك أنّ نظریة النصّ تنزع نحو الدرس الفلسفی والجمالی، لهذا وجبَ التریُّث فی استعمال المفاهیم وتحدید مواقعها فی المعجم النقدی، بل أصبح الأمر فی بعض الأحیان لهواً وتَرفاً علمیَّیْن لا جدوى منه". وفی هذا إقرار بعدم القول بالتطابق التامّ بینهما.

رابعاً-التحلیل:

لغة: من حلّل العقدة: أی فكها وحلّل الشیء: أرجعه إلى عناصره الأولى. وحلَّلْت الیمین أحلِّلها تحلیلا: أی لمْ أفعلْ إلاَّ بقَدْر ما حلَّلتُ به قَسَمی أنْ أفْعَلَهُ ولمْ أُبالغ، ثمَّ كثُر هذا فی كلامهم حتَّى قیل لكل شیء لمْ یُبالغ فیه تحلیلٌ.

والتحلیل اصطلاحا: هو بیان أجزاء الشیء ووظیفة كل جزء فیها ویقوم على الشرح والتفسیر والتأویل والعمل على جعل النص واضحًا جلیّاً. ومن هذا المنطلق یركز الناقد على اللغة والأسلوب والعلاقات المتبادلة بین الأجزاء والكل، لكی یصبح معنى النص ورمزیته واضحَین، من حیث یعتمد التلخیص لما فیها من تنظیم المعلومات بشكل منطقی، وقدرةً على فهم النص. لذا فإنّ قراءة النص على عَجَلٍ لا تعد تحلیلا، فإذا وقف القارئ على النص وقفة سریعة وفهم فیها النص وأدرك مغزاه، وقرأ ما بین السُّطور، وكان على وعی بالدلالات الاجتماعیة للألفاظ، وعرف عناصر الجمال والقبح فیه، دخل فی منطقة النقد والتذوق الأدبی. أما عملیة التحلیل الفنی فإنها تحتاج إلى جهد ووقت وخبرة وبحث وتنقیر.

أمّا وقد قام التحلیل على التفسیر والشرح والتأویل، ألا یوجد فرق بین هذه المعانی جمیعها؟

الحقّ أن أغلب هذه المعانی معانٍ مشتركة, وإن كانت فی الوقت نفسه تتفرَّدُ بدلالات خاصة تمیزها عن المعانی الأخرى, إلا أن الشرح ارتبط كثیرا بالتفسیر, ولعل هذه المفردة هی التی تؤدی المعنى على أحسن وجه, فالمعانی الأخرى تحوی معنى الشرح ولكنها لا تشمله. فالشرح، وإن ارتبط بمعانی الكشف والتوضیح والبیان, والفتح والتفسیر والحفظ فإنّه یجمع بین بیان وضع اللفظ وبین تفسیر باطن اللفظ, أی "التفسیر" و"التأویل"، أمّا "التفسیر" فكشْفُ المُراد عن اللفظ المشكل وبیان وضع اللفظ إمّا حقیقة أو مجازاً. أمّا "التأویل" فمن: أوَّل الكلام وتأوَّله: دبَّره وقدَّره وأوَّله: فسَّره، ویكون ذلك بردّ أحد المحتمَلَیْن إلى ما یطابق الظاهر، وبذلك خرجت دلالات هذه الألفاظ من معنى المشترك حین دخلت مجال الدراسة العلمیة , فاختص التأویل والتفسیر بالدراسة القرآنیة والمعجمیة, والشرح بالشعر, إلا فیما ندر, وأصبح لكل منها اصطلاح خاص به. فالشرح هو التعلیق على مصنف درس من وجهة علوم مختلفة وقد كتبت الشروح على معظم الرسائل المشهورة أو الأشعار العربیة نحو شرح مقامات الحریری (ت516هـ)، وشرح مشكل شعر المتنبی لابن سیده (ت 458هـ). وعلى هذا فالشّرح أیضا:" توضیح المعنى البعید بمعان قریبة معروفة "ومن هنا اكتسب الشرح معناه الخاص. وأما التفسیر, فهو شرح, لكنه من نوع آخر, فهو "شرح لغوی أو مذهبی لنص من النصوص" ومن هنا نجد أنّ هذا الاختصاص لم یأت اعتباطا, فلكل مصطلح مجاله الذی یتقاطع فیه مع المجال الثانی, لكنه لا یتّحد معه على الرغم من اتحادهما فی الأصل اللغوی.

وعلى هذا فإن الشرح لفظ عام, وهو مصطلح ذو شقّین: التفسیر والتأویل, وقد یتداخل الشِّقاَّن أثناء عملیة الشرح, فنضطر إلى التعامل مع التفسیر على أنّه مرادف للشرح.

وبناءً على ما تقدّم، فإنّ التحلیل: هو دراسة نقف بها على كشف خبایاها الرسالة المنطوقة أو المكتوبة أو المرئیة، كما نقف على جزئیاتها وعناصرها الأولیة، ووظیفة كل منها بالشرح والتفسیر والتأویل، دون مبالغة فی ذلك أو إخلال فیه.

خامساً- النقد:

من نقَدَ، وهو "أصل صحیح على إبرَاز شیء وبُروزه. من ذلك: النَّقْد فی الحافر، وهو تقشُّره. والنَّقْد فی الضِّرْس: تكسُّره، وذلك یكون بتكشف لِیطِه عنه, ومن الباب: نَقْدُ الدِّرْهَم، وذلك أن یُكْشَفَ عن الحَال فی جَوْدته أو غیر ذلك. ودرهم نقد: وَازِنٌ جیِّدٌ، كأنه قد كشف عن حاله فعُلِم. وتقولُ العربُ: ما زالَ فُلانٌ یَنْقُدُ الشَّیءَ، إذا لَمْ یُدیمُ النَّظَر إلیه باختلاسٍ حتَّى لا یُفْطَنَ لهُ.

على أنَّ النَّقْدَ الذی یعنی التَّمْییزَ یعبّرُ عن حُكْمِ قیمة جمالیة بالجَوْدة أوْ الرَّداءَة هیَّأ لاستخدامه مجازاً فی التََّمْییز بین جیِّد الشِّعْر والكلام وردیئهما إلى أن ظهرت وظیفة ناقد الكلام والنَّاقد الأدبی. "فالنّاقد الأدبی إذن یعدُّ مبدئیاً خبیراً یستعمل قدرة خاصة ومرانة خاصة فی قطعة من الفن الأدبی هی عمل لمؤلِّف ما یفحص مزایاها وعیوبها ویصدر علیها حُكماً". فمن المَجاز قولهم: "نقدَ الكلامَ: ناقشهُ. وهو من نَقَدَة الشِّعر ونُقّاده. وانْتَقَدَ الشِّعْرَ على قَائله".

وقد أتى على أهل التألیف حینٌ من الدَّهْر ساروا فیه بین (نقد الشِّعر) و (تمییز جیِّده من ردیئه)، یقول قدامة بن جعفر (ت337هـ):" ولَمْ أجِدْ أحداً وضَع فی نَقْد الشِّعر وتلخیص جیِّده من ردیئه كتاباً".

وعلى هذا فالنَّقد اصطلاحا: هو حكم ٌ قیمی أو عملیة كشف أو مناقشة یُمَّیز بها الأثر الأدبی أو الفنی جیّده من ردیئه وصحیحه من زیفه،الأمر الذی جعل منه ممارسة تقوم على قواعد معیاریة یُحاكم بها الأثر الأدبی، ممّا حدا بمعظم الدارسین المحدثین إلى إدانته، إدانة ما قام علیه من نقد حدیث ومعاصر. فبعضهم یتّهمه بالتقصیر والضیاع,وفقدان المنهجیة, وبعضهم یتهمه بأنه یخلع على الأدب العربی ثوباً على غیر مثاله, فبدا مُضْحكاً مرفوضاً فی صورته الحدیثة والمعاصرة، الأمر الذی یجعل بعض تطبیقاته ظواهر غیر صحیة تقوم على "التَّخَنْدُق والتحیُّز والمعیاریة"، وصار "ضرَراً" و"خُدعةً" حینما وقفنا قانعین "بما قاله غیرنا عن مؤلّف عظیم بدل أن نذهب مباشرة إلى ذلك الأدیب، ونحاول أن نمتلك أدبه لأنفسنا".

أمّا النقد الحدیث من منظور غربی, فیرى فی النقد القدیم إیمانًا بوجود محتمل نقدی, وأنّه ذو نزعة حرفیة یتعامى عن رؤیة الطبیعة الرمزیة للقول الأدبی, لذا فقد" أصرَّ بارث فی بعض المناسبات أنَّهُ لیس ناقداً أدبیاً. فلقد كان یرى أنّ النَّقد یشتمل على التقویم وإصدار الأحكام، الأمر الذی یرى فیه نشاطاً برجوازیاً رفض أن یشارك فیه"، لذا فإنّه یعوّل على مفهوم ودور للنقد الحدیث یرى فیه النّاقد قد أصبح كاتباً بمعنى الكلمة, وأنّ النقد غدا من الضروری أن یقرأ ككتابة، على اعتبار أنّ النَّاقد لا یُمكنه أن یكون بدیلاً للقارئ فی شیء، إذ لیس من المجد أن یسمح لنفسه- أو یطلب من منه البعض- إعطاء صوت، مهما یكن محترماً، لقراءة الآخرین، ولا یكون هو ذاته سوى قارئ أنَابَهُ آخرون للتعبیر عن مشاعرهم الخاصّة بدعوى معرفته أو قدرته على إصدار الأحكام، أی أن یرمز -باختصار-إلى حقوق جماعة على الأثر الأدبی، لأنّه حتى ولو جاز لنا تعریف النّاقد بأنَّه قارئ یكتب، فذاك یعنی أنّ هذا القارئ یلتقی فی طریقه بوسیط مخیف هو: الكتابة.

ولعلَّ فی تقدیم بارث لنَّقدَ على أنَّه"قراءة عمیقة (وإن ركّزت على جانب معیّن)"، ما یُحدّدُ مفهومه وطبیعته بصورة مؤقّتة، كون هذه القراءة" تكشف فی الأثر الأدبی عن مُدرك محدَّد، وهی فی ذلك تعملُ حقّاً على فكِّ الرُّمُز وتُساهمُ فی التأویل "على اعتبار أنّه یحتلُّ من حیث الفائدة المنهجیة "مكاناً وسطاً بین العلم والقراءة. إنّه یُعطی لغة الكلام الخالص الذی یُقرأ، كما یُعطی كلاماً (بین أشیاء أُخَر) للغة الأسطورة التی صیغ منها الأثر الأدبی، والذی یتناولها العلم."

أمّا "أن تكون القراءة نتاجاً، أی أن نجعل من القارئ منتجاً لا مُستهلكاً"فلیس بالأمر المیسور فی كلّ الأطوار، ولا یسری على كلّ الناس، وعلى كلّ القرّاء، اللهمّ إذا كانت بارث یرمی إلى تضییق مجال القراءة فیحصره فی الكتّاب وحدهم، لأنّ مثل هذا التفكیر ینشأ عنه إلغاء جمهور القرّاء وسوادهم، وهذا الجمهور هو المقصود بالكتابة الأدبیة، إذ لا یمكن أن یكتب الكتّاب لأنفسهم، أو أن یكتبوا لبعضهم بعضاً (وهم قلّة قلیلة على الأرض). إنّه لا ینشأ من مثل هذا التفكیر إلاّ قتل الكتابة، وقتل القرّاء معاً، أی نعیُ الأدب، ثمّ تشییعه إلى مثواه الأخیر وإلى الأبد. لذا بات تحدید مفهوم القراءة ووظیفتها مرهون بتحدید القرّاء. فمن هم هؤلاء؟وما مواصفتهم؟ وما هی أیدیولوجیاتهم؟ وما أذواقهم وما ثقافاتهم؟ وما فلسفاتهم فی الحیاة؟ هل هم العمّال فی المعامل، أم هم الطلاّب فی الجامعات، أم هم الأساتذة الذین یحاضرون فی أصول العلم، أم هم أولئك الذین یكتبون، أی الذین یحترفون الأدب احترافاً؟ أم هم أصناف أُخَر من البشر، وخَلْقٌ من النّاس؟

سادساً- القراءة:

القراءة لغة: تأدیة ألفاظ النص وتتبُّعها نظراً أو نطقاً. ویعتمد القارئ فی ذلك مستویات كالأداء والحفظ والفهم، والتذوق.

1_ مستوى الأداء: وغایة أن یؤدی القارئ الأصوات أو الصور الصوتیة أو الرمزیة بدون إبدال واضح للمعانی عند الأطفال والمذیعین أو المنشدین أو المتَسَلِّین.

2_ مستوى الحفظ: ویقوم على قراءات متتالیة أو متقطعة أو متصلة، فیهتم بالعلاقات الصوتیة والمعنویة ویثبت صورها فی الذاكرة الحركیة أو الصوتیة وهی شائعة فی المدارس والمسارح (التمثیل).

3_ مستوى الفهم: ویقوم على قراءة واعیة متأنیة تلتمس معانی التراكیب والألفاظ والعبارات والعلاقات النحویة والفنیة وإدارة الحركة الجزئیة فی النص والحركة الكلیة التی توجد جوانبه بوساطة التحلیل والتركیب وهی قراءة المتعلمین فی المدارس المتقدمة وفی الجامعات وفی الحیاة العامة.

4- مستوى التذوق: وهی قراءة متتالیة متأنیة تحلّل البنی السطحیة والعمیقة الأصلیة والفرعیة ورصف المعانی الإنمائیة الدقیقة لتعزیز الفكرة الأساسیة وتتبع المقویات الدلالیة والمعجمیة والمجازیة والفنیة, الخاصة, وتحیط بامتداد النص وتبرز عمقه وتكتشف أبعاد التفكیر والتعبیر والتصویریة وترابط أجزائه بالبیئة اللغویة والاجتماعیة والفكریة والبنیة الفنیة وبذلك تتمثل الظلال والأصلیة والحوادث والأفكار والانفعالات والآثار النفسیة الجمالیة فینفعل بما یوحی به من عواطف وصور الجمال وهذه هی قراءة الدارسین والمحللین للنصوص الأدبیة وغیرها.

أمّا القراءة من منظور اصطلاحی، فهی آلیة تفكیك الشّفرة اللغویة المتمثلة فی تداخل شبكة العلامات والإشارات اللغویة ضمن سیاق محدد تعدّ الجملة وحدته الأولى، وبما یكفل الوقوف على بنیة النصّ الأساسیة والتی یقسمها العالم اللغوی ناعوم تشومسكی، إلى بنیتین: إحداهما فوقیة سطحیة وأخرى تحتیة عمیقة.

لكن اللسانیات بحكم امتلاكها، فی رأینا على الأقل، كلَّ العناصر والإجراءات الجدیرة لقراءة النص الأدبی قراءة شاملة كاملة، وبحكم أنّ وضعها المعرفی یجتزئ أصلا، بالبحث فی النّظام اللغوی البشری لدى حدود الجملة لا ینبغی له أن یتجاوز حدودها النّحویة، وبحكم أنّ هذا الوضع المعرفی لا ینبغی أن یتیح لها أن تمضی بعیداً فی أدغال النصّ الأدبی ومجاهله ومكان الجمال فیه، فإنّ الأسلوبیة-بحكم تفرّعها عن اللسانیات-أوشكت أن تغتدی میكانیكیة الإجراءات بحیث تراها لاهثة جاهدة إلى الكشف عن نظام الأسلوب من خلال الجملة، أی البحث فی عناصر الجملة من فعل وفاعل ثم مفعول، أو من فعل وفاعل ثم حال، أو من فعل وفاعل ثم تمییز، أو من فعل وفاعل وجار ومجرور، أو من مبتدأ وخبر، وغیرها، وذلك وفق نظام تعلیق لا یكاد یجاوز البحث فی التركیب اللغوی وتبادل البنى النّحویة فی نصّ من النّصوص.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ تشومسكی نفسه تساءل فی أحدث كتاباته عما إذا "كان مستویات أخرى غیر المستویین الوجیهین السابقین (البنیة السّطحیة والبنیة العمیقة) الذین افترضا فی البحث المعاصر؟ فأجاب من حیث رأى أنّ"ما اصطلح على تسمیته بـ" برنامج الحد الأدنى" جهداَ یُوجبُ إخضاع الافتراضات التقلیدیة للتقصّی المتأنّی من منطلق أنّ أكثر القضایا تبجیلاً أنّ للغة صوتاً ودلالة، وتُترجم هذه القضیة، فی المصطلحات الجدیدة بشكل طبیعی، إلى الدعوى التی تقتضی بأن الملكة اللغویة)تلتقی بالأنظمة الأخرى للذهن/الدّماغ عند مستویین وجیهیَّیْن یتّصل أحدهما بالصوت والآخر بالدلالة، الأمر الذی یجعل كلّ ما حلّل بموجب مستویی " البنیة السّطحیة والبنیة العمیقة" كان ضحیّة لخطأ فی الوصف، وأنه یمكن أن یُفهم بشكل مماثل أو أفضل فی ضوء شروط المقروئیة فی المستویین الوجیهیّیْن: ویعنی هذا، عند المطّلعین على الأبحاث المتخصّصة، مبدأ الإسْقاط، ونظریة الرَّبْط، ونظریة الحالة الإعرابیة، وشرط السلسلة، وغیرها.

كما تعدّ القراءة، كما یراها أصحاب نظریة التلقی التی تؤمن بأن القارئ یشارك فی كتابة النص، هی عملیة نفسیة حركیة تختص بإعادة الأثر الأدبی أو النص إلى مدركات أولیة عبر إعادة تفكیك الإشارات اللغویة وموازنة العلاقة بین مجموعة الدوال مع المدلولات فی الجملة الواحدة ومن ثم النص كاملاً. وهنا نرى أن القراءة فعل تأویلی،لأنها مطالبة وقادرة على إضاءة النص وعلى نحو یتیح للقارئ اكتشاف البنیة الداخلیة للعمل، لذا فـإنّ مهمّة الناقد الأدبی الجدیدة تنحصر فی الاهتمام بنوعیة العلاقة بین النصّ والمتلقی، وذلك انطلاقاُ من هذه الأسئلة المعهودة: كیف انفعل القارئُ بالنصّ؟ هل كان ردّ فعله محض "استهلاكه" بكیفیة نمطیة ومرضیة تجرى على نسق مطرد رتیب فی قراءة الأدب، أو هو نوعٌ من الإخفاق فی إكراه هذا النصّ على قول ما یریده القارئ أن یقوله، أو أنّه سیندهش بجدّته التی كانت تكیّف تعاطیه للأدب، ومن ثمّ بمعانقته هذا الأفق الجدید والمختلف الذی یصدر عنه ذلك النص.

لنتصورّ الآن أن ناقداً قرأ مسرحیة كومیدیة أو شاهدها معروضة، فإنّ التفاعل معها سیتمّ التوافق العفوی بین أفق النصّ وأفق التلقی طالما أنّ المسرحیة قد أجابت عن أسئلته واستجابت لانتظاراته. وسیقوم هذا دلیلاً على أنّها نُسخة مطابقة لأصلٍ جاهزٍ تكَرِّرُ موضوعه أو صورةٌ موافقةٌ لمعیارٍ تجترُّ شكله. لكن النّاقد نفسه سرعان ما یشعر بالغُبْن ومن ثم یخیبُ أفق توقّعه إذا قام بمراوغة تقوم على مداراة هذه المسرحیة بأن یقرأها كما لو كانت مسرحیة تراجیدیة على طریقة "راسین" (1639-1699) أو ملحمیة على طریقة"بریخت" (1898-1956). بید أنّه إذا قرأ أو شاهد مسرحیة عبثیة من ذلك النّوع الذی یكتبه "صمویل بیكیت" (1906-1989) أو "أوجین یونسكو" (1909-1994)، وكان ذا دماثة فكریة تؤهله تلقائیاً لتقبُّل صدمة هذا المسرح المختلف، ولارتضاء آثاره فإنّه سیكفُّ عن الهوس بالجمالیة الكومیدیة بل وقد تتغیّرُ نظرته إلى الأشیاء وإلى الوجود من حیث تصبح سوداویة بعد أن كانت تفاؤلیة.

وتبدو هذه الأمثلة المتفرقة بسیطة جدا لو قارناها بجملة المتغیرات الدلالیة للنص، وأخص بالذكر هنا النص الأدبی والنص الشعری على وجه التحدید. فقد أجمع النقاد على أن إشكالیة الأدب تأتی من طبیعة اللغة ذاتها، أدبیة النص، والتی تعمل على توظیف الآلیة اللغویة بعیدا عن معناها التداولی البسیط نحو ما یعرف باستكشاف جمالیات اللغة عبر "المجاز. والمجاز عموما هو عملیة تطویع لغوی ضمن إطار یتجاوز المعجم وصولاً إلى التسییق بما یضفی على اللفظ رونقاً یخرجه من حیّز الحقیقة إلى رحابة المجاز الذی تتیح للمفردة الواحدة أن تخدم وظیفة تعبیریة جمالیة فی آن معاً.

هذه الجمالیة التی، وإن كان بإمكانها أن تُسهم فی اكتمال المهامّ التی یتعیّنُ أداؤها على "نظریة الفن وتاریخه" اللذین هما فی طور التجدید وإحداث قطیعة جذریة مع الأعراف العلمیة المقرّرة، إلاَّ أنَّه لا یمكن لها "أن تدّعی لنفسها أنّها إبدال منهجی بالتّمام والكمال". فلیست جمالیة التلقی "نظریة مستقلّة قائمة على بدَهیات تسمح لها بأن تحلَّ بمفردها المشكلات التی تواجهها، وإنّما هی مشروع منهجی جزئی یحتمل أن یقترن بمشاریع أخرى وأن تكتمل حصائله بوساطة هذه المشاریع. "وأنا إذ أقرُّ بذلك، أترك لغیری-شریطة ألاَّ یكون خصماً وطرفاً فی آنٍ واحدٍ-عنایة تقریر ما إذا كانَ ینبغی، فی مجال العلوم التأویلیة الاجتماعیة، اعتبارُ هذا الاعتراف بالنّقص من لدن منهج ما علامة على ضعفه أو على قوّته".
*خاتمة:

بعد هذه الإطلالة التی أردناها متكاقئة على جهود بعض الدّارسین المحدثین عرباً وأعاجم فی تطویق تحلیل النص أو الخطاب فی المعجم والدلالة والنظریة وما یدخل فی فلكهما من مصطلحات ذات الصلة، ارتأینا أن نلتمس بعض العُذر (المفضی إلى الأسف) للمحدثین من العرب على محاولة الحفاظ فی عَنَت على ماء الوجه التنظیری على النّحو الذی فكّر فیه معاصروهم من الأعاجم، أو بعض أسلافهم من الشّعراء المحدثین، الذین ضاقوا ذرعاً بأغراض الشّعر القدیم وأشكاله وما برع فیه القدماء من وصف ورثاء ومدح وغزل، فجدّدوا من حیث جدّد الغربیون التوّاقُون إلى طلب الجدید والتجدید، فبادروا إلى التنظیر على التنظیر، والذی أضحى على أهمیته كالكساء الفضفاض نقحم فیه حساسیتنا إقحاماً باسم المعاصرة والحداثة دون أن یتمازج ذلك مع ما نستجلبه أو نسقطه من أحدث التقنیات والنظریات الغربیة هی تجربة حساسیتها، ولها خصوصیتها وتفرّدها وكلّ ما یمیّزها عن خصوصیة حساسیتنا وتفرّد لغتنا، الأمر الذی لا ینقص من أهمیة التنظیر فی شیء، والإفادة مما فی أیادی غیرنا بما یمثّل حواراً مع حاضرنا، لكن دون أن نسقط فی جلب اللّعب الثقافیة الخالیة من حرارة التجربة الحسّیة، ونقع فی الفوضى المصطلحیة التی یزید فی استفحالها ما یفد علینا آنیّاً من مصطلحات فیضیق بذلك مجال التطبیق اتساعَ مجال التنظیر، فلا نمسك عندها إلاَّ بالجانب الضنین من هذه التجربة أو ما اصطلح علیه حدیثاً بـ "البریكولاج اللغوی وهو أمرٌ نبّه إلیه الأسلاف وحذّروا من مغبّته، "فقد قال أبو بكر بن السرّاج (ت 316هـ) فی رسالته فی الاشتقاق، فی (باب ما یجبُ على النّاظر فی الاشتقاق أن یتوقّاهُ ویحترس منه): ممّا ینبغی أنْ یَحْذَرَ منه كلُّ الحَذَر أن یَشتقَّ من لغَة العرب لشیءٍ من لغة العَجَم، فیكونَ بمنزلة من ادّعى أنَّ الطَّیْرَ وَلَدَ الحُوت". فإذا صدق ذلك على اللفظ فالمعنى به أولى.

ونحن أمام تعریف للنصّ بات فیه أقرب إلى الخطاب وتحلیل یحتمل الإخلال كما قد یحتمل الموضوعیة، وأمام نقد لم تكتمل معالمه ومناهجه وتستقرّ مصطلحاته, ناهیك عمّا یعكسه من ظواهر سلبیة أهمها" التَّخَنْدق" و"التحیّز" و"المعیاریة" لا نملك-والحال هذه- إلا أن نفضّل القراءة الواعیة المتأنیة ونأخذ بها، على تعدّدها، وفق مستوى تذوّقی یدرك فیها القارئ العلاقات النحویة وطریقة الأداء اللغوی، والدلالات المركزیة والهامشیة والاجتماعیة الكامنة فی الأثر الأدبی بشقّیه الشعری والنثری الذی یحتمل أكثر من تأویل، ما دام "لا أحد- بحسب بارث: یعرفُ شیئاً عن المعنى الذی تمنحه القراءة للأثر الأدبی، ولا عن المدلول-وذلك، ربَّما، لأنّ هذا المعنى، اعتباراً لكونه شهوة، ینتصبُ فیما وراء سنن اللغة. فالقراءة وحدها تعشق الأثر الأدبی، وتقیم معه علاقة شهوة. فإنّ نقرأ معناه نشتهی الأثر (س)، ونرغبَ فی أن نكُونَه، وأن نرفض مضاعفته بمعزل عن كلّ كلام آخر غیر كلامه هو ذاتُه: إنّ التعلیق الوحید الذی یمكن أن ینتجه قارئ محض وسیبقى كذلك، هو المعارضة. وعلیه، فإنَّ الانتقال من القراءة إلى أیٍّ من الحدود أو الإسقاطات الأخرى فمعناه تغیُّر الشَّهْوة، وعلینا تَبـِعَةُ ما نقرأ.
المصادر والمراجع

أ. العربیة

*إبراهیم، طه أحمد: تاریخ النقد الأدبی عند العرب من العصر الجاهلی إلى القرن الرابع الهجری، مطبعة لجنة التألیف والترجمة والنشر، القاهرة، 1937م.

*ابن خلدون، عبد الرحمن محمد: مقدمة ابن خلدون، تحقیق درویش الجویدی، المكتبة العصریة للطباعة والنشر، ط2، صیدا، بیروت، 1416هـ-1996م

*ابن عرفة، عبد العزیز:الفعل الإبداعی فی جدلیة تلقیه وكتابته، الكتابة الإبداعیة بین حساسیة المرحلة ومعادلها الفنی أو التقنی، مجلة الفكر العربی المعاصر، یصدرها مركز الإنماء القومی، بیروت، لبنان، العدد 30/31، 1984م.

*ابن فارس، أبو الحسین أحمد بن زكریا: معجم مقاییس اللغة، تحقیق عبد السلام محمد هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزیع، 1399هـ-1979م.

*ابن قتیبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم:الشعر والشعراء، مطبعة بریل، لیدن المحروسة، 1902 م.

* ابن مصباح، وناس: ملاحظات أولیة حول الشروح الأدبیة، مجلة الحیاة الثقافیة، العدد 41 , 1986م.

*ابن منظور، أبو الفضل جمال الدین بن مكرم: لسان العرب، دار صادر للطباعة والنشر-دار بیروت , لبنان, 1956م.

*أبو زید، نصر حامد: الاتجاه العقلی فی التفسیر، دراسة فی قضیة المجاز فی القرآن عند المعتزلة، دار التنویر للطباعة والنشر، ط1، بیروت، لبنان، 1982م.

*أنیس إبراهیم ومنتصر عبد الحلیم والصوالحی عطیة، وأحمد محمد خاف الله: المعجم الوسیط، دار الفكر، بیروت.

* أمین، أحمد: النقد الأدبی، دار الكتاب العربی، ط4، بیروت، لبنان، 1387هـ-1967م.

*أوكان، عمر: اللغة والخطاب، أفریقیا الشرق، الدار البیضاء، المغرب، أفریقیا الشرق، بیروت، لبنان، 2001م.

*بارث، رولان: النقد والحقیقة، ترجمة إبراهیم الخطیب، مراجعة محمد برادة، مجلة الكرمل، العدد 2، 1984م.

*البغدادی، عبد القادر:خزانة الأدب، تحقیق عبد السلام محمد هارون، دار الكتاب العربی للطباعة والنشر، القاهرة، 1387هـ-1967م.

*تشومسكی، نعوم: آفاق جدیدة فی دراسة اللغة والذهن، ترجمة حمزة بن قبلان المزینی، منشورات المجلس الأعلى للثقافة المشروع القومی للترجمة بإشراف جابر عصفور، القاهرة، ط1، 2005م.

* ثودی، فیلیب وكورس، آن:بارث، ترجمة جمال الجزیری، مراجعة وإشراف وتقدیم إمام عبد الفتاح إمام، منشورات المجلس للثقافة ضمن المشروع القومی للترجمة بإشراف جابر عصفور، القاهرة، ط1، 2003م.

*الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر:البیان والتبیین، تحقیق عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجی، القاهرة.

* الجوالیقی، أبو منصور:المعرّب من الكلام الأعجمی على حروف المعجم تحقیق أحمد محمد شاكر، مطبعة دار الكتب المصریة، ط2، 1389 هـ - 1969م.

*جونی، عدی:إشكالیة الترجمة وثقافة النص، مجلة أفق الثقافیة الإلكترونیة، عدد فبرایر2000م.

* الخولی، أمین: التفسیر , معالم حیاته , منهجه الیوم، أخرجه فی كتاب مستقل جماعة الكتاب، 1944م.

*خیاط، یوسف:معجم المصطلحات العلمیة والفنیة، دار لسان العرب، بیروت، 1974م.

*دائرة المعارف الإسلامیة، ترجمة إبراهیم خورشید وآخرین، مطبعة الشعب، القاهرة.

*الرّاغبُ الأصبهانی، أبو القاسم حسین بن محمد: محاضرات الأدباء، بیروت.

*الزبیدی، السید مرتضى الحسینی: تاج العروس من جواهر القاموس، تحقیق عبد الستار أحمد فراج، مطبعة حكومة الكویت ضمن سلسلة التراث العربی لوزارة الإعلام فی الكویت، 1391هـ-1971م.

*الزمخشری، أبو القاسم محمود:أساس البلاغة، دار المعرفة، بیروت، 1399هـ- 1979م.

*العاكوب، عیسى علی: التفكیر النقدی عند العرب، مدخل إلى نظریة الأدب العربی دار الفكر المعاصر، بیروت، لبنان، دار الفكر، دمشق، سوریة، ط2، 1423هـ-2002م.

*عروی، محمد إقبال: ظواهر سلبیة فی الخطاب النقدی الروائی-التخندق، التحیُّز، المعیاریة، مجلة آفاق الثقافة والتراث، تصدر عن دائرة البحث العلمی والدراسات بمركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، العدد53، السنة4، 1427هـ-2006هـ.

*الفیروزآبادی، مجد الدین محمد بن یعقوب:القاموس المحیط، دار الجیل، بیروت.

* فتحی، إبراهیم: معجم المصطلحات الأدبیة.

* قباوة، فخر الدین: محاضرات فی علوم اللغة، الدراسات العلیا، السنة الجامعیة 1984-1985م.

*قدامة بن جعفر: نقد الشعر، تحقیق كمال مصطفى مكتبة الخانجی، ط3، القاهرة، 1392هـ-1978م.

*قطب، سید: النقد الأدبی، أصوله ومناهجه، دار الفكر العربی، القاهرة.

*كلیطو، عبد الفتاح: الأدب والغرابة(دراسات بنیویة فی الأدب العربی)، دار الطلیعة، ط1، بیروت، 1982م.

*مؤمن، أحمد:اللسانیات، النشأة والتطور، دیوان المنطبوعات الجامعی، ابن عكنون، الجزائر.

*مرتاض، عبد الملك:القراءة بین القیود النظریة وحریة التلقی، مجلة تجلیات الحداثة، معهد اللغة العربیة وآدابها، جامعة وهران، العدد4، یونیو 1996م.

* المرعی، فؤاد: النقد الأدبی الحدیث، مدیریة الكتب والمطبوعات بجامعة حلب، 1981-1982م.

*مرغان، كلیفورد ودیز، جیمس: فن الدراسة، ترجمة جمیل مراجعة یوسف حورانی، منشورات دار مكتبة الحیاة، بیروت، لبنان، 1974م.

*مروة، حسین:دراسات نقدیة فی ضوء المنهج الواقعی، مكتبة المعارف، بیروت، لبنان، 1988م

*مفتاح، محمد: تحلیل الخطاب الشعری(استراتیجیة التناص)، المركز الثقافی العربی، الدار البیضاء، بیروت، ط3، 1992م

*یاوس، هانس روبیرت: جمالیة التلقی-من أجل تأویل جدید للنص الأدبی، ترجمة رشید بنحدو، منشورات المجلس الأعلى للثقافة، ضمن المشروع القومی للترجمة بإشراف جابر عصفور، القاهرة، 2004م.

*یوسف، أحمد:بین الخطاب والنص، مجلة تجلیات الحداثة، معهد اللغة العربیة وآدابها، جامعة وهران، العدد1، 1992م.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:3|
قراءة فی كتاب شعرالنقاد لعبدالله الفیفی
هل یمكن للناقد أن یكون شاعراً؟



حین تشحذ النصوص الشعریة الحَّیة قدرة الناقد على المضاهاة والموازنة والمفاضلة بین النصوص والشعراء على حد سواء فانه سیمتلك -فی معظم الأحیان- القدرة على نظم الشعر ورصف ألفاظه واستعراض أسالیبه، فهو أعرف بها من سواه.
ویأتی السؤال المهم هنا، وهو: ما القیمة الفنیة لمثل هذه النصوص الشعریة التی كتبها ویكتبها كبار النقاد؟
ولكی لا یأتی الحكم على ظاهرة كهذه سریعاً وغیر دقیق فان الدكتور عبدالله أحمد الفیفی(1) یتقصى هذه الظاهرة فی كتاب له أسماه «شعر النقاد، استقراء وصفى للنموذج» (2) حیث یستثمر الباحث الاستقراء وسیلة منهجیة تعینه على ان یسند حكمه النقدی ویرصنه بشأن مسألة خلافیة كهذه.
وظاهر الأمر ان الناقد قد یستطیع ان یضللنا بحیث ینسج لنا شعر غزل- على سبیل المثال- فنحسبه شاعراً عاشقاً حین یستعیر اسالیب الشعراء العشاق والفاظهم وصورهم، ونظنه حزینا حین یضع نفسه موضع الراثین والمفجوعین ویقلد طرائقهم فی القول، فهو قد خبرها جمیعاً، بید ان فرضیة كهذه یعوزها البرهان، وهذا ما ینهض به موضوع هذا الكتاب عبر اختیاره ثلاثة من كبار النقاد هم «ابن رشیق، أبو علی الحسن بن علی القیروانی 390 - 463ه = 1000- 1071م والقرطاجنی، أبو الحسن حازم 684ه = 1285م والعقاد عباس بن محمود 1306 - 1383 = 1889 - 1964م. ولئن كان الاخیر یمتاز على سابقیه بدراسات حول شعره فان تلك الدراسات- التی جاءت تراوح فی غالبها بین التحامل علیه والانحیاز له- جمیعها لم تربط ظواهر شعره بعموم الظواهر المندرجة فیها من شعر النقاد لان شعر النقاد تأسیساً لم تحدد معالم نموذجه فی دراسة نقدیة شاملة من قبل»(3).

وبذلك فان الباحث عبدالله الفیفی لا یقصر هذه الظاهرة على عصر دون سواه وانما یطلق الحكم علیها فی عصور متباینة، فضلاً عن انه لم یدخل فی نماذجه الثلاثة الشاعر الذی یقول آراء نقدیة متفرقة فی معاصریه او من سبقهم من الشعراء من غیر ان یصل الى درجة الناقد- وما اكثر الاشارات الى ذلك فی كتب التراث-(4) كما ان الباحث اخرج من دائرة اهتمامه الناقد الذی لم یصدر دیواناً شعریاً فی الاقل وانما اكتفى بقطع شعریة متفرقة ولا سیما الناقد الذی یعی ركة شعره وتهافته كالاصمعی الذی لم یدع شاعراً سبقه او عاصره الا وحكم علیه بالفحولة او الفصاحة وربما بالنأی عنهما والتجرد منهما(5) ولكنه یقول فی شعره:

    «أبى الشعر الَّا ان یفیء ردیئه
    علَّی ویأبى منه ما كان محكما
    فیالیتنی إذ لم أجد حوك وشیه
    ولم أك من فرسانه كنت مفحما»(6)

وبلیغة هی اجابة المفضل الضبی على من سأله: لم لا تقول الشعر وانت أعلم الناس به؟ فأجاب: علمی به هو الذی یمنعنی من قوله وأنشد:

    «وقد یقرض الشعر البكی لسانه
    وتعیی القوافی المرء وهو لبیب»(7)

ویعی الباحث ان الجانب المضمونی كثیراً ما یستأثر بالاهتمام وقد كان محور دراسات كثیرة وبؤرتها الرئیسة. ولذلك فانه یبدأ بالجانب الصوتی وهو یدرك ان مثل هذا الفصل بین المستوى الصوتی والمستوى الدلالی هو قدر الدراسات الاكادیمیة واسلوبها فی التحلیل والتجزئة لا بهدف التهشیم بل من اجل الفهم والتغلغل الى اعماق الظاهرة الفنیة. ویلجأ الفیفی الى الجانب الاحصائی كی یضیء ظاهرة صوتیة وجدها بارزة فی شعر النقاد وهی تعمد حشد الأصوات المتشابهة او التی تتقارب مخارج حروفها كالسین والشین على سبیل المثال وبما یدعوه بعضهم بظاهرة التجمعات الصوتیة ویدخلها فی باب الایقاع الداخلی تمییزاً لها عن (الوزن والقافیة) حیث تدرجهما بعض الدراسات فی اطار ما یدعى بالایقاع الخارجی.(8) ولعل هدف النقاد الشعراء من ذلك هو اضفاء ایقاع صاخب یعزز الصنعة الشعریة التی تطل بوجهها سافراً من خلال شعر النقاد.

وینتقل الباحث الفیفی الى مبحث آخر وهو بصدد التوغل فی المحور الشكلی لشعر النقاد، فیقف عند البدیع الذی هو من المحسنات اللفظیة. وهذه هی التسمیة الاصلیة لهذه الظاهرة- التی بدأت حمیدة فی الشعر العربی وانتهت ذمیمة بسبب شدة المبالغة بها- فیجد ان البدیع بكل انماطه ولا سیما الجناس یطغى على شعر ابن رشیق والقرطاجنی خاصة ویعزو الباحث مبالغة القرطاجنی فی هذا الشأن كقوله مثلاً:

    منى النفس یدنی منكم والنوى تقصی
    فكم ذا یطیع الدهر فیكم وكم یعصی

الى انه یسعى الى تطبیق نظریته فی «حسن التألیف بین الحروف والكلمات وتلاؤمه مع مراعاة حسن الوضع، وتقارب الالفاظ والمعانی وتطالبهما… على حین أن (ابن رشیق) فی احتفاله بتنغیم الأصوات والبدیع كان یخالف رأیه النظری الذی لا یرى ذلك الاحتفال المفرط باللفظ(9) وهنا یشیر الباحث الى انه سیعود الى هذه المسألة عبر بحث آخر یضاهی فیه بین رأی الناقد النظری وتطبیقه الشعری.

ولا ینطبق ما ذكر بشأن كثافة البدیع على العقاد الشاعر، ولكن هذا لا یعنی خلو شعره من البدیع ولا سیما الجناس الاشتقاقی منه. ویبرر الباحث هذا بتطور موقف الشعر العربی عامة من ظاهرة البدیع.

وعلى الرغم من ان التجمعات الصوتیة الناتجة عن تكرار حرف بعینه والتی سبق للباحث ان وقف عندها یمكن ان تندرج فی اطار تكرار الحرف او الحرفین اللذین یتقارب صوتاهما بید انه یفرد للتكرار مبحثاً، وهو یردفه ب(الحشو) لا بمعناه العروضی بل بمعناه اللغوی(10) اشارة الى ما لا غناء فیه من الالفاظ والعبارات.

كقول ابن رشیق:

     
    نظرت لها الایام نظرة كاشح
    ترنو بنظرة كاشح معیان

فالشطر الثانی كله مجرد حشو لاستكمال الوزن. ولا نرى ما رآه الفیفی بشأن البیت الذی ساقه دلالة على نمط من الحشو اسماه العقاد نفسه ب(الحشو المبارك) فی دراسته عن ابن الرومی. وجاء قول العقاد:

    متى؟ إی وربك قل لی متى؟
    وسلهم عن الیوم والموعد

فهنا لا یبدو قوله (ای وربك قل لی متى) مجرد حشو بل انه الحاف والحاح على جانب یلح على ذهن الشاعر فیعبر عنه مركزاً على ظرف الزمان (متى) ومضفیاً الحیویة علیه من خلال الاستفهام والقسم والأمر والتكرار وقد تضمنها جمیعاً صدر البیت. على ان الباحث الفیفی محق فیما سوى ذلك. ویعرج الدكتور عبدالله هنا على التكرار لا بمستواه الصوتی حسب وانما المستوى الدلالی منه ایضاً مع انه أفرد جزءاً لاحقاً للمستوى الدلالی منفرداً بید ان سیاق البحث یتطلب هنا ان یردف الدلالة بالصوت على صعید ظاهرة التكرار.

وینتبه القارئ الى ان الباحث یقدم لمبحثه (القافیة) بكلام تنظیری عن القافیة بوجه عام وهو ما لم یطرد لدیه فی المباحث السابقة (صنعة التنغیم والبدیع والتكرار والحشو) ویفسر الباحث هذا ضمناً بانه تصور (رؤیة) لطبیعة التقفیة ووظیفتها یطبقه على شعر النقاد. ومن طریف تحلیله لقول ابن رشیق:

    وبماذا أصف الخصر
    وما إن لك خصر
    
    بك شغلی واشتغالی
    ومضى زید وعمرو

«فان هذا الشطر الاخیر من الابیات «ومضى زید وعمرو لابرز مثال على اضطراب ابن رشیق الى استدعاء قوافیه عن ای طریق ومهما كلفه الأمر والا فمن زید وعمرو؟ وما علاقتهما بانشغال ابن رشیق»؟(11) والدكتور الفیفی بصدد قافیة الراء التی اضطرت ابن رشیق الى ان یرصف الشطر الثانی من البیت الثانی وعلى هذا النحو. ویتوقف الباحث عند قوافی القرطاجنی فیستنتج بعد بعض الاحصاء ان الفاظ قوافیه ربما تكون مهیأة نظم القصیدة ولذلك یتفق معظمها فی بنائها الصرفی كان تكون من المصدر المیمی مثلاً وقد تصل بعض قوافیه الى درجة من (لزوم ما لا یلزم). وربما یلجأ فی قوافیه الى الالفاظ المعجمیة الغریبة ذات الوقع الثقیل على الاذن والنفس على حدٍ سواء..

وثمة محور خامس اتفق علیه النقاد الشعراء ممن اختارهم الدكتور عبدالله الفیفی وهو طول القصیدة اذ لا تعوزهم الالفاظ والصیغ الجاهزة یحبرون بها الصفحات. وقد ادرج طول القصیدة فی اطار المستوى الشكلی نظراً لقصور بعده الدلالی. وابن رشیق لم یكن یطیل قصائده فی دیوانه ولكنه على الصعید النظری یرى ان (المطیل من الشعراء اهیب فی النفوس من الموجز) وهنا یعود الباحث الى هذه المضاهاة بین ما یقوله الناقد على صعید التنظیر وما ینظمه من شعر ینسجم مع هذا التنظیر او یتضاد معه.

ویدرس الباحث اللغة والاسلوب فی اطار مستوى الدلالة، وهو یعی ان بعض ملامح المادة اللغویة جاء ذكرها فی اطار المستوى الصوتی حیث یكون الجانب الدلالی فی هذه الحالة فی الظل. وقد عولجت بعض الظواهر اللغویة على المستویین الصوتی والدلالی على حد سواء. وجاء الآن الدور للمستوى الدلالی منفرداً كی یستأثر بالضوء. وهو یبدأ بالمحسنات المعنویة كالطباق والمقابلة وبروزها فی شعر النقاد الثلاثة یلیها الغریب الذی یبدو نسبیاً، ولكنه مما تتآزر فیه غرابة اللفظ مع غرابة التركیب والتعبیرات. ویفرد الباحث مبحثاً لما دعاه ب(التكلف الصناعی) تارة والانشائیة النثریة تارة اخرى، وهو یورد لهما نماذج من شعر النقاد الثلاثة. و یمضی فی رصد هذه السمات السقیمة فی شعرهم فیشفعها بما دعاه ب(النزوع الى التحذلق البیانی والذهنی) المفضی الى عتمة الغموض. وهو لیس الغموض الفنی الدال بل انه غموض- ینطوی على تعقید ولبس. وكل هذا ینتهی بشعر النقاد الثلاثة الى الخطابیة فالنثریة التی لا یبقى لهم فیها سوى النظم. ویتقصى انعكاس المهنة العلمیة لاولئك النقاد الثلاثة على شعرهم وقد ظهر بأشكال شتى یقف عندها الدكتور الفیفی ویعطیها مسمیات منها الاحالات الثقافیة والنظم الثقافی مما یبعد نظمهم عن روح الشعر وجوهره وسحره.

ویأتی مبحث الصورة تالیاً لمبحث اللغة والاسلوب، فیقف عندها الباحث، وهو لا یسمیها الصورة الشعریة او الصورة الفنیة كما قد یسمیها بعضهم(12) ولكنه یتوصل الى افتقار شعرهم للصورة الاستعاریة القائمة على التخییل، فی مقابل كثرة نماذج التشبیه والمحاكاة (الفوتوغرافیة) كما اسماها الدكتور عبدالله وهو یقصد التقلید الحرفی الخالی من الاضافة والَّا فان المصور (الفوتوغرافی) قد یبدع فی انتقاء الزاویة الأكثر دلالة. او لیس الاخراج فی مجالی السینما والتلفزة هو شیء من هذا؟. ومما یذكر ایضاً ان الاستعارة مما یمكن للناقد المتمرس ان یخضعه للصنعة والافتعال. مثلها فی ذلك مثل التشبیه. وهذا لا یقلل بأی حال من الأحوال من شأن الاستنتاج الذی توصل الیه الباحث فی هذا الشان.

ویفرد الكتاب لمصطلح التناص مبحثاً خاصاً وهو یطلق علیه اسم تداخل النصوص (الاخذ) بید انه لا یرفض تسمیته ب(التناص) ویخلص الى ان شعر النقاد اتكا بشكل سلبی على النصوص الشعریة التی اطلع علیها اولئك النقاد وان استثمارهم لتلك النصوص كان مظهر ضعف فی شعرهم لا مظهر قوة، وهو یختم دراسته بما دعاه ب(بنیة النموذج) حیث یتوصل الى ان هذه البنیة التی نتجت عن استقراء وصفی تشیر الى تعارضها مع طبیعة الشعر فی مقوماته التاسیسیة او فی اهون الحالات الى ضعف تلك المقومات.

واذا كانت دراسات اخرى قد حامت حول هذا الموضوع وتوصلت الى ان النقد «حرفة منفصلة عن الشعر لها اصحابها من ذوی العلم والدرایة. وانهم یرون -كما یشیر خلف الأحمر- ان النقد حرفة وحذق كالصیرفة، وان تقویم الشعر وقف على صیارفته لاعلى قائلیه»(13) فان دراسة الدكتور عبدالله بن أحمد الفیفی الموسومة (شعر النقاد) قد انصرفت الى هذا الموضوع وتوغلت فی دقائقه وتفاصیله وفقاً لمنهج وصفی وان انطوى على معیاریة ضمنیة تتجلى منذ الصفحات الاولى للدراسة «وما اسهل الشعر حین ینقلب رصفاً صوتیاً كهذا»(14)ومثله «فای تعمل بعد هذا؟ وای قسر للالفاظ على مواضعها من اجل الجناس؟(15) ویاتی الاستقراء للنماذج المتقصاة مقنعاً وفی اطار منهج دقیق ومحكم یتوخى النص الشعری اولاً ویرتكز الیه وینطلق منه ویستنتج من وحیه وهو ما یحمد لهذا البحث. واذا كان لا بد من سطور اخیرة دالة فان اسس الالهام الشعری وحالاته وامزجته هی غیر الجهد النقدی الدؤوب القائم على استیعاب النصوص والتعمق فیها والتوصل الى آراء بشأنهامع انهما (النقد والشعر) یلتقیان فی آخر الامر تحت مظلة واحدة بید ان معینیهما فی الذهن البشری والموهبة الانسانیة متباینان او كما قال مسلم بن الولید فی سیاق آخر غیر هذا السیاق»:

    «حنین ویأس كیف یتفقان
    مقیلاهما فی القلب مختلفان»(16)

ولا بد اذن من ان یطغى أحدهما فیلغی الآخر او یضعفه. بید أن المجال ما یزال مفتوحاً للدرس والاضافة فی هذا الشان فقد تفاجئنا الدراسات القابلة بما یتناقض مع هذا الاستنتاج. وربما یولد الشاعر الناقد الذی یجلی فی المجالین فلا تنطبق علیه مثل هذه الأحكام، لا سیما ان كثیرین- ومنهم الدكتور الفیفی- یحاولون الاخذ باطراف الشعر والدراسات النقدیة على حد سواء، ولهم فی المجالین نتاج حاضر. ولكن ما توصل الیه البحث بصورته هذه صحیح ومؤكد عبر هذا الاستقراء المنهجی الذی یقترب من روح الدراسة التطبیقیة ذات الطابع المنهجی.

 [1]
حواشی

[1]

    (1) كاتب هذا البحث استاذ فی جامعة الملك سعود، كلیة الاداب، قسم اللغة العربیة، له اصدارات غزیرة منها؛ مجموعة شعریة عنوانها: اذا ما اللیل اغرقنی»، مطابع الشریف، الریاض 1411ه 1990م. ودراسة نقدیة عنوانها: «الصورة البصریة فی شعر العمیان» النادی الادبی بالریاض 1417ه 1997م شعر بن مقبل، جزءان 1999 مفاتیح القصیدة الجاهلیة 2001م حداثة النص الشعری فی المملكة العربیة السعودیة 2005م وله اصدارات اخرى.
    (2) الدكتور عبدالله بن احمد الفیفی، شعر النقاد، استقراء وصفی للنموذج، مركز البحوث بجامعة الملك سعود، الریاض 1419ه 1998م.
    (3) نفسه، ص2.
    (4) د. عبدالجبار المطلبی، دراسات فی الادب الاسلامی والأموی الشعراء نقاداً دار الشؤون الثقافیة العامة بغداد 1986م.
    (5) ینظر: الامام الادیب الراویة الناقد ابو سعید الاصمعی، فحولة الشعراء تحقیق: د. محمد عبدالمنعم خفاجی وطه محمد الزینی، المطبعة المنیریة بالازهر، القاهرة 1953، ص 19 وما بعدها.
    (6) ابن رشیق القیروانی، العمدة فی محاسن الشعر وادابه ونقده، تحقیق: محمد محیى الدین عبدالحمید، دار الجیل بیروت 1981م.
    (7) نسه، ج1 ص117.
    (8) ینظر: د. عبدالرحمن یاغی، مقدمة فی دراسة الأدب الحدیث، المطبعة الاردنیة، عمان 1975، ص94.
    (9) د. عبدالله الفیفی، شعر النقاد، ص13.
    (10) الفیروز آبادی، القاموس المحیط، عالم الكتب، بیروت، بدون تاریخ، مادة (ح ش و).
    (11) د. عبدالله الفیفی، شعر النقاد، ص26
    (12) ینظر على سبیل المثال: د. عبدالإله الصائغ، الصورة الفنیة معیاراً نقدیاً، دار الشؤون الثقافیة العامة، بغداد 1987، وینظر كذلك: د. مدحت سعد محمد الجیار، الصورة الشعریة عند أبی القاسم الشابی، الدار العربیة للكتاب، طرابلس 1984.
    (13) د. عبدالجبار المطلبی، دراسات فی الأدب الإسلامی والأموی، الشعراء نقاداً، ص6.
    (14) د. عبدالله الفیفی، شعر النقاد، ص7.
    (15) نفسه، ص10.
    (16) أبو تمام حبیب بن أوس الطائی، دیوان الحماسة، تحقیق د. عبدالمنعم أحمد صالح، الدار الوطنیة، بغداد 1980، ص268.
 
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:2|
الشُّعَراءُ وَالنَّحْویّونَ


الخلاف بین الشعراء والنحویین (علماء النحو) قدیم مستمر: یُخَطِّئُ النحویون أقوال الشعراء، ویُسَفِّهُ الشعراء أحلام النحویین، والغاوون مذبذبون بین هؤلاء وهؤلاء!

ولا یعرف الشوق إلا من یكابده!

وقد كابدت بحیاتی طلب الشعر والنحو، وطلب علمی الشعر والنحو ؛ فلا أحكم هنا إلا بما عانیت، فی مسألة مطروحة دائما وكأن طرحها فرض كفایة على مثقفی كل زمان ومكان ؛ وهل أشرف مما نقوم جمیعا فیه الآن من زمان ومكان! ولقد خطرت لی فی هذه المسألة، أفكار أربع، یمكننی بها أنا وأنتم أن نتجاذب أطرافها ؛ عسى أن نركن من فهمها إلى ركن وثیق:

    • الشِّعْرُ وَالنَّحْوُ:
    - حقیقةُ وجود كل منهما فی الكلام، وما یجتمعان علیه، وما یفترقان فیه.
    • عِلْمُ الشِّعْرِ وَعِلْمُ النَّحْوِ:
    - منهجُ البحث عن حقیقة كل منهما، المفضی إلى نظریات ضابطة.
    • الشّاعِرُ وَالْفَصیحُ:
    - حقیقةُ وجود كل منهما فی المتكلمین، وما یجتمعان علیه، وما یفترقان فیه.
    • عالِمُ الشِّعْرِ وَعالِمُ النَّحْوِ:
    - حقیقةُ وجود كل منهما فی الباحثین، وما یجتمعان علیه، وما یفترقان فیه.
    إننا إذا تأملنا كل فكرة من هذه الأفكار حق تأملها، واتفقنا فی نقدها على قول فصل - وضعنا علاقةَ بَیْنِ الشعراء والنحویین (علماء النحو)، فی موضعها الصحیح ؛ فعَرَفَ كلٌّ حَدَّه، فَوَقَفَ عِنْدَه!

1 حدثنا أبو تمیم عبد الحمید بسیونی وكان مستشار جابر الصباح أمیر الكویت الأسبق، أنه شهد مجلس أستاذنا محمود محمد شاكر، وقد أقبل محمود حسن إسماعیل - وكلهم معاصرون ماتوا فی أثناء هذا القرن الهجری الخامس عشر ؛ رحمهم الله جمیعا رحمة واسعة، ولم یَفْتنّا بعدهم، ولم یحرمنا أجرهم! - ینشد من شعره المجلسَ الجلیل، وفیه الحسّانی حسن عبد الله - عفا الله عنه! - یَتَسَقَّطُ له، حتى لَقَطَ شیئا صاح به علیه ؛ فغضب محمود حسن إسماعیل. قال أبو تمیم: فلما كان المجلس التالی، بَدَرَ إسماعیلُ بقصیدته من الشعر الحر " الوَهَجُ وَالدّیدانُ "، یقول:

    " تَفْعیلَتانْ
    ثَلاثُ تَفْعیلاتْ
    وَسَبْعُ تَفْعیلاتْ

    وَأَحْرُفٌ تُعانِقُ الْأَلْحانَ بِالْأَحْضانِ وَالرّاحاتْ
    تُدَفِّقُ النّورَ عَلى حَفائِرِ الْأَمْواتْ
    شَلّالَ موسیقا بِلا قَواعِدٍ مَرْسومَةِ الرَّنّاتْ
    مَعْصومَةِ الْإیقاعِ دونَ حاسِبٍ مُزَیَّفِ الْمیقاتْ
    یَعُدُّها مِنْ قَبْلِ أَنْ تَجیءَ بِالْأَسْبابِ وَالْأَوْتادِ وَالشَّطْراتْ
    تَشُقُّ بابَ الرّوحِ لا تَسْتَأْذِنُ الْإِصْغاءَ وَالْإِنْصاتْ
    وَلَیْسَ فی إِعْصارِها سَبّابَةٌ تُعَذِّبُ الْهالاتْ
    وَلا فُضولُ الْمَوْتِ وَهْوَ یَسْأَلُ الْحَیاةَ عَنْ تَوَهُّجِ السّاحاتْ
    وَلا فُضولُ اللَّیْلِ وَهْوَ یَسْأَلُ الْفَجْرَ لِماذا تَنْسَخُ الرُّفاتْ
    ضَجَّ الْبِلى مِنْ صَیْحَةِ الْإِشْراقِ فی تَشَبُّثِ الْمَواتْ
    وَانْتَفَضَتْ هَیاكِلٌ مَرْصوفَةُ الطُّقوسِ مِنْ تَناسُقِ الْأَشْتاتْ
    وَكُلُّ ما فیها قَرابینُ تُقَدِّسُ الرِّمامَ فی كُلِّ حَصادٍ ماتْ
    مَصْلوبَةُ الْجُمودِ وَالرُّكودِ وَالْهُمودِ وَالسُّباتْ
    عَلى مَطایا زَمَنٍ مُهَرَّأِ الْأَكْفاتْ
    تَحَرَّكَتْ فی غَبَشِ الْكُهوفْ
    جَنائِزًا فی لَحْدِها تَطوفْ
    مَشْلولَةَ الْمَسیرِ وَالْحِراكِ وَالْوُقوفْ
    كَأَنَّها لِتُرَّهاتِ أَمْسِها رُفوفْ
    أَوْ أَنَّها لِكُلِّ نورٍ شَعَّ فی زَمانِها حُتوفْ
    تُریدُ شَلَّ الْوَهَجِ الْعَصوفْ
    بِأَعْیُنٍ ضِیاؤُها مَكْفوفْ
    وَأَلْسُنٍ نِداؤُها مَعْقوفْ
    تَهاتَرَتْ مَخْدورَةً مِنْ سَمْتَةِ الْعُكوفْ
    وَراعَها تَمَزُّقُ السُّجوفْ
    وَخَیْبَةُ التَّكْرارِ وَالدُّوارِ فی الْقیعانْ
    فَأَنْشَبَتْ هُذاءَها فی الْقَشِّ وَالْعیدانْ
    وَالْحَبُّ عَنْ عَمائِها مُغَلَّفٌ نَشْوانْ
    وَوَعْیُها مِنْ غَشْیَةٍ غَفْلانْ
    وَطَرْفُها مِنْ عَشْیَةٍ ظَمْآنْ
    لِكُلِّ ما لَمْ یَبْقَ فیهِ قَبَسٌ لِخُطْوَةِ الْإِنْسانْ
    سُبْحانَ رَبِّ النّورِ مِنْ تَحَرُّكِ الْأَكْفانْ
    سُبْحانَهُ سُبْحانْ
    مَنْ أَیْقَظَ الدّیدانْ
    أَنْغامُ هذا الطَّیْرِ ما لَقَّنَها بُسْتانْ
    وَلا حَداها حارِسٌ یَقْظانْ
    وَلا بِغَیْرِ ما تَجیشُ نارُها تَحَرَّكَتْ بَنانْ
    مِنْ ذاتِها وَوَحْیِها رَحیقُها الصَّدْیانْ
    الرّافِضُ الْإیماءَ لِلْوَراءِ یَمْتَصُّ خُطا الرُّكْبانْ
    الرّافِضُ الْقِیاسَ فی الصَّدى وَفی الْمَدى وَفی اللِّسانْ
    وَفی هَوى التَّنْغیمِ وَالتَّفْخیمِ وَالتَّرْنیمِ وَالْإِرْنانْ
    تَدَفَّقَتْ لا تَعْرِفُ التَّطْریزَ فی تَوَهُّجِ الْأَلْحانْ
    وَلا خِداعَ السَّمْعِ فی تَبَرُّجِ الْحُروفِ لِلْآذانْ
    وَلا لِخَطْوِ اللَّحْنِ قَبْلَ سَكْبِهِ مِنْ نایِها میزانْ
    أَسْكَرَها خالِقُها قَبْلَ انْبِثاقِ اللَّحْنِ بِالْأَوْزانْ
    تَحَرَّرَتْ فَما بِها لِلْقالَبِ الْمَصْبوبِ قَبْلَ كَأْسِها إِذْعانْ
    زَخارِفٌ مَطارِفٌ مَتاحِفٌ لِقِشْرَةِ الْأَكْوانْ
    قَواقِعٌ بَراقِعٌ بَدائِعٌ زَیّافَةُ الْأَلْوانْ
    جَلَّ عَزیفُ النّایِ أَنْ یَقودَهُ إِنْسانْ
    وَجَلَّ روحُ الْفَنِّ عَنْ تَناسُخِ الْأَبْدانْ
    فَالشِّعْرُ شَیْءٌ فَوْقَ ما یَصْطَرِعُ الْجیلانْ
    روحٌ تَرُجُّ الرّوحَ كَالْإِعْصارِ فی الْبُسْتانْ
    بِزَفِّها وَحَرْفِها وَنورِها الْمُمَوْسَقِ النَّشْوانْ
    وَخَمْرِها الْمَعْصورَةِ الرَّحیقِ مِنْ تَهادُلِ الْأَزْمانْ
    لِكُلِّ جیلٍ كَأْسُه لا تَفْرِضُوا الدِّنانْ
    مَلَّ النَّدامى حَوْلَكُمْ عِبادَةَ الْأَكْفانْ
    فَجَدِّدوا أَرْواحَكُمْ لا تَظْلِمُوا الْمیزانْ
    فَالشِّعْرُ لَحْنٌ مِنْ یَدِ الرَّحْمنْ
    سُبْحانَهُ سُبْحانْ

مُلْهِی النُّسورِ عَنْ خُطَا الدّیدانْ ". (دیوانه) ومن تأمل هذه التعبیرات حق تأملها: " حاسِبٍ مُزَیَّفِ الْمیقاتْ "، " سَبّابَةٌ تُعَذِّبُ الْهالاتْ "، " فُضولُ الْمَوْتِ "، " فُضولُ اللَّیْلِ "، " تَشَبُّثُ الْمَواتْ "، " تَناسُقِ الْأَشْتاتْ "، " تَحَرُّكِ الْأَكْفانْ "، " تَناسُخِ الْأَبْدانْ "، " عِبادَةَ الْأَكْفانْ "، " خُطا الدّیدانْ " - رأى كیف عَرّاهُ للملأ، ثم سَلَحَ علیه! بل كیف زَلْزَلَه، وأَضَلَّه عن نفسه، ثم تركه فی بَیْداء! فأَیَّةُ مَذَمَّةٍ لم یَصُبَّها علیه! وأَیَّةُ مَحْمَدَةٍ لم یَسْلُبْها منه! فتُرى كیف اختلفا اختلافا شدیدا وكان ینبغی أن یأتلفا، حتى إذا أخطأ إسماعیل خَطَأً انْتَهَزَه الحَسّانیُّ نُهْزَةً باردةً؟ وماذا كان ذلك الخطأ ولا مَصْلَحَةَ فی التَّشْنیعِ به، حتى أَكْمَدَه علیه هذا الكَمَدَ، واستعداه هذه العَداوة؟

قال المظفر العلوی المتوفى سنة 656 الهجریة: " یَنْبَغی لِلشّاعِرِ أَلّا یُعادِیَ أَهْلَ الْعِلْمِ، وَلا یَتَّخِذَهُمْ خُصومًا ؛ فَإِنَّهُمْ قادِرونَ عَلى أَنْ یَجْعَلوا إِحْسانَه إِساءَةً، وَبَلاغَتَه عیًّا، وَفَصاحَتَه حَصَرًا، وَیُحیلوا مَعْناهُ، وَیَنْتَقِضوا ما بَناهُ! فَكَمْ مِنْ أَدیبٍ أَسْقَطَ أَهْلُ الْعِلْمِ حُكْمَ أَدَبِه، وَأَخْمَلوا مِنْ ذِكْرِه ما تَنَبَّلَ بِه! وَلَوْ عَدَدْناهُمْ لَأَفْرَدْنا لَهُمْ كِتابًا! وَلِلّهِ عَمّارٌ الْكَلْبیُّ حَیْثُ یَقولُ:

ماذا لَقیتُ مِنَ الْمُسْتَعْرِبینَ وَمِنْ قِیاسِ نَحْوِهِم هذَا الَّذِی ابْتَدَعوا إِنْ قُلْتُ قافِیَةً بِكْرًا یَكونُ بها بَیْتٌ خِلافَ الَّذی قاسوهُ أَوْ ذَرَعوا قالوا لَحَنْتَ وَهذا لَیْسَ مُنتَصِبًا وَذاكَ خَفْضٌ وَهذا لَیْسَ یَرْتَفِع وَحَرَّضوا بَیْنَ عَبْدِ اللّهِ مِنْ حُمُقٍ وَبَیْنَ زَیْدٍ فَطالَ الضَّرْبُ وَالْوَجَعُ كَمْ بیْنَ قَوْمٍ قَدِ احْتالوا لِمَنْطقِهِمْ وَبَیْنَ قَوْمٍ عَلى إِعْرابِهِمْ طُبِعوا ما كُلُّ قَوْلِیَ مَشْروحًا لَكُمْ فَخُذوا ما تَعْرِفونَ وَما لَمْ تَعْرِفوا فَدَعوا لِأَنَّ أَرْضِیَ أَرْضٌ لا تُشَبُّ بِها نارُ الْمَجوسِ وَلا تُبْنى بِهَا الْبِیَع

وَلَعَلَّ أَهْلَ الْعِلْمِ یَأْتونَ إِلَى الْمَعانِی الْمُسْتَحیلَةِ وَالْأَلْفاظِ الْمُخْتلَّةِ، فَیُقَوِّمونَ أَوَدَها بِعِلَلِهِمْ، وَیُصْلِحونَ فاسِدَها بِمَعْرِفَتِهِمْ ؛ وَمَنْ هذِه سَبیلُه فَما یَحْسُنُ أَنْ یُغْضَبَ وَلا یُقْشَبَ ؛ فَرُبَّ داهِیَةٍ وَقَعَ عَلى مَنْ هُوَ أَدْهى مِنْهُ ". (نضرة الإغریض)

ولو قد حضر المظفر العلوی مجلس أستاذنا ذاك، لعرف كیف یَقْدِرُ الشعراء من النَّحْویّین (علماء النحو) على أكثر من ذلك، ولَعَطَفَهُمْ علیهم بإغرائهم بخِدْمَتِهِمْ لهم كما فعل أخیرًا ببعض كلامه، لا بتَهْدیدِهم وهم المُمْتَلِئون بأنفسهم، بأن یَهْتِكَ النَّحْویّونَ أستارَهم ظُلْمًا وعُدْوانًا ویَفْضَحوا أسرارَهم بَغْیًا وبُهْتانًا! ثم العجبُ له یستشهد بشعر عمارٍ ینعى فیه على النَّحْویّینَ (علماء النحو) تَعْنیتَهم له، من غیر استكانة لهم ولا إقرار بسلطانهم! أم تُراه یُخَوِّفُ الشعراء بالكَمَدِ الذی وَجَدَه عَمّارٌ، من حیث كان السعیدَ منهم من وُعِظَ بأخی صَنْعَتِه - حتى یُقْرّوا ویَسْتَكینوا! لقد كان ینبغی للمظفر العلوی، أن یشتغل بجوامع ما بین طائفتی الشعراء والنَّحْویّینَ (علماء النحو) تَرْغیبًا ومُؤالَفَةً وإِصْلاحًا، أكثرَ منِ اشتغاله بفوارق ما بینهما تَرْهیبًا ومُخالَفَةً وإِفْسادًا!

2

مَثَلُ اللغة المعینة مَثَلُ بنیان الإنسان المعین، ومَثَلُ شِعْرِ اللغة المعینة مَثَلُ بنیان إنسانٍ وُلِدَ من ذلك البنیان السابق، ومَثَلُ نَحْوِ اللغة المعینة مَثَلُ جِهازٍ مُعَیَّنٍ فی البنیان السابقِ الوالد مُسْتَمِرٍّ إلى البنیان اللاحقِ المولود.

ومَنْ تَأَمَّلَ بُنیانَ الشعر وَجَدَ بُنیانَ اللغة: جِهازَ أَصْواتِها وَمَقاطِعِها الصَّوْتیة ومعانیها، وجِهازَ صِیَغِها الصَّرْفیة ومعانیها، وجِهازَ مفرداتها المُعْجَمیّة ومعانیها، وجِهازَ تَراكیبها النَّحْویَّة ومعانیها - ورأى كیف تمتزج فی الجهاز الواحد مبانیه ومعانیه، وفی البنیان الواحد أجهزتُه كلُّها - امتزاجَ الأشباح والأرواح، لِتُؤَدِّی رسالةً واحدة لا تُؤَدّى إلا بذلك امْتِزاجًا فامْتِزاجًا، مثلما یُؤَدّی عَمَلَه الإنسانُ نفسُه صاحبُ هذه اللغة ؛ وكُلُّ عَمَلٍ مُوَفَّقٍ یعمله الإنسان - واللغة عَمَلُه الفَذُّ - ففیه طَبیعَتُه البُنْیانیَّة ؛ " لَعَنَ اللّهُ مَنْ هَدَمَ بُنْیانَه "!

وإذا جمعنا تُراثَ لغة ما، استطعنا أن نمیز الشعر منه، لأنه جزء محدد - ولم نستطع أن نمیز النحو، لأنه عنصر مُتَأَصِّلٌ فی مُرَكِّب هذا التراث كله ؛ ومن ثم یعمل النحوُ فی بُنْیان الشعر وغیره من البُنْیانات اللغویة المولودة، ویَتَكَوَّنُ بُنْیانُ الشعر من جهاز النحو وغیره من الأجهزة اللغویة المستمرة ؛ فبین الشعر والنحو عُمومٌ وخُصوصٌ مُطْلَقانِ!

3

وكذلك نستطیع أن نمیز بالعموم والخصوص المطلقین، الشاعرَ والفَصیحَ بعضَهما من بعض ؛ فأولهما المشتغل بإنتاج الشعر، والآخر المشتغل بإنتاج النحو، والشاعرُ یجب أن یكون فَصیحًا، أی أن یستعمل جهاز النحو من اللغة التی یقول فیها شعره، والفَصیحُ یجوز أن یكون شاعرًا، وأن یكون غیر شاعر، ولكن یجب أن یكون أیَّهما، لیقول من اللغة ما یستعمل فیه جهاز نحوها.

وإنما یكون الشاعرُ والفَصیحُ - ویَبْرَعان، ویَفْرَعان - بمَلَكَةٍ فَنّیَّةٍ یستوعب بها كل منهما تُراثَه على منهج من مناهج الارتیاح الإیحائی، سَعْیًا إلى مَیْلٍ وُجْدانی من مُیول التَّرْجیحات الذَّوْقیّة - ویجری مجراه اتِّباعًا فابْتِداعًا ؛ فتتحول مَلَكَتُه الفنّیَّةُ من مرحلة الاستعداد، إلى مرحلة القدرة، حتى مرحلة المهارة، أی من مرحلةٍ یُتْقِنُ فیها عمله واعیا أنه یتقن أو یحاول الإتقان، حتى مرحلةٍ یتقن فیها عمله غافلا عن أنه یتقن أو یحاول الإتقان!

كلامُ الحق - سبحانه، وتعالى! - ورسولِه - صلى الله علیه، وسلم! - وصحابتِه - رضی الله عنهم! - ثم كلامُ سحبانِ وائلٍ وقُسِّ بن ساعدة وأكثمَ بن صیفیٍّ وغیرِهم، ثم كلامُ الشافعی والجاحظ وعبد الحمید وابن المقفع والأصفهانی والتوحیدی وغیرِهم، ثم كلامُ الطبری وعبد القاهر الجرجانی والمعری وغیرِهم، ثم كلامُ ابن خلدون وابن تیمیة وابن القیم والقاضی الفاضل والصفدی وغیرِهم، ثم كلامُ الجبرتی والسبكی وابن عبد الوهاب وغیرِهم، ثم كلامُ المنفلوطی والعقاد والمازنی وسید قطب والرافعی ومحمود شاكر وحمد الجاسر والطنطاوی والبهبیتی وغیرِهم، ثم كلامُ المسعودی ویحیى حقی وعبد الحلیم عبد الله ونجیب محفوظ ویوسف إدریس وفتحی غانم ومصطفى محمود وزكریا تامر وعبد الرحمن منیف وعلی أبو المكارم وغیرِهم!

وكلامُ شعراء المعلقات والمفضلیات والأصمعیات والحماسات والجمهرات وغیرِهم، ثم كلامُ شعراءِ رسول الله - صلى الله علیه، وسلم! - وشعراءِ صحابتِه، ثم كلامُ جریر والفرزدق والأخطل والكمیت وغیرِهم، ثم كلامُ أبی العتاهیة وصالح بن عبد القدوس وبشار وأبی نواس وغیرِهم، ثم كلامُ دیك الجن وعلی بن الجهم وأبی تمام والبحتری والعَكَوَّك وابن الرومی والمتنبی وأبی فراس والمعری وغیرِهم، ثم كلامُ التطیلی وابن خفاجة وابن سهل وغیرهم، ثم كلامُ ابن حمدیسَ والبهاء زهیر وابن سناء الملك وغیرِهم، ثم كلام ابن غنام وابن عثیمین والساعاتی وغیرِهم، ثم كلام البهلانی وأحمد شوقی وحافظ إبراهیم والزبیری وغیرِهم، ثم كلام الشابی وإبراهیم ناجی وعلی طه ومحمود إسماعیل ومحمود شاكر وحمزة شحاتة والنجفی والجواهری وغیرهم، ثم كلام عمر أبو ریشة والسیاب ونازك وأمل دنقل ومحمود درویش ومحمد الفیتوری وحسن قرشی ومهران السید وعبد اللطیف عبد الحلیم وغیرِهم.

مادة بعضها من بعض، وبعضها یدل على بعض مشهورًا ومغمورًا، لا یرضى إلا أن یُحْشَر معه - ینبغی لكلٍّ من طالِبَیِ الشعر والفَصاحَةِ العَرَبیَّیْنِ، أن یبحث عنها، ویستوعبها، ویتحقق بها، ویلهج بذكرها ؛ فیلتبس بها ظاهرا وباطنا، حتى یقَلِّدها عفوًا، أو یتَناساها قصدا! فإن قلدها انضاف إلى مذهب أصحابها، وإن تناساها انطلق إلى مَذْهَبٍ ینفرد به حتى ینضاف إلیه فیه غیرُه!

4

ونستطیع أن نمیز بالعموم والخصوص المطلقین كذلك، عالمَ الشعر والنحویَّ (عالمَ النحو) بعضهما من بعض ؛ فأولهما المشتغل بالبحث عن حقیقة وجود الشعر ضَبْطًا لنظریاته، والآخر المشتغل بالبحث عن حقیقة وجود النحو ضَبْطًا لنظریاته، وعالم الشعر لا یستغنی عن علم النحو، والنحویُّ (عالم النحو) لا یكتمل إلا بعلم الشعر.

وإنما یكون عالمُ الشعر والنحویُّ (عالم النحو) - ویَبْرَعان، ویَفْرَعان - بمَلَكَةٍ عِلْمیَّةٍ یستوعب بها كل منهما تراثَه العلمیَّ على منهج من مناهج التأمل الظاهریة أو الباطنیة، سَعْیًا إلى نظریة ضابطة من نظریات ترتیب المقدمات والنتائج - ویجری مجراه كذلك اتِّباعًا فابْتِداعًا ؛ فتتحول مَلَكَتُه العِلْمیَّةُ كذلك من مرحلة الاستعداد، إلى مرحلة القدرة، حتى مرحلة المهارة.

كتبُ البیان والتبیین والحیوان والأغانی وغیرِها، ثم كتبُ الصناعتین والوساطة وأسرار البلاغة ودلائل الإعجاز وشرح الحماسة وشرح دیوان المتنبی وغیرِها، ثم كتبُ العمدة والموازنة وعیار الشعر والمثل السائر ومنهاج البلغاء وغیرِها، ثم كتبُ الدیوان وفی المیزان الجدید ورسالة فی الطریق إلى ثقافتنا ونمط صعب ونمط مخیف وأباطیل وأسمار والنقد الأدبی الحدیث وغیرِها، ثم كتبُ قراءة الشعر والصورة فی الشعر العربی والرمز والرمزیة فی الشعر المعاصر وواقع القصیدة العربیة وحركة الشعر الحدیث فی سوریة وعن بناء القصیدة العربیة الحدیثة وتشریح النص وغیرِها!

وكتبُ الكتاب والمقتضب ومعانی القرآن والأصول وشرح القصائد السبع الطوال الجاهلیات وشرح المفضلیات وغیرِها، ثم كتبُ الخصائص وسر صناعة الإعراب والمقرب والبحر المحیط وغیرِها، ثم كتبُ الأمالی وشرح المفصل وشرح الكافیة وخزانة الأدب ونتائج الفكر وغیرِها، ثم كتبُ الاقتراح وهمع الهوامع والألفیة وشرح الأشمونی وحاشیة الصبان وحاشیة الشهاب وشرح بانت سعاد والمغنی وغیرِها، ثم كتبُ النحو الوافی واللغة العربیة معناها ومبناها والبیان فی روائع القرآن وخصائص الأسلوب فی الشوقیات وبناء الجملة العربیة والنحو والدلالة والجملة فی الشعر العربی ومدخل إلى دراسة الجملة العربیة ونظام الجملة فی شعر المعلقات وغیرِها!

مادة بعضها من بعض كذلك، وبعضها یدل على بعض مشهورًا ومغمورًا، لا یرضى إلا أن یُحْشَر معه - ینبغی لكلٍّ من طالِبَیْ علم الشعر وعلم النحو العربیین، أن یبحث عنها، ویستوعبها، ویتحقق بها، ویلهج بذكرها ؛ فیلتبس بها ظاهرا وباطنا، حتى یقَلِّدها عفوًا، أو یتَناساها قصدا! فإن قلدها انضاف إلى مذهب أصحابها، وإن تناساها انطلق إلى مَذْهَبٍ ینفرد به حتى ینضاف إلیه فیه غیرُه!

5

بهؤلاء جمیعا وأمثالهم على مسیرة التاریخ الثقافی، تكون فنونُ اللغة وعلومُها دائما، وتحیا حیاة طیبة، ثم على آثارهم یسعى غیرُهم من أصحاب اللغة، إِكْبارًا لهم، ووُثوقًا بهم، ولا یقبلون فیهم لَوْمَةَ لائِمٍ!

وأنى لهم أن یُخْطِئوا مَرامِیَهُمْ اللغویة بأعمالهم على أیِّ وجه كان الخطأ، فیُلیموا وهم الموهوبون المُوَفَّقون إلى تثقیف مواهبهم، المشتغلون دائما بأعمالهم، المُتَطَوِّرون من حال إلى أحسن منها!

ولكننا نتكلم من ذلك فی مسألة خطأ الشاعر والفصیح ؛ فخطأُ عالم الشعر ربما ینبنی على خطأ الشاعر نفسه، وخطأُ النحوی (عالم النحو) ربما ینبنی على خطأ الشاعر والفصیح كلیهما! بل نستطیع أن نكتفی من هذا بالكلام فی خطأ الشاعر ؛ فالفصیحُ نفسه ربما یكون هو الشاعر نفسه، كما شرحت فیما سبق!

6

لقد رأى بعض العلماء المعاصرین أن الشاعر یخطئ أحیانا مَرْماه اللغوی، وأن خطأه حَدَثٌ واقعی، یدل على غفلة تفكیریة بأثر اضطراب أو شرود أو جهل. وأبى ذلك غیرُهم من المعاصرین، بأنَّ خطأه وَجْهٌ مُهْمَلٌ من الصواب، یَدُلُّ على خَطْرَةٍ فكریة طارئة لم تتمكن من العادات الجماعیة بعد!

ولیس المذهبان بجدیدین ؛ فلقد كان عبد الله بن أبی إسحاق المتوفى سنة 117هـ - وهو وابنه زید هما المذكوران فی شعر عمّار السابق ذكره - وتلمیذُه عیسى بن عمر المتوفى سنة 149هـ، وأبو عمرو بن العلاء المتوفى سنة 154هـ، وتلمیذُه یونس بن حبیب المتوفى سنة 182هـ - كلُّهم من أئمة النحویین (علماء النحو)، وكان الأَوَّلانِ أَمْیَلَ إلى تخطئة الشاعر إذا خالف القاعدة، وكان الآخِران أَمْیَلَ إلى تصویبه واعتماد ما خالفهما فیه والقیاس علیه. ولقد دَرَجَ البصریون مَدْرَجَ الأَوَّلَیْنِ، ودَرَجَ الكوفیون مَدْرَجَ الآخِرَیْنِ ؛ " وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّیها "!

قال القاضی الجرجانی المتوفى سنة 392هـ: " دونَكَ هذِهِ الدَّواوینَ الْجاهِلیَّةَ وَالْإِسْلامیَّةَ ؛ فَانْظُرْ: هَلْ تَجِدُ فیها قَصیدَةً تَسْلَمُ مِنْ بَیْتٍ أَوْ أَكْثَرَ لا یُمْكِنُ لِعائِبٍ الْقَدْحُ فیهِ، إِمّا فی لَفْظِه وَنَظْمِه، أَوْ تَرْتیبِه وَتَقْسیمِه، أَوْ مَعْناهُ، أَوْ إِعْرابِه؟ وَلَوْلا أَنَّ أَهْلَ الْجاهِلیَّةِ جُدّوا بِالتَّقَدُّمِ، وَاعْتَقَدَ النّاسُ فیهِمْ أَنَّهُمُ الْقُدْوَةُ وَالْأَعْلامُ وَالْحُجَّةُ - لَوَجَدْتَ كَثیرًا مِنْ أَشْعارِهِمْ مَعیبَةً مُسْتَرْذَلَةً، وَمَرْدودَةً مَنْفیَّةً! لكِنَّ هذَا الظَّنَّ الْجَمیلَ وَالِاعْتِقادَ الْحَسَنَ، سَتَرَ عَلَیْهِمْ، وَنَفَى الظِّنَّةَ عَنْهُمْ ؛ فَذَهَبَتِ الْخَواطِرُ فِی الذَّبِّ عَنْهُمْ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَقامَتْ فی الِاحْتِجاجِ لَهُمْ كُلَّ مَقامٍ! وَما أَراكَ - أَدامَ اللّهُ تَوْفیقَكَ! - إِذا سَمِعْتَ قَوْلَ امْرِئِ الْقَیْسِ:

    یا راكِبًا بَلِّغَ إِخْوانَنا مَنْ كانَ مِنْ كِندَةَ أَوْ وائِل
    فَنَصَبَ بَلِّغْ - وَقَوْلَه:
    فَالْیَوْمَ أَشْرَبْ غَیْرَ مُسْتَحقِبٍ إثْمًا مِنَ اللّهِ وَلا واغِل
    فَسَكَّنَ أَشْرَبُ - وَقَوْلَه:
    لَها مَتْنَتانِ خَظاتا كَما أَكَبَّ عَلى ساعِدَیْهِ النَّمِرْ
    فَأَسْقَطَ النّونَ مِنْ خَظاتانِ لِغَیْرِ إِضافَةٍ ظاهِرَةٍ - وَقَوْلَ لَبیدٍ:
    تَرّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذا لَمْ أَرْضَها أَوْ یَرْتَبِطْ بَعْضَ النُّفوسِ حِمامُها
    فَسَكَّنَ یَرْتَبِطَ وَلا عَمَلَ فیهِ لِلَمْ - وَقَوْلَ طَرَفَةَ:
    قَدْ رُفِعَ الفَخُّ فَماذا تَحْذَری
    فَحَذَفَ النّونَ - وَقَوْلَ الْأَسَدیِّ:
    كُنّا نُرَقِّعْها وَقَدْ مُزِّقت وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَى الرّاقِع
    فَسَكَّنَ نُرَقِّعُها - وَقَوْلَ الْآخَرِ:
    تَأْبى قُضاعَةُ أَنْ تَعْرِفْ لَكُمْ نَسَبًا وَابْنا نِزارٍ وَأَنْتُمْ بَیْضَةُ الْبَلَد
    فَسَكَّنَ تَعْرِفَ - وَقَوْلَ الْآخَرِ:
    یا عَجَبًا وَالدَّهْرُ جَمٌّ عَجَبُهْ
    مِنْ عَنَزیٍّ سَبَّنی لَمْ أَضْرِبُهْ
    فَرَفَعَ أَضْرِبْهُ - وَقَوْلَ الْفَرَزْدَقِ:
    وَعَضُّ زَمانٍ یَا ابْنَ مَرْوانَ لَمْ یَدَعْ مِنَ الْمالِ إِلّا مُسْحَتًا أَوْ مُجَلَّف

فَضَمَّ مُجَلَّفًا (…) ثُمَّ تَصَفَّحْتَ مَعَ ذلِكَ ما تَكَلَّفَهُ النَّحْویّونَ لَهُمْ مِنَ الِاحْتِجاجِ إِذا أَمْكَنَ، تارَةً بِطَلَبِ التَّخْفیفِ عِنْدَ تَوالِی الْحَرَكاتِ، وَمَرَّةً بِالْإِتْباعِ وَالْمُجاوَرَةِ ؛ وَما شاكَلَ ذلِكَ مِنَ الْمَعاذیرِ الْمُتَمَحَّلَةِ، وَتَغْییرِ الرِّوایَةِ إِذا ضاقَتِ الْحُجَّةُ ؛ وَتَبَیَّنْتَ ما راموه فی ذلِكَ مِنَ الْمَرامِی الْبَعیدَةِ، وَارْتَكبوا لِأَجْلِه مِنَ الْمَراكِبِ الصَّعْبَةِ، الَّتی یَشْهَدُ الْقَلْبُ أَنَّ الْمُحَرِّكَ لَها وَالْباعِثَ عَلَیْها، شِدَّةُ إِعْظامِ الْمُتَقَدِّمِ، وَالْكَلَفُ بِنُصْرَةِ ما سَبَقَ إِلَیْهِ الِاعْتِقادُ وَأَلِفَتْهُ النَّفْسُ (…) شَكَكْتَ فی أَنَّ نَفْعَ هذَا الْحُكْمِ عامٌّ، وَجَدْواهُ شامِلٌ، وَأَنَّ الْمُتَقَدِّمَ یَضْرِبُ فیهِ بِسَهْمِ الْمُتَأَخِّرِ، وَالْجاهِلیَّ یَأْخُذُ مِنْهُ ما یَأْخُذُ الْإِسْلامیُّ، وَأَنَّه قَوْلٌ لا حَظَّ لَه فِی الْعَصَبیَّةِ، وَلا نَسَبَ بَیْنَه وَبَیْنَ التَّحامُلِ ".

(الوساطة)

لقد أراد القاضی الوساطة بین المتنبی وخصومه، فاقتص آثار الشعراء مُخْطِئینَ، حتى یُبَرِّئَ المتنبیَ بعُموم البَلْوى، ثم یَحْكُمَ بضرورة الاعتماد فی تقدیر الشاعر المُخْطِئِ، على الغالب علیه ؛ فإن غلب علیه الصوابُ وَجَبَ تَصْنیفُه فی طائفة المُصیبین، وإن غلب علیه الخطأُ وجب تَصْنیفُه فی طائفة المُخْطئین، فأما عِصْمَتُه فَرَأْیٌ فائِلٌ لا یراه لنفسِه الشاعرُ نَفْسُه إلا أن یكون مَهْووسًا، وهو الإنصافُ!

7

ولكنْ فات القاضیَ الجرجانیَّ أنه ینبغی ألا یرى لنفسه العصمةَ كذلك النحویُّ (عالم النحو) نفسُه - وأنا أَرُدُّ عَجُزَ كلامی هنا على صَدْرِه - فربما خَفِیَ علیه مرادُ الشاعر اضطرابًا أو شُرودًا أو جَهْلا كذلك ؛ فاستعجل التخطیء كما استعجل الشیخ القاضی نفسُه تخطیء بعضِ ما أورد على الشعراء!

قال ابن رشیق القیروانی المتوفى سنة 463هـ: " حَكى الصّاحِبُ بْنُ عَبّادٍ فی صَدْرِ رِسالَةٍ صَنَعَها عَلى أَبی الطَّیِّبِ، قالَ: حَدَّثنی مُحَمَّدُ بْنُ یوسُفَ الْحَمّادیُّ، قالَ: حَضَرْتُ بِمَجْلِسِ عُبَیْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ طاهِرٍ، وَقَدْ حَضَرَه الْبُحْتُریُّ، فَقالَ: یا أَبا عُبادَةَ، أَمُسْلِمٌ أَشْعَرُ أَمْ أَبو نُواسٍ؟ فَقالَ: بَلْ أَبو نُواسٍ، لِأَنَّه یَتَصَرَّفُ فی كُلِّ طَریقٍ، وَیَبْرَعُ فی كُلِّ مَذْهَبٍ: إِنْ شاءَ جَدَّ، وَإِنْ شاءَ هَزَلَ، وَمُسْلِمٌ یَلْزَمُ طَریقًا واحِدًا لا یَتَعَدّاهُ، وَیَتَحَقَّقُ بِمَذْهَبٍ لا یَتَخَطّاهُ. فَقالَ لَه عُبَیْدُ اللّهِ: إِنَّ أَحْمَدَ بْنَ یَحْیى ثَعْلَبًا لا یُوافِقُكَ عَلى هذا. فَقالَ: أَیُّها الْأَمیرُ، لَیْسَ هذا مِنْ عِلْمِ ثَعْلَبٍ وَأَضْرابِه مِمَّنْ یَحْفَظُ الشِّعْرَ وَلا یَقولُه ؛ فَإِنَّما یَعْرِفُ الشِّعْرَ مَنْ دُفِعَ إِلى مَضایِقِه. فَقالَ: وَرِیَتْ بِكَ زِنادی، یا أَبا عُبادَةَ! إِنَّ حُكْمَكَ فی عَمَّیْكَ أَبی نُواسٍ وَمُسْلِمٍ، وافَقَ حُكْمَ أَبی نُواسٍ فی عَمَّیْهِ جَریرٍ وَالْفَرَزْدَقِ ؛ فَإِنَّه سُئِلَ عَنْهُما، فَفَضَّلَ جَریرًا، فَقیلَ لَه: إِنَّ أَبا عُبَیْدَةَ لا یُوافِقُكَ عَلى هذا، فَقالَ: لَیْسَ هذا مِنْ عِلْمِ أَبی عُبَیْدَةَ ؛ فَإِنَّما یَعْرِفُه مَنْ دُفِعَ إِلى مَضایِقِ الشِّعْرِ ". (العمدة)

وهذه عادةُ الشعراء التی یُدافعون بها عادةَ النحویین (علماء النحو) تلك، ویُؤَرِّثُ نارَها طلابُهما الغاوونَ المُذَبْذَبون بینهما كلیهما جمیعا معا، حتى إذا سَكَتَ عن كل منهما الغضبُ خالصةً نیَّتُه للحق، وبَرِئَ من التَّسَرُّع صافیةً نفسُه من الغُرور - قال فی الآخرِ غیرَ ما قال ؛ فقال فیه الآخرُ غیرَ ما قال ؛ فاجتمع الشمل فی خدمة اللغة فَنًّا وعِلْمًا: یعتمد الشاعرُ من النحوی (عالم النحو)، على أَرْضٍ قَویَّةٍ راسِخَةٍ، فیُؤَصِّلُ بنیانَ فَنِّه، ویتعلق النحویُّ (عالمُ النحو) من الشاعر، بِسَماءٍ قَویَّةٍ سامِقَةٍ، فیُفَرِّعُ بنیانَ عِلْمِه!

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:1|
الإبداعات فی الشّعر الأندلسی



موجز البحث:

أنّ فی الأدب الأندلسی توجد إبداعات وتجدیدات کثیرة ، خاصة فی مجال الشعر، وهذه الابداعات تنقسم إلی قسمین؛ ابداعاتٌ فی شکل الشعر وموسیقاه وهی ما تسمّی بالموشحات والزجّل وابداعاتٌ فی الأغراض والمعانی الشعریه وهی ما نباحث عنها تحت عنوان: شعر الطبیعه وشعر الجهاد ورثاء الممالک الزائلة والحنین إلی الاوطان والاستنجاد والاستغاثة والمخلّعات.

الکلمات الرئیسیّه: الابداعات، الشعر، الأندلس  
 
  
 
 

المقدمه:

إنّ العصر الأندلسی کان من العصور المزدهره فی الأدب العربی ولهذا یحظی بأهمیّته بالغه وعنایه کبیره من جانب الأدباء والباحثین، ولا شک فی أن هذه البقعه من البقع الاسلامیّه أدبا خاصاً وأسلوبا متمیّزا بالنسبه إلی المشرق ، علی جانب هذه الأهمیّه نهج الأدباء منهجاً واحداً فی دراسه هذا العصر ولم یتحدثوا بوضوح عن الأغراض الموجوده فی أدبه من شعر ونثر ولا یعلم باحث هذا العصر هل الشعراء الأندلیسون أبدعوا فنّاً جدیداً فی عالم الأدب أم کانوا مقلدین تقلیداً محضاً وقد حاولنا فی هذه المقاله أن نزیل الابهامات الموجوده فی ادب هذا العصر وادّعینا بأن لأدبا الأندلس کانت أسالیب خاصه والفنون الجدیده فی الشعروباحثنا عن الشعر خاصه، ولمّا قال قائل لنا أنّ هذه الموضوعات التی أشرنا إلیها کابداعات والتجدیدات توجد فی شعر المشارقه قبلهم والشعرا/ الاندلیسون لم یکونوا مقلّدین تقلیداً محضاً، قلنا فی ردّ هذا السؤال، بأن الأندلیسین لم یکونوا مقلّدین عن المشارقه تماماً بل أخذوا الموضوعات من المشارقه وونوّعوها وطوّروها ووَسّعوها وأبدعوها وأضافوا إلیها مطالب ومسائل جدیده، حتّی تظن أنّ هذا الموضوع کان فی العصر الأندلسی فحسب، وإنّ من یزعم أنّ ابداع الأندلسیین اختصّ بالموشحات والزجل فقط، لم یعرف الشعر إلاّ بموسیقاه وشکله،لأن الشعر مالکه طبیعیه لایتاتی الا بلمحاکاه التقلید ولا یتوسّع إلاّ بأخذ الموضوعات عن الآخرین والبسط فیها وایجاد التطوّر والتوسع فیها وتناول المعانی القدیمه لا یعاب علی الشاعر إذا أخذ المعانی القدیمه وصوّرها بتصویر جدید وصبّها فی قالب طازج وألبسها ثوباً متمایزاً عن سابقیها. والان علینا أن نأتی بسؤالین:

1-ماهی  الأغراض الجدیده التی أنشدفیها الشعراء الأندلسیوّن؟

2-ماهی دوافع الشعرا لانشاء هذه الموضوعات؟

أمّا قبل الإجابه بهذین السوالین نباحث أوّلا من الأندلس والأدب فیها ثم نختصّ بحثنا إلی الإجابه بهذین السؤالین.
الأندلس وسبب تسمیتها

إن الاسم القدیم لهذه البلاد ایبریا [3] وهولفظ اغریقّی نسبهً إلی قوم یعیش بها والاسم الآخر لهذه البلاد اسبانیا ویوجد أقوال کثیره فی اسبانیا، ویقال نسبه إلی حیوان یعیش بها وعدده کان کثیرا ویسّمی«بالاشبان» بمعنی الأرنب، أمّا الأعراب سموها بالأندلس نسبه إلی القبائل الجرمانیه التی سکنت بهذه المنطقه وتسّمی بالفندال [4] وسمّیت المنطقه «بالفندلس» ثمّ تغیّرت بأندلس بضم الدال وفتحها.
البیئه السیاسیّه والاجتماعیه فی الأندلس:

بعد ما استأذن موسی بن نصیر الولید فی زمن الأمویین، عزم المسلمون علی أن یفتحوا شمال افریقیا واسبانیا کلّها بسبب خصبها وغناءها واسبانیا آنذاک کانت علی أسوا الحال سبب الضرائب الباهظه واستبداد الملاّکین علی الفلاّحین وألقی موسی بن نصیر اثقال هذا العمل الکبیرعلی عاتق جندیّ بربریّ یسّمی بطارق ابن زیاد وبعد شهرین نزل الطارق فی الضفه الاوروبیّه وفتحت هذه البلاد کلها وبقی المسلمون ثمانیه قرون تقریباً فی الأندلس، حتّی سقطت غرناطه آخر قواعد المسلمین فی ید المسیحیین وانتهت بهذا خلافه المسلمین فی الأندلس سنه 1492 م و897 هجریّا [5]. أمّا تشکلت فی الأندلس الدول والطوائف الکثیره وشاهدت الأندلس عهوداً کثیره، مثل عهد الولاه وعهد بنی أمیّه وعهد ملوک الطوائف ودوله المرابطین وعهد الموحّدین ودوله بنی الأحمر [6]. أمّا من جهه الاجتماعیه أنّ هذه البقعه بسبب جوها المعتدل وخصب أراضیها وغزاره میاهها ووفره خضراءها وکثره ثمارها کانت منظراً للجمال ومطمحاً للآمال وحملت هذه المسأله الخلفاء والملوک علی تشیید المدن العامره والقصور الکبیره والمساجد والمجامع والجسور والأبراج والحّمامات والأحواض ویمکن الإشاره بقصر «الحمراء» فی غرناطه وقصر «اشبیلیه» انتشرت الموسیقی ولاسّیما بدخول زریاب المغنی الی الأندلس وکثرت المدارس للموسیقی والغناء. وفی نتیجه هذا الترف والرخاء نری ضعفاً دینیّاً وفلسفیّاً فی هذه البلاد.
البیئه الأدبّیه:

حینما تدفّق العرب علی الأندلس حملوا معهم تراثهم القدیم وطبیعتهم الشعریّه، وحل الشعر حیثما حلّوا واهتموا منذ مجیئم اهتماماً بالغاً بالشعر. وقد قلّد الأندلسیون فی کثیر شوؤنهم الشعرا المشارقه. حتی اطلقوا علی شعراءهم القاب شعرا المشرق، مثل الغالب الأندلسی الذّی یکنّی بأبی تمام وابن زیدون یلقّب بالبحتری وابن هانی بالمتنّبی، وما لبث حتی صار هذا التقلید منافسه واصحبت هذه المنافسه سبباً لتقویه  الأدب فی الأندلس، اتفق کثیر من الأدبا علی أنّ عهد الموحّدین عهد رفعه منزله الشعر وتعالیه. انشد شعراء الأندلسیون فی الموضوعات التی أنشدبها الشعراء فی المشرق، کالمدح والرثاء والهجاء والحماسه والحکمه والمدائح النبویّه والوصف والغزل والخمر وغیرها وظهر الکبائر من الشعراء، مثل  ابن هانی وابن شهید وابن خفّاجه وابن ادریس وابن عبدون وابن عبدربّه والکثیر من الشعراء الذین  برزوا فی هذا العصر.
الابداعات فی الشعر الأندلسی:

من الأدبا الذین ذهبوا إلی أنّ الشعر الأندلسی شعر تقلیدیّ محض [7] ومنهم من یقول أن التقلید فی السیاسیه والحیاه الاجتماعیّه وفی بعض الموضوعات الشعریّه [8]، أمّا من الخطأ أن نظنّ أنّ الشعر الأندلسی، یغیب فی ظلام المحاکاه ومن الخطأ أن نتصّور بأنّ الأندلسیین لم یضافوا إلی الأدب هیکلیّه جدیده، لأنّ من یدقّق فی الشعر الأندلسی یجد أن الموشحات والزجل کانت ثوره فی الأدب وفی الشعر، أمّا لم یقتصر هذا التطّور والتجدید فی شکل الشعر بل نری بعضاً من الموضوعات الجدیده فی الأندلس التی لم یشیروا شعراء المشرق إلیها، ام أشاروا اشاره وجیزه إلی هذه، فنتطرق إلی هذه الإبداعات ونبدأ أوّلا من الابداع فی شکل الشعر وموسیقا. ثم نتطرق إلی التجدید فی الموضوعات والأغراض الشعریه.

الابداع فی شکل الشعر وموسیقاه:

الف: الموشحات:

الموشح لغه بمعنی الوشاح وهوالثوب المرصّع باللؤلؤ والجوهر، وهوشبیه بالقلاده وفی اصطلاح الأدباء نمط من انماط الکلام المنظوم نشأ فی الأندلس فی أواخر القرن الثالث الهجری مقارنا بالتاسع المیلادی وهویختلف عن القصائد الموجوده فی الشعر العربی من حیث الاوزان العروضیه وفی معظمها تخرج عن أوزان الخلیل [9].

اتفق الأدباء أنّ مخترع الموشحات مقدّم بن معافر الفریری [10] کما ینسب إلی محمد بن محمود القبّری الضریر [11].

أمّا أنّ أصل فن الموشحات یرجع إلی جماعات تسمّی «بِجُنکلر» [12] وکانوا یطوفون البلاد ویتغنون بالأنشاد الحماسیه أوالغرامیه کما تأخّر الشعراء فی الأندلس عن جماعات فی جنوب فرنسه تسمّی«بالتروبادور» وهم یتغنون ویرقصون ویطوفون فی البلاد، من شعراء الموشحات یمکن أن نشیر إلی ابن عبدربّه الذی أخذ هذا الفنّ من مقدّم بن معافر الفریری کما برز فی هذا الغنّ عباده القزاز وابن رافع رأسه وابن زهر وابن باجه وابن سهل الاسرائیلی و  وتأثر فی المشرق من هذا الفن ابن سناء الملک وفی العصر الحاضر نظم ابوالوفاء الرمزی والرّصافی الموشّحات.

أمّا الموشحات من جهه الاوزان تنفسم إلی قسمین:

الف: ما جاء علی اوزان خلیلّیه فی بحور الشعر المعروفه،

ب: ما لاوزن له ولا یخضع أمام الشعر التقلیدی وکان غرضه الأصلی «الغنا» وکانت عاده علی وزن «مستفعلن فاعلن فعولن» مرتین و«فاعلاتن فاعلن» مرّتین مثل:

صَبَرتُ والصبرُ المعانی          ولم أقُل للمطیل هجرانی               مُعذّبی کفانی

أمّا الموشّح باعتبار جزئیه ینقسم إلی :

الأول: التام وهوما تألّف من ستّه أقفال وخمسه أبیات وابتدی فیه بالأقفال أی ما ذکر بمطلع الموشح. الثانی: الأقرع وهوما ترکّب عن خمسه أقفال وخمسه ابیات وابتدی فیه بالأبیات ولم یذکر فیه مطلع الموشّح. أجزاء الموشح:

1-المطلع ویطلق علی القفل الأوّل من الموشحه ویتألّف عادهً من شطرین أواربعه أشطر ویسمّی الموشح«تامّا» إذا بدأ بالمطلع.

2-القفل أواللازمه هوالجزء المتکّرر فی الموشحه وفی الاجمال بیتٌ أوعده ابیات.

3-البیت: یتّکون من«الدور» مضافاً «القفل» الذی یلیه.

4-الدور: ما تأتی بعد المطلع فی الموشّح التام.

5-السَّمط : اسم اصطلاحّی لکّل من أشطر الدور.

6-الغُصن: اسم اصطلاحی لکلّ شطر من أشطر الأقفال.

7-الخرجه:القفل الأخیر فی الموشحه.

والآن تأتی بموشح ونعیّن بالضبط هذه المصطلحات .

وهذه الموشحه لأبی بکر محمد بن زهر الأشبیلی المتوفی 595 هـ.

سَلِّم الأمرَ لِلقَضاء     فَهُوَ لِلنَّفسِ أَنفعُ [13]               مطلع الموشح

الغصن الأوّل وَ اغتَنِم حینَ أقبلا  وَجهَ بدرٍ تَهَلَّلا

 الدور الأوّل البیت الأوّل  لا تَقُل بالهمومِ لا  

   کَلّ ما فاتَ وانقضی    لیسَ بِالحُزنِ یَرجَعُ         القفل الاوّل  

   واصطبح بابنه الکروم          السَّمط الدور الثانی                من یدی شادنٍ رخیم    السَّمط            البیت الثانی

   حینَ  یفترُّ عن  نَظیم  الثانی الثانی      فیه برقٌ قد أَومَضا                                 ورحیقٌ مُشَعشَعٌ قد اَثَّرت الموشحات علی الأدب المغربی، کما تأثّر الاسبانیون بطریق الموشحات الأندلسیه وأثّرت علی الأدب المشرقی حتی کثرت فی عصر الانحطاط (المملوکی والعثمانی ).

أنشدت الموشحات لأغراض کثیره مثل وصف الطبیعه ووصف الخمر والغزل و… . ب)الزَّجل [14]: فی اللغه الطرب ورفع الصوت للتغنّی وفی الاصطلاح لونٌ من ألوان الأدب فی الشعر الذی ینشد بالعلمیه برفع الصوت، إنّ الزجل تعدّدت لهجاته بتعدّد الأماکن التی نشأبها. أمّا نشأته بالاتّفاق الأندلس وإنّه کشقیقه الموشحات من الفنون التی استحدثه الأ ندلسیّون، أمّا مخترع الزجل بالاتفاق هوأبوبکر ابن قزمان المتوفی(555 هـ) وکان لابن قزمان فضل الشهره والتجدید. من أشهر شعراءه احمدبن الحاج المعروف «بمد غلّیس» وعیسی البلیدی وأبوعمر الزاهر الاشبیلی وابن الزیّات وسهل بن مالک و… أمّا وزن الزجل هونفس وزن الموشحات وأتی إمّا بشکل الموشح وإمّا بشکل رباعی أوالدّوبیت (ذوبیتین) ویقال إنّ وزن الزجل بهذه الصوره: ألف.ألف.ب.ب.ب.ألف إنّ الزجل مثل الموشح مطلع واغصان وأقفال وبیت وخرجه، أمّا الزجل بیدأ بالمزدوج ثمّ الرباعی ویتکّرر المزدوج بعد کلّ رباعی . 
  من أزجال ابن قزمان:

                         هَجَرن حبیبی هَجَر        وأنا لس لی بعد صَبَر        المطلع البیت الاول            لس حبیبی إلاّ ودود    قطع لی قمیص من قدود       الدور الاول            وخاط بنقص العهود   وحَبَّب إلیّ السَّهَر          القفل الاول          کان الکُسبتان من شُجون     وَ الإبَر من سهام الجُفون الزجل هولغه عامه الناس وعبارته مألوفه بالنسبه إلی الموشحات وفی لغته عدم التکلّف والفاظه أصدق فی التعبی.

الإبداعات من جهه الأغراض والموضوعات:

أشرنا المباحث السابقه إلی مدی تقلید الأندلسیین من المشارقه فی موضوعاتهم الشعریه وکما أشرنا بعد مدّه قلیله صار هذا التقلید منافسه، ولکّن الأندلس تتشکّل من شعوب مختلفه منها عربی وبربری وقوطی ورومی ویهودی ولاتینی.ولکّل ٍ من هذه الشعوب عقلیّه خاصه وتفکّر متمایز عن الآخروعلینا، ألاّ نتصور مساویاً کلا التفکیری الشرقی والغربی فی موضوع واحدٍ من الأغراض الشعریه، فعلی هذا أخذ الشعراء الأندلسیون یمثلّون بیئتهم الجدیده ونزعات نفوسهم وشعورهم، من غیر أن یقلّدوا المشارقه، فترکوا التقلید وأسباب هذا التطوّر هی التعلق بأوطانهم الجدیده والجمال الفاتن للأندلس، وقد بلغت حرکه التطور إلی ذروتها فی القرن الثانی عشر فنری شعر ابن حمدیس وابن عبدون وابن خفّاجه ولسان الدین الخطیب بیّنه التعبیر [15]. فیقول بطرس البستانی :«إذا شئت أن تلتمس إبداع شعراء الأندلس وافتنانهم ودقه وصفهم وجمال تصویرهم … فاسمعهم یذکرون الطبیعه الناعمه الناضره…» [16] ویقول حنا الفاخوری: یتجلّی لنا الشعر الأندلسی مزیجاً عجیباً من قدیم وحدیث ومن اتبّاعیّه وابتداعیّه …». [17]

ویقول البستانی: تفنّن الأندلسیّون فی شتّی الأوصاف حتی برعوا وفاقوا المشارقه، کوصف الطبیعه والمدن… ویمکن أن نقسم شعر الأندلسین إلی ثلاثه أقسام کما فعل . عبدالعزیز العتیق فی کتابه؛ 1-الفنون التقلیدیه 2- الفنون الموسّعه 3-الفنون المستحدثه [18].

أما الفنون المستحدثه بالاتفاق ؛ 1- شعر الطبیعه ، و2- شعر رتاء الممالک الزائله و3- شعر الجهاد، 4- وشعر الوطن.

یقول الفاخوری :إنّهم [الأندلسّیون] قد أظهروا فی بعض الموضوعات، تمیزهم عن سواهم، کما فی الوصف ورثاء الممالک البائده والشکوی والاستنجاد. وهکذا بدأ الأندلسّیون بمحاکاه الشرق، ثم نافسوه فی حبّ التجدید والتحّرر [19]. أمّا إذا عاب أحدعلینا بأنّ هذه الموضوعات من جهه التسمیه لیست جدیده نقول له أخذ شعرا الأندلس هذه الموضوعات وصبّوها فی قالب جدید وفی صیاغ متفاوتٍ، کمانری أنّهم فی شعر الطبیعه أوردوا ابداعات وطوّروها ومنها:

الف)وجود التشابیه والاستعارات الکثیره والبدیعه ب) مزج هذا النوع من الشعر(الطبیعه) بالفنون الآخری ج) التشخیص  د) الرمز  ه) الجمع بین النقیضین؛ ونأتی بمثالٍ عن کلّ هذه المسائل : أمّا فی وجود التشابیه الجمیله التی لانراها قبل هذا، التشبیه الذی نراها فی شعر ابن خفّاجه للنّهر:

مُتَعَطِّفٌ مِثلُ السِّوارِ کأنّه                             وَالزَّهرُ یکنِفُهُ، مجرَّ سَماءِ [20]

ففی هذا البیت، أوّلاً شبّه النّهر بالسوار وثانیاً شبهها بالمجرّه ونجومِها. أویمکن أن نشیر إلی شعر سعیدبن الفرج فی مزج الفنون بالاخری [21]

               أزعَمتُ أنّ الوردَ من تفضیله
                                  خجلٌ وناحله الفضیله عانِدُ
          إن کان یستحیی لفضل جماله
                                  فحیاءُهُ فیه جمالٌ زایدٌ

إنّ الشاعر یجعل خجل الورود لاحمرار وجنه المحبوب وجمالها. فیصف الشاعر الطبیعه أوّلا ثمّ الجبیبه ثانیاً.

أمّا صنعه التشخیص فی شعر الطبیعه کثیرهٌ وأشدّ واغرب مظاهر الشعر عندهم، کقول ابن حصن فی النیلوفر:

کلّما اَقبل الظلام علیه              غَمَّضَت أنجم السماء عینیه فإذا عاد للصباح ضیاءُ           عاد روح الحیاه منه الیه…

أمّا من شعر هم فی رثاء الممالک الزائله ؛ یمکن أن نقول أنّ اکتساح مدن الأندلسی وسقوطها فی ید النصاری والیهود والفرنجه والاسبانیین أجّج فی نفوس الشعراء روح الرثاء لمدنهم ولا نتذکر من شعراء المشرق قصیده کامله تختّص برثاء مدینه واوطانٍ ومن یدّعی أن سینیّه البحتری هی من شواهد هذا النوع من الشعر فی الأدب المشرقی فأخطا فی رأیه لأنّ هذه القصیده لیست رثاءاً بل وعظٌ وتذکّر للأجیال المقبله علی فناء کلّ شخص وشیءٍ.

أما من أحسن القصائد التی انشدت فی هذا المجال ؛ رائیه ابن شهید الّذی یرثی فیها لقرطبه بعد خرابها .

جار الزمانُ علیها فتفّرقوا                       فی کل ناحیه وباد الأکثر

ومنها: سینّیه ابن الأبّار  البلنسی:

أدرک بخیلِ الله أندلسا                        إن السبیل إلی منجاتها دَرَسا یا للجزیره أضحی أهلها جَزَراً               للحادث وأمسی جدّها  تسعا ومنها نونیّه أبی البقاء الرندی :

لکُلّ شیءٍ إذا ما تَمَّ نقصانُ      فلا یغر بطول العِیش انسان هی الأمورالتی کما شاهدتها دولٌ       من سَرّه زمنٌ ساءته أزمان وهذه الدار لا تبقی علی أحدٍ           ولا یدوم علی حالٍ لها شأنُ

أمّا من شعرهم بما یسمّی بالجهاد کما یسمونه بعض الأدبا بالشعر الاستغاثه والاستنجاد وهذا النوع من الشعر هومن ابداعات الأندلسیین وأنّ الغرض الرئیسی فی هذا النوع من الشعر لیس المدح والرثاء والتکسّب کمانراه فی شعر الجهاد عند المشارقه، بل القصیده مزیجه من فنّ غنائی وملحمّی وهووصف الایمان بقوّه السلاح والاستنهاض وکلّ هذه القصیده عاطفه محضه أنّ الشاعر الأندلسی مشغوفٌ بوطنه ومحبّ بترابه  ولا یتحمّل حینما یری غارات الیهود والفرنجه علی بلاده وسقوط بلاده فی ایدیهم.

دهی الجزیرة أمر لا مردّ له   هوی له أحدٌ وانهدّ ثهلان وأین قرطبة دار العلوم فکم   من عالمٍ قد سما فیها له شانُ وأین حمصٌ  وما تحویه من نزَهٍ   ونهرها العذبُ فیاضٌ وملآنُ

أمّا یوجد بعض من الفنون الجدیده ولکن ما أشار إلیها إلاّ أدیبٌ أوادیبان فی مباحثهم عن هذا العصر ولم نشر إلی هذه الفنون حتّی لا یعاب علینا ولکن نشیر إلی بعض هذه الفنون ؛ منّها المخلّعات [22] هولونٌ من الطرد والعکس وهی من الصناعات اللفظیه التی اخترعها الاندلسّیون ومنها الحنین إلی الاوطان کما أشرنا إلیها تحت عنوان شعر الوطن والاستغاثه والاستنجاد ورثاء الممالک الزائله، کما أشار بعض الأدبا إلی شعر الحسین (ع) یعنی فی رثاء الحسین ابن علی بن ابیطالب ، ولکن هذه الموضوعات لیست جدیده بل توجد الکثیر الکثیر من القصائد فی رثاء الحسین بن علی بن ابیطالب (ع) ولکن یعتقد بعض الأدباء أنّ الشعراء الأندلسیین اختصّوا دواوین عدیده لرثاء الإمام الحسین(ع) وهذا من الطریف بأنّ هذه المسأله تحظی بأهمیه واسعه فی هذه البلاد ومن شعراءه ابوالبحر صفوان المرسی وعبدالرحمن الأشبونی واحمدبن دّراج القسطلی وعباده بن عبدالله الأنصاری [23].

نتیجه البحث : وبهذا نختم کلا منا عن الابداعات فی الشعر الأندلسی مشیراً بأنّهم لیسوا مقلدین تقلیداً محضاً بل عندهم تجدیدات وابداعات من جهه شکل الشعر ومن جهه معانیه واغراضه والأدب الأندلسی لیس ادب المحاکاه فی الشعر فقط، بل هوأدب التطوّر والتوّسع والابتداع  وفی النهایه نرجومن الله أن یکون البحث مفیداً ومرشداً لقارئیها ولباحثی الأدب الأندلسی، راجیاً من المولی التوفیق لهم والنجاح لجمیعهم والله من وراء القصد وهوالمستعان. 
 
  
 
 
 

المراجعات:

طالبٌ فی مرحله الرکتوراه، بجامعه الحره الاسلامیّه بمرکز العلوم والتحقیقات ،طهران بایران.

الاستاذ العمید فی جامعه طهران وجامعه العلوم والتحقیقات طهران، والاستاذ المشرف لرسالتی.

عبدالمنعم الخفاجی ، الأدب الأندلسی، التطوّر والتجدید، ص 15.

المصدر نفسه، ص16.

بطرس البستانی، ادباء العرب فی الأندلس، ص 12-6.

حنا الفاخوری، الجامع فی التاریخ الأدب العربی، ص 892.

عبدالمنعم الخفاجی، المصدر نفسه، ص 161.

المصدر نفسه، ص 164-162.

    10-بطرس البستانی، المصدر نفسه، ص 164.     11-عبدالعزیز العتیق، المصدر نفسه، ص 181.      12-حنا الفاخوری، تارخ الأدب العربی، ص 812.      13-عبدالعزیز العتیق، المصدر نفسه ص 89.      14-شوقی ضیف، تاریخ الأدب العربی، عصر الدول والامارات، ص 165.      15-بطرس البستانی، المصدر نفسه، ص 37.      16-حنا الفاخوری تاریخ الأدب العربی، ص 801.      17-حنا الفاخوری، تاریخ الأدب العربی ، ص 801.      18-عبدالعزیز العتیق ، الأدب العربی فی الأندلس، ض 176.     19-حنا الفاخوری، المصدر نفسه، ص(801-798).     20-بطرس البستانی، ادباء العرب ، ص 82.      21-شوقی ضیف، تاریخ الأدب العربی، عصر الدول والامارات، الأندلس، ص 296.      22-بکری شیخ أمین، مطالعات فی الشعرالمملوکی والعثمانی، ص 199-198.      23-شُبَّر ، سید جواد، أدب الطف أوشعراء الحسین، ج 4،ص 11. 
 
 



 

المراجع والمآخذ

   1. افرام بستانی، فُؤاد، المجانی الحدیثه، المطبعه الکاثولوکیه، بیروت ، لبنان.
   2. بروکلمان، کارل،تاریخ الأدب العربی ترجمه العربیه، الهیئه المصریه العامه 1993.
   3. البستانی، بطرس، أدباء العرب فی الأندلس وعصر الانبعاث، دارنظیر عبّود ، بیروت لبنان.
   4. التلمسانی، أحمدبن مقری، نفح الطیب من غصن الاندلس الرطیب، دار صادر، بیروت، لبنان.
   5. الخفاجی، عبدالمنعم، الأدب الأندلسی، التطور والتجدید، دارالجیل، بیروت لبنان.
   6. الخفاجی، عبدالمنعم، الحیاه الأدبیّه، دارالجیل، بیروت، لبنان 1978.
   7. الدقاق، عمر، ملامح الشعر الأندلسی، دارالعلم للملایین بیروت، لبنان.
   8. رضوان الدایه، المختار من الشعر الأندلسی، دار الفکر المعاصر ، بیروت لبنان.
   9. زیدان، جرجی ، تاریخ آداب اللغه العربیّه، دار مکتبه  الحیاه، بیروت لبنان 1789.

   1. شیخ أمین، بکری، مطالعات فی الشعر المملوکی والعثمانی، دارالعلم للملایین، بیروت، لبنان 1085.
   2. صادق الرافعی، مصطفی، تاریخ آداب العرب ، دار الکتاب العربی بیروت ، لبنان.
   3. ضیف شوقی، تاریخ الأدب العربی، عصر الدول والامارات، الأندلس، دارالمعارف، قاهره، مصر.
   4. ضیف  شوقی ، الفن ومذاهبه فی الشعر العربی ، دارالمعارف ، مصر.
   5. عباس ، احسان، تاریخ الأدب العربی فی الأندلس، عصر سیاده قرطبه، دارالشروق، الاردن، 1997.
   6. احسان، تاریخ الأدب العربی فی الأندلس، عصر المراطین ، دارالشروق، الاردن، 1997.
   7. العتیق، عبدالعزیز، الأدب العربی فی الأندلس، دارالنهضه العربیّه، بیروت، لبنان.
   8. عوض الکریم، مصطفی، فن التوشیح، المکتبه العلمیّه، بیروت، لبنان.
   9. الفاخوری، حنا، الجامع فی التاریخ الأدب العربی، الأدب القدیم، دارالحبل، بیروت لبنان.
  10. الفاخوری، حنا، تاریخ الأدب العربی، نشر طوس، تهران 1987.
  11. د.نظام طهرانی، نادر، تاریخ الأدب فی عصر الانحطاط ، نشر فرهیخته، طهران، ایران 1990.
  12. شبّر السید جواد، أدب الطفّ أوشعراء الحسین (ع) بیروت، لبنان.

حواشی

[1] طالبٌ فی مرحله الرکتوراه، بجامعه الحره الاسلامیّه بمرکز العلوم والتحقیقات ،طهران بایران.

[2] الاستاذ العمید فی جامعه طهران و جامعه العلوم و التحقیقات طهران، والاستاذ المشرف لرسالتی.

[3] عبدالمنعم الخفاجی ، الأدب الأندلسی، التطوّر والتجدید، ص 15.

[4] المصدر نفسه، ص16.

[5] بطرس البستانی، ادباء العرب فی الأندلس، ص 12-6.

[6] حنا الفاخوری، الجامع فی التاریخ الأدب العربی، ص 892.

[7] عبدالمنعم الخفاجی، المصدر نفسه، ص 161.

[8] المصدر نفسه، ص 164-162.

[9] عبد العزیزعتیق، الادب العربی فی الاندلس، ص183.

[10] بطرس البستانی، المصدر نفسه، ص 164.

[11] عبدالعزیز العتیق، المصدر نفسه، ص 181.

[12] حنا الفاخوری، تارخ الأدب العربی، ص 812.

[13] عبدالعزیز العتیق، المصدر نفسه ص 89.

[14] شوقی ضیف، تاریخ الأدب العربی، عصر الدول و الامارات، ص 165.

[15] بطرس البستانی، المصدر نفسه، ص 37.

[16] حنا الفاخوری تاریخ الأدب العربی، ص 801.

[17] حنا الفاخوری، ، المصدر نفسه، ص 801.

[18] عبدالعزیز العتیق ، المصدر نفسه، ص 176.

[19] حنا الفاخوری، المصدر نفسه، ص(801-798)

[20] بطرس البستانی، ادباء العرب ، ص 82.

[21] شوقی ضیف، تاریخ الأدب العربی، عصر الدول و الامارات، الأندلس، ص 296.

[22] بکری شیخ أمین، مطالعات فی الشعرالمملوکی والعثمانی، ص 199-198.

[23] شُبَّر ، سید جواد، أدب الطف أو شعراء الحسین، ج 4، ص 11.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:1|

المقامات، الفن العربی الأصیل


القصة أو الحکایة من أقدم الأنواع الأدبیة التی ربما سبقت الشعر وتحتل مکانا واسعا بین آداب الشعوب. ولم یکن العرب منذ أقدم العصور إلا کغیرهم من الأمم، یرددون الحکایات ویتمتعون فی مجالسهم بسماعها ولاشک أن القصص تصور العادات والتقالید والآراء والمعتقدات للذین یقصون تلک القصص أو الذین یحکونها ناهیک عما یعتریها من دقائق خاصة قلما توجد فی باقی الأنواع الأدبیة. ولقد ظهر فی القرن الرابع الهجری نوع أدبی جدید یدعی بالمقامات یمکن القول أن جوهرها تلک القصص والحکایات إلا أن مبدعیها تعمدوا التصنیع والتأنیق فیها. وهذه المقامات تضم الحکایات والنوادر والمطایبات، بینما لاتخلومن جوانب تاریخیة وحکمیة وأدبیة. المفردات الرئیسة: المقامات، الروایة، البطل، بدیع الزمان، الحریری، النثر الفنی. التمهید: شهد النثر العربی منذ أقدم العصور إلی یومنا هذا تقلبات کثیرة تجلت فی مختلف الأسالیب والفنون وخلف نتاجات أدبیة قیمة، إلا أن من یتتبع نتاجات الأقدمین ومؤلفاتهم نظما ونثرا یری أنهم عنوا بالفنون الشعریة المختلفة عنایة خاصة فی نتاجاتهم التی تتناول التراث الشعری بین الشرح تارة والنقد تارة أخری. وخیر دلیل علی هذا الرأی هوالکتب المصنفة فی مجال الشعر تحت العناوین المختلفة کـ"نقد الشعر" و"طبقات الشعراء" بالإضافة إلی اعتماد النحویین علی الشواهد الشعریة ما استطاعوا إلیه سبیلا فی شرح قواعدهم النحویة. تعد المقامات إحدی الفنون النثریة التی یبالغ فیها الاهتمام باللفظ والأناقة اللغویة وجمال الأسلوب بحیث تتعدی الشعر فی احتوائها علی المحسنات اللفظیة إلا أنها لم تحظ اهتمام الأدباء والنقاد وهذا لایعنی أنهم أهملوا هذا الفن کلیا بل المقصود هوأن النثر بشکل عام والمقامات علی وجه الخصوص نالا أقل اهتمام بالمقارنة إلی ما ناله الشعر العربی من علوالشأن. یهدف هذا المقال إلی دراسة المعنیین اللغوی والأدبی للمقامة مبینا عناصرها الفنیة وکیفیة نشأتها وتطورها والغور فی خصائصها ودراسة ما یمیزها عن القصة وأخیرا التعریف بأهم أصحابها. إن أول من قام بصیاغة هذا النوع الأدبی هوبدیع الزمان الهمذانی (357هـ - 398هـ) الذی یعد مبدع المقامات ( البستانی، أدباء العرب، ج 2، ص 389) غیر أن هناک تباین فی الآراء بین النقاد والباحثین فی اعتبار الهمذانی مبدعا لهذا الفن الأصیل بحیث یعتقد جرجی زیدان أن بدیع الزمان الهمذانی اقتبس أسلوب مقاماته من رسائل إمام اللغویین، أبی الحسین أحمد بن فارس (390هـ). ( المصدر نفسه، الصفحة نفسها. ) بینما یعتبر الدکتور زکی مبارک مقامات الهمذانی مشتقة من أحادیث بن درید (321هـ) ویری بین مقامات الهمذانی وأحادیث بن درید مشابهات قویة من حیث الحبکة القصصیة واستخدام السجع. (مبارک، النثر الفنی، ج 1، ص 197) المقامات المقامات فی اللغة جمع المقامة؛ والمقامة هی المجلس. والمقصود بالمقامة فی الأدب «قصة تدورحوادثها فی مجلس واحد. » (البستانی، أدباء العرب، ج 2، ص 389). المقامة قصة وجیزة أوحکایة قصیرة مبنیةعلی الکدیة (الاستعطاء) وعناصرها ثلاثة: 1) راویة ینقلها عن مجلس تحدث فیه. 2) مکدٍ (بطل) تدور القصةحوله وتنتهی بانتصاره فی کل مرة. 3) ملحة (نکتة)، (عقدة) تُحاک حولها المقامة؛ وقد تکون هذه الملحة بعیدة عن الاخلاق الکریمة وأحیاناً تکون غثّة أوسَمحة وتبنی المقامة علی الإغراق فی الصناعة الفظیة خاصة والصناعة المعنویةعامة. تحدر فن المقامات لیس فیما أثر عن العرب مقامات سابقة علی مقامات بدیع الزمان الهمذانی (358ـ398 هـ)، فهومن أجل ذلک یعتبر مبدع هذا الفن. علی أن نفراً من الأدباء کابن عبد ربه وابن قتیبة والحصری، یفضلون أن یقولوا إن بدیع الزمان اشتق فن المقامات من فن قصصی سابق. (المصدر نفسه، الصفحة نفسها، بتصرف. ) ویرید الدکتور زکی مبارک أن یثبت أن مقامات بدیع الزمان مشتقّة من "أحادیث ابن درید"؛ وابن درید (321 هـ) هذا کان راویة وعالماً ولغویّاً وقد عنی بروایة أحادیث عن الأعراب وأهل الحضر. ( مبارک، النثر الفنی، ج 1، ص 197) ولاریب فی أن بین أحادیث ابن درید وبین المقامات شبهاً قویاً من حیث القصص واستخدام السجع، ولکن هناک أیضا فروقا کبیرة فی الصناعة وفی العقدة وفی وجود بطل المقامات وهوالمکدی، وفی انبناء المقامة علی الکدیة وعلی الهزء من عقول الجماعات مع إظهار المقدرة فی فنون العلم والأدب، إلی ماهنالک من خصائص یعتریها فن المقامات. بالإضافة إلی أن هذا لایعنی أنّ بدیع الزمان لم یطلع علی أحادیث ابن درید أوعلی مارُوی عن العرب من قصص وأحادیثَ وأسمار، ولکن الفرق بین ما روی عن العرب من الأحادیث وبین المقامات من حیث الغایة والأسلوب کبیر جداً. وعلی کل فإن بدیع الزمان إن لم یکن مبدع فن المقامات، فإن مقاماته أقدم ماوصل إلینا من هذا الفن الأدبی الرائع. خصائص المقامات وللمقامات خصائص نستعرضها بشیء من التبیان لأوجهها: أولا- المجلس: یجب أن تدور حوادث المقامة فی مجلس واحد لاینتقل منه إلا فی ماشذَّ وندر (وحدة مکان ضیقة). ثانیا- الراویة: ولکل مجموع من المقامات راویة واحد ینقلها عن المجلس الذی تحدث فیه. ثالثا- المکدی: ولکل مجموع من المقامات مکد واحد أیضاً أوبطل، وهوشخص خیالی فی الأغلب، أبرز میزاته أنه واسع الحیلة ذرب اللسان ذومقدرة فی العلم والدین والأدب وهوشاعر وخطیب، یتظاهر بالتقوی ویضمر المجون، ویتظاهر بالجد ویضمر الهزل وهویبدوغالباً فی ثوب التاعس البائس إلا أنه فی الحقیقة طالب منفعة. وتنعقد المقامة دائماً بأن یجتمع الراویة بالمکدی فی مجلس واحد ویکون المکدی دائماً متنکراً، ولذلک قلما یفطن الراویة لوجوده ـ إذا کان قد سبقه إلی المجلس ـ أولحضوره إذا حضر بعده. وتنحل عقدة المقامة بأن ینکشف أمر المکدی للراویة علی الأقل أویکشف المکدی أمره للراویة (وأحیاناً للحاضرین) فی الأغلب ولایکشف المکدی أمره إلابعد أن یکون قدنال من أهل المجلس مالا أوثیابا، بعد أن استدر عطفهم. وکثیراً ما یعلم أهل المجلس أن المکدی قد خدعهم وسلبهم، ولکنهم لایضمرون له شرا لأنه أطربهم أوسلاهم أوأفادهم. رابعا- الملحة (النکتة أوالعقدة): وهی الفکرة التی تدور حولها القصة المتضمنة فی المقامة، وتکون عادة فکرة طریفة أوجریئة، ولکنها لاتحثّ دائماً علی الأخلاق الحمیدة، وقد لاتکون دائماً موفقة. خامسا- القصة نفسها: کل مقامة وحدة قصصیة قائمة بنفسها، ولیس ثمة صلة بین مقامة وأخری إلا أن المؤلف واحد والراویة واحد والمکدی واحد، وقد تکون القصص من أزمنة مختلفة مُتباعدة وإن کان الراویة واحداً. سادسا- موضوع المقامة: موضوعات المقامات مختلفة منها أدبی ومنها فقهی ومنها فکاهی و منها حماسی، ومنها خمری أومجونی، وهذه الموضوعات تتوالی علی غیر ترتیب مخصوص عندبدیع الزمان. أما الحریری (فیما بعد) فالتزم أن تکون الموضوعات متعاقبة علی نسق مخصوص وقد تکون المقامة طویلة أوقصیرة. سابعا- اسم المقامة: واسم المقامة مأخوذ عادة من اسم البد الذی انعقد فیه مجلس المقامة نحو: المقامة الدمشقیة، التبریزیة، الرملیة (نسبة إلی الرملة بفلسطین)، المغربیة، السمرقندیة، البلخیة، الکوفیة، البغدادیة، العراقیة، الخ. . . . أومن المحلة التی تنطوی علیها المقامة نحوالمقامة الدیناریة، الحرزیة، الشعریة، الإبلیسیة، الخمریة الخ. . . . ثامنا- شخصیة المقامة: إن الشخصیة التی تبدوفی المقامة لیست شخصیة المکدی ولکنها شخصیة المؤلف وتنبنی هذه الشخصیة علی الدرایة الواسعة بکل شیء یطرقه المکدی، أوالمؤلف علی الأصلح، فهوواسع الاطلاع علی العلوم العربیة خاصة، بصیر بالفنون الأدبیة من شعر ونثر وخطابة، حاد الذهن قوی الملاحظة فی حل الألغاز وکشف الشبهات، مرح طروب فی اجتیاز العقبات وسلوک المصائب. تاسعا- الصناعة فی المقامات: فن المقامات فن تصنیع وتأنق لفظی (وخصوصاً عند الحریری) فهناک إغراق فی السجع وإغراق فی البدیع من جناس وطباق، وإغراق فی المقابلة والموازنة وفی سائر أوجه البلاغة حتی ما لایدخل فی باب البلاغة علی وجه الحصر؛ کالخطبة التی تقرأ طرداً وعکساً والخطبة المهملة (التی لانقط فیها) أوالتی تتعاقب فیها الأحرف المهملة والأحرف المعجمة (المنقوطة) وما إلی ذلک. عاشرا- الشعر: المقامة قصة نثریة ولکن قد یتخللها شعر قلیل أوکثیر من نظم صاحبها علی لسان المکدی، أومن نظم بعض الشعراء، فیما یروی، علی لسان المکدی أیضاً، وقدیکون إیراد الشعر لإظهار المقدرة فی النظم أولاظهار البراعة فی البدیع خاصة عند الحریری. ( فروخ، تاریخ الأدب العربی، ج 2، صص 412- 415، بتصرف. ) ویتبع القصص والمقامات فنّ الفکاهة وهی روایة الحکایة فی حال من المرح مع الاشارة إلی ما یستطیبه الناس عادة من اللهووالجنس والهزؤ والإضحاک والإطراف. والمقامات نفسها مملوءة بالفکاهة، وتظهر الفکاهة فی الشعر أیضاً وتکون فی الشعر لفتة بارعة أوملحة نادرة أونکتة صائبة أوتعبیراً جدیداً طریفاً، وقد تکون عرضاً لأمور لاتقتضی الإنسان تفکیراً بل یأخذ الإنسان منها بظاهر القول هوناً وفی هذا الباب أخبار المکدین (المتسولین) والطفیلیین، ومثل ذلک الأحاجی، وهی أسئلة علی غیر المنهاج المنطقی تحتاج فی الإجابة التی نباهة وذکاء أکثر مما تحتاج إلیه من العقل والمعرفة. وفی المقامات شیء کثیر من هذا کله مبنی علی التوریات وراجع إلی أحوال مفردة، وهی المسمیّ "ألغازاً" فمن الفکاهة العادیة قول ابن لَنکَك: لاتَخدَعَنکَ اللّحی والصّور تسعة أعشار مَن تری بَقَر ومن الألغاز سؤال فی مقامات بدیع الزمان هو: أی بیت (من الشعر) أولّه یغضب وآخره یلعب؟ وجواب هذا السؤال الملغز: هوقول عمروبن کلثوم: کأنّ سیوفنا منّا ومنهم مخاریق بأیدی لاعبینا! (لأنّه یبدأ بالکلام علی السیوف ـ وهی من آلات الحرب ـ ثم ینتهی باللعب بالمخاریق، والمخراق خرقة ملفوفة یتضارب بها الصبیان). ویدخل فی هذا الباب کتب الجدال والمناظرات والخصومات، کما نجد عند أبی حیّان التوحیدی وفی کتب علماء الکلام من الأشعریة والمعتزلة، ومانراه فی کتب التوحید وأصول الدین؛ کما یدخل فیه الکتب التی تعرض الآراء والمذاهب کرسائل إخوان الصفا وجمیع الکتب المؤلفة فی فنون السلوک والعلم وفی علوم العربیة من اللغة والنحووالنقد. روّاد المقامات کان بدیع الزمان الهمذانی (357 هـ 398 هـ) والحریری (446هـ 516هـ) من أبزر کتاب المقامات فی العصر العباسی وتتناول السطور القادمة أهم السمات الأدبیة لدی الأدیبین بإیجاز بالغ: 1- بدیع الزمان الهمذانی (357هـ 398هـ ) ومقاماته: إن مقامات بدیع الزمان قصار فی الأغلب وفیها فصاحة وسهولة ووضوح إلی جانب الدعابة والمرح والتهکم وبدیع الزمان حسن الابتکار قل أن تجد له مقامتین فی معنی واحد، وهویجید فی مقاماته السرد والوصف الحسّی والتحلیل ویحسن دراسة الطبائع وتصویر المعائب وعرض مساویء المجتمع، غیر أنّه لایقصد إلی إصلاح هذه المساویء بنصح أوبردع، وإنمّا غایته التهکّم بأصحابها وإطراف الآخرین بتصویرها واستعراضها، وهوکثیر الاحتقار للناس. وأسلوب بدیع الزمان فی مقاماته خاصة، حلوالألفاظ سائغ الترکیب جمیل الوصف کثیر الصناعة المعنویة (فی الاستعارات والکنایات والتوریات خاصة) من غیر تکلّف ولا إغراق فی السجع. وللمقامات الخمسین التی بدأ بدیع الزمان کتابتها منذ عام 375 هـ راویة واحد هوعیسی بن هشام ومکد (بطل) واحد هوأبوالفتح الإسکندری (نسبة إلی الإسکندریة التی هی قرب الکوفة علی الفرات) وهما شخصیتان تاریخیتان. ومن أشهر مقاماته مقامتین؛هما المقامة المضیریة والمقامة البشریة. أما المقامة المضیریة فتظهر فیها براعة البدیع فی الوصف ودقة التصویر، علی شیء کثیر من السخر وخفة الروح. أما الأخری البشریة، فهی التی وفق بها بدیع الزمان لاختراع شاعر جاهلی تبنّاه التاریخ من بعده، ألاوهوبشر بن عوانة العبدی. (البستانی، أدباء العرب، ج 2، صص 390ـ394 بتصرف. ) 2- أبوالقاسم الحریری (446هـ 516هـ ) ومقاماته:یبدأ الحریری مقاماته بإسناد الکلام إلی روایتها الحرث بن همّام، ولکنه لایقصتر کالبدیع علی قوله: (حدثنا) بل یمیل إلی التغییر فی بدء کل مقامة فینتقل بین (حدّث) و(روی) و(حکی) و(أخبر) و(قال). وکان مکدی (بطل) مقاماته هوأبازید. (البستانی، أدباء العرب، ج 2، ص 428) والحریری فی مقاماته أکثر تعلقاً بالحواضر من بدیع الزمان، فما یکاد یخرج إلی البادیة إلا فی واحدة منها أواثنتین، ومقاماته فی الغالب أطول من مقامات أستاذه بید أن طولها لایعود علی اتساع الفن القصصی فیها، وإنما علی اجتماع خبرین فی مقامة واحدة. أوعلی فیض الألفاظ، وکثرة المترادفات، ومعاقبة الجمل علی المعانی. أوعلی الإکثار من الشعر، وفیه القصائد التی یشرح بها أبوزید أحواله، ویقص أخباره. وللحریری لغة متینة، قصیرة الجمل یقطعّها تقطیعاً موسیقیاً، فما تتعدی جملته الکلمتین أوالثلاث، قلّما زادت فبلغت الخمس أوالست وهوفی إنشائه بادئ الصنعة، ظاهر التکلّف، یتعمد الغریب، ویسرف فی استعماله، ویفرط فی اصطناع المجاز والتزیین حتی تجف عبارته ویقل ماؤها ویعسر مساغها. الخاتمة والنتیجة: إن هذا المقال ألقی الضوء علی المقامات التی تعتبر جانبا غضا ثریا من النثر العربی الذی له عراقة فی تاریخ الأدب العربی وتناول المعنیین اللغوی والأدبی للمقامات کما تحدث عن نشأة هذا الفن وتطوره واقفا عند خصائص المقامات وقوفا متأملا وأخیرا تحدث عن رواد المقامات وهما الهمذانی والحریری. وتجدر الإشارة إلی أن هذا الفن فن عربی أصیل یستحق اهتماما أکثر من ذی قبل من جانب الباحثین والدارسین والأدباء لیعرفوا بذلک الجیل الجدید جانبا من جمال الأدب العربی بمناهله الثریة وتراثه الضخم. قائمة المصادر والمراجع: 1- البستانی بطرس، أدباء العرب فی الأعصر العباسیة، دار الجیل، بیروت – لبنان، طبعة جدیدة ومنقحة، لاتا. 2- الحریری أبومحمد القاسم بن علی، مقامات الحریری، دار الفکر للطباعة والنشر والتوزیع، بیروت – لبنان، الطبعة الأولی، 2007م. 3- فروخ عمر، تاریخ الأدب العربی، دار العلم للملایین، بیروت – لبنان، الطبعة الخامسة، 1985م. 4- مبارک زکی، النثر الفنی فی القرن الرابع، مطبعة دار الکتب المصریة، القاهرة، الطبعة الأولی، 1934م. 5- الهمذانی أبوالفضل بدیع الزمان، مقامات بدیع الزمان الهمذانی، شرح الأستاذ محمد عبده، المطبعة الکاتولیکیة، بیروت – لبنان، الطبعة الثالثة، 1924م.

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:0|
التقاء الساكنین فی اللغة العربیة



لا شكَّ أنَّ ظاهرةَ التقاء الساكنین تُحدِثُ تغییراً فی بناء الكلمات فی اللغة العربیة ونطقها وإعرابِها، وهی ظاهرةٌ تستحق الوقوف والدراسة لتَكرارها فی كلامنا الفصیح إعرابا ونطقا وضبطا.

فالتخلص من التقاء الساكنین قدیمٌ قِدمَ لغتنا العربیة، والشواهدُ علیه كثیرة من شعرنا الجاهلی والقرآن الكریم والحدیث الشریف وأقوال العرب، أما فی القرآن الكریم فقد أخذت ظاهرة التقاء الساكنین اهتماما عند الدارسین على مر العصور.

وخلاصة القاعدة فی اللغة العربیة تقول: إذا التقى ساكنان فیتم التخلص من أولهما؛ إما حذفا إذا كان معتلا، أو بتحریك أحدهما بالحركات إن كان الساكن صحیحا.

وفی أصل الكلمة الواحدة لا یجتمعُ ساكنان، وإنما الاجتماع یتم بتغییر الكلمة بسبب العوامل الداخلة علیها، أو عند وصلها بكلمة أخرى؛ فالأمرُ من (قَامَ) (قُمْ) ومن (وَفَى) (فِ) ومن (رَأى) (رَ) أو (رَهْ)، والمضارع المجزوم مِن (یقول) (لَمْ یَقُلْ) وهكذا.

مواضع التقاء الساكنین:

قیل: إنَّ العرب لا تبدأ بساكن ولا تقف على متحرك، ولكن عند تصریف بعض الأفعال یطرأ السكون على أوله فیتم التخلص منه بهمزة الوصل، ویغلِبُ ذلك فی أمر الثلاثی والخماسی والسداسی (ذَهَبَ یَذْهَبُ اذْهَبْ), (اسْتَعَانَ اسْتَعِنْ اسْتِعَانَة)، فالقاعدة تقول: یأتی الأمرُ من المضارعِ بعد حذف حرف المضارعة كما فی المثال السابق، وبما أنَّ فاء الفعل ساكنةٌ فلا بد من النطق بمتحرك، وتخلصا من هذه المشكلة جیء بهمزة الوصل للنطق بمتحرك بدایةً، وهذه الهمزة تسقط لفظا عند الوصل كما فی (وقال لهُ اذْهَبْ). وقول (إنَّ العرب لا تقف على ساكن) لیس على إطلاقه، وقد توسَّع علماء التجوید فی ذلك وأجازوا الوقوف على متحرك فی الروم أو الإشمام أو هاء السكت.

هل یلتقی ساكنان فی الكلمة الواحدة؟

لا یلتقی ساكنان خطّاً فی الكلمة الواحدة، وإنما الالتقاءُ یكون لفظا من أجل الوقوف العارض، ویكون ذلك فی وسط الكلمة أو فی نهایتها، ولا یكون فی بدایة الكلمة إطلاقا، ففی الوسط لا یكون إلا بعد مدٍّ مع التضعیف؛ كما فی (الصَّاخَّة)، (الحاقَّة)، وما شابههما، وفی الطرف إذا وَلِیَ المدَّ سكونٌ عارض مثل (رحیْمْ) (علیْمْ)، ویكون أیضًا مع حرفین صحیحین؛ الأول ساكن أصلی والثانی عارض من أجل الوقف كما فی والفجْرْ. ولیالٍ عشْرْ [الفجر: 1-2].

أما النوع الأول فیُتخلص منه بالمد، وأما الثانی الذی فیه الحرفان الصحیحان فالنطق به صعب؛ إذ تشم رائحة الحرف الأخیر شما؛ إذ یصعب نطق الساكن الأخیر إذا سبقه ساكن صحیح. ویسمى "رَوْمًا" قال السیوطی: "ولم یَجمعوا (یقصد العرب) بین ساكنین فی حشو الكلمة، ولا فی حشو بیت، ولا بین أربعة أحرف متحركة؛ لأنهم فی اجتماع الساكنین یبطئون، وفی كثرة الحروف المتحركة یستعجلون، والكثیرُ فی التقاء الساكنین یكون فی الوصل بین الكلمات كما فی قالت الأعراب آمنا [الحجرات: 14] ومثله كثیر فی القرآن وغیره من كلام العرب [1].

إذًا یلتقی ساكنان فی كلام العرب ولكن طرفاً، وزاد بعضهم: أنه تلتقی ثلاث سواكن طرفا، واستشهدوا على ذلك بالكلمات المشددة طرفا التی تقع بعد مد كما فی (جانّ) (حاجّ) (صوافّ) (تتَّبعانّ) وكذلك فی (أراْیْتْ) و(أاْنْتْ) فی قراءة ورش بالإبدال.

كیف یتم التخلص من الساكنین؟

هناك طرق عدة للتخلص من الساكنین:

1- الحذف خطاً:

- یُحذف حرفُ العلة إذا وقع آخرَ الأمر (ادْعُ) (اجْرِ) (اسْعَ)، ویعود حرف العلة مفتوحا عند اتصال الفعل بنون التوكید: (اجرِیَنْ) (ادنُوَنَّ).

- یُحذف حرف العلة إذا وقع فی الفعل الأجوفَ وسكن آخرُه كما فی (قُلْ) (بِعْ) (نَمْ) (لا تنَمْ) (لم یقلْ). وإذا تحرك آخره عادت العین المحذوفة كما فی (قُولا), (نامُوا)، (خافِی) …. لعدم تتابع الساكنین، كما تحذف العین إذا اتصلت بالفعل ضمائر الرفع المتحركة نحو: (قُلتُ)، (بِعتُ)، (قُلنَ)، (هَبْنَ). فالأصل فی (قُلْتُ) (قَوَلْتُ)؛ تحركت الواوُ بعد فتحة فقلبت ألفاً فصارت (قَالْتُ)، فاجتمع ساكنان فحذفت الألف لاجتماع الساكنین. وكذا (بِعت) (بَیَعْتُ) (باعْتُ) (بعْتُ). أما (یقلنَ) (یقْوُلْنَ) (یَقُوْلْنَ) (یقُلْنَ)؛ نقلت حركة الواو إلى الحرف الصحیح الساكن لأنه أولى بتحمل الحركة، ثم حذفت لالتقاء الساكنین.

- یحذف حرف العلة من الاسم المنقوص إذا نون بالرفع أو الجر كما فی (قاضٍ)، وتبقى الیاء بعد تنوین الفتح؛ لأنَّ الیاء فتحت وتخلصت من التسكین.كما فی (رأیت قاضیاً).

- تحذف الألف المقصورة لفظا إذا نونت كما فی (قرًى) رفعا ونصبا وجرا؛ لأن التنوین ساكن ویأتی بعد ساكن وهو حرف العلة، فیحذف تخلصا من التقاء الساكنین.

- إذا لحقت الفعلَ الماضی المعتل واوُ الجماعة أو تاء التأنیث یحذف المعتل من الفعل ویعوض عنه بحركة من جنس المحذوف قبل الألف للدلالة على أنَّ المحذوف ألف (رأى + و = رأَوْا) (غَزَى + تْ = غَزَتْ)، أما إذا وَلِیَ واوَ الجماعة الساكنة سكونٌ فتضم الواو كما فی قوله تعالى اشتَرَوُا الضلالة [البقرة: 16]، فتم التخلص من سكون الواو بضمها؛ وذلك لمجیء الساكن بعدها. وإن كان أصل المعتل (لام الفعل) واوا فتحذف ویضم الحرف الذی قبلها لمناسبة الواو: (سَرُوا) بوزن (فَعُوا) فأصلها (سَرُوُوا)؛ تحركت الواو بالضمة لمناسبة واو الجماعة واستثقلت الضمة على الواو فحذفت، ثمَّ حذفت الواو نفسها دفعا لالتقاء الساكنین.

- یحذف حرف العلة من المضارع المعتل الآخر عند إسناده لواو الجماعة أو یاء المؤنثة المخاطبة كما فی (یرمِی)، (یدنُو)، (یسعَى) فعند الإسناد تصبح (یرمُون)، (لم یدنُوا)، (لتسعَوْا). و(ترمِین)، و(تَدنِین)، و(تَسعِین). ویحرك بالفتح ما قبل المحذوف إن كان ألفا (یسعَوْن) وبالضم إن كان المحذوف واوا (یغزُون) وبالكسر إن كان المحذوف یاء (تغزِین). ویُعامل فعلُ الأمر معاملةَ المضارع؛ لأنه مأخوذ منه فیحمل علیه، (اسعَوْا) و(اسعَیْ) و(اغزُوا) و(ارمِی).

- یحذف حرف العلة من اسم المفعول المعتل العین كـ(مَقْوُول) من (قال)، (مقُوْوْل) ثم (مقُول) بحذف الواو تخلصا من التقاء الساكنین وكذلك (مَبْیُوع) من (باع)، (مَبِیْوْع) ثم (مَبیِع) نقلت حركة العین إلى الساكن قبلها فالتقى ساكنان فحذفت واو المفعول.

- تحذف ألفُ المصدر من (إفعال) و(استفعال) إذا كان الفعل معتل العین مثل "أقام إقامة واستقام استقامة" فأصلهما: (إقوام) و(استقوام)، نقلت حركة العین - وهی الفتحة - إلى الساكن قبلها، فالتقى ساكنان: عین الكلمة والألف، فحذفت الألف لالتقاء الساكنین فصارتا "إِقَوْمَا" (بكسر ففتح فسكون) و"استِقَوْما" (بكسر التاء وفتح القاف وسكون الواو) فقلبت العین ألفا لتناسب الفتحة قبلها، فصارتا "إقاما واستقاما" ثم عوض المصدر من ألف الإفعال والاستفعال المحذوفة تاء التأنیث. واختصاراً عندما نقول (أكرم) فالمصدر (إكرام) على وزن (إفعال) وفی (أعان) (إعاان) (إفعْال) فالتقى ساكنان فیحذف عین الفعل (الألف الأولى من إعاان) ویعوض عنها بتاء التأنیث فتصبح على وزن (إفالة) وكذا فی (استعان).

- إذا لَحِقَ مضارعَ الأفعال الخمسة نونُ التوكید مثل (لیقولونّ) فتصبح (لیقولُنّ)؛ لأنَّ أصل الكلمة (لیقولونْنَّ) ففی هذه الكلمة ثلاث نونات؛ نون الرفع والنون الأولى الساكنة المدغمة والنون المشددة المفتوحة الآخر ثم حذفت نون الرفع لتوالی الأمثال، فالتقى ساكنان واوُ الجماعة والنونُ الأولى الساكنة من النون المشددة المفتوحة الآخر, فحُذِفت واو الجماعة تخلصاً من التقاء الساكنین، وبقیت الضمة على اللام للدلالة على المحذوف. وهكذا فیما یقاس علیه.

- تعود الفتحة إلى آخر المضارع المجزوم إذا اتصلت به نون التوكید الثقیلة أو الخفیفة مثل: (والله لتجتهدَنَّ)، ویعرب عندها فعلَ مضارع مبنیاً على الفتح لاتصاله بنون التوكید فی محل جزم؛ وذلك لأنَّ التنوین ساكن و(لتجتهدْ) مجزوم فیتم التخلص من السكون الأول ببنائه على الفتح.

2- وأما الحذف لفظاً فكثیر فی لغتنا العربیة وأهمه:

- تُحذف الألفُ المقصورة لفظا إذا نُوِّنت كما فی قُرًى وهُدًى رفعاً ونصباً وجرّاً؛ لأن التنوین ساكن أتى قبله ساكنٌ وهو حرف العلة فتحذف الألف تخلصا من التقاء الساكنین.

- تُحذف حروفُ العلة إذا وَلِیَها ساكنٌ كما فی (وفی السماء) و(على الأرض) ففی السماء تم حذف ثلاثة أحرف هی یاء (فی) وهمزة الوصل واللام الشمسیة من (السماء) التی عُوِّض عنها بتضعیف السین، أما (على الأرض) فحذف حرفان هما ألف (على) وهمزة الوصل من الأرض. وأمثلته كثیرة فی اللغة العربیة.

- تحذف همزات الوصل من (ابن) و(اسم) و(امرؤ) و(امرأة) وغیرها من الأسماء المبدوءة بهمزة وصل وكذلك المصادر والأفعال المبدوءة بهمزة وصل وأل التعریف إذا سبقت بساكن كما فی (یا ابن الأكرمین) وسبحِ اسْم ربك الأعلى [الأعلى: 1]، وقالوا اتخذ [البقرة: 116]، تحذف الواو فی (قالوا) وهمزة الوصل فی (اتخذوا) وهذا كثیر فی لغتنا العربیة.

- حذفت الهمزة من مضارع (رأى) لالتقاء الساكنین فأصل المضارع من رأى (یرْأَیُ) بوزن (یَفْعَلُ)، استثقلت الضمة على الیاء فحذفت، ثم قلبت الیاء ألفاً لمناسبة الفتحة، أو نقول: تحركت الیاء بعد فتحة فقلبت ألفاً، ونقلت حركة الهمزة إلى الحرف الصحیح الساكن قبلها، ثم حذفت لالتقاء الساكنین: الهمزة والألف فأصبح الفعل (یرى) [2].

3- حذف التنوین والنون:

یحذف التنوین من اسم العلم إذا وصف بـ(ابن) كـ"محمدُ بْنُ عبد الله"؛ لأن محمداً ینتهی بتنوین، والتنوین ساكن الآخر وجاء بعده الباء الساكنة من (بن) فالتقى ساكنان وللتخلص من هذه الظاهرة تمَّ حذف التنوین من (محمدٍ) ولا یحذف التنوین من آخر العلم إذا كان (ابنٌ) خبراً كجوابنا: (محمدٌ ابنُ عبد الله) لمن یسأل (منْ محمد؟) فأثبتت همزة الوصل فی (ابن) لأنها وقعت خبراً لا صفة، والواجب الوقف عند نهایة العلم الأول إن كان مصروفا ولفظ همزة (ابن) بالحركة. وعلى هذا یقرأ من یقرأ قل هو الله أحدُ اللهُ الصمد [الإخلاص: 1-2] ترك التنوین من (أحد) وأما من یقرأ فی التوبة وقالت الیهود عزیرٌ ابن الله [التوبة: 30] بالتنوین فإنه ینون لأنه خبر ولیس وصفا، وقد ذهب بعضهم إلى أنَّ التنوین إنما سقط لالتقاء الساكنین [3].

4- التخلص بالحركات:

ویكون التخلص من التقاء الساكنین بالحركات والمقصود بالحركة هنا: تحرك الحرف بأحد الحركات الثلاثة (الفتح، الضم، الكسر) وأشهرها:

- الكسر وهو الأصل فی التخلص من التقاء الساكنین بالحركات وقاعدتُه إذا وَلِیَ الساكنَ حرفٌ صحیح ساكن یحرَّك الأول بالكسر كما فی قالتِ الأعراب [الحجرات: 14] قلِ الله [النساء: 127] (لا تهملِ الواجب) وكذلك فی قوله تعالى: فنعِمَّا هی [البقرة: 271] وأصله (فنِعْمَ ما) فأدغمت (نعم) بـ(ما) فلزم تسكین المیم الأولى فالتقت مع العین الساكنة وللتخلص من سكونها تمَّ كسر العین، وهناك من قرأ بإبقاء الساكنین فی العین والمیم وهی قراءة متواترة قرأ بها قالون عن نافع وأبو عمرو البصری وشعبة عن عاصم بخلاف وأبو جعفر بلا خلاف. وكذلك هی مرسومة متصلة للإدغام وكذلك تَعْدُّوا یَهْدِّى اسْطَّاعوا.

- ذكر ابن هشام فی مغنی اللبیب من أن (ذلك) أصلها ساكنة اللام مثل (تلك) فالتقى ساكنان (الألف واللام) فحركت الثانیة بالكسر.

- تكسر واو (أوْ) إذا ولیها ساكن كما فی أوِ اخْرجوا [النساء: 66] أوِ انْقُص [المزمل: 3].

- إذا نون الظرف (إذْ) كما فی (یومئذٍ) و(حینئذٍ) و(عندئذٍ) فإن (إذ) ظرف مبنی على السكون دخل علیه التنوین (تنوین عوض عن جملة) فالتقى ساكنان: الذال والنون الساكنة (التنوین) فحركت الذال بالكسرة للتخلص من التقاء الساكنین فأصلهما (یومئذِنْ) - (حینئذِنْ) - (عندئذِنْ).

ویحرك بالفتح إذا كان المضارع المجزوم مشددا فنقول لم یشدَّ والأصل لم یشدْدْ فتوالى ساكنان فحرك الثانی بالفتح، والفتحة لخفتها، أو بالكسرة لأنها الأصل، وإذا كانت عین الفعل مضمومة جاز التحریك بالضم أو الكسر إتباعاً للعین فنقول: لم یَعُدَّ، لم یَعُدِّ، لم یَعُدُّ.

ویتخلص من السكون فی مثل (كانتْ) إذا أضیف لها ألف كما فی (كانتا) و(خانتاهما) فإن تاء التأنیث حرف مبنی على السكون فدخلت علیها ألف التثنیة وهی ساكنة ففتحت التاء للتخلص من التقاء الساكنین ولا یكون قبل الألف من الحركات إلا الفتح.

وكذلك مثل (ذالكما – تلكما) مما دخل فیه ألف التثنیة على میم الجمع الساكنة فتحركت المیم بالفتح تخلصاً من الساكنین. وكذلك كل فعل أمر مبنی على السكون (آخره حرف صحیح) دخلت علیه ألف التثنیة كما فی (انطلقْ) – (اركبْ)، فصارا: (انطلقَا) – (اركبَا).

ویحرك بالفتح أیضاً نون (مِنْ) الجارة فالأصل فی نون (من) الجارة أن تكون ساكنة إذا ولیها متحرك كما فی (منْ قبلك) أما إذا ولیها (أل) التعریف فتحرك بالفتح كما فی قوله ومِنَ الناس من یقول [البقرة: 8].

ویحرك بالضم میم الجمع الساكنة: وهی میم زائدة عن بنیة الكلمة الدالة على جمع المذكر حقیقة أو مجازا، ولا یكون الساكن بعد میم الجمع فی القرآن إلا همزة وصل فإذا ولیها متحرك تبقى ساكنة كما فی قوله تعالى: سواء علیهمْ أأنذرتهمْ أمْ لمْ تنذرهمْ لا یؤمنون [البقرة: 6].

وإذا ولیها ساكن كما فی قوله تعالى: فأخذتكمُ الصاعقة [البقرة: 55]، أنفسكمُ اسْتكبرتم [البقرة: 78]، وتقطعت بهمُ الأسباب [البقرة: 166].

ویحرك بالضم واو الجماعة كما فی وعصَوُا الرسول [النساء: 43] فتمنوُا الموت [البقرة: 94]؛ للتخلص من التقاء الساكنین، ولو ولیها متحرك لبقیت ساكنة مثل: واخشَوْا یوما [لقمان: 33]، لبَغَوْا فی الأرض [الشورى: 27]؛ لانتفاء السبب.

5- النبرة:

النبر عند العرب ارتفاع الصوت یقال نبر الرجل نبرة إذا تكلم بكلمة فیها علو وأنشدوا:

إنی لأسمع نبرة من قولها فأكاد أن یغشى علی سرورا

والنبر صیحة الفزع، ونبرة المغنی رفع صوته عن خفض، ونبر الغلام ترعرع، والنبرة وسط النقرة، وكل شیء ارتفع من شیء نبرة لانتباره [4]. ویقصد بالنبرة قرع الحرف حتى یظهر صوته دون غیره، والنبرة علامة لحذف الحرف المعتل إذا ولیه ساكن وكان هذا المحذوف یخل بتركیب الجملة أو یحصل التباس بینه وبین غیره؛ فتقول للمفرد (كتب الواجب) ولا یفرق بینه وبین المثنى (كتبا الواجب) باللفظ إلا إذا نبرت اللام فی الواجب للدلالة على حذف ألف كتبا.

ومثله: وقالا الحمد [النمل: 15] تحذف ألف التثنیة فی (قالا) حال الوصل للساكنین وینبر باللام من (الحمد) للدلالة على حذف الألف الأصلیة لا الفتحة حتى لا یلتبس (قالَ الحمد) و(قالا الحمد).

6- المد:

المد هو إطالة الصوت بحرف من حروف المد الثلاثة عند ملاقاة همز أو سكون كما قال علماء التجوید، فالسكون ظاهر العلة، وأما الهمز فربما لأنه من أقوى الحروف فعند لفظه كأننا نلفظ حرفاً مضعفا أی حرفین ساكنا ومتحركا أو مقلقلا فأخذ حكم المد للتخلص من التقاء الساكنین، كما فی (الملائكة)، (بما أنزل) ….. إلخ "ووجه المد هو أن حرف المد ضعیف والهمز قوی فزید فی المد تقویة للضعیف عند مجاراة القوی. وقیل للتمكن من النطق بالهمز لأنه مهجور" [5]

والمتمعن فی هذا التعریف یرى أن سبب المد هو التخلص من التقاء الساكنین فالهمزة عند لفظها وسطا وآخرا تتكون من صوتین الصوت الأول ساكن والثانی متحرك یخرج من أقصى الحلق، متمیزا بنبرته عن باقی الحروف. فالمد یقوم مقام الحركة وذلك أن الحرف یزید صوتا بحركاته كما یزید الألف بإشباع مده.

أما المد الذی یلیه سكون أصلی فیكون لازم المد ویكون بعد تضعیف وهو الأكثر كما فی (الضالَّین) و(الحاقَّة) و(دابَّة) وهو ما سماه علماء التجوید كلمیا مثقلا وأما الكلمی المخفف فملحق به لأنه قلیل ویخلو من التضعیف ومواطنه قلیلة وهی (ءالآن) فی موضعین بسورة یونس. ویلحق به المد الحرفی أیضا بنوعیه المخفف والمثقل كما فی (ألـمـ).

7- المد العارض للسكون:

عرَّف علماء التجوید المد العارض للسكون بأنه مد لأجل السكون العارض إذا سبقه حرف مد، فالمد زیادة فی صوت حرف المد بمقدار أربع حركات أو خمس أو ستٍ، وعند المد یتم التخلص من توالی الساكنین وهما حرف المد والساكن الذی یلیه لفظا، وكل مد ساكن، ولكن إذا مد فإنه یشبه المتحرك كما فی الرحیمْ الدین ویلحق به مد اللین كما فی (الصیف) و(خوف) وكل مثنى مجرور أو منصوب عینین النجدین …… إلخ.

وهكذا نجد أنَّ العرب تتخلص من التقاء الساكنین إما بالحذف أو تحریك أحد الصحیحین أو بالمد أو بالنبرة وذلك لأن توالی الساكنین ولا سیما فی وسط الكلمة ضعف فی اللغة وبما أن العربیة من أقوى وأجمل اللغات فإنها تنساب من متحرك إلى متحرك أو من متحرك إلى ساكن ثم تنطلق إلى متحرك وهذه الحركة المتناغمة تضفی علیها رونقا لا یشعر به إلا أصحاب الذوق السلیم.
حواشی

[1] السیوطی، الأشباه والنظائر فی النحو، تحقیق عبد الإله نبهان مطبوعات مجمع اللغة العربیة بدمشق 1985 ج1/ص172.

[2] عاصم البیطار، النحو والصرف، جامعة دمشق 1988م.

[3] السیوطی، الأشباه والنظائر فی النحو، تحقیق عبد الإله نبهان مطبوعات مجمع اللغة العربیة بدمشق 1985 ج1/ص2.

[4] لسان العرب ج5/ص189.

[5] البرهان فی تجوید القرآن، محمد صادق القمحاوی.

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:59|
ابو تمام
تحلیل النص الأدبی
فتح عموریة.. السیف أصدق إنباء
17 من رمضان 223 هـ

كانت وصیة الخلیفة المأمون لأخیه المعتصم وهو على فراش المرض أن یقضی على فتنة بابك الخُرَّمی، وكان زعیم فرقة ضالة، تؤمن بالحلول وتناسخ الأرواح، وتدعو إلى الإباحیة الجنسیة. وبدأت تلك الفتنة تطل برأسها فی أذربیجان، ثم اتسع نطاقها لتشمل همدان وأصبهان، وبلاد الأكراد وجرحان. وحاول المأمون أن یقضی علیها فأرسل الحملات تترى لقمع تلك الفتنة، لكنه توفی دون أن یحقق نجاحًا، تاركًا للمعتصم مهمة القضاء علیها.
وما إن تولى المعتصم الخلافة حتى انصرف بكلیته للقضاء على فتنة بابك الخرمی مهما كلفه الأمر، وخاصة بعد أن شغلت الخلافة سنوات طویلة، وأنهكت میزانیة الدولة، وأهلكت الرجال والأبطال. واستغلت الدولیة البیزنطیة انشغال الخلیفة المعتصم بالقضاء على تلك الفتنة الهوجاء وراحت تعتدی على حدود الدولة العباسیة، وجهزت لذلك جیشًا ضخمًا قادة إمبراطور الدولة، حیث هاجم شمال الشام والجزیرة.
وكان بابك الخرمی -حین ضاق علیه الحصار، واشتد الخناق علیه، وأیقن ألا مفر من الاستسلام- قد اتصل بإمبراطور الروم یحرضه على غزو الدولة العباسیة؛ لیخف الحصار علیه، وزین له أمر الهجوم بأن معظم جیوش الدولة مشغول بالقضاء علیه، ولم یبق فی العاصمة قوة تدافع عنها، ووعده باعتناق المسیحیة هو وأتباعه.
عزز ذلك الأمر من رغبة الإمبراطور فی الهجوم على الدولة العباسیة، ودخل بقواته مدینة "زبطرة" التی تقع على الثغور وكانت تخرج منها الغزوات ضد الروم. وقتل الجیش البیزنطی من بداخل المدینة من الرجال، ثم انتقل إلى "ملطیة" المجاورة، فأغار علیها وعلى كثیر من الحصون، ومثّل الجیش الرومی بمن وقع فی یده من المسلمین، وسمل أعینهم، وقطع آذانهم وأنوفهم، وسبى أكثر من ألف امرأة مسلمة، ورجع الجیش البیزنطی إلى القسطنطینیة فرحًا بما حقق، واستُقبل من أهلها استقبالا رائعًا.
النفیر
وصلت هذه الأنباء المروعة إلى أسماع الخلیفة المعتصم وكان قد أوشك على قمع فتنة بابك الخرمی. وحكى الهاربون الفظائع التی ارتكبها الروم مع المسلمین، فاستعظم الخلیفة ما حدث، وأمر بعمامة الغزاة فاعتمّ بها، ونادى لساعته بالنفیر والاستعداد للحرب، وبعث بنجدة إلى أهل زبطرة بقیادة "عجیف بن عنبسة"، استطاعت أن ترد إلیها الهاربین من أهلها تطمئنهم، وفی هذه الأثناء تمكن "الأفشین" أبرع قادة المعتصم من القضاء على الفتنة وألقى القبض على بابك الخرمی فی (10 من شوال 222هـ = 16 من سبتمبر 837 م).
وكان المعتصم قد سأل: أی بلاد الروم أمنع وأحصن؟ فقیل: عموریة؛ لم یعرض لها أحد من المسلمین منذ كان الإسلام وهی عین النصرانیة، فسارع بتعبئة الحملة وتجهیز الجیش بكل ما یحتاجه، حتى قیل: إنه لم یتجهز قبله مثله، وخرج إلى عموریة فی (جمادى الأولى 223هـ= إبریل 838م) ولم تكن من عادة الحملات الكبرى الخروج فی ذلك الوقت، غیر أن الخلیفة كان متلهفا للقاء، ورفض قبول توقیت المنجّمین الذین تنبئوا بفشل الحملة إذا خرجت فی هذا التوقیت، وهذا ما عبر عنه الشاعر الكبیر "أبو تمام" فی بائیته الخالدة التی استهلها بقوله:



السیف أصدق أنبـاءً مـن الكتـبفی حدّه الحد بیـن الجـد واللعـب
بیض الصفائح لا سود الصحائف فیمتونهـن جـلاء الشـك والریـب
والعلم فی شهـب الأرمـاح لامعـةًبین الخمیسین لا فی السبعة الشهـب
أین الروایة؟ أم أین النجـوم؟ ومـاصاغوه من زخرف فیها ومن كذب
تخـرصًـا وأحادیـثـا ملـفـقـةلیست بنبـع إذا عُـدّت ولا غـرب
عجائبـا زعمـوا الأیـام مجفـلـةعنهن فی صفر الأصفار أو رجـب


فتح أنقرة
وعند "سروج" قسم المعتصم جیشه الجرار إلى فرقتین: الأولى بقیادة الأفشین، ووجهتها أنقرة، وسار هو بالفرقة الثانیة، وبعث "أشناس" بقسم منها إلى أنقرة ولكن من طریق آخر، وسار هو فی إثره، على أن یلتقی الجمیع عند أنقرة.
علم المعتصم من عیونه المنتشرین فی المنطقة أن الإمبراطور البیزنطی قد كمن شهرًا لملاقاة الجیش الإسلامی على غرّة، وأنه ذهب لمفاجأة الأفشین، وحاول الخلیفة أن یحذر قائده، لكنه لم یستطع، واصطدم الأفشین بقوات الإمبراطور عند "دزمون" وألحق الأفشین بالإمبراطور البیزنطی هزیمة مدویة فی (25 من شعبان 223 هـ= 838م) ولم یحل دون النصر الضباب الكثیف الذی أحاط بأرض المعركة أو المطر الغزیر الذی انهمر دون انقطاع، وهرب الإمبراطور إلى القسطنطینیة، وبقی قسم من جیشه فی عموریة بقیادة خاله "یاطس" حاكم "أناتولیا".
دخلت جیوش المعتصم أنقرة التی كانت قد أخلیت بعد هزیمة الإمبراطور، وتوجهت إلى عموریة فوافتها بعد عشرة أیام، وضربت علیها حصارًا شدیدًا.
حصار عموریة
بدأ الحصار فی (6 من رمضان 223هـ= 1 من أغسطس 838م)، وأحاطت الأبراج الحربیة بأسوار المدینة، فی الوقت نفسه بعث الإمبراطور البیزنطی برسوله یطلب الصلح، ویعتذر عما فعله جیشه بزبطرة، وتعهد بأن یبنیها ویردّ ما أخذه منها، ویفرج عن أسرى المسلمین الذین عنده، لكن الخلیفة رفض الصلح، ولم یأذن للرسول بالعودة حتى أنجز فتح عموریة.
ابتدأت المناوشات بتبادل قذف الحجارة ورمی السهام فقُتل كثیرون. وكان یمكن أن یستمر هذا الحصار مدة طویلة، لولا أن أسیرًا عربیًا قد أسره الروم دلّ الخلیفة المعتصم على جانب ضعیف فی السور، فأمر المعتصم بتكثیف الهجوم علیه حتى انهار، وانهارت معه قوى المدافعین عنه بعد أن یئسوا من المقاومة، واضطر قائد الحامیة "یاطس" إلى التسلیم، فدخل المعتصم وجنده مدینة عموریة فی (17 من رمضان 223هـ= 12 من أغسطس 838م). وقد سجل أبو تمام هذا النصر العظیم وخلّد ذكرى المعركة، فقال:



فتح الفتوح تعالى أن یحیـط بـه
نظمٌ من الشعر أو نثر من الخطب
فتح تفتّـح أبـواب السمـاء لـه
وتبرز الأرض فی أثوابها القشب
یا یوم وقعة عموریة انصرفـت
عنك المنى حُفّلا معسولة الحلـب


ثم یصور الأهوال التی نزلت بالمدینة حتى اضطرت إلى التسلیم تصویرا رائعًا، فیقول:



لقـد تركـتَ أمیـر المؤمنیـن بهـا
للنار یوما ذلیل الصخـب والخشـب
غادرت فیها بهیم اللیل وهو ضحـى
یشلّـه وسطهـا صبـح مـن اللهب
حتى كأن جلابیـب الدجـى رغبـت
عن لونها وكأن الشمـس لـم تغـب
خلیفـة الله جـازى الله سعیـك عـن
جرثومة الدیـن والإسـلام والحسَـب
بصرت بالراحة الكبرى فلـم ترهـا
تُنال إلا علـى جسـر مـن التعـب
إن كان بین صروف الدهر من رحـم
موصولة أو زمـام غیـر منقضـب
فبین أیامـك اللاتـی نُصـرت بهـا
وبیـن أیـام بـدرٍ أقـرب النسـب
أبقت بنی الأصفر الممراض كما سْمهم
صُفْرَ الوجوه وجلّت أوجـه العـرب



وبعد هذا النصر قرر المعتصم المسیر إلى القسطنطینیة، لكن هذا المشروع لم یقیض له أن ینفذ، بعد أن اكتشف المعتصم مؤامرة للتخلص منه دبرها بعض أقربائه، كما أن فتح القسطنطینیة یحتاج إلى قوى بحریة كبیرة لم یكن یملكها ساعتها، فتوقف المشروع إلى حین.

أما شاعرنا
244 ـ أبو تمام ( 188 ـ 231هـ = 804 ـ 846م )
فهو حبیب بن أوس بن الحارث الطائی، من حوران، من قریة جاسم، فی بلاد الشام. ولد فی أیام الرشید، وقیل اسم والده تَدْرَس، وكان نصرانیـاً فأسلم وتسمی أوس، وانتمی لقبیلة طیء. نشـأ أبو تمام فقیراً، فكان یعمل عند حائك ثیاب فی دمشق، ثم رحل إلی مصر. فكان وهو صغیر یسقى الماء فی جامع عمرو بن العاص، ویتردد علی مجالس الأدباء والعلماء، ویأخذ عنهم. وكان یتوقد ذكاء، ونظم الشعر فی فترة مبكرة من حیاته. ثم عاد من مصر إلی الشام. ویُعد أبوتمام من أعلام الشعر العربی فی العصر العباسی. عُرِف بخیاله الواسع، ویمتاز عن شعراء عصره بأنه صاحب مذهب جدید فی الشعر یغوص علی المعانی البعیدة، التی لا تُدرك إلاّ بإعمال الذهن والاعتماد على الفلسفة والمنطق فی عرض الأفكار. یعدُّ أول شاعر عربی عنی بالتألیف، فقد جمع مختارات من أجمل القصائد فی كتاب سماه ( الحماسة ). أكثر شعره فی الوصف والمدح والرثاء، له دیوان شعر مطبوع.
ومن مشهور شعره قصیدته فی فتح عموریة، التی مدح فیها الخلیفة المعتصم،

القصیدة




السَّیْـفُ أَصْـدَقُ أَنْبَـاءً مِـنَ الكُتُـبِ
فـی حَـدهِ الحَـدُّ بَیْـنَ الجِـد واللَّعِـبِ
بیضُ الصَّفَائِحِ لاَ سُودُ الصَّحَائِـفِ فـی
مُتُونِهـنَّ جـلاءُ الـشَّـك والـریَـبِ
والعِلْـمُ فـی شُهُـبِ الأَرْمَـاحِ لاَمِعَـةً
بَیْنَ الخَمِیسَیْـنِ لافـی السَّبْعَـةِ الشُّهُـبِ
أَیْنَ الروایَـةُ بَـلْ أَیْـنَ النُّجُـومُ وَمَـا
صَاغُوه مِنْ زُخْرُفٍ فیها ومـنْ كَـذِبِ
تَخَرُّصَـاً وأَحَادِیثـاً مُلَفَّـقَـةً لَیْـسَـتْ
بِـنَـبْـعٍ إِذَا عُـــدَّتْ ولاغَـــرَبِ
عَجَائِبـاً زَعَـمُـوا الأَیَّــامَ مُجْفِـلَـةً
عَنْهُنَّ فی صَفَـرِ الأَصْفَـار أَوْ رَجَـبِ
وخَوَّفُوا النـاسَ مِـنْ دَهْیَـاءَ مُظْلِمَـةٍ
إذَا بَـدَا الكَوْكَـبُ الْغَرْبِـیُّ ذُو الذَّنَـب
ِوَصَیَّـروا الأَبْـرجَ العُلْـیـا مُرَتِّـبَـةً
مَـا كَـانَ مُنْقَلِبـاً أَوْ غیْـرَ مُنْقَـلِـبِ
یقضون بالأمـرِ عنهـا وهْـیَ غافلـةٌ
مادار فـی فلـكٍ منهـا وفـی قُطُـبِ
لـو بیَّنـت قـطّ أَمـراً قبْـل مَوْقِعِـه
لم تُخْـفِ ماحـلَّ بالأوثـانِ والصُّلُـبِ
فَتْـحُ الفُتـوحِ تَعَالَـى أَنْ یُحیـطَ بِــهِ
نَظْمٌ مِن الشعْرِ أَوْ نَثْـرٌ مِـنَ الخُطَـبِ
فَتْـحٌ تفَتَّـحُ أَبْـوَابُ السَّـمَـاءِ لَــهُ
وتَبْـرزُ الأَرْضُ فـی أَثْوَابِهَـا القُشُـب
ِیَـا یَـوْمَ وَقْعَـةِ عَمُّوریَّـةَ انْصَرَفَـتْ
مِنْـكَ المُنَـى حُفَّـلاً مَعْسُولَـةَ الحَلَـبِ
أبقیْتَ جِدَّ بَنِـی الإِسـلامِ فـی صعَـدٍ
والمُشْرِكینَ ودَارَ الشـرْكِ فـی صَبَـب
ِأُمٌّ لَهُـمْ لَـوْ رَجَـوْا أَن تُفْتَـدى جَعَلُـوا
فدَاءَهَـا كُــلَّ أُمٍّ مِنْـهُـمُ وَأَبــوَبَ
رْزَةِ الوَجْـهِ قَـدْ أعْیَـتْ رِیَاضَتُـهَـا
كِسْرَى وصدَّتْ صُدُوداً عَنْ أَبِی كَـرِبِ
بِكْـرٌ فَمـا افْتَرَعَتْهَـا كَـفُّ حَـادِثَـةٍ
وَلا تَرَقَّـتْ إِلَیْـهَـا هِـمَّـةُ الـنُّـوَبِ
مِنْ عَهْـدِ إِسْكَنْـدَرٍ أَوْ قَبـل ذَلِـكَ قَـدْ
شَابَتْ نَواصِی اللَّیَالِی وهْـیَ لَـمْ تَشِـبِ
حَتَّـى إذَا مَخَّـضَ اللَّـهُ السنیـن لَهَـا
مَخْضَ البِخِیلَـةِ كانَـتْ زُبْـدَةَ الحِقَـبِ
أَتَتْهُـمُ الكُـرْبَـةُ الـسَّـوْدَاءُ سَــادِرَةً
مِنْهَـا وكـانَ اسْمُهَـا فَرَّاجَـةَ الكُرَبِـج
َرَى لَهَـا الفَـألُ بَرْحَـاً یَـوْمَ أنْـقِـرَةٍ
إذْ غُودِرَتْ وَحْشَةَ السَّاحَـاتِ والرِّحَـب
ِلمَّا رَأَتْ أُخْتَهـا بِالأَمْـسِ قَـدْ خَرِبَـتْ
كَانَ الْخَرَابُ لَهَا أَعْـدَى مـن الجَـرَبِ
كَمْ بَیْنَ حِیطَانِهَـا مِـنْ فَـارسٍ بَطَـلٍ
قَانِـی الذَّوائِـب مـن آنـی دَمٍ سَـربِ
بسُنَّـةِ السَّیْـفِ والخطـی مِـنْ دَمِــه
لاسُنَّـةِ الدیـن وَالإِسْـلاَمِ مُخْتَـضِـب
ِلَقَـدْ تَرَكـتَ أَمیـرَ الْمُؤْمنیـنَ بِـهـا
لِلنَّارِ یَوْمـاً ذَلیـلَ الصَّخْـرِ والخَشَـبِ
غَادَرْتَ فیها بَهِیمَ اللَّیْـلِ وَهْـوَ ضُحًـى
یَشُلُّـهُ وَسْطَهَـا صُبْـحٌ مِـنَ اللَّـهَـبِ
حَتَّى كَـأَنَّ جَلاَبیـبَ الدُّجَـى رَغِبَـتْ
عَنْ لَوْنِهَـا وكَـأَنَّ الشَّمْـسَ لَـم تَغِـبِ
ضَوْءٌ مِـنَ النَّـارِ والظَّلْمَـاءُ عاكِفَـةٌ
وَظُلْمَةٌ مِنَ دُخَانٍ فـی ضُحـىً شَحـبِ
فالشَّمْـسُ طَالِعَـةٌ مِـنْ ذَا وقـدْ أَفَلَـتْ
والشَّمْـسُ وَاجِبَـةٌ مِـنْ ذَا ولَـمْ تَجِـبِ
تَصَرَّحَ الدَّهْـرُ تَصْریـحَ الْغَمَـامِ لَهـا
عَنْ یَوْمِ هَیْجَـاءَ مِنْهَـا طَاهِـرٍ جُنُـبِ
لم تَطْلُعِ الشَّمْـسُ فیـهِ یَـومَ ذَاكَ علـى
بانٍ بأهلٍ وَلَـم تَغْـرُبْ علـى عَـزَبِ
مَا رَبْـعُ مَیَّـةَ مَعْمُـوراً یُطِیـفُ بِـهِ
غَیْلاَنُ أَبْهَى رُبىً مِـنْ رَبْعِهَـا الخَـرِبِ
ولا الْخُـدُودُ وقـدْ أُدْمیـنَ مِـنْ خجَـلٍ
أَشهى إلى ناظِری مِـنْ خَدهـا التَّـرِبِ
سَماجَـةً غنِیَـتْ مِنَّـا العُیـون بِـهـا
عَنْ كل حُسْـنٍ بَـدَا أَوْ مَنْظَـر عَجَـبِ
وحُسْـنُ مُنْقَـلَـبٍ تَبْـقـى عَوَاقِـبُـهُ
جَـاءَتْ بَشَاشَتُـهُ مِـنْ سُـوءِ مُنْقَلَـبِ
لَوْ یَعْلَمُ الْكُفْرُ كَمْ مِـنْ أَعْصُـرٍ كَمَنَـتْ
لَـهُ العَواقِـبُ بَیْـنَ السُّمْـرِ والقُضُـبِ
تَدْبیـرُ مُعْتَصِـمٍ بِاللَّـهِ مُنْتَقِـمٍ لِـلَّـهِ
مُرْتَـقِـبٍ فــی الـلَّـهِ مُـرْتَـغِـبِ
ومُطْعَـمِ النَّصـرِ لَـمْ تَكْهَـمْ أَسِنَّـتُـهُ
یوْماً ولاَ حُجِبَـتْ عَـنْ رُوحِ مُحْتَجِـب
ِلَمْ یَغْـزُ قَوْمـاً، ولَـمْ یَنْهَـدْ إلَـى بَلَـدٍ
إلاَّ تَقَدَّمَـهُ جَـیْـشٌ مِــنَ الـرعُـب
ِلَوْ لَمْ یَقُدْ جَحْفَلاً، یَـوْمَ الْوَغَـى، لَغَـدا
مِنْ نَفْسِهِ، وَحْدَهَا، فـی جَحْفَـلٍ لَجِـبِ
رَمَـى بِـكَ اللَّـهُ بُرْجَیْهَـا فَهَدَّمَـهـا
ولَوْ رَمَى بِكَ غَیْـرُ اللَّـهِ لَـمْ یُصِـبِ
مِـنْ بَعْـدِ مـا أَشَّبُوهـا واثقیـنَ بِهَـا
واللَّـهُ مِفْتـاحُ بَـابِ المَعقِـل الأَشِـبِ
وقـال ذُو أَمْرِهِـمْ لا مَرْتَـعٌ صَــدَدٌ
للسَّارِحینَ ولیْـسَ الـوِرْدُ مِـنْ كَثَـبِ
أَمانیاً سَلَبَتْهُـمْ نُجْـحَ هَاجِسِهـا ظُبَـى
السُّیُـوفِ وأَطْـرَاف القـنـا السُّـلُـبِ
إنَّ الحِمَامَیْنِ مِـنْ بِیـضٍ ومِـنْ سُمُـرٍ
دَلْوَا الحیاتین مِـن مَـاءٍ ومـن عُشُـبٍ
لَبَّیْـتَ صَوْتـاً زِبَطْرِیّـاً هَرَقْـتَ لَـهُ
كَأْسَ الكَرَى وَرُضَابَ الخُـرَّدِ العُـرُبِ
عَداكَ حَـرُّ الثُّغُـورِ المُسْتَضَامَـةِ عَـنْ
بَرْدِ الثُّغُور وعَـنْ سَلْسَالِهـا الحَصِـبِ
أَجَبْتَهُ مُعْلِنـاً بالسَّیْـفِ مُنْصَلِتـاً وَلَـوْ
أَجَبْـتَ بِغَیْـرِ السَّیْـفِ لَــمْ تُـجِـبِ
حتّى تَرَكْـتَ عَمـود الشـرْكِ مُنْعَفِـراً
ولَـم تُعَـرجْ عَلـى الأَوتَـادِ وَالطُّنُـب
ِلَمَّا رَأَى الحَـرْبَ رَأْیَ العیـن تُوفَلِـسٌ
والحَرْبُ مُشْتَقَّةُ المَعْنَـى مِـنَ الحَـرَبِ
غَـدَا یُصَـرفُ بِالأَمْـوال جِرْیَتَـهـا
فَعَـزَّهُ البَحْـرُ ذُو التَّیـارِ والـحَـدَبِ
هَیْهَاتَ! زُعْزعَتِ الأَرْضُ الوَقُـورُ بِـهِ
عَن غَـزْوِ مُحْتَسِـبٍ لاغـزْو مُكتسِـبِ
لـمْ یُنفِـق الذهَـبَ المُرْبـی بكَثْـرَتِـهِ
على الحَصَى وبِـهِ فَقْـرٌ إلـى الذَّهَـبِ
إنَّ الأُسُـودَ أسـودَ الغـیـلِ همَّتُـهـا
یَومَ الكَرِیهَةِ فـی المَسْلـوب لا السَّلـبِ
وَلَّـى، وَقَـدْ أَلجَـمَ الخطـیُّ مَنْطِـقَـهُ
بِسَكْتَةٍ تَحْتَهـا الأَحْشَـاءُ فـی صخَـبِ
أَحْذَى قَرَابینه صَرْفَ الـرَّدَى ومَضـى
یَحْتَـثُّ أَنْجـى مَطَایـاهُ مِـن الهَرَبِـم
ُوَكلاً بِیَفَاعِ الأرْضِ یُشْرِفُـهُ مِـنْ خِفّـةِ
الخَـوْفِ لامِــنْ خِـفَّـةِ الـطـرَبِ
إنْ یَعْدُ مِنْ حَرهَـا عَـدْوَ الظَّلِیـم، فَقَـدْ
أَوْسَعْتَ جاحِمَهـا مِـنْ كَثْـرَةِ الحَطَـبِ
تِسْعُونَ أَلْفـاً كآسـادِ الشَّـرَى نَضِجَـتْ
جُلُودُهُـمْ قَبْـلَ نُضْـجِ التیـنِ والعِنَـبِ
یارُبَّ حَوْبَاءَ لمَّا اجْتُثَّ دَابِرُهُـمْ طابَـتْ
ولَـوْ ضُمخَـتْ بالمِسْـكِ لـم تَـطِـبِ
ومُغْضَبٍ رَجَعَتْ بِیـضُ السُّیُـوفِ بِـهِ
حَیَّ الرضَا مِنْ رَدَاهُمْ مَیـتَ الغَضَـب
ِوالحَرْبُ قائمَةٌ فی مـأْزِقٍ لَجِـجٍ تَجْثُـو
القِیَـامُ بِـه صُغْـراً علـى الـرُّكَـبِ
كَمْ نِیلَ تحتَ سَناهَـا مِـن سَنـا قمَـرٍ
وتَحْتَ عارِضِها مِـنْ عَـارِضٍ شَنِـبِ
كَمْ كَانَ فی قَطْعِ أَسبَـاب الرقَـاب بِهـا
إلـى المُخَـدَّرَةِ العَـذْرَاءِ مِـنَ سَبَـبِ
كَمْ أَحْـرَزَتْ قُضُـبُ الهنْـدِی مُصْلَتَـةً
تَهْتَزُّ مِـنْ قُضُـبٍ تَهْتَـزُّ فـی كُثُـبِ
بیـضٌ، إذَا انتُضِیَـتْ مِـن حُجْبِـهَـا،
رَجعَتْ أَحَقُّ بالبیض أتْرَاباً مِنَ الحُجُـبِ
خَلِیفَةَ اللَّهِ جـازَى اللَّـهُ سَعْیَـكَ عَـنْ
جُرْثُومَـةِ الدیْـنِ والإِسْـلاَمِ والحَسَبِـبَ
صُرْتَ بالرَّاحَـةِ الكُبْـرَى فَلَـمْ تَرَهـا
تُنَـالُ إلاَّ علـى جسْـرٍ مِـنَ التَّـعـبِ
إن كـان بَیْـنَ صُـرُوفِ الدَّهْـرِ مِـن
رَحِمٍ مَوْصُولَةٍ أَوْ ذِمَامٍ غیْـرِ مُنْقَضِـب
ِفبَیْـنَ أیَّامِـكَ اللاَّتـی نُصِـرْتَ بِهَـا
وبَیْـنَ أیَّـامِ بَـدْرٍ أَقْــرَبُ النَّـسَـب
ِأَبْقَـتْ بَنـی الأصْـفَـر المِـمْـرَاضِ
كاسْمِهمُ صُفْرَ الوجُوهِ وجلَّتْ أَوْجُهَ العَرَبِ





الهدف من دراسة النص الأدبی :
الوقوف على إبداعات الأدیب فی نصه وماتجلى فیه
من جمالیات جعلت القارئ ینفعل بها ویتأثر
مثلما انفعل بها الأدیب من قبل وتأثر ؛ انفعالاً وتأثراً یجعلانه
مشدوداً إلى مافی النص من سمات فنیة ترقى بالأدب , ومن
قیم موضوعیة تسمو بالإنسان إلى مراقی التقدم والكمال .

صفات الناقد الجید

-سلامة الذوق ؛ لأن المتنبی یقول :

ومن یك ذا فم مریض ,,, یجد مراً به الماء الزلالا .

-دقة الحس , فلابد من أن یتجاوب الناقد والأثر الأدبی
وینفعل به انفعالاً عمیقاً , فینتقل بكل حواسه إلى الجو
الذی عاش فیه الأدیب ویتقمص شخصیته .

- التجرد , فلایكون لهواه منفذاً إلى حكمه , فقد أنصف
النقاد المسلمون قبلاً الأخطل النصرانی , فینبغی أن لایكون
للهوا سلطان على حكم الناقد .

قبل تحلیل النص :

- معرفة الأدیب ( فالأدب یفسر الأدیب ,
وحیاة الأدیب تفسر الأدب )
فبعض النصوص الخالدة لانستطیع فهمها إلا بمعرفة قائلیها ,
ولانستطیع أن نعلل بعض الظواهر الأدبیة إلا بذلك
( لم أجاد الحطیئة الهجاء ولم یجد الفخر؟!!!)
علماً بأن من الباحثین من یرى إبعاد الآثار الأدبیة عن أجوائها.

-المناسبة :
وهی السبب المباشر لإنشاء النص , فالقصیدة
كالبركان یعتمل بالتوتر تحت سطح الأرض وساعة انفجاره تأتی متأخرة عن ساعة تكوینه , وهناك فئة من النقاد ترى
إبعاد النص عن مناسبته , وعن صاحبه لكی یحلل النص دون
نظر إلى الظروف المحیطة به , وهذا صحیح , ولكن المناسبة كالضوء الذی یساعدنا على رؤیة ماتحت النص , وعلى الدارس
أن لایغرق فی دراسة مناسبة النص وقائله , فتكون دراسة نفسیة .

- الزمان والمكان :
فمعرفة الزمان مهمة لمعرفة تطور الأجناس , والظواهر الأدبیة
ولمعرفة فضل من تقدم ومزیة من تأخر , ومعرفة المكان
تساعد على وصف الظواهر الأدبیة وتفسیرها , فأدب الصحراء
یختلف عن أدب المدینة , وأدب الریف یمتاز عن أدبی المدینة
والصحراء .

- قراءة النص :
على دارس النص أن یخلص إلى قراءة النص قراءة صحیحة
واعیة , تفحص عن فهمه له , وإحساسه به , ووقوفه على
مضمونه .

# تحلیل النص :

وهنا یتناول الشكل والمضمون كل على
حدة , دون أن ینسى أنهما مرتبطان بلا انفصال .

عناصر النص الأدبی:

الشكل :
1-بناء القصیدة:
- المطلع .
-الخاتمة .
-الطول .
-الوحدة .

2- اللغة ( الأسلوب ).
3- الصورة الأدبیة .
4- الموسیقا .

المضمون :

1- الأفكار .
2- العاطفة

أولاً : الشكل /

المطلع :
البیت الأول فاتحة القصیدة متى ماعثر علیها الشاعر انصب على موضوعه لأنه المفتاح الذی یدخل به المتلقی إلى فضاء النص .

# من الشروط التی حددت لجودة المطلع :

1-أن یكون خالیاً من المآخذ النحویة .
2- أن یكون معبراً عن مضمون النص وأن تراعى فیه جودة اللفظ
والمعنى معاً, ومن المطالع التی توحی بموضوعها قول أبی تمام :

السیف أصدق أنباء من الكتب ... فی حده الحد بین الجد واللعب

فموضوعها هنا ( الحرب والحماسة ).

كذلك لابد أن لا یكون مما یتشاءم منه أو یتطیر به , بل حسن الوقع على النفس بعیداً عن التعقید , واضحاً سلس النغم والجرس .

3-إن لم یكن رائعاً فینبغی أن لایكون بارداً كقول أبی العتاهیة :

ألا مالسیدتی مالها ... أدلاًّ فأحمل إدلالها

فمثل هذا الكلام لایناسب فی بدایة قصیدة تلقى بمناسبة اجتماعیةكبیرة یبایع فیها المهدی بالخلافة.

4-أن یكون نادراً انفرد الشاعر باختراعه كقول المتنبی :
الرأی قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهی المحل الثانی

ب الخاتمة :

استحسن نقادنا الأقدمون أن یكون البیت الأخیر مختاراً رائعاً
لأنه آخر ما یرتسم فی النفس ویعیه السمع.
وأحسن الانتهاء ماجمع الجودة والإشعار بتمام الكلام .
ومن ذلك قول علی السنوسی فی قصیدته ( كیف أصبحت )
كیف أصبحت وماذا تصنعین ... وإلى أی مكان تنظرین
ینعی على الأمة الإسلامیة ماوصلت إلیه من ذلة وهوان أمام أعدائها
ویثیر الحماسة لاسترداد الحقوق المسلوبة , فیختم القصیدة
بهذا البیت الملیء حماسة :

أفما آن لنا یاأمتی ... أن نرد الصاع للمستهترین

الطول /
لم یحدد القدماء طولاً معیناً للقصیدة ,
وكان شعراء العرب یمیلون إلى القصائد القصیرة لأسباب فنیة
واجتماعیة ونفسیة
منها : الرغبة فی التنقیح , والاكتفاء بماقل ودل .
ومنها :أن القصیدة القصیرة أروج وأسیر عند الحفاظ والرواة .
ومنها : حرصهم على تجنیب السامع السآمة والملل .

والمعدل المألوف الذی اتفق علیها شعراء المعلقات
ومن بعدهم حتى العصر الأموی یراوح بین ( 20--> 50 بیتاً ).

فالطول یحدد باعتبار المتلقی وباعتبار الوقت وكذا القائل
ویحدد بالتجربة الشعریة والثروة اللغویة .
وبالغرض من القصیدة , وبالوزن والقافیة , وكان ابن الرومی
یمیل إلى الأوزان والقوافی التی تساعد على إطالة القصیدة .

الوحدة :

وهی إما موضوعیة أو عضویة

1-الوحدة الموضوعیة :
إذا كان النص فی موضوع واحد , فهو ذو وحدة موضوعیة
فتكون القصیدة مدحاً أو وصفاً أو رثاءاً ......., وأغلب
الشعراء القدماء لم یلتزموا بوحدة الموضوع .
ولیست وحدة الموضوع أن یكون النص مدیحاً أو غزلاً
أو رثاءاً فحسب بل أن یكون النص مراعیاً مقتضى الحال
أی ( الغرض الأساس من القصیدة ).

2-الوحدة العضویة :
فلابد أن تكون عملاً فنیاً تاماً , فهی كالجسم الحی یقوم
كل قسم منها مقام جهاز من أجهزته , ولایغنی عنه غیره
فی موضعه إلا كما تغنی الأذن عن العین أو القدم عن الكف
أو القلب عن المعدة .
ومن علامات الوحدة العضویة براعة الأسلوب القصصی الذی
یساعد على الترابط والتلاحم فی القصیدة .

والوحدة العضویة فی الأدب القصصی أصل من أصوله
ولایجوز إهماله ولایمكن أن یسمى العمل الأدبی قصة بدونه
لأن القصة مبنیة على تلاحم الأجزاء مرتبة تعتمد على توالی
الأحداث وتأثیرها فی نفوس المتلقین .


الحدیث عن أبی تمام ..

الإسلام فی شعره .. بقلم: صدقی البیك

إنه حبیب بن أوس الطائی، خرج من إحدى قرى حوران فی جنوب سوریة، وأصبح شاعر المعتصم ومن حوله من القواد والولاة.


وإذا بدأنا بقصیدته (فتح عموریة) وجدناها تزخر بهذه المفاهیم، فالأبیات التی تفتتح بها القصیدة تمثل مفهوماً إسلامیاً واضحاً وهو محاربة الشعوذة وادعاء علم الغیب «كذب المنجمون ولو صدقوا» فلو كانت هذه الأجرام السماویة تدل على المستقبل لكشفت ما بمعالم الكفر:


لو بینت قط أمراً قبل موقعه
لم تخف ماحل بالأوثان والصلب

ولكن النصر الذی وفضح زیف المنجمین وكذبهم، كان فتحاً مبیناً وعملاً صالحاً یتقبله رب السماء.

فتح تفتح أبواب السماء له
وتبرز الأرض فی أثوابها القشب

وعندما یخاطب المعتصم یبین له أن مافعله كان رفعاً لنصیب الإسلام وقعراً لعمود الشرك، فالمعركة بین الإسلام والشرك، وأحدهما فی صعود والآخر فی انحدار:

أبقیت جد بنی الإسلام فی صعد
والمشركین ودار الشرك فی صبب

ویتمنى لو أن الكفر كان یعلم أن عاقبة أمره مرهونة بسیوف المسلمین من زمن سحیق، وأن ذلك التدمیر والإیقاع بالعدو هو من تدبیر رجل یعتصم بحبل الله وكل عمله لله:

لو یعلم الكفر كم من أعصر كنت
له العواقب بین السمر والقضب

تدبیـر معتصم بالله، منتقـم
لله، مرتقـب فی الله مرتغـب

ویختم قصیدته بالدعاء للخلیفة بأن یجزیه الله خیر الجزاء على ما قدمه من الخیر والنصر للإسلام، فإن هناك رابطة قویة تشد هذه المعركة إلى أختها فی بدر.

خلیفة الله جازى الله سعیك عن
جرثومة الدین والإسلام والحسب

فبین أیامك اللاتی نصرت بها
وبین أیـام بدر أقرب النسـب

قصة فتح عموریة

فی تاریخ الطبری 9 \ 56-57 و الكامل فی التاریخ 6 \ 479 و ما بعدها , و النجوم الزاهرة 2 \ 238 .فی الحدیث عن السبب فی غزو المعتصم بالله لعموریة :



خرج توفیل بن میخایل ملك الروم إلى بلاد المسلمین فی سنة ثلاث و عشرین و مئتین , و أوقع بأهل زبطرة و غیرها , و یقال :



قتل من بها من رجال و سبى الذریة و النساء , و أغار على أهل ملطیة و غیرها من حصون المسلمین , و سبى المسلمات , و مثل بمن صار فی یده من المسلمین و سمل أعینهم , و قطع أنوفهم و آذانهم .



فبلغ الخبر المعتصم فاستعظمه , و كبر لدیه , و بلغه أیضاً أن إمرأة هاشمیة صاحت و هی أسیرة فی ید الروم :



وا معتصماه !



فأجابها و هو جالس على سریره :



لبیك لبیك !



و نهض من ساعته , و صاح فی قصره :



النفیر النفیر



ثم ركب دابته , و سمّط خلفه حقیبة فیها زاده , فلم یمكنه المسیر إلا بعد التعبئة , و جمع العساكر , فجلس فی دار العامة و أحضر قاضی بغداد و آخرین من أهل العدل , فأشهدهم على ماله فجعل ثلثاً لولده و ثلثاً لله تعالى و ثلثاً لموالیه .

ثم سار فعسكر بغربی دجلة للیلتین خلتا من جمادى الأولى و و وجه مجموعة من قواده إلى زبطرة معونة لأهلها , فوجدوا ملك الروم قد إنصرف عنها إلى بلاده , بعدما فعل ما فعل , فوقفوا حتى تراجع الناس إلى قراهم و اطمأنوا .

فلما ظفر المعتصم ببابك قال : أی بلاد الروم أمنع و أحصن ؟ فقیل : عموریة , لم یتعرض لها أحد منذ كان الإسلام , و هی عین النصرانیة , و هی أشرف عندهم من القسطنطینیة . فسار المعتصم إلیها و قیل : كان مسیره فی سنة اثنین و عشرین , و قیل : أربعة و عشرین , و تجهز جهازاً لم یتجهزه خلیفة قبله قط من السلاح , و العدة و الآلة , غیرها

و لما علم بذلك الروم فقالوا :

و الله إنا لنروی أنه لا یفتحها إلا أولاد الزنا !

و إن هؤلاء أقاموا إلى زمان التین و العنب لا یفلت منهم أحداً !

فبلغ ذلك المعتصم فقال :

أما "إلى وقت التین و العنب " فأرجو أن ینصرنی الله قبل ذلك , و أما" أن یفتحها أولاد الزنا " فما أرید أكثر ممن معی منهم

فجهز جیشه و أعد عدده و خرج للغزو .

و یقال : لما نزل المعتصم على عموریة هجم الشتاء , فأرسل إلیه أهلها أن عموریة لا تفتح إلا بعد نضج التین و العنب .

و یقال : أن بعض من كان بعموریة من الرهبان قال :

إنا نجد فی كتبنا أنه لا یفتح عموریة إلا ملك یغرس فی ظهرها التین و الكرم , و یقیم حتى تثمر , فأمر المعتصم بأن یغرس التین و الكرم فكان فتحها قبل ذلك .

و یقول السیوطی : و كان لما تجهز المعتصم بالله لغزو عموریة حكم المنجمون أن ذلك طالع نحس , و أنه یكسر , فكان من نصره و ظفره ما لم یخفَ ( انظر : تاریخ الخلفاء ص 336 ) .

قلنا أن المعتصم تجهز جهازاً لم یتجهزه خلیفة قط من السلاح و العدد , و توجه إلى بلاد الروم , فأقام عند نهر اللمیس فیها , و هو عند سلوقیة قریباً من البحر و أراد المعتصم أن یوقع الرعب فی قلوب الروم قبل أن یصل إلى عموریة و لهذاّ دبّر النزول على أنقرة , فإذا فتحها الله علیه صار إلى عموریة , إذ لم یكن مما یقصد له فی بلاد الروم أعظم من هاتین المدینتین , و الأحرى أن تجعل غایته التی یؤمها .

و تمكن من تدمیر أنقرة أسر جنودها و قتل فرسانها و سبی نسائها ثم جعل العسكر ثلاث عساكر میمنة و میسرة و قلب و أمر كل عسكر أن یكون له میمنة و میسرة و امرهم ان یحرقوا القرى و یخربوها و بأخذوا من لحقوا فیها ففعلوا حتى وافوا عموریة , و داروا حولها و قام المعتصم بتقسیم عموریة بین قواده , و جعل لكل منهم أبراجا منها على قدر أصحابه , و علم أن موقعا من المدینة وقع سوره من سیل قد أتاه , فبنی وجهه بالأحجار و لم یدعم ما وراءه فرأى المعتصم ذلك المكان فأمر فضربت له خیمة هناك و نصب المجانیق على ذلك الموضع , فانفرج السور عن ذلك الموضع و اندفع المسلمون و هم یكبرون , و تفرقت الروم عن أماكنها و قد غلبهم الرعب فجعل المسلمون یقتلونهم فی كل مكان حیث وجدوهم , و أخذ المسلمون من عموریة أموالاً لا تعد و لا توصف , فحملوا منها ما أمكن حمله , و أمر المعتصم بتهدیم أبراجها , و إحراق ما بقی منها , و إحراق ما بقی من المجانیق و الآلات كی لا یتقوى بها الروم على شیء من حرب المسلمین , و كانت إقامته فی عموریة خمسة و عشرین یوماً لا غیر .
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:58|
شاعر الجلال عباس محمود العقاد


یعتبر العقاد ظاهرة أدبیة وفكریة خارقة فی دنیا الفكر والأدب فهو كالجاحظ أدیب موسوعی لم یقصر نشاطه على حقل من حقول المعرفة وإنما سعى إلى الثقافة ككل ونظر إلیها على أنها كل لا یتجزأ.

والذی یبهر فی هذا الكاتب عصامیته فهو إن اكتفى فی تعلمه النظامی بنیل الشهادة الإبتدائیة فقد كدح فی سبیل المعرفة كدحا وأخلص فی طلبها مضحیا بالزوجة والولد ومتاع الدنیا مكتفیا بما یسد الرمق ویحفظ ماء الوجه.

وأما الصفة الثانیة الباهرة فیه فهی حبه للحریة وإیمانه بأنها أساس الصلاح فی الفرد وتعلقه بالحریة دفعه إلى الذود عن كرامته والاعتزازبنفسه حتى لكأنه أحد آلهة الإغریق. ولقد كان لویس عوض على حق حین قال :" صورة العقاد عندی لا تختلف عن صورة هرقل الجبار الذی یسحق بهراوته الأفاعی والتنانین والمردة وكل قوى الشر فی العالم" مارس العقاد النقد والتراجم والمقال وأخرج كتبا آیة فی تحری الدقة العلمیة والحقیقة مستعینا بقلمه السیال وبثقافته الجبارة فی شتى شؤون المعرفة. فلقد عرف العقاد بالعبقریات وبقصة سارة وبالدیوان فی الأدب والنقد وبسیرته الذاتیة "أنا" وبهذه المؤلفات شاع بین الباحثین والأساتذة والطلبة. غیر أن الثابت أن الذی كان یحز فی نفس الأستاذ العقاد- رحمه الله- أنه لم یشع كشاعر وأن شهرة حافظ وشوقی كانت تؤلمه أعمق الألم ، ولاغرو فی ذلك فالعقاد یرى أن الشعر مقتبس من نفس الرحمن وأن الشاعر الفذ بین الناس رحمن أولیس هو القائل

والشعر من نفس الرحمن مقتبس

والشاعر الفذ بین الناس رحمن

بلى فالشاعر تفضی إلیه ألسنة الدنیا بأسرارها فهو روح الوجود وضمیره والشاعر أعلى درجة من غیره ومن وصل إلى هذه المرتبة فقد حقق أعظم مأرب فی الحیاة.

ولقد أخرج العقاد عدة دواوین شعریة وأعطاها عناوین تتماشى وسنی عمره " یقظة الصباح" "وهج الظهیرة" " أعاصیرمغرب" " أشجان اللیل" ودیوان آخر رصد فیه وقائع الحیاة الیومیة على عادة شعراء الغرب أسماه " عابر سبیل". ویجدر بنا قبل التطرق إلى شعر العقاد أن نعرف موقفه من الشعر فلقد عرف الكاتب الشاعر بخصومته العنیفة لأنصار شعر التفعلیة ولما كان عضوا بالمجلس الأعلى للآداب والفنون ومقررا للجنة الشعر كان یحیل قصائد التفعلیة على لجنة النثر للاختصاص فلقد حارب هذا النوع من الشعر وكان یسمیه الشعر السائب . فهو من المحافظین على عمود الشعر دون الخروج على الأوزان الخلیلیة فالوزن والقافیة هما حدا الشعر وما یمیزه عن النثر، والشاعر الفذ هو الذی یعبر عن أفكاره وأحاسیسه محافظا على الوزن والقافیة دون أن یحد الوزن من قدرته التعبیریة ، إن الشعر عند العقاد فن محكوم بالقیود وهو مناورة بها یتمیز الشاعر عن الشویعر والشعرور.

ولم یقف العقاد عائقا أمام سنة التطور فالتجدید فی الشعر ضرورة من ضرورات العصر وقد مارسه أجدادنا فأبدعوا الموشحات والأزجال والمجزوء ومخلع البسیط ونوعوا القوافی حتى تتأتى المرونة فی التعبیر وتتحقق المتعة الفنیة ویتحاشى السأم من الرتابة المملة فی الوحدة، وهكذا مارس العقاد التجدید فی الشعر بتنویع القافیة واستعمال المجزوء والاستعانة بالأوزان الخفیفة فی الرمل والخفیف والمتقارب والمدید ، وأضاف الى ذلك قصر الشعر على الوجدان وقد كان شعار مدرسة الدیوان :

ألا یا طائر الفردو

س إن الشعر وجدان

وتحاشى المدیح الزائف والریاء الكاذب والمبالغة الحمقاء وفی دیوان " عابر سبیل" قصر الشعر على هموم الحیاة الیومیة كقصیدة الكواء، لیلة العید وفی هذا الدیوان بالذات قصیدة عن طفل صغیر شرب على وجه الخطأ (الجعة) البیرة فاستمرأها واستحلاها فیقول العقاد على لسان الطفل - وهو إمعان فی الواقعیة الشعریة والصدق الفنی- (البیلا البیلا ) عوض البیرة البیرة لأن كثیرا من الصغار ینطقون الراء لاما .

وهكذا فقارئ شعر العقاد یقف أمام عمارة نحتت أحجارها بإزمیل وأحجارها من جرانیت أسوان لا یبهرك الجمال فی تلك العمارة بقدر مایبهرك الجلال فالعقاد كما یرى تلمیذه زكی نجیب محمود شاعر الجلال ، ولنا فی تفسیر نزوع الشاعر هذا المنزع رأی مستمد من التركیبة النفسیة للعقاد المنبهرة بالبطولة الممجدة للأبطال ولعل قامته الهرقلیة وعصامیته الأسطوریة زادتا فی تقدیره لنفسه ومواهبه ومن ثمة إعجابه بشخصه وهو موقف یؤدی بصاحبه إلى العزلة فی جبل الأولمب مع آلهة الإغریق ویصبح الجلیل والعظیم هو ما ینزع إلیه ذلك الشخص ولسنا ننفی صفة الجمال الفنی فی شعره ففی بعض قصائده لمحات فنیة جمیلة إقرا شعره فی وصف الشاعر واكتناه أغوار نفسه واستمتع بكلماتها الفنیة الجمیلة:

    یجنی المودة مما لاحیــــــاة لــــــــه
    إذا جفاه من الأحیـــــاء خـــوان
    ویحسب النجم ألحاظا تساهـــــــــره
    والودق یبكیه دمع منـــه هتــان
    إذا تجهم وجه الناس ضاحكــــــــــه
    ثغرالورود ومال السرو والبان
    تفضی له ألسن الدنیا بما علمــــــت
    كأنما هو فی الدنیا سلیمــــــان
    والشعر ألسنة تفضی الحیاة بهـــــــا
    إلى الحیاة بما یطویه كـتــمــان
    لولا القریض لكانت وهی فاتنـــــــة
    خرساء لیس لها بالقول تبــیــان
    مادام فی الكون ركن فی الحیاة یرى
    ففی صحائفه للشعر دیـــــــوان

وفی قصیدة " العقاب الهرم " وهی قصیدة موحیة بمعانی العظمة المقهورة بالزمن، إنها قصة عقاب هرم فعجز عن الصید وصارت فرائسه تمرح أمامه نظرا لعجزة، وینسحب هذا المعنى على الأشخاص العظماء والدول الكبرى إنه الجلال عندما یشیخ، یقول الشاعر عن العقاب:

    یهم ویعییه النـــهــــوض فیجثــــــــم
    ویعزم إلا ریشه لیس یعــزم
    لقد رنق الصرصور وهو على الثرى
    مكب وصاح القطا وهو أبكم
    یلملم حدبـــاء الــقــدامــــــى كـــأنـــها
    أضالع فی أرماسها تتهشــــم
    ویثقله حمل الجـنـاحیـــــن بعــدمـــــــا
    أقلاه وهو الكاسر الـمتقــحــم
    إذا أدفأته الشمـس أغفـــــى وربمــــــا
    توهمها صیدا له وهو هیثــــم
    لعینیك یا شیخ الطــیـور مـهــــابـــــــة
    یفر بغاث الطیر عنها ویهـزم
    وما عجزت عنك الــــغـــداة وإنـمـــــا
    لكل شباب هیـــبة لا تهـــــرم

وفی قصیدته عن "أسوان" وقصرها الفرعونی العتیق الذی زاره الشاعر هنا نقف أمام الجلالین جلال المعمار الهندسی وجلال التعبیر الفنی عند الشاعر یقول العقاد:

    رعى الله من أسوان دارا سحیــــقة
    وخلد فی أرجائهــا ذلك الـقـصـــــرا
    أقام مقام الطود فیهـا وحـــــولـــــه
    جبال على الشــطـیـن شــامخة كبـرا
    ولیلة زرنا القصر یعـلـــو وقــــاره
    وقار الدجى الساجی وقد أطلع البدرا
    قضى نحبه فیه الزمـان الذی مضى
    فكان له رسمـا وكان لـــــه قــبـــــرا
    فیاوجه "أوزیریس" هــلا أضــأتـها
    وأنت تضئ السهل والجبل الـوعرا
    فما رفـعـــت إلا إلــــیــك تــجــلـــة
    ولا رفعت إلا إلى عرشك الشـكـــرا
    ولست ضنینا بالضــیــــاء وإنــمـــا
    لكل إله ظلمة تحجــــــب الفــكـــــرا

واحص مفردات العظمة والجلال فی هذا المقطع من مثل : الطود، شامخة ،كبرا، وقاره، قضى نحبه فیه الزمان، تجلة، رفعت إله ……إلخ أما ناقدنا الكبیر الدكتور شوقی ضیف فیری أن العقاد أقحم الفكر والمنطق فی الشعر فجاءت قصائده دلائل منطقیة ومسائل عقلیة لغلبة الفكر والحجاج على الكاتب الشاعر العقاد وأنت واجد مثل هذا فی شعره. إقرأ هذا المقطع معی لتقع على صحة هذا الرأی :

    وهذا إلى قید المحبة شاخـــــص
    وفی الحب قید الجامح المتوثـــــب
    ینادی أنلنی القید یا من تصوغه
    ففی القید من سجن الطلاقة مهربی
    أدره على لبی وروحی ومهجتی
    وطوق به كفی وجیدی ومنـكـبــــی
    ورب عقیم حطم العقــــم قیــــده
    یحن إلى القید الـثـقیل عــلـى الأب

فهذه فلسفة عمیقة تؤكد أن لا حیاة بلا ضرورة وأن القیود مهماز القریحة والإرادة الانسانیة . أما هذا المقطع فهو زبدة التأمل والتفكیر لا یتأتى إلا لأولی الفكر والحجاج:

    والعقل من نسل الحیاة وإنما
    قد شاب وهی صغیرة تتزین
    والطفل تصحبه الحیاة وماله
    لب یصاحب نفسه ویلقــــــن
    إن العواطف كالزمام یقودنا
    منها دلیل لا تراه الأعیـــــن

على أن فی بعض قصائد العقاد غنائیة شجیة استلها من مكنون ضمیره وسلخها من تباریح وجدانه وآهات نفسه وقل فی الشعر العربی من بلغ هذه الغنائیة الحزینة حتى المتنبی الذی یقول :

    یا ساقیی أخمر فی كؤوسكما
    أم فی كؤوسكما هم وتسهید؟
    إن طلبت كمیت اللون صافیة
    وجدتها وحبیب النفس مفقود
    یقول العقاد
    ظمآن لا صوب الغمـــــــــــــام ولا
    عذب المدام ولا الأنداء تروینی
    حیران حیران لا نجم السمــــاء ولا
    معالم الأرض فی الغماء تهدینی
    یقظان یقظان لا طیب الرقاد یـــــدا
    نینی ولا سحر السمار یلهینــــی
    غصان غصان لا الأوجاع تـبـلینی
    ولا الكوارث والأشجان تبكـینی
    سأمان سأمان لا صفو الحیـــاة ولا
    عجائب القدر المكنون تعنینــــی
    أصاحب الدهر لا قلب فیسعدنـــــی
    على الزمان ولا خل فیأسونــــی
    یدیك فامح ضنى یا موت فی كبدی
    فلست تمحوه إلا حین تمحونـــی

وبعد فهل العقاد شاعر ؟

وجو ابنا نعم إنه شاعر ولئن طغت شهرته كناقد وقصصی و كاتب مقالات و باحث فی سیر العظماء فلن نبخسه حقه فی إلحاقه بمملكة الشعر ، ونزعم أن له فی وادی عبقر الهاتف الذی یزین له زخرف القول وفی تقدیرنا أن الشعر الحدیث الذی جدد بهاءه وأحیا مواته البارودی وحافظ وشوقی ، ونفخت فیه روح الحیاة جماعة "أبولو" بروما نسیتها الحزینة والرابطة القلمیة بانطلاقتها الوثابة، إن هذا الشعر بحاجة إلى دواوین العقاد وإن موقفه من الشعر صحیح سلیم ولو أنه یفهمه كما فهمه كبار شعراء الإنجلیز ودیوان " عابر سبیل"یعتبر فتحا فی الشعر العربی بعد أن عفر جبینه أحقابا أمام قصور الخلفاء فالشعر صورة من الحیاة ونسل مبارك من رحمها وفی الحیاة أطیاف ومشاعر و طرائق قدد یتسع لها الشعر جمیعا بما فیها الفكر وثمار العقل وهذه هی أهمیة العقاد كشاعر.

ولعل نقیصته الوحیدة تحامله الشدید على شوقی لسبب نفسی أكثر منه فنی ثم حملته الشعواء على شعر التفعیلة الذی توطدت دعائمه وبذخت صروحه وكان فتحا جدیدا فی حیاتنا الأدبیة.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:57|
إشكالیة الحداثة فی القصیدة العربیة الحدیثة


" كما أن الخیال یُجسِّم صور الأشیاء الغیر معروفة، فإن یراع الشاعر یُحیلها إلى أشكال ویمنح، الأشیاء الشفیفة حیزا محدودا ویجعل لها اسما " ـ شكسبیر ـ

لكل عصر همومه، ومشاكله وقضایاه، والإنسان مُطالَبٌ فی كل عصر بأن یواجه الحیاة بما یلائمها من سلوك، ومن خلال هذه المواجهة تتجذّر قیم العصر وتتبلور مُثُلُـه؛ والمواجهة هنا مُعاصَرة الحیاة من ناحیة، ومواجهتها بعلاقات، وسلوكات فردیة وجماعیة تتجدد باستمرار فی نسقها.

والتجدید من سنن الكون، والإنسان معنی دائما بالتجدید والتحدیث والعصرنة لما تنطوی علیه هذه العناصر من تقدم، وتطور تسمح بتحقیق مستوى أفضل من العیش. والتقدم مجالاته عدیدة، وغیر مقتصرة على الجانب المادی وحسب؛ إنما یطال المجالَ الروحیَّ والنفسیَّ للإنسان، وإحداث التوازن بین المجالین المادی والروحی، وإذ یستهدف أیضا الارتفاع بمستوى العقل الإنسانی والمعرفة الإنسانیة، لِـمَا تهدف إلیه من تحقیق ذاتیة الإنسان، وإبراز مواهبه، واحتضانها، وتوظیفها لخیر الإنسانیة، وتفجیر طاقاته الكامنة مما ینتج عنه فرصُ الإبداع والابتكار،واتساع المجالات التی یتجلى فیها ذلك الإبداع وخصوصا فی میادین الإبداع الأدبی والفنی.

إن المقصود بالإبداع هنا..الإبداع البَنَّاء الذی یستند إلى جذور الأمة،ورقیها وتطلعاتها المعاصرة، فالتلازم ضروری بین الأصالة والحداثة..وهذا التلازم لا یتحقق إلا بفعل الإبداع،لأن الإبداع هو ماهیة الفن،والفن شكلٌ ومضمونٌ، فالشكل هو صیغة التعبیر، والمضمون هو الموقف. وما تعبیر الحداثة فی الأدب والفن إلا مرادف لتعبیر الإبداع.والدعوة إلى الأصالة فقط تؤدی إلى تقلید التراث، وتكراره وفی ذلك جمود الفن وزواله، والدعوة إلى المضمون فقط یؤدی إلى إخراج العمل الفنی عن معناه.لكی یصبح بوق دعایة لاتجاهٍ فكری، أو سیاسی أو عقائدی
الإبداع الأصیل

ما دمنا سنقتصر فی هذا المقال على العملیة الإبداعیة فی الأدب وما یعْتوِرُها من دعوات حداثویة لكی تسایر عصرها هذا، فإن العملیة الإبداعیة النظیفة، والصادقة فی الأدب هی عبارةٌ عن تشكیل جدید للعالم وللحیاة،وفق منظور المبدع، ونوازعه، ورؤاه الخاصة.

ومن العبث أن تتحول تلك العملیة إلى تصورات تحمل فی طیاتها بواعث الهدم،ونوازع الشر فی النفس البشریة، ویتحول العمل الإبداعی إلى مِعْول یهدم القیم الإنسانیة، والأخلاق الاجتماعیة، وتفكیك عُرى الروابط، والضوابط التی تحكم الحیاة؛ فالأدیب المبدع یُشْترَطُ فیه أن یكون خیّراً ذا عاطفة رقیقة،محبا للإنسانیة،مدركا لضعفها البشری، ذا نفس تفیض حبا وحنانا، متذوقة للجمال، وقادرة على إشعاعه لدى الآخرین؛ ومنْ فقد هذه الممیزات، لا یستحق أن یكون فی صف المبدعین. وانطلاقا من هذه الخصائص، یمكن القول بأن العملیة الإبداعیة،هی تلك الحالة المركبة من إحساس،ومشاعر وانفعالات، وعملیات عقلیة ونفسیة معقدة،یعیشها المبدع ویعاینها،فتفرض علیه اختیارات معینة تظهر فی أثَرٍ إبداعی معین.
الفنان المبدع

وقد یقترب هذا الرأی من قول المرحوم المفكّر اللبنانی الدكتور "حسین مروة " فی وجوب توفیر خصائص معینة فی الفنان المبدع:

« الفنان المبدع لا بد أن نلاحظ فی إبداعه النزعةَ الجمالیةَ، الأداة الجمالیة، التعبیر والصیاغة، ثم الأداة المعرفیة التی تطور أداة التعبیر والصیاغة، ثم النبع العاطفی والوجدانی الذی یصدر عنه الأدب الإبداعی،هذا شیء أساسی فی الفن.. فی الفن المكتوب، والمسموع، أو المقروء، أو المرسوم.
الإبداع من خصائصه الإدْهاش

وعلى هذا فالإبداع فی الأدب لابدّ أن یتضمن التجدید، فالإبداع من خصائصه الإدهاش، والمفاجأة.. أن یحمل الغیرَ المتوقعَ.. الشیء الجدید الذی یفتح العین، ویدع المتلقی یعید النظر فیما یقرأ.. الإبداع یفتح عین المتلقی.. یدهشه.. یذهله..یحلق به إلى عوالم أخرى..عوالم فسیحة..

التجدید فی الأدب معناه ابتكار ما هو غیر مألوف.. إدهاش الغیر بالتجدید البنّاء الذی یهزّ النفس، ویغذی الروح. ومن أجل ذلك فإن ظاهرة التجدید، والتحدیث فی المجال الفنی والإبداعی دائما تتجلى أولا فی أعمال الأدباء، وتطال ظاهرة التجدید كل الفنون التی یبدعها الإنسان،إلا أنها تبرز أكثر فی الشعر – لكونه فنا یأتی فی مقدمة هذه الفنون، ولیس فی الفن تقلیدٌ، فالفن جدید ومتجددٌ دوما،لأن الفن لیس علما بالدرجة الأولى، ولكونه موهبة یستمد منها العلمُ نظریاته.

فالأشكال الفنیة،والأسالیب المتبعة تعبیریا،لا یمكن أن تخضع للقواعد والمناهج النظریة، وإنما تنبع من ذات الفنان فتعبر عن شخصیته، فكم من أعمال فنیة رائعة عاشت آلاف الأعوام،فی حین ماتت أعمال أخرى یوم رأت النور مباشرة. والعمل الفنی لا یعیش إذا لم تكن له شخصیة تمیزه عن الأشكال الفنیة الأخرى، وإنْ تقارب معها فی النسق واللون..
عندما یكون الشعر موقفا..!!

إن الشعر حالةٌ وجدانیةٌ فكریةٌ، یتركز فیها الذهن على نقطة معینة من صورة.. من فكرة..من قضیة والشعر تعبیر عن العاطفة، وما یثیر فی النفس من دقائق الشعور وما یؤثر فیها من صور الجمال، وحقائق الحیاة؛ وهو من أجل ذلك یتأثر بالعصر، وبالبیئة، وبظروف الحیاة التی تتطور باستمرار. فالضرورة تستلزم أن یرافق تطورَ الحیاة تطورٌ مماثلٌ فی الفنون، وخصوصا فی الفن الشعری لكونه یأتی فی مقدمة هذه الفنون كما سبق. والتجدید فی الشعر، والافتتان فی إبداعه شكلا ومضمونا یقتضی التحدث عن إشكالیة " الحداثة " التی تُُعتبر هاجسا طبیعیا فی الأدب والفن. معْنى الحداثة فی الإبداع الأدبی

مصطلح الحداثة وافدٌ علینا فی العالم العربی كأغلب الاتجاهات الفنیة المعروفة، ویعنی المصطلح لدى البعض من المبدعین الأدباء،الدخول فی تجاربَ تتعلق بالبناء الشكلی للقصیدة وخصوصا،اللغة وهذا بالطبع على حساب المضمون الكیانی للقصیدة،لكوْن القصیدة فی رأی هذا البعض،تنتمی إلى تجربة، ولا تنتمی إلى شرح أو تحلیل.

المرحوم الدكتور إحسان عباس لا یوافق على هذا الرأی، إذْ یرى بأن عالم الفن والإبداع أكبرُ وأسمى من أن یتحول إلى مختبر للتجارب، فعالم الفن غایته الوصول إلى نَتاجٍ فنی إنسانی راقٍ،إذ هو أشبه ببناء لشیء جدید من أشیاء أخرى،إنما انطلاقا من یقین مسبق بأن هذا البناء سیُفْضی بالتأكید فی النهایة إلى تحفة فنیة رائعة،عكس العالم فی مختبره،بین یدیه مواد مختلفة یجعلها مادة لتجاربه المتكررة دون یقین مسبق بالوصول إلى نتیجة معروفة،أو شیء جدید معلوم بالتأكید منذ البدایة.

والأدیبة المعروفة " غادة السمان " تؤكد على أن لكل فنان كل الحقوق بما فیها حق التجربة، وحق المعاصرة،وصولا إلى حق الرداءة.لكنها تقنِّـن هذا الحق، وتضع له قیودا حتى لا یتحول إلى تعسف، والتعسف كما هو معروف فی استعمال الحق المضر بالغیر،یعتبر جُـرْما.

ولطالما أن الأدباء.. یختلفون فی أحقیة التمتع بهذا الحق التجریبی، وهم یبدعون فلنبق مع مصطلح الحداثة فی مضمونه الشعری، حیث هو مغامرة عفویة تفیض بالحدس والكشف عن إدراك خاص للعالم إدراكا یهدم نظام التصورات المألوفة لیعید توزیعها، وبناءها من جدید.. فالحداثة تنزِع الأشیاء المألوفة من كیانها المعتاد، وتعمل على بنائها من جدید فی سیاق آخر مدهش وغیر متوقع، قد یدهش المتلقی ویثیره من خلال تفجیر أقصى طاقة إیحائیة وانفعالیة لدیه، بحیث یدرك معنى إعادة ترتیب التجربة الإنسانیة، وإعادة تكوینها وتفسیرها من جدید.

فلا ضیْر ألا یرى البعض من النقاد والأدباء فرقا بین العملیة الإبداعیة وممارسة الحداثة فی العمل الفنی والأدبی لكونهما مغامرة عفویة تفیض بالحدس، والكشف عن عوامل أخرى. یعید الفنان المبدع إعادة صیاغتها فی تجربة إنسانیة مدهشة تفجر طاقات إیحائیة وانفعالیة لدى المتلقی،فالحداثة تعنی حضور التوهج الشعری، ونحن نتكلم عن الشعر
ضرورة التجــدید

إن الوزن والقافیة فی القصیدة العربیة العمودیة عملٌ تنظیریٌ تَوصّل إلیه الخلیل بن أحمد،لأن الشعر العربی كان سباقا على هذا التنظیر بمئات السنین، فالأوزان، والقوافی المعروفة لدینا الیوم لا تعدم توصّل العرب قبل الخلیل بن أحمد إلى أوزان أخرى.. هذه الأوزان لدینا الیوم، لا تستنفد إمكانات الإیقاع، وإمكانات التشكیل الموسیقی الذی قد یظهر لاحقا فی اللغة العربیة، وإنما ما هو معرف لدینا یُمثل ما استخدم، واستقر فی التراث الأدبی، وما عُـرف فی الثقافة العربیة المعاصرة.

ویؤكد هذا الرأی وإن كان فی سیاق آخر الشاعر العراقی شفیق الكمالی الذی یرى:

« أن الشعر العربی الذی وصلنا إلى أیام الخلیل بن أحمد لیس كل الشعر العربی الذی قیل، فالكثیر من هذا الشعر ضاع،ویجوز أن یكون بین هذا الذی ضاع أعداد كبیرة من هذه القصائد التی تُعتبر ُغیر موزونة.وهذه امتداداتها موجودة الآن فی شعر البادیة. وإذا كان الشعر هو الانتماء للعفویة والبراءة المطلقة والطیران فی فضاءات الحریة وولوج الزمن، وإعادة تشكیل الحیاة المألوفة فی عالم آخر سحری،ألیس من حق الشاعر أن یرفض اتجاها یقال: إنه صالح لكل زمان ومكان؟ »
بناء القصیدة الجدیدة

وعلیه فإن تحریر الشكل الشعری من كل شرط سابق، أو قالب مسبق، یفترض دائما شكلا معینا لكل قصیدة، وأن الشكل لا یعنی الوزن والقافیة أو انعدامهما بالضرورة. إن الحداثة فی الشعر الحدیث تقتضی أكثر من وزن وقافیة، فالشكل الحدیث هو حركة القصیدة، وطریقة تكونها، ومراحل نموها،وعلاقة أجزائها ببعضها البعض، والأصوات الداخلیة فیها، والإیقاع الموسیقی فیها.

ولئن كانت الحداثة الشعریة تجدیدا فی الشكل والمضمون للقصیدة العربیة الحدیثة، فإنها لا یمكن أن تُـبنى فی فراغ تراثی، أو حضاری إنما تجمع بینهما، والفنان المبدع من استطاع حقا التوفیق بین العصر والتراث، وهی إشكالیة تباینت فیها مواقف الشعراء والنقاد، إذ یرى البعض من هؤلاء أن الحداثة ذات بعد شكلی ( شكلی لغوی ) وحسبْ، وقد لا یربط البعض بین موقف المبدع من اللغة، وبین موقفه من الحیاة، والبعض الآخر یعتبر الحداثة (موقفا) و(رؤیا) شمولیتین من الحیاة والزمن بأبعاده الثلاثة.

غیر أننا نعتقد أن الحداثة كلٌّ متكاملٌ..رؤیة شمولیة بُنیویة لقصیدة تشمل فی الأساس موقف الشاعر، ورؤیته الفلسفیة الفكریة من الوجود والمجتمع؛ ولذا فإن أی موقف لغوی شكلی،لا یعنی إطلاقا أن الشاعر أصبح حدیثا،ما لم یكن له موقف ورؤیا تتسمان بالحداثة، وبقدر ما تنطبق الحداثة فی الإبداع من حقائق اللغة، وحیویة الفكر، و تجاوز المبدع لأطر الزمان والمكان، والبیئات، والأفكار السائدة والمستقرة لكون الحداثة الإبداعیة متغیرةٌ باستمرار و إلا ما اعتبرت حداثة.
الحداثة لا تعنی الفوضى..

والحداثة الإیجابیة بالطبع تنْحو نحْو الخیر، وتُقاوم الشر فی كل صوره،ولا تعنی الحداثة أبدا الدخول فی فوضى التجریب والعمى عن رؤیة الواقع، أو الإعراض عن القیم والثوابت للأمة،إذ لابد من تحقیق الأصالة، والمسؤولیة التاریخیة، والاستفادة من التراث؛ لأن الرغبة الجامحة والعمیاء فی تحطیم القیم النبیلة تعسفٌ فی استعمال حقٍّ خاصٍ قد یؤدی بالغیر إلى الضرر.

والحداثة لا تعنی التجردَ من الغائیة، فكل إبداع یتم ویتشكل بمعزل عن الحیاة ذاتها مآله العدم،لأنه إبداع دون غایة، أو هدف إنسانی. ولن ینمو فی الآخرین أیضا بل یظل حبیس المغامرة الفردیة،لأن الإبداع لا یكون بهذه الصفة ما لم یعبر عن حالات، وأوضاع إنسانیة راصدا ومبرزا المتغیرات النوعیة التی تطرأ على الحضارة،بما یخدم التطور البشری، ویفتح آفاقا جدیدة یرتادها الآخرون من أجل حیاة أفضل.
الشاعر الفنّان الأصیل

إن التطلع إلى الحداثة فی شتى مجالات الأدب والفن أمرٌ مشروعٌ،إنما یقتضی انتقاء موضوعیا مرتبطا بقیم الأمة وتطلعاتها ومكانتها.والمرحوم الشاعر العراقی " عبد الوهاب البیاتی " یشترط فی الشاعر الأصیل عدة شروط یحددها كما یلی:

« الشاعر الأصیل یُولد من خلال المعاناة وینمو وینضج ببطء،معانقا الواقع والتحولات فی تاریخ أمته وشعبه،لا أن یستعیر أزیاءه وأدواته من تراث الأمم الأخرى ».

حقا إن الشاعر الأصیل هو الذی قلبه وعقله لتاریخه وثقافته وتراث أمته،حریصٌ دائما على تجاوز الذات،ساعٍ إلى الإضافة لهذا التراث وهو الذی یعتبر نفسه استمرارا لمجد الشعر العربی لا مهدما له،والشاعر الأصیل الذی یعتبر نفسه حداثویا لابد من أن یعترف بأن السابقین له مثّلوا هذه الحداثة بدورهم فی زمانهم،وسیصبح هو یوما كالسابقین،مما یتحتم علیه قراءة آثارهم وتمثّلها والتشبع بما تركوه من كنوز فكریة وأدبیة،ومعرفة الحد الذی وصلوا إلیه فی محاولاتهم الأدبیة،وإبداعاتهم الحداثویة،حتى لا یعتبر نفسه الرائد الأول فی التجدید،إو یبذل طاقات هدرا، غیر مستفید مما قام به غیره.

وكما یقول الناقد الأدبی جهاد فاضل:<< فالشعر ولید حمّى روحیة وحریق مشتعل فی النفس،فإذا لم یكن الشعر من وحی هذا الجحیم فعبثا یكتب صاحبها (النفس) نثرا وغیر نثر>>؛

والشاعر العظیم كالقدیس،كالبطل،كالعاشق،كالقمر لا یخفى وهو شاعر بعنایة الغیر أو بدون عنایتهم،بل إن زهده بالعلاقات العامة وإهماله لها یزیده شعرا ویزیده قدْرا والكلام بالطبع للناقد الأدبی السالف الذكر.

على أن الدكتور خلیل حاوی یلخص تلك الحمى الروحیة،وذلك الحریق المشتعل فی نفس الشاعر فیما یسمى بـ:الرؤیا الشعریة << الرؤیا الشعریة هی نوعٌ من المعرفة التی تتخطى نطاق العلم المحدود بالظاهر المحسوس،وتنافس الرؤیا الشعریةُ الفلسفةَ وتتغلب علیها فی مجال الكشف والخلق والبناء ,وهی سمة الشاعر الأصیل الذی لا تلمح وراء نتاجه شبحا من أشباح أسلافه أو معاصریه،وهی القدرة على صهرها بما یستمده من نتاج الآخرین وطبعه بنظرته الخاصة إلى الوجود وطریقته فی التعبیر >>.

هذه خصائص الشاعر الأصیل،الشاعر المجدد،المدرك لمفهوم الحداثة الحقة،وكل المبدعین والنقاد مُجْمِعون على أهمیة التجدید فی الفنون الأدبیة وعدم الوقوف فی وجه تیار الحداثة، فالدكتور"طه حسین" یرى أن النزعة نحو التجدید فی الأوزان والقوافی دعوةٌ غیر منكرة،بل إنها لیست دعوة جدیدة،فقد سبق إلى التجدید شعراء من العرب وشعراء من غیر العرب،وإنما الجدیر بالبحث فی الشعر الجدید هو البحث عن توافر الأسس التی یجب مراعاتها فی الفن الشعری،والخصائص التی ینبغی أن تتحقق فیه،ولا یمكن أن نعد هذا الجدید شعرا إلا إذا قام على تلك الأسس،وتوافرت فیه تلك الخصائص واستطاع أن یمتعنا وأن یؤثر فی نفوسنا الأثر الذی نعرفه لهذا الفن ونتوقعه منه ویحدد للشعر شروطا هذه بعض منها:

« فالشعر یجب أن یُبهِر النفوس والأذواق بما ینشئ فیه الخیال من الصور ویجب أن یُسحِر الآذان والنفوس معا بالألفاظ الجمیلة التی تمتاز أحیانا بالرصانة وتمتاز أحیانا أخرى بالرقة واللین وتمتاز كل حال بالامتزاج مع ما تؤدیه من الصور لتنشئ هذه الموسیقى الساحرة التی لا تنشأ من انسجام الألفاظ فحسب،ولا من التئام الصور نفسها، أو بینها وبین الألفاظ التی تجْلوها،بحیث لا یستطیع السمعُ أن ینبوَ عنها،ولا تستطیع النفس أن تمتنع علیها،ولا یستطیع الذوق إلا أن یذعن لها ویطمئن إلیها ویجد فیها من الراحة والبهجة ما یرضیه ».

لكن الخوف على الشعر العربی كله قدیمه وحدیثه من هؤلاء المبدعین للحداثة والعصرنة، الحداثة الرافضة لكل الأصول،حداثة بدون تاریخ،حداثة بدون خصوصیة،حداثة ترفض التراث، حداثة تتعالى عن الاعتراف بالشعراء السابقین قدیما وحدیثا،وهی ظاهرة سلبیة برزت فی كل البلاد العربیة وأصبحت تطلع علینا الصفحات الثقافیة كل یوم ببعض من هذا الشعر الذی یخلو من كل مواصفات الشعر الأصیل،حتى سارت ظاهرة ما لیس شعرا هو الشعر.

واستولت الطفیلیات على الجوهر،لتغطی الظاهرةُ الشعریةُ الحدیثةُ ما أسْموْه بتفجیر اللغة وكذا الركاكة والغموض وشعر اللاقول..

شعرٌ كهذا هو الذی أطفأ التوهج الشعری وأوقف تلك الجاذبیة السحریة لدى المبدع والمتلقی معا.یقول المرحوم الدكتور " زكی نجیب محمود" فی مجال رثائه لهذا الشعر الذی یفتقد كل تواصل بین الناس والخالی من الموقف الإنسانی،وعظمة الشعر القدیم::<< إنك تقرأ الشعر الجاهلی فتتابع أصحابه بالفهم والتقدیر،أما ما هو مصیر هذا الشعر الملغّز الرامز بعد أن تكون مرت علیه القرون والقرون، فلا أحد یدری منذ الآن، هل ستظل له قوته وعمق أثره حین لا یكون حول الناس ما یضیء لهم هذا اللغز وذلك الرمز؟…هذا هو السر الكبیر. »

ثم كیف یكون الشاعر من لا ینحنی متواضعا أمام الأسماء الكبیرة،ومن لا یشعر بالضآلة أمام العبقریات الشعریة الخالدة.. ویعترى الخوف الشاعر الكبیر" محمود درویش" وهو یرى هذا السیل الجارف من قصائد ادّعت وتدّعی الحداثة فی حین تحمل فی خبایاها مَعاول الهدم لأسس الشعر العربی،فیصرخ درویش بأعلى صوته:

« ما جرى للشعر العربی؟ إن سیلا جارفا من الصبیانیة یجتاح حیاتنا،ولا أحد یجرؤ على التساؤل:هل هذا شعر؟ نحن فی حاجة للدفاع لیس فقط عن قیمنا الشعریة بل عن سمعة الشعر الحدیث الذی انبثق من تلك القیم لیطورها لا لیكسرها،حتى شمل التكسیرُ بدافع الإدراك أو لجهل اللغة ذاتها،فكیف تطور الحداثةُ الشعرَ بلا لغة وهی حقل عمل الشاعر وأدواته،هل شرح لنا الذین لا یعرفون لغتهم ماذا یعنون بالمصطلح الدارج:تفجیر اللغة؟ »

ویعزو " محمود درویش " عزوف الناس عن الشعر ومقتهم للشعر الحدیث إلى هذا النوع من الإدعاء الشعری،ولأنه شاعرٌ أصیلٌ وعربیٌ یعنیه تاریخه وتراثه،ولا یعتبر التجدید والحداثة مرادفین للعدمیة وللثورة المضادة،فإنه یصرخ:

« قد نهدئ من روع الناس بالإشارة إلى أن تاریخ الشعر حافل بالتطاول والادعاء،لولا أن تراكم الركاكة واللاشیء وضیاع المفاهیم الخاصة بالشعر الحدیث قد أضاعت من الناس مفاتیح القراءة والتمییز،وبخاصة أن الشعر العربی الحدیث لم یحقق بعد شرعیته الشعبیة ».

وتؤید هذا الرأی فی سیاق آخر الشاعرة العراقیة " نازك الملائكة " فتقول:

« یعانی شعرنا المعاصر من مجموعة إشكالات منها التعمیة والتقلید وأخطاء الوزن وضعف اللغة واستعمال اللغة العامیة »

..وهی عیوب تشین القصیدة وتطفئ فیها توهجها الشعری الجذاب.فالشعر الأصیل تعبیر عن العاطفة وما تزخر به النفس البشریة من زخم الشعور،وما یؤثر فیها من صور الجمال وحقائق الحیاة،وهو من أجل ذلك متـأثر بالبیئة والعصر وبظروف الحیاة المتغیرة دوما فكم من قصیدة اكتسبت صفة الحداثة والتجدید فی كل عصر وقد مرَّ على قولها مئات السنین بل آلافها…كهذه الأبیات الخالدة لأبی الطیب المتنبئ… الزمن یمر وهی دائما متجددة فی بنائها ورؤاها وموقفها من الحیاة والناس:

إلى كـمْ ذا التخلـفُ والتـوانـی * وكـم هذا التمادی فی التمادی

وشغـل النفـس عن طلب المعالی * بیـع الشعـر فی سوق الكساد

فالموت أعذر لی والصبر أجمل بی * والبَـرُّ أوسع والدنیا لمَنْ غَـلَبَا

إنها رجفة الثورة وروح الكبریاء والعزیمة القویة لدحر الذل والهوان والدنیا لمن غلب،ألیس هذا هو منطق العصر الحاضر؟ ألیست هذه قاعدة العلاقات الدولیة حالیا؟ ألیست هی المعادلة المختلة التی تحكم علاقات الأقویاء بالضعفاء فی عالمنا الیوم؟

وهو صاحب الآمال العظام التی ما أحوجنا الیوم للعمل جمیعا قصد تحقیقها:

فـلا تحسبن المجد زقا وقـنینـة * فما المجد إلا السیف والفتكة البكر

وهو القائل:

فـلا مجد فی الدنیا لمن قل ماله * ولا مال فی الدنیا لمن قل مجـده

وهذا الشاعر السعودی "حمزة شحاته" یتغنى بالربیع الدائم الذی ألفه مجسدا فی فتاته الحسناء:

لا تقولی مضى الربیـع وولّـى * إنـه فیـك دائمــا یـتـجـدد

لم یـزل عطـره یفتح خدیْـك * ویُلقی عـلى الطبیعـة ظـلـلا

ورؤاه تبـدو بـعینیـك سحـرا * یستفـز الهوى خیـالا مـطـلا

وجمـالا شـاب الزمـانُ هیـاما * بهـواه ولـم یـزل فیـك طفلا

وهذا الشابی أبو القاسم یصیح فی الشباب صیحته المدویة التی یستنهض بها الهمم ویشد بها العزائم…صیحة قیلت منذ عشرات السنین وكأنها قیلت الیوم:

أُبـارك النـاس أهـل الطموح * ومَـنْ یستـلذ ركـوب الخطـر

وألـعـن من لا یمـاشی الزمان * ویقـنع بالعـیش عیـش الحجـر

هـو الكـون یحیـا بحب الحیاة * ویحـتقـر المیـت المنـدثــر

وهذا الشاعر المصری مرسی جمیل فی قصید عنوانه "إیقاعات" غنته المطربة فیروز:

لم لا أحـیا… وظـل الورد یحیا فی الشفـاه

ونـشـید البلبـل الشـادی حیـاة لـهـوای

لـم لا أحیـا وفـی قلـبی وفی عینی الحیاة

یا رفیقـی نحـن من نـور إلى نـور مضینا

ومع النجـم سـرینا ومـع الشمـس أتـینـا

أین ما یُـدعى ظـلامـا یا رفیق اللیل أینـا؟

إن نـور اللـه فی القـلــب وهـذا ما أراه

الشعر الأصیل شعرٌ یستوقفك فورا بنوع من الضراوة،بنوع من التحدی فلا تجد نفسك إلا مجیبا للتحدی ولكنه تحدٍ جمیل..وهذا الدكتور الشاعر أحمد الشرقاوی یرفع التحدی فی أبیات من قصید عنوانه، وهكذا نحن افترقنا:

لـم نكن نحفل بالجـرح وأسـوار الحصـار

ولـذا كـنـا نـقـاوم

وحـلـفـنـا أن نبیع الحزن فی توق اللقاءات الرحیبة

ونـغـنـی للأمـانـی

ورفـعـنـا بیْـرقا للـشمـس من وعْـد التـحـدی

ونـثـرنــا الحـلـم فـی الأرض الـخـصـبـة

وحـصـدنـا الـفـجـر فـی رجْـع الأغــانـی

الشاعر أحمد عبد المعطی حجازی عبر عن حزنه منذ عشرات السنین یبكی ما آلت إلیه علاقاتنا ببعضنا البعض، أفرادا وجماعات وشعوبا،حالنا یشهد على ذلك:

أحلم یا مدیـنتی فیك بـحب هـادئ

یـمـنحـنی الراحة والإیـمــان

أحلم یا مدینتی فیـك بـأن نبكی معا

إذا بـكـت عـیـنـان

بــأن أسـیـر ذات یـوم قـادم

تحـت نهـار یـسعـد الإنسـان

ألیست هذه المعادلة التی افتقدناها نحن فی بلادنا فی وضعنا الجدید المتسم بحریة التعبیر والسلوك الفردی والجماعی المتعارض مع النُظم الاجتماعیة والمُخِل بقیم الحضارة والتمدن،فالدیمقراطیة المطلقة ألقت بنا فی وحل: كل یغنی على لیلاه؟

إن التجدید الرائع الذی قام به الشعراء الرواد ومَنْ أتى بعدهم وبمقدرة فائقة خلّدهم، إنما لمْ یرافقه دائما تجدیدٌ لمضمون القصیدة العربیة عند غیرهم.فالشاعر العراقی بدر شاكر السیاب وهو من الرواد یقول:<< لقد ثرنا على القافیة والوزن التقلیدیین لأسباب مِن أهمها تحقیقُ وحدة القصیدة ومنحها وحدة عضویة >>.غیر أن هذا قد لا یتحقق دائما حتى للشعراء الكبار.لنقرأ هذه الأبیات من قصیدة " سوق القریة " للشاعر عبد الوهاب البیاتی:

الشـمـس، والحُمُـر الهـزیلـةُ والـذبـابُ

وحــذاء جـنـدی قـدیـم

وصیـاح دیـك فـرَّ من قفص،وقدیس صغیر

والعائدون من المدینة: یالها من وحش ضریر

وخوار أبقار، وبائعة الأساور والعطور

فأیة وحدة فی القصیدة، وحدة یُضحّى من أجلها بالوزن التقلیدی والقافیة وجزالة الأسلوب؟ أیة متعة هذا الهُراء اللفظی؟ وأی إیقاع شعری فی هذه الصور المتشرذمة؟

إن الحداثة بهذا الشكل وأْدٌ بشعٌ للفن واغتیالٌ مقزّز للشعر العربی، لكن عظمة الشاعر عبد الوهاب البیاتی وریادته فی حركة الشعر العربی المعاصر تُعفیه من هذه الكبوة.

أبیات أخرى لشاعر من تونس الشقیقة یلهث وراء الحداثة ولكن أیة حداثة؟

حدس أخضر..

یقتفی نصْب عینی

ولا ینتفی أبدا

كالدم المترقرق طوعا

برافد عمری

كوعد عنود

وهذه أبیات أخرى فی نفس السیاق لشاعر من وطننا الجزائر، من قصیدة له عنوانها:المدینة

حـجــرٌ فــوق الـمـدیـنـة

فـوقـــه نـأی .. وطـفـــل

یـتــدلّى بیـن نجمـات حزینـة.

كــل ما فی جـبـة الأرض قـتـیـل

رجل الشارع.. أبواب البیوت المستكینة.

وإذ نخلص من النماذج الشعریة التی استعرضناها،إلى أن الشاعر الأصیل بإمكانه أن یبدع،وأن یقدم للإنسانیة أروع القصائد الشعریة كیفما كان الشكل الذی یختاره،وأن یسمو بفنه إلى أعلى مراتب الخلود،وأن یرتفع بمتلقّی فنه إلى أعلى آفاق المتعة والتذوق الجمالی. وإذا كانت الحداثة فی الأدب وخصوصا فی الشعر لا تتوقف عند الظاهرة الإیقاعیة ومضمون القصیدة لكونه یرمز إلى غائیتها كموقف حیاتی ورؤیا للواقع،فإن المحور الأساسی للتعبیر عن ذلك هی اللغة.هذه الوسیلة السحریة لولوج العوالم المغلقة،لأنها الظاهرة الأولى فی كل عمل فنی یستخدم الكلمة أداة للتعبیر؛ فاللغة هی أول شیء یصادفنا،وهی النافذة التی من خلالها نطل على حدیقة الفن الشعری ومن خلالها تتفتح حواسنا على هذه الحدیقة.والشعر هو استكشاف دائم لعالم الكلمة،واكتشاف مستمر للوجود عن طریق الكلمة،ومن أجل ذلك كان الشعر فی رأی الدكتور عز الدین إسماعیل:<<هو الوسیلة الوحیدة لغنى اللغة العربیة وغنى الحیاة على السواء.والشعر الذی لا یحقق هذه الغایة الحیویة لا یمكن أن یسمى شعراً>>.

الحدیث عن ظاهرة العصرنة،وإشكالیة الحداثة فی الأدب و الفن وخصوصا فی الشعر العربی ممتعٌ وشیقٌ وذو شجون..موضوعٌ خصبٌ یبقى دائما مادة ثریة لجلْب اهتمام المفكرین والمبدعین،ومن لهم شغف بعالم الإبداع وسرّ الكلمة،

والخلاصة أن الشعر شعرٌ أیا كان شكله، ولا یمكن أن یكون الشعر جیدا لأنه جدید حر، أو شعرا سیئا لأنه قدیم…إن الشعر هو الشعر الجید بغض النظر عن الشكل الذی یقدم به، والأمر المهم هو إدراك الشاعر لوظیفة الشعر ومعرفته للإیقاع الشعری فی أی شكل والذی هو نبض التصور الإبداعی عند الشاعر.ومدى الحرارة،ومدى الصدق الفنی، ومدى الفیض الوجدانی الذی یعبر به كتابة،ومستوى الأداة التعبیریة القادرة على أن تُخرج هذا الفیض الوجدانی بصورة فنیة جمیلة عالیة المستوى سواء كان موزونا أم غیر موزون، أم غیر مقفى.

الكلمة إن توفرت لها شروط الخلود،وكتب لها القدر أن تعیش تصبح أبدیة، وتصیر ملكا للتاریخ ومكسبا للإنسانیة،وبقدر ما نستوعب مفهوم الإخلاص لهذه الإنسانیة، نقترب بالفعل بهذا الكنز الثمین منها،وهو ما تدعونا إلیه روح الإبداع لكی نستلهم منه مزیدا من التحرر والتفتح والكشف لخبایا الحیاة.. والشعر فن إنسانی رائد.
ملاحظة

الإحالات

ـ الدكتور عز الدین اسماعیل. الشعر العربی المعاصر.ط2 /1972 دار العودة ودار الثقافة.بیروت.

ـ أ.جهاد فاضل. قضایا الشعر الحدیث.دار الشروق /بیروت.

ـ الدكتور بدوی طبانة. التیارات المعاصرة فی النقد الأدبی. دار الثقافة /بیروت 1985

ـ مجلة الفكر التونسیة – العدد العاشر – جویلیة 1984.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:57|
محمود درویش وأبو فراس: تشابه التجربة



كتب محمود درویش قصیدة عنوانها (من رومیات أبی فراس) ظهرت فی دیوان (لماذا تركت الحصات وحیدا) (1995). لیست هذه هی المرة الأولى التی یستلهم فیها درویش تجربة شاعر عربی قدیم، لیعارضها، كما فعل مع شخصیة امرئ القیس، وهی أول شخصیة تراثیة خصص لها قصیدة، هی قصیدة (امرؤ القیس)، وقد ظهرت فی دیوانه (یومیات جرح فلسطینی) (1969)، وتخلى عنها إذ لم یدرجها فی أعماله الشعریة الكاملة، أو لیتماثل معها، كما فعل مع شخصیة المتنبی فی قصیدته (رحلة المتنبی إلى مص) التی كتبها فی العام 1980، وظهرت فی مجموعته (حصار لمدائح البحر) (1984) وثبتها فی أعماله الكاملة، ولم یتنصل منها. وما بین قصیدة (امرؤ القیس) وقصیدة (رحلة المتنبی إلى مصر) أفاد درویش من قراءته للشعر العربی القدیم، كما أفاد منها فی مرحلة متأخرة أیضاً بشكل لافت، حتى یمكن القول إن استحضار الشاعر للشعراء العرب القدامى والجدد أیضاً، مثل السیاب ودنقل، أخذ یبرز بروزاً لافتاً فی أشعاره الأخیرة التی كتبها بعد العام 1992، تاریخ صدور دیوانه (أحد عشر كوكبا على آخر المشهد الأندلسی). ففی دیوانه (لماذا تركت الحصان وحیدا؟) استحضر شخصیة أبی فراس، وشخصیة امرئ القیس ثانیة، وخصص لكل واحد منهما قصیدة، وفی دیوانه (سریر الغریبة) (1999) استحضر شخصیة جمیل بثینة وقیس بن الملوح، وفی (جداریة) (2000) استحضر المعری، وفی (لا تعتذر عما فعلت) (2003) استحضر أبا تمام والمتنبی والمعری، وفی (كزهر اللوز أو أبعد ) (2005) استحضر الأعشى وآخرین. وفی (أثر الفراشة) استحضر سطر تمیم بن مقبل الذی كان استحضره من قبل فی (حصار لمدائح البحر) وفی (أحبك أو لا أحبك) (1971).

زمن الاستحضار:

ربما یثیر المرء، وهو یدرس قصیدة (من رومیات أبی فراس) أسئلة عدیدة أبرزها: لماذا استحضر درویش شخصیة الحمدانی؟ هل استحضرها لیعارضها، كما فعل مع امرئ القیس، أم استحضرها لیعبر من خلالها عن تجربته هو، لأنه یتماثل معها، كما فعل مع المتنبی ومع أبی تمام أیضاً، وإن كان استحضارها للأخیر لا یعود إلى تشابه التجربة، بل تشابه درویش، فی فترة من حیاته، مع بیتی شعر أبی تمام، بخاصة مع الثانی:

    نقل فؤادك حیث شئت من الهوى
    كم منزل فی الأرض یألفه الفتى
    ما الحب إلا للحبیب الأول
    وحنینه، أبداً، لأول منزل

وإذا كانت تجربة درویش تتماثل، فی فترة ما، جزئیاً، مع تجربة الحمدانی، فهل كان استحضاره لها فی العام 1995 موفقاً؟ أم كان یجدر به أن یستحضرها فی زمن آخر، فتجربة درویش والحمدانی تتشابه حین كان درویش یقیم فی حیفا، لا بعد أن غادرها فی العام 1970، ولا یوم كتب القصیدة فی العام 1995. قبل الاستطراد فی إثارة الأسئلة والإجابة عنها وإضاءة ما لم یُضأ یجدر تبیان مواطن التشابه بین الشاعرین فی تجربتهما.

أسر أبو فراس فی فترة من حیاته وأنفق سنوات من شبابه فی زنازین الروم الذین حاربهم، وهناك كتب قصائد عدیدة وجهها إلى سیف الدولة یخاطبه فیها أن یفتدیه وأن یخلصه من الأسر، ولم یسرع سیف الدولة فی تلبیة الطلب، بل تباطأ، ما أثر على أبی فراس وجعله یعبر عن حزنه وآلامه وأشجانه فی قصائد جمیلة خاطب فیها أمه وغیرها، وأتى فیها على حیاته فی الزنزانة وبعده عن الأهل وشوقه إلى بلده.

وسجن محمود درویش فی أثناء إقامته فی حیفا، وكتب وهو فی السجن قصائد عن تجربته، أبرزها قصیدته التی وجهها إلى أمه، فذاعت وانتشرت. ولم تختلف رؤى درویش وتطلعاته، وهو تحت الاحتلال، إلى الخلاص، آملاً أن یساعد العرب فی الخارج عرب فلسطین تحت الحكم الإسرائیلی بهذا – أی الخلاص.

ثمة تشابه إذن بین التجربتین، تجربة السجن من عدو أجنبی، والأمل بالتحرر وطلب المساعدة من أبناء جلدتهما – أی العرب، وثمة شعور بالخیبة. ولعل خطاب الأم وكتابة القصائد لها، وهما فی السجن، من أبرز الأشیاء المشتركة.

كما ذكرت استحضر درویش شخصیة امرئ القیس لیعارضها، فقد كان درویش ابن اسرة فقیرة، خلافاً لامرئ القیس ابن الملك، وكان درویش لا یبحث عن ملك، كما فعل امرؤ القیس، وكان فهمه للشاعر ودوره مختلفاً عن فهم امرئ القیس. ثمة تعارض مواقف لاختلاف المواقع، وثمة زمنان أیضاً مختلفان.

وكما ذكرت أیضاً فقد استحضر درویش شخصیة المتنبی لیعبر من خلالها عن تجربته، فقد تشابهت التجربتان فی مرحلة من مراحل حیاة درویش، وكان المتنبی قناعاً له. وكتب درویش قصیدته فی اللحظة التی مر بها بالتجربة المشابهة لتجربة المتنبی، ولم یكن هناك هوة تفصل الزمن الكتابی عن الزمن الشعری الواقعی المعیش. وهذا ما لم یتم حین كتب درویش قصیدته (من رومیات أبی فراس)، فزمنها الشعری مسترجع، وثمة فترة سبعة وعشرین عاماً ما بین الأسر / الزمن الشعری وزمن الكتابة – الزمن الكتابی. وإذا ما ذهبنا إلى أن درویش فی (لماذا تركت الحصان وحیدا؟) یكتب سیرته شعراً، وقد ذهب هذا المذهب نقاد عدیدون، أدركنا أن كل مجموعة من القصائد التی أدرجت تحت عنوان تعود إلى فترة زمنیة من حیاة درویش. فالدیوان یتألف من ستة عناوین رئیسة، كل عنوان یمثل مرحلة من مراحل حیاة الشاعر: مرحلة الطفولة والهجرة، فمرحلة المراهقة، فمرحلة الشباب، فمرحلة النضج الشعری والعیش فی العالم العربی، فمرحلة مدرید وأوسلو. وسیعود محمود درویش فی كتابه (فی حضرة الغیاب)(2006) لیكتب نثراً، بالأسلوب نفسه الذی اتبعه فی الدیوان، سیرة حیاته، فكل فصل من (فی حضرة الغیاب) استرجاع لمرحلة زمنیة معینة من حیاته، وقد أبرزت هذا فی مقال عنوانه: سؤال الزمن.

فی العام 1995 إذن، عام كتابة (من رومیات أبی فراس) یستحضر درویش واقعة سجنه وهو فی حیفا قبل العام 1970. ولا یكتب هذا بأسلوب مباشر، بل إنه یعبر عن تلك التجربة من خلال قناع. وإذا كانت أنا المتكلم فی (رحلة المتنبی إلى مصر) هی أنا أنا المتنبی، وأنا درویش معاً، فهی كذلك فی (من رومیات أبی فراس)، ولكنها لیست واحدة – أی أنا متطابقة – فی قصیدة (امرؤ القیس).

استلهام، شخصیة أبی فراس من قبل:

ثمة دراسات عدیدة أنجزت تناول اصحابها فیها، بشكل عام، استدعاء الشخصیات التراثیة فی الشعر العربی المعاصر، أبرزها كتاب علی عشری زاید (استدعاء الشخصیات التراثیة فی الشعر العربی المعاصر) ( 1977 ط1، 1997 ط2 ) وكتاب خالد الكركی(الرموز التراثیة العربیة فی الشعر العربی الحدیث) (1989 ط1) وكتاب إبراهیم نمر موسى (آفاق الرؤیة الشعریة). (دراسات فی أنواع التناص فی الشعر الفلسطینی المعاصر) (2005) وكتاب (التناص فی الشعر العربی الحدیث: السیاب ودنقل ودرویش نموذجاً) (2006) لعبد الباسط مراشدة، ولم یقف أصحابها، فیما یلحظ، أمام شعراء استلهموا شخصیة أبی فراس، ما یعنی أنه إذا ما قورن بشاعر معاصر له، هو أبو الطیب المتنبی، بدا غیر تأثیر على الشعراء الذین لحقوه، وحین یعرف أن الدكتور الكركی خصص كتاباً كاملاً لدراسة حضور أبی الطیب المتنبی فی الشعر العربی المعاصر، هو كتاب (الصائح المحكی: صورة المتنبی فی الشعر العربی الحدیث) (1999)، أدركنا أن أبا فراس لم یلفت نظر شعرائنا المعاصرین كما لفت نظرهم معاصره أبو الطیب المتنبی. هل محمود درویش، إذن، هو أول شاعر عربی فی ق20 یستلهم شخصیة أبی فراس؟ لا. فقد استلهمه، من قبل، الشاعر العراقی عبد الوهاب البیاتی فی دیوانه " الموت فی الحیاة "(1968)، فی قصیدة عنوانها (رومیات أبی فراس)، وتوقف أمامها سامح الرواشدة فی كتابه شعر عبد الوهاب البیاتی والتراث (1996).

تجربة الحب لدى الشاعرین:

شاعت قصیدة أبی فراس (أراك عصی الدمع) شیوعاً لافتاً فی ق 20، وما ساعد على ذلك، غیر إدراجها فی المناهج المدرسیة فی بعض البلدان العربیة، ومنها الأردن، حین درسناها فی المدارس، ما ساعد على شیوعها قیام سیدة الغناء العربی أم كلثوم بغنائها بصوتها، ما جعل أبا فراس معروفاً للدارسین ولغیر الدارسین. فإذا كان الدارسون، بخاصة دارسو الأدب العربی، درسوا أشعاره حین درسوا العصر العباسی، أو الحیاة الأدبیة فی حلب فی عصر سیف الدولة، أو الرومیات، فی مساق الرومیات، فإن غیر الدارسین ممن یستمعون إلى الغناء استمعوا إلى أراك عصی الدمع وطربوا لمعانیها، وربما حفظوا بعض أبیاتها،.

طبعاً نحن نعرف أن درویش، قبل أن یكون مستمعاً إلى أم كلثوم، كان قارئاً فاحصاً ومدققاً للشعر العربی القدیم. ولا نحتاج إلى دلیل یخبرنا عن سماعه أم كلثوم، فقد خصص لها فی كتابه (أثر الفراشة)(2008) قصیدة.

فی (أراك عصی الدمع) یعبر أبو فراس عن تجربة حب مرّ بها، ویبدو أنه لم یكن موفقاً فیها، فالمحبوبة كان لها غیر عشیق: (أیهم فهم كث)". لیس هذا هو المهم هنا، فالمهم هو ما یكمن فی السؤال التالی: هل كان لأبی فراس تجربة حب مع امرأة رومیة، حین كان أسیراً فی بلاد الروم؟

فی مسلسل عن أبی فراس عرضته القنوات العربیة فی السنوات الأخیرة، ما یشیر إلى أنه كان على صلة مع امرأة رومیة، وما یدعم هذا قوله:

    وشادن من بنی كسری شغفت به
    لو كان أنصفنی فی الحب ما جـارا
    إن زار قصّر لیلی فی زیارتــه
    وإن جفانـی أطـال اللیل أعـمارا
    كأنما الشمس به فی القوس نازلة
    إن لم یزرنی وفی الجوزاء إن زارا

والشادن هو ولد الظبیة، فهل كان أنثى أم ذكرا؟

أحب محمود درویش أیضاً عربیات ویهودیات، وقد عبّر، فی غیر مقابلة أجریت معه، عن علاقته بالفتیات الیهودیات، وقد أتیت على هذا، فی دراسة عنوانها " بین ریتا وعیونی بندقیة "، وهی دراسة مفصلة، وذكرت فیها دراسات سابقة عالجت الموضوع. وفی أشعار درویش غیر قصیدة یتغزل فیها بریتا وشولمیت.

ما الذی أرمی إلیه مما سبق؟

فی قصیدة (من رومیات أبی فراس) یبوح أنا المتكلم بحبه، ویفصح عن علاقته بالفتاة التی أحبها، تماماً كما أفصح أبو فراس عن حبه لشادن من بنی كسرى. یقول أنا المتكلم فی قصیدة درویش:

    وزنزانتی اتسعت، فی الصدى، شرفة
    كثوب الفتاة التی رافقتنی سدى
    إلى شرفات القطار، وقالت: أبی
    لا یحبك. أمی تحبك. فاحذر سدوم غدا
    ولا تنتظرنی، صباح الخمیس، أنا لا
    أحب الكثافة حین تخبّئ فی سجنها
    حركات المعانی، وتتركنی جسدا
    یتذكر غاباته وحده ..

وفی المقابلات التی أجریت مع درویش ما یوضح الأسطر السابقة. فی المقابلة التی أجراها معه عباس بیضون ونشرت فی مجلة " مشارف : الحیفاویة، ( عدد3، تشرین الأول 1995 ) یرد ما یلی:

(أحببت مرة فتاة لأب بولندی وأم روسیة. قبلتنی الأم ورفضنی الأب. لم یكن الرفض لمجرد كونی عربیاً. ذلك الحین لم أشعر كثیراً بالعنصریة والكره الغریزی. لكن حرب 1967 غیرت الأمور. دخلت الحرب بین الجسدین بالمعنى المجازی وأیقظت حساسیة بین الطرفین لم تكن واعیة من قبل).

ما سبق یعزز أن أوجه التشابه بین تجربة الشاعرین فی فترة من حیاتهما كانت متشابهة لدرجة التطابق، وقارئ القصیدة، لولا شكلها الشعری الذی ینتمی إلى عصرنا، بالإضافة إلى استخدام مفردات لم تكن موجودة زمن أبی فراس، مثل القطار، یمكن أن یوحد بین درویش وأبی فراس، وقد یذهب، إذا قرأ القصیدة دون وضع اسم درویش علیها، إلى أنها بالفعل من رومیات أبی فراس.

ذكر الحمامة:

من قصائد أبی فراس المشهورة التی رددها قراؤه وتناولها دارسو الأدب العربی بالشرح والتحلیل قصیدة (أقول وقد ناحت بقربی حمامة)، وهی قصیدة یقول ظاهرها إن الشاعر، وهو فی الأسر، خاطب حمامة كانت تنوح. وبدت المفارقة لأبی فراس فی أنه هو الأسیر یضحك، فیم هی الطلیقة تبكی، ولیس فی هذا إنصاف من الدهر، إذ ماذا كانت الحمامة ستفعل لو كانت أسیرة مثل الشاعر وتعانی مما منه یعانی: الأسر والبعد عن الأهل والغربة؟ هل یجوز لنا أن نقول إن ثمة بُعداً رمزیاً فی القصیدة؟ هل الحمامة الطلیقة حمامة بالفعل أم أنها دال ذو مدلول رمزی، وبالتالی فإن المقصود بها – أی مدلولها – هو المرأة؟ هل یجوز أن نربط بین هذه القصیدة وقصیدة الشاعر آنفة الذكر: وشادن من بنی كسرى، وبالتالی بین أبی فراس والمرأة الرومیة التی أظهر مسلسله أنه كان على علاقة بها؟ هذه تساؤلات لیست أكثر. الشادن إن زار الشاعر قصیر لیله، وإن لم یزره طال لیل الشاعر، مثله مثل لیل عمر بن أبی ربیعة ولیل المتنبی الذی یطول لفراقه الأحبة.

سواء أكانت الحمامة حقیقیة أم رمزاً، فإن ما یهمنا هنا أنها كانت ذات حضور فی قصیدة درویش: (من رومیات أبی فراس)، وفی قصائد أخرى. یرد فی (من رومیات أبی فراس):

    وثمة ملح یهب من البحر،
    ثمة بحر یهب من الملح. زنزانتی
    اتسعت سنتمتراً لصوت الحمامة: طیری
    إلى حلب، یا حمامة، طیری برومیتی
    واحملی لابن عمّی سلامی!

كأننا هنا نُصغی إلى أبی فراس حقا. كأن المتكلم حقاً هو أبو فراس. لیس التشابه فقط فی مكان الزنزانة ووقوعها على الساحل – كلا الزنزانتین كانتا تقعان على ساحل البحر، وثمة ما هو مشترك هنا - هناك تشابه آخر: كلا الشاعرین ینتظر الخلاص من ابن لغته وأقربائه خارج حدود الزنزانة (السجن). وكثیرة هی قصائد أبی فراس التی یخاطب فیها ابن عمه حتى یفك أسره، بل إنه یعتب علیه لتلكئه فی ذلك. من ذلك قصیدة (أسیف الهدى) التی یقول فیها:

    ألست وإیاك من أسـرة
    وبینی وبینك فـوق النســب
     
    فـلا تعدلـنّ، فـداك ابن عـمـك،
    لا بل غلامك، عـما یجـب
    
    وأنصف فتاك، فإنصافه
    من الفضل والشرف المكتسب

الأم:

یكتب درویش، وهو یستحضر أبا فراس، یكتب على لسان الأخیر:

    ثمة أهل یزوروننا
    غدا فی خمیس الزیارات. ثمة ظل
    لنا فی الممر. وشمس لنا فی سلال
    الفواكه. ثمة أم تعاتب سجاننا:
    لماذا أرقْت على العشب قهوتنا یا
    شقی ؟

ولا أدری إن كانت أم أبی فراس زارته، وهو فی السجن فی بلاد الروم. غیر أن مما لا شك فیه أن أهل محمود درویش، وأمه منهم، قد زاروه فی السجن، وحملوا له معهم فی أثناءء الزیارة البرتقال (شمس فی سلال الفواكه). ومعروف أن درویش كتب قصائد إلى أمه أبرزها قصیدته (أحن إلى خبز أمی..) وقصائد محمود درویش لأمه تذكرنا بقصائد أبی فراس لأمه، وهی من عیون شعره، ومن أجمل قصائد الأبناء للأمهات فی الشعر العربی، فما من دارس لأبی فراس أو قارئ لقصائده إلا ترنم یقصیدته (یا أم الأسیر) التی منها:

    أیا أم الأسیر، سقاك غیث
    أیا أم الأسیر، لمن تُربّى
    إذا ابنك سار فی بر وبحر
    بكره منك ما لقی الأسیر
    ، وقد مت، الذوائب والشعور
    فمن یدعو لـه أو یســتجیر

وكما یعثر المرء فی دیوان أبی فراس على قصائد أخرى توجه فیها بالخطاب إلى أمه، فإن درویش فی (لماذا تركت الحصان وحیدا؟) یكتب قصیدة ثانیة لأمه هی (تعالیم حوریة) أتى فیها على علاقته بها ونصائحها له. هل كان دیوان أبی فراس، فی أثناء كتابة درویش دیوانه المذكور، واحداً من الكتب التی قرأها؟ أكاد أجزم بهذا.

المصیر الذی لا مفر منه:

فی قصیدته یكتب درویش:

    فلأكن ما ترید لی الخیل فی الغزوات:
    فإما أمیرا
    وإما أسیرا
    وإما الردى

نحن هنا نصغی إلى الشاعر المحارب، إلى أبی فراس. كأنه هو الذی ینطق. ألم یقل فی (أراك عصی الدمع):

    أسرت وما صحبی بعزل لدى الوغى
    ولكن إذا حُمّ القضاء على امرئ
    وقال أصیحابی: الفرار أو الردى
    ولكننی أمضی لما لا یعیبنی
    یقولون لی: بعت السلامة بالردى
    وهل یتجافى عنی الموت ســـاعةً
    ولا فرسی مهر، ولا ربّه غمر
    فلیس له بر یقیه ولا بحر
    فقلت: هما أمران أحلاهما مر
    وحسبك من أمرین خیرهما الأسر
    فقلت: أما والله، ما نالنی خسر
    إذا ما تجافى عنی الأسـر والضر؟
    …
    ونحن أناس لا توسط عندنا
    لنا الصدر دون العالمین أو القبـر

وإذا كان أبو فراس فارساً شجاعاً حارب وأسر، فإن وجود درویش فی بیروت فی العام 1982، وفی رام الله فی العام 2002، ما یقول لنا إنه كان شجاعاً، حتى لو لم یحمل السلاح ویقاتل. إن من یصمد فی أرض المعركة، فی بیروت أو فی رام الله، یملك من الشجاعة أیضاً الكثیر. إنه أسیر حتى لو لم یؤسر، فقد یموت فی أیة لحظة.

عزة أبی فراس فی قوله فی البیت الأخیر یصوغها درویش فی قصیدته فی الأسطر التالیة:

    وزنزانتی اتسعت شارعاً شارعین. وهذا الصدى
    صدى، بارحا سائحا، سوف أخرج من حائطی
    كما یخرج الشبح الحر من نفسه سیدا
    وأمشی إلى حلب. یا حمامة طیری
    برومیتی، واحملی لابن عمّی
    سلام الندى

وهل الرومیة غیر الرسالة (القصیدة لابن عمه)؟

(من رومیات أبی فراس) مثل (رحلة المتنبی إلى مصر) قصیدة یكتب فیها درویش عن تجربة مر بها تشابهت مع تجربة شاعر عربی، وهی مثل شعر أبی فراس قصیدة وجدانیة یبث فیها الشاعر أشواقه وأحزانه وآماله وآلامه، ویفصح عن ثقة بالمستقبل یتحلى بها.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:28|
ان الادارة المنهجیة للكشف عن نقطة الانطلاق المهمة فی تأسیس المفاهیم المركزیة والضرورة لفهم وتوضیح المنطق الیقینی فی حدود الوعی وانتقاله فی حدود الشعور .. وهو النداء الخفی الذی یتهدج بألق داخلی حدوده الحرارة ، والبراءة ، والالم وبواعث للایمان والرؤیا الدقیقة لحركة الواقع الدفینة ، والنضوج فی حدود الاضاءة لمساحات واسعة من الحیاة .. وهدوء العاصفة فیها ، وهی الاستثناء فی شخصیة الشاعر .. حیث الوتیرة المتصاعدة فی اشكالیة التحولات والحوافز فی العمل فی سیرة من التعبیر المعرفی وقد افضى هذا التوتر العلائقی الى نتائج من المستوات المهمة انتهت بالتجسید الحی – والتاریخی لفعل التعبیر – والسیرة فی رحلة التفجیر الشامخة ، وهی تشبه فی میسمها .. تفجر الثورة الابدیة فی العراق .. فكانت الولادة فی البیت الشعری بشكله العمودی المتجدد .. صاحب الفعل المنجز ودلالته وضوء الذی شع فأنار الطریق الذی تكامل بفعل الصدق فی التعبیر عن بدء من الداخل وهو (( الهدف والمعنى )) والمسلمة الراجحة داخل مرآة صافیة بعمق صفاء شاعرنا المبدع .
والاسطورة عند الجواهری تنطوی عند معنى لا یتحدد بعناصر مصنوعة او معرفة .. بل هی الرؤیة والطریقة التی تقوم بعملیة التنسیق بعدد من العناصر.
والاسطورة عند الجواهری دائماً تتعلق بعناصر الجمال من اللغة والبلاغة وهی مفاهیم تشكل الخلاصة لنتائج دقیقة فی الصیاغات الاسطوریة فی البحث عن خصائص عدیدة تتجاوز فی محركاتها .. خصائص اللغة والبلاغة .
والاسطورة عند الجواهری كائن حی ومتحرك یتكون من عدة تشكیلات فی الوحدات الاجتماعیة والصوتیة والنحویة والصرفیة والبلاغیة والدلالیة حیث یكون ( المفهوم اللغوی ) مفهوم اولی لعدة عینات وكیانات لمنطق السنی ، وهو المقوم الجدلی للكلیات ، لكنه خارج اطار عملیة الوعی الارادی .

یقول الجواهری :
فرّ لیلی من ید الظلم
فتخطانی ولم انم
كلما اوغلت فی حلمی
خلتنی اهوى على صنم
یستمد الوحی من المی
وینث الروح فی قلمی
آه یا احبولة الفكر
كم هفا طیر ولم یطر
فالبناء اللغوی ینمو وینهض فی حركات حیة ومحكومة بحركة ( زمكانیة ) للاسطورة یعزف لحناً حزیناً وبفاعلیة روحیة تحلق عالیاً متسامیة لتضیء المكان بفاعلیة التراكیب والتغییر الذی یحدث فی الدلالة بفعل الهواجس والمعنی فی مدارات من الفكر .
واللغة عن الجواهری تقوم على اشكالیة عقلیة وحیثیات منطقیة قائمة على النفس البلاغی والثروة اللغویة جاءت عبر الدراسة الدقیقة لمكونات النص الشعری وتعالیقه المتجددة نلاحظ ان هنالك مراحل فی طریقة البناء الفكری تعتمد على :
المنطق الروحی + عملیة التفكیر ومضامینها وما یتعلق بهذا التفكیر من حس اجتماعی وسیاسی دفین وعبر مضامین منطقیة تحددها التشكیلات الاسطوریة.
یقول الجواهری :
مرحباً یا أیها الأرق
فرشت أنا لك الحدق
لك من عینی منطلق
اذا عیون الناس تنطبق
لك زاد عندی القلق
والیراع النضوو والورق
ورؤى فی خالة القدر
عتقت خمرا لمعتصر ..
ان الفضاء الاسطوری عند الجواهری .. هو فرضیة محكمة تنتقل من الحس فی الزمان الى المكان المتداخل بصیغة الوعی المعرفی ومن الوعی فی الاستقلالیة فی التفكیر ینمو الموضوع فی الصورة دخل النص الشعری ، فیخرج ایقاعاً متوازناً ومتوازیاً مع خصائص الحیاة المركبة والمعقدة .. فالاسطورة عند الجواهری هی شحنات من انسجة ایقاعیة تغطی العمود الشعری وتبرز لفخامته البلاغیة والحسیة بصیغة وتراكیب وخصائص وقوانین فی سیاقات ابتداء النص الشعری عبر محمولها المنطقی وما تحمله البنیة للاسطورة لهذا العمود من احتكام الى تنظیم فی الوحدات الصوتیة والعلاقة بینهما .
ان اعتماد الجواهری على امتلاكه للحس التراثی والتشكیل الحداثی راح یعتمد فی نسجه الشعری على منطق الخلق البارع للاسطورة فی صورة حسیة اعتمدت المنطق فی قیاسها وفی علاقة وصیغ ( فینومینولوجیا ) فالجواهری اعتمد الفحص المستمر حتى للأسس التی تنحو المنحنى العلمی والمعرفی لقیمة المنطق فی نظرته الى الواقع الاجتماعی المعاش .
یقول الجواهری :
أنا عندی من الأسى جبل
یتمشى معی وینتقل
أنا عندی وان خبا أمل
جذوة فی الفؤاد تشتعل
انما الفكر عارما یظل
ابد الآبدین یقتتل
قائد ملهم بلا نفر
حسرت عنه رایة الظفر
فاذا دققنا فی قصائد الجواهری نجد هذا الزخم الهائل والمتحول من الفكرة الاسطوریة الى صور تأخذ قوانینها من قوانین الاسطورة الى الشد الذهنی والجو المشحون بالفكرة الطریة التی یخلقها الشاعر عبر هذه المكونات الذهنیة والتی تفصح عن وحدات تركیبیة ( الاسى والجبل یتمشى وینتقل ) ان الاستقلال اللغوی والبلاغی والذهنی الذی شكله النص الشعری اعطانا تنظیم من العلاقة العضویة فی القول والحركة والصورة والاسطورة ، ومن العلاقات الالسنیة فی تداخلها التولیدی الذی یحكم الترابط فی الوحدات داخل القصیدة .
فاللغة عند الجواهری هی تحلیل ( انثربولوجی ) كما هو عند ( شتراوس ) لانه نمو ینهض بكیان اسطوری عبر شتى التكوینات الطبیعیة والاجتماعیة .
یقول الجواهری :
یا أم بغداد من عدوى تأنقها
مشى التبغدد حتى فی الدهاقین
یا دجلة الخیر ما یغلیك من حنق
یغلی فؤادی وما یشجیك یشجینی
وتتولد الصورة بهذا التعبیر وهذا التغیر الذهنی فی الایقاع الاسطوری والبیت الواحد من القصیدة یعطیك الصورة المتداخلة من خلال شعاع اسطوری (لخیال وهتاف) یشد السامع الى وحدة فكریة وهی تحمل عدة تعابیر فنیة دقیقة وهی التی یتضمنها التعبیر عبر عدة معاییر بتحصیل الصیغ المعرفیة بأطر موسیقیة متدافعة ومتدفقة داخل البیت الشعری الواحد وهو یتقابل بلقطات مركزة من الموسیقى الداخلیة تطرز البیت بالحان ونغمات تؤطر التركیبة الحسیة للبیت لتنظیف جمالاً اسطوریاً غریباً .
یقول الجواهری :
یا دجلة الخیر ادری بالذی طفحت
به مجاریك من فوق الى دون
ادری على أی قیثار قد انفجرت
انفاسك السمر عن أَنات محزون
أَدری بأنك من الف مضت دهراً
للآن تهزین من حكم السلاطین
یا دجلة الخیر كم من كنز موهبة
لدیك فی القمم المسحور مخزون
لعل تلك العفاریت التی احتجرت
محملات على اكتاف دولفین
والملفت للنظر ان الجواهری ینشد عملیة التكرار وهذا یأتی تأكیداً للصیاغات الصوریة والایقاعیة ، فهو منطق من العفویة الحسیة الناضجة فی شبكة القصیدة ، وهذا الموضوع قد ساعد فی عملیة التوتر والشد العاطفی الذی یأخذ شكله المتصاعد لیعطی اللغة الشعریة معیاراً من النمو المتزاید والذی أَشره ( دی سوسیر ) عبر الدراسات المتعاقبة للصیغ اللغویة وعبر الكشف الدقیق لقوانین البنیة الشعریة ومداخلاتها الاسطوریة داخل الانظمة الالسنیة والصوتیة وداخل نظم من المفردات الشعریة التی تجمعها مخیلة الشاعر لعدة من الصیاغات والاطر الجدیدة فی القصیدة .
من جانب اخر فان التناظر والتحول لم یكن غائباً عن المفاهیم المقومة للشعر وان بؤر الاهتمام فی العلاقة بین التراكب اللغویة والاسطوریة هی فی علاقة هذه التراكیب الحیة وعلاقة الشاعر بالنص وهذا الرأی حدده (ورد زورث) و ( كولردج ) واتفاق مسبق مع ارسطو فی ان موضوع الشعر هو موضوع الحقیقة حیث حدد كولردج فی الصیاغة الجدیدة لهذه الحقیقة قائلاً ( ان الشعر یمثل واسطة عادیة بین اطراف العالم والمألوف من جهة والمفردة الجدیدة من جهة اخرى ) ویؤكد فی جانب اخر وبمنطق اخر ویسمیه ( الالتحام والتسویة فی الاشیاء المختلفة ) . والخلاصة فی هذا الموضوع هو خضوع الكون لقضیة الفرد الاجتماعی وهذا كما یعتقد ( هوسرل ) ان المنحى الفكری یتضمن معاییر معرفیة تتمیز به وتمیز الحق عن الباطل وهی نتائج لتفكیر منطقی یقوم على أسس نفسیة وهو الجانب الذی اكده هوسرل كذلك ، وهو لیس الجانب السایكولوجی الساذج بل القصدی منه والذی یعتمد على الدراسة الالسنیة التعادلیة وتداخلها فی النیة القصدیة والشعر هو المنظم الاول اللاصوت فی الطبیعة وهو المقوم مع التنظیمات المستمرة فی عملیات التخیل وهو الاستعداد والاستجابة للعمل السلوكی ، واللغة كانت عند الجواهری عبارة عن تراكیب منطقیة وحسیة بلاغیة وروماتیكیة وفی هذا المجال یقول ( ریتشاردز ) ان اللغة هی لیست مجرد نظام لتنظیم الاشارات بل هی مقدّم حقیقی للأشیاء .
یقول الجواهری :
اطلت الشوط من عمری
اطال الله من عمرك
وما بلغت بالسر
ولا بالسوء من خبرك
حسوت الخمر من نهرك
وذقت الحلو من ثمرك
وغنتنی صوادحك النشاوى
من ندى سحرك
ولم یبرح على الظل
بعد الظل من شجرك
اذنبی ان مختبری
هدانی عیر مختبرك
هلمی خالطی بشری
تنفری أنت من بشرك
والحلم الرومانتیكی عند الجواهری … هو منهج ذاتی – موضوعی تحكمه صلات جدلیة تحقق التفاعل المتوازن فی تأكیده على المنهج الادراكی فی دراسة البنیة … ووحدة المستویات او الكلیات فی الادب والشعر بشكل خاص … وفی اطار الموازنة والمقارنة فی اول مسرحیة " الفرس " ( لاسخیلوس ) هناك حوار حول حلم شاهدته " اتوسا" ارمل " داریوس " ویذكر " لاسخیلوس " " العقل ذو عیون حین ینام صاحبه وهو اعمى حین یستیقظ ومسرحیة " بولیوكت " تأتی خلاصة التأكید على الجانب السیكولوجی حین تحلم " بولین " (( حلماً مزعجاً ترى زوجها یموت بالحرب )) ..
ان صیغة التنظیم فی الاشارات المبینة … هو التأكید المنطقی الذی أشره الجواهری … ودلل علیه " ریشاردز " فی انتقالیة حیة عند " موریس " انه یتحدث عن غیاب الاحاسیس : والاحاسیس والاستجابات عند السید " موریس " هو الاحساس والاشارات الایقونیة للاكتمال الذی حققته اللغة عبر الحس الاسطوری بعد ان یكون الاحساس اخذ یضرب بالماوراء الالهام الموضوعی …
فالمعرفة الحسیة عند الجواهری … هی عقل مدرك مكتمل بالمفردة الحسیة الانسانیة ، وفی هذه الفقرة یقتبس " ریتشاردز " عن " كولردج نص قوله " .
" الیست الكلمات اجزاء – وبذوراً ؟ وما هو قانون نموها ؟ بشیء فی مثل … هذا سوف احطم التناقض القدیم القائم بین الكلمات والاشیاء "؟
" وارتفع بالكلمة - كما هو الامكر الى مستوى الاشیاء الحیة منها ! "
وقد اضفى الجواهری على لغته الشعریة عبر قدرة على الاحاطة بالمتناقضات المتشابكة داخل المجتمع وبین ما هو موضوعی ومرتبط بقوانین الصراع التاریخی .
" وریتشاردز " عالج هذا الموضوع .. بوصفه حد فاصل بینم " كولردج " و " الكلاسیكیة الجدیدة " وكان فصل ( قیثارة الریح ) وهو الدلیل على خصوصیة ها التناقض :
یقول الجواهری :-
مشى وخط المشیب بمفرقیه
وراحت من زهاها امس حباً
تبدل غیر رونقه ولاحت
رماداً خلته لولا البقایا
اهذا من به فتنت كعاب
اهذا تائهاً من نقلته
ومن اوصبى " فلانة" ! وهی خدر
ومنزوفاً كأن ید اللیالی
ویا سیفاً نجر حمالیتة
وطار غراب سعد من یدیه
تقول الیوم : واسفی علیه
تضاریس السنین بأخدع یه
توقد جمرتین بمقلتیه
ومن سحر الندى باصغریه
على الاحداق احلى خطویتیه
دم العشاق یصبغ وجنتیه
بمبضعها تفصد اكحلیه
ونركب حین نجمح شفرتیه

وقد اقضى هذا الشد فی الفهم الدقیق إسطورة فی اساسها التعبیری والصوری وهو یفضی الى عدة مناهج : ونتائج الزمن عند الشاعر ، وتأكیده واحتكامه الى الحكمة الفنیة والانجاز الفكری الذی یشع بتجسیداته لعملیة الابداع التی تكونت بالحافز المتفجر وهو یشبه الولادة فی جملته التعبیریة فی اطار التجلی الابداعی والرفض لكل التراكیب والدلالات ( الفیزیقیة ) داخل العملیة الجدلیة – وداخل عملیة التشكیل الفكری والاجتماعی الذی یضع الابداع فی المقدمة منه من خلال الدلالات الاجتماعیة والفرز للتصورات – الاتجاهات التجریبیة ، وهی متوحدة فی النص الشعری . كما وضحه ( ماثیوارنولد ) باعتباره معارضاً ( للدیالكتیك ) باعتباره الاطار الموضوعی للقانون الذی هو خارج العملیة اللغویة وباعتباره ایضاً موروث عن الكلاسیكیة .
فالعملیة الشعریة هی التی تنسج موضوع الاسطورة فی الطبیعة والحیاة الاجتماعیة … وهو الحقل الوضعی لخیال الشاعر الخصب وبالتالی هو الكشف عن الخصائص البلاغیة والفكریة الغامضة فی النص الشعری – عبر التفجر للایحاءات داخل النص وتكوین الاسطورة بایقاع المعنى المكون للنص الشعری ونظام التراكیب اللغویة – والبلاغیة والتفجیر الفكری للنص بنواظم ودینامیة مختلفة للانساق الجمالیة … فهی تحقیق وتقلیل لمختلف البیانات العمیقة … والدقیقة والافصاح عن النواة والرؤیا للعوالم الشعریة . والجواهری بوصفه شاعراً یمتلك التوافق والشعور والعلاقة المنطقیة بین الذات والموضوع .
والنظریة الشعریة عند الجواهری … هی عملیة رفد وتغییر للمنطق الشعری فی العمود المتجدد بموضوعاته الصوریة والاسطوریة وهذا خلاف النظریة التی تقول : ( بمعزل عما یتأثر به ) واعتبار الاعمال الشعریة اشیاء مجردة عن تفاعلاتها وعلاقاتها ( بالزمكان ) واعتبارها كائنات لا تربطها ایة صلة وبای شیء واصحاب هذه النظریة هم ( بلاكمور ، والن تیب ، وكلینش ، بروكس ) .
نقول ان الحافز الفكری والاجتماعی عند الجواهری عبر التكوین الرئیسی فی المنظور الشعری … وهو عنصر من العناصر المهمة فی بناء الحكایة والصیاغة الاساسیة للحدث الشعری وكذلك بالروابط السببیة التی تنظم الحدث والمتن الشعریین .
یقول الجواهری

حسناء : رجلك فی الركاب وبداك تعبث بالكتاب
وانا الضمیئ الى شرابك كان من ریقی شرابی
حسناء زاد من اضطرابی بغی التقنص فی اضطرابی
حسناء ساعتك التی دورت كانت من طلابی
حاولت اجعلها الذریعة لاحتكاكی واقترابی
عبثاً فقد ادركت ما یلتقی القشور من اللباب
كنت العلیمة بابن أوى اذا تحلق بالغراب
ذل السؤال جرعته فبخلت حتى بجواب
ان الرؤیة والتجربة الشعریة المصاغة عند الجواهری … فهی تعتمد على مستویات التلاحم والارتباط البنوی والرؤیوی وما تنطوی علیه هذه الابداعات بقدر الملاحظة لحقیقة الالهام والحدس عبر الكشف الدقیق للمستویات العالیة من الوعی والادراك الكامل للعلاقة بعالم اكبر ومتلاحم .
والجواهری كان الصورة والتعبیر عن الجانب الیقض والمتیقن لهذه الحیاة ووحداتها الداخلیة وبنیتها الشعریة والجمالیة الدقیقة فی وصف البطل الاسطوری عند الجواهری وهو یأتی عبر المسلمات الابداعیة والشخصیة ومن وصف وشدة فی الانتباه فی صیاغة النص الشعری وهو الصورة الشعریة فی مقدمة الاعترافات التی یتحدث عنها النص وحواره مع بطله الاسطوری .
هكذا اذن تحدد الملاحم الرئیسیة لانساق الاسطورة فی العمود الشعری عند الجواهری .



المراجع :
- الاعمال الكاملة للجواهری .
- الرومانتیكیة / محمد غنیمی هلال ص60 .
- دراسات فی النقد / الن تیت .
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:27|
خطابه تدفین


غافلان
همسازند
تنها توفان
کودکان نا همگون می زاید.
همساز
سایه سانانند،
محتاط
در مرز های آفتاب.
در هیات زندگان
مردگانند .
وینان
دل به دریا افگنانند،
به پای دارنده آتش ها
زندگانی
دوشادوش مرگ
پیشاپیش مرگ
هماره زنده از آن سپس که با مرگ
و همواره بدان نام
که زیسته بودند،
که تباهی
از درگاه بلند خاطره شان
شرمسار و سرافکنده می گذرد .


کاشفان چشمه
کاشفان فروتن شوکران
جویندگان شادی
در مجری آتشفشان ها
شعبده بازان لبخند
در شبکلاه درد
با جاپایی ژرف تر از شادی
در گذرگاه پرندگان .



***
در برابر تندر می ایستند
خانه را روشن می کنند
و می میرند

ترجمة :حمید كشكولی

المغفلون متشابهون،
وإن العاصفة وحدها تلد أولادا مختلفین.
مثلهم مثل الظلال ،
حذرون
فی حدود الشمس،
إنهم موتى على هیئة أحیاء.
لكنهم،
یسیرون بصدور عاریة یخوضون مخاطرالبحر،
یولعون النیران أحیاءَ،
جنبا إلى جنب مع الموت
یتقدمون على الموت بخطوة،
ودوما یبقون أحیاء بعد الموت
و یحملون دوما ذات الإسماء التی عاشوا معها،
لأن الفناء
والعار ،
یتركان أماكن ذكراهم السامیة،
مطاطأی الرؤوس.
إنهم مكتشفو النبع
مكتشفو جذور السم الخجلون،
یبحثون عن السعادة
فی مجرى البراكین
إنهم سحرة البسمات
فی قلنسوة الألم
آثار أقدامهم فی ممر الطیور اعمق من المسرات .
إنهم یقفون قدام البرق،
ینیرون البیت،
ویموتون.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:26|
مطالب جدیدتر
مطالب قدیمی‌تر