ابزار وبمستر

متــــرجـــــم عـــربی - دکتر مهدي شاهرخ | فروردین ۱۳۸۹
تاریخ الأدب العربی بعیون حسینیة




یمثل الكلام الجمیل صك المحبة الى القلب یدخله دون حاجب او استئذان، وإذا انتظمت الكلمات وسالت موسیقاها ألحانا فی أخادید أذن السامع، متسربة الى حقول نفسه ومشاتل عاطفته، أسَرته وأفقدته صولجانه ودفعته عن عرش جلموده مهما أوتى من قوة العقل وصلادة النفس، وهذا ما یفعله الشعر المجید، یغرق مستمعه فی بحوره بمرساة أوزانه، لیطلعه وهو یغوص بین أمواج الشعر وسحره على اللئالئ والدرر المنظومة.

وما أجمل الشعر حینما ینسج الشاعر خیوطه الحریریة فی حب شخصیة ملَكَ المكارم كلها، وینشئ عقدها فی تعظیم رمز حاز الفضائل جمیعها، وهب الإله كل ما یملك، فوهبه الرحمن حب الناس، تأسرهم العَبرة فینیخوا ركابهم عند رحله، یمیرون أنفسهم ویزدادون كَیل عِِبر، إنها شخصیة سبط الرسول الأكرم محمد (ص) قتیل العبرة وشهید الحق الامام الحسین بن علی (ع).

البحاثة الدكتور محمد صادق الكرباسی، یسلك بنا هذه المرة فی الموسوعة الحسینیة التی تنوء أبوابها بالعصبة أولی القلم، سبل التحقیق الى بساتین "الحسین فی الشعر العربی القریض"، من خلال "المدخل الى الشعر الحسینی" فی جزئه الأول الصادر عن المركز الحسینی للدراسات فی لندن، فی 560 صفحة من القطع الوزیری، حیث تناول فیه كل صغیرة وكبیرة لها علاقة بالأدب الشعری، فهو قبل أن یأخذنا فی رحلة معرفیة ویطلعنا على مراحل الشعر الحسینی كمقدمة ضروریة للدخول فیما نظم فی الامام الحسین (ع) من الشعر القریض، یتوقف عند محطات عدة، لبیان الشعر وتاریخه وخصائص مفرداته.

الأدب وحقیقته

ولما كان هذا الجزء والذی یلیه هو مدخل الى الدواوین الشعریة لخمسة عشر قرنا، فان المصنف یبحث فی الشعر ومنهاجیته ویستعرض الموضوعات اللصیقة بدائرة الشعر، فأول ما یبدأ به هو شرح معنى كلمة (الدیوان) وأصلها، فقد قالوا فیها أنها فارسیة أو آشوریة أو آكدیة أو سومریة أو عربیة، ویخلص الى أن الكلمة غیر دخیلة یمكن إرجاعها الى أصول عربیة، ولكن لا ینافی أن تكون لها فی اللغات الأخرى معان قریبة من ذلك، ولا یستبعد: "أن تكون عربیة الأصل دخیلة على اللغات الأخرى ولكنها دخیلة الاستخدام فی العربیة للمؤسسات والدوائر الرسمیة".

وتحت عنوان (تعریف الأدب)، یفصل القول فی المعنى اللغوی والاصطلاحی. كما إن (الأدیب) تسمیة تطلق على من یجید التعبیر نثرا او شعرا، ومن یتصف بالفضیلة فهو مؤدب. أما (ولادة الأدب) فان: "البذرة الأولى للأدب هی التجربة الشعوریة التی تتولد فی مخیلة الأدیب نتیجة لتلاقح مؤثرات خارجیة مخزونة او حاضرة"، والأدیب لیس فكراً مجردا بل عمل وتطبیق على ارض الواقع. لأن (قیمة الشعور الأدبی) تعادل القیمة الوجودیة. كما إن (قیمة الاختیار الأدبی) تتحقق فی جمع الحروف والكلمات والجمل والفقرات فی منظومة موزونة ومنمقة، لأن الجزئیات هی التی تشكل الكلیات، والكلیات تأخذ خصائصها من كینونة الأجزاء، فمتى ما أحسن استخدام المفردة صار الكلام جمیلا، وفی الشعر لابد عند تنسیق جزئیات الكلام مراعاة التنسیق بین الغرض الشعری والبحر وأوزانه والقافیة بحركاتها وحروفها، فجودة الشعر ملزومة بتناسقیة ثلاثی الغرض والبحر والقافیة. ذلك إن (القیمة التعبیریة) تعتمد على تحول الشحنة الذهنیة الى ارض الواقع بالأسلوب الشعوری.

ولكن ما هی (حقیقة الأدب)، هل هو فن أم علم؟ وهل هو عمل أم مجرد فكر؟ وهل هو هدف أم وسیلة؟

یرى المصنف أن: "الأدب بما انه یبحث عن أسالیب التعبیر وفنون الأداء بغرض تحسین صورة الفكرة فهو فن، ومن المجاز إضافة العلم الى الأدب" ویرى أن الأدب عمل والأدیب یستحق هذا الوصف: "اذا مارس الأداء الفنی فی التعبیر"، كما إن الأدب وسیلة لإیصال فكرة معینة، وحكمه حكم المقبلات فی مائدة الكلام، فعلیه: "إن شئت سمیت الأدب بالمقبلات اللفظیة". ثم إن (منابع الأدب ومجاله) كامنة فی مخیلة الانسان تترجمها التجربة الشعوریة. والأدب النابض بالحیاة هو (الأدب الموجه) الذی لا یتخذه المرء مطیة لشهواته ونزواته. لكون (هدف الأدب والشعر) هو تقدیم رسالة مسؤولة الى المجتمع عبر الكلام الخمیل والنظم الجمیل. بید أن الترابط بین (الأدب والإلتزام) لا یدعونا الى التحجر، لان مسألة الإلتزام فی الأدب والشعر التی شاعت فی خمسینات القرن العشرین، كانت قائمة على فكرة الإلتزام لحشد الطاقات الأدبیة والفكریة لخدمة قضایا الأمة. وأعلى درجات (قمة الأدب) عندما تكون القطعة النثریة او الشعریة فی تناسبها التكعیبی (التركیب والموضوع والتعبیر) فی منتهاها. لأنه عند (التقسیم الأدبی) فان: "الأدیب یحلق بجناحین: جناح الشعر وجناح النثر والقاسم المشترك بینهما هو حسن الأداء للصورة التجریبیة سواء الواقعیة منها او الخیالیة".

مرتبة النثر والشعر

وتحت عنوان (أدب النثر وفنونه) یفصل المحقق الكرباسی القول فی تقسیماته، وبخاصة: القصة، التمثیل، المقالة، الخطابة، النقد، المكاتبة، المناظرة، المثل، والمقامة. ویفرد عنوانا للحدیث عن (أدب القرآن) وبلاغته التی انبهر بها فطاحل الأدب الجاهلی. ویستقل بعنوان لبیان العلاقة بین (الأدب والشعر) وموقع الشعر الحر من النثر والشعر القریض. منطلقا من ذلك لبیان (مرتبة الشعر) فی سلّم الأدب وتعریفه، حیث توصل الى إن: "الأدب الشعری یأتی فی المرحلة الثانیة من الأدب النثری من حیث التأریخ لأن الشعر فی الحقیقة تطویر للنثر وفیه التزام أكثر من النثر، ولكن من جهة أخرى فإن الشعر یأتی فی الدرجة الأولى من حیث الفن الأدبی"، ولابد لمن یرید نظم الشعر ویرتقی أعواده أن یقرأ كما یقول الخوارزمی: حولیات زهیر واعتذارات النابغة وحماسیات عنترة وأهاجی الحطیئة وهاشمیات الكمیت ونقائض جریر وخمریات أبی نؤاس وتشبیهات ابن المعتز وزهریات أبی العتاهیة ومراثی أبی تمام ومدائح البحتری وروضیات الصنوبری ولطائف كشاجم وحكم المتنبی وغزلیات ابن الفارض. وقد عمد المصنف الى بیان المقصود من كلام الخوارزمی بمتابعة كل شاعر وما اتصف به شعره. ولا یخفى أن بین (النظم والشعر) عموم وخصوص من وجه: "وذلك لأن كل شعر نظم ولیس العكس حیث إن الشعر هو ما حرك الشعور الإنسانی بل مطلق الشعور مع مراعاة الوزن والقافیة". فالشعر الحسن ولید المعنى الجید واللفظ الجید، ولذلك فان الشعر المنتوج یقع مدار (الشعر بین العفویة والتكلف) حیث: "إن الشعر العفوی بریق شحنة فكرة تتولد بشكل عفوی وطبیعی .. بینما الشعر المصطنع عبارة عن إفراغ ما احتوته القوالب العروضیة حین یرید صانعه استخدامه". وهذا یقودنا الى معرفة مدار (الشاعر بین القریحة والعروض) حیث: "لا یستغنی الشاعر المبدع عن القریحة الخلاقة ولا عن العروض الخلیلیة" لكون الأولى بمثابة الوقود تسوق مركب الكلمات والمعانی على طریق العروض الممهد الى قمة العطاء الأدبی. على إن القول بان الشعر (أعذبه أكذبه) فیه استغراق غیر مبرر، لأن: "شاعر العفویة لا یمكن أن یقول الكذب لأن الطبیعة غیر كاذبة، والكذب لا یأتی إلا من التصنع فهو الى النظم أقرب منه الى الشعر، فالشعر أبلغه أعذبه وأخیله أصوبه، وأما المبالغة فهی ضرب من ضروب الأدب". ومن یتكلف الشعر او تقصر همته یسهل علیه (سرقة الشعر) الغالی والنفیس، وتتمحور السرقات كما یضیف المصنف حول: سرقة الفكرة أو الألفاظ أو القالب الشعری أو الانتحال، والأخیرة تعتبر أخس السرقات الأدبیة، وفیه حرمة شرعیة، على أن التضمین والتشطیر یعدان من الفن لا من السرقة. وفی مقام (الرخص الشعریة) اشتهر القول انه یجوز فی الشعر ما لا یجوز فی غیره، ویعلق علیه المصنف ویرى هناك فرقا بین الرخص المعیبة والرخص الفنیة من قبیل التقدیر والحذف واستخدام الخاص بمعنى العام وبالعكس. ولا یرى مانعا من (الانفتاح الأدبی) المسؤول على الآداب العالمیة.

تاریخ الشعر وتطوره

وقبل الدخول فی صلب الشعر الحسینی وتاریخه، یأخذنا المحقق فی جولة للإطلاع على (تاریخ الشعر وتطوره) واضعا فی حسبانه ثلاثة عصور: الجاهلی والإسلامی والحسینی، فالعصر الأول ینتهی حتى عام البعثة النبویة فی 13 قبل الهجرة، وكان: "یصب فی غالبه على الفخر والمدح والهجاء والفروسیة والشجاعة والغزل الى غیرها من المعانی المتسمة بهذه الصفات"، وینتهی العصر الاسلامی باستشهاد الامام الحسین (ع) فی بدایة العام 61 هجریة، ولوحظ فی هذا العصر: "ان الإسلامیین استعملوا مفردات القرآن الكریم والأحادیث الشریفة فی إنشائهم مما ألبسوه وشاحا عقائدیا وأعطوه طابعا علمیا فدخلت فیه الفلسفة والعلوم الأخرى"، ویرد المصنف على اولئك الذین قالوا بوقوف النبی (ص) فی وجه حركة الشعر بل یرى أن تشجیعه (ص) للشعراء مثل كعب بن زهیر وحسان بن ثابت دلیل تأییده فضلا عن ما اشتهر عن بعض أئمة المسلمین قولهم الشعر مثل الامام علی (ع).

وتستمر مرحلة الشعر الحسینی حتى یومنا هذا، لكنها مرت هی الأخرى بثلاث مراحل: الأولى: وتنتهی بغیبة الامام المهدی (ع) عام 326 هجریة, والثانیة حتى نهایة القرن الثالث عشر الهجری، والأخیرة منذ القرن الرابع عشر الهجری وحتى یومنا هذا. وضمت المرحلة الأولى دورین: الأول حتى نهایة العصر الأموی العام 132 هجریة، وقد بدأ الشعر الحسینی فی معظمه بالرجز السیاسی واتسعت رقعته الى باقی البحور، أما الدور الثانی فیبدأ من العصر العباسی وینتهی بغیبة الامام المهدی المنتظر (ع)، وفی هذه الفترة تعرض الأدیب الحسینی لمحنة كبیرة نتیجة لممارسة بنی العباس القمعیة، لكن الأدب الحسینی ظل نابضا ومتحركا مع حركة الزمان والتطور وذلك: لوجود أئمة أهل البیت وحثهم للشعراء على الإنشاء والإنشاد، وقیام العلویین بالثورات والانتفاضات، وبروز بعض الدول والحكومات الموالیة لأهل البیت، وبشكل عام كان التفوق من نصیب الأدیب الشیعی حتى قال الأدیب الأندلسی ابن هانی: "وهل رأیت أدیبا غیر شیعی".

الأدب فی العصر العباسی

وتستغرق (المرحلة الثانیة) حدود عشرة قرون هجریة، ما تبقى من عصر الدولة العباسیة حتى سقوطها على ید التتار فی العام 656 هجریة ثم سیطرة العثمانیین على البلاد العربیة عام 923 هـ، وما بعده. وقد مر الأدب العربی بشكل عام فی الدولة العباسیة بعصرین: أولا (العصر الذهبی) ثم (عصر الانحطاط)، وفی العصر الأول شهد العالم الاسلامی نشوء حواضر علمیة أرفدت الأدب بصورة رئیسة، مثل الحاضرة العلمیة فی دولة الأدارسة فی المغرب العربی والحاضرة العلمیة فی حلب على عهد الحمدانیین، وحاضرة طرابلس الشرق فی عهد الدولة العماریة، وحاضرة القاهرة فی عهد الدولة الفاطمیة، والحاضرة العلمیة فی كربلاء على عهد البویهیین والحاضرة العلمیة فی النجف الأشرف على عهد الشیخ الطوسی والمدرسة النظامیة فی بغداد على عهد النظام السلجوقی, وقد ترك التبادل المعرفی بین المسلمین من عرب وعجم تأثیره على مسار الأدب، فضلا عن إن بغداد وحلب وأصفهان والقاهرة وطرابلس كانت تعج بالمترجمین، على إن من خصائص هذا العصر: "الإسراف فی الصناعة اللفظیة، خاصة التزام السجع وكثرة التضمین للأشعار والأمثال والآیات والأحادیث واستخدام التشابه والاستعارات ..".

أما (عصر الانحطاط) فانه یبدأ عند منتصف القرن الخامس الهجری مع سیطرة السلاجقة على أمور الدولة العباسیة فی بغداد وخروج دویلات عن دائرة الحكم العباسی ونشوب الحروب الصلیبیة، ففی هذا العصر أصبح العنصر العربی غریبا فی وطنه، وتغرب معه الأدب، كما إن بعض الدویلات كانت قائمة قبل الدولة العباسیة واستمرت فی وجودها، وبعضها تولدت فی العصر العباسی وهی بالعشرات، كما أنهكت الحروب الصلیبیة كاهل الدولة العباسیة، فضلا عن شخصیات مثل یوسف بن أیوب التكریتی الشهیر بصلاح الدین الأیوبی، كما یذهب المحقق الكرباسی تآمرت مع الدولة البیزنطینیة وساهمت فی تقویض أركان الدولة الاسلامیة والسماح للصلیبیین باحتلال المدن الاسلامیة مثل القدس. فی مثل هذه الظروف یساعدها الصراعات الطائفیة، برز شعر التصوف والعقیدة والتمذهب، كما ظهر شعر الفلسفة أیضا وبالأخص فی أروقة الفاطمیین، كما: "إن التشرذم والتقلب أثّر بشكل فاعل فی تراجع الشعر الحسینی كغیره، كما إن الصراع الطائفی والنزاع على الملك كان له الأثر فی نوعیة الشعر الحسینی".

الأدب فی العصر العثمانی

ویتابع المصنف فی (العهد العثمانی) حركة الأدب بعامة والشعر بخاصة والشعر الحسینی على وجه الخصوص، حیث قسم العهد العثمانی الذی ینتهی بانتهاء الدولة العثمانیة فی العام 1342 هـ (1924م) الى أربعة عصور، یبدأ بالعصر المغولی وینتهی بعصر التدهور وبینهما عصر الفتوحات وعصر الاستقرار، ویعتبر العصر المغولی هی الحلقة بین سقوط الحكم العباسی وقیام الحكم العثمانی، ویشیر الى الفساد الذی استشرى فی قصر المستعصم بالله العباسی وعدم استماعه الى صوت العقل ونصائح العقلاء من وزرائه من قبیل الوزیر محمد بن العلقمی لتجنیب سقوط بغداد بید المغول الذین راحوا یحتلون المدن الاسلامیة كالسیل العرم، وبشكل عام: "وفی هذه الفترة العصیبة لم یكن للحركة الأدبیة مرتع یناسبها فقد ضعفت مبانی الشعر وتراكبیه واتجه من كان بمقدوره نظم الشعر فی ظل هذه الظروف الى تناول المعانی المتداولة وبرز العنصر الدینی فی الأدب والشعر معا".

وفی العصر العثمانی الذی ابتدأ من إنشاء الدولة العثمانیة عام 680 هجریة، انفتحت شهیة الحكام على الفتوحات والحروب، وفی المقابل انعقد لسان: "الأدب العربی فی ظل هذه الحروب والانتهاكات والاحتلالات وتعاقب الحكومات من شتى اللغات والقومیات غیر العربیة والتی على أثرها دخل اللحن فی اللغة والتسیب فی آدابها وظهر الشعر الملمع بالتركیة والفارسیة والهندیة وغیرها، واستخدمت الكلمات الدخیلة وراجت اللهجات الدارجة"، أما الشعر الحسینی فانه لم یشذ عن مسار الشعر العام الذی نظم فی هذه الفترة، ولما كان محوره الامام الحسین فلابد أن یكون النظم على الولاء والعقیدة، إذ إن: "الحسین كان وسیبقى المادة الخصبة للشعراء والنقطة الروحیة الناطقة لتجمیع الأمة یلجأ الیها الانسان فی مثل تلك الظروف الحالكة لیتقرب الى الله ویشكو همه".

وبعد أن استولى العثمانیون على جل البلاد العربیة حل (عصر الاستقرار) فاستتب الأمن وافترشت لهم وسادة الحكم، وحاولوا جاهدین تحمیل ثقافتهم التركیة على المسلمین مع التزامهم بالثقافة الاسلامیة بشكل عام. وقد اتسم (الحكم العثمانی الأول) كما یرى المحقق، بالاستبداد، والطائفیة، والقومیة، وبروز التصوف، والعنف، وهذه أثرت على النتاج الأدبی النثری والشعری، حیث اكتسب الأدب فی عصر الاستقرار الكثیر من سمات هذه الظواهر، حیث: "تمكن الضعف فی النفوس وفسدت ملكة اللسان وجمدت القرائح فلا نبغ شاعر مشهور خارج البلاد العربیة، لان البیئة الأدبیة قد انكمشت انكماشا ملموسا فانحصرت فی مصر والشام وحدهما"، وأفضل من یصف حالة الأدب فی ذلك العصر هو البكاشكیری (ت 992) صاحب العقد المنظوم فی أفاضل الروم، حیث یقول: "قد انتهیت الى زمان یرون الأدب عیباً ویعدون التضلع فی الفنون ذنبا والى الله الحنان المشتكى من هذا الزمان"، على انه برز فی هذا العصر كما یقول البحاثة الكرباسی: "شعر التصوف والمدائح النبویة بشكل عام وخفت الأغراض الشعریة الأخرى كالغزل والفخر والحماسة والمدح وما شابه ذلك ومعه خف المستوى الأدبی والإبداعی فی الشعر، كما برز شعراء مخضرمون ینظمون بالعربیة وبالفارسیة أو بالتركیة والعربیة".

وبموت السلطان سلیمان الثانی (ت 1102هـ) حكم الدولة العثمانیة سبعة عشر سلطانا حتى انقراضهم، وهذه الفترة یصفها المؤلف بأنها فترة (عصر التدهور) حیث نشبت الحروب على أطراف الدولة العثمانیة نتج عنها استقطاع المدن وضمها الى هذه الدولة او تلك، أو الاستقلال بنفسها، وبالتبع نال الأدب النثری والشعری ما نال الواقع السیاسی العام، وهكذا: "ضعف الشعر فی هذا العصر وأصبح ركیك الأسلوب، سخیف المعانی، كثیر الأغلاط، ضعیف الأغراض"، ولكن فی المقابل حیث لا یرتبط الشعر الحسینی بالبلاط فانه استطاع أن یقفز على الضعف الذی أصاب الشعر، ولهذا فان: "المجموعة الشعریة التی حصلنا علیها عن هذه الفترة والتی تطابق تاریخیا القرنین الثانی عشر والثالث عشر، والنصف الأول من القرن الرابع عشر الهجری تزایدت باضطراد"، فان: "عددهم فی هذه الفترة تجاوز 330 شاعرا، القرن الثانی عشر نحو ستین شاعرا، القرن الثالث عشر نحو 130 شاعرا، القرن الرابع عشر حتى عام 1342 هـ نحو 130 شاعرا، والعیون منهم نحو خمسین شخصیة".

الأدب فی العصر الحدیث

أما (المرحلة الثالثة) من مراحل الشعر الحسینی، فان البلدان العربیة والإسلامیة شهدت احتلالا من قبل هذا الاستعمار واستقلالا عن ذاك، ولا یخفى: "إن الاستقلال لم یأت عن فراغ ولا عن إرادة دولیة أو غربیة، بل اثر نهوض الشعوب الاسلامیة بوجه الاستعمار وتقدیم التضحیات الجسام من قبل الأشراف وبقیادات شریفة كالشیخ محمد تقی الشیرازی فی العراق، وعمر المختار فی لیبیا، وعبد القادر الجزائری فی الجزائر، واحمد عرابی فی مصر، وإبراهیم هنانو فی سوریا، ومحمد احمد المهدی فی السودان، ومحمد المهدی فی الصومال، وشرف الدین فی لبنان، وأمثالهم فی أقطار أخرى". ولابد أن یصطبغ عموم الأدب بملامح (العصر الحدیث)، فعلى صعید اللغة خرجت الأمة من هیمنة اللغة التركیة، ولكن الاستعمار حاول فرض لغته كما فی شمال أفریقیا، وعلى صعید الجانب السیاسی: "تأثر العالم الاسلامی بالسیاسة الغربیة وذلك بفضل الحكام الذین وصلوا الى الحكم فی البدایة على أكتاف الغربیین إن بشكل مباشر أو غیر مباشر"، وتأثر الأدب بهذه التحولات، وساعد (الأدب والأدباء فی هذه المرحلة) ظهور: الصحافة والمدارس والإذاعة والطباعة والترجمة والمواصلات والاتصالات والاستقلال والمكتبات والهجرة والمجامع العلمیة والجامعات، وقد ازداد الشعراء فی هذا العصر، لكنه شهد من جانب آخر (صراع اللهجتین) بین الفصحى والدارجة.

وقبل أن یلج المصنف صلب موضوع الشعر وأغراضه وبحوره وأوزانه، یرى أن التطلع الى (المستقبل) یستدعی: أن یتحول الأدب الى أدب تخصص فی أغراضه، وان یبتعد عن التسیس فیكون طوع الحاكم، وان یكرم الشاعر أیام حیاته وعطائه، وان یتم إنشاء مجمعات وندوات أدبیة، وان یصار الى إعادة المباراة الشعریة، وان یتم الالتقاء بالحضارات الأخرى عبر عقد الندوات، وان یتم دراسة الشعر والأدب من قبل أخصائیین معترف بهم، وان یصار الى تقییم النتاج الأدبی والشعری بین فترة وأخرى، وان تتوجه الأنظار للاعتناء بالمواهب الفنیة وصقلها، وان یوجه الأدب لصالح المجتمع.

بحور تنفتح على أخرى

ویوضح المصنف ضمن (معیار النظم) مصطلحات العروض والوزن والبحر، فالأول یبحث أوزان الشعر والبحور ومتعلقاتهما، والثانی یتناول المقاییس الإیقاعیة، والثالث یبحث نوعیة الوزن والإیقاع، فنوعیة التفعیلات التی تشكل الإیقاع الجمیل هو البحر. ویعترض المصنف ضمن بحث (عروض الخلیل بین الأصالة والتحدیث) على اولئك الذین یحاولون عبثا نسبة ما اكتشفه الخلیل بن احمد الفراهیدی من بحور الى غیره. ثم یتناول (البحور) بشیء من التفصیل، وبخاصة التی توصل الیها الخلیل وهی خمسة عشر بحراً: الطویل، المدید، البسیط، الوافر، الكامل، الهزج، الرجز، الرمل، السریع، المنسرح، الخفیف، المضارع، المقتضب، المجتث، والمتقارب. وزاد الأخفش بحر المتدارك، وزاد أبو العتاهیة بحر المِدَق، وزادوا بمرور الأیام بحور: المستطیل، الممتد، المتئد، المنسرد، المُطرد، المتوافر، الدوبیت، السلسلة، المبسوط، المستدق، المستدرك، المستقرب، القریب، المشترك، الموجز، المستكمل، المستزاد، المتوفر، المخفف، المركب، والمتسرح. ویلحق بهذه البحور عشرون أخرى، فضلا عن (المربوع) فی 22 نوعا، وبشكل عام لا یمكن قصر البحور على عدد معین، ذلك: "إن اختراع البحور لیس حكرا على احد وإنما تابع للقواعد والمعاییر، فأینما وجد الإیقاع وتوفرت الشروط فلا یمكن رفضه" ولهذا أوجد الدكتور الكرباسی أوزانا جدیدة أدرجها فی كتابه "الأوزان الشعریة"، وواصل فی هذا التوجه حتى وضع كتابه هندسة العروض لیوصلها الى 208 بحور بغض النظر عن مولداتها.

ویعتقد: "إن البحر من جهة والوزن من جهة أخرى تابعان لموسیقى الكلام ووقعه لدى السامع ویتدخل فیه الذوق ولا یمكن حصره بما وضع له"، ولذلك لا یعترض على (التجاوزات المجازة)، بلحاظ انه: "كلما لم یستهجنه الذوق السلیم فهو موزون" أیده فیما توصل الیه الأدیب واللغوی العراقی الراحل الدكتور ابراهیم السامرائی فی قصیدتین بعث بهما للمؤلف.

أصل الشعر: الرجز أم الحداء؟

ویحدثنا المصنف عن (الرجز)، ولا یؤید قول البعض انه لیس من الشعر، وقد: "سمی بحمار الشعراء او حمار الشعر لسهولة النظم على زنته او لسهولة التلاعب مع تفعیلاته ورویه"، بل یؤید ما ذهب الیه البعض بان اصل الشعر بدأ بالرجز، فیكون تاریخه من تاریخ الشعر، على إن البعض یرى أن الحداء، وهو سوق الإبل والغناء لها، هو أساس الشعر عند العرب ثم تطور الى سائر ألوان الرجز ومن ثم الى غیره من الأوزان والبحور، ربما یؤیده فی ذلك قوله النبی محمد (ص): "لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنین". ومن الرجز (الأرجوزة) حیث یلتزم الشاعر بالقافیة الموحدة فی كل من الصدر والعجز دون غیرهما. وفی مقابل الرجز ظهر (القصید) حیث كان أول تطوره أن قاموا بتطویل شعر الرجز فنتج عن ذلك القصید. واشتهر الرجز بوصفه (شعر الحرب).



الشعر الحر وأمور أخرى

ویفرد المصنف عنوانا مستقلا للحدیث عن وزن (الدوبیت) وتتبع أصل الكلمة وتاریخها وتفاصیلها، و(نشأة الدوبیت)، والعلاقة بین (الأدب العربی والدوبیت)، وحجم (وقع الدوبیت) و(تركیبة الدوبیت)، ومناقشة (أقوال شاذة فی وزن الدوبیت)، وملاحظة (أنواع الدوبیت وتطوره). وبشكل عام فان الدوبیت كلمة فارسیة مركبة من "دو+بیت" وتعنی البیتین: "وفی الحقیقة انه كالمربع فی كونه یحتوی على أربعة أشطر ولكن یخالفه فی الوزن ویتفق معه فی اتحاد قافیة الشطر الأول والثانی والرابع" ولعل الشاعر الإیرانی "رودكی" أول من نظم على وزنه، بید أن: "أدباء العرب وشعراءهم تفننوا فی القالب الشعری من الدوبیت وطوروه حتى أصبح له أنواع مختلفة"، أما فی الأدب الحسینی فان الدوبیت دخله منذ القرن السادس الهجری او قبله بقلیل.

ویفرد البحاثة الكرباسی عنوانا خاصا یتناول (الشعر الحر) بوصفه حالة وسطى بین النثر المقفى والشعر الموزون، وان كان البعض یرى أن الشعر الحر فی عائلة الأدب كالخنثى، لا هو من جنس النثر ولا من جنس الشعر، حیث ضاع قائله بین المشیتین! وعند المصنف أن المختار من الشعر الحر: "المتحرر من القافیة فقط دون الوزن تناسبا مع وضع الشعر وما حملته الكلمة من معنى حیث إن موسیقى الكلمات المعبّرة هی التی تهزّ مشاعر الانسان"، مشیرا الى قصائد نازك صادق الملائكة وبدر شاكر السیّاب بوصفهما ممن حرك فی قصائده من الشعر الحر مشاعر الانسان.

والعنوان الأخیر من عناوین الجزء الأول من كتاب المدخل الى الشعر الحسینی، اختص بوزن (البند) او القفل او العقدة او الفقرة او القسم، فهذه أسماء عربیة لأصل الكلمة الفارسیة بفتح الباء وسكون النون، وحاصل البحث: "إن البند نوع من أنواع الشعر كان معروفا قدیما وهو یشبه ما یسمى بالشعر الحر فی زماننا".

ولا یتنازل المصنف عن حق القارئ فی أن یعرف كل ما تضمنه الكتاب فترك له فهارس غنیة بالمعلومات، یتابع من خلالها: الآیات المباركة، الأحادیث والأخبار، الأمثال والحكم، الأعلام والشخصیات، القبائل والإنسان والجماعات، الطوائف والملل، الأشعار، التأریخ، اللغة، مصطلحات الشریعة، المصطلحات العلمیة والفنیة، الوظائف والرتب، الآلات والأدوات، الإنسان ومتعلقاته، الحیوان ومتعلقاته، النبات ومستحضراته، الفضاء ومتعلقاته، الأرض ومتعلقاتها، المعادن، الأماكن والبقاع، الزمان، الوقائع والأحداث، المؤلفات والمصنفات، المصادر والمراجع، مؤلفو المراجع.

ولا یتنازل المصنف أیضا عن حق الآخرین فی النقد أو بیان وجهة نظرهم او فكرة جدیدة یقدمها علم من الأعلام من جنسیات وأدیان ومذاهب مختلفة، ولذلك فإننا فی هذا الجزء نقرأ وجهة نظر المفكر اللبنانی المسیحی انطوان بارا الذی یبدأ قراءته لهذا الكتاب بالتأكید انه: "لو قلنا أن الإسلام بدؤه محمدی واستمراره حسینی، فلن نكون مجافین لحقیقة تجلت فی شواهد دینیة وتاریخیة" فقد "كانت كربلاء بارهاصاتها الروحیة أنشودة وضعها الحسین على الشفاء فما ملّتها قط، استوطنت حناجر الأجیال، تطرب لها العقول وتحنو علیها الأضلع والصدور كدرّة ثمینة، فتلهب المشاعر وتهز القرائح لها اهتزاز الصبّ المستهام فتخلدها كلماً وشعراً الى جانب ما خلده التاریخ منها سرداً وتحلیلاً"، وعبّر عن سعادته لصدور الموسوعة الحسینیة ومتابعتها للنهضة الحسینیة: "لأنه عمل فكری لا یجارى". وبوصفه أدیبا رأى أنطوان بارا أن ما أتى به المحقق الكرباسی فی هذا الجزء وما سیلیه من أجزاء هو كنز عظیم لان: "المكتبة العربیة تفتقر الى كتاب یجمع بین دفتیه ما نظم من أشعار عن ملحمة كربلاء التی شكّلت على مر التاریخ إلهاما للشعراء وذوی النفوس الشفیفة".

وأجد أن هذا الجزء بما فیه من مادة أدبیة ومعرفیة دسمة لا یستغنی عنه أی طالب أدب من نثر او شعر، فهو ینقل أقدامه الى الجادة الصحیحة التی ینبغی أن یسلكها للوصول الى مصفًى العمل الأدبی وزلال الأدب الموجه.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:30|
النسویة فی القصة القصیرة

نماذج سوریة




یحسن فی البدایة أن نتوقف عند إشكالیة مصطلح (النسویة) الذی أسیء فهمه كثیرا! إذ إن ما أقصده هو انفتاح اللغة الأدبیة على خصوصیة التجربة النسویة، التی نلمسها فی إبداع المرأة، دون أن نحمّل هذا المصطلح أی دلالات تؤدی إلى تمییز أو تفوق أدب المرأة على أدب الرجل! لأن الإبداع، فی رأیی، هو الانتماء الحقیقی للأدب بغض النظر عن جنس قائله.
خصوصیة دلالة العنوان:

نلمح هذه الخصوصیة فی اختیار عنوان قصة "أنیاب رجل وحید" [1] (فی مجوعة غادة السمان "لا بحر فی بیروت" التی ظهرت طبعتها الأولى 1963) یلاحظ أن هذا العنوان یحمل دلالات القهر والمعاناة التی تتبدى فی اختیار لفظة (أنیاب) التی أضیفت إلى الرجل، وشكلت وحدة دلالیة معها بسبب وحدة المتضایفین، مما یعنی أن الكاتبة ترى الآخر بصورة مشوهة، لكن صفة (وحید) خفّفت من هذا التشوّه، إذ جعلتنا نلمس تعاطف الكاتبة مع ظروف الرجل (أستاذ الجامعة بسام) الذی یعیش تجربة غرائبیة، فقد أُخبر عبر هاتف أتاه فی المنام بأنه مشرف على الموت بعد یومین، فیطغى علیه إحساس الزوال، ویتضاعف إحساسه بالحاجة إلى الآخرین، لكنهم یكشرون عن أنیاب الخداع، فلم یجد أمامه إنسانا مخلصا سوى (سلمى) تبدو المرأة هی ملاذ الرجل فی محنته، بما تجسده من قیم الحب التی هی حبل نجاة للإنسان الوحید عالم مزیف! فهی تعید للرجل إنسانیته، وتخلصه من أنیابه ووحدته، مما یعنی سیطرة صورة المرأة المنقذة على لا شعور
الكاتبة غادة السمان!
خصوصیة التجربة:

نلمس فی مجموعة ألفة الأدلبی "ویضحك الشیطان" التی ظهرت (1970) نعایش فی قصة "من أجلك أنتِ" تجربة المرأة المهانة التی اعتدى خطیبها على شرفها وتخلى عنها بعد أن عرف أنها حامل!

یتجلى الخیال المقهور هنا فی تحویل هذا الرجل إلى قطیع من الذئاب، وبذلك لا تستخدم الكاتبة الصفة السلبیة (ذئب) بصیغة المفرد بل تجعلها بصیغة الجمع، فیصبح الخطیب الهارب من مسؤولیته قطیعا من الذئاب تلاحق المرأة! "آه من الذئاب!…قطیع من الذئاب یحمل رؤوسا بشریة یطاردنی، یعوی ورائی…أسرع الخطا، أركض كمجنونة…" [2]

بدت لغة الحلم إثر تجربة المرأة مع الرجل المعتدی تجسیدا لمخاوفها تستطیع عبره التنفیس عن رعبها وقلقها الذی یصل حدّ الجنون!

نلمس جمالیة الحوار الذی ینبع من خصوصیة التجربة، إذ نعایش فی هذه القصة تجربة فریدة تجسد بؤس المرأة الحامل المخدوعة، التی لا تجد من تبثه شكواها وحزنها سوى الجنین! فهو المستمع الوحید الذی ترتاح إلیه، لذلك تنشئ حوارا مدهشا بینها وبینه فی أحشائها (مفترضة أنه طفلة) وبما أن المستمع (الجنین) لا یستطیع الحوار، فإن حوارها بدا داخلیا أشبه بلحظة بوح واعتراف ودفاع عن النفس، إنه حوار مع الذات وكشف للحظات ضعفها وحرمانها! كما هو كشف لآمالها ومخاوفها، إذ یطاردها كابوس أنها ملاحقة تقع فی فخاخ الذئاب!

اهتمت الكاتبة بأن تجعلنا نعایش تفاصیل هذه الأزمة منذ الافتتاحیة، ففی الجملة الأولى فیها "صحوت من نومی مرتاعة أرتجف" وحتى الخاتمة "سأقدم على الأمر الفظیع (إسقاط الجنین) وسأحرم منك! لا من أجلی أنا بل من أجلك أنت"

تلجأ الكاتبة إلى تقنیة الحوار الذی یعتمد اللحظة الراهنة (أی الترهین السردی) فیكشف مدى أزمة بطلتها الداخلیة (إسقاط الجنین أمر فظیع ومحرم دینیا واجتماعیا) كما یكشف صراعا بینها وبین ذاتها تحسمه لصالح الطفلة، وكذلك لجأت الكاتبة إلى العبث بالزمن وجسدت لنا عبرالحوار الذی یجسد لحظة مستقبلیة حاسمة فی حیاة (الطفلة لجنین)!إذ تخیلت طفلتها صبیة جمیلة یرفضها خطیبها لأنها ابنة غیر شرعیة، فنجدها تحاسب أمها باكیة "لِمَ كتمت عنی الأمر؟…"

إن تجاوز اللحظة الحاضرة إلى المستقبل، یدفعها إلیه خوف من مجتمع ینسج البؤس حول مصیر طفلتها غیر الشرعیة، لذلك تساعدها هذه التقنیة على استباق الأحداث وحسم أمرها فی التخلص من الجنین، وهی تمهد لهذا الاستباق الذی یستشرف المستقبل بعبارة "هأنذی أتخیلك" كی تمهد للمتلقی نقلتها الزمانیة وتضمن تفاعله.

ثمة نوع من الترتیب رغم تجاوزها للمألوف فی تقدیم أحداث القصة عبر إطار زمنی حر (حاضر، ماض، مستقبل) فقد لاحظنا أن حدیثها عن الماضی قد سبق حدیثها عن المستقبل، إنها ترید أن تقدم للمتلقی ماضی الشخصیة ولحظات ضعفها ثم آلام تنتظرها فی المستقبل، مما سینعكس على قرارها الذی اتخذته فی حاضرها، رغم أنه یتنافى مع تلبیة حاجات المرأة الداخلیة وهی تجربة الأمومة!
تجربة الأمومة:

فی مجموعة ملاحة الخانی "كیف نشتری الشمس" (1978) تستوقفنا قصة "أنت شبیهی" التی نجد فیها تجربة الأمومة بصورة مدهشة، فقد استطاعت الكاتبة أن تقدم رؤیتها عبر صورة تجسد بؤس العلاقة بین أم وحیدة وابن عاق نسی أمه وهو یلهث وراء لذاته ونجاحاته المادیة، وقد جاءت هذه الصورة على لسان الابن العاق، فبدا لنا صوت أعماقه واضح البشاعة "مع توالی الأیام نبتت لی مخالب أخفیها وبراثن أتستر علیها، وفی موضع القلب أحمل فلزة من صخر …أنت وحدك موئلی، ودارك ملاذی.

مررت أصابعها على جبینی، توقفت عند العینین، تبسمت. المرارة تقطر من التجاعید المرسومة حول الفم. أحس طعمها فوق لسانی تلدغنی ، أصابعها تغوص الآن فی عمق شعری، تدغدغه بعنف..شیء ما مدبب فی رؤوس الأصابع یجرح جلدة الرأس…یهبط على جبینی الذی ینـزف للتو، تكاد الأصابع تبلغ عینیّ… الأظافر نبتت واستطالت وقست باتت مثل أظافر فهد متوحش." [3]

ثمة هاجس لدى الكاتبة هو أن تجسد خصوصیة مشاعر الأمومة المكلومة، فحاولت تجسید هذه التجربة عبر أدوات تصویریة، فأی انحراف فی العلاقة بین الأم وابنها، تجعل الولد العاق یضع صخرا مكان قلبه، فیعیش حیاة منسلخة عن عالم الإنسان! إذ تنبت له مخالب، خاصة بعد أن حلت المرارة محل الرقة والحب فی قلب الأم، لذلك لن نستغرب هذه الصورة للأم التی تود لو تمزق ابنها اللاهث وراء المادة ناسیا المعانی النبیلة والقیم! لهذا نكاد نفتقد، هنا، الألفاظ الرقیقة، مع أن المشهد الذی تقدمه مشهد لقاء أم بابنها المسافر! فقد طغت الألفاظ ذات الدلالة القاسیة والمتوحشة (فلزة من صخر، المرارة، شیء ما مدبب، الأظافر: تكررت مرتین، برائن، مخالب، فهد، متوحش) كذلك نجد الأفعال بدت ذات دلالات عنیفة (تلدغنی، یجرح ، ینـزف) حتى الفعل الذی قد یحمل دلالة تبعده عن العنف (یدغدغ) تضیف إلیه صفة تجعله قاسیا (تدغدغنی بعنف)، أو تجعله یحمل هذه الدلالة من خلال السیاق (تقطر المرارة) (تكاد الأصابع أن تبلغ عینی)

قدمت الكاتبة عبر ذلك كله صورة فنیة تشكل معادلا لحقیقة بتنا الیوم نعایشها، وهی افتقاد كل ما هو جوهری ینعش الوجود الإنسانی ویعطی للحیاة معنى (رقة الأمومة وحنانها، وتجاوز الأبناء أنانیة الذات) فی مقابل اللهاث وراء الزیف والمال، لهذا بتنا نستبدل بحب الأم مخالب فهد متوحش!

استخدمت الكاتبة أم عصام (خدیجة الجراح النشواتی) فی مجموعة "عندما یغدو المطر ثلجا" فی قصتها "الحقیقة العاریة" لغة رمزیة للدلالة توحی ببؤس العلاقة بین الرجل والمرأة، لذلك تستعیض فی هذه القصة عن الاسم أو الصفة الاجتماعیة، فالزوجة تصبح "فأرة" والزوج "سجانا" وبذلك تكون الدلالة السلبیة من نصیب الرجل والمرأة دون أی تحیز من الكاتبة لجنسها!

لكن ما لاحظنا فی هذه القصة هو تسلیط الضوء على صوت المرأة فی لحظة تأزم، فنلمس تفاهة الحیاة التی تعیشها بسبب الزوج الذی یفرض علیها قیم الحیاة الحدیثة بنظره (السهر، الرقص، المجون، حیث یتبادل الرجال زوجاتهم) فی حین نجد الزوجة ترفض الانصیاع لهذه الحیاة، وینتابها الخوف على ابنتها فتقدم لها الحقیقة العاریة التی تعنی خلاصة تجربتها المرة فی الحیاة فتقول؛: "المدینة زیف وتمثیل لا تحرر وصدق…ستهمس لها بألا تقبل الحیاة فی سجن كسجنها، بل فی قصر… قصر فی مفهومه لا فی قیمته المادیة وریاشه الفاخرة…ستعلمها بأن تقبل رفیق عمرها صدیقا وندا وفیا، یقدر وفاءها له ویحترمه… سترسم لها خطوط الحقیقة العاریة." [4]

مع الحیاة المشوّهة لن تستحق المرأة اسما عادیا أو لقبا اجتماعیا وإنما ستطلق الكاتبة علیها اسما رمزیا "فأرة" یجسد بؤس حیاتها التی أوصلتها إلى الهامشیة والمهانة، وكذلك لن نسمع اسم الزوج ولن نلمس صفته الاجتماعیة، بل سنجده من خلال الدور الذی یمارسه هو "السجان" ویتحول بیت الأحلام الزوجیة إلى سجن تنتهك القیم فیه!

لذلك نجد المرأة تهرب من حاضرها التعس إلى أحلام الماضی، لكن هذا الهروب لن یشكل ملاذا لها، فقد تجسدت أحلامها فی أسوأ صورة، لهذا كان إحساس الفجیعة یشمل حاضرها كما شمل ماضیها، یأتی صوت أعماقها عن طریق الراویة، الذی یبدو لنا حمیمیا أحیانا، إذ قلما تتحدث الشخصیة بلسانها (مستخدمة ضمیر الأنا) فهی تتحدث بلغة حذرة، مستخدمة صیغة الغائب، لعل الكاتبة تتجنب إساءة فهم قد تتعرض له من قبل المتلقی الذی قد یماهی بینها وبین الشخصیة النسویة! لذلك تلجأ إلى ضمیر الجماعة، كی تلمح إلى أن هذه المعاناة جماعیة لا علاقة لها بذات الكاتبة.
خصوصیة علاقة المرأة مع الزمن:

نلمح هذه الخصوصیة فی قصة أخرى لأم عصام هی "المرحلة الصعبة" إذ نعایش تجربة تكاد تكون خاصة تدعى أزمة منتصف العمر، صحیح أن هذه الأزمة یتعرض لها كل من المرأة والرجل، لكن معاناة المرأة تبدو أكثر حرقة، لهذا تسیطر لغة الوجع الروحی على الشخصیة النسویة فنسمعها تقول: "تتحسر روحها" أو "روحها تتبدد فی الشكوى" أو تتلوى الروح تتمتم" فقد أعلن موتها حین بلغت منتصف العمر!

وبذلك نعایش فی هذه القصة أزمة المرأة التی تدعوها الكاتبة بـ"المرحلة الصعبة" فی عنوان یجسد المقولة الأساسیة للقصة، ویسلط الضوء على لحظة مأزومة تمر بها المرأة، تزیدها قلقا وخوفا من الحیاة، خاصة حین لا تجد عونا من أحد، حتى من زوجها ینشغل بالقراءة عن الإصغاء إلیها، لذلك بدا لنا الحوار الخارجی أشبه بحوار داخلی، مادام الآخر "یغرق فی هدوئه وصمته وعیناه مسافرتان عبر السطور"

لهذا یسیطر على المرأة إحساس بالدمار فـ"فی المرحلة الصعبة یتهدم كل شیء، ونخال الأیام قد انتهت" تتابع تداعیاتها عن الماضی بكل ما یعنیه جمال الشباب الذی یحمل بین یدیه إمكانات الفرح والأمل "تبدأ الحیاة والمستقبل یتراءى خلف بریق الأمل…نخال الغروب شروقا، نخال كل ما نحصل علیه سیلفحنا بحرارة الغد الذی لم یولد بعد." [5]

أعتقد أن عدم استخدام ضمیر الأنا المفردة، فی هذه القصة، أفقد الخطاب حمیمیته، مما أدى إلى جعله أقرب إلى الخطاب العام! لعل الخوف من المجتمع دفعها إلى استخدام ضمیر یبعد عنها الشبهات!!
تشوّه العلاقات الإنسانیة:

فی مجموعة ضیاء قصبجی "ثلوج دافئة" ترصد بلغة غرائبیة تشوه العلاقات الإنسانیة إلى حد مفزع، والكاتبة هنا لا تبرئ المرأة وتتهم الرجل، بل تبدو معنیة بالتشوهات النفسیة التی تحاصر المرأة الیوم! فحین تذهب الصدیقة (فی قصة "نداء من الماضی") لتعزی صدیقتها، التی تربطها بها خیوط مودة بالیة، بوفاة والدها یستقبلها كلب أسود حاول الخروج إلیها لیفترسها، وهو ینبح نباحا شرسا….وینظر إلیها بعینین یتطایر منها الشرر، كان مخیفا…" لذلك تساءلت بینها وبین نفسها "هل یؤدی الإخلاص إلى التهلكة أحیانا!" [6]

فالصدیقة اللاهثة وراء متع الحیاة تركت كلبا یتلقى العزاء، لذلك نجد هذه الصدیقة تتمتم فی الخاتمة برغبة مكبوتة، تنطق بالحقیقة المؤسیة "ألیس من الأفضل أن یذهب الكلب وتبقى السیدة؟؟!!" فنلمح رغبة ملحة فی أن تعود الحیاة إلى وضعها الطبیعی، فیتم الاحتفاء بالعلاقات الإنسانیة!

نلاحظ فی الخاتمة استخدام لغة حیادیة، فالصدیقة التی تهرب من صدیقتها تفقد صفة الصداقة لذلك تصبح (سیدة) فقط، لاحق لها فی امتلاك اسم یقوم على الصدق والمحبة، لهذا أطلقت علیها اسما محایدا (سیدة) تستحقه وتحرمها من صفة لا تستحقها (الصدیقة)!

كنت أتمنى لو كثّفت الكاتبة لغتها أكثر، فتخلت عن بعض تداعیاتها التی أساءت إلى بنیة القصة، كتلك التی تتحدث عن ضعف ذاكرتها، وعن بعض صفاتها (ص 37_ ص 38)

لعل الغرائبیة سمة من سمات الكاتبة ضیاء قصبجی، لهذا لا تمیز فی أغلب قصص مجموعتها بین امرأة أو رجل، كأنها ترید أن تنذرنا بأننا إذا لم نحافظ على علاقاتنا الإنسانیة بكل دفئها، سنعیش حیاة مشوهة تصل حد الحیوانیة، ففی قصة "لیلة العرس" نجد مظاهر البذخ تصل حدودا غیر طبیعیة، لذلك بدا العریس "وحشا" وبدت العروس "نعامة" تدهشنا هذه القصة بدلالاتها الساخرة التی تجعل من أجواء البذخ والتفاهة جوا یقترب من حدیقة الحیوان، مما یذكرنا بعوالم زكریا تامر الساخرة.
العلاقة مع الرجل:

بدت الكاتبة معنیة بالحفاظ على عالم نقی یسود حیاتنا الاجتماعیة، لذلك تقوم بتسلیط الضوء على العلاقة المشروخة بین المرأة والرجل فی قصتها "شروخ فی الخیمة" التی یوحی عنوانها بتمزق الروابط الأسریة التی تجمعها خیمة الزوجیة، خاصة حین تصبح العلاقة بین المرأة والرجل علاقة سید بمسود، تقول الزوجة: "أنتظر أن یأمرنی بنصبها (الخیمة) فی المكان الذی یریده"

قدمت لنا الكاتبة العلاقة المشروخة عبر صوت أعماق المرأة التی تبوح بآلامها وتسرد قهرها بسبب تسلط الرجل "فقال بصوته الزاجر" فنعایش بؤس العلاقة الزوجیة بكل تناقضاتها، إذ نجد مقابل لغة الزجر الذكوریة لغة الحب الأنثویة، فتجیب المرأة بصوت یملؤه الحب والحنان" لذلك وجدنا المرأة تعیش علاقة غیر سویة أشبه (بالمازوشیة) فتردد بینها وبین نفسها عبارة تجسد ذلك "إنه ظالمی لكننی أعشق ظلمه" فالظلم والزجر والأنانیة والعطالة سمات الرجل (یأكل بشهیة وحده، یغط فی نوم عمیق) لكونه ینعم بالهدوء وعدم المبالاة بمن حوله!

نلمس لدى الكاتبة تعاطفا ضمنیا مع المرأة ، فنسمع وجهة نظرها فی حین یغیب صوت الرجل فی هذه القصة فیتجلى عبر جمل قصیرة ترتكز على توجیه الأوامر للمرأة "ثبتی عمود الخیمة هنا…وافتحیها" فی حین تبدو المرأة فاعلة معطاءة (تهیئ لزوجها الفراش الوثیر وتنام على البساط، تقدم له الطعام ثم تتناول بقایاه!)

أمام هذا القهر تستجیب المرأة لنداء حب متكافئ، یدعوها إلیه رجل آخر یراها إنسانة لا عبدة، یتعاون معها على حمل أعباء الحیاة.

یلفت نظرنا أننا لا نجد فی هذه القصة أسماء تحملها الشخصیات سواء أكانت شخصیات ذكوریة أم أنثویة، تكتفی الكاتبة بتجسیدها عبر الضمائر، كی تضفی عمومیة على فضاء قصتها، لكن الملاحظ أن الرجل الظالم تبدى لنا عبر الضمیر الغائب فی حین تبدى لنا الرجل المحب عبر ضمیر المتكلم الذی ینطق بلغة إنسانیة تؤسس لعلاقة متكافئة بین المرأة والرجل فی الوقت الحاضر والمستقبل، مادام الماضی لم یعد ملكا لنا!

نفتقد فی البدایة، مع توتر العلاقة بین المرأة والرجل، ضمیر الجماعة الذی یوحد بینهما، لكننا مع ظهور علاقة إنسانیة تقوم على الحب والفهم، یبدو لنا ضمیر الجماعة قد وحد بینهما، فباتت أفعال المرأة والرجل واحدة (مررنا، سررنا) وصفاتهما واحدة (مسرورین) بل أصبح هدفهما واحدا (متجهین نحو …)

أفلحت الكاتبة فی توظیف الطبیعة لتكون معادلا فنیا لعلاقة المرأة بالرجل، فالعلاقة غیر السویة (الظالمة بینهما) تنعكس على علاقة اللیل بالنهار "داهم اللیل النهار" أما شروق الشمس فقد أصبح "معركة" وظلام اللیل أصبح "احتلالا" وبذلك نفتقد، مع علاقة القهر التی تؤسس علاقة المرأة بالرجل، جمالیة لقاء اللیل بالنهار (الغسق والشروق) إذ بات اللقاء صدامیا بینهما كأنه لقاء حربی!

من الملاحظ أن الكاتبة جعلت العلاقة غیر السویة بین المرأة والرجل فی فضاء خیمة ممزقة! أی فی فضاء ذی دلالة تقلیدیة، تقهر المرأة، فالخیمة مازالت رمزا، باعتقادنا للحیاة القبلیة التی وصلت فی الجاهلیة إلى درجة وأد المرأة! وقد منحت الكاتبة صفة التمزق للخیمة لتـزید فی دلالة بؤس العلاقة المشوهة بین المرأة والرجل التی تظللها خیمة ممزقة! أما العلاقة السویة فقد تمت فی فضاء الطبیعة التی تحمل دلالة منفتحة على الجمال "الأرض الخضراء" حیث یتم اللقاء "فی ظلال الزیزفون" "أمام غدیر طافح بالماء" حیث توقفت الشمس عن معركتها وعاد إلیها شروقها الجمیل، فانتشت الطبیعة فرحة، وكست أشعة الشمس میاه الغدیر "بریقا متراقصا"

إن جمال العلاقة الإنسانیة بین المرأة والرجل انعكس على الطبیعة، فغابت اللغة القاسیة التی تجعل الفضاء الطبیعی أشبه بفضاء حربی (داهم، معركة، احتلال…) فتقتل أیة إمكانیة لوجود علاقة إنسانیة! ولكن مع العلاقة الندیة بین الرجل والمرأة ظهرت اللغة الرقیقة ذات الإیحاءات الجمیلة المعطاءة (الخضراء، ظلال، غدیر، طافح…) بل تحولت الطبیعة إلى أم رؤوم تحنو على المرأة والرجل حین سكن الحب قلبیهما، فابتعدا عن الحیاة الجاهلیة "سرنا فی الطریق الذی یبتعد عن الخیمة… تحت أشجار الصنوبر التی تحنو بأوراقها وظلها علینا." [7]

وبذلك أسهمت اللغة الحساسة فی تأسیس فضاء قصصی متمیز، یهب القصة جمالیة خاصة تجعل عملیة تلقی القصة عملیة ممتعة، تغنی الروح والفكر، وتجسد طموح المرأة إلى فضاء أكثر إنسانیة ینأى عن السیاق الجاهلی الذی مازال یرمی بثقله على العلاقة بین المرأة والرجل.

مع مجموعة "غسق الأكاسیا" لأنیسة عبود تحضر الطبیعة فی المقولة الأساسیة للمجموعة (العوان) كما تحضر فی التفاصیل، فهی جزء أساسی فی صراع القیم والمثل مع القبح!

نلاحظ امتزاج لغة الهم الخاص بلغة الهم العام، إذ إن أی دمار للوطن سینعكس أول ما ینعكس على روح المرأة الصافیة! وهی غالبا امرأة ریفیة ("شروخ فی الزمن" "المرآة") لذلك بدت المدنیة الزائفة التی نعیش فیها الیوم المصدر الأساسی للكآبة التی تعانیها المرأة، إنها مصدر البشاعة التی حلت بحیاتنا!

تبدو لنا المدینة المشوهة وقد اعتدت على الطبیعة، فقتلت أجمل رموزها "شجرة الشط" عندئذ تقتل الأصالة والنقاء والحب والعطاء من أجل أن یسود الاستهلاك والمال! وقد بدت هذه المجموعة عبر فضائها المشوه (المدینة) وفضائها النقی (الریف) استمرارا للفضاءات التی عایشناها فی روایتها "النعنع البری"
التجریبیة فی القصة القصیرة:

یسجل للكاتبة أنیسة عبود أنها استطاعت أن تقدم القصة القصیرة التجریبیة بشكل إبداعی، ففی قصة "انفجار الألوان" تمتزج القصة القصیرة باللوحة التشكیلیة، إذ تسرد علینا القصة عن طریق لوحة ترسمها الشخصیة (زنوبیا) تفاصیل حیاتها فتبدو لنا الریشة قلما تستجلی بها أعماقها "أغمر ریشتی فی الماء كأنی أغمرها فی محیط بعید أمتد باتجاهه، علنی أرى نهایة هذا العماء الذی بدأ یتبلور فی أعماقی." [8]

تتیح عوالم الفن التشكیلی للكاتبة أدوات تعبیریة مبدعة، لو تأملنا لفظة (ریشة) التی قد تكون أداة رسم وقد تكون ریشة طائر فی مهب الریح، وقد استطاعت هذه الدلالة أن تجسد لنا الضیاع فی محیط مضطرب، لذلك لن نستغرب سیطرة الألوان السوداویة التی تحمل دلالات حزینة! إن حزن (زنوبیا) لیس حزنا عادیا أو شخصیا إنه "حزن كونی" یؤلمها ما أصاب أمتها من انكسارات التی تدعوها ساخرة بانتصارات، فتتضح لنا معالم الشخصیة عبر لغة التناقضات التی تجعل الشخصیة "وریثة انتصارات الخلیج وانتصارات النفط وانكسارات الأعماق" لهذا بات الفضاء الزمنی الذی تعیشه متأرجحا متراقصا كورقة تعبث فیها الریح! لا یوحی لها بالاستقرار أو الأمان!

نعیش مع هذه الشخصیة (زنوبیا) معاناة المرأة المبدعة، التی بدأت تحقق نقلة نوعیة فی وعیها، إذ ترى وجودها الإنسانی عبر الإبداع، لا عبر الرجل! لذلك نسمعها تقلب مقولة دیكارت "أنا أفكر إذا أنا موجود" إلى "أنا أرسم إذا أنا موجودة" لكن هذا الوجود الإبداعی تهدده علاقات إنسانیة مشوهة تحیط بها سواء مع الرجل أم مع المجتمع بما فیه من حیتان مستوردة تهدد بالتهام الأصالة والجمال من حیاتنا!

تتضح لنا فی هذه القصة العلاقة بالرجل وتكتفی الكاتبة بالتلمیح إلى العلاقات الأخرى التی بدأت تشوهها الحیتان، نظرا لطبیعة القصة التی تقوم على الكثافة والاختزال!

تبدو لنا (زنوبیا) امرأة جدیدة، تبحث عن ذاتها فتجدها عبر الإبداع الفنی، فهی مقتنعة بأن الإبداع صنو الخلود" وهذا ما یهدد علاقتها بالرجل الذی لم یتفهم بعد أعماق المرأة المبدعة، لهذا كانت علاقتها بالألوان علاقة انسجام حتى بدت مندغمة متداخلة بوجودها، فی حین كانت تنظر إلى (عاصم) ضجرة "ترى خیالات عینیه ووجنتیه وشعره، فهی غیر متأكدة من لون عینیه ولا من لون شعره"

إذا ثمة فرق بین الاندغام والتوحد مع الألوان وبین تحول الرجل إلى مجموعة خیالات باهتة، لذلك لن تستطیع تذكر لون شعره أو عینیه، فكأن الفن هو الحقیقة التی تتأكد فی أعماقها، فی حین بات وجود الرجل أقرب إلى الوهم، فهی غیر متأكدة من وجوده، لذلك یبدو لنا سؤال الرجل "أتحبیننی؟" فی الافتتاحیة سؤالا ذا دلالة سلبیة، لأن وجود الرجل فی حیاة المرأة المبدعة یدمر فنها، فقد سمعنا جواب (زنوبیا) عن هذا السؤال "أتحبیننی؟" موحیا لنا بدمار الفن "أفرط شعر الریشة فیتناثر عبر فضاءات الغرفة المزدحمة بالألوان والأشیاء والغضب" لذلك من حقها أن تتساءل: "أی سؤال هذا الذی یقف بالباب موجها لی متطاولا كشجرة تسد علی بظلالها كل منافذ الشمس"

صحیح أن الرجل (الشجرة) ضروری للحیاة لكنه لن یكون فی أهمیة الشمس أی (الفن) بالنسبة إلى المرأة، لذلك قد یؤدی وجوده لسد آفاق الحیاة أمامها فتراه نوعا من "الطوفان" الذی یدمر حیاتها، فی حین یراها الرجل "قصیدة" تزین حیاته!

تبدت لنا علاقة المرأة بالرجل، عبر لغة مأزومة (تسد منافذ الشمس، الطوفان، الغضب…) توحی لنا بمعاناة المرأة مع الرجل، إنه یحاول ترویضها كی یصبح عالمها الوحید تدور حیاتها حوله، فهو لا یمكنه أن یصدق أن بإمكان المرأة أن تنشغل عنه بإبداعها الخاص، لترى وجودها من خلاله! بمعزل عن الرجل!

یبدو لنا الرجل أكثر انشغالا بعالم المادیات، فی حین تبدو المرأة مهمومة بهم الوطن والإنسان! لذلك لم یعد یوحی لها "بلوحات جدیدة ولا بانفجارات لونیة"

لكن الكاتبة تدرك أن أی دمار یلحق بالوطن، فی ظل النظام العالمی الجدید، لن یصیب المرأة دون الرجل، لذلك لابد أن یتحدا للوقوف ضده، تتعمد الكاتبة إخفاء ضمیر (الأنا) الذی لحظناه فی القصة أثناء الحدیث عن هم الإبداع (الذی هو هم ذاتی) لیفسح المجال لضمیر الجماعة (الذی یضم النساء والرجال) فالأخطار تحیق بهما معا "إن عالما جدیدا ینبثق الآن من أصابعنا وذاكرتنا یحمل السیاط ویجلدنا لنعترف على أنفسنا ولندخل لعبة السجن الجدیدة." [9]

تحاول الكاتبة تقدیم ملامح عالم الاستهلاك، وقد عززتها الأقمار الصناعیة التی جعلت الإنسان العربی مهددا بتدمیر شخصیته وهویته، كی یبقى فی سجن التخلف والذل! ویعیش مقلدا لا مبدعا!!

لهذا تتمنى (زنوبیا) أن یكون الرجل سفینة إنقاذ تساندها كی تواجه بؤس حیاتها وكآبتها، لكن الرجل یخیب ظنها، مازال ممسوخا داخل أفكاره وأنانیته! تراه نقیضا للفن تراه وسیلة تعول علیها فی مواجهة هذا الدمار وهذا الانهیار فی القیم والمثل.

وقد أسهمت اللغة الشعریة فی بناء القصة، واستطاعت أن تجسد الحلم والمكونات الداخلیة اللاشعوریة الأخرى، فعایشنا فیها كثافة الرموز، والدلالات التی توحی باختلاط المثل وسیطرة القلق على الشخصیة بعد الطوفان الذی بدأ یدمر حیاتنا، بكل ما تحمله من قیم أصیلة: قیم الحب والجمال والعطاء! "یا لهذه الریشة الملعونة التی ترفض أن تنصاع لرغبتی…أرید أن أرسم فتاة فی طرف اللوحة هنا، أریدها باسمة فرحة…مشرقة الوجه كشجرة اللوز المغسولة بالمطر..لكن الریشة لا ترسم إلا فتاة مدبوغة بالحقول والهجیر والخوف…" [10]

تمنح القیم المعنى الحقیقی للحیاة، لذلك تفتقد المرأة السعادة والحلم بحیاة أفضل حین تفتقدها، لهذا تعیش القلق والخوف والهجران فی زمن الاستهلاك!!

لو تأملنا الفضاء المكانی فی هذه اللوحة للاحظنا الحضور الكثیف للریف بكل تنوعاته (روعة الخضرة، حیواناته وطعامه…) فهو المنبع الوحید للفن، وبالتالی المنبع الوحید القادر على مواجهة الدمار، فی حین بدت المدینة نقیضا للفن، لذلك حین ترسم (زنوبیا) شارعا فی مدینتها تبدو عاجزة عن الإبداع، إذ تخرج الألوان من قانونها…مزج الأزرق بالأصفر لم یعطِ اخضرارا" لأن المدینة تقتل الخضرة والجمال، فهی بالتالی عاجزة عن إلهام الفنان!

وقد منح البناء التشكیلی القصصی، إن صح التعبیر، الكاتبة قدرة مدهشة فی التخییل، فالشخصیة مثلا ترسم فی لوحتها خرافا سرعان ما تختفی، فقد التهمها كلب كبیر، ثم انقض على الرسامة ناشبا أظفاره فی رقبتها، فهو عالم القوى الكبرى التی لن تفسح المجال للوداعة والمحبة والعطاء، لذلك یلتهم الكلب الخراف، ولن یفسح المجال للفن الصادق أن یقول كلمته، سیبذل كل جهده لخنق هذه الكلمة وینشب أظفاره فی عنق كل مبدع!

وقد اختارت الكاتبة اسما لشخصیتها اسم بطلة تاریخیة، واجهت الأعداء وفضلت الموت على الأسر، إنه اسم (زنوبیا) وقد كان اختیارها موفقا لأننا أمام بطلة معاصرة تواجه دمار وطنها الذی توصل للحقیقة والجمال والمثل ویقاوم الزیف والبشاعة!

بدت لنا هذه الشخصیة أشبه بالشخصیة الرسولیة التی تحس بتفردها بفضل إبداعها، لذلك وجدنا لدیها طموح الرسل فی خلق عالم جدید نقی، بإمكانه أن یقاوم الزیف والطوفان الذی سیغرق العالم، نسمعها تقول "لدی أمور أود أن أنجزها قبل الطوفان"

وقد اختارت الكاتبة اسما عادیا للرجل، لا علاقة له بالتاریخ، لكنه یوحی لنا بصفة الردع التی یراها منوطة به، إذ لدیه رغبة فی أن یعصم المرأة من فنها ویبعدها عن كل ما یلهیها عن وجوده، لذلك كان اسم "عاصم" موحیا بدلالات سلبیة!

صحیح أننا لاحظنا امتزاج هموم الوطن بهم المرأة فی هذه القصة، لكننا لمسنا خصوصیة الخطاب النسوی بكل معاناته الذاتیة والعامة، وبفضل استخدام الكاتبة لضمیر (الأنا) بدت لنا القصة أشبه بقصیدة بوح تضیء أعماق المرأة بما یشبه الاعتراف، نسمع زنوبیا تقول:"أنا كغیری من النساء أحب الهدایا، ولكن یكفی أن تهدینی قرنفلة أو قصیدة… لأعترف بأنی انتظرت هدایاك…ویوم كانت تغیب هدایاك الصغیرة، كنت أحزن وأتوقف عن الرسم، لا أعرف لماذا، ربما هی أنانیة المرأة… أعرف أنی لم أعترف لك بحبی مع أننی كنت أرید أن تعترف لی بحبك فی كل لحظة، الهدیة اعتراف بالحب، أو هی بوح آخر أكثر ترمیزا وأكثر خصوصیة من البوح…" [11]

مع هذه اللغة الحمیمة نسمع صوت أعماق المرأة معترفا بما یفرحها من تصرفات وما یسعدها من أقوال، فنعیش معها صدق التجربة وحرارتها، فرسمت لنا الكاتبة أبعادا للذات الأنثویة قلما نظفر بها فی الحیاة العادیة!

افتقدنا فی اللغة القصصیة لدى أنیسة عبود،أحیانا، الكثافة والإیجاز، دون أن یعنی هذا القول افتقادها للغة متمیزة فی حساسیتها وشاعریتها، مما یمكنها من تقدیم قصة تجریبیة متمیزة.

أخیرا لابد أن یلاحظ المتتبع للقصة القصیرة النسویة السوریة أنها استطاعت أن تجسد خصوصیة التجربة الأنثویة عبر خطاب قصصی یسعى للتمیز، والنطق بلغة أدبیة خاصة، تمنح القصة فرادتها، فحاولت المزج بین الأسلوب الحداثی والأسلوب التقلیدی! وهذا ما حاوله الكاتب فی إبداعه فی أغلب الأحیان! من أجل أن یتمّ التفاعل مع المتلقی بشكل أفضل.

وقد بدا لنا أسلوب الحداثة أسلوبا تجریبیا، كل كاتبة تسعى فیه لیكون لها صوتها المتمیز، صحیح أنها حاولت الابتعاد عن الأسلوب التقلیدی، لكن دون أن یعنی هذا القول وجود حاجز حدیدی، فی كثیر من الخطاب القصصی، یفصل بین الطریقة التقلیدیة، التی تقدم فضاء القصة بشكل منتظم عبر لغة واقعیة، وبین الطریقة الحدیثة التی تجسد صوت الأعماق، عبر لغة الشعر والتخییل.

لكن ما نلاحظه هو تلك المعاناة المشتركة بین الكاتبات سواء كتبن القصة الحداثیة أم القصة التقلیدیة، وهی اللغة الفضفاضة التی تفتقد الكثافة اللغویة، مع أنها من أبرز سمات القصة القصیرة‍. لكن ما یسجل لصالح القصة النسویة السوریة أننا لم نجد فی لغة الخطاب تلك اللغة المتشنجة الانفعالیة أو المتعصبة التی تقطر كراهیة للآخر (الرجل) مما یعنی تجاوزها محدویة الأفق وفجاجة فی الوعی!
حواشی

[1] غادة السمان "لا بحر فی بیروت" دار الآداب، بیروت، ط3، 1975

[2] ألفة الأدلبی "ویضحك الشیطان وقصص أخرى" مكتبة أطلس، دمشق، 1973، ص 16

[3] ملاحة الخانی "كیف نشتری الشمس" نشرت بالتعاون مع اتحاد الكتاب، بدمشق، ط1، 1978، 16

[4] أم عصام "خدیجة الجراح النشواتی) "عندما یغدو المطر ثلجا" دار مجلة الثقافة، دمشق، ط1، 1980، ص 172

[5] المصدر السابق، ص 190

[6] ضیاء قصبجی "ثلوج دافئة" اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1992، ص 41

[7] المصدر السابق، ص 31

[8] أنیسة عبود "غسق الأكاسیا" اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1996، ص 150

[9] المصدر السابق، ص 154

[10] المصدر السابق نفسه، 158

[11] نفسه، ص 155
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:29|
تحاول هذه الدّراسة أن تستكشف الجوانب الفنیة والدلالیة فی الشعر العربی المعاصر وبالخصوص تلك التی لها علاقة بظاهرة توظیف التراث الشعبی. إذ لا یكاد دیوان یخلو من الإشارات الفلكلوریة والرموز الأسطوریة، والأجواء الشعبیة المعروفة لدى العامة والخاصة، أو تضمین هیاكل أسطوریة وأشكال شعبیة قدیمة أو حدیثة للتعبیر عن مضامین جدیدة وتجارب معاصرة. ومن ثمّ باتت هذه الظاهرة فی حاجة إلى بحث یعمق دلالتها، ویستكشف أصولها ومرجعیاتها الفكریة والحضاریة، ویحدد قیمتها الفنیة.‏

تتوجّه هذه الدراسة ـ فی ضوء ذلك ـ إلى محاولة إزاحة اللثام عن أسباب اهتمام الشعراء المعاصرین بالتراث الشعبی وطرائق توظیفه، وما اكتسبه النص الشعری من خلال استعانته بأشكال التعبیر الشعبی. كما تتوجه فی الوقت ذاته إلى اقتراح بعض الأسالیب الفنیة فی استخدام هذا التراث التی من شأنها توضیح الرؤى والمعالم، وبالتالی تجنیب الكتابة الشعریة الوقوع فی الحشد والتكرار وغیرهما من المزالق الفنیة، كالغموض الناجم عن العجز فی تمثّل هذا التراث، أو طغیان أحد الملمحین (التراثی أو المعاصر) على الآخر، أو التأویل الخاطئ لبعض الشخصیات والأحداث، أو التقلید الناتج من التشابه المفرط فی طرائق الاستخدام والتوظیف.‏

لم یكن لهذه الدراسة أن تنطلق من نتائج ومسلمات سبق التوصل إلیها، وإنما كان علیها أن تحوّل هذه النتائج والمسلمات إلى فرضیات وأن تشق طریقها بهاجسها وطموحها، مستضیئةً بنور شموع أوقدتها.‏

دراسات رائدة، وبخاصة تلك التی قدّمها كل من:‏

أسعد رزوق فی نهایة الخمسینیات حین تناول (الأسطورة فی الشعر المعاصر) متخذاً من ت. س. إلیوت نقطة انطلاقه فی منهج البحث والدّراسة. وقد انتهى إلى أن هناك علاقة وطیدة بین الأسطورة والشعر من حیث نشأتهما التاریخیة، وأن استحضار الشعراء المعاصرین للأسطورة، هو تعبیر عن أزمة الإنسان الحضاریة فی القرن العشرین. وقد كان إلیوت، ـ فی نظره ـ نموذجاً رائعاً فی تجسید هذه الأزمة حین أعلن صراحة، أن لا خلاص من الأرض الخراب إلا بالعودة إلى أحضان التراث الشعبی بطقوسه ومعتقداته.‏

وأنس داود فی أطروحته بعنوان (الأسطورة فی الشعر العربی الحدیث) التی راح یتتبع فیها ظاهرة توظیف الأسطورة، والمؤثرات الأجنبیة فی استخدامها فی الشعر الحدیث والمعاصر: بدءاً من مدرسة الإحیاء إلى مدرسة التجدید ممثلة فی بدر شاكر السیاب، وصلاح عبد الصبور، وخلیل حاوی وغیرهم من رواد حركة التجدید فی الشعر المعاصر.‏

وما كتبه أیضاً علی عشری زاید حول (استدعاء الشخصیات التراثیة فی الشعر العربی المعاصر) حیث عمد إلى رصد هذه الظاهرة رصداً فنیاً من خلال تحدید ملامحها وتجلیاتها، وربطها بمرجعیتها العربیة والإسلامیة، مظهراً ثراء هذه المرجعیة، وقدرتها على العطاء الدائم والمتجدد إذا أحسن استخدامها.‏

وشوقی ضیف حول (الشعر وطوابعه الشعبیة على مرّ العصور) من الجاهلی إلى العصر الحدیث، محاولاً تصحیح الرأی الخاطئ الذی ذاع على ألسنة العدید من الناس، والذی مفاده أن شعراء العربیة كانوا بمعزل عن شعوبهم، فهم یتغنون بأشعارهم للطبقات العلیا دون سواها من عامة الناس.‏

ولعل أبرز شیء یمكن ملاحظته على هذه المكتبة، اقتصارها على الأسطورة دون غیرها من أشكال التعبیر الشعبی الأخرى، واعتمادها على الطرح العام الذی بإمكانه إغفال الكثیر من القضایا الجوهریة التی تمیز قضیةً عن أخرى أو شاعراً عن آخر.‏

على الرغم من هذا كله، فقد كانت هذه المكتبة، خیر معین لهذه الدّراسة بما وفّرته لها من أفكار وملاحظات أنارت العدید من الجوانب المظلمة، فمهدت الطریق وسهلت سبیل السیر فیه. وقد كان ذلك من جهة أخرى دافعاً رئیساً لاختیار هذا الموضوع، إذ حركته القناعة المطلقة بأن ما أثیر حول ظاهرة توظیف التراث الشعبی فی القصیدة المعاصرة، وما كتب عنها، لم یعط الظاهرة حقها بعد من الدّراسة والتحلیل والاستنتاج، وأن جلّ ما كتب، كان منصباً حول الأسطورة فی جوانبها الاجتماعیة والفكریة دون غیرها من الأشكال التراثیة الأخرى، من هنا جاءت هذه الدّراسة محاولة سدّ هذا الفراغ، معالجة الظاهرة برؤیة یراد بها أن تكون جدیدة وشاملة، وذلك بالتركیز على الجوانب الفنیة فیها. لأن الظاهرة، كما تبین لی، حضاریة (تعبیر عن أزمة الإنسان والحضارة المعاصرة) وفنیة (البحث عن أشكال جدیدة للتعبیر عن هذه الأزمة).‏

أما عن الأسباب التی شجعتنی للخوض فی غمار الشعر المعاصر ومعالجة هذا الجانب منه، إیمانی القوی بأن هذه الناحیة، إذا ما عولجت بطریقة علمیة ومنهجیة، ستفتح العدید من القضایا والآفاق المتعلقة بالنص المعاصر، سواء تلك التی تتعلق به بوصفه بنیة لغویة وشكلاً جدیداً من الكتابة الشعریة، أو تلك التی تربطه بالقارئ والمتلقی عموماً. ومن ثمّ كان الهدف من هذه الدّراسة‏

أولاً : الوقوف عند النص الشعری المعاصر والكشف عن مكوناته الفنیة ومرجعیاته الفكریة.‏

ثانیاً : تقریب هذا النص من القارئ بإزاحة بعض غموضه الناجم عن توظیف الأساطیر والرموز ذات المناحی الفلكلوریة.‏

وثالثاً : تقریب القارئ من النص بتزویده ببعض الآلیات التی تمكّنه من الولوج إلى أعماق القصیدة واستكشاف أسرارها.‏

یؤمن الدّارس إیماناً قویاً بصعوبة قراءة النص الشعری المعاصر وفهمه فهماً صحیحاً فی غیاب مثل هذه الدراسات والإلمام بالتراث المیثولوجی الإنسانی عموماً، لأن هذا النص تأسس ـ فی اعتقادنا ـ أصلاً عندما انفتح على هذا التراث فتأثر به وأثر فیه. وذلك بعض آفاق هذه الدراسة التی تطمح إلى التأسیس لقراءة جدیدة تستحضر السیاق دون أن تغض الطرف عن نسقیة النص حین یتحوّل الأسطوری إلى شعری.‏

وبعد فحص المادة والإلمام بجل جوانبها تراءى لی أن أتناول الموضوع انطلاقاً من خطة كانت تبدو أنها ستقود إلى الغایات التی رسمت، وهی الكشف عن بنیة هذه القصیدة ومرجعیاتها الفكریة والجمالیة، من خلال الوقوف عند المصادر والخلفیات التی كان یستقی منها الشعراء مادتهم، والأسالیب التی كانوا یستعملونها.‏

وانطلاقاً من طبیعة الموضوع نفسه والغایات التی حاولت تحقیقها، كان من الضروری الاشتغال على النصوص الشعریة، وآراء الشعراء حول الظاهرة، دون الانسیاق وراء الجوانب النظریة إلا فی الحالات التی تقتضیها الضرورة. ولعل ذلك ما جعل الدراسة تغض الطرف عن كثیر من القضایا النظریة للآلیات التی اختارتها أن تكون مصاحبة لها فی قراءة المتون الشعریة على الرغم من قیمتها فی مثل هذه الحالات. غیر أن طبیعة الموضوع كانت تقتضی الابتعاد عن التنظیر ومقاربة النصوص مباشرة. كما أن اصطحاب النظریات من شأنه أن یحد من حریة الدّارس فی قراءة النصوص ویجعله سائراً وفقه. وتلك بعض معضلات النقد المعاصر الذی یغوص فی التعاریف دون أن یمكنه ذاك من الولوج إلى عالم النص الذی لا یرتضی دائماً قواعد عامة قد تصلح لنص ولا تصلح لآخر.‏

ومن هذا المنطلق الذی یجعل الجانب النظری فی خدمة الجانب التطبیقی فی الدراسة، والذی لا یحاول فهم الدلالات إلا فی سیاقاتها العامة، جاءت خطة البحث نتائج استقراء للنصوص. وعلى هذا القدر من الفهم والاستیعاب تم تقسیم هذه الدراسة فی جزئها الأول إلى تمهید وفصلین وخاتمة.‏

وتجنباً لاجترار ما أ صبح شائعاً اقتصر التمهید على عرض أهمیة التراث الشعبی فی الكتابات المعاصرة مركِّزاً على الإرهاصات الأولى لتوظیف التراث الشعبی فی حركات التجدید الشعری الأولى.‏

الفصل الأول أفردته للمكوّنات والأصول، فتطرقت فیه لعلاقة الفن والشعر بالطقوس السحریة والأسطوریة، ورأینا فیهما تلازماً قویاً منذ أن كان الفن والسحر ممارسة وشكلاً تعبیریاً واحداً لیس إلا. ومما لا شك فیه أن القصیدة الجاهلیة تثبت فی كثیر من وجوهها ذاك القران الشرعی بین الشعر والطقوس الشعبیة سواء من حیث النشأة أو الوظیفة، أو الأجواء العامة التی كانت تصاحبهما. وعلى الرغم من الانفصال الظاهری الذی حدث بینهما بعد ذلك، فإن العلاقة بینهما ـ كما أوضحت هذه الدراسة ـ قویة ومتینة، ولا عجب أن تكون القصیدة المعاصرة حاملة لزخم التراث الشعبی تتوارى بالإیماء والإیحاء حیناً، وتقیم علاقات مباشرة معه حیناً آخر.‏

أما الفصل الثانی فخصصته للحدیث عن الرّوافد التراثیة التی أقام الشاعر المعاصر علیها علاقته مع التراث الشعبی، فلم یستثن فی بحثه الدائم عن أشكال تعبیریة جدیدة مصدراً ومرجعاً. فكل المشارب صالحة للارتواء ما دامت تعیده إلى اللغة البكر والخیال الواسع. وقد كان للغصن الذهبی لصاحبه جیمس فریزر فضل بالغ فی تعریف الشعراء المعاصرین بتراث الإنسانیة الشعبی، وتقدیم أشكال تفكیر الشعوب عبر مراحلها الطویلة، فلم یعد یخفى على الشاعر أساطیر ومعتقدات أجناس بشریة كانت توصف بالبدائیة، وأصبح من المتیسر استحضار تلك الإنجازات الحضاریة للدلالة على القیم الإنسانیة العلیا التی لا تختلف وإن تناءت الأماكن واختلفت الأزمنة. ولم یعد برومثیوس وتموز وسیزیف والسندباد غرباء فی المجتمعات الحدیثة، بل إن بعضها أصبح دائم الحضور وأقرب عند الشاعر من إنسان هذا الزمان.‏
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:28|
تجلیات الأسلوب والأسلوبیة فی النقد الأدبی
مقدمة:‏

إن اطراد الدراسات اللغویة والاهتمام بها فی الوقت الحاضر ولا سیما المناهج اللغویة فی دراسة الأدب أو فی الدراسات الأدبیة، قد مهّد السبیل إلى ظهور النظریة اللغویة الحدیثة بوصفها نظاماً مساعداً فی النقد الأدبی.‏

وثمة مناهج أو مداخل كثیرة، متباینة فی نظرتها إلى النص الأدبی تحلیلاً وتقدیراً وتقویماً، ومنها على سبیل المثال المدخل اللغوی أو المنهج اللسانی الذی لا یستغنی عنه الناقد الأدبی. فعلم اللغة یمنح النقد الأدبی سنداً نظریاً بوصفه ضرورة كضرورة الریاضیات للفیزیاء، فالناقد الجید بحكم اهتماماته فی تحلیل النص وكشف جمالیاته البلاغیة والفنیة هو لغوی جید، علماً أن لا وجود لأی نص أدبی خارج حدود لغته، الإثاریة أو الانفعالیة شریطة أن یكون التعبیر عن عناصر النص سلیماً ومقبولاً عند المتلقی الذی لا یقل شأناً عن مبدع النص، بمنظور النقد الفنی التحلیلی.‏

1 ــ علم الأسلوب:‏

إذا كان الأسلوب ظاهرة تتمثل فی النصوص المنطوقة أو المكتوبة، أو هو الطبقة العلیا لهذه الظاهرة، فإنه یبرز خلال عملیة التلقی بشكل لا تستطیع مناهج علم اللغة التقلیدیة، من نحویة ودلالیة، أن تلم به أو تحلل مقاصده وتأثیراته. كما أن الوصول إلى تعریف دقیق لمقولة الأسلوب لا یتم إلا بتحدید نظریته، ومعرفة طبیعة العلم الذی یكرس له بوصفه فرعاً لعلم آخر أو قائماً بنفسه.‏

ففی نظریة الأسلوب یتحدد مجال الظاهرة المدروسة ومكانها العلمی الدقیق، وعلى هذا فإنه إذا تصوّرنا علم الأسلوب جزءاً من علم اللغة، كان علینا أن نحلل نظریته إلى عناصرها المختلفة، فنجعل أسلوب النصوص الأدبیة تطبیقاً جزئیاً لمقولة أسلوبیة عامة، وحینئذ تعتمد النظریة الأسلوبیة على علاقة النظام اللغوی العام بمفهوم "سوسیر" بأسلوب نص معین كمظهر للكلام، ویتعین علیها أن توضح بعض التصورات المهمة فی الأدب، مثل أسلوب مؤلف معین، أو جنس أدبی بأكمله، وما یعتریه من تطور أو تغیر على مر العصور.‏

فالنظریة الأسلوبیة تستمد معاییرها من النظریة العلمیة، أو من العلم الذی تنتمی إلیه تفرع جزئی منه، وتخضع لشروطه العامة فی التحقیق والتزییف، وهی فی معظم الدراسات العلمیة المعاصرة للأسلوب تعد جزءاً من نظریة تقف إلى جوار النظریة النحویة وتماثلها لهذا فإنه فی مقابل "علم اللغة" تقوم عملیة "البحث الأسلوبی" التی تعتمد على أسس النظریة الأسلوبیة، وتستمد منها منهج دراسة وتنظیم المواد، بالتضافر مع العلوم الأخرى فی مناطق تلاقیها. وفی البحوث الأسلوبیة للنصوص الأدبیة وهی التی تعنینا هنا ــ ینبغی أن تستكمل دراسة الأسلوب فی مستویاته اللغویة باستخدام المقولات المتصلة بالأدب والعلوم الفلسفیة والاجتماعیة والتاریخیة.‏

2 ــ مفهوم الأسلوب:‏

لعل المعضلة الأكبر من تحدید معیار اللغة تعریف مفهوم الأسلوب، بل لعلها المعضلة الأكثر إثارة للجدل فی دراسة اللغة. یصف إنكفیست الأسلوب على "أنه مألوف بقدر ما هو مخادع، فمعظمنا یتحدث عنه برقة وحنان مع أن لدى القلیل منا الاستعداد لتحدید معناه بدقة"(1).‏

وقد جرت محاولات عدة لتعریفه، فتدرّجت من رؤیته كوعاء للمعنى، مروراً بمطابقته مع شخصیة المؤلف، وإنكاره جملة وتفصیلاً، ووصولاً إلى اعتباره خیاراً لغویاً وظیفیاً ومقرراً ومكوناً وجوهریاً للمعنى. وهذه أهم محاولات تعریف مفهوم الأسلوب.‏

2 ــ 1 الأسلوب كوعاء للمعنى:‏

من أهم وجهات النظر القدیمة الحدیثة اعتبار الأسلوب وعاء لاحتواء المعنى المراد بداخله، فاللغة ثوب المعنى، والأسلوب زی هذا الثوب. یعبر الشاعر والناقد الإنجلیزی الشهیر دریدان" Dryden" عن هذه باعتبار الأسلوب..." فن خطابة، أو فن إلباس الفكرة وتزیینها". كما یشیر الشاعر المعروف كولیریدج (Coleridge)‏

إن هذا المعنى بقوله "إن الأسلوب ما هو إلا فن نقل المعنى بشكل ملائم وواضح أیاً ما كان هذا المعنى.."(2)‏

الأسلوب كانحراف:‏

ارتأى الشكلانیون ونقاد آخرون أن الأدب انحراف عن معیار اللغة، وقد نبذه معظم الأسلوبیین المعاصرین نذكر على سبیل المثال، ساندل (Sandel) الذی یوافق بیزلی (1969) (Paisely) فی قوله إنه "من الصعب قبول أن یكون الأسلوب هو الطریقة اللاتقلیدیة وغیر المعتادة فی الاستعمال"(3).‏

2 ــ 2 الأسلوب كلسان حال صاحبه:‏

قوام هذه الرؤیة المعروفة للأسلوب أنها تطابق بین الأسلوب وصاحبه، من أنصارها المتشددین (میدلتون مری) الذی یعتبر الأسلوب لسان حال الكاتب ومواقفه ومشاعره. إذ یقول (ویذیل): "الأسلوب خصیصة من خصائص اللغة تنقل بدقة عواطف وأفكار خاصة بالمؤول"(4).‏

فی الواقع لا یسعنا إلا أن نقول إن هذا المفهوم للأسلوب أخفق فی إقناع القراء لأنه مجحف. إذ كیف لنا أن نحكم على شخصیة الكاتب بهذه الطریقة؟ فكم من كاتب تعارضت شخصیته تماماً مع صورة فی عمله. وكم من كاتب تناول أعمالاً واتجاهات متناقضة أشد التناقض، ولكنهم لم یتهموا بانفصام الشخصیة.‏

2 ــ 3 الأسلوب هو المعنى:‏

رفض أصحاب هذا الرأی عن مفهوم الأسلوب فكرة الثنائیین بالفصل بین الشكل والمضمون، من قبل فی عام (1857) قالها (فلوبیرت): "كالروح والجسد، الشكل والمضمون بالنسبة إلى شیء واحد". كما أن النقاد الجدد قد تبنوا هذه الفكرة برفضهم الفصل بین المعنى والمبنى وحسب أصحاب هذا الرأی، الأسلوب نتاج الدمج بین الشكل والمضمون، وأی تغییر فی الأول یستدعی تغییراً فی الثانی.‏

2 ــ 4 الأسلوب كاختیار مفهوم وظیفی:‏

لم یستطع أی من المفاهیم السابقة عن الأسلوب إقناعنا، لذلك نحن بحاجة إلى مفهوم أكثر فائدة وشمولیة ودقة ینفعنا فی وضعه موضع التطبیق فی دراستنا للنصوص الأدبیة فیما بعد فی هذا العمل. ولعل هذا متاح من خلال رؤیة الأسلوب كاختیار أساسه نحوی /قواعدی ودلالی/ معجمی بشكل رئیسی. هذا وإن كثیراً من الأسلوبین المعاصرین یرونه هكذا بشكل أو بآخر. وحسب هذا المفهوم كل الخیارات اللغویة أسلوبیة من حیث المبدأ، فلكل منها وظیفة (أو أكثر) تختلف من نص على آخر ومن سیاق على آخر.‏

ویعرّف كارتر الأسلوب بقوله: "یتأتى الأسلوب من التداخل المتزامن للتأثیرات (الأسلوبیة) فی عدد من مستویات اللغة". وهكذا یمكن إعطاء التعریف التالی الشامل والمبسط للأسلوب: "الأسلوب مجموعة الوظائف الأسلوبیة/ اللغویة المنتقاة من المخزون القواعدی والمعجمی والصوتی والشكلی للغة العامة".‏

3 ــ ماهیة الأسلوب والأسلوبیة:‏

الأسلوب والأسلوبیة مصطلحان یكثر ترددهما فی الدراسات الأدبیة واللغویة الحدیثة، وعلى نحو خالص فی علوم النقد الأدبی والبلاغة وعلم اللغة.‏

ــ ودائرة المصطلح الأول أكثر سعة من دائرة المصطلح الثانی على المستویین الأفقی والرأسی. ونعنی بالمستوى الأفقی، الاستخدام المتزامن للمصطلح فی حقول متعددة متجاوزة أو متباعدة، وبالمستوى الرأسی، الاستخدام المتعاقب فی فترات زمنیة متتابعة داخل حقل واحد. فكلمة الأسلوب من حیث المعنى اللغوی العام یمكن أن تعنی "النظام والقواعد العامة، حین نتحدث عن "أسلوب المعیشة" ویمكن أن تعنی كذلك "الخصائص الفردیة" حین نتحدث عن "أسلوب كاتب معین".‏

وعن طریق هذین التصورین الكبیرین دخل استخدام مصطلح "الأسلوب" فی الدراسات الكلاسیكیة المعیاریة التی تسعى إلى إیجاد المبادئ العامة لطبقة من طبقات الأسلوب، أو للتعبیر فی جنس أدبی معین.‏

هذا الاتساع الأفقی فی دلالة معنى "الأسلوب" یقابله مجال أكثر تحدیداً فی دلالة معنى "الأسلوبیة"، حیث تكاد تقتصر فی معناها على الدراسات الأدبیة، وإن كان بعض الدارسین، مثل جورج مونان، یحاول أن یمتد بها نظریاً لتشمل مجالات مثل الفنون الجمیلة والمعیار والموسیقى والرسم، مع أنه یعترف فی الوقت ذاته أن الحقل الذی أخصبت فیه علمیاً حتى الآن هو حقل الدراسات الأدبیة.(5).‏

أما فیما یتصل بالمستوى الرأسی، الذی یقصد به التعاقب الزمنی فی حقل واحد ــ وهو حقل دراسات اللغة والأدب فی حالتنا ــ فإن مصطلح "الأسلوب" سبق مصطلح "الأسلوبیة" إلى الوجود والانتشار خلال فترة طویلة.‏

4 ــ تنوع المدارس الأسلوبیة:‏

یمكن اللجوء إلى أشهر الخیوط العامة، وأشهر الاتجاهات التی یمكن أن یندرج تحتها كثیر من التفاصیل الدقیقة. ومن هذه الزاویة یمكن رصد اتجاهین كبیرین فی دراسة الأسلوب الحدیث هما: الاتجاه الجماعی الوصفی، أو أسلوبیة التعبیر، والاتجاه الفردی، أو الأسلوبیة التأصیلیة، وسوف نحاول إعطاء فكرة عن كل من الاتجاهین.‏

أولاً: الأسلوبیة التعبیریة:‏

یرتبط مصطلح الأسلوبیة التعبیریة، وكذلك مصطلح الأسلوبیة الوصفیة، بعالم اللغة السویسری شارل بالی (1865 ــ 1947). تلمیذ اللغوی الشهیر "فاردیناند دی سوسیر" (1857 - 1913). وخلیفته فی كرسی الدراسات اللغویة بجامعة جنیف. ویعد بالی مؤسس الأسلوبیة التعبیریة، وقد كان سوسیر یرى أن اللغة خلق إنسانی ونتاج للروح، وأنها اتصال ونظام رموز تحمل الأفكار، فجانب الفكر الفردی فیها لیس أقل جوهریة من جانب الجذور الجماعیة.‏

ومن ثم فإن الفرد والجماعة یسهمان فی إعطاء قیمة تعبیریة متجددة للأسلوب، ولا یكتفیان بتلقی القیم الجمالیة عن السابقین، وهذه النقطة الأخیرة هی التی حاول بالی التركیز علیها.‏

فقد كانت البلاغة القدیمة فی هذا الصدد تلجأ إلى فكرة "قوائم القیمة الثابتة" التی تستند إلى كل شكل تعبیری "قیمة جمالیة" محددة. ومن خلال هذا التصور كان یتم تقسیم التصور إلى "صور زیادة"، مثل الإیجاز والحذف والتلمیح، والانطلاق من ذلك إلى تقسیم الأسلوب ذاته إلى طبقات: أسلوب سام، وأسلوب متوسط، وأسلوب مبتذل.‏

لكن نظریة "القیمة الثابتة" تعرضت لألوان كثیرة من النقد، كان من أشهرها ما أشار إلیه "رینیه ویلیك"(6) من أن "قیمة الأداة التعبیریة" تختلف من سیاق إلى سیاق، ومن جنس أدبی إلى جنس أدبی آخر. فحرف العطف "الواو" عندما یتكرر كثیراً فی سیاق قصة من قصص الكتاب المقدس، یعطی للتعبیر معنى الاطراد، والوقار. لكن هذه الواو لو تكررت فی قصیدة رومانتیكیة فإنها قد تعطی مشاعر تعویق وإبطاء فی وجه مشاعر ساخنة متدفقة.‏

الأسلوبیة البنائیة:‏

هی أكثر المذاهب الأسلوبیة شیوعاً الآن، وعلى نحو خاص فیما یترجم إلى العربیة أو یكتب فیها عن الأسلوبیة الحدیثة، وهی تعد امتداد لآراء سوسیر الشهیرة، التی قامت على التفرقة بین ما یسمى اللغة وما یسمى الكلام. وقیمة هذه التفرقة تكمن فی التنبه إلى وجود فرق بین دراسة الأسلوب بوصفه طاقة كامنة فی اللغة بالقوة، یستطیع المؤلف استخراجها لتوجیهها إلى هدف معین، ودراسة الأسلوب الفعلی فی ذاته، أی أن هناك فرقاً بین مستوى اللغة ومستوى النص، والبلاغة التقلیدیة لم تكن تعهد هذا التفریق وقد أخذ هذا التفریق أسماء ومصطلحات مختلفة فی فروع المدرسة البنائیة، فجاكوبسون یدعو إلى التفریق بین الثنائی (رمز ـ رسالة) وجیوم یطلق علیه (لغة ـ مقالة) أما یمسلیف فیجعل التقابل بین (نظام ـ نص)، ویتحول المصطلح عند تشومسكی إلى ثنائیة بین (قدرة بالقوة ـ ناتج بالفعل) وهذه المصطلحات على اختلافها تشف عن مفهوم متقارب فی دراسة اللغة والأسلوب، كان قد أطلق شرارته سوسیر، وطوّره بالی، وأكمله البنائیون المعاصرون.‏

ویركز جیوم على أثر هذه التفرقة فی الأسلوب، حین یبین أن هناك فرقاً بین المعنى وفاعلیة المعنى فی النص، وأن كل رمز یمر بمرحلة القیم الاحتمالیة على مستوى المعنى، ومرحلة القیمة المحددة المستحضرة على مستوى النص وقد تقود هذه المبالغة فی هذا التحلیل إلى القول بأن الرمز اللغوی لا یوجد له معنى قاموس، ولكن توجد له استعمالات سیاقیة(7).‏

أما رومان یاكبسون فقد ركز فی تحلیله للثنائی (رمز ــ رسالة) على الجزء الثانی منهما ــ دون أن یهمل الأول ــ لأنه یعتقد أن الرسالة هی التجسید الفعلی للمزج بین أطراف هذا الثنائی، وهو مزج عبر عنه یاكبسون حین تسمى إحدى دراساته حول هذه القضیة: "قواعد الشعر وشعر القواعد" وهو یعنی بقواعد الشعر دراسته الوسائل التعبیریة الشعریة فی اللغة، وبشعر القواعد دراسة الفعالیة الناتجة من وضع هذه الوسائل موضع التطبیق.‏

ثانیاً: الأسلوبیة التأصیلیة:‏

إذا كانت السمة العامة للأسلوبیة التعبیریة الوصفیة هی طرح السؤال: "كیف" حول النص المدروس، فإن الأسلوبیة التأصیلیة تهتم بأسئلة أخرى مثل "من أین" و"لماذا" وهذا اللون من التساؤل یقود الباحث بحسب اتجاه المدرسة التی ینتمی إلیها، وبحسب لون اهتماماتنا التاریخیة أو الاجتماعیة أو النفسیة أو الأدبیة..‏

ویمكن أن نقف سریعاً أمام اتجاهین من اتجاهات المدرسة التأصیلیة:‏

الأسلوبیة النفسیة الاجتماعیة:‏

فی سنة 1959 كتب الباحث الفرنسی" هنری موریر "كتاباً عن سیكولوجیة الأسلوب"(8). طرح فیه نظریته الخاصة التی حاول من خلالها استكشاف ما أسماه "رؤیة المؤلف الخاصة للعالم" من خلال أسلوبه. واكتشاف هذه الرؤیة یقوم على أن هناك خمسة تیارات كبرى تتحرك داخل "الأنا العمیقة". وأن هذه التیارات ذات أنماط مختلفة. والتیارات الخمسة الكبرى هی: القوة والإیقاع والرغبة والحكم والتلاحم، وهی الأنماط التی تشكل نظام "الذات الداخلیة".‏

وقد یظهر كل نمط منها فی شكل إیجابی أو سلبی، فالقوة قد تكون قاعدتها الشدّة أو الضعف، والإیقاع قد یكون متسقا أو ناشزاً، والرغبة قد تكون صریحة أو مكبوتة، والالتحام قد یكون واثقاً أو متردداً، والحكم قد یكون متفائلاً أو متشائماً.‏

5 ـ الأسلوبیة الأدبیة:‏

تعدّد الأسلوبیة الأدبیة أخصب ما تفرع عن فكرة "الأسلوبیة التأصیلیة" أكثرها فی تاریخ "التعبیر" فی القرن العشرین، ونبه كارل فسلر فی أوائل القرن إلى ضرورة بالغة بالاهتمام فی التاریخ الأدبی: "لكی ندرس التاریخ الأدبی لعصر ما، فإنه ینبغی على الأقل الاهتمام بالتحلیل اللغوی بنفس القدر الذی یهتم فیه بتحلیل الاتجاهات السیاسیة والاجتماعیة والدینیة لبیئة النص"(9). ولكن الذی طور هذا الاتجاه وحوله إلى نظریة متكاملة فی النقد اللغوی أو الأسلوبیة الأدبیة هو العالم النمساوی لیو سبیتزر وقد ألف كتاب اللسانیات واللغة التاریخیة قد عرض فیه للمنهج الذی اتبعه هو فی دراسة سرفانتس، وفیدر، ودیدرو، وكلودیل. وتتلخص خطوات المنهج عند سبیتزر فی النقاط التالیة:‏

1 ــ المنهج ینبع من الإنتاج ولیس من مبادئ مسبقة. وكل عمل أدبی فهو مستقل بذاته كما قال برجسون.‏

2 ــ الإنتاج كل متكامل، وروح المؤلف هی المحور الشمسی الذی تدور حوله بقیة كواكب العمل ونجومه، ولابد من البحث عن التلاحم الداخلی.‏

3 ــ ینبغی أن تقودنا التفاصیل إلى المحور "الأدبی"، ومن المحور نستطیع أن نرى من جدید التفاصیل، ویمكن أن نجد مفتاح العمل، كله فی واحدة من التفاصیل.‏

4 ــ الدراسة الأسلوبیة ینبغی أن تكون نقطة البدء فیها لغویة، ولكن یمكن لجوانب أخرى من الدراسة أن تكون نقطة البدء فیها مختلفة: "إن دماء الخلق الشعری واحدة، ولكننا یمكن أن نتناولها بدءاً من المنابع اللغویة، أو من الأفكار، أو من العقدة، أو من التشكیل". ومن خلال هذه النقطة وضع سبیتزر طریقاً بین اللغة وتاریخ الأدب.‏

5 ــ النقد الأسلوبی ینبغی أن یكون نقداً تعاطفیاً بالمعنى العام للمصطلح، لأن العمل كل متكامل وینبغی التقاطه فی "كلیته" وفی جزئیاته الداخلیة. لقد كان هذا المنهج التفصیلی الذی أورده سبیتزر فی كتابه ذا أثر كبیر فی إخصاب النقد الأدبی وتخلیصه من بعض الآثار السلبیة للاتجاه الوضعی الذی كان لانسون یمثل قمّته فی بدایات هذا القرن، وارتكزت فی النقد الأدبی مبادئ لم تكن شائعة من قبل.‏

أ ــ النقد الأدبی ینبغی أن یكون داخلیاً، وأن یأخذ نقطة ارتكازه فی محور العمل الأدبی لا خارجه.‏

ب ــ أن جوهر النص یوجد فی روح مؤلفه، ولیس فی الظروف المادیة الخارجیة.‏

ج ــ على العمل الأدبی أن یمدّنا بمعاییره الخاصة لتحلیله، وأن المبادئ المسبقة عند النقاد الذهنیین لیست إلا تجریدات تعسفیة.‏

د ــ أن اللغة تعكس شخصیة المؤلف، وتظل غیر منفصلة عن بقیة الوسائل الفنیة الأخرى التی یملكها.‏

هـ ــ أن العمل الأدبی بوصفه حالة ذهنیة لا یمكن الوصول إلیه إلا من خلال الحدس والتعاطف.‏

6 ــ الأسلوبیة اللغویة:‏

یهتم هذا المنهج بشكل رئیسی بالوصف اللغوی للسمات الأسلوبیة إنها بهذا المعنى الشكل الصرف للأسلوبیة. یستهدف مؤیدوها الإفادة من بحث اللغة والأسلوب الأدبیین فی إصلاح طرائق تحلیلهم للغة، وذلك لتحقیق تقدم فی تطویر نظریة اللسانیة.‏

وعلیه فقد كان الوصف اللغوی للسمات الأسلوبیة هدفاً للتحلیل الأسلوبی الذی اعتمده من یسمون بالأسلوبیین التولیدیین أمثال: أومان وثورن، كما ظهر فی الحقبة نفسها (أی بین الخمسینیات وأوائل السبعینیات) فئة أخرى من الأسلوبین اللغویین المعروفین بالأسلوبیین الحسابیین، منهم ما یلیك (1967) الذی قام بدراسة حسابیة بالكومبیوتر لأسلوب جاناثان سویفت، وجیبسون (1966) و(دراسته الإحصائیة لأسالیب النثر الأمریكی)، وأومان أیضاً (1962) و(دراسته لأسلوب جورج برنارد شو)(10).‏

7 ـ الأسلوبیة اللغویة المعاصرة:‏

من بین الأشكال الحدیثة الأسلوبیة اللغویة دراستان قامت بهما بیرتون للحوار الدرامی (1980) وبانفیلد للخطاب الروائی‏

(1982). على الرغم من أن طریقة بانفیلد المعتمدة على القواعد التولیدیة للجمل الروائیة أكثر تطوّراً ودقّة من سابقاتها، فهی فی حقیقة الأمر عودة إلى طریقة الأسلوبیة التولیدیة، لأنها تركز بشكل صرف على الصیغ اللغویة للجمل الروائیة لا أكثر ولا أقل.‏

8 ــ المحاسن والمساوئ:‏

لا عجب فی أن یتعرض هذا المنهج إلى هجوم شدید وانتقادات حادة من داخل معسكر الأسلوبیة وخارجه. ولعله المنهج الذی أساء إلى سمعة الأسلوبیة فی أروقة الدراسات الأكادیمیة.‏

لكن هذا لا یمنع من أن له بضع محاسن نذكرها أولا قبل التعریج على المساوئ.‏

ــ تقدم الأسلوبیة اللغویة طرائق علمیة ومنظمة فی تحلیل اللغة ووصفها. ویعدّ هذا إسهاماً جیّداً فی تطویر مداركنا ومعرفتنا للغة، خاصة بالنسبة للقراء والطلبة الأجانب.‏

ــ المیزة الأخرى لهذا المنهج كامنة فی تزویدنا فی أكثر من مناسبة بمعاییر یعول علیها فی وضع أیدینا على السمات الأسلوبیة الهامة فی النصوص (كما فعلت طریقتا بیرتون وبانفیلد).‏

ــ الحسنة الثالثة تقدیم هذا المنهج فرصة للسانیین والقراء والطلبة للاضطلاع باكتشافات جدیدة فی التحلیلات اللغویة التی تسهم بدورها فی تطویر نظریة اللسانیة، وقد یمكن اعتبار الأسلوبیة اللغویة خطوة أولیة فی "دراسة بنیویة وأدبیة وتاریخیة أوسع لنص لغوی ما"، كما یشیر إینكیفست.(11).‏

أما عن عیوب هذا المنهج فتتمثل:‏

* أولاً: بشحه فی الإسهام فی التحلیل الأدبی إسهاماً كبیراً. إذ یقوم بأعباء قدر من التحلیل، لكنه قدر غیر كاف، بل أقل أهمیة من القدر الأكبر الأساسی منه، وهو الوظائف الأسلوبیة وعلاقتها بالمعنى وتأثیرها علیه.‏

* فی واقع الأمر هذا الجانب الأدبی من النصوص واقع خارج نطاق هذا المنهج. یحمل هالیدای ذات الرأی بقوله: "اللسانیة غیر كافیة وحدها فی التحلیل الأدبی، والمحلل الأدبی ــ لا اللسانی ــ هو وحده الذی یحدد مكان اللسانیة فی الدراسة الأدبیة"(12).‏

من جهة أخرى، لا تهتم الأسلوبیة اللغویة بالتأویل، ولا تتخذه كغایة من غایاتها. بل غایتها القصوى تقدیم وصف لغوی دقیق لنص ما. على الرغم من أن الوصف وجه من وجوه التأویل فإنه لیس تأویلاً. بل هو تمهید وأرضیة أساسیة ینطلق منها التأویل.‏

وهذا سر وجود علاقة غیر رسمیة بین اللسانیة والنقد الأدبی یبرزها هذا المنهج الأسلوبی. وهكذا یتضح لنا مما سبق أن الأسلوبیة اللغویة نافعة جداً على صعید الوصف اللغوی وتوسیع مداركنا اللغویة وحسب، لكنها لا تجدی نفعاً فی تغطیة الجوانب الهامة الحساسة للنصوص الأدبیة. بعبارة أخرى، تجیب على مادة "لماذا" فقط.‏

إننا فی حاجة إلى منهج بدیل یستطیع الإجابة على "كیف" و"لماذا"، منهج قادر على إبلاغنا ما الذی یجعل النص الأدبی أدبیاً، إذ حسب منهج الأسلوبیة اللغویة "من السهل جداً إزاغة البصر عما یجعل الأدب أدباً" كما عبر عن ذلك كارتر (1979).‏

ولما كان النقد فی بعض معانیه، فن التمییز بین الأسالیب الأدبیة صارت العلاقة بینه وبین الأسلوب والأسلوبیة وعلم الدلالة وكلها تنضوی تحت مصطلح واحد هو علم اللغة، أو الألسنیة أو اللسانیات.‏

إن اطّراد الدراسات اللغویة والاهتمام بها فی الوقت الحاضر ولاسیما المناهج اللغویة فی دراسة الأدب أو فی الدراسات الأدبیة، قد مهد السبیل إلى ظهور النظریة اللغویة الحدیثة بوصفها نظاماً مساعداً فی النقد الأدبی.‏

وثمة مناهج أو مداخل كثیرة، متباینة فی نظرتها إلى النص الأدبی تحلیلاً وتقدیراً وتقویماً، ومنها على سبیل المثال المدخل اللغوی أو المنهج اللسانی الذی لا یستغنی عنه الناقد الأدبی، فالناقد الجید بحكم اهتماماته فی تحلیل النص وكشف جمالیاته البلاغیة والفنیة هو لغوی جید، علماً أن لا وجود لأی نص أدبی خارج حدود لغته الإشاریة أو الانفعالیة شریطة أن یكون التعبیر عن عناصر النص سلیماً ومقبولاً عند المتلقی الذی لا یقل شأناً عن مبدع النص.‏

وإذا كانت المناهج اللغویة مختلفة ومتباینة فی مدى علاقتها بدراسة "النص الشعری"، على سبیل المثال فإن المناهج النقدیة مختلفة ومتباینة أیضاً، فقد تتوازى وتتقاطع وتتعاون وتتصارع وهی دائماً تدّعی لنفسها أنها تهدف إلى تنویر النص وتعلن اهتداءها إلى فهم أفضل بطبیعة هذا النص.(13).‏

وقد أدى التركیز على تحلیل النص وتروضه بوصفه لغة لا یقوى على شرعیتها ومرجعیتها الأدائیة والتعبیریة إلى بروز اتجاهات مرتبطة بالتحلیل الأسلوبی ــ البلاغی مهّدت السبیل إلى استحداث مهم. سمّی فیما بعد "بفلسفة الأسلوب" و"فلسفة البلاغة" فی النقد الأدبی الحدیث. وتُعنى هذه المداخل النقدیة بصلب "البنیة الأدبیة" و"المجاز" و"مماثلة الواقع" والمعجم "والسیاق" و"السخریة" و"بناء الجملة" و"موسیقى اللغة" و"التوازن"(14). وكلها سمات لغویة تسعى إلى تحلیل النص الأدبی وتقدیمه كلاّفنیا جدیراً بتحقیق الاستجابة العفویة عند متلقیه.‏

ــ تحاول اللغة الأدبیة فی تعاملها مع النص الأدبی من خلال مناهجها المختلفة، استیعاب التوازن الحاصل بین "المبدع ــ النص" و"النص ــ المتلقی"(15) وهی سلطة فنیة تبتعد فیها اللغة عن مرجعیاتها القواعدیة والإعرابیة والنحویة لتزوید آفاق الدلالة حیث یصیر "النص" یتمتع بحركته الفنیة ــ الإبداعیة وحركته التوصیلیة عند المتلقی.‏

فالعلاقة بین النص والمتلقی هی جوهر العملیة النقدیة الحدیثة والمعاصرة، تلك العملیة التی ترى فی النص الأدبی ــ الشعری بفنونه وأنواعه‏

إن مهمة علم اللغة هی الاستفسار واستقراء ما سمّاه "تشومسكی" بالعلاقة الحمیمیة بین الخصائص الداخلیة للعقل وبین سمات البناء اللغوی(16). فی حین تكون مهمة النقد الأدبی واحدة من رؤاه العصریة، هی البحث فی العلاقة بین تنظیم الحس الجمالی الإنسانی وبین خصائص البناء الأدبی واللغة.‏

وعلیه فالنقد الأدبی هو فن الحكم على التجارب الأدبیة الحدیثة والتراث الأدبی والآثار الفنیة(17). فبرزت على الساحة النقدیة العالمیة والعربیة ضروب من النقد كالنقد القیاسی والنقد الأكادیمی والنقد الإیدیولوجی العقائدی، والنقد التاریخی والنقد الشخصی والنقد الفلسفی والنقد اللغوی وغیرها، وكلّها ضروب نقدیة تنطلق من النص الأدبی فی علاقته بمبدعه من جهة أو علاقته بمتلقیه من جهة أخرى أو علاقته ببیئته من جهة ثالثة، ومن هنا قیل إن الإنتاج الأدبی یحكمه محوران، محور اللغة التی هی ملك للبیئة الاجتماعیة التی تنشأ عنها، ومحور الأسلوب الذی هو ملك الأدیب أو الشاعر. وما بین هذین المحورین، اللغة والأسلوب، یولد فن الإبداع فی الكتابة الأدبیة أو فی التجربة الشعریة، وقد أدى الاهتمام بهذا الجانب إلى ظهور ما یسمى بـ: الأسلوبیة ــ اللغویة التی ترى أن الأسلوب قد یكون انزیاحاً أو انحرافاً أو عدولاً عن السیاق اللغوی المألوف فی هذه اللغة أو تلك.‏

ــ والمنهج التفكیكی/ والنقد التفكیكی أو التشریحی الذی دعا إلیه دیریدا منذ سنة 1967. تستند مرجعیاته إلى فكرة الأثر، أی أن الأثر هو محور تفكیك النص أی أن الاهتمام بالنتیجة قبل التفكیر بالسبب. فلولا وجود قرّاء لم یكتب الكاتب نصه ولا ینظم الشاعر قصیدته، أی أن المتلقی هو سبب فی الإبداع وسبیل إلى دفع المبدع إلى الإبداع والخلق الفنیین، فضلاً عن أن هذا المنهج النقدی التفكیكی أو التشریحی یلغی وجود حدود بین نص وآخر وتقوم هذه النظریة على مبدأ الاقتباس ومن ثم تداخل النصوص أو التناص.‏

ــ فالقراءة التفكیكیة أو التشریحیة قراءة حرّة ولكنها نظامیة وجادة وفیها یتوحدّ القدیم الموروث وكل معطیاته مع الجدید المبتكر وكل موحیاته من مفهوم السیاق حیث یكون التحول.‏

والتحول هو إماء بموت وفی اللحظة نفسها تبشیر بحیاة جدیدة(18). والناقد الأسلوبی ــ اللغوی یبدأ تحلیلها للإصغاء إلى صوت الشاعر، وهذا یعنی أنه یبدأ قارئاً وحین یصیر هذا القارئ ناقداً أسلوبیاً، فإنه یهتم بما یحدث للغة على یدی الشاعر مبدع النص الشعری. (19) من محاكاة وأصالة أو تسطح أو عمق أو وضوح وغموض.‏

وعلى هذا الأساس فثورة علم اللغة الحدیث والمعاصر الیوم هو ثورة فی التحلیل والتعلیل. كما هی ثورة المنهج أداة ومصطلحاً. وانعكاساتها فی مناهج النقد الأدبی المعاصر التی اهتمت بالأسلوب بوصفه سطح التعبیر اللغوی ومنه إلى أعماق التجربة الأدبیة، تحلیلاً وتعلیلاً، إذ یفترض بالناقد التطبیقی أو العملی الجید أن یكون لغویاً جیداً، فالأدب أعلى تعبیر لغوی وما یبتكره على اللغة من سباقات جدیدة تظهر إثارة فی النقد الأدبی قبل أی فن من الفنون الأدبیة أو أی جنس من الأجناس الأدبیة الأخرى، نظراً لأن التمییز بین الشكل والمعنى فی اللغة وبین الأثر أو الصورة والتأثیر فی الأسلوب ظاهرة طبیعیة لا شك فیها. فقد جرت العادة فی وقت من الأوقات، فی الدرس النقدی الأدبی الأوروبی، إلى الاعتقاد بأن الأسلوب یقترن بالزخرفة أو الزینة، فهو "زینة الأفكار" على حد تعبیر الأدیب الإنكلیزی "اللورد جستر فیلد"، فی حین عدّه "فلوبیر" مزاجاً فردیاً عالیاً وفریداً للرؤیة.(20) فثمّة فرق بین العملیة الشعریة التی تعنی كل الأنشطة والفعالیات التی من خلالها تولد القصیدة، وتتكون بأسلوبها الشعری الخاص بها، فی حین أن التحلیل الأدبی محاولة تشریح القصیدة. وإذا كان تشریح القصیدة ذا أبعاد لغویة وفنیة برز أكثر من احتمال فی تفسیر العلاقة القائمة بین الشعر واللغة وتعلیلها، ومنها كون الشعر لغة أی أن الشعر یكمن وراء ظاهرة نسمیها ظاهرة اللغة وحینئذ یكون الشعر جزءاً من هذه الظاهرة، وربما كان هذا المفهوم وراء مقولة "مالا رمیه" الفرنسی" الشعر لا یكتب بالأفكار، ولكن یكتب بالكلمات"(21) ویبدو أن هذه الثنائیة اللغویة ــ الفنیة هی التی تبنّاها النقد الأدبی ولاسیما فی نقد الشعر، معیاراً فی التحلیل النقدی. ففی الوقت الذی یهتم به علم اللغة فی وصف النص، فإن الأسلوبیة، أو علم الأسلوب یهتم بالاختلافات والفروق التی تظهر فی النص أو الأصل وبعبارة أخرى فإن العلاقة بینهما: بین علم اللغة والأسلوبیة هی أن علم اللغة یتعامل مع الأنماط والأسالیب فی حین تتعامل الأسلوبیة مع النماذج والرموز ومن هنا صارت "الجملة" الوحدة العلیا فی علم النماذج والرموز ومن هنا صار النص مجموع الجمل أی الوحدة الكبیرة فی الأسلوبیة (22)، وهو أی النص الأساس الذی یقوم علیه التحلیل الأسلوبی الذی مهّد إلى التحلیل النقدی الذی تحوّل إلى تحلیل نقدی لغوی من خلال الجملة أو إلى تحلیل نقدی أسلوبی من خلال النص.‏

إن الجملة والنص هما عماد التحلیل اللغوی الأدبی الذی وجد فی الأسلوبیة التی تحلل الأشكال والأسلوبیة الأدبیة التی تحلل المضامین. (23).‏

9 ــ خاتمة:‏

من كل ذلك نخلص إلى أن التقدّم الذی حظی به الحقل اللسانی أو اللسانیات فی العصر الحدیث دراسة وتحلیلاً وتعلیلاً تقویماً ونقداً ذاتیاً إیجابیاً أو سلبیاً قد تسرّب إلى الحقل النقدی الأدبی الذی لم یكن بمعزل عن المناخ العام الذی تمثله ثورة المعرفة الإنسانیة بمصطلحاته الجدیدة، ورؤاها المتعددة فی الربط بین الثقافة النقدیة الأدبیة والثقافة اللسانیة تخصصاً ومفهوماً ومنهجاً وإذا كان الأدب "أرضاً مالك لها" ــ على حد تعبیر الشكلانیین الروس ــ فإن التقدم الثقافی والحضاری الذی اتسمت به اللسانیات فی القرن العشرین ولاسیما بعد العقد الثانی منه، وتطور النقد الأدبی منهجاً ودراسة وتحلیلاً، قد هیأ المناخ لتحصین هذه الأرض وحمایتها وإعطائها شرعیة الامتلاك.‏

الهوامش:‏

1 ــ مجلة: كتاب الریاض العدد 60 دیسمبر 1998، مقال: الأسلوبیة والتأویل والتعلم، حسن غزالة، تصدر عن مؤسسة الیمامة الصحفیة. السعودیة. ص 38.‏

2 ــ مفهوم الأسلوب: حسن غزالة ص. 39.‏

3- Paisloy W. 1969 styding style as deviation from en coding norms. In gerdner. G. et al (eds) the analysis of communication content. n k. p. 11

4- Wetherill. P m 1974 the literary text. An examination of critical methodology. Oxford. P. 133.‏

5- Mounin; stylistique encyclopedia univer. P 466.‏

6 ــ الأسلوب والأسلوبیة أحمد درویش، مجلة النقد الأدبی مجلد 5 عدد 1 أكتوبر نوفمبر دیسمبر 1984 مطابع الهیئة المصریة العربیة للكتاب ص 60 ــ 64.‏

7 ــ المرجع نفسه، ص: 65.‏

8 ــ المرجع نفسه، ص 66.‏

9 ــ المرجع نفسه، ص: 67.‏

10 ــ المرجع نفسه، ص: 51.‏

11- Enkvist. N 1973 linguistic stylistic. Paris p. 68.‏

12- Halliday. M. a. k and Mcintosh. A. 1966 patter ns of language London. P.67

13 ــ ترویض النص وسلطة اللغة، عناد غزوان، محاضرة ألقیت سنة 1998 اتحاد الكتاب والأدباء العراق بغداد.‏

14 ــ مداخل نقدیة معاصرة إلى دراسة النص الأدبی، محمود الربیعی، عالم الفكر، مجلد 23 العددان 1 ــ 2، 1994 ص، 299.‏

15 ــ فی العلاقة بین المبدع والنص والمتلقی، فؤاد المرعی، عالم الفكر، مجلد 23، العددان 1 و2 الكویت 1994 ص 336 ــ 337.‏

16 ــ علم اللغة والأسلوب الأدبی، دونالد سی، فریمار، الولایات المتحدة الأمریكیة، 1970 ص 4. 3.‏

17 ــ النقد الجمالی، أندره ریشار، ترجمة هنری زغیب، منشورات عویدات، بیروت، لبنان ط 1974. ص 9.‏

18 ــ الخطیئة والتفكیر من البنیویة إلى التشریحیة قراءة نقدیة لنموذج إنسانی معاصر، عبد الله الغذامی، النادی الثقافی، جدة 1405هـ ــ 1985. ص 20 ــ 22 ــ 49 ــ 50.‏

19 ــ اللغة والشاعر ماری بوروف شیكاغو، لندن 1979 ص 5.‏

20 ــ أنماط الأسلوب الأدبی، جوزیف ستریاكا، لندن 1971 ص 233.‏

21 ــ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق ــ 2000 مقال: اللسانیات والنقد الأدبی، أد، عنان غزوان.‏

22 ــ الأسلوب فی اللغة، توماس، أی، سبیك، نیویورك ولندن ــ ص 9. 82. 87. 88.‏

23 ــ الأسلوب الأدبی، سیمور جاغان، مطبعة جامعة أوكسفورد 1971 ص 24. 43.‏

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:27|
الطردیات (جمع طردیة : بفتح الطاء والراء)
هی القصائد التی یكون موضوعها الصید، وهو فن جدید فی الشعر نشأ لیواكب اهتمام بعض شعراء الاسلام بهذه الهوایة الممتعة المفیدة ، وكان الصقر الأداة
المثالیة التی مارس بها أجدادنا العرب هودیتهم هذه منذ أمد سحیق ، فقد ذكر الدمیری صاحب حیاة الحیوان
أن أول من صاد بالصقر هو الحارث بن معاویة بن ثور، وأطرف من هذا أن حمزة بن عبدالمطلب -
رضی الله عنه - أشهر إسلامه إثر عودته من رحلة صید وهو یحمل صقره على یسراه ، وان الخلیل بن أحمد - رحمه الله - كان له - مع سعة آدابه وعلمه - باز یصطاد به ، وورد فی مقدمة ابن
خلدون عند الحدیث عن میزانیة بغداد قبل ألف ومائة عام أن البزاة والصقور شكلت جزءا من الموارد التی
تجبیها الدولة من الجزیرة وما یلیها من أعمال الفرات ، هذا الى ما كان یصرف یومیا على الصیادین
وعلى رعایة الجوارح وعلاجها. والى الیوم لا یزال هذا الارث المترسب فی أعماق الخلیج دائب
الحركة عبر رحلات صید قد تمتد أیاما وأسابیع !.
ویبدو من وثائق التاریخ أن المقاربة قبضوا على الأثر، وعضوا علیه بالنو اجز، بل عانقوا الغایة القصوى
فی الاحتفاء بالصقر، أو ما نسمیه الى الیوم : الطیر الحر، ومن ثمة وجدنا رسمه على الرایات والأعلام
فی قصور قرطبة وهی تستقبل بنی إدریس على ما یرویه ابن حیان فی مقتبسه ، ولابد أننا قرأنا فی عهد
المنصور الموحدی (توفی 595هـ) عن ترجمة القائد محمد بن عبدالملك بن سعید الغرناطی الذی كان
یخرج للصید فیسمع لركبه دوی جلاجل البزاة ومناداة الصیادین ونباح الكلاب ، وأن السلطان أبا الحسن
المرینی أهدى للملك الناصر فی مصر تشكیلة من البزاة والصقور بلغت أربعة وثلاثین طیرا...(!)
یُعدّ أبو نواس أكبر شعراء الطردیات فی الشعر العربی، وأكثرهم تمثیلاً
لما بلغته هوایة الصید فی العصر العباسی من رقی وتحضر، وأكثر طردیات أبى نواس
تدور حول صید الكلاب، وقد كان القدماء یصیدون على الفرس، ویقبحون فی الغالب
كلاب الصید، وتصور الطردیات الكلب تصویراً قویاً، وخلعت علیه أجمل الأوصاف من
شجاعة وخفة وبراعة فی الوثوب على الفریسة واقتناصها. وأبو نواس حین یصور
الكلب یبین لنا شدة عنایة صاحبه به، فهو یبیت إلى جانبه، وإن تعرى كساه ببرده
حتى لا یصیبه مكروه، وهو یصف الكلب بأنه واسع الشدقین، طویل الخد، واسع الجری
حتى أن رجلیه لا تمسان الأرض، ولهذا فصیده مضمون. یقول:
أنْعتُ كلباً لیس بالمسْبوق**********
***********مُطهَّماً یجرى على العُرُوقِ
جاءتْ به الأمْلاك من سَلوق*******
********** كأنَّه فی المِقْود المَمْشُوقِ
إذا عدا عدوةً لا معوق**********
********* یلعب بَیْن السَّهْلِ والخُروقِ
یَشْفی من الطّردِ جَوَى المَشوقِ********
**********فالوحش لو مرَّت على العیوقِ
أنزلها دامیةَ الحُلوق *************
************ذاك علیه أوْجبُ الحُقوقِ
لكل صیَّاد به مرزْوقِ
وقد وصف أبو نواس، إضافة إلى الكلب، الفهد، والبازى، والصقر، والفرس،
ودیك الهند، والأسد. ومما وصف به أبو نواس دیك الهند قوله:
أنْعَت دیكاً من دیوك الهِنْد ***********
*********أحْسنُ من طاووس قصر المَهدى
أشجع من عارى عرین الأسد***********
****** ترى الدّجاجَ حوله كالجُنْدِ
یُقَعین منه خِیفَةً للسَّفْد**************
***** له سقاعٌ كَدوىِّ الرَّعْدِ
مِنْقارُهُ كالمِعْوَل المُمَدِّ***************
****یقهر ما ناقرهِ بالنَّقدِ
وكثیراً ما یصف فی طردیاته رحلات الصید كما فی أرجوزته:
لمَّا تبدَّى الصُّبْحُ من حِجابِه كطلعةِ الأشْمَط من جِلْبابهْ
وانْعَدل اللَّیْلُ إلى مآبهِ**********
********* كالحَبشی افْترَّ عن أنیابهْ
هِجْنا بكلبٍ طالما هِجْنا بهْ*********
*********ینتسف المِقْوَدِ مِن كلابهْ
تراهُ فی الحَضْر إذا هاهابهْ ********
**********یكاد أن یخْرجَ مِن إِهابِهْ
ولأبی نواس نحو خمسین طردیة تتمیز جمیعها بالجودة. وكان الخلیفة
المتوكل مولعاً بالصید، وكذلك الخلیفة المعتضد، الذی كان یخرج لصید الأسود،
ویقال إنه كان یتقدم لها وحده، ویقال إنه كان ینفق یومیاً سبعین دیناراً
لأصحاب الصید من البازیاریین والفهّادین والكلاّبین، وورث ابنه عنه هذه
الهوایة، وانتشر ذلك بین ذوی الوجاهة انتشاراً واسعاً، مما أهّل لازدهار شعر
الطرد، وقد مضى الشعراء ینظمون الطردیات فی بحور وأوزان مختلفة غیر مكتفین
بالرجز. وكان لهذا النشاط الواسع فی الصید وما یتصل به من الشعر أثر فی أن
أخذت تُؤلف كتب مختلفة، تفصل القول فی الصید وأدواته وضواریه وجوارحه.
وممن اشتهر بالطرد، علىّ بن الجهم إذ یقول:
وطِئنا ریاضَ الزَعْفران وأمْسكتْ***********
*********** علینا البُزاة البِیض حُمْرَ الدَّرَارجِ
ولم تحْمِها الأدغالُ منا وإنّما*************
************ أبحْنا حِماها بالكلاب النَّوابجِ
بِمُسْترْوحاتٍ سابحاتٍ بطونُها ************
************وما عقفت منها رؤوس الصّوالجِ
ومن دالعاتٍ ألْسُناً فكأنَّها **************
*************لِحَىً من رجالٍ خاضعینَ كواسجِ
فَلَیْنا بها الغیطانَ فَلْیاً كأنَّها**************
************أناملُ إحدى الغانیات الحوالجِ
قَرَنّا بُزاةً بالصقور وحَوَّمَتْ**************
************ شَواهیُننا من بعد صید الزَّمامج
ولابن الرومی الكثیر من الطردیات، یقول مصوراً صید أصحابه للطیر، وقد
تقلدوا أوعیة حمراء من جلد، أودعوها كثیراً من البندق الذی یُرمى به، وقد
أشرعوا أقواسهم مسددین البندق منها للطیر الهاجع وقت السحر:
وجدَّتْ قِسِیّ القوم فی الطیر جِدَّها************
*************** فظلَّتْ سُجوداً للرُّماة ورُكَّعا
طرائحَ من بیضٍ وسُوْدٍ نواصِعٍ**************
************** تخال أَدیمَ الأرض منهن أبْقَعَا
فكم ظاعنٍ منهمن مُزْمعِ رحلةٍ***************
************* قَصَرْنا نواه دون ما كان أزْمعا
وكم قادمٍ منهنَّ مُرْتادِ منزلٍ***************
******** أناخ به منَّا مُنیخٌ فجعْجَعا
هنالك تغدو الطیر ترتاد مَصْرعاً*************
************ وحُسْبانها المكذوبُ ترتاد مَرْتَعا
مباحٌ لرامیها الرَمایا كأنَّما *************
*************دعاها له داعى المنایا فأسْمَعا
لها عَوْلةٌ أَوْلَى بها ما تُصیبه*************
********** وأجْدرُ بالإعْوال من كان موجَعا
وما ذاك إلا زجْرُها لِبناتها*************
********** مخافة َ أن یذْهَبْن فی الجوِّ ضُیَّعا
وظلَّ صِحابی ناعمین ببؤسها ************
***********وظلَّتْ على حوض المنِیَّة شُرَّعا
أما ابن المعتز فقد صنّف كتاباً فی جوارح الصید، ومن قوله فی كلبة
ماهرة فی الصید:
قد أغتدی واللیل كالغُرابِ**********
********* داجی القِناعِ حَالكِ الخِضابِ
بكلْبةٍ تاهتْ على الكلابِ**********
********* تفوتُ سبْقاً لَحظةَ المُرْتَابِ
تنساب مِثلَ الأَرْقمِ المُنْسابِ*********
*********** كأنَّما تَنْظُرُ مِنْ شِهَابِ
بمقلةٍ وَقْفٍ على الصوابِ
ومن قوله فی وصف باز من بزاته:
ذو مقلة تهتك أسْتار الحُجُبْ
كأنَّها فی الرأس مسمارُ ذهبْ ***********
*************یعلو الشمال كالأمیر المنتصبْ
أمْكنه الجودُ فأعْطى ووَهَبْ *************
*************ذو مِنْسَرٍ مثل السِّنان المُخْتَضِبْ
وذَنَبٍ كالذیل ریَّان القصَبْ **************
*************كأنّ فوق ساقه إذا انتصبْ
من حُلل الكَتَّان راناً ذا هُدُبْ
وللصنوبری طردیات مختلفة منها قوله فی وصف باز:
ذو مِنْسّرٍ أقْنى ورُسْغٍ كزِّ*********
******** ومِخْلَبٍ لم یَعْدُ إِشْفا الخَرْزِ
مُسَرْبلٌ مثل حَبیك القَزِّ*********
********أو مثل جَزْع الیمن الأَرُزِّی
لمَّا لَزَرْنا الطیر بعد اللَّزِ**********
*********بأسْفل القاع وأعْلى النَّشْز
آب لنا بالقَبْجِ والإوَزِّ**********
*********من جَبلٍ صَلْدٍ ومَرْجٍ نَزِّ
وقد اشتهر أیضا أبو العباس الناشئ الأكبر بطردیاته، وقد اعتمد
كشاجم الشاعر فی كتابه " المصاید والمطارد " اعتماداً شدیداً على طردیاته.
وله طردیة فی صید أحد الكلاب یستهلها على هذا النمط:
قد أغتدی والفجْرُ فی حِجَابه*********
********** لم یحْلُلِ العُقْدةَ من نقابه
بِأَغْضَفٍ عیْشُه من عذابه**********
**********من صَوْلةٍ بظُفْره ونابه
یَرَاح أن یُدْعَى لیُغْتَدى به*********
********روحة ذی النَّشْوة من شرابه
یَخُطُّ بالبُرْثن فی ترابه **********
*********خطَّ ید الكاتب فی كتابه
فقد جعل الكلب كادحاً وصوّر نشوته حین ندبه صاحبه للصید. ویقول فی
طردیة أخرى على نفس النسق:
یا ربَّ كلبٍ ربُّه فی رزْقِه**********
******** یرى حقوق النفسِ دون حقِّه 

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:26|
نثر فارسی از هزار سال پیش تاكنون، تحولات و تطورات بسیار به خود دیده است:

در اواخر قرن سوم تا اوایل قرن چهارم كه ایرانیان پس از دو قرن بی خطی، صاحب خط شدند، كوشیدند پارسی بنویسند و از نوشتن با انشاء عربی به پارسی بازگردند. دراین خط جدید كه از عربی اقتباس شد طبعاً همسانی خط و ارتباط و علائقی كه با زبان عربی در دویست سال گذشته پیدا كرده بودند موجب ورود لغات عربی به خط و زبان فارسی گشت، اما ایرانیان كه مایل بودند زبان پارسی استقلال خود را حفظ كند،

می كوشیدند كه در ترجمه كتب عربی به پارسی ـ كه بسیاری از آن كتابها را هم خود ایرانیان در زمانی كه خط نداشتند به عربی نوشته بودند ـ لغات پارسی به كار ببرند، همانگونه كه امروزه مترجمی كه مثلاً زبان فرانسه یا انگلیسی یا زبانهای دیگر متنی را ترجمه می كند مایل نیست حتی یك لغت را به صورت اصلی بیاورد و ترجمه ناشده باقی بگذارد.

كتبی كه در آغاز شكل گرفتن خط و زبان جدید فارسی(دری) ترجمه شده بیشتر الفاظش پارسی بود و جز لغاتی اصطلاحی كه ناگزیر بودند صورت عربی آن را عیناً نقل كنند اكثر الفاظ به فارسی نوشته می شد كه نمونه های آن ترجمه تاریخ طبری (موسوم به تاریخ بلعمی) و ترجمه تفسیر طبری و حدودالعالم و نظایر آنهاست. در قرنهای چهارم و پنجم نیز اهتمام به پارسی نویسی ادامه داشت و در اغلب كتب تألیفی این دوران، شواهد گویایی موجود است. اما از اواخر قرن پنجم و اوایل قرن ششم كه عرفان و تصوف در شعر و نثر فارسی گسترش یافت و تعداد نویسندگان و شاعران صوفی و عارف رو به ازدیاد نهاد، ورود لغات عربی به زبان فارسی افزایش گرفت، زیرا زبان عرفان، زبان رمز و راز و كنایات و اصطلاحات عرفانی بود، و چون لغات و اصطلاحات از كتب عرفانی عربی به فارسی می آمد و معمولاً اصطلاح را چه دینی و چه علمی و چه عرفانی به آسانی نمی شد معادل سازی كرد؛ اصطلاحات عرفانی، همچون اصطلاحات دینی در زبان فارسی شیوع یافت.

پیش از این ایرانیان، اصطلاحات دینی را هم غالباً به پارسی برگردانده بودند مخصوصاً اصطلاحاتی كه زیاد مورد نیاز بود. مثلاً به جای «صلوة» نماز گفتند و به جای «صوم» روزه گرفتند و حتی نام نمازهای پنجگانه را به فارسی وضع كردند: نماز بامداد، نماز پیشین، نماز دیگر،‌نماز شام، نماز خفتن.

بعضی لغات و اصطلاحات كه برای هر روز یا برای همه كس در همه حال مورد حاجت نبود معادل سازی نشد مانند: حرب، غزوه، حج، زكوة و مانند آنها.

ورود لغات عرفانی به فارسی، تعداد الفاظ اصطلاحی را دو چندان یا چند برابر كرد، چون پیش از آن فقط لغاتی دینی و فلسفی و كلامی كه بعضی هم یونانی بود و عربی نبود، همانگونه كه به زبان عربی (با وجود آنكه دروازه لغت را عربها به روی لغات بیگانه بسته بودند) وارد شده بود به فارسی هم ورود پیدا كرد، چه به صورت معرب آن و چه به صورت اصلی. اما سیل اصطلاحات عرفانی كه از كتب عربی صوفیان به ادب فارسی سرازیر گشت و حتی جملات و كلمات قصار صوفیان كه اگر به صورت اصلی ادا نمی شد آن تأثیر را نداشت یا اصولاً مطلوب، مفهوم نمی گشت نظیر «اناالحق» حلاج یا «لیس فی جبتی سوی الله» بایزید بسطامی و نظایر متعدد آنها، موجب شد كه پارسی نویسان نتوانند این سیل الفاظ و تعبیرات و عبارات را مهار كنند و به پارسی برگردانند. سُكر و صحو، تجلی و استتار و مراقبه و الفاظ اصطلاحی بی شمار دیگر، الفاظ معدود و محدودی نبودند كه بتوان به آسانی آنها را ترجمه كرد، چرا كه هركدام علاوه بر معنای اصطلاحی ـ كه اصطلاحی به آسانی قابل تبدیل نیست ـ متكی به عباراتی یا اقوالی بودند نظیر «مشاهده الابرار بین التجلی و الاستتار» كه اینگونه عبارات مرجع و مسند و متكای كلماتی چون تجلی و استتار بود. بنابراین اگر می بینیم آن تقیدی كه بزرگانی چون فردوسی( در شعر)و بیهقی(در نثر) در پارسی نویسی داشتند، در نویسندگان و شاعران قرن ششم یا هفتم دیده نمی شود، دلیل آن نیست كه علاقه نویسندگان قرن ششم به پارسی كمتر بوده است، بلكه موضوع و مطلب كلام و نوشته آنان با موضوعات قرن چهارم متفاوت بود. موضوع كار فردوسی و بیهقی، تاریخ ایران و مسائل مربوط به ایران بود و طبعاً مسائل ایران را با واژه های ایرانی می توان بیان كرد، اما مثلاً كتابی كه مربوط به فلسفه یونان باشد طبعاً با اسامی و الفاظ یونانی سروكار پیدا می كند و نمی توان از استعمال لفظ یونانی پرهیز كرد، همچنین است مثلاً تفاوت ترجمه تفسیر طبری كه تفسیر قرآن كریم است با ترجمه تاریخ طبری (بلعمی) كه با زبان عربی كمتر ارتباط دارد.

در متون قرنهای چهارم و پنجم نیز آن دسته از نوشته ها كه صرفاً مربوط به ایران و ایرانی بوده بیشتر الفاظش فارسی است. اما در همین زمان می بینیم كه بعضی نامه ها از سلاطین ایران كه به خلفای عباسی نوشته می شد یا تماماً عربی است یا اگر هم می خواستند با فارسی نویسی شخصیت خود و كشور خود را بنمایانند باز لغات عربی در آن بیشتر از نامه های معمولی داخلی بود، و حتی كاتبان سلاطین در

نامه های داخلی هم برای اظهار فضل مخدوم خود و خود، به نوشتن نامه هایی مشحون از لغات دشوار و حتی مهجور عربی پرداختند. كتابهایی چون «التوسل الی الترسل» و «عنبة الكتبة» شاهد بارز این مطلب است.

 و این اصطلاحات دهان به دهان می گشت موجب شد كه حافظ بگوید: «دهان پر از عربی است.»
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:26|
ان الكتابة عن جبل شامخ ونخلة باسقة كالرائدة ، شاعرة العراق والعرب الاولى ، الشاعرة والناقدة نازك الملائكة ، لها هیبتها ورهبتها ... فان تراثها الادبی وحیاتها من الثراء بحیث لا تكفیه كل المقالات التی صدرت والتی ستصدر . ولا ازعم اننی سآتی بجدید وغریب عما كتبه المختصون والمحبون ، لكننی سأكتب عنها كأمراة ومبدعة فی آن واحد
ومما افخر واعتز به حقا اننی التقبت شخصیا عملاقی الشعر العربی الحدیث : الفقیدة نازك الملائكة ، والفقید الجواهری الكبیر فی ازمان وظروف مختلفة .لم اتحدث معها فی شؤون الادب والثقافة ، فقد كان لقاءا قصیرا كنت فیه مشدودة الاعصاب والفكر ، واعیش مشاعر من نوع خاص .. أحقا انا امام قامة من قامات الادب العربی ..؟ لقد رأیت بام عینی بساطتها اللامحدودة ومیلها للعزلة ... وهذا اهم ما اتذكره من لقائی القصیر معها صیف 1981
وكالكثیرین ، راعنی مشهد تشییعها الفقیر الذی لایلیق ابدا بحجمها وحجم ثورتها الشعریة ، وعسى ان یكون هذا تنفیذا لرغبتها ، فالزهد والابتعاد عن القشور كانا من اهم صفاتها .. بل لعل ذلك كان طریقتها فی رفض ما آل الیه حال وطنها ,العراق وحال الاوطان العربیة الاخرى التی لا تقدر الثقافة واهلها الاّ متى انضموا الى جوقة المطبلین لحكامها .. وهذا ما لم تفعله شاعرتنا ابدا فقد عاشت وماتت عزیزة الجانب وقریبة من نبض الثقافة
ان شاعرتنا ، السیدة نازك الملائكة ، ظلت ومنذ صدور قصیدتها " الكولیرا " عام 1947رمزا لمیلاد الشعر الحر وعلما بارزا من اعلام تحرر المرأة على طول الوطن العربی ، وستبقى حتى بعد وفاتها مرادفا لحركة شعریة تجدیدیة قادت التمرد على القصیدة العمودیة واسست لتجربة لم ینته تفاعلها بعد . غیر ان الجدل حول ریادتها للشعر الحر ما زال قائما ، ومن وجهة نظری مرجع ذلك الى كونها امرأة ، لان المرأة فی بلداننا ومجتمعاتنا لا یحق لها ان تكون البادئة والرائدة لیسیر خلفها الرجال .. ولو كان الشاعر المبدع بدر شاكر السیاب هو الذی ادعى الریادة اولا فلم تكن الدنیا لتقوم ولا الجدل لیحتدم لان هذا یعتبر من المسلمات ... ومهما یكن من امر فاننی وبامكانیاتی المتواضعة اقول : ان من یقرأ مؤلف الملائكة " قضایا الشعر المعاصر " بتمعن سیتأكد من صحة ما ذهبت الیه ای من ریادتها الحقة ، لیس لانها اكدت ذلك حینما كتبت :" كانت بدایة حركة الشعر الحر سنة 1947 ، فی العراق . ومن العراق ، بل من بغداد نفسها ، زحفت هذه الحركة وامتدت حتى غمرت الوطن العربی كله ..." 1 . اقول لیس بسبب هذا وانما لان طریقتها فی البحث فی جذور واسباب ظهور هذا النوع من الشعر ، ظروفها ، اسبابها الاجتماعیة والنفسیة , مزایا هذا الشعر ..الخ لدلیل قاطع على كونها هی الرائدة ، وهی التی شقت الطریق امام اجیال اخرى من الشعراء العراقیین وفی العالم العربی ، كالبیاتی والحیدری وصلاح عبد الصبور و محمود درویش وغیرهم .
ویرى الكثیر من النقاد ان قصیدة " الكولیرا " تمثل واحدة من اقوى اللحظات فی مسیرة الشعر العربی الحدیث . وتقول نازك الملائكة عن هذه القصیدة : " كنت كتبت تلك القصیدة اصور بها مشاعری نحو مصر الشقیقة خلال وباء الكولیرا الذی داهمها . وقد حاولت فیها التعبیر عن وقع ارجل الخیل التی تجر عربات الموتى من ضحایا الوباء فی ریف مصر . وقد ساقتنی ضرورة التعبیر الى اكتشاف الشعر الحر." 2والقصیدة من الوزن المتدارك (الخبب) ونقرأ منها :
طلع الفجر
أصغ الى وقع خطى الماشین
فی صمت الفجر،أصخ،انظر ركب الباكین
عشرة اموات،عشرونا
لاتحص، أصخ للباكینا
ًَّإسمع صوت الطفل المسكین
موتى،موتى،ضاع العدد
موتى ، موتى ، لم یبق عد
فی كل مكان جسد یندبه محزون
لا لحظة اخلاد لا صمت
هذا ما فعلت كف الموت
الموت الموت الموت
تشكو البشریة تشكو ما یرتكب الموت
الا ان هناك من شكك بحداثة هذا اللون فی كتابة الشعر وادعى ان العرب قد قالوا مثله قبلا .. لكن نازك تصر على ان حركة الشعر الحر هی ولیدة عصرنا هذا بدلیل ان "اغلبیة قرائنا مازالوا یستنكرونها ویرفضونها ، وبینهم كثرة لا یستهان بها تظن ان الشعر الحر لا یملك من الشعریة الا الاسم فهو نثر عادی لاوزن له ."3
وعلینا ان لا ننسى ان مختلف الفنون تتعرض الى مثل هذه الهزات التطوریة التقدمیة،كما یتعرض البشر وحركة الحیاة ,وما الشعر الا ظاهرة لا یمكنها ان تقف جامدة امام تطور الانسان المتسارع ،اذ لابد له من ان یجاری هذا التطور ویواكبه ... ولابد له ان یلبی الحاجة الى التجدید التی تفرض نفسها بفعل القانون الذی یتحكم فی حركات التجدید عامة.الاان حالات الریبة والتحفظ من الجدید هی حالات عرفها التاریخ البشری كمسعى لحمایة الموروث والمتعارف علیه وهو وجه من وجوه الدفاع عن النفس ، غیر ان هذا الجدید یفرض نفسه فی النهایة اذا كان اصیلا حقا
وتمثل رد الفعل من الشعر الحر فی رفضه ، وعده بدعة سیئة النیة غرضها هدم الشعر العربی ، لان هذا اللون الجدید حطم استقلال البیت وجعل اشطر القصیدة لا تتقید بعدد معین من التفعیلات ..وقد اتهم الشعراء بانهم كسالى وذوو مواهب شعریة ضحلة ولهذا وجدوا هذه الطریقة التی تحررهم من صعوبة الاوزان العربیة .. لكن الملائكة ترد على ذلك وتفنده مؤكدة ان الحریة لیست اسهل من القیود لان " كل حریة على الاطلاق تتضمن مسؤولیة"4 و "ان الحریة خطرة لانها تتضمن مغامرة فردیة یجازف فیها المرء براحته وكیانه،ولن یقوى على مخاوفها الا من كان شدید الثقة بنفسه."5.وفوق ذلك فان هذا الشكل الشعری الجدید قد مهدت له حركة التجدید والتنویع فی الشكل والاسلوب التی ابتدأت فی عصر النهضة الحدیثة سواء فی مدرسة شعراء المهجر فی امریكا او فی جمعیة(ابولو) فی القاهرة .ولابد ان تكون هناك حاجات روحیة تدفع بالافراد الى ان یبدأوا حركات التجدید وتدفعهم الى احداثه ،ویمكن القول ان حركة الشعر الحر كانت استجابة لحاجة الذهن العربی للبناء على اساس حدیث ،وعلى هذا فانها كانت ضرورة اجتماعیة فشلت كل محاولات وأدها مما "اضطر مؤتمر الادباءالعرب الثالث فی القاهرة الى ان یعترف به رسمیا ویدخله فی ابحاثه الرئیسیة."6
وتعرف نازك الملائكة الشعر الحر بانه :"شعر ذو شطر واحد لیس له طول ثابت وانما یصح ان یتغیر عدد التفعیلات من شطر الى شطر. ویكون هذا التغیر وفق قانون عروضی یتحكم فیه.."7 كما تؤكد بان "اساس الوزن فی الشعر الحر انه یقوم على وحدة التفعیلة. والمعنى البسیط الواضح ..ان الحریة فی تنویع عدد التفعیلات او اطوال الاشطر تشترط بدءا ان تكون التفعیلات فی الاشطر متشابهة تمام التشابه ، فمثلا یكتب الشاعر من بحر الرمل اشطرا تجری على هذا النسق :
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
فاعلاتن فاعلاتن
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
فاعلاتن
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
فاعلاتن فاعلاتن " 8
وهكذا ...
فالشعر الحر اذن ظاهرة عروضیة یتعلق بعدد التفعیلات فی الشطر ویتناول الشكل الموسیقی للقصیدة وهو فی اساسه دعوة الى تطویر الشكل لیكون اسلوبا جدیدا یقف الى جانب القدیم لكنه یتناسب مع عصره .وهو محاولة من الشاعر المعاصر الى التخلص من القشور الخارجیة والعنایة بالمضمون .
ولعل من المهم هنا التطرق الى العوامل الاجتماعیة الموجبة لانبثاق الشعر الحر كما تراها نازك الملائكة،وهی:
1ـ النزوع الى الواقع : حیث تتیح اوزانه الدخول الى الواقعیة ، وتتیح للشاعر الحركة فیما یناسب مشاكل عصره.
2ـ الحنین الى الاستقلال . فالشاعر یرغب فی ان یبتدع لنفسه شیئا مستوحى من حاجات عصره ویكف ان یكون تابعا لامرأ القیس وغیره من القدامى ، فهو بهذا ذو جذور نفسیة مفروضة .
3ـ النفور من النموذج : وهذا یتناسب مع الفكر المعاصر عموما الذی یمیل الى التغییر والتنویع ویرفض الوحدة الثابتة المتكررة ، فالحیاة واللغة ذاتها لا تسیران على نمط واحد ...
4ـ ایثار المضمون :اعتمادا على وحدة الشكل والمضمون ، التی تخضع لها الحركات الاجتماعیة والادبیة فان الشاعر او الفرد المعاصر یتجه الى تحكیم المضمون فی الشكل لیس فی الشعر فقط وانما فی نختلف مظاهر الحیاة .
هذا اضافة الى عوامل اخرى غیر التی ذكرت ...
ان نازك الملائكة وهی تضع ملامح شكل جدید فی القصیدة العربیة ظلت تؤكد على ان القدیم یجب ان یبقى ، لان هذا الجدید لایمكنه ان یتناول كل ما یمكن ان یتناوله الشعر ، خاصة وانها اكدت على ان اوزان الشعر الحر هی ثمانیة فقط من الاوزان الستة عشر فی الشعر العربی ، فمثلا انها لا ترى انه یمكنه ان یكون شعرا ملحمیا .
وقد ظلت نازك وحتى فی شعرها الحدیث تجسد الذات المنطویة التی رافقتها منذ الطفولة وبرعت فی ذلك كما برعت فی التعبیر عن حالة الاغتراب والوحشة والحس المرهف والحزن الصامت .
ان الحدیث عن نازك الملائكة كما ذكرت فی البدایة، لایمكن ان ینقطع .. وكما كتبت عنها وفیها مقالات وبحوث ورسائل جامعیة فستكتب عنها المزید من البحوث والرسائل الجامعیة طالما ظلت قوانین التطور الاجتماعی تتحكم فی حیاتنا وطالما تظل المساعی للتجدید قائمة .
وكامرأة عراقیة ابقى مدینة لها لیس لكونها علما ادبیا شامخا فحسب ، وانما رائدة من رواد نهضة المرأة العراقیة ،التی اختارت الصعب وتحدت التیار وقررت المواجهة ، وكانت من بین اوائل الداعین الى تحرر المرأة ومساواتها وخروجها للعمل وسفورها .
ستبقى نازك منارا وقامة فی الشعر والحیاة لم تنحن .....


1ـ قضایا الشعر المعاصر ص 21
2ـنفس المصدر ص21
3ـ نفس المصدر ص 25
4ـ نفس المصدر ص 37
5ـ نفس المصدر ص 38
6ـ نفس المصدر ص 40
7ـ نفس المصدر ص 58
8ـ نفس المصدر ص 61
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:25|
ولدت غادة السمان فی دمشق عام 1942.
تلقت علومها فی مدرسة البعثة العلمانیة الفرنسیة،
وفی التجهیز الرسمیة بدمشق.
تخرجت من جامعة دمشق تحمل شهادة اللیسانس فی اللغة الإنكلیزیة.
نالت شهادة الماجستیر فی الأدب الإنكلیزی من الجامعة الأمیركیة فی بیروت، عام 1968.
تزوجت د. بشیر الداعوق
صاحب دار الطلیعة للنشر، أسست داراً خاصة لنشر مؤلفاتها.
لها العدید من الكتب فی شتى أنواع الكتابة الأدبیة والإبداعیة.
فی حقل الروایة أصدرت على التوالی:
- بیروت 75، عام 1975.
- كوابیس بیروت، 1979.
- لیلة الملیار، 1986.
- الروایة المستحیلة، فسیفساء دمشقیة، 1997.

وفی حقل القصة القصیرة أصدرت على التوالی المجموعات التالیة :

- عیناك قدری 1962.
- لا بحر فی بیروت 1963.
- لیل الغرباء، 1966.
- حب، 1973.
- غربة تحت الصفر، 1987.
- الأعماق المحتلة، 1987.
- أشهد عكس الریح، 1988.
- القمر المربح، 1994.

أما مقالاتها الأدبیة الإبداعیة ونصوصها الشعریة فقد نشرتها فی 16 كتاباً من بینها:

"أعلنت علیك الحب"
و "الجسد حقیبة سفر"،
و "الرغیف ینبض كالقلب"
و "كتابات غیر ملتزمة"
و "الحب من الورید إلى الورید"
و "القبیلة تستجوب القتیلة"
و "أشهد عكس الریح".

وقد حظیت غادة السمان باهتمام نقدی واسع تمثل بصدور سبعة كتب عن أدبها،
عدا آلاف المقالات والدراسات،
ومن بین أصحاب هذه الكتب: غالی شكری وحنان عواد وشاكر النابلسی وعبد اللطیف الأرناؤوط.

ولها عدا ذلك كتاب مترجم بعنوان "الشعوب والبلدان."

ــــــــــــــــــــــــــ

نموذج من ابداعاتها

((امیرة فی قصرك الثلجی ))
-------------------------

أین أنت أیها الاحمق الغالی
ضیعتنی لأنك أردت امتلاكی ....
* * *
ضیعتَ قدرتنا المتناغمة على الطیران معاً
وعلى الإقلاع فی الغواصة الصفراء ...
* * *
أین أنت
ولماذا جعلت من نفسك خصماً لحریتی ،
واضطررتنی لاجتزازك من تربة عمری
* * *
ذات یوم ،
جعلتك عطائی المقطر الحمیم ...
كنت تفجری الأصیل فی غاب الحب ،
دونما سقوط فی وحل التفاصیل التقلیدیة التافهة ..
* * *
ذات یوم ،
كنتُ مخلوقاً كونیاً متفتحاً
كلوحة من الضوء الحی ...
یهدیك كل ما منحته الطبیعة من توق وجنون ،
دونما مناقصات رسمیة ،
أو مزادات علنیة ،
وخارج الإطارات كلها ...
* * *
لماذا أیها الأحمق الغالی
كسرت اللوحة ،
واستحضرت خبراء الإطارات
* * *
أنصتُ إلى اللحن نفسه
وأتذكرك ...
یوم كان رأسی
طافیاً فوق صدرك
وكانت اللحظة ، لحظة خلود صغیرة
وفی لحظات الخلود الصغیرة تلك
لا نعی معنى عبارة "ذكرى" ..
كما لا یعی الطفل لحظة ولادته ،
موته المحتوم ذات یوم ...
* * *
حاولت ان تجعل منی
أمیرة فی قصرك الثلجی
لكننی فضلت أن أبقى
صعلوكة فی براری حریتی ...
* * *
آه أتذكرك ،
أتذكرك بحنین متقشف ...
لقد تدحرجت الأیام كالكرة فی ملعب الریاح
منذ تلك اللحظة السعیدة الحزینة ...
لحظة ودعتك
وواعدتك كاذبة على اللقاء
وكنت أعرف اننی أهجرك .
* * *
لقد تدفق الزمن كالنهر
وضیعتُ طریق العودة إلیك
ولكننی ، ما زلت أحبك بصدق ،
وما زلت أرفضك بصدق ...
* * *
لأعترف
أحببتك أكثر من أی مخلوق آخر ...
وأحسست بالغربة معك ،
أكثر مما أحسستها مع أی مخلوق آخر ...
معك لم أحس بالأمان ، ولا الألفة ،
معك كان ذلك الجنون النابض الأرعن
النوم المتوقد .. استسلام اللذة الذلیل ...
آه این أنت
وما جدوى أن أعرف ،
إن كنتُ سأهرب إلى الجهة الأخرى
من الكرة الأرضیة ...
* * *
وهل أنت سعید
أنا لا .
سعیدة بانتقامی منك فقط .
* * *
وهل أنت عاشق
أنا لا .
منذ هجرتك ،
عرفت لحظات من التحدی الحار
على تخوم الشهوة ...
* * *
وهل أنت غریب
أنا نعم .
أكرر : غریبة كنت معك ،
وغریبة بدونك ،
وغریبة بك إلى الأبد .
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:24|
تفسیر أرجوزة أبی نواس فی تقریظ الفضل بن الربیع
 (الطبعة الثانیة 1400ه-1979م) - لطیفة الشهابی

كثیراً ما یحلو للمرء أن یرجع بذاكرته إلى الوراء وأن یستعید الماضی، ولاسیما حین یكون هذا الماضی مشرقاً مضیئاً. ومن هنا فإننا نحن العرب، نشعر بنشوة أیما نشوة حین تمر أمام مخیلتنا شرط الماضی الجمیل وإن من أجمل ما یحمله ماضینا ذلك التراث الثقافی الواسع، وتلك اللغة التی وسعت جوانب ذلك التراث، بعد أن وسعت كتاب الله، والتی ما زلنا نتمتع بقراءتها وسماعها، وما زالت من أبرز الروابط التی تربط مواطنینا العرب من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. فكأننا ونحن نعیش مع هذه اللغة الآن، نعیش معها بُعد العمق فی ماضینا. وهذا العمق نسبی دائماً، شأنه شأن الماضی ذاته. فنحن نعیش الآن مع أبی نواس على أنه ماض قدیم بینما عاش معه معاصروه، وهو حدیث مبدع مجدد متحضر یحاول فی بعض قصائده أن یقلد القدماء أو الأعراب المغرقین فی بداوتهم وفصاحتهم.

فقد أراد أولئك الشعراء المحدثون فی العصر العباسی، الذین أثرت فهم الحضارة ورققتهم حیاة المدن أن یثبتوا للعلماء واللغویین أنهم لیسوا أقل قدرة على استیعاب الغریب وتضمینه أشعارهم من أولئك البداة الجفاء من الرجاز أمثال رؤبة والعجاج. وهكذا نظم أبو نواس أرجوزته فی مدح الفضل بن الربیع، سالكاً سبیل أولئك الرجاز المعروفین مثلما فعل بشار من قبله حین تحداه عقبة بن رؤبة، وكان هذا الأخیر ینشد عقبة بن سلم رجزاً، فقال لبشار: (هذا طراز لا تحسنه أنت یا أبا معاذ، فقال بشار: ألی یقال هذا؟! أنا والله أرجز منك ومن أبیك وجدك، فقال له عقبة: أنا والله وأبی فتحنا للناس باب الغریب، وباب الرجز، والله إنی لخلیق أن أسده علیهم، فقال بشار: ارحمهم رحمك الله، فقال عقبة: أتسخف بی یا أبا معاذ وأنا شاعر ابن شاعر ابن شاعر؟.. ثم خرج من عند عقبة مغضباً، فلما كان من غد غدا على عقبة وعنده عقبة ابن رؤبة، فأنشده أجوزته التی یمدحه فیها ومطلعها:

یا طلل الحی بذات الضمد           بالله خبر كیف كنت بعدی

وهكذا كانت أرجوزة بشار المطولة المتنوعة الأغراض والأفكار المحشوة بالغریب الفائضة بالجزالة والقوة تحدیاً صریحاً، كما یؤكد هذا الخبر، لأولئك الرجاز وأمثالهم من الشغوفین بالغریب والجزل من القول.

وربما أمكن أن یقال مثل هذا فی أرجوزة أبی نواس التی مدح بها الفضل ابن الربیع.

وإذا كانت الكتب القدیمة لم تسرد لها خبراً صریحاً یفید التحدی، فإن مجرد مقارنتها بأشعار أبی نواس الأخرى، وما تتسم به تلك الأشعار من وضوح وبعد عن الغریب، ربما دفعنا إلى تصور هذا التحدی المقصود ولاسیما أننا نلاحظ ظاهرة الجزالة والقوة بارزتین فی أشعار المدیح التی قدمها أبو نواس بین یدی الرشید وغیره من وجوه الدولة العباسیة. فكأنما غرض الشاعر أن یثبت مقدرته الكاملة أمام أولئك العرب؛ أو كأنه یدرك أن أذواقهم لا تستریح إلا لهذا النوع من الشعر، وإن كانت تلك القصائد لا تصل إلى ما وصلت إلیه الأرجوزة من الغریب.

وقد طلب أحد أصحاب ابن جنی منه أن یفسر له هذه الأرجوزة، فاستجاب عالمنا الجلیل لرغبته وعمد إلى تفسیرها وتوضیحها.

وجاء الأستاذ محمد بهجة الأثری فأبرز هذا التفسیر إلى عالم الكلمة المطبوعة مضیفاً إلیه كل ما یحتاجه من مقدمات وتعریفات وتحقیقات وتذییلات رآها لازمة.

وبین یدی من هذا الكتاب نسخة من طبعته الثانیة التی طبعها مجمع اللغة العربیة فی دمشق عام 1400ه-1979م.

قدم الأستاذ الأثری لهذه الطبعة بمقدمة مطولة تجاوز عدد صفحاتها تسعین صفحة، جعلها ذات أقسام:

القسم الأول عرف فیه بالكتاب وهو تفسیر أرجوزة أبی نواس لأبی الفتح عثمان ابن جنی، وذكر فیه أن ابن جنی نفسه كان واحداً من حفاظ هذا الرجز والمعنیین به. ومن هنا سأله بعض أصحابه من هؤلاء الشبان البغدادیین أن یفسره له، فاستجاب أبو الفتح "قضاء لحق مودته"، وإن ابن جنی على ما عرف عنه من علم وسعة، كان قد ذكر أنه قرأ الأرجوزة على أستاذه أبی علی الفارسی (لیضم علمه إلى علمه، ویزداد به فهماً لما هو مقبل على شرحه).

ویعدد لنا الأستاذ الأثری فی هذه المقدمة بعض فوائد هذا الشرح؛ وأولها (أنه یصحح لنا بعض شعر هذا الشاعر العظیم الذی انتشر التحریف والفساد فی شعره قدیماً، وزادته الأیام سوءاً). وثانیها (أن ابن جنی قد سجل به مرحلة جدیدة فی كتابة شروح الأشعار القدیمة والمحدثة، وتطویرها بالانتقال من طور الوقوف عند تفسیر الغریب وتدوین اختلاف الروایات إلى طور التوسع فی هذا الشرح وتشقیق الكلام فی فنون شتى من المعارف اللغویة والأدبیة وغیرها).

ویورد لنا المحقق الأدلة الصحیحة المؤكدة نسبة هذا الكتاب إلى ابن جنی، ثم یذكر لنا النسخة التی اعتمدها فی تحقیقه، وكانت نسخة واحدة صادفها فی المدینة المنورة لم یستطع العثور على سواها قبل الطبعة الأولى، ولكنه اعتمد معها على كتب ابن جنی الأخرى فی تحریر هذه النسخة وتصحیحها، كما اعتمد على المعجمات اللغویة، وأخیراً على شروح الشواهد ودواوین الشعراء. ثم عمد إلى زیادة ما تجب زیادته فی الهوامش ففسر ما أهمل ابن جنی تفسیره، ورقم الآیات القرآنیة، وخرج الأحادیث الشریفة، وتقصى الشواهد الشعریة، وترجم للأعلام ترجمات وافیة.

وقد سرد لنا الأرجوزة متوالیة بعد التعریف بالكتاب، مفصولة عن الشرح، وانتقل بعدها فی القسم التالی من المقدمة إلى التعریف بالفضل بن الربیع، فترجم لحیاته وعرفنا بالفترة التاریخیة التی كان یعیش فیها، وبین مركزه فی الدولة العباسیة وطبیعة صلاته مع الخلفاء العباسیین.

ثم وضع أمامنا ترجمة لأبی نواس المادح بعد أن عرفنا بالممدوح، فأعطانا صورة معتدلة الألوان والخطوط لهذا الشاعر الذی اكثرت الكتب القدیمة من الحدیث عنه ومنحته ملامح مضطربة من بعض جوانبها، فحاول المحقق أن یزیل بعض الخطوط التی اعتقدها وهمیة أو بعیدة عن الصحة.

وأخیراً فی القسم الرابع من المقدمة التفت الكاتب المحقق إلى مؤلف هذا الشرح (أبی الفتح عثمان بن جنی) فترجم لحیاته ترجمة مناسبة ذاكراً أصله ونسبه وثقافته، وأساتذته، ومذهبه الدینی، وضابطاً اسمه أو نسبته ومتحدثاً عن مؤلفاته وعن المراجع التی أشارت إلى هذه المؤلفات.

وقد ذكر أن مؤلفات ابن جنی تبلغ الخمسین كتاباً، ولكن ما وصل منها إلى دور المطابع لا یكاد یزید على اثنی عشر كتاباً.

وأخیراً عمد إلى مقدمة أخرى موجزة خصصها للطبعة الثانیة، وهی التی بین أیدینا، وأشار فیها إلى أنه اعتمد لهذه الطبعة مخطوطة أخرى لندنیة إضافة إلى مخطوطة الطبعة الأولى التی كان عثر علیها فی المدینة المنورة. وبین أوجه الالتقاء والاختلاف بین المخطوطتین، ثم ختم مقدمته بمجموعة صور عرضها لبعض صفحات المخطوطتین، مخطوطة المدینة ومخطوطة المتحف البریطانی.

وقد بلغت هذه الأقسام المتنوعة للمقدمة ما یزید على التسعین صفحة رقمها المؤلف بالأرقام غیر العربیة تمییزاً لهان على ما یبدو، عن صفحات الكتاب، التی بدأها بالأرقام العربیة، فكانت مئتین وسبع عشرة صفحة. ثم تلت الكتاب صفحات خمس صحح فیها المحقق ما وقع من أخطاء فی الطبع. وأتبع ذلك بفهرس للألفاظ اللغویة وإلى جانبها معانیها الموجزة بما یقارب السبع عشرة صفحة ثم فهرس المسائل:

آ-مسائل علم العربیة: النحو، الصرف، الاشتقاق.

ب-مسائل العروض والقافیة.

ج-مسائل البیان.

د-مسألة فقهیة.

ه-فوائد أدبیة.

وأتبع ذلك بفهرس الآیات القرآنیة ثم الأحادیث الشریفة وبعدها الأمثال یلیها فهرس أسماء القصائد ثم الأیام والحروب ویلی ذلك فهرس الأشعار ثم الأعلام ثم فهرس الأمم والقبائل والأسر والمذاهب، وقد أشار فی حاشیته إلى أنه لم یضمنه أسماء القبائل والأسر والمذاهب التی وردت فی مقدمة التحقیق. وبعده فهرس البلدان والأمكنة والبقاع.

وأخیراً أشار إلى مراجع المقدمة والتحقیق والتعلیق، فكان تحقیقاً متمیزاً وجهداً مشكوراً أعادنا فیه الأستاذ محمد الأثری إلى صفحات من تراثنا الخالد فی الشعر واللغة والغریب، والشرح والتفسیر، وأسبق لنا هذه الصفحات بمقدمات مفصلة تناول فیها الشاعر المادح، والشخصیة الممدوحة، والمؤلف الشارح لذلك المدح، والجهد الذی بذل لإبراز ذلك كله، ثم عقب بعد تحقیق ذلك الشرح بالفهارس والذیول المتنوعة الكافیة لتسهیل العودة إلى كل ما یحتاجه القارئ من هذا الكتاب.

جزى الله شاعرنا أبا نواس وعالمنا ابن جنی ومحققنا محمد بهجة الأثری خیر الجزاء على ما بذلوه لخدمة تراثنا وحفظ لغتنا التی هی الركن الخالد من أركان حضارتنا فی ماضینا وحاضرنا، والله لا یضیع أجر من أحسن عملاً.

ومن حق القارئ علینا فی الختام أن نذكر له مطلع هذه الأرجوزة الموسومة بمنهوكة أبی نواس لأنها من منهوك الرجز:

وبلدة فیها زور              صعراء تخطى فی صقر

وكأنی بالقارئ حین یعلم أن أ بیات هذه الأرجوزة تنوف على الخمسین بیتاً لن یستغرب أن یأتی شرحها كتاباً برمته. فأی غریب ذاك الذی جشم أبو نواس نفسه مشقة إیراده فی هذه الأرجوزة التی بدأها بوصف البقاع العسیرة والاجتیاز، ثم وصف الجمَل القوی الذی كان مطیة الانتقال عبر هذه البقاع والتی كانت طریقه إلى الممدوح. ثم أخذ بعد ذلك بالمدیح؛ متنقلاً بین شتى الخصال التی یعتز بها العربی بعبارات موغلة فی الصعوبة والغرابة لا یكاد یخیل لقارئها أن قائلها نفسه هو الذی قال:

عاج الشقی على رسم یسائله                 وعجت أسأل عن خمارة البلد

یبكی على طلل الماضین من  أسد              لا در درك قل لی من بنو أسد

دع ذا عدمتك واشربها معتقة                  صفراء تفرق بین الروح والجسد

فاشرب وجد بالذی تحوی یداك لها            لا تدخر الیوم شیئاً خوف فقر غد

وقال أیضاً فی مدح الفضل:

یا فضل جاوزت المدى                فجللت عن شبه النظیر

أنت المعظم والمكبر          فی العیون وفی الصدور

حتى تعصرت الشبیبة                  واكتسبت من القتیر

عف المداخل والمخارج               والغریزة والضمیر

فأی سهولة ووضوح هنا، وأی صعوبة ووعورة هناك؟! ولكنه التحدی والرغبة فی إثبات القدرة على مجاراة الأوائل وهواة أسالیبه
م ومدارسهم.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:23|
العرب یُصَنّفون معارفهُمْ بالشعْر -

نقصد بالتألیف بالشعر عند العرب نَظْمَ الكتاب أو المصنَّف شعراً، سواء كان هذا الكتاب لغویاً أو نحویاً، أو صرفیاً، أو عروضیاً، أو بلاغیاً، أو أدبیاً قصصیاً، أو فقهیاً، أو زراعیاً، أو ملاحیاً، أو فلكیاً، أو ریاضیاً، أو كیمیائیاً، أو طبیاً، أو تاریخیاً...والحقیقة أننا سنُعاین فیما یلی من هذه الدراسة آثاراً شعریة تتصل بكل علم من العلوم السابقة. وربما نذكر نتفاً من الأشعار التی كانت قوام كل مؤلَّف أو مصنَّف للتدلیل والتمثیل.وقد كان العرب وما زالوا، أمة الشعر، فالشعر كان، منذ الجاهلیة، ینثال على كل لسان أو یكاد! وكانت العرب تعلی شأن الشاعر أیّما إعلاء، فقبائلهم حین ینبغ فیها شاعر "تأتی القبائل لتهنئتها، وتصنع الأطعمة، وتجتمع النساء لیلعبن فی المزاهر، كما یصنعون فی الأعراس، ویتباشر الرجال والولدان لأنه حمایة لأعراضهم، وذبٌّ عن أحسابهم، وتخلید لمآثرهم، وإشادة بذكرهم". (العمدة 1: 65).إن الروح الشعریة الطاغیة قد ضربت جذورها فی أعماق النفس العربیة، ثم سرت فی دماء العرب عامة، فآلت بالشعر إلى أن یحتل مكانةً سامیة فی النفوس والعقول معاً، حتى إن بعض المصنِّفین والعاملین فی میدان التألیف والبحث لم یتردد فی التباهی بموهبته الشعریة، فسخّرها للتألیف والتصنیف، وراح ینظم بعض معارفه شعراً، وخاصة تلك التی برع فیها وتعمَّقها وأحصاها، وذلك تغلیباً لرونق النظم وظله الخفیف، على جفاف النثر وظله الثقیل، ورغبة فی تسهیل حِفْظ ما یُرى نفع فی حفظه، فروایة الشعر المضطرب الوزن، تذكّر القارئ أو السامع، بأن خللاً فیه قد وقع فیتدارك ما اختلَّ، ویتذكَّر ما سقط، ویصحح ما جاء فاسداً... فتأتی المعلومة صحیحة وكاملة ومضبوطة.والأمثلة على ما تقدم كثیرة، بل وكثیرة جداً، ففی میدان اللغة، وهو میدان صال فیه العرب وجالوا، واستأثر بالجم من جهودهم الفكریة، نقع على منظومة فی "غریب اللغة وشرحه" لأبی بكر محمد بن القاسم الأنباری (328ه) عنوانها "قصیدة فی مُشْكل اللغة" نشرها الأستاذ عز الدین البدوی النجار فی مجلة مجمع اللغة العربیة بدمشق (مج64، ج4، عام 1989م)، وقد افتتح أبو بكر الأنباری قصیدته بقوله:یا مُدَّعی عِلْمَ الغریبِ والقریضِ والمثَلْنمِّقْ جوابی: ما القزیحُ والشَّقیح والألَلْویجیب الأنباری نفسه عن سؤاله شارحاً: "قال أبو عبیدة: القریض هو القصیدة من الشعر خاصة دون الرجز والقزیح فیه قولان. قال أبو بكر: القزیح: الملیح. تقول العرب: ملیحٌ قزیحٌ. وقال آخرون: القزیح: العجیب. قال أبو بكر: والشقیح: القبیح، یقال قبیحٌ شقیحٌ. والألَل: قال أبو عمرو: البَرْق". ثم یضیف الأنباری فی قصیدته:وما العِمار والعَمار والخَبار والسَّفَلْ؟ویمضی شارحاً بعده الكلمات التی ساقها فی البیت، معتمداً فی ذلك على أئمة اللغة، كصنیعه فی البیتین السابقین.ولم تكن قصیدة أبی محمد بن القاسم الأنباری فریدةً فی بابها، فقد ذكر ابن الندیم (384ه) فی "الفهرست" تحت عنوان: (القصائد التی قیلت فی الغریب): "قصیدة الشرقی بن القطامی" و"قصیدة موسى ن حرنید" و"قصیدة یحیى بن نجیم" و"قصیدة الأبراری" و"قصیدة شبل بن عزرة" و"قصیدة أحمد الأنباری" (الفهرست ص 196).وفی كتب فهارس المخطوطات نطالع إشارات إلى مخطوطات شرحت قصائد فی اللغة، مثل: "شرح مثلث قطرب" (المتوفى سنة 206ه) لمجهول. ومثل شرح منظومة ثعلب المسمى "الموطأ فی اللغة" وقد نهض به عبد الوهاب بن الحسن بن بركات المهلبی (685ه) وأولها بعد البسملة:یا مُوْلعاً بالغضَبِ *** والهَجْرِ والتجنّبِحُبُّكَ قد برَّحَ بی *** فی جِدّه واللعبِ(انظر فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهریة، علوم اللغة العربیة ص 97، 98).وذكرت كتب التراث أیضاً، أن لابن مالك النحوی الطائی (672ه) أرجوزة فی ثلاثة آلاف بیت بعنوان (الأعلام بمثالث الكلام). وفیها ذكر الألفاظ التی لكل منها ثلاثة معان باختلاف حركاتها (انظر مقال رزوق فرج رزوق: "الشعراء التعلیمیون والمنظومات التلعیمیة" فی مجلة المورد العراقیة مج19، ع1، ص 216).وفی میدان النحو الذی حظی هو الآخر بحفاوة بالغة من ذوی الهم العلمی عند العرب، نطالع لجمال الدین محمد بن عبد الله بن مالك الطائی الأندلسی، وهو من أعظم نحاة القرن السابع شهرة، وقد ذكرناه من قبل، نطالع قواعد النحو العربی وقد نُظِمت فی ألف بیت. وعرف هذا العمل فیما بعد ب"ألفیّة ابن مالك". وكانت هذه الألفیة خلاصة نحویة مركزة ظفرت بشرح أكثر من أربعین عالماً. وفی هذه الألفیة یقول ابن مالك فی باب الكلام وما یتألف منه مثلاً:كلامُنا لفْظٌ مُفیدٌ فاستقِمْ *** واسمٌ وفِعْلٌ ثم حرفٌ الكَلِمْونقرأ له فی باب (المبتدأ والخبر) قوله:مبتدأ زیدٌ، وعاذِرٌ خبَرْ *** إنْ قُلْتُ: زیدٌ عاذرٌ مَنِ اعْتَذَرْوكذلك نراه یجمع (إنَّ) وأخواتها وعملها، الذی یخالف عمل (كان) وأخواتها، فی قوله:لأنَّ إنَّ لیتَ لكنَّ لعَلْ *** كأنَّ، عكْسُ ما لِ(كانَ) مِنْ عمَلْومن الكتب النحویة المهمة التی نُظِمت شعراً "الآجرومیة" وهی مقدمة فی النحو ألَّفها أبو عبد الله محمد بن داود بن آجروم الصنهاجی (723ه). وكان فقیهاً ونحویاً ولغویاً ومقرئاً وشاعراً. ولم یكن فی أهل (فاس) فی وقته أعلم منه فی النحو. وقد نظم (الآجرومیة) میمون الفخار، والعربی الفاسی، ومحمد نووی. واسم كتاب النووی هذا "النفحة المسكیة فی نظم الآجرومیة"، وشرف الدین یحیى بن موسى العمریطی (989ه) الذی سمَّى كتابه "الدرَّة البهیَّة فی نظم الآجرومیة" (وهو مطبوع ضمن مجموعة من المتون بما فی ذلك الآجرومیة ذاته، بعنایة أحمد سعید علی، بالقاهرة عام (1949م).ونظم "الآجرومیة" أیضاً عبد الله بن الحاج الشنقیطی (1209ه). وللشنقیطی هذا مؤلفات عدة، أغلبها منظوم، منها مثلاً: نظْم كتاب مختصر الخلیل، ونظم الخزرجیة فی العروض، ونظم رسالة ابن أبی زید القیروانی. ومن أمثلة نظْم الشنقیطی للآجرومیة قوله:قال عُبَیْدُ ربِّهِ مُحَمَّدُ *** اللهُ فی كلِّ الأمورِ أحمدُمُصلّیاً على الرسولِ المُنْتَقى *** وآلهِ وصَحْبهِ ذوی التُّقىوالبعدُ والقَصْدُ بذا المنظومِ *** تسهیلُ منثورِ ابنِ آجرومِوفی باب الإعراب یقول:الإعرابُ تغییرُ أواخِرِ الكَلِمْ *** تقدیراً أو لفظاً فذا الحدّ اغتنمْوذلك التغییرُ لاضطرابِ *** عواملٍ تدخلُ للإعرابِأقسامُه أربعةٌ تُؤمُّ *** رَفْعٌ ونَصْبٌ ثم حَفْضٌ جَزْمُفالأوَّلان دونَ رَیْبٍ وقَعا *** فی الاسمِ والفعلِ المضارعِ معافالاسمُ قد خُصِّصَ بالجرّ كما *** قد خُصِّص الفعلُ بجَزْمِ فاعلما(انظر مقال الأستاذ خلیفة بدیری: نظم متن الآجرومیة فی مجلة كلیة الدعوة الإسلامیة، طرابلس، العدد 6 ص 262-263).وكذلك نظم السیوطی (911ه) ألفیةً فی النحو سماها (الفریدة). وهی مطبوعة. ولها شرح بعنوان "المطالع السعیدة فی شرح الفریدة".وإذا تركنا النحو، وانتقلنا إلى علم الصرف، وهو علم یهتم ببنیة الكلمة العربیة وبأوزانها ومجردها ومزیدها، وإبدالها وإعلالها، وجامدها ومشتقها، وقعنا على أمثلة كثیرة من نظم الصرف)، منها مثلاً "قصیدة أبنیة الأفعال" التی نظمها ابن مالك صاحب الألفیة النحویة المشار إلیه سابقاً. وهذه القصیدة التی تسمى أیضاً بلامیة الأفعال شرحها ابن الناظم ذاته، واسمه بدر الدین محمد بن محمد (686ه). وقد جاءت القصیدة على البحر البسیط، وتقع فی (114) بیتاً. ونشر شرح الابن علیها الدكتور ناصر حسین علی بدمشق عام 1992م بعنوان "زبدة الأقوال فی شرح قصیدة أبنیة الأفعال".وإذا طالعنا كتاب (فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهریة بدمشق- علوم اللغة العربیة) نقع على منظومة صرفیة أخرى بعنوان "الترصیف فی التصریف" نظمها عبد الرحمن بن عیسى العمری المرشدی المكی (1037ه) وأولها:أفضل ما إلیه تصریف الهِممْ *** بحُسن حمدِ الله وهَّاب النِّعمْوتقع هذه المخطوطة فی (12) ورقة ورقمها 10859 (انظر فهرس مخطوطات الظاهریة- علوم اللغة العربیة ص 457).وقد ألَّف ناصیف الیازجی اللبنانی المعاصر كتاباً سماه "الجمانة فی شرح الخزانة". وهذا الكتاب هو أرجوزة فی علم الصرف أسماها (الخزانة)، ثم علَّق علیها شرحاً لها سمَّاه "الجمانة".وطبع هذا الكتاب فی بیروت سنة 1872م. یقول ناصیف الیازجی فی فاتحة كتابه مثلاً:أقول بعد حمد ربٍّ محسنِ *** لا علم لی إلا الذی علَّمنیقد اصطنعت هذه الخزانهْ *** حاویة من شرحها الجمانهْجعلتها فی الصرف مثل القطبِ *** فقُلتُ والله الكریمُ حسبیثم قال:الصرفُ عِلْمٌ بأصول تُعرف *** بها مبانی كَلِمٍ تُصرَّفُوالأحرفُ التی ابتنت منها الكلِم *** إلى صحیحٍ وعلیلٍ تنقسمْوأحرفُ العلَّة واوٌ وألِف *** والیاءُ والباقی بصحةٍ وُصِفْوتشرك الهمزة حرف العلّه *** فتلك بَینَ بین فی المحلّهوفی مجال علوم اللغة العربیة الأخرى كالبلاغة وفروعها، كعلم المعانی، والبیان، والبدیع، یمكن المرء أن یشیر إلى جهود ابن الشحنة (815ه) واسمه أبو الولید محب الدین محمد بن محمد بن أیوب الحلبی الذی ألّف منظومة فی علم المعانی والبیان والبدیع، وقد شرح هذه المنظومة محمد بن تقی الدین أبو بكر الحموی الدمشقی المحبی (1010ه). ومن هذا الشرح نسخة مخطوطة تقع فی (68) ورقة فی دار الكتب الظاهریة (انظر فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهریة- علوم اللغة ص 319-320).وكذلك ألَّف السیوطی (911ه) قصیدة أسماها "عقود الجمان" وهی فی علمی المعانی والبیان، وقد شرحها بنفسه. ومن هذا الشرح نسخة بین مخطوطات الظاهریة (انظر فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهریة- علوم اللغة ص 316).كما یمكن المرء أن یشیر فی مجال البدیع وحده إلى منظومة للشیخ الإمام زین الدین یحیى بن معطی المغربی الزواوی (628ه) جمع فیها شواهد البدیع من أشعار المبرزین من الشعراء، وذلك بأن حدّد نوع البدیع، ثم أعطى الشاهد علیه، وأولها بعد البسملة:یقول ابن معط قُلتُ لا متعاطیا *** مقالة مَن یرجو الرضى والتعاطیاومن هذه المنظومة نسخة فی دار الكتب الظاهریة تقع فی 9 ورقات ضمن مجموع عدد أوراقه 27 ورقة انظر (الفهرس المذكور سابقاً ص 208).وفی مجال العروض مر بنا ذكر نظم الشنقیطی للخزرجیة فی العروض قبل قلیل. ونطالع فی فهارس المخطوطات آثاراً أخرى فی هذا الفن، منها منظومة فی العروض لمحمد بن الحسن الحسینی الشافعی الهروی (676ه) أولها بعد البسملة:أحمدُ مَنْ صلَّى على محمدِ *** وآله نجومِ كلِّ مُهْتَدِوهی من مخطوطات الظاهریة، وقد كتبها ناظمها نفسه. وتقع فی أربع ورقات- (انظر فهرس مخطوطات الظاهریة- علوم اللغة ص 440).وأشار صاحب "معجم المؤلفین" إلى أن إبراهیم بن عبد الله بن جمعان الیمنی الزبیدی (1083ه) قد ألَّف مقطوعة فی العروض سماها (آیة الحائر)- (انظر معجم المؤلفین 1:5). وبین مخطوطات الظاهریة مخطوطة بعنوان "هالة العروض" وهی أرجوزة نظمها محمد صالح بن أحمد بن سعید المنیر الدمشقی (1321ه). قدم بها لعلم العروض وتناول فیها الزحافات والعلل والأبحر والدوائر العروضیة، وختمها بألقاب الأبیات، أتم نظمها فی (الآستانة) فی شعبان سنة 1299ه، وأولها بعد البسملة:یقول صالح بن احمدَ السری *** القدوةُ المشهورُ بالمُنیرِوهی نسخة بخط ناظمها، وتقع فی (8) ورقات (انظر فهرس علوم اللغة المذكور ص 442).وفی میدان الأدب القصصی جرب (أبان بن حمید اللاحقی)، وهو شاعر إسلامی من أهل البصرة، جرّب قدرته فی النظم فی صیاغة كتاب كلیلة ودمنة شعراً. وقد استغرق نظمه لهذا الكتاب ثلاثة أشهر. وبلغت أشعاره (14) ألف بیت، وقدمه إلى یحیى بن خالد البرمكی، فكافأه هذا عشرة آلاف دینار.ونجد فی كتاب (الأوراق) للصولی (335ه) من هذا النظم ما یربو على (80) بیتاً. وأول ذاك النظم قول أبان اللاحقی:هذا كتابُ أدبٍ ومحنهْ *** وهو الذی یُدعى كلیلة ودِمْنهْفیه احتیالاتٌ وفیه رشدُ *** وهو كتابٌ وضَعَته الهِندُومن نظمه مثلاً فی باب الأسد والثور من كتاب كلیلة ودمنة:وإن مَن كان دنیَّ النفسِ *** یرضى من الأرفعِ بالأخسِّكمثلِ الكلب الشقیِّ البائسِ *** یفرح بالعظْمِ العتیقِ الیابسِوإن أهل الفضلِ لا یرضیهمُ *** شیء إذا ما كان لا یرضیهمُوذكر الصولی أیضاً أن "أباناً" هو الذی عمل القصیدة (ذات الحُلَل)، وفیها ذكر مبتدأ الخلق وأمر الدنیا وأشیاء من المنطق، وغیر ذلك، وهی قصیدة مشهورة. ومن الناس من ینسبها إلى أبی العتاهیة، والصحیح أنها لأبان. (انظر كتاب الأوراق للصولی، تحقیق ج. هیورت، بیروت، ط2، 1979، ص 1 وص 46-48).وقد نظم "كلیلة ودمنة" أیضاً (ابن الهبَّاریة) (504ه) وهو الذی نظم أیضاً كتاب (الصادح والباغم). ومن ناظمی كتاب الفیلسوف الهندی، محمد الجلال، وعبد المنعم بن حسن وعلی بن داود كاتب زبیدة-زوج الرشید، وجلال الدین النقاش من القرن التاسع الهجری.وفی مجال الفقه الإسلامی نظم محمد بن علی الرحبی، (المتوفى سنة 577ه) أرجوزة فی أحكام الإرث الإسلامی، وعرف كتابه بمتن الرحبیة نسبة إلیه. وقد شرح هذا المتن كثیرون من العلماء، منهم: أبو بكر أحمد السبتی، وجلال الدین السیوطی، وعبد القادر الفیومی، ومحمد بن صالح الغزی، ومحمد بن محمد الماردینی، وشرح هذا الأخیر مطبوع. وكذلك شرحَ الرحبیة محمد بن خلیل بن خملیون وسمى شرحه: (تحفة الأخوان البهیة على المقدمة الرحبیة). وقد حقق هذا الشرح الأستاذ السائح علی حسین، وطبعه فی طرابلس بلیبیا عام 1990م، تحت عنوان (التحفة فی علم المواریث). وفی أسباب المیراث نقرأ قول الرحبی: (التحفة فی علم المواریث ص 85):أسباب میراث الورى ثلاثهْ *** كلٌّ یفید ربَّهُ الوراثهْوهی نكاح وولاء ونسَبْ *** ما بعدهنَّ للمواریث سبَبْویقول فی موانع الإرث (التحفة ص 89):ویمنع الشخصَ من المیراثِ *** واحدةٌ من عِللٍ ثلاثِرقٌ وقتل واختلاف دینِ *** فافهمْ، فلیس الشك كالیقینِویقول فی باب أصحاب الثُمُن (التحفة ص 102):والثُّمْنُ للزوجةِ والزوجاتِ *** مع البنین أو مع البناتِأو مع أولادِ البنین فاعلمِ *** ولا تظنَّ الجمعَ شرطاً فافهَمِومن الكتب القریبة من الفقه والشرع وصلتنا كُتب تعالج قضیة الإمامة فی الإسلام منذ وفاة الرسول () إلى عصر كاتبها. ومن تلك الكتب كتاب بعنوان (الأرجوزة المختارة) للقاضی النعمان (363ه). وقد حققها إسماعیل قربان حسین، ونشرها ضمن منشورات معهد الدراسات الإسلامیة فی (مونتریال) بكندا. وهذه الأرجوزة تلقی ضوءاً على موقف الفرق المختلفة من قضیة الإمامة والأدلة التی قدمتها كل فرقة، وتعدّ هذه الأرجوزة التی ألّفت فی أیام الخلیفة الفاطمی القائم بأمر الله من أقدم النصوص الفاطمیة فی الإمامة، وفی مطلعها یقول الناظم مثلاً:الحمد لله بدیعٌ ما خَلقْ *** عن غیر تمثیلٍ على شیء سبقْبل سبَقَ الأشیاء فابتداها *** خلقاً كما أراد إذ بَراهاومن كتب الفرق المنظومة شعراً "القصیدة الصوریة" التی ألَّفها الداعی الإسماعیلی الأجل محمد بن علی بن حسن الصوری، وحقَّقها عارف تامر، ونشرها فی نطاق منشورات المعهد الفرنسی للدراسات العربیة بدمشق عام 1955م. وهی كما قال ناشرها:"أقدم المصادر عن الإسماعیلیة، ومن أهم الرسائل التی تنطق بالحقائق، وتمثل العقائد أصدق تمثیل، ومن أحسن المراجع فی تاریخ قصص الأنبیاء وعدد الأئمة المنحدرین من الإمام علی بن أبی طالب حتى الإمام المستنصر بالله الفاطمی.. ولذلك كانت تتناقلها الدعاة ویحافظون على سریتها وعدم تسربها، ولیس بالغریب إذا قلت إن أكثرهم كان یحفظها غیباً بالنظر لاعتمادهم على بیانها الرائع وأصولها وفروعها، ومتانة أسلوبها وترتیبها".ومؤلف هذه القصیدة هو محمد بن علی بن حسن كانت مدینة (صور) مسقط رأسه، لذا نُسِب إلیها، وقد عاش ردحاً فی (طرابلس) داعیة للفاطمیین، وقام بالرحلة فی طلب العلم والحدیث. وقیل إنه سمع بالكوفة من أربعمئة شیخ، وهبط القاهرة فی عهد الإمام المستنصر بالله الفاطمی. واستوطن بغداد سنة 418ه، وقد توفی فیها سنة 441ه.والحقیقة أن هذه الأرجوزة الإسماعیلیة لیست الوحیدة فی تراثنا. فقد شاعت الأراجیز فی العهود الفاطمیة، واستعملت للدعایة وللتعبیر عن الموضوعات الفلسفیة والتعالیم العقائدیة- (انظر ص 17 من القصیدة الصوریة)، ولكی نعرف طریقة هذه المنظومات نسوق هنا مطلع القصیدة الصوریة، وهی فی باب القول بالحمد والاستفتاح (ص 23):الحمد لله مُعِلِّ العِللِ *** ومبدع العقل القدیم الأزلِأبدعه بأمره العظیمِ *** بلا مثالٍ كان فی القدیمِوصیَّر الأشیاء فی هویتهْ *** مجموعة بأسرها فی قدرتهْفهو لها أصل كریم یجمعُ *** فمنه تبدو وإلیه ترجعُسبحانه منْ ملكٍ دیَّانِ *** العقل والنفس له عبدانِجلَّ عن الإدراك فی الضمائرِ *** والوصف بالأعراض والجواهرِوفی مجال الفلاحة، نقرأ لسعد بن أحمد بن لیون التجیبی (750ه) أرجوزة تشمل (1300) بیت. نشرها فی غرناطة، عام 1975 (جواكینا أجوارس أبنیث). وقد كان ابن لیون التجیبی عالماً موسوعیاً له ولَعٌ باختصار الكتب، وتتلمذ على یدیه فی (المریة) من أعلام الأندلس ابن خاتمة الأنصاری، ولسان الدین بن الخطیب، وابن جعفر بن الزبیر، وابن رشید الفهری. وسمى (ابن لیون) أرجوزته "كتاب إبداء الملاحة وإنهاء الرجاحة فی أصول صناعة الفلاحة". وقد عدّد المؤلف فی كتابه هذا أركان الفلاحة شعراً، فكانت حسب قوله:هی الأراضی والمیاه والزبولُ *** والعمل الذی بیانه یطولُونراه یشیر إلى الأرض وما یحفظها أو یفسدها، فیقول مرتجزاً:الفول والترمس والكتَّانُ *** تحفظ الأرضَ وكذا الجلبانُوالدخن مُضعِف لها والجلجلانْ *** وما یكرَّر بها كل زمانْووَرَقُ الحِمِّصِ والكرْسنَّهْ *** مُفْسِدةٌ للأرضِ بالملوحهْونجده یشیر فی موضع آخر إلى أعمار الثمار والنبات فی نظره، فیقول معتمداً على أقوال (ابن بصَّال) و(الطغنری)، وهما عالمان فی الزراعة أیضاً:وعمرُ الزیتون مِنْ عدِّ السنینِ *** ثلاثة ألافٍ حینٌ بعدَ حینِوفی الصنوبرِ عن ابنِ بصَّال *** بمئتی عامٍ یقول استكمالوالطغنری قد قال: ما لا یسقطُ *** ورقُهُ، أعمرُ مما یسقطُوأكثرُ الثمارِ یبلغ المائهْ *** أو نحوها، وقد ترید تبقیهْوكل ما فی النشء منها یسرعُ *** فعمرُه أقصره لا یتَّسعُ(انظر مقال أمین توفیق الطیبی فی مجلة كلیة الدعوة الإسلامیة، طرابلس: كتب الفلاحة الأندلسیة- أرجوزة ابن لیون فی الفلاحة العدد 5، 6 ص 354 فما بعدها).وفی مجال الملاحة یقع الباحث على أراجیز كثیرة، فیطالع لابن ماجد (المتوفى بعد 904ه) الملقَّب بأسد البحر الذی أرشد قائد الأسطول البرتغالی (فاسكو داغاما) فی رحلته لاكتشاف طریق الهند من خلال رأس الرجاء الصالح، أرجوزة، اسمها "حاویة الاختصار فی أصول علم البحار". وقد نشر هذه الأرجوزة الأستاذ إبراهیم خوری بدمشق ضمن منشورات المعهد العلمی الفرنسی. یقول ابن ماجد فی تقدیم أرجوزته:یا أیها الطالبُ عِلمَ الیمِّ *** إلیك نظماً یا له من نَظمِفی العلم والهیئة والحسابِ *** وما هو استنبط للصوابِإن كنتَ ممن جدَّ فی العلومِ *** وذاكر الأستاذ كلَّ یومِیغنیك عن رهمانجات النّثرِ *** هذا الذی نظمتُه بالشعرِوفی میدان الریاضیات یمكن أن نشیر إلى أرجوزة (ابن الیاسمین) فی الجبر والحساب. وابن الیاسمین هو عبد الله بن الحجاج المعروف بابن الیاسمین. وهو من أهالی (فاس). وقد أفرغ علمه فی هذه الأرجوزة الشهیرة، وتوفی ابن الیاسمین عام (600ه). وقد ابتدأ ابن الیاسمین بوضع تعریف شامل وهام لمجال علم الجبر، فقال:على ثلاثة یدور الجبرُ *** المال والأعداد ثم الجَذْرُثم عرَّف المقصود بالمال فی البیت الثانی، فقال:فالمال كلُّ عددٍ مربَّعِ *** وجذرهُ واحد تلك الأضلُعِوالعدد عند (ابن الیاسمین) هو الشیء، أو العدد المجهول، ومربعه هو الكمال. وفی بعض أبیات الأرجوزة یقول:وضربُ كلِّ زایدٍ وناقصِ *** فی مثله زیادةٌ للفاحصِوضربُه فی ضدِّهِ نقصانُ *** فافهمْ هداكَ الملكُ الدیَّانُوقدم الأستاذ بدیع الحمصی بحثاً عن ابن الیاسمین وأرجوزته هذه فی الندوة العالمیة الثانیة لتاریخ العلوم عند العرب فی نیسان عام 1979م. وفی الظاهریة بدمشق سبع نسخ للأرجوزة وشروحها. ویذكر الأستاذ محمود الصغیری أن بالیمن فی (زبید) تحتفظ المكتبات الخاصة بعشرات النسخ من هذه الأرجوزة.انظر (قضایا فی التراث العربی- لمحمود الصغیری، دمشق 1981م ص 155).وفی میدان العلوم التطبیقیة كالكیمیاء والطب والصیدلة حفِل تراثنا العظیم بأراجیز كثیرة جداً، تناولت المعارف التی تنتمی إلى هذه العلوم. ففی مجال الكیمیاء ربما كان دیوان الأمیر العالم الشاعر الأموی خالد بن یزید (90ه) واسمه "الصنعة" هو أقدم ما أُلِّف شعراً فی علم الكیمیاء. وربما أهَّل هذا الدیوان صاحبه لأن یوصف بأنه الشاعر التعلیمی الأول فی التراث العربی. وقد ذكر حاجی خلیفة هذا الدیوان فقال یصفه:(فردوس الحكمة فی علم الكیمیاء لخالد بن یزید بن معاویة الأمیر الحكیم. منظمة فی قوافٍ مختلفة وعدد أبیاتها ألفان وثلاث مئة وخمسة عشر بیتاً، أولها:الحمدُ للهِ العلیِّ الفردِ *** الواحدِ القهَّار ربِّ الحَمْدِیا طالباً بوریسطس الحكماءِ *** خُذْ منطقاً حقاً بغیر خفاءِ(كشف الظنون 1254-1255).ویمكن أن نضیف إلى هذا الدیوان، دیواناً آخر لأبی الحسن علی بن موسى الأنصاری المعروف بابن أرفع رأس (593ه) اسمه "شذور الذهب فی صناعة الكیمیاء". وهو دیوان شعری مرتّب على الحروف، شرحه أیدمر بن علی الجلدكی وسمى الشرح "غایة السرور"، وخمَّسه شرف الدین محمد بن موسى القدسی الكاتب (المتوفى سنة 712ه) تخمیساً حسناً- (انظر كشف الظنون 1027). وقد أضاف الأستاذ رزوق فرج رزوق أن عدد منظوماته فی مخطوطة جامعة برستن بالولایات المتحدة 43 منظومة یبلغ مجموع أبیاتها 1487 بیتاً. وعدد منظوماته فی مخطوطة كلیة الآداب بجامعة بغداد 42 منظومة یبلغ مجموع أبیاتها 1431 بیتاً. (انظر مجلة المورد- بغداد 1990- مج19 العدد الأول ص 213).ومن المعروف أیضاً أن الرازی أبا بكر محمد بن زكریا (313ه/ 925م)- (جالینوس العرب)، وهو من أكابر الكیمیائیین والأطباء العرب، نقل (كتاب الآس) لجابر إلى الشعر، وله قصیدة فی المنطقیات، وقصیدة فی العظة الیونانیة (الفهرست ط تجدد- ص 359). وله أیضاً أرجوزة فی الطب ذكرتها هیا محمد الدوسری فی كتابها "فهرس المخطوطات الطبیة المصورة- الكویت، 1984، ص 27" أولها:الحمد لله الذی بَرانا *** وركَّب العقول والأذهاناومنَّ بالسّماعِ والإبصارِ *** یهدی لها من ذا اعتبارِوآخرها:أما له مُعتبرُ فی نفسهِ *** كیف یصیر جسمه فی رمسِهِبعد النعیمِ جیفةً نتینهْ *** ونفسه بما جنَت رهینهْحتى تؤدیه إلى دار البقا *** والخلدِ إما فی نعیمٍ أو شقاوقد نسخت هذه الأرجوزة عام 1054ه، وتقع فی 8 ورقات، وهی فی (مكتبة جستر بیتی- 5244 مجموع).ومن المعروف أن للرازی أیضاً كتباً كثیرة منها- عدا الحاوی، والمنصوری، والطب الروحانی- كتاب "برء الساعة" وقد حوّل هذا الكتاب إلى أرجوزة محمد بن إبراهیم بن یوسف الحنبلی (971ه) وأعطاها عنوان "الدرر الساطعة فی الأدویة القاطعة". وهی فی 135 بیتاً، وذكر ذلك عمر رضا كحالة فی كتابه: (معجم المؤلفین 8: 223).أما ابن سینا الشیخ الرئیس (428ه)- (بقراط العرب) وشیخ أطبائهم، فقد ألَّف كتاب "القانون فی الطب" الذی ظل مرجعاً أساسیاً لطلبة الطب فی الشرق والغرب حتى أواخر القرن الماضی، ابن سینا هذا ارتأى أن یلخّص المعلومات الطبیة التی وعاها وخبرها وتمرِّس بها فی أرجوزة شعریة تسهیلاً لحفظها، ولینتفع بها تلامذته فی كل مكان وزمان. لذا أنشأ "أرجوزته فی الطب" وهی أرجوزة تقع فی ما یزید على /1300/ بیت.وقد أثَّرت تلك الأرجوزة كثیراً فی تدریس الطب فی المشرق العربی وفی المغرب والأندلس. وكانت عمدة أساتذة الطب لسنین طویلة، وشُرحت كثیراً وعُلِّق علیها، وعورضت واستدرك علیها، وممن استدرك علیها هارون بن اسحق المعروف بابن عزرون، وذلك فی أرجوزته فی الحمیات والأورام، فقد ذكر ابن عزرون أن ابن رُشد قد لاحظ تقصیر أرجوزة ابن سینا فی ذكر الحمّیات والأورام؛ فحفزته تلك الملاحظة على نظم أرجوزة فی هذا الباب... وأكمل محمد بن قاسم بن محمد الفاسی (1120ه) الأرجوزة السینویة بأرجوزة سمَّاها "الدرة المكنوزة فی تذییل الأرجوزة". ومما قاله ابن سینا فی أرجوزته:بدأتُ باسمِ اللهِ فی النَّظْمِ الحَسَنْ *** أذكُر ما جرَّبتُه طولَ الزَّمَنْوفی موضع آخر یقول ابن سینا:الطِّبُّ حِفظُ صحة بُرء مَرَضْ *** من سَبَب فی بِدنٍ عنْهُ عرَضْقِسمتُه الأولى لعِلْمٍ وعمَلْ *** والعِلمُ فی ثلاثةٍ قدِ اكتملْسبعُ طبیعاتٍ من الأمورِ *** وستةٌ وكلُّها ضروریثم ثلاثٌ سُطِّرت فی الكتبِ *** مِن مرَضٍ وعرَضٍ وسبَبِوقد طبعت أرجوزة ابن سینا. ومنها نسخ مخطوطة كثیرة فی الظاهریة- (انظر فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهریة- الطب والصیدلة 1/450).ولابن سینا أیضاً أرجوزة فی التشریح (انظر فهرس مخطوطات الظاهریة- الطب والصیدلة 2/342). وقد شرح ابن رشد (595ه) منظومة ابن سینا هذه. ومن هذا الشرح نسخة مخطوطة فی الظاهریة (فهرس الطب والصیدلة ص 441)، ومنها نسخة مصورة عن مكتبة جستر بیتی (رقم 3993) فی الكویت تقع فی 130 ورقة- (انظر فهرس المخطوطات الطبیة المصورة السابق الذكر- ص 115).وكذلك شرح هذه الأرجوزة محمد بن إسماعیل بن محمد المتطبِّب (ت بعد 988ه). وهو شرح یقع فی 180 ورقة. وعنوانه: "التوفیق للطبیب الشقیق". ومنه نسخة بخط المؤلف فی دار الكتب الوطنیة بتونس (انظر فهرس المخطوطات الطبیة المصورة فی قسم التراث- الكویت 1984، ص 63). و(فهرس دار الكتب الوطنیة تونس 1/8). وانظر (9) أراجیز لابن سینا ذكرها رزوق فرج رزوق فی (مجلة المورد مج 19 العدد الأول لعام 1990 ص 210-211).ونظم أبو عبد الله محمد بن العباس بن أحمد الدنیسری (686ه) أرجوزة فی نظم "مقدمة المعرفة" لبقراط، وأرجوزة فی الدریاق الفاروقی (انظر فوات الوفیات 2: 440) و(هدیة العارفین 2: 136). وكذلك نظم داود بن عمر الأنطاكی (1008ه) ألفیة فی الطب. كما نظم "القانون فی الطب" لابن سینا وشرَحه (انظر كشف الظنون 1313) و(هدیة العارفین 1: 362). والحقیقة أن المنظومات الطبیة كثیرة جداً ولم نذكر منها إلا غیضاً من فیض، وذلك لأن الاستقصاء هنا لیس غرضنا.وإذا تركنا الطب وانتقلنا إلى الفلك، نجد أن العرب قد أحرزوا فی هذا العلم إنجازات عظیمة، ولیس أدل على ذلك من احتواء اللوحة التی وضعها (نیل آرمسترونغ)- أول إنسان وطئت قدماه أرض القمر- على اسم (البتَّانی)، وهو عالم فلكی سوری من الرقة عاش فی القرن الرابع الهجری، وذلك تقدیراً لجهود هذا العالم فی علم الفلك، وإجلالاً لما صنعه فی زمانه من زیجات فلكیة صحیحة. ومن المعروف فی هذا الباب أن لأبی الحسن علی بن أبی الرجال (بعد 432ه) أرجوزة فی الأحكام الفلكیة، وهی مطبوعة- (مجلة المورد مج 19 ع1 لعام 1990 ص 211).ونطالع فی (كشف الظنون ص 1345) ذِكْر قصیدة فی النجوم مزدوجة طویلة ألّفها أبو عبد الله محمد بن إبراهیم الغراوی.وكذلك ذكر د. رزوق فرج رزوق أن محمد بن إبراهیم بن محمد الأوسی المعروف بابن رقام (715ه) له منظومة فی العمل بالاسطرلاب (انظر مجلة المورد مج2 ع1 ص 218).ومن المعروف أن الاسطرلاب آلة فلكیة. كذلك لعبد الواحد بن محمد بن محمد المشهدی (838ه) منظومة فی الاسطرلاب. انظر (هدیة العارفین 1: 632).وفی (كشف الظنون) أیضاً عرفنا أن شرف الدین أحمد بن ادریس بن یحیى الماردینی (728ه) قد ألّف "نظم الدرر فی معرفة منازل القمر"، رتبه على عشرة أبواب كلها منظومة. انظر (كشف الظنون ص 1963).وكذلك نطالع لرضی الدین أبی الفضل محمد بن محمد بن أحمد الغزی (935ه) ألْفیة فی علم الهیئة، وهو علم الفلك ذاته. (انظر مجلة المورد مج 20 ع1 لعام 1992 بغداد ص 133).ولفخر الدین محمد بن مصطفى بن زكریا الدوركی (713ه) قصیدة فی النجوم (هدیة العارفین 2:142-143).وفی میدان التاریخ ألَّف أسعد بن البطریق النصرانی (357ه) كتاباً بعنوان: "نظم الجواهر فی أخبار الأوائل والأواخر" انظر (إیضاح المكنون 2: 658).ونقع فی كتاب (هدیة العارفین) على غیر إشارة إلى منظومات فی التاریخ منها مثلاً أن محی الدین عبد الله بن عبد الطاهر السعدی الجذامی الروحی (692ه) قد نظم سیرة السلطان الظاهر بیبرس (هدیة العارفین 2: 137).وكذلك نظم شهاب الدین محمد أمین الخولی (693ه) سیرة ابن هشام (هدیة العارفین 1/581) و(كشف الظنون 492، 1012).وذكر الزركلی أن عبد الملك بن أحمد الأرمنتی (722ه) قد نظم (تاریخ مكة) للأزرقی على شكل أرجوزة (الأعلام 4: 301).ونظم صلاح الدین خلیل بن ایبك الصفدی (764ه) أرجوزة تاریخیة وشرَحها، وهی بعنوان: "تحفة ذوی الألباب فیمن حكم دمشق من الخلفاء والملوك والنواب" وقد طبع هذه الأرجوزة صلاح الدین المنجد، وفیها یقول مثلاً محدثاً عن محتوى كتابه بعد حمد الله وشكرانه:وبعد، فالمقصود من ذا الرَّجَزِ *** حُسنُ البیان فی كلامٍ موجزِأذكرُ فیه الخُلَفا والأمرا *** على دمشق نسَقاً كما ترىلكنَّه على الحروف رتَّبهْ *** فضیَّعَ المقصود منه واشتبهْولم یصل إلا لنور الدینِ *** وعاقَ ذاك واردُ المنونِوقد ذكرت مَنْ أتى مِن بعدهِ *** لیومنا فاستجلِ دُرَّ عِقْدهِومن الجدیر بالذكر أن المؤلف نفسه قد شرح أرجوزته فی كتاب حمل العنوان ذاته، وقد طبع بدمشق عام 1992 فی جزءین بتحقیق إحسان بنت سعید خلوصی، وزهیر حمیدان الصمصام.ویمكن أن نضیف فی هذا المجال الأرجوزة التی نظمها تاج الدین الحسن بن راشد الحلی (نحو 830ه) وعنوانها "تاریخ الملوك والخلفاء"، وأرجوزة للمؤلف ذاته، وهی تحمل عنوان: تاریخ القاهرة (الأعلام 2: 204).والأرجوزة التی فی تاریخ المعتضد بالله، وهی مطبوعة، وقد ألَّفها أبو العباس عبد الله بن محمد الناشئ المعروف بابن شرشیر (293ه).ونظم عبد العزیز بن أحمد بن سعید الدمیری المعروف بالدیرنی (694ه) سیرة ابن هشام شعراً (انظر هدیة العارفین 1: 581).والحقیقة أن هذا التقلید التراثی أعنی التألیف بالشعر، لم یندثر، بل استمرت نماذجه فی مجرى الثقافة العربیة تطالعنا بین الفینة والأخرى وإن قلّت، بوضوح، عما كانت علیه فی القدیم. وقد راح بعض الشعراء فی أیامنا هذه یستعرضون قدراتهم على النظم فی تألیف بعض الكتب. ومن هؤلاء الشاعر السوری (أحمد الجندی) رحمه الله الذی ألَّف كتاباً بعنوان "قصة المتنبی شعراً". وقد طبعها فی بغداد عام 1973، ثم أعاد طبعها فی دمشق بدار طلاس. وفی هذا الكتاب الشعری یؤرخ (أحمد الجندی) بالشعر لحیاة أبی الطیب المتنبی شاعر العربیة الأكبر، ومالئ الدنیا وشاغل الناس، وإذا فتحنا كتاب الجندی وجدناه یقول (فی ص 7 طبعة بغداد) مثلاً:مرَّ فی خاطر الزمان ولیدُ *** عبقریُّ السماتِ عالٍ فریدُأسمرُ الوجهِ كالمساء جلالاً *** أسودُ العین، باهرٌ ممدودُموجةٌ من رجولةٍ فوق بحرٍ *** یتمطَّى تیاره العربیدُفإذا الشاعرُ العظیمُ حدیثٌ *** یتغنَّى، ونشوةٌ، وقصیدُثم یضیف فی (ص 13) على لسان شاعرنا العظیم، كاشفاً عن بعض سجایاه وخاصائصه:لا أرانی أعیش فی هذه الأر *** ضِ فنفسی یضیقُ عنها زمانیإننی شاعرُ العروبة ضوئی *** ملأَ الأرض بالمنى والأمانیوبشعری سار الزمان وغنى الرَّ *** كبُ فی البیدِ مُطرباتِ الأغانیوبعد، فإننا نخلص من خلال العرض الموجز السابق إلى نتائج نصوغها على النحو التالی:1-إن التألیف بالشعر عند العرب كان قد بدأ مع فجر عهدهم بالتدوین والتصنیف، وبعبارة أخرى منذ القرن الهجری الأول، وحتى أیام الناس هذه، ومن المعروف هنا أننا نرید نظم المعارف والعلوم، ولا نقصد إبداع المسرح الشعری الذی یشكل نسقاً معرفیاً آخر.2-إن بحر الرجز لم یكن البحر الوحید الذی ركبه المؤلفون فی مؤلفاتهم الشعریة، فهناك بحور أخرى كالبسیط وغیره من البحور، نظمت علیها ألوان من المعارف متباینة. وقد كان بحر الخفیف مثلاً هو بحر أشعار المرحوم أحمد الجندی التی مثّلنا بها قبل قلیل.3-إن العرض السابق، على وجازته، وعلى الرغم من أنه جاء للتمثیل والتدلیل، لا للاستیفاء وللاستقصاء یدل على أن هذا الباب واسع جداً، وأنه تناول مختلف جوانب المعرفة، وثمة جوانب أخرى لم نعرض لنماذج لها فیما تقدّم. وهذا إن دل على شیء، فإنما یدل على مواهب العرب الشعریة الغزیرة، وعلى أثر الشعر فی نفوسهم كما یدل على عظیم عطائهم التصنیفی، وهو عطاء یكاد المرء یزعم أن الأمة العربیة لا تضاهیها فیه أیة أمة على وجه هذه البسیطة.مصادر البحث ومراجعه:-ابن الأنباری، محمد بن القاسم، قصیدة فی مشكل اللغة، دمشق 1989 (مستل من مجمع اللغة العربیة بدمشق).-ابن خملیون، محمد بن خلیل: التحفة فی علم المواریث، تحقیق السائح علی حسین- لیبیا، طرابلس 1990.-ابن رشیق: العمدة فی صناعة الشعر ونقده، تحقیق محمد محی ا لدین عبد الحمید، بیروت 1974- ط4.-ابن ماجد: حاویة الاختصار فی أصول علم البحار، تحقیق إبراهیم الخوری، منشورات المعهد الفرنسی للدراسات العربیة بدمشق.-ابن الندیم: الفهرست، تحقیق رضا تجدد، بیروت 1971.-البغدادی: هدیة العارفین، بیروت، دار الفكر 1982.-الجندی، أحمد: قصة المتنبی شعراً، بغداد 1973.-حمصی، أسماء: فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهریة- علوم اللغة العربیة- دمشق 1973.-خلیفة، بدیری: نظم متن الآجرومیة، مقال فی مجلة كلیة الدعوة الإسلامیة، لیبیا، طرابلس، العدد السادس لعام 1989.-خلیفة، حاجی: كشف الظنون عن أسامی الكتب والفنون، بیروت، دار الفكر 1982.-الخیمی، صلاح: فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهریة، الطب والصیدلة، دمشق 1981.-الدوسری، هیا محمد: فهرس المخطوطات الطبیة المصورة بقسم التراث، الكویت 1984.-رزوق، فرج رزوق: الشعراء التعلیمیون والمنظومات التعلیمیة، مقال فی مجلة المورد العراقیة، المجلد 19، العدد الأول، والمجلد 20، العدد الأول، بغداد 1992.-الزركلی، خیر الدین: الأعلام، بیروت، ط5، 1980.-الصغیری، محمود: قضایا فی التراث العربی، دمشق 1981.-الصفدی، خلیل بن ایبك: تحفة ذوی الألباب فیمن حكم دمشق من الخلفاء والملوك والنواب، تحقیق إحسان خلوصی، وزهیر حمیدان الصمصام، دمشق 1992.-الصوری، محمد بن علی بن حسن: القصیدة الصوریة، تحقیق عارف تامر، منشورات المعهد العلمی الفرنسی للدراسات العربیة، دمشق 1955.-الصولی، أبو بكر: الأوراق، تحقیق ج. هیورث، بیروت، ط2، 1979.-الطیبی، أمین توفیق: كتب الفلاحة الأندلسیة، مقال فی مجلة كلیة الدعوة الإسلامیة، العدد 6، طرابلس، لیبیا 1989.-الكتبی، ابن شاكر: فوات الوفیات، تحقیق إحسان عباس، بیروت.-كحالة، عمر رضا: معجم المؤلفین، بیروت، دار إحیاء التراث العربی، د.ت.-محمد بن محمد، بدر ا لدین: زبدة الأقوال فی شرح قصیدة أبنیة الأفعال، تحقیق ناصر حسین علی، دمشق 1992.-القاضی، النعمان: الأرجوزة المختارة، تحقیق إسماعیل قربان حسین، مونتریال، كندا.-الیازجی، ناصیف: الجمانة فی شرح الخزانة، بیروت 1872.

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:22|
وحشیات أبی تمام

بدأت فكرة الاختیارات الشعریة منذ العصر الأموی بدوافع متفاوتة الأهمیة مختلفة المقاصد، فمنها ما یتصل بالنزوع القبلی وما یقتضیه من ضرورة الحرص على مآثر القبیلة وفضائلها وتخلید مكارمها، وهذا لا یكون إلا بجمع أشعارها المتفرقة والحفاظ على دواوین شعرائها إن كانوا من المكثرین، فقد ذكر صاحب "الفهرست" أن الشیبانی جمع أ شعار أكثر من ثمانین قبیلة، وأن السكری جمع أشعار ذهل وشیبان وكنانة وغیرها من القبائل، كما جمع دواوین امرئ القیس والفرزدق وغیرهما من الشعراء، ومنها ما یتصل بالتأدب الخلقی العام وما یستتبع من تعلیم الفصاحة والبیان وتربیة النشء على مآثر الأجداد وفضائلهم، ومن هذا النوع كتاب المفضلیات الذی جمعه المفضل الضبی مؤدب المهدی بن المنصور، فأشار علیه المنصور بأن یختار لكل شاعر أجود ما قال، فأنفذ المفضل إشارته فكانت المفضلیات(1)، ثم تلا تلو المفضل الضبی فی هذا النهج عبد الملك بن قریب الأصمعی فصنع الأصمعیات، وأبو زید القرشی فصنع جمهرة أشعار العرب، ومنها ما یتصل بالخوف على اللغة بعد اتساع الدولة وتمازج الشعوب من أ ن تشوبها العجمة فتذهب بفصاحتها وصفائها، فنهض العلماء یثبتون قواعد اللغة والنحو مؤیدة بما وصل إلیهم من فصیح الشعر جاهلیه ومخضرمه، ولولا القرآن الكریم وهذه المجموعات الشعریة لاختلت موازین اللغة وضعفت السلائق وحار الدلیل.

على أن هذه الاختیارات بالإضافة إلى المعلقات لم تكن إلا أشتاتاً مختلطة من جیاد القصائد وروائع المقطعات لا تقوم على وحدة تقصد ولا نسق یراد، إلى أن جاء أبو تمام شاعر العربیة الكبیر فوضع دیوان الحماسة، فكان أول اختیار یقوم على التصنیف والتبویب ویعتمد على الفنون الشعریة الرائجة التی بلغت فی ذلك العصر غایة الامتیاز والوضوح، ثم اتبعه بالوحشیات وهو الحماسة الصغرى  التی سنقف عندها بعد قلیل.

وكأن فكرة الحماسة قد راقت عدداً من الأدباء بعد شیوعها وانتشارها وتبین أهمیتها، فنهضوا یقلدونها ویؤلفون على غرارها كتباً سموها الحماسة أیضاً جمعوا فیها ما تناثر من القصائد والمقطعات التی تجمع شرف المعنى وسمو المقصد ونادر الغرض إلى براعة الأداء وجمال العبارة وحسن التعبیر، حتى بلغت هذه الحماسات عشراً هی بحسب تتابعها الزمنی: "حماسة البحتری، وحماسة أبی بكر بن المرزبان، وحماسة أحمد بن فارس القزوینی، والحماسة العسكریة لأبی هلال العسكری، وحماسة الظرفاء من أشعار المحدثین والقدماء لأبی محمد عبد الله العبدلكانی الزوزنی، وحماسة الأعلم الشنتمری، والحماسة الشجریة لهبة الله العلوی بن الشجری، والحماسة البصریة لصدر الدین البصری، والحماسة المغربیة لأحمد بن عبد السلام الجراوی والحماسة للعباس بن علی البغدادی النجفی"(2).

على أن هناك مجموعات أخرى من المنتخبات والمختارات بلغت الثلاثین تقریباً لم تلتزم بتسمیة الحماسة وكان لها الفضل فی جمع الشعر العربی وحفظه إذ لا تزال مصدراً من المصادر التراثیة الوافیة.

وهذه الحماسة منها ما التزم أو قارب الالتزام بمنهج أبی تمام فی تقسیمه حماسته وتسمیة أبوابها، ومنها ما شذ عنه شذوذاً بعیداً ونحا نحواً وفقاً لقواعد ذوقیة أو أسس فكریة خاصة، فإذا كان أبو تمام قد جعل حماسته فی عشرة أبواب هی: باب الحماسة فالمراثی فالأدب فالتشبیب فالهجاء فالأضیاف والمدیح فالصفات فالسیر والنعاس فالملح فمذمة النساء فإن الشاعر البحتری قد فصل وأوسع فجعل حماسته فی مئة وأربعة وسبعین باباً، وأن ابن الشجری قد جعل حماسته فی خمسة عشر باباً وعشرین فصلاً، أما الوحشیات فقد جاءت مطابقة فی عدد أبوابها وتسمیاتها للحماسة الكبرى، مع تغییر طفیف لتسمیة الباب الثامن وهو باب السّیر والنعاس، إذ أطلق علیه أبو تمام فی الوحشیات باب المشیب.

ولقد طارت شهرة الحماسة فی الآفاق وانتزعت إعجاب القدماء من رجال الأدب واللغة، وتناصرت الآراء على أهمیتها حتى "وقع الإجماع من النقاد على أنه لم یتفق فی اختیار المقطعات أنقى مما جمعه أبو تمام(3)"، كما حكى الصولی أنه سمع المبرد یقول: سمعت الحسن بن رجاء یقول: ما رأیت أحداً قط أعلم بجید الشعر قدیمه وحدیثه من أبی تمام"(4)، ونقل التبریزی "أن أبا تمام فی اختیاره الحماسة أشعر منه فی شعره"(5)، بل أن كتاب الحماسة أصبح مضرب المثل فی الحسن والإتقان، فهذا البیهقی یترجم للقبیصی أحد علماء الفلك فی عصر سیف الدولة ویثنی على كتابه "المدخل إلى علم النجوم" فیقول "وهو فی كتب النجوم مثل كتاب الحماسة بین الأشعار".

فكان لابد للحماسة بعد ذلك أن یشمر للعنایة بها وشرحها عدد من العلماء اختلفت مذاهبهم وتنوعت اتجاهاتهم واهتماماتهم، فمنهم من شغلته المعانی الشعریة فأقبل یفسرها ویوضحها، ومنهم من قصر شرحه على مسائل الإعراب أو اللغة، ومنهم من تتبع النصوص فذكر الأخبار والأسباب التی قیل من أجلها الشعر، ومنهم من وقف شرحه على تصحیح نسبة الأبیات إلى أصحابها مع العنایة ببیان اشتقاق أسمائهم، فلا غرابة إذا رأینا الأستاذ فؤاد سیزكین یحفظ لنا فی سفره الجلیل "تاریخ التراث العربی" أسماء هذه الشروح التی بلغت ستة وثلاثین شرحاً(6)، على أن شرحی المرزوقی فالتبریزی یعدان من أوسع هذه الشروح وأبعدها شهرة وانتشاراً.

أما الوحشیات أو الحماسة الصغرى فلم تنل ما نالته الحماسة الكبرى من الحظوة والإقبال، ولم یلتفت إلیها العلماء بالشرح والدراسة، وقد یعزیها بعض العزاء أن أدیباً كبیراً فی عصرنا الحاضر هو الأستاذ عبد الله الطیب قد أصدر مجموعة مختارة من الشعر العربی أطلق علیها اسمه "الحماسة الصغرى"، والأشد من ذلك أن كتاب الوحشیات لم یأت على ذكره أحد من رجال الأدب القدماء إلا التبریزی فی مقدمة شرح الحماسة، والقاضی الباقلانی فی كتابه إعجاز القرآن: 177، والعینی فی شرح شواهد الألفیة بهامش الخزانة: ب 2: 404، أو لعله ذكر فی مواضع أخرى لم تكتشف بعد(7)، هذا مع أن أبا تمام قد اختاره كما یقول ناسخه البوازیجی بعد اختیاره كتاب الحماسة الكبرى ولم یروه، ولكن وجد بعده مكتوباً فی مسودة بخطه مترجماً بكتاب الوحشیات.

إلا أن الزمان أبى إلا أن ینتصف للوحشیات وینتشلها من مغاور النسیان أو الإهمال لترى النور زاهیة بهیّة فی إخراجها أنیقة فی طباعتها، إذ أتیح لها عالم جلیل ومحقق ثبت عرف بالغیرة على التراث الأدبی هو الأستاذ عبد العزیز المیمنی الراجكوتی أستاذ اللغة العربیة فی جامعة علّیكره- الهند، فقد حقق أبیاتها تخریجاً وضبطاً، وأشار إلى أصولها فی كتب الأدب ومجامیع الشعر، ورد بعض مقطعاتها إلى أصحابها، وذكر ما فیها من خلاف فی الروایة بعد سبر لغور معانیها بمسبار الفهم والرویة، معتمداً فی ذلك كله على نسخة فریدة فی دار الكتب المصریة مصورة عن الأصل المحفوظ بكتبخانة السلطان أحمد الثالث فی استنبول، ثم نهض علامة هذا العصر المحقق الأستاذ محمود شاكر فزاد فی حواشیها بما عنّ له من إشارات علمیة وتنبیهات ذكیة ومن بعض الشروح العارضة لغوامض الألفاظ التی تغنى النص وتزیده جلاءً ووضوحاً، ثم أعید النظر فی العمل بعد تمامه والفراغ منه فاستدرك العالمان الجلیلان على الحواشی ما یمكن أن یضاف إلیها من حصیلة المراجعة والتقلیب فی المصادر الأدبیة بعد رویة وأناة، وألحقا هذا المستدرك فی آخر الكتاب، ثم أتبعاه بخمسة فهارس تفصیلیة تعین أولی البحث والدراسة، فاجتمع بذلك جهد إلى جهد، وفضل إلى فضل، ثم دفعا الكتاب إلى دار المعارف فی مصر فظهر فی العدد الثالث والثلاثین من سلسلة ذخائر العرب سنة ثلاث وستین وتسعمائة وألف.

ومع ذلك فإن منهج العمل فیه ظل قائماً على التحقیق والضبط وتقدیم النصوص الشعریة على صورتها المثلى، وهو بعد بحاجة إلى مزید من الشرح والتفسیر والإیضاح مما یتمم العمل ویقاربه من حدود الكمال(8).

فلنرجع إلى ذلك الزمان ولندع التبریزی فی مقدمة شرحه للحماسة یحدثنا عن الظروف والملابسات التی أدت إلى تألیف هذین الكتابین.

یقول التبریزی: "وكان سبب جمع أبی تمام الحماسة أنه قصد عبد الله بن طاهر وهو بخراسان فمدحه... وعاد من خراسان یرید العراق، فلما دخل همذان اغتنمه أبو الوفاء بن سلمة فأنزله وأكرمه، فأصبح ذات یوم وقد وقع ثلج عظیم قطع الطریق ومنع السابلة، فغم أبا تمام ذلك وسر أبا الوفاء، فقال له: وطن نفسك على المقام، فإن هذا الثلج لا ینحسر إلا بعد زمان، وأحضر خزانة كتبه فطالعها واشتغل بها وصنف خمسة كتب فی الشعر منها كتاب الحماسة والوحشیات وهی قصائد طوال فبقی كتاب الحماسة فی خزائن آل سلمة یضنون به ولا یكادون یبرزونه لأحد حتى تغیرت أحوالهم، ثم ورد همذان رجل من أهل دینور یعرف بأبی العواذل فظفر به وحمله إلى أصبهان، فأقبل أدباؤها علیه ورفضوا ما عداه من الكتب المصنفة فی معناه، فشهر بهم، ثم فیمن یلیهم(9).

أما بقیة خمسة الكتب التی ذكرها التبریزی لأبی تمام عدا الحماستین فهی كتاب اختیار الشعراء الفحول أو فحول الشعراء "تلقط فیه محاسن شعر الجاهلیة والإسلام فأخذ من كل قصیدة شیئاً، حتى انتهى إلى إبراهیم بن هرمة"(10)، وكتاب الاختیار من أشعار القبائل، یقول الآمدی عنه: "اختار فیه من كل قبیلة قصیدة وقد مر على یدی هذا الكتاب"(11)، وكتاب نقائض جریر والأخطل الذی ثبت أنه منسوب إلیه خطأ.

لقد كان أبو تمام إذاً واحداً من الأعلام الأفذاذ فی الشعر والأدب، التقت فی شخصیته الأدبیة تیارات ثقافیة متنوعة كان المجتمع العربی إبان العصر العباسی یتفتح علیها ویغتنی بكنوزها، فنهل من الثقافة العربیة علوم القرآن والحدیث واللغة والمنطق وعلم الكلام، بالإضافة إلى الموروث الشعری الذی جمع ألوان الحكمة وفنون البیان، ونهل من الثقافة الیونانیة الفكر الفلسفی بما فیه من جدل عقلی ومطارحات ذهنیة، فظهر ذلك كله جلیاً فی مذهبه الشعری من حیث احتفال شعره بالمعانی المكثفة مما یحتاج إلى استنباط وشرح وتفسیر، فخرج بذلك عن مذهب الطبع والعفویة إلى مذهب الصنعة والتحكم العقلی، وتروی كتب الأدب أنه كان رجلاً یعد لمواهبه كل ما تحتاجه من خبرة علمیة ومعرفة فكریة، فغری بالكتب والمطالعة وعمق صلته بكل ما یمت إلى فن الشعر ویقوی الملكة ویرفد الموهبة، یقول ابن المعتز وهو یترجم لأبی تمام فی طبقاته: "حدثنی أبو الغصن محمد بن قدامة قال: دخلت على حبیب بن أوس بقزوین وحوالیه من الدفاتر ما غرق فیها فما یكاد یرى، فوقفت ساعة لا یعلم بمكانی لما هو فیه، ثم رفع رأسه فنظر إلی وسلم علی، فقلت له: یا أبا تمام، إنك لتنظر فی الكتب كثیراً وتدمن الدرس، فما أصبرك علیها! فقال: والله مالی إلف غیرها ولا لذة سواها، وإنی لخلیق أن أتفقدها أن أحسن، وإذا بحزمتین واحدة عن یمینه وواحدة عن شماله، وهو منهمك ینظر فیها ویمیزهما من دون سائر الكتب، فقلت: فما هذا الذی أرى من عنایتك به أوكد من غیره؟ قال: أما التی عن یمینی فاللات، وأما التی عن یساری فالعزى أعبدهما منذ عشرین سنة، فإذا عن یمینه شعر مسلم بن الولید صریع الغوانی وعن یساره شعر أبی نواس".

وهذا الخبر یجد ما یؤیده فی قول الآمدی: "فهذه الاختیارات تدل على عنایته بالشعر، وأنه اشتغل به وجعله وكده، واقتصر من كل الآداب والعلوم علیه، وأنه ما فاته كثیر من شعر جاهلی ولا إسلامی ولا محدث إلا قرأه وطالع فیه"(12).

أما تسمیة الكتاب بالوحشیات فلأنه ضم بین دفتیه شوارد من الشعر ومقطعات منها ما عرف قائلوها، وإن كانوا من المغمورین المقلین من شعراء الجاهلیة والعصر الإسلامی، ومنها ما ظل غفلاً من النسبة لم یعرف قائلوها، فكأن قارئها لم یأنس بها من قبل ولم تلامس سمعه ولم تسترع نظره، وإن كانت للمشهورین المعروفین من الشعراء، ففیها نقع على أبیات لعمر وبن معد یكرب وبشار بن برد والفرزدق وجریر وكثیر عزة وأبی نواس ومسلم بن الولید والمجنون وأبی العتاهیة.

وأما تسمیته بالحماسة الصغرى فلأنه لا یختلف عن كتاب الحماسة منهجاً وتبویباً، فكلاهما اختیار موسع لا یقف عند قبیلة واحدة أو شاعر واحد، وإنما یجمع من الشعر ما ینهض شاهداً على ذوق أبی تمام وعمق فهمه لفن الشعر ودوره فی الحیاة الإنسانیة، ولاسیما فی حیاة العرب الذین لم یكن لهم فن سواه، فكان مستودع أحلامهم ومستقر تصوراتهم، على أن الوحشیات أضیق حجماً من الحماسة وأقل عدد مقطعات، فإذا كانت الحماسة الكبرى قد بلغت نحواً من ثمانمئة وإحدى وثمانین مقطوعة فإن الوحشیات قد بلغت خمسمئة وثلاث مقطوعات، إلا أن باب الحماسة من الأبواب العشرة قد جاء فی مئة وتسع وتسعین وحشیة، وذلك لأن هذا الباب أوسع من غیره فی الشعر العربی بشكل عام.

"ولكن العجب كل العجب من التبریزی حین وصف الوحشیات بأنها قصائد طوال، وهذا ما یجعلنا نشكك فی اطلاعه علیها"(12)، إذ هی فی الغالب الأعم تتراوح عدة أبیات المقطوعة منها بین البیت الواحد وعشرة الأبیات، ولم یكد یخرج عن هذا العدد إلا أربع قصائد بلغ أطولها سبعة وأربعین بیتاً والثانیة خمسة وثلاثین بیتاً والثالثة خمسة وعشرین بیتاً والرابعة عشرین بیتاً.

ویتبین من البحث فی هذه المقطعات ما یلی:

1-إن أبا تمام كان یكتفی أحیاناً بإیراد عدد محدد من الأبیات ینتقیها من قصیدة تروى فی كتب الأدب تكون عدة  أبیاتها أكثر مما جاء فی الوحشیات، فنراه یروی لخلف الأحمر بیتین یهجو فیهما قوماً فیقول:

أناس تائهون لهم رواء                 تغیم سماؤهم من غیر وبلِ

إذا انتسبوا ففرع من قریش          ولكن الفعال فعال عُكلِ

والأبیات سبعة رویت فی عیون الأخبار وغیره من كتب الأدب، كما یروی ثلاثة أبیات للعتبی یرثی بها أولاده الستة الذین فقدهم فیقول:

وكنت أبا ستة كالبدور               فقد فقؤوا أعین الحاسدینا

فمرّوا على حادثات الزمان           كمرّ الدراهم بالناقدینا

وحسبك من حادث بامرئ           ترى حاسدیه له راحمینا

وهی اثنا عشر بیتاً فی عیون الأخبار أیضاً.

وهذا الانتقاء یدل لدى الفحص على أن أبا تمام قد مضى فی اختیاره وفق نهج مسبق یقوم على إبعاد فضول القول وحشو الكلام والاكتفاء بما قل من القصیدة ودل، وأما بقیة الأبیات فقد یراها تشتت التجربة وتفقدها التركیز والإیجاز، أضف إلى ذلك أن هذا المختار یسهل حفظه وتردیده والاستشهاد به فی مواقف الحیاة المماثلة وأما أن ندعی أن أبا تمام لم یكن یعرف بقیة الأبیات فهذا لا یقوم له دلیل ولا تدعمه حجة وهو أقرب عهداً بهؤلاء الشعراء وأوسع معرفة وأكثر حفظاً للشعر، وقد عرفنا من قبل أنه لم یكن یكتفی بما تملیه علیه حافظته، بل كان قد أقبل على خزانة الكتب فطالعها واشتغل بها كما یقول التبریزی.

2-إن أبا تمام كان یعمل قلمه فی بعض المفردات الشعریة فیغیرها ویبدلها كما یحلو له لیستقیم المعنى وتعتدل الفكرة ویأتی البیت فی صیاغته على حسب ما یرضی ذوقه ویصیب هواه، ولقد كان المرزوقی فی مقدمة شرحه للحماسة الكبرى قد تنبه لذلك وصرح به فی قوله: "حتى إنك تراه ینتهی إلى البیت الجید فیه لفظة تشینه، فیجبر نقیصته من عنده، ویبدل الكلمة بأختها فی نقده، وهذا یبین لمن رجع إلى دواوینهم فقابل ما فی اختیاره بها"(13)، ثم نجده فی شرحه للحماسیة ذات الرقم (347) یورد قول ابن العمید: "إنی لأتعجب من أبی تمام مع تكلفه رمّ جوانب ما یختاره من الأبیات، وغسله من درن بشع الألفاظ، كیف ترك تأمل قوله: فلیأت نسوتنا، وهذه لفظة شنیعة..".

وقد وقع الأمر نفسه فی الوحشیات غیر ما مرة، وأشار إلیه الأستاذ محمود شاكر فی زیاداته على الحواشی، واتهم أبا تمام مرة بالتخلیط وأخرى بالإفساد، ففی الوحشیة ذات الرقم (397) لكعب بن ذی الحبكة النهدی روى أبو تمام البیت الأول على هذا النحو:

أترجو اعتذاری یا بن أروى ورجعتی          عن الحق قدماً غال حلمَك غولُ

وروایته: "إلى الحق دهراً"، وذلك فی تاریخ الطبری (5: 97) ومعجم الشعراء للمزربانی (345) ومعجم البلدان مادة "دنیاوند"، ولا یخفى ما طرأ على المعنى من اختلاف جراء اختلاف الروایة. وفی الوحشیة ذات الرقم (471) روى أبیاتاً فی وصف أولها قول الشاعر:

یكفیك من قَلَع السماء مهندٌ                  فوق الذراع ودون بَوع البائع

وصواب الروایة كما فی الحیوان (5: 88): "قلع السماء عقیقة"، ویعلق الأستاذ محمود شاكر على هذا البیت بقوله: و "قلع السماء" قطع من السحاب كأنها الجبال، و"العقیقة" البرق یشق السحاب كأنه سیف مسلول، وأما أبو تمام فقد غیر الشعر فأفسده.

ولكنی أرى أن الضمیر فی الأبیات التالیة عائد إلى مذكر لا إلى مؤنث، إذ یقول الشاعر بعد ذلك:

صافی الحدیدة قد أضر بجسمه                 طول الدّیاس وبطنُ طیر جائع

أُمر المواطرُ والریاحُ بحمله             فحملنه لمضایر ومنافع

وهذا ما سوغ لأبی تمام فیما أعتقد تغییر اللفظ بما یتفق وسیاق الأبیات، هذا إلى أن روایة البیت فی الأشیاء والنظائر تطابق روایة الوحشیات.

ومع ذلك فإذا صحت هذه التهمة على أبی تمام وأن هذا التغییر لیس من عمل الرواة أو النساخ فإنها لا تنهض حجة مؤذنة بوصم الشاعر بالحیاد عن الأمانة فی النقل والروایة، وهذا الأستاذ عبد السلام هارون یقول: "وهذه التهمة: تهمة أبی تمام بتغییر النصوص التی اختارها والتی یدعمها المرزوقی فی أثناء شرحه بما یظهرها ویقویها كان جدیراً بها أن تنزل بقیمة الحماسة باعتبارها نصوصاً یستشهد بها فی علوم اللغة والعربیة، ولكنا نجد العلماء مجمعین على تزكیة أبی تمام فی الحماسة، وعلى تزكیة الحماسة ونصوصها، بل یعدون صنیعه فی الحماسة داعیة إلى الوثوق بشعر أبی تمام والاستشهاد بشعره، وفی ذلك یقول الزمخشری: "وهو وإن كان محدثاً لا یستشهد بشعره فی اللغة، فهو من علماء العربیة، فأجمل ما یقوله بمنزلة ما یرویه، ألا ترى إلى قول العلماء: الدلیل على هذا بیت الحماسة، فیقنعون بذلك لوثوقهم بروایته وإتقانه"(14).

3-إننا نجد فی بعض أبواب الوحشیات مقطعات یصعب أن تعد من الباب الذی هی فیه: إلا إذا حاولنا أن ندیم البحث فی مضمون هذه الأبواب وحقیقة تسمیاتها مقرین أن قضیة الفصل بین الفنون قضیة وثیقة الصلة بالمعنى الشعری لا بالشكل والصیاغة، وأن نظر أبی تمام فی فنون الشعر وأغراضه یتصف بالتمكن والإحكام، وهو الخبیر بمعانی الشعر، المدرك لآفاقه ومرامیه، إذ كان سباقاً إلى التمییز بین هذه الفنون على تشعبها أو تداخلها فی كثیر من الأحیان.

فهذان مثلاً بیتان للأحوص قد تضمنها باب الحماسة یقول فیهما(15):

فیا بعل لیلى كیف تجمع سلمها                وحربی وفیها بیننا كانت الحرب

لها مثل ذنبی الیوم إن كنتُ مذنباً              ولا ذنب لی إن كان لیس لها ذنب

فكیف نقتنع أنهما من الحماسة والشاعر فیهما یعرض طرفاً من مأساة حبه، وینكر على زوج محبوبته أن یقابل زوجته بالمسالمة ویقابل الشاعر بالمغاضبة وقد ثبت أن بینهما اتفاقاً فی العواطف لا یواریه الشاعر ولا یتخفى منه، وربما كان بینهما تواصل ولقاء. ولیس من المعقول أن یكون لفظ الحرب فی البیتین قد أدى أبا تمام إلى أن یسلكهما فی الحماسة.

والأعجب من ذلك أننا نجد فی باب الحماسة أیضاً أبیاتاً نسبها أبو تمام إلى عیسى بن فاتك وهو رجل من الخوراج، یقعد عن الحرب إشفاقاً على بناته، فهو یخشى إذا أصابته المنیة أن تنزل بهن الفاقة والبؤس والفقر، وأن یعشن بعده فی كنف جلف من الأعمام یظلمهن ولا یحسن إلیهن، فیقول(16):

لقد زاد الحیاة إلیَّ حباً                  بناتی إنهن من الضعاف

أحاذر أن یذقن البؤس بعدی                   وأن یشربن رنقاً بعد صاف

وأن یعرین إن كسی الجواری                  فتنبو العین عن كُرْمٍ عجاف

وأن یضطرهن الدهر بعدی           إلى جلف من الأعمام جاف

ولولاهن قد سومت مهری           وفی الرحمن للضعفاء كاف

تقول بنیتی أوص الموالی               وكیف وصاة من هو عنك خاف

والحماسة فی الأصل تعنی التشدد، ثم كثر استعمالها واتسع معناها حتى صارت تطلق على الشجاعة التی هی الأولى من صفات العرب وأم فضائلهم، لما فیها من معنى الشدة على النفس والقرن، وعلى هذا فإن أبا تمام حین اختار للحماسة لم ینظر إلى معناها الضیق المحسوس من الكر والفر والإیقاع بالأقران والتصدی للخصوم فی ساحات الحرب، بل نظر إلى معناها العام، وإلى بعض ما یتفرّع عنها من خصال كالنخوة والصبر على الأرزاء والمحن والاعتزاز بالشهامة فی وقت السلم وفی وقت الحرب، وعلى ذلك فكأن الشاعر الأحوص كان یرى من الحماسة أن یتحلى بعل لیلى بالنخوة والشهامة والصبر على الأرزاء، فیكبت غیظه ویكف أذاه ویكون له من عقله وحلمه ضابط لما اشرأب فی نفسه من غضب ونزق، ما دامت الزوجة قد اشتركت مع الشاعر فی الذنب.

ثم لعل هذا الشاعر الخارجی كان یرى من الحماسة التی تتضمن تلك المعانی السالفة أن یمكث إلى جوار بناته الضعیفات یرعاهن ویفیض علیهن من مشاعر الأبوة ما یكف عنهن الأذى ویحفظ علیهن كرامتهن، وأن حرمه ذلك من متعة الجهاد ومشاركة الفرسان فی مصاولة الأقران، فهذا كهذا حماسة ونجدة وحمیة.

ولقد كان المرزوقی قد أشار إلى هذه الظاهرة أیضاً فی شرحه دیوان الحماسة إذ وقف عند مقطوعتین تصوران عقوق الأبناء والدیهم ما یتوهم أنهما لیستا من باب الحماسة فی شیء فیقول(17): "فإن قیل: بماذا دخل هذه الأبیات وما یتلوها وهو فی معناها فی باب الحماسة؟ قلت: دخلت فیه بالمشكلة التی بینها وبین ما تقدمها من الأبیات المنبئة عن المفاسدة بین العشائر، وما یتولد فیها من الأحن والضغائن، المنسیة للتواشج والتناسب، المنشئة لهتك المحارم، المبیحة لسفك الدماء وقطع العصم، إذ كان عقوق البنین للآباء وتناسی الحرم فیه مثل ذلك وهو ظاهر بین".

ومع صلاح هذه التعلیلات فإن من الصعب أن نجد تسویغاً لوجود أبیات فی الخمرة والدعوة إلى الشراب قد سلكت فی باب النسیب إلا أن نقدّر كما قدر أبو تمام أن النسیب صِنْوُ الخمرة وتوأمها فی التأثیر فی النفس ودفعها إلى حالة واحدة من الانتشاء(18)، كما قال الشاعر متغزلاً(19):

هی الخمر فی حسن وكالخمر ریقها            ورقة ذاك اللون من رقة الخمر

وقد جُمِعَتْ فیها خمورٌ ثلاثةٌ          وفی واحد سكر یزید على السكر

وقد نبه المرزوقی أیضاً إلى دخول الحماسیات ذوات الأرقام (178 و 481 و 585) فی باب النسیب وهی لیست منه.

4-أن أبا تمام ساق هذه المقطعات عاریة عن ذكر المناسبة التی قیلت فیها، وبتعبیر آخر: أسقط عنها الثوب التاریخی الذی تتلفع به، ثم جاراه فی ذلك سائر أصحاب الحماسات والمختارات، ولقد نعلم أن الشعر العربی القدیم إبداع وثیق الصلة بمجریات الحیاة الیومیة شدید الارتباط بالفعل الواقعی وبالتجارب الخاصة، وأن ذكر المناسبة یضع القصیدة فی إطارها الزمانی والمكانی ویسهل على المتلقی فهمها وتذوقها، فبعض اللوحات الشعریة قد تتغلق فیها سبل التواصل بین الشاعر والقارئ ویعتاص الولوج إلیها ما لم تقدم بإشارة إلى الواقعة الحیة التی حفزت الشاعر إلى صیاغتها وإیداع أفكاره وعواطفه فیها، وما أظن هذه الظاهرة التی تتبدى فی الوحشیات وفی الحماسة أیضاً من قبیل الإهمال أو السهو، فربما تبین للمتأمل أن شاعرنا الفذ كان قد قصد إلى ذلك قصداً حین أدرك بذكائه المرهف وحسه الشعری النفاذ أن الإبداع الشعری أمر یختلف كل الاختلاف عن عملیة تسجیل الوقائع والأحداث، فالشاعر یسعى إلى تسجیل ماهو محتمل وممكن لا ما هو آنی واقعی، وبما أن الشعر یلهم ولا یعلم نراه ینزع إلى الإثارة وتنمیة الحس الجمالی بالحیاة، فكأن أبا تمام حین جعل هذه المقطعات تنسل من خیام عصرها وتتفلت من ذاكرة زمنها أرادها أن تنطلق فی زمن أرحب وعصر أوسع لتحل فی ذاكرة المستقبل خالدة متجددة، ثم لیقف القارئ أمام الأبیات، ولیستوح منها ما یشاء وفق طبیعته وبنیته النفسیة واستعداده الفنی، ولیخرج منها بتصورات وانطباعات ربما تختلف أو تتفق وتصورات الشاعر وانطباعاته فی زمن القصیدة الخاص، وبذلك یصبح الشعر نفسه باعثاً محرضاً یهیمن على القارئ ویحرك وجدانه وروحه ویضعه فی بؤرة الإبداع والإلهام.

5-آن لنا بعد لك كله أن نتساءل: ما المعیار الفنی الذی اهتدى إلیه أبو تمام فی اختیاره هذه المقطعات، فالوحشیات كتاب، والكتاب سواء أكان جمعاً أم تألیفاً یقوم على خطة بینة ومنهج سدید ورؤیة تحدد معالمه وتوحد أصوله، وقبل الإجابة عن هذا السؤال یحسن بنا أن نتحرى الفروق بین القصائد والمقطعات، إذ أن الوحشیات ومثلها الحماسة غلبت علیها المقطعات القصیرة التی تصل فی بعض الأحیان إلى بیت واحد مفرد، فالقصائد غالباً ما تكون طویلة تصور تجربة شمولیة ذات استشراف واسع یمتد فیها النفس وتكثر التفصیلات، وربما تشتمل على عدد من الأغراض والموضوعات، ولهذا تقتضی العنایة الفنیة وجودة البناء وحسن المدخل وبراعة التخلص والانتقال، أما المقطعات فهی معاناة مباغتة تصور حالة انفعالیة فی موقف انفعالی عابر، وإن كانت فی الغالب حادة قاسیة، ولهذا تقتضی التركیز والتكثیف وتتطلب التعبیر القائم على الإشارة والإیجاز.

ولقد كان المرزوقی قد تعرض لهذا المعیار وجعل له حیزاً فی مقدمة شرحه للحماسة فرأى (20) "أن أبا تمام كان یختار ما یختار لجودته لا غیر، ویقول ما یقوله من الشعر بشهوته، والفرق بین ما یشتهى وما یستجاد ظاهر".

ففی هذا القول ما یدل على أن المرزوقی یرى أن مذهب أبی تمام فی اختیاره یختلف عن مذهبه فی شعره، ثم نفاجأ بعد سطرین من هذا الكلام بقوله: "وهذا الرجل لم یعمد من الشعراء إلى المشتهرین منهم دون الإغفال، ولا من الشعر إلى المتردد على الأفواه، المجیب لكل داع، فكان أقرب، بل اعتسف فی دواوین الشعراء جاهلیهم ومخضرمهم، وإسلامیهم ومولدهم، واختطف منها الأرواح دون الأشباح، واخترف الأثمار دون الأكمام، وجمع ما یوافق نظمه ویخالفه لأن ضروب الاختیار لم تخف علیه، وطرق الإحسان والاستحسان لم تستتر عنه".

ولا یخفى ما فی كلام المرزوقی من تناقض فی الحكم وتعارض فی الرأی على ما فیه من رغبة واضحة فی إنصاف أبی تمام ووصفه بالاعتدال والموضوعیة، وعندی أن أبا تمام فی اختیاره لم یغادر فی قلیل ولا كثیر مذهبه الذی ارتضاه لنفسه وطریقته التی استنها لشعره، فإنه وإن كان من غیر المعقول أن یجد فی شعر السابقین له ممن عاشوا فی عصر غیر عصره واغتذوا بثقافة غیر ثقافته ما یتفق ومذهبه كل الاتفاق من حیث الإكثار من المجاز، والاعتماد فی الشعر على العقل ومقاییسه المنطقیة، وعلى البدیع وما یفید فی تلوین المعنى وتشقیقه لم یأل جهداً فی البحث عن الشعر الذی ینصرف إلى المضمون دون الشكل، وإلى ما فیه معنى جدید فی تصویر المواقف الإنسانیة المتأزمة والحالات النفسیة المتصادمة، والعدول عن الشعر الذی تصفو ألفاظه وتروق عباراته ویطرب إیقاعه، وفی ذلك ما فیه من الالتزام برؤیته الخاصة للشعر وموقفه من أصوله مما یثبت أحد شقی كلام المرزوقی حین قال: "واختطف منها الأرواح دون الأشباح واخترف الأثمار دون الأكمام" وهل كان قصد أبی تمام فی شعره، إلا إلى أرواح المعانی وأثمارها دون أشباح الأسالیب وأكمامها، وهو الذی یصف شعره بقوله:

ولكنه صوب العقول إذا انجلت               سحائب منه أعقبت بسحائب

فهذا باب الحماسة یغص بالمواقف التی یصل فیها الشاعر إلى حد من الهیاج النفسی والانفعال المحتدم مما لا یقل براعة وتأثیراً عن أقوى المشاهد المأساویة التی یعرضها شكسبیر فی مسرحیاته، فمن ذلك مثلاً ما قاله توبة بن مضرس السعدی إذ قتل رهط خاله أخویه طارقاً ومرداساً، فجزع علیهما جزعاً شدیداً، وقال فیهما مراثی جیدة، وظل یبكیهما حتى طلب إلیه الأحنف بن قیس أن یكف، فلما أبى لقبه بالخنّوت وهو الذی یمنعه الغیظ أو البكاء عن الكلام، ثم بدا له أن یقتل خاله ثأراً لأخویه، ولو أدى ذلك إلى تفطر قلب أمه رمیلة حزناً على أخیها، ففعل وقال(21):

بكت جزعاً أمی رُمیلة أن رأت                دماً من أخیها فی المهند باقیا

فقلت لها لا تجزعی أن طارقاً          خلیلی الذی كان الخلیل المصافیا

وما كنت لو أُعطیت ألفی نجیبة                وأولادَها لغواً وستین راعیا

لأقبلها من طارق دون أن أرى                 دماً من بنی عوف على السیف جاریا

وما كان فی عوف قتیل علمته                  لیوفینی من طارق غیر خالیا

وهذا نهیك القشیری یُقتل واحد من أفراد عشیرته، ویلطخ الدم ثیابه وینتهب بزه، لم لا تهب العشیرة للثأر، ویقعد زعماؤها وأولیاء أمورها متخاذلین مستكینین إلى الملذات، یتعاطون الخمور وینعمون بالسمر على ضفاف الینابیع والغدران، فیلتهب غیظاً منهم وغضباً، ویمتزج الغیظ بالأسف الهادر فی داخله، فیفضح شأنهم ویعلن على الملأ مثالبهم، ثم یلتفت إلیهم مهدداً متوعداً فیقول(22):

ألهى موالیَّ الخمور وشربُها            وعقیلةُ الوادی ونهی الأخرمِ

وأخوهم فی القوم یُقسم بزُّه          بثیابه ردعٌ كلون العندم

ضربت علیَّ الخثعمیة نحرها           إن لم أصبحكم بأمر مبرم

تعدو به فرسی وترقص ناقتی          حتى یشیع حدیثكم فی الموسم

وتطالعنا فی باب الهجاء أبیات حادة الوقع شدیدة الأسر تتعاظم فیها شكوى الشاعر من ابنه الذی أساءت أمه تربیته، فانتهب مال أبیه وعقه ولم یراع كبر سنه وانحناء عظامه، ثم مضى لا یرجى منه البر والإحسان فیقول(23):

تظلَّمنی مالی خلیجٌ وعقنی             على حین صارت كالحنیّ عظامی

وكیف أرجِّی البر منه وأمه           حَرامیَّة، ما غرنی بحرام

لعمری لقد ربیته فرحاً به             فلا یفرحن بعدی أب بغلام

ویضم باب النسیب بیتین لمجنون بنی عامر یرسمان صورة فذة لحالة النفس العاشقة حین تثقل علیها وطأة الحب وتلهبها لفحات الذكرى، فإذا بالمفردات الحیة المجسدة تغدو بدیلاً موضوعیاً للإحساس المجرد الموغل فی طغیانه وهیمنته فیقول(24):

كأن بلاد الله حلقة خاتم               علیَّ فما تزداد طولاً ولا عرضاً

كأن فؤادی فی مخالیب طائر           إذا ذكرتك النفسُ زاد به قبضا

وفی باب النسیب أیضاً یطالعنا بوح شجی ملفع بالخجل والتصون والخشیة یترقرق من امرأة من طیئ تتجاذبها قوتان عارمتان لا تستطیع لهما دفعاً، قوة یستفزها القلب بما فیه من شهوة وعاطفة وصبوة، وقوة یستفزها العقل بما فیه من تحكم وأناة وامتثال للقیم، فإذا بها ترى محبوبها أصفى من ماء المزن الذی تجمع فی الأودیة فمرت علیه النسائم الصیفیة فجردته من القذى فغدا عذباً نقیاً لذة للشاربین، ولكن أنى لها أن تستجیب له وتنهل منه وهی التقیة التی تخشى على نفسها من عواقب الإثم والخطیئة فلتمض فی طریقها على ما فی النفس من حرارة الظمأ ولتسجل هذه الخلجات فی هذه الأبیات(25):

فما ماء مزن من شماریخ شامخ                 تحدر من غرٍّ طوال الذوائب

بمنعرج أو بطن واد تحدرت           علیه ریاح الصیف من كل جانب

نفى نسمُ الریح القذى عن متونه              فلیس به عیب تراه لشارب

بأطیبَ ممن یقصر الطرفَ دونه                 تقى الله واستحیاءُ بعض العواقب

وحسبی ما عرضت من قطوف أبی تمام وعناقید اختیاراته شاهداً على ذوقه الرفیع الثاقب وشاعریته التی تجلت فی إبداعه كما تجلت فی اختیاره، وأخلق بالحماسة الصغرى هذه أن تسمى الأنسیات بعد أن ظلت قروناً مدیدة ترفل بثیاب الوحشیات.

محمد كمال- حلب

*       *       *

الحواشی:

(1)ذیل الأمالی: 132.

(2)فؤاد سیزكین. تاریخ التراث العربی، الشعر: 106-120.

(3)دیوان الحماسة، شرح المرزوقی: 10.

(4)المصدر السابق: 14.

(5)شرح التبریزی للحماسة: 1: 3.

(6)الحاشیة رقم (2).

(7)محمود شاكر، مقدمة الوحشیات: 10-11.

(8)بدا لی أن أزید فی حواشی الكتاب ما ظهر لی عرضاً من ملاحظات:

-الحاشیة ذات الرقم (27): البیتان الأخیران فی دیوان المعانی.

-الحاشیة ذات الرقم (186): فی (اللسان: قزع): وقال ابن الأعرابی هو للكمیت بن ثعلبة. وكذلك نسب الآمدی البیت الثانی فی الموازنة: 56 إلى الكمیت بن ثعلبة.

-الحاشیة ذات الرقم (339): فی الأغانی 20/106 الأبیات منسوبة إلى ابن أبی عیینة.

(9)شرح التبریزی الحماسة: 1: 4.

(10)الآمدی، الموازنة: 55.

(11)المصدر السابق.

(12)الراجكوانی: الوحشیات المقدمة.

(13)المرزوقی- شرح دیوان الحماسة: 14.

(14)عبد السلام هارون، مقدمة تحقیق دیوان الحماسة: 9.

(15)الوحشیة: 144.

(16)الوحشیة: 138.

(17)المرزوقی، شرح دیوان الحماسة: ص756.

(18)انظر الوحشیات: 314- 315- 339-344.

(19)الوحشیة: 301.

(20)ص13.

(21)الوحشیة: 121.

(22)الوحشیة: 166.

(23)الوحشیة: 404، ویبدو أن أبا تمام خلط بین اللعین المنقری واسمه منازل بن زمعة وصاحب هذه الأبیات واسمه منازل بن فرعان، أو أن نسبة الأبیات إلى اللعین من عمل النساخ، والغریب أن فرعان أبا منازل كان قد تزوج على أمه امرأة شابة، فغضب منازل واستاق إبل أبیه واعتزل مع أمه، فقال فیه فرعان أبیاتاً رواها أبو تمام فی دیوان الحماسة (الحماسیة ذات الرقم 603).

(24)الوحشیة: 327.

(25)الوحشیة: 337.

*      *       *

المراجع:

(1)الأعلام للزركلی.

(2)الأمالی لأبی علی القالی.

(3)تاریخ التراث العربی لفؤاد سیزكین.

(4)حماسة أبی تمام.. شرح المرزوقی.

(5)شرح أبی تمام.. شرح التبریزی.

(6)دراسة فی حماسة أبی تمام لعلی النجدی ناصف.

(7)عیون الأخبار لابن قتیبة.

(8)الفهرست لابن الندیم.

(9)الموازنة للآمدی.

(10)الوحشیات.. تحقیق عبد العزیز المیمنی الراجكوانی.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:22|
النقد العربــــی ومناهجـــــه


1- مفهـــوم النقــــــد:

النقد عملیة وصفیة تبدأ بعد عملیة الإبداع مباشرة، وتستهدف قراءة الأثر الأدبی ومقاربته قصد تبیان مواطن الجودة والرداءة. ویسمى الذی یمارس وظیفة مدارسة الإبداع ومحاكمته الناقد ؛لأنه یكشف ماهو صحیح وأصیل فی النص الأدبی ویمیزه عما هو زائف ومصطنع. لكن فی مرحلة مابعد البنیویة ومع التصور السیمیوطیقی وجمالیة التقبل، استبعد مصطلح الناقد وصار مجرد قارئ یقارب الحقیقة النصیة ویعید إنتاج النص وبناءه من جدید. وتسمى مهمة الناقد بالنقد وغالبا ما یرتبط هذا الأخیر بالوصف والتفسیر والتأویل والكشف والتحلیل والتقویم. أما النص الذی یتم تقویمه من قبل الناقد یسمى بالنص المنقود.

هذا، ویخضع النقد لمجموعة من الخطوات والإجراءات الضروریة التی تتجسد فی قراءة النص وملاحظته وتحلیله مضمونا وشكلا ثم تقویمه إیجابا وسلبا. وفی الأخیر، ترد عملیة التوجیه وهی عملیة أساسیة فی العملیة النقدیة لأنها تسعى إلى تأطیر المبدع وتدریبه وتكوینه وتوجیهه الوجهة الصحیحة والسلیمة من أجل الوصول إلى المبتغى المنشود.

وإذا كانت بعض المناهج النقدیة تكتفی بعملیة الوصف الظاهری الداخلی للنص كما هو شأن المنهج البنیوی اللسانی والمنهج السیمیوطیقی، فإن هناك مناهج تتعدى الوصف إلى التفسیر والتأویل كما هو شان المنهج النفسی والبنیویة التكوینیة والمنهج التأویلی (الهرمونیتیقی Herméneutique).

وللنقد أهمیة كبیرة لأنه یوجه دفة الإبداع ویساعده على النمو والازدهار والتقدم، ویضیء السبیل للمبدعین المبتدئین والكتاب الكبار. كما أن النقد یقوم بوظیفة التقویم والتقییم ویمیز مواطن الجمال ومواطن القبح، ویفرز الجودة من الرداءة، والطبع من التكلف والتصنیع والتصنع. ویعرف النقد أیضا الكتاب والمبدعین بآخر نظریات الإبداع والنقد ومدارسه وتصوراته الفلسفیة والفنیة والجمالیة، ویجلی لهم طرائق التجدید ویبعدهم عن التقلید.
2- مـــفهــــوم المنهــــج النقدی:

إذا تصفحنا المعاجم والقوامیس اللغویة للبحث عن مدلول المنهج فإننا نجد شبكة من الدلالات اللغویة التی تحیل على الخطة والطریقة والهدف والسیر الواضح والصراط المستقیم. ویعنی هذا أن المنهج عبارة عن خطة واضحة المدخلات والمخرجات، وهو أیضا عبارة عن خطة واضحة الخطوات والمراقی تنطلق من البدایة نحو النهایة. ویعنی هذا أن المنهج ینطلق من مجموعة من الفرضیات والأهداف والغایات ویمر عبر سیرورة من الخطوات العملیة والإجرائیة قصد الوصول إلى نتائج ملموسة ومحددة بدقة مضبوطة.

ویقصد بالمنهج النقدی فی مجال الأدب تلك الطریقة التی یتبعها الناقد فی قراءة العمل الإبداعی والفنی قصد استكناه دلالاته وبنیاته الجمالیة والشكلیة. ویعتمد المنهج النقدی على التصور النظری والتحلیل النصی التطبیقی. ویعنی هذا أن الناقد یحدد مجموعة من النظریات النقدیة والأدبیة ومنطلقاتها الفلسفیة والإبستمولوجیة ویختزلها فی فرضیات ومعطیات أو مسلمات، ثم ینتقل بعد ذلك إلى التأكد من تلك التصورات النظریة عن طریق التحلیل النصی والتطبیق الإجرائی لیستخلص مجموعة من النتائج والخلاصات التركیبیة. والأمر الطبیعی فی مجال النقد أن یكون النص الأدبی هو الذی یستدعی المنهج النقدی، والأمر الشاذ وغیر المقبول حینما یفرض المنهج النقدی قسرا على النص الأدبی على غرار دلالات قصة سریر بروكوست التی تبین لنا أن الناقد یقیس النص على مقاس المنهج. إذ نجد كثیرا من النقاد یتسلحون بمناهج أكثر حداثة وعمقا للتعامل مع نص سطحی مباشر لایحتاج إلى سبر وتحلیل دقیق، وهناك من یتسلح بمناهج تقلیدیة وقاصرة للتعامل مع نصوص أكثر تعقیدا وغموضا. ومن هنا نحدد أربعة أنماط من القراءة وأربعة أنواع من النصوص الأدبیة على الشكل التالی:

• قراءة مفتوحة ونص مفتوح؛

• قراءة مفتوحة ونص مغلق؛

• قراءة مغلقة ونص مفتوح؛

• قراءة مغلقة ونص مغلق.

وتتعدد المناهج بتعدد جوانب النص (المؤلف والنص والقارئ والمرجع والأسلوب والبیان والعتبات والذوق….)، ولكن یبقى المنهج الأفضل هو المنهج التكاملی الذی یحیط بكل مكونات النص الأدبی.
3- النقد االعربــــــی القدیــــــم :

ظهر النقد الأدبی عند العرب منذ العصر الجاهلی فی شكل أحكام انطباعیة وذوقیة وموازنات ذات أحكام تأثریة مبنیة على الاستنتاجات الذاتیة كما نجد ذلك عند النابغة الذبیانی فی تقویمه لشعر الخنساء وحسان بن ثابت. وقد قامت الأسواق العربیة وخاصة سوق المربد بدور هام فی تنشیط الحركة الإبداعیة والنقدیة. كما كان الشعراء المبدعون نقادا یمارسون التقویم الذاتی من خلال مراجعة نصوصهم الشعریة وتنقیحها واستشارة المثقفین وأهل الدرایة بالشعر كما نجد ذلك عند زهیر بن أبی سلمی الذی كتب مجموعة من القصائد الشعریة التی سماها "الحولیات" والتی تدل على عملیة النقد والمدارسة والمراجعة الطویلة والعمیقة والمتأنیة. وتدل كثیر من المصطلحات النقدیة التی وردت فی شعر شعراء الجاهلیة على نشاط الحركة النقدیة وازدهارها كما یبین ذلك الباحث المغربی الشاهد البوشیخی فی كتابه "مصطلحات النقد العربی لدى الشعراء الجاهلیین والإسلامیین".

وإبان فترة الإسلام سیرتبط النقد بالمقیاس الأخلاقی والدینی كما نلتمس ذلك فی أقوال وآراء الرسول (صلعم) والخلفاء الراشدین رضوان الله علیهم.

وسیتطور النقد فی القرن الأول الهجری وفترة الدولة العباسیة مع ابن قتیبة والجمحی والأصمعی والمفضل الضبی من خلال مختاراتهما الشعریة وقدامة بن جعفر وابن طباطبا صاحب عیار الشعر والحاتمی فی حلیته وابن وكیع التنیسی وابن جنی والمرزوقی شارح عمود الشعر العربی والصولی صاحب الوساطة بین المتنبی وخصومه…

هذا، ویعد كتاب "نقد الشعر" أول كتاب ینظر للشعریة العربیة على غرار كتاب فن الشعر لأرسطو لوجود التقعید الفلسفی والتنظیر المنطقی لمفهوم الشعر وتفریعاته التجریدیة. بینما یعد أبو بكرالباقلانی أول من حلل قصیدة شعریة متكاملة فی كتابه "إعجاز القرآن"، بعدما كان التركیز النقدی على البیت المفرد أو مجموعة من الأبیات الشعریة المتقطعة. وفی هذه الفترة عرف النقاد المنهج الطبقی والمنهج البیئی والمنهج الأخلاقی والمنهج الفنی مع ابن سلام الجمحی صاحب كتاب "طبقات فحول الشعراء فی الجاهلیة والإسلام"، والأصمعی صاحب "كتاب الفحولة"، وابن قتیبة فی كتابة "الشعر والشعراء"، والشعریة الإنشائیة خاصة مع قدامة بن جعفر فی "نقد الشعر" و"نقد النثر". واعتمد عبد القاهر الجرجانی على نظریة النظم والمنهج البلاغی لدراسة الأدب وصوره الفنیة رغبة فی تثبیت إعجاز القرآن وخاصة فی كتابیه "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة". ولكن أول دراسة نقدیة ممنهجة حسب الدكتور محمد مندور هی دراسة الآمدی فی كتابه: "الموازنة بین الطائیین: البحتری وأبی تمام". وقد بلغ النقد أوجه مع حازم القرطاجنی الذی اتبع منهجا فلسفیا فی التعامل مع ظاهرة التخییل الأدبی والمحاكاة وربط الأوزان الشعریة بأغراضها الدلالیة فی كتابه الرائع "منهاج البلغاء وسراج الأدباء" والسجلماسی فی كتابه "المنزع البدیع فی تجنیس أسالیب البدیع"، وابن البناء المراكشی العددی فی كتابه"الروض المریع فی صناعة البدیع".

ومن القضایا النقدیة التی أثیرت فی النقد العربی القدیم قضیة اللفظ والمعنى وقضیة السرقات الشعریة وقضیة أفضلیة الشعر والنثر وقضیة الإعجاز القرآنی وقضیة عمود الشعر العربی وقضیة المقارنة والموازنة كما عند الآمدی والصولی، وقضیة بناء القصیدة عند ابن طباطبا وابن قتیبة، وقضیة الفن والدین عند الأصمعی والصولی وغیرهما… وقضیة التخییل الشعری والمحاكاة كما عند فلاسفة النقد أمثال الكندی والفارابی وابن سینا وابن رشد والقرطاجنی وابن البناء المراكشی والسجلماسی… لكن هذا النقد سیتراجع نشاطه مع عصر الانحطاط لیهتم بالتجمیع وكتابة التعلیقات والحواشی مع ابن رشیق القیروانی فی كتابه "العمدة" وابن خلدون فی "مقدمته".
4- النقد العربی الحدیث والمعاصر:

مع عصر النهضة، سیتخذ النقد طابعا بیانیا ولغویا وخاصة مع علماء الأزهر الذین كانوا ینقدون الأدب على ضوء المقاییس اللغویة والبلاغیة والعروضیة كما نجد ذلك واضحا عند حسین المرصفی فی كتابه "الوسیلة الأدبیة"، وطه حسین فی بدایاته النقدیة عندما تعرض لمصطفى لطفی المنفلوطی مركزا على زلاته اللغویة وأخطائه البیانیة وهناته التعبیریة.

ومع بدایة القرن العشرین، سیظهر المنهج التاریخی أو كما یسمیه شكری فیصل فی كتابه "مناهج الدراسة الأدبیة فی الأدب العربی" [1] النظریة المدرسیة؛ لأن هذا المنهج كان یدرس فی المدارس الثانویة والجامعات فی أوربا والعالم العربی. ویهدف هذا المنهج إلى تقسیم الأدب العربی إلى عصور سیاسیة كالعصر الجاهلی وعصر صدر الإسلام وعصر بنی أمیة والعصر العباسی وعصر الانحطاط أو العصر المغولی أو العصر العثمانی ثم العصر الحدیث والعصر المعاصر. وهذا المنهج یتعامل مع الظاهرة الأدبیة من زاویة سیاسیة، فكلما تقدم العصر سیاسیا ازدهر الأدب، وكلما ضعف العصر ضعف الأدب. وهذا المنهج ظهر لأول مرة فی أوربا وبالضبط فی فرنسا مع أندری دوشیسون André Dechesson الذی ألف كتاب "تاریخ فرنسا الأدبی" سنة 1767م. ویقسم فیه الأدب الفرنسی حسب العصور والظروف السیاسیة ویقول:" إن النصوص الأدبیة الراقیة هی عصور الأدب الراقیة، وعصور تاریخ السیاسة المنحطة هی عصور الأدب المنحطة". [2]

وقد اتبع كثیر من مؤرخی الأدب العربی الحدیث منهج المستشرقین فی تقسیم الأدب العربی (بروكلمان، وجیب، ونالینو، ونیكلسون، وهوار…)، ومن هؤلاء جورجی زیدان فی كتابه "تاریخ آداب اللغة العربیة" الذی انتهى منه سنة 1914م. وفی هذا الكتاب یدعی السبق بقوله:" ولعلنا أول من فعل ذلك، فنحن أول من سمى هذا العلم بهذا الاسم"، وفی موضع آخر یقول إن المستشرقین أول من كتب فیه باللغة العربیة، [3] والشیخ أحمد الإسكندری والشیخ مصطفى عثمان بك فی كتابهما "الوسیط فی الأدب العربی وتاریخه" [4] الذی صدر سنة 1916م. وكان تاریخ الأدب عندهما هو العلم "الباحث عن أحوال اللغة، نثرها ونظمها فی عصورها المختلفة من حیث رفعتها وضعتها، وعما كان لنابغیها من الأثر البین فیها…. ومن فوائده:

1- معرفة أسباب ارتقاء أدب اللغة وانحطاطه، دینیة كانت تلك الأسباب أو اجتماعیة أو سیاسیة، فنستمسك بأسباب الارتقاء، ونتحامى أسباب الانحطاط.

2- معرفة أسالیب اللغة، وفنونها، وأفكار أهلها ومواضعاتهم، واختلاف أذواقهم فی نثرهم ونظمهم، على اختلاف عصورهم، حتى یتهیأ للمتخرج فی هذا العلم أن یمیز بین صور الكلام فی عصر وصوره فی آخر، بل ربما صح أن یلحق القول بقائله عینه.

3- معرفة أحوال النابهین من أهل اللغة فی كل عصر، وما كان لنثرهم وشعرهم، وتألیفهم من أثر محمود، أو حال ممقوتة، لنحتذی مثال المحسن، ونتنكب عن طریق المسیء". [5]

ومن المؤرخین العرب المحدثین أیضا نذكر محمد حسن نائل المرصفی فی كتابه "أدب اللغة العربیة"، وعبد الله دراز وكیل مشیخة الجامع الأحمدی فی كتابه "تاریخ أدب اللغة العربیة"، وأحمد حسن الزیات فی كتابه "تاریخ الأدب العربی" الذی اعتبر المنهج السیاسی فی تدریس تاریخ الأدب العربی نتاجا إیطالیا ظهر فی القرن الثامن عشر. ونستحضر فی هذا المجال كذلك طه حسین وشوقی ضیف وأحمد أمین فی كتبه المتسلسلة "فجر الإسلام" و"ضحى الإسلام" و"ظهر الإسلام"، وحنا الفاخوری فی كتابه المدرسی "تاریخ الأدب العربی"، وعمر فروخ فی تأریخه للأدب العربی، وعبد الله كنون فی كتابه "النبوغ المغربی فی الأدب العربی".

لكن هذا المنهج سیتجاوز من قبل النقاد الذی دعوا إلى المنهج البیئی أو الإقلیمی مع أحمد ضیف فی كتابه "مقدمة لدراسة بلاغة العرب"، والأستاذ أمین الخولی فی كتابه "إلى الأدب المصری"، وشوقی ضیف فی كتابه "الأدب العربی المعاصر فی مصر"، والدكتور كمال السوافیری فی كتابه "الأدب العربی المعاصر فی فلسطین"….

وسیرفض المنهج السیاسی المدرسی والمنهج الإقلیمی الذی یقسم الأدب العربی إلى بیئات وأقالیم فیقال: أدب عراقی، وأدب فلسطینی، وأدب جزائری، وأدب أندلسی، وأدب تونسی….وسیعوضان بالمنهج القومی مع عبد الله كنون الذی یرى أن الجمع القومی ینفی" جمیع الفوارق الاصطناعیة بین أبناء العروبة على اختلاف بلدانهم وتباعد أنحائهم، كما ینبغی أن ننفی نحن جمیع الفوارق الاعتباریة بین آداب أقطارهم العدیدة فی الماضی والحاضر. ذلك أن الأدب العربی وحدة لاتتجزأ فی جمیع بلاده بالمغرب والمشرق، وفی الأندلس وصقلیة المفقودتین…

وهناك قضیة شكلیة لها علاقة بالموضوع، وهی هذا التقسیم إلى العصور الذی ینبغی أن یعاد فیه النظر كالتقسیم على الأقطار؛ لأنه كذلك تقلید محض لمنهاج البحث فی الأدب الأوربی، ولعله تقلید له فی العرض دون الجوهر، وإلا فلیس بلازم أن یكون لعصر الجاهلیة أدب ولعصر صدر الإسلام أدب ولعصر الأمویین أدب، وهكذا حتى تنتهی العصور، وتكون النتیجة تعصب قوم لأدب وآخرین لغیره مما لا یوحى به إلا النزعات الإقلیمیة وهی إلى مذهب الشعوبیة أقرب منها إلى القومیة العربیة." [6]

ویبدو أن المنهج الذی یتبناه عبد الله كنون هو منهج ذو مظاهر دینیة قائمة على الوحدة العربیة الإسلامیة بأسسها المشتركة كوحدة الدین ووحدة اللغة ووحدة التاریخ ووحدة العادات والتقالید ووحدة المصیر المشترك. لكن عبد الله كنون سیؤلف كتابا بعنوان" أحادیث عن الأدب المغربی الحدیث"، وبذلك یقع فی تناقض كبیر حیث سیطبق المنهج الإقلیمی البیئی الذی اعتبره سابقا نتاجا للشعوبیة والعرقیة.

وإلى جانب هذه المناهج، نذكر المنهج الفنی الذی یقسم الأدب العربی حسب الأغراض الفنیة أو الفنون والأنواع الأجناسیة كما فعل مصطفى صادق الرافعی فی كتابه "تاریخ الأدب العربی"، وطه حسین فی "الأدب الجاهلی" حینما تحدث عن المدرسة الأوسیة فی الشعر الجاهلی التی امتدت حتى العصر الإسلامی والأموی، وشوقی ضیف فی كتابیه "الفن ومذاهبه فی الشعر العربی" و"الفن ومذاهبه فی النثر العربی" حیث قسم الأدب العربی إلى ثلاث مدارس فنیة: مدرسة الصنعة ومدرسة التصنیع ومدرسة التصنع، ومحمد مندور فی كتابه "الأدب وفنونه"، وعز الدین إسماعیل فی "فنون الأدب"، وعبد المنعم تلیمة فی "مقدمة فی نظریة الأدب"، ورشید یحیاوی فی "مقدمات فی نظریة الأنواع الأدبیة". فهؤلاء الدارسون عددوا الأجناس الأدبیة وقسموها إلى فنون وأنواع وأغراض وأنماط تشكل نظریة الأدب.

أما المنهج التأثری فهو منهج یعتمد على الذوق والجمال والمفاضلة الذاتیة والأحكام الانطباعیة المبنیة على المدارسة والخبرة، ومن أهم رواد هذا المنهج طه حسین فی كتابه "أحادیث الأربعاء" فی الجزء الثالث، وعباس محمود العقاد فی كتابه "الدیوان فی الأدب والنقد" ومقالاته النقدیة، والمازنی فی كتابه "حصاد الهشیم"،و میخائیل نعیمة فی كتابه "الغربال". بینما المنهج الجمالی الذی یبحث عن مقومات الجمال فی النص الأدبی من خلال تشغیل عدة مفاهیم إستیتیقیة كالمتعة والروعة والتناسب والتوازی والتوازن والازدواج والتماثل والائتلاف والاختلاف والبدیع فیمثله الدكتور میشال عاصی فی كتابه "مفاهیم الجمالیة والنقد فی أدب الجاحظ" والذی صدر سنة 1974م عن دار العلم للملایین ببیروت اللبنانیة.

ومع تأسیس الجامعة الأهلیة المصریة سنة 1908م، واستدعاء المستشرقین للتدریس بها، ستطبق مناهج نقدیة جدیدة على الإبداع الأدبی قدیمه وحدیثه كالمنهج الاجتماعی الذی یرى أن الأدب مرآة تعكس المجتمع بكل مظاهره السیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة والثقافیة. وقد تبلور هذا المنهج مع طه حسین فی كتابه "ذكرى أبی العلاء المعری" و"حدیث الأربعاء" الجزء الأول والثانی، وقد تأثر كثیرا بأستاذه كارلو نالینو وبأساتذة علم الاجتماع كدوركایم ولیڤی برول وابن خلدون صاحب نظریة العمران الاجتماعی والفلسفة الاجتماعیة. وقد سار على منواله عباس محمود العقاد فی كتابه "شعراء مصر وبیئاتهم فی الجیل الماضی"، ففیه یعمد الناقد إلى دراسة شعراء مصر انطلاقا من العرق والزمان والمكان من خلال مفهوم الحتمیة التی تربط الأدب جدلیا ببیئته.

ومع ظهور النظریات الإیدیولوجیة الحدیثة كالنظریة الاشتراكیة والشیوعیة، سیظهر المنهج الإیدیولوجی الاشتراكی والمنهج المادی الجدلی فی الساحة النقدیة العربیة مع مجموعة من النقاد كمحمد مندور وحسین مروة وسلامة موسى وعز الدین إسماعیل ومحمد برادة وإدریس الناقوری وعبد القادر الشاوی……

ومع بدایة الستینیات، ستفرز ظاهرة المثاقفة والترجمة والاطلاع على المناهج الغربیة مجموعة من المناهج النقدیة الحدیثة والمعاصرة كالبنیویة اللسانیة مع حسین الواد وعبد السلام المسدی وصلاح فضل وموریس أبو ناضر وكمال أبو دیب وجمیل المرزوقی وجمیل شاكر وسعید یقطین، كما ستتبلور أیضا البنیویة التكوینیة التی تجمع بین الفهم والتفسیر لتعقد تماثلا بین البنیة الجمالیة المستقلة والبنیة المرجعیة كما نظر لها لوسیان گولدمان وسیتبناها كل من محمد بنیس وجمال شحیذ ومحمد برادة وطاهر لبیب وحمید لحمدانی وسعید علوش وإدریس بلملیح وعبد الرحمن بوعلی وبنعیسى بوحمالة…

وإلى جانب المنهج البنیوی اللسانی والتكوینی، نذكر المنهج الموضوعاتی أو الموضوعیة البنیویة التی تدرس الأدب العربی على مستوى التیمات والموضوعات ولكن بطریقة بنیویة حدیثة مع سعید علوش فی كتابه "النقد الموضوعاتی"، وحمید لحمدانی فی كتابه "سحر الموضوع"، وعبد الكریم حسن فی كتابه "الموضوعیة البنیویة دراسة فی شعر السیاب"، وعلی شلق فی كتابه "القبلة فی الشعر العربی القدیم والحدیث".

أما المنهج السمیوطیقی فسیتشكل مع محمد مفتاح ومحمد السرغینی وسامی سویدان وعبد الفتاح كلیطو وعبد المجید نوسی وسعید بنكراد… من خلال التركیز على شكل المضمون تفكیكا وتركیبا ودراسة النص الأدبی وجمیع الخطابات اللصیقة به كعلامات وإشارات وأیقونات تستوجب تفكیكها بنیویا وتناصیا وسیمیائیا.

وبعد أن اهتم المنهج الاجتماعی بالمرجع الخارجی وذلك بربط الأدب بالمجتمع مباشرة مع المادیة الجدلیة أو بطریقة غیر مباشرة مع البنیویة التكوینیة، واهتم المنهج النفسی بربط الأدب بذات المبدع الشعوریة واللاشعوریة مع عزالدین إسماعیل والعقاد ومحمد النویهی وجورج طرابیشی ویوسف الیوسف، كما اختص الأدب الأسطوری بدراسة الأساطیر فی النص الأدبی كنماذج علیا منمطة تحیل على الذاكرة البشریة كما عند مصطفى ناصف فی كتابه "قراءة ثانیة لشعرنا القدیم"، ومحمد نجیب البهبیتی فی كتابه "المعلقة العربیة الأولى"، وأحمد كمال زكی فی "التفسیر الأسطوری للشعر القدیم"، وإبراهیم عبد الرحمن فی "التفسیر الأسطوری للشعر الجاهلی"، وعبد الفتاح محمد أحمد فی "المنهج الأسطوری فی تفسیر الشعر الجاهلی"، فإن جمالیة التلقی ونظریة الاستقبال مع إیزرIzer ویوس Yauss الألمانیین ستدعو الجمیع للاهتمام بالقارئ والقراءة بكل مستویاتهما؛ لأن القراءة تركیب للنص من جدید عن طریق التأویل والتفكیك، مما سینتج عن نظریة القارئ ظهور مناهج جدیدة أخرى كالمنهج التفكیكی والمنهج التأویلی.

ومن النقاد العرب الذین اهتموا بمنهج القراءة نجد حسین الواد فی كتابه "فی مناهج الدراسات الأدبیة"، ورشید بنحدو فی الكثیر من مقالاته التی خصصها لأنماط القراءة (القراءة البلاغیة، والقراءة الجمالیة، والقراءة السوسیولوجیة، والقراءة السیمیائیة….)، وحمید لحمدانی فی كتابه "القراءة وتولید الدلالة، تغییر عاداتنا فی القراءة"، ومحمد مفتاح فی كتابه "النص: من القراءة إلى التنظیر". أما التفكیكیة فمن أهم روادها الناقد السعودی عبد الله محمد الغذامی فی كتابه "الخطیئة والتكفیر" وكتاب "تشریح النص"، وكتاب "الكتابة ضد الكتابة"، والناقد المغربی محمد مفتاح فی "مجهول البیان" وعبد الفتح كلیطو فی كثیر من دراساته حول السرد العربی وخاصة "الحكایة والتأویل" و"الغائب". ومن أهم رواد النقد التأویلی الهرمونیتیقی نستحضر الدكتور مصطفى ناصف فی كتابه "نظریة التأویل"، وسعید علوش فی كتابه "هرمنوتیك النثر الأدبی".

ولا ننسى كذلك المنهج الأسلوبی الذی یحاول دراسة الأدب العربی من خلال وجهة بلاغیة جدیدة وأسلوبیة حداثیة تستلهم نظریات الشعریة الغربیة لدى تودوروف، وجون كوهن، وریفاتیر، ولوتمان، وبییرغیرو، ولیو سبیتزر،وماروزو… ومن أهم ممثلیه فی الأدب العربی الدكتور عبد السلام المسدی فی كتابه "الأسلوب والأسلوبیة"، ومحمد الهادی الطرابلسی "فی منهجیة الدراسة الأسلوبیة"، وحمادی صمود فی "المناهج اللغویة فی دراسة الظاهرة الأدبیة"، وأحمد درویش فی "الأسلوب والأسلوبیة"، وصلاح فضل فی "علم الأسلوب وصلته بعلم اللغة"، وعبد الله صولة فی "الأسلوبیة الذاتیة أو النشوئیة"، ودكتور حمید لحمدانی فی كتابه القیم "أسلوبیة الروایة"، والهادی الجطلاوی فی كتابه "مدخل إلى الأسلوبیة". وثمة مناهج ومقاربات ظهرت مؤخرا فی الساحة العربیة الحدیثة كلسانیات النص مع محمد خطابی فی كتابه "لسانیات النص" والأزهر الزناد فی "نسیج النص"، والمقاربة المناصیة التی من روادها شعیب حلیفی وجمیل حمداوی وعبد الفتاح الحجمری وعبد الرزاق بلال ومحمد بنیس وسعید یقطین… وتهتم هذه المقاربة بدراسة عتبات النص الموازی كالعنوان والمقدمة والإهداء والغلاف والرسوم والأیقون والمقتبسات والهوامش، أی كل ما یحیط بالنص الأدبی من عتبات فوقیة وعمودیة، وملحقات داخلیة وخارجیة.
خلاصـــة تركیبیــــة:

هذه هی أهم التطورات المرحلیة التی عرفها النقد العربی قدیما وحدیثا، وهذه كذلك أهم المناهج النقدیة التی استند إلیها النقاد فی تحلیل النصوص الإبداعیة وتقویمها ومدارستها نظریا وتطبیقیا. ویلاحظ كذلك أن هذه المناهج النقدیة العربیة ولاسیما الحدیثة والمعاصرة كانت نتاج المثاقفة والاحتكاك مع الغرب والاطلاع على فكر الآخر عن طریق التلمذة والترجمة. وقد ساهم هذا الحوار الثقافی على مستوى الممارسة النقدیة فی ظهور إشكالیة الأصالة والمعاصرة أو ثنائیة التجریب والتأصیل فی النقد العربی.

وعلیه، فقد ظهر اتجاه یدافع عن الحداثة النقدیة وذلك بالدعوة إلى ضرورة الاستفادة من كل ماهو مستجد فی الساحة النقدیة الغربیة كما نجد ذلك عند محمد مفتاح ومحمد بنیس وحمید لحمدانی وحسین الواد وصلاح فضل…، واتجاه یدعو إلى تأصیل النقد العربی وعدم التسرع فی الحكم سلبا على تراثنا العربی القدیم ومن هؤلاء الدكتور عبد العزیز حمودة فی كتبه القیمة والشیقة مثل: "المرایا المقعرة"، و"المرایا المحدبة"، و"الخروج من التیه". لكن هناك من كان موقفه وسطا یدافع عن التراث ویوفق بین أدواته وآلیات النقد الغربی كمصطفى ناصف فی كثیر من كتبه ودراساته التی یعتمد فیها على أدوات البلاغة العربیة القدیمة، وعبد الفتاح كلیطو فی "الأدب والغرابة" و"الحكایة والتأویل"، وكتابه "الغائب"، وعبد الله محمد الغذامی فی كتابیه "القصیدة والنص المضاد" و"المشاكلة والاختلاف".
حواشی

[1] الدكتور شكری فیصل: مناهج الدراسة الأدبیة فی الأدب العربی، دار العلم للملایین، بیروت، لبنان، الطبعة السادسة، 1986، ص:17-24؛

[2] نقلا عن أحمد نوفل بن رحال: دروس ابن یوسف، النجاح الجدیدة، الدار البیضاء، ط1، 2000، ص:95؛

[3] أحمد نوفل: نفسه، ص:97؛

[4] أحمد الإسكندری ومصطفى عثمان: الوسیط فی الأدب العربی وتاریخه، دار المعارف بمصر، ط1، 1916م،

[5] نفس المرجع السابق، ص:4-5؛

[6] عبد الله كنون: خل وبقل، المطبعة المهدیة، تطوان، المغرب، بدون تاریخ، ص:148-158؛
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:21|
قراءة فی بنیة القصیدة المدحیّة

مدحیة القطامی- نموذجاً

ظل الشعر العربی عهداً طویلاً دیوان العرب، وسِجل مفاخرهم ومآثرهم، نهض بتصویر عواطفهم وأفراحهم وأحزانهم وتأملاتهم، مؤصلین عبر هذه المسیرة الطویلة قواعده وأصوله المكتملة النضج والبناء.

بید أن هذه المكانة للشعر العربی القدیم، لم تنل حظها من التقویم الصحیح، إذ اتسمت الرؤیة النقدیة للقصیدة العربیة –لا سیما المدحیة- ردحاً من الزمن برؤیة جزئیة ترتكز على وحدة البیت، وتسلیط الضوء على معطیات أخرى قد یتصل بعضها بذات المبدع، أو بمؤثرات العصر التاریخیة والسیاسیة، وسواها، دون التركیز على البناء الكلی للعمل الأدبی. ومن ثمَّ تولدت تلك الإشكالیة التی تصف القصیدة العربیة بالتفكك لافتقادها الوحدة العضویة(1).

وهذا الحكم تبناه بعض المستشرقین، ومن دار فی فلكهم من الباحثین العرب، وهذا الحكم كان نتاج فقدان القراءة المتعمقة، إلى جانب قیاس القصیدة العربیة على نماذج القصیدة الغربیة التی تختلف عنها بطبیعة مبدعها، ومؤثرات إبداعها.

وقد أشار بعض النقاد العرب إلى مدى الغبن الذی أصاب القصیدة العربیة نتیجة قیاسها على نماذج غربیة، یقول د. شكری عیاد: "على كثرة ما كُتِب فی النقد العربی الحدیث حول القصیدة التقلیدیة فقد عانت دائماً من قیاسها على أجناس مختلفة من الشعر الأوربی، ولوحظ افتقارها إلى "الوحدة العضویة" لا سیما أن الإلحاح على وحدة البیت جعل وحدة القصیدة أشبه بنافلة، أو شذوذاً عن القاعدة"(2). وتقول د. حیاة جاسم: "تعرّض هذا التراث إلى هجمات كثیرة، ومطاعن متعددة، لعل من أخطرها تلك التی ترمی القصیدة العربیة بالتفكك، وافتقادها الوحدة، وترى أنها مزق متناثرة، وصور متناقضة لا تربطها إلا القافیة. وقد كُتبت فی ذلك المقالات والدراسات الجزئیة؛ ولكن ما كتب لا یستند إلى نظرة شاملة للشعر العربی، وإنما یقوم على دراسة ضیقة، كما أن الكثیر مما كُتب متأثر بمقاییس النقد الغربی، ویحاول تطبیق تلك المقاییس على الشعر العربی..."(3).

وهذه الرؤیة النقدیة للقصیدة العربیة أفقدتها الكثیر من إیحاءاتها، وآفاقها الجمالیة؛ إذ من البدهی أن الإبداع سواء كان شعراً أم نثراً لا تتضح دراسته إلاَّ فی إطار المؤثرات المختلفة المحیطة به، لأن هذه المؤثرات هی المحرك الحقیقی للتجربة الشعوریة التی هی نتاج كل إبداع.

ومع العلم بأنه لیس هناك قراءة نهائیة للنص الأدبی، وأن لكل نص رؤیته الخاصة فإن هذه الدراسة تعدُّ محاولة من المحاولات التی تسلط الضوء على بعض العلاقات والسمات التی شكلت صیاغة القصیدة العربیة تشكیلاً عضویاً، جعلت منها وحدة واحدة من التعبیر، وذلك من خلال القراءة المتعمقة التی تسبر أغوار النص، وتتعاطف معه، وترى فی القصیدة على أنها نفثة شعوریة متكاملة، متجاهلة أی حكم انطباعی وسم به الشعر الجاهلی.

ومن هنا أصبح الناقد أو المتلقی ینهض بدور رئیس فی الكشف عن آفاق النص، وإیحاءاته من خلال القراءة المتفحصة التی لم تعد قراءة واحدة، بل قراءات متعددة لها نظریاتها المختلفة؛ منها ما یسمى ب "القراءة الاستبطانیة" وهی القِراءة التی تستنطق النص، وتكشف علاقاته الفنیة، ومحاولة الربط بین أجزائه(4). ومنها ما أسماه (تودوروف) (Todorov) القراءة الشعریة، (POETIC READING) تلك القراءة التی تقود إلى نتائج تتواءم مع الافتراضات الأولى التی یفترضها القارئ(5). ومنها ما یسمى ب "شعریة التلقی" "فكما أن هناك جمالیات أو شعریة إبداع هناك جمالیات أو شعریة تلقٍ..." والشعر طریقة إبداع وتلقٍ، بل الأدب عموماً، فهو –كما یقول الغذامی-: "عملیة إبداع جمالی من منشئه، وهو عملیة تذوق جمالی من المتلقی"(6).

وعلى ضوء ما تقدم فإن هذه الدراسة سوف تسلك مسلك القراءة الشعریة الاستبطانیة التی تتعمق النص، وتكشف عن علاقته الفنیة التی تربط بین أجزائه، بما یكشف عن فعالیة النص وإیحاءاته، وآفاقه الجمالیة، بحیث یفضی الخطاب الشعری فی نهایة المطاف إلى تعاطف وحوار ودی بین الشاعر والمفسر، مما یؤدی للانتقال من ظاهر المعنى إلى معنى المعنى. فالتفكك المزعوم للقصیدة العربیة، غالباً، هو نتاج فقدان الربط المنطقی، وهذا الربط قد نجده فی الدراسات التی تتناول مناهج المدارس التفكیكیة والسریالیة، إذ تكون القصیدة مفككة، لكن الناقد قد یلتقط لها هذا الربط، ویدلل علیه بصورة أو بأخرى.

والقصیدة التی نقف إزاءها بالقراءة الشعریة الاستبطانیة هی قصیدة القطامی: "إنا محیوك فاسلم أیها الطلل" والقطامی: اسم من أسماء الصقر(7)، ولقب هذا الشاعر بذلك لقوله: (8):

یَحُطُّهن جانباً فجانبا *** حَطَّ القُطامِیِّ قَطا قَواربا

وقد اختلف فی اسمه الأول، فالسمعانی فی الأنساب ذكر أن اسمه هو: "عُمیر بن شییم بن عمرو بن عباد بن بكر بن عامر بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبیب"(9) وابن سلاّم ذكر أن اسمه هو: "عمرو بن شییم بن عمرو، أحد بنی بكر بن حبیب بن عمرو بن غَنْم من تغلب"(10).

والقطامی عدَّه ابن سلاَّم فی الطبقة الثانیة من الشعراء الإسلامیین. ووصف شعره بالفحولة ورقة الحواشی، وحلاوة الشعر(11). وأضاف المرزبانی إلى هذه الصفات كثرة الأمثال فی شعره(12). وذكر البغدادی أن القطامی كان نصرانیاً فأسلم، وهو ابن أخت الأخطل النصرانی المشهور(13).

وغلب على شعره المدیح الذی تغلفه العاطفة الصادقة مشیداً بما لدى الممدوح من الفضائل، ومكارم الأخلاق. وقد سجلت كتب التراث الأدبی والنقدی هذه المزیّة فی شعره؛ فذكرت غیر قصیدة وجهها لمدح زُفَر بن الحارث حین افتكه من الأسر، وأعطاه مئة من الإبل، وردّ علیه ماله(14).

وهذه الظاهرة المدحیة لم تكن غریبة على المجتمع العربی، فقد ذكر الجاحظ روایة عن الخلیفة الراشد عمر بن الخطاب –رضی الله عنه- قوله: "من خیر صناعات العرب الأبیات یقدمها الرجل بین یدی حاجته، یستنزل بها الكریم، ویستعطف بها اللئیم"(15).

ویقول د. شوقی ضیف: جرت عادة الشعراء منذ العصر الجاهلی على الإشادة بالأشراف، وذوی النباهة، ووصف خصالهم بالكرم والحلم والشجاعة والوفاء وحمایة الجار، وسوى ذلك، وكان لا یُعدّ السید فیهم كاملاً إلا إذا أشاد بنباهته ومآثره غیر شاعر، ومضوا على هذه السنة فی الإسلام(16).

وقصیدة القطامی التی سنتناولها بالدراسة تمثل قمة شعره المدحی؛ یقول أبو عمرو ابن العلاء: "أول ما حرك من القطامی ورفع من ذكره أنه قدم فی خلافة الولید بن عبد الملك دمشق لیمدحه، فقیل له: إنه بخیل لا یعطی الشعراء. وقیل بل قدمها فی خلافة عمر بن عبد العزیز، فقیل له: إن الشعر لا یَنْفُق عند هذا، ولا یعطی شیئاً، وهذا عبد الواحد بن سلیمان فامدحه. فمدحه بقصیدته التی أولها: (17)

إنا محیوك فاسلم أیها الطلل *** وإن بلیت وإن طالت بك (الطیل)

ومدحیّة القطامی تعدّ من عیون شعر المدیح، اعتمدها القرشی فی جمهرته، وابن عساكر فی تاریخه، والأصفهانی فی أغانیه، وسواهم.

وهذه القصیدة خضعت لنظام القصیدة المدحیة التی یغلب علیها تعدد الموضوعات، وهی التی حدد منهجها ابن قتیبة فی كتابه: "الشعر والشعراء"(18) فقال: "وسمعت بعض أهل الأدب یذكر أن مقصد القصید إنما ابتدأ فیها بذكر الدیار والدمن، فبكى وشكا، وخاطب الربع، واستوقف الرفیق؛ لیجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنین إذ كان نازلةُ العَمد فی الحلول والظَّعن على خلاف ما علیه نازلة المَدَر، لانتقالهم عن ماء إلى ماء، وانتجاعهم الكلأ، وتتبعهم مساقط الغیث حیث كان. ثم وصل ذلك بالنسیب، فشكا شدة الوجد، وألم الفِراق، وفرط الصبابة والشوق، لیمیل نحوه القلوب، ویصرف إلیه الوجوه، ولیستدعی به إصغاء الأسماع إلیه؛ لأن التشبیب قریب من النفوس، لائط بالقلوب،

لما قد جعل الله فی تركیب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فلیس یكاد أحدٌ یخلو من أن

یكون متعلقاً منه بسببٍ وضارباً فیه بسهم حلال أو حرام. فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء

إلیه، عقَّب بإیجاب الحقوق، فرحل فی شعره، وشكا النصب والسهر، وسُرى اللیل، وحرَّ

الهجیر، وإنضاء الراحلة والبعیر. فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء وذمامة التأمیل، وقرر عنده ما ناله من المكاره فی المسیر، بدأ فی المدیح "فبعثه على المكافأة، وهزَّه للسماح، وفضَّله على الأشباه، وصغَّر فی قدره الجزیل.

فالشاعر المجید من سلك هذه الأسالب، وعَدَّل بین هذه الأقسام، فلم یجعل واحداً منها أغلب على الشعر، ولم یُطل فیُمِلَّ السامعین، ولم یقطع وبالنفوس ظمأ إلى المزید"(19).

ولدى تأمّل قصیدة القطامی نجدها تنهل من أشجان ذاته بمحیطها الجغرافی والبیئی، معبرة عن أزمة مزدوجة: أزمة الذات، وأزمة الحیاة، منسابة فی فضاء تعبیری بلغ ثلاثة وأربعین بیتاً. وقد تنوّعت موضوعاتها ما بین: الوقوف على الطلل، فالحكمة، والنسیب، ووصف الرحلة والراحلة، وذكریات الأغید الربل، ثم الأخذ بالمدیح.

وقد نجح فی صهر معاناته فی ثنائیة: "القلق والأمل" القلق إزاء شظف الحیاة الصحراویة وقسوتها، جاعلاً من الذات موضوعاً، ومن الموضوع ذاتاً؛ مختزلاً أسى الإنسان فی أسى الذات، محلقاً فی فضاء تفاؤلی، رحب، یقتضی التوجه إلى المورد العذب، إلى الممدوح، لتحقیق الأمل بمستقبل أفضل!

وهذا التجاذب بین المعنیین لم یسیطر على جو القصیدة فحسب؛ بل كان الدافع الحقیقی لإنشائها، ومن ثمَّ تآلفت موضوعاتها فی تیار شعری واحد، مشدود بعاطفة الحب: حب الشاعر لطلل المحبوبة، حبه للحكمة، حبه للناقة، ثم حبه وإعجابه بممدوحه، وهذه الثنائیة: نتلمسها على صعید السیاق الشعری، وعلى صعید الأدوات التعبیریة.

1-السیاق الشعری:

یتحدث القطامی عن أزمته، وأزمة الإنسان فی الصحراء، لا على شاكلة الشعراء التقلیدیین بصوت منفرد، منكفئ على الذات، بل بصوت جماعی منفتح على الحیاة، مستفتحاً القصیدة، بتحیة الطلل، تحیة ینفذ منها من ثابت الفناء والخراب، إلى ثابت الأمل والحیاة، حیث یتداعى حدیث الذكریات الذی ما زال ماثلاً فی الأذهان، على الرغم مما طرأ من متغیرات:(20)

1-إنا محیوك فاسلم أیها الطلل *** وإن بلیتَ وإن طالت بك الطِّولُ(21)

2-أنى اهتدیتَ لتسلیم على دمنٍ *** بالغَمر غیَّرهن الأعصُرُ الأُولُ(22)

3-صافتْ تعمجُ أعناقُ السیول به *** من باكر سبِطٍ أو رائحٍ یَبِلُ(23)

4-فَهُنَّ كالخِلل الموشیِّ ظاهِرُها *** أو كالكتابِ الذی (قد مسَّه) البَللُ(24)

وهكذا تجلت فی مستهل القصیدة أولى سمات هذه الثنائیة بتلك المشاعر القلقة لذلك التحول الذی واكب موطن الذكریات –طلل الحبیبة- ثم بمشاعر الأمل التی اقترنت بتحیة السلام، وهی تحیّة مترتبة على السلامة وحیاة مترتبة على التحیة، بما ادخرته من رؤى تفاؤلیة مستقبلیة.

ثم تتوالى معالم هذه الثنائیة المفعمة بحس المكان وأسى الذات تتراءى من خلال هذا الرصد الإنسانی لما واكب حیاة الناس من متغیرات انسابت فی أبیات الحكمة بتلك المقابلات المصورة للآلام والآمال:(25)

5-كانت مَنَازِلُ منا قد یُحِلُّ بها *** حتى تغَیَّر دهرٌ خائِنٌ خَبِلُ(26)

6-لیسَ الجدیدُ به تبقَى بشاشَتُه *** إلا قلیلاً ولا ذو خُلَّةٍ یَصِلُ(27)

7-والعیشُ لا عیشَ إلاّ ما تقرُّ به *** عیناً ولا حال إلاّ سوفَ ینتقلُ(28)

8-والناسُ مَنْ یَلْقَ خیراً قائلون له *** ما یشتهی ولأُمِّ المخطِئ الهَبَلُ(29)

9-قد یُدرك المتأنی بعضَ حاجَتِه *** وقد یكونُ مع المُستَعجِلِ الزَّللُ(30)

10-وقد یُصیبُ الفتى الحاجاتِ مُبْتَدِراً *** ویستریحُ إلى الأخبارِ من یَسَلُ(31)

ومن ناحیة أخرى فقد نهضت أبیات الحكمة بخصوصیة دلالیة، من خلال تلك المقابلات التی وظفت توظیفاً فنیاً فی طرحها لوجهی الحیاة: القاتم والمشرق، أو (القلق والأمل) مما شكل لحمة صوتیة فی بنیة القصیدة بصفتها وحدةً تعبیریة.

ویبدو أن تصویر الشاعر لأزمة العلاقات الاجتماعیة وما أضحى علیه منطق الحیاة قد عزز لدیه معاناة القهر وزفرات الألم، لتخلخل القیم، ثم انبثاق الصوت الداخلی المضطرم للارتحال، وتحقیق الأمل بالاستقرار، ممهداً لابتداء مسیرة الارتحال التی یتجاذبها المعنیان، منطلقاً من البیت الذی یمثل ومضة الأمل، تتراءى فی الأفق البعید، ممثلة باسم "علیة" ذلك الاسم الموحی بالعلو والرفعة، وسمو الغایة:(32)

11-أمستْ عُلّیة یرتاحُ الفؤادُ لها            وللرواسِم فیما دونها عَمَلُ(33)

بید أن هذا العلو، وسمو الغایة لا یمنعان من الوصول إلیها، مهما واكب الرحلة من مشاق، والراحلة من جهد وإنضاء:

12-بكل مُنخَرِقٍ یجری السرابُ به *** یُمسی ورَاكِبهُ من خَوفِه وَجِلُ(34)

13-یُنْضِی الهِجَان التی كانتْ تكونُ به *** عُرْضِیَّةٌ وهِبابٌ حین تُرتَحلُ(35)

14-حتى ترى الحُرَّةَ الوَجْنَاءَ لاغِبةً *** والأرحبیَّ الذی فی خَطْوِه خَطَلُ(36)

15-خُوْصاً تُدیرُ عیوناً ماؤها سَرِبٌ *** علَى الخدود إذا ما اغرورقَ المُقَلُ(37)

16-لواغِبَ الطَّرف منقوباً حَواجِبُها *** كأنه قُلَبٌ عادیَّةٌ مُكُلُ(38)

17-ترمی الفجَاجَ بها الركبان مُعْتَرِضاً *** أعناقَ بُزَّلِهَا مُرْخىً لها الجُدُلُ(39)

وهكذا یرسم الشاعر لوحةً مجسمة متحركة لرحلة الصحراء، صارخة الألوان، ثلاثیة الأبعاد: بركبانها، وحیوانها وطبیعتها، مازجاً التصویر الحسی مع النفسی والبیئی.

ومع تنامی مسیرة الرحلة یتراءى تفعیل دور الراحلة كأداة تضامنیة مع أزمة الشاعر النفسیة عبر شعور بالمساندة الوجدانیة، آملاً بتحقیق الغایة المنشودة:(40)

18-یمشینَ رَهْواً فلا الأعجازُ خاذلة *** ولا الصدورُ على الأعجازِ تَتَّكِلُ(41)

19-فهُنَّ مُعْتَرِضَاتٌ والحَصى رَمِضٌ *** والریح ساكنةٌ والظِّلُ مُعْتَدِلُ(42)

20-یَتْبَعن مائرة العینین تَحسِبُهَا *** مجنونةً أو ترى ما لا ترى الإبلُ(43)

21-لما وَرَدْنَ نَبیّاً واستَتَبَّ بنا *** مُسْحَنْفِرٌ كخطوط السِّیْح مُنْسَحِلُ(44)

22-على مكانٍ غَشَاش لا یُنیخُ به *** إلا مُغَیِّرُنَا والمُسْتَقِی العَجِلُ(45)

ویتابع الشاعر نشیده الشعری عبر ذلك التناسق الكونی، مجسداً آفاق لوحته الصحراویة بكل تفصیلاتها الدقیقة:(46)

23- ثم استمر بها الحادی وجنَّبها *** بَطنَ التی نَبْتُها الحَوْذَانُ والنَّفَلُ(47)

24-حتى وَرَدْنَ رَكیَّات الغُویْر وقد *** كاد المُلاءُ من الكَتانِ یشتَعِلُ(48)

25-وقد تعرجتُ لمَّا وَرَّكتْ أرَكَا *** ذاتَ الشِمالِ وعن أیمانِنا الرِّجَلُ(49)

26-على منادٍ (دعانا) دعوةً كشفتْ *** عنا النعاسَ وفی أعناقِنَا مَیَلُ(50)

وهكذا استطاعت ریشة الفنان الدقیقة استیعاب كل جزئیة فی هذه المنظومة الصحراویة: بركبانها، وإبلها، وبُزلَها، وأمتعتِها، وأماكِنها، وفجاجِها، وكثبانها، ونَباتِها، وآبارِها، وسرابِها، وشح مائِها، وانحسارِ ظلِها، وسكونِ ریاحها، وسرى لیلها، وقیظ نهارها، ورَمَضِ حَصبائها، كل ذلك یوحی بأن الرحلة أوشكت على الانتهاء، متزامنةً مع تلك الدعوة التی تجاوزت الجبال الشماء موحیَّة باستشراف بعض المفاجآت:(51)

27-سمعتُها ورِعَانُ الطَّوْدِ مُعْرِضَةٌ *** من دونها وكثیبُ الغَینة السَهلُ(52)

28-فقلتُ للرَّكْبِ لما أن علا بِهمُ *** من عن یمین الحُبیَّا نظرة قَبَلُ(53)

29-ألمحةً من سَنَا بَرق رأى بصری *** أم وجهَ عالیةَ اختالتْ به الكِلَلُ(54)

30-تُهدِی لنا كُلَّ ما كانتْ عُلاوتُنَا *** رِیحَ الخُزامى جرى فیها النَدى الخَضِلُ(55)

أجل.. لقد أشاع ذلك النداء إیقاظاً شعوریاً وتفتحاً نفسیاً لدى الشاعر، ملمحاً بتلاشی أزمة القلق، وتفتح مشاعر الأمل، متزامناً مع إطلالة وجه عالیة الذی ملأ الكون ألقاً وبشراً وعبیراً أخاذاً. واستشعار ذلك الأمل قد أحدث نوعاً من الابتهاج النفسی الذی هیأ لتداعی أو استشراف مناخ عاطفی مع امرأة غیداء ذات حسن وجمال:(56)

31-وقد أبیتُ إذا ما شئتُ مَالَ معِی *** على الفراشِ الضجیعُ الأغیدُ الرَّبِلُ(57)

32-وقد تُباكرنی الصهباءُ ترفَعُها *** إلیَّ لینةٌ أطرافها ثَمِلُ(58)

ثم تتصعد إشراقة الأمل فی الخطاب الشعری بالتفات الشاعر إلى ناقته التی شاطرته رحلة العناء والقلق، فلیكن لها حظ من بهجة الأمل:(59)

33-أقولُ للحرف لمَّا أن شَكَتْ أُصُلاً *** مَتَّ السِّفَارِ وأفنى نَیِّها الرحلُ(60)

34-إن ترجعی من أبی عثمانَ مُنْجَحَةً *** فقد یهونُ على المُسْتَنِْجِحِ العَمَلُ(61)

ثم تمضی القصیدة عبر ذلك الانفتاح النفسی مشكلةً نقلة معنویة مؤدیة للالتئام التام بین بعدی الثنائیة، من خلال الوصول إلى الممدوح(62)، مما اقتضى آلیة جدیدة فی التقنیة الشعریة، منها تداخل الخاص مع العام، فعطاء الممدوح سیحقق آماله وآمال أهل المدینة قاطبة. ومنها توجه الخطاب الشعری من الأنا إلى الآخر، ومن الضمیر الأحادی إلى الجمعی؛ فالنشید المدحی یتراءى حتى نهایته بضمیر جمعی، وكأن فضائل القوم مجتمعة قد اختزلت فی الممدوح، مشكلةً منظومة من القیم الدینیة والاجتماعیة:(63)

35-أهلُ المدینة لا یَحزُنك شأَنَهُم *** إذا تخاطأ عبدَ الواحِدِ الأَجلُ

36-أما قُریشُ فلن تلقاهُمُ أبداً *** إلاَّ وهم خَیرُ من یَحفَى وینتعلُ

37-إلاَّ وهم جَبَل اللهِ الذی قصرتْ *** عنه الجبالُ فما سوّى به جَبَلُ

38-قومٌ هُمُ ثبَّتوا الإسلام واتَّبعوا *** قولَ الرسول الذی ما بعده رسُلُ(64)

39-مَنْ صَالحوه رأى فی عَیْشِه سعَةً *** ولا یرى مَنْ أرادوا ضَرَّه یَئِلُ(65)

ثم یشكل القطامی من هذا الفیض الغطائی وأصالة المنبت علاقة تكافؤ وتوحد مع الممدوح؛ فكلاهما فی موقف الأخذ والعطاء؛ فالشاعر یسدی إلیه عبیر ثنائه، والممدوح یزجی إلیه سحائب جوده، مشكلاً منهما خیطاً شعوریاً كان بمثابة التلاحم الحقیقی لثنائیة القلق والأمل، ذلك المخزون النفسی الذی أسفر بعد طول عناء وانتظار عن تحقق الحلم المنشود الذی فاق كل التوقعات(66):

40-كَمْ نالنی منهُم فَضْلٌ علَى عَدَمٍ *** إذ لا أكادُ من الإقتار أحتملُ(67)

41-وكَمْ من الدهر ما قد ثبَّتوا قدمی *** إذ لا أزالُ مع الأعداءِ أنتَضِلُ(68)

أجل... فقد تحقق الأمل! ومما عزز اللذة بتحققه أن الشاعر تلقاه فی سیاقه التاریخی والاجتماعی والنفسی؛ ذلك العطاء الذی لم یشبه مَنٌ أو محاباة أعداء، ولا غرو فی ذلك فالشیء من معدنه لا یستغرب، فهم الملوك، أبناء السیادة والجود:(69)

42-فلا هم صَالحوا مَنْ یبتغی عَنَتی *** ولا هُمُ كدَّروا الخیرَ الذی فَعلوا(70)

43-همُ الملوكُ وأبناءُ الملوكِ لهم *** والآخذون به والسَادةُ الأُوَلُ(71)

وبهذه الأبیات یكون الخطاب الشعری قد أوفى على النهایة، كما أوفى على الغایة، إذ نهضت القصیدة بدورها الحیوی فی صنع القرار الحاسم فی حیاة الشاعر؛ فقد ذكر صاحب الأغانی عن أبی عمرو بن العلاء "أن القطامی عندما أنشد القصیدة لعبد الواحد فقال له: كم أمَّلتَ من أمیر المؤمنین؟ قال: أمَّلتُ أن یعطینی ثلاثین ناقة! فقال: قد أمرتُ لك بخمسین ناقة موقرةً بُرَّاً وتمراً وثیاباً، ثم أمر بدفع ذلك إلیه"(72).

وهكذا انتظم السیاق الشعری فی نسق تعبیری متآلف حیث ابتدأ بزفرات القهر والقلق، وانتهى بإشراقة التفاؤل والأمل، تلك التی تتلمسها على صعید الأدوات التعبیریة.

2-الأدوات التعبیریة:

شكلت لغة الخطاب الشعری بشتى مستویاتها دوراً تأسیسیاً فی تجسید ثنائیة "القلق والأمل" بكونها ثابتاً من ثوابت القصیدة، تلك التی تجلت على صعید: المعجم الشعری، الحقول الدلالیة، العبارات، المفردات، الإیقاع الداخلی، الموسیقى الخارجیة.

أ-المعجم الشعری:

وفق القطامی فی انتقاء معجمه الشعری انتقاء: "أستاذ بلیغ یعرف كیف یستدعی انتباهك، ویشد اهتمامك... أدیب یسمعك مختارات من أجمل الشعر العربی، وأكثره فصاحةً وسحراً.."(73).

ومع أن الشاعر قد اختار معجمه الشعری من اللغة التی ألفناها فی العصر الجاهلی إلا أن القطامی قد تصرف فی معطیاتها بما یتلاءم وموقفه النفسی؛ ففی الرحلة الصحراویة حیث مشاعر القلق فی ذروتها تداعت اللغة بأوابدها وشواردها وخشونتها، مثل: دمن، منخرق، الوجناء، فجاج، مستحنفر، غشاش- الخ.." وعند توجهه إلى الممدوح حیث إشراقة الأمل اتجهت اللغة من الوعورة والخشونة إلى الرقة والعذوبة، والتحضر، ویؤید ذلك أن النشید المدحی فی مجمله قد كفانا مؤنة البحث عن مستغلق المعانی وغریبها.

ب-الحقول الدلالیة:

تنوعت الحقول الدلالیة مشكلة معبرة موحیة بدلالتها على الحالات النفسیة المتعاقبة للشاعر، وهی:

-حقل الفناء : وینطلق من الطلل، ویعبر عن فناء الذات، أو درجة الإحباط النفسی، ویتجسد فی: الطلل، بلیت، دمن، غیرهن، الأعصر الأول، صافت، الخلل، الكتاب المبلل، تغیر، دهر خائن، خبل، بشاشته، تبقى قلیلاً، حال تنتقل.

-حقل الصحراء: ویمثل مرحلة البرزخ، ویتماهى فیه: الفناء بالحیاة، والموت بالبعث، وهو معبر الشاعر من الطلل إلى الممدوح، ویصطبغ بالخوف، وترقب المجهول، ویتمثل فی: المنخرق، السراب، وجل، ینضی، لاغبة، خوصاً عیونها، منقوباً حواجبها، مائرة العینین، الفجاج، الحصى رمض، مسحنفر، غشاش، یشتعل.

-حقل العبور : ویتراءى فیه ذكر المحبوبة والشوق إلیها مع بدء الوصول للممدوح، ومنه: یمشین رهواً، الحادی، نبتها الحوذان والنفل، الركب، لمحة، سنا برق، وجه عالیة، الخزامى، الندى الخضل، الأغید الربل، الصهباء، لینة الأطراف.

-حقل الأمل : ویتماهى فیه لقاء الممدوح بتحقیق الأمل، ممثلاً فی: (أبو عثمان)، أهل المدینة، قریش، خیر، جبل الله، ثبَّتوا، صالحوا، عیش، سعة، نالنی، فضل، الخیر، الملوك، أبناء الملوك، السادة الأول.

ومع تعدد هذه الحقول الدلالیة كان هناك ثابتان یؤلفان بینها، هما: ثابتا الحركة والاستقرار، وكان الجسر الرابط بینهما: أبیات الحكمة.

ج-العبارات:

نهضت عبارات الحكمة بوظیفة تعبیریة ثنائیة الغایة؛ فإلى جانب كونها الرابط بین الحقول الدلالیة، قد حققت نوعاً من العزاء النفسی للشاعر، بالانتقال من عالم الطلل، عالم القلق والكبت النفسی، إلى عالم الآخر، عالم تتواصل فیه الحیاة ویتنسم فیه عبیر الصحة النفسیة، منتفعاً بحصاد التجارب الإنسانیة الثَّرة حیال ما یعتمل الحیاة من صراع ومتغیرات؛ لا سیما وأن الناس یجاملون السعید ویتنكرون للخائب الشقی، إذن الحیاة صعبة، ولا بد فیها من إثبات الذات، فلینطلق إلى أفق آخر، ولیكن بتأن وحذر:

والناس من یلق خیراً قائلون له *** ما یشتهی ولأمّ المخطئ الهُبَلُ

قد یدرك المتأنی بعض حاجته *** وقد یكون مع المستعجل الزلل

فاستعمال (قد) مع الفعل المضارع نهض بمغزى دلالی فی احتمال حدوث الفعل، وفی هذا دلالة على أن الأمل الذی یسعى إلیه قد یتحقق، كما قد یكون مع المستعجل الزلل، إذن لا بد من التریث، والبحث عن الأفضل، والأفضل یتراءى عند رجل الفضل والجود، فلیشد الرحال إلى أبی عثمان، حیث الأمل المنشود.

وهاجس الرجل بالتفاؤل یتراءى منذ مطلع القصیدة، فالتحیة للطلل فی مستهل القصیدة لا تعنی السلام المجرد، بل السلامة، ویؤید ذلك أن من معنى "الطِّول" طیلة العمر؛ جاء فی اللسان: أطال الله طِولك، أی عمرك:

إنا محیوك فاسلم أیها الطلل *** وإن بلیت وإن طالت بك الطَوْلُ طِوَلَكَ

 وهذا یسلمنا أن تراكیب القصیدة تجسد ثابت الحیاة إزاء ثابت الفناء، ویعزز ذلك تشبیهه آثار الطلل بالكتاب الذی مسه البلل ومع ذلك لم تطمس حروفه ومعانیه، وبالسیف الذی تقادم عهده ولم تمح آثار وشیه وجماله:

فهن كالخلل الموشیِّ ظاهرها *** أو كالكتاب الذی قد مسه البلل

وهذا التجاذب بین الزوال والبقاء فی البیت الواحد یوحی بالرحیل العاطفی من ناحیة وبالتطلع للأمل المرتقب، وحب الحیاة من ناحیة أخرى.

د-المفردات:

زخرت أبیات القطامی بمفردات تجاوزت دلالتها المعجمیة إلى دلالة إیحائیة. من ذلك استخدامه لمفردة: "الرواسم" لخصوصیة معناها؛ فهو لم یستخدم مفردة أخرى ترادفها فی معناها ك الرواحل –مثلاً- لأن لفظ الرواسم یوحی بتصور الإبل وهی ترسم على الأرض بأخفافها موحیّةً بمسار الرحلة الصحراویة بكل أبعادها الحسیة والنفسیة. وأیضاً استخدامه لمفردة "الجبل" فهی توحی بمغزى عمیق، ینهض بمعنى الاستقرار والثبات، وعندما یوصف به الممدوح فهذا یعنی تعزیز الثقة بالعطاء، لا سیما إذا كان هذا الجبل شامخاً كالطود العظیم.

ومن ناحیة أخرى نهضت مفردات الأنوثة بوظیفة دلالیة مكثفة عمَّقت تلك الثنائیة، مُشَكِّلَةً عنصراً شعریاً ذا قطبین، الأول: المحبوبة الرمز، وتراءى باسم "علیة" ذلك الاسم الموحی بالعلو والرفعة، والتطلع للأمل المرتقب؛ ولذلك صورها فی مطلع القصیدة بأمل یحن إلیه؛ لكنه بعید المنال، یقتضی شد الرحال، وتجشم الصعاب.

أمستْ علیة یرتاح الفؤاد لها *** وللرواسم فیما دونها عملُ

وعندما أوشك الأمل یلوح بالأفق بدا وجه "علیة" مشرقاً یملأ الآفاق بعبیره الأخاذ، مقترناً بذكر البرق؛ والبرق مصدر للمطر، والمطر حیاة الأرض، وحیاة الأنفس، ومن ثمَّ كان ارتباطه باسم علیة موحیاً بأنها رمز للأمل، لحیاة الشاعر، ویدعِّم ذلك امتزاجه بریا طیبة، مضمخاً بالندى وشذى الخزامى، كنایة عن سمو العطاء وسخائه:

ألمحة من سنا برق رأى بصری *** أم وجه عالیة اختالت به الكلل

تهدی لنا كل ما كانت علاوتنا *** ریح الخزامى جرى فیها الندى الخضل

أما القطب الآخر لخصوصیة مفردات الأنوثة فقد تبدى بذكریات "الأغید الربل" تلك المحبوبة التی تربطها بالشاعر علاقة عاطفیة، تتراءى بالسعادة التی استشرفها قبیل الوصول إلى الممدوح، وهذا الوجود الأنثوی "للأغید الربل نهض بوظیفة أخرى مشكلاً لبنة من بنیة القصیدة المدحیة التی یُعدّ الغزل أحد أركانها، إلى جانب إبانته عن رمزیة اسم "علیة" وأنه لیس اسم الحبیبة على الحقیقة.

ومن المفردات التی وظِّفت توظیفاً إیحائیاً تلك المقابلات التی طرحتها أبیات الحكمة كاشفة عن الجوانب القاتمة والمضیئة فی أخلاقیات الناس وسلوكهم، ممثلة بتلك الثنائیات: الماضی والحاضر، الفقر والغنى، السعید والشقی، السخط والرضى، الصواب والزلل، تحقق الحاجة وإخفاقها، المبادرة والتواكل، العجلة والأناة، تهلیل الناس للمحظوظ وتنكرهم للخائب.

ه-الإیقاع الداخلی:

شكل الشاعر إیقاع قصیدته العام وفق الإیقاع الخلیلی الجهیر الصوت على نغمات بحر البسیط، بید أن الموسیقا الداخلیة للنص زادت من التناغم الموسیقی محاولة المزاوجة بین الشكل والمضمون لتوصیل الرسالة الشعریة، بطریقة جذابة إلى المتلقی.

وقد انسابت هذه الموسیقا وفق مظاهر عدة، كان منها: الصوت، والكلمة، والعبارة، والتوازی بین التراكیب فی ثنایا الأبیات.

فعلى صعید الاستخدام الصوتی كثَّف القطامی من استخدام حرف الهمزة، متكئاً على خصوصیتها الصوتیة المؤثرة، فالهمزة: "انفجار صوتی یثیر انتباه السامع، فاستعملها العربی فی مقدمة معظم أحرف النداء. كما یدل صوتها الانفجاری على الحضور والبروز، فتصدرت ضمائر المتكلم والمخاطب، وما إلى ذلك.."(74)

إذاً لم یكن ولید المصادفة استهلال الشاعر قصیدته بحرف الهمزة، بل واشتمال البیت الأول أیضاً على أربعة حروف همزیة.

ومن نماذج الاستخدام الصوتی تكرار حروف بعینها فی الشطر الواحد، وأحیاناً فی البیت الواحد، من ذلك على سبیل المثال:

ورود حرف "اللام" وهو حرف الروی ست مرات فی البیت الأول، وحرف "الطاء" خمس مرات.

ورود حرف "التاء" ثلاث مرات فی الشطر الأول من البیت الثانی.

ورود حرف "النون" أربع مرات فی البیت الخامس.

ورود حرف "الیاء" أربع مرات فی البیت السادس.

وعلى هذه الشاكلة تتكرر بعض هذه الأحرف وسواها فی ثنایا الأبیات، مما یحقق إیقاعاً موسیقیاً داخلیاً، لیس قائماً على البحر والقافیة، بل على الحركة الداخلیة القائمة على تردد الحرف نفسه واختلاف حركاته فی البیت الواحد، فالموسیقا تسیر فی صعود وهبوط وفق الحركات الداخلیة للحروف متلائمة مع الإیقاع العام؛ من ذلك ما نجده من ورود حرف اللام فی البیت الأول ست مرات بحركات متعددة:

إنا محیوك فاسلمْ أیها الطَّلَلُ *** وإن بَلِیتَ وإن طَالَت بل الطِّولُ

فاللام ابتداءً وردت مفتوحة واختفت وعادت مفتوحة ومضمومة ثم اختفت، ثم جاءت مكسورة واختفت، إلى أن عادت مضمومة مشكلة حرف الروی للقصیدة.

كما تجلى النغم الداخلی وفق مظاهر أخرى نتلمسها بتردد ألفاظ بعینها فی ثنایا الأبیات، مثل قوله: "إلا وهم، كم، إذ لا، فلا هم، هم"(75).

36-أما قریش فلا تلقاهم أبداً *** إلاَّ وهم خیر من یحفى وینتعلُ

37-إلاَّ وهم جَبَل الله الذی قصرتْ *** عنه الجبالُ فما سوّى به جَبَلُ

40-كم نالنی منهم فضل على عَدَمٍ *** إذ لا أكاد من الإقتار أحتملُ

41-وكم من الدهر ما قد ثبَّتوا قدمی *** إذ لا أزال مع الأعداء أنتضلُ

42-فلا هم صالحوا من یبتغی عَنَتی *** ولا هم كدَّروا الخیر الذی فَعَلوا

43-هم الملوك وأبناء الملوك هُمُ *** والآخذون به والسادة الأولُ

وهذا التردد اللفظی قد حقق توازناً إیقاعیاً متناغماً مع الإیقاع الشعری العام.

الإیقاع الخارجی:

شكل الإیقاع الخارجی لمدحیة القطامی میسماً من میاسم الوحدة التعبیریة للقصیدة، فكما هو معلوم أن الوزن العروضی، أو الإیقاع الخارجی یتداعى تبعاً لطبیعة التجربة الشعوریة؛ فالقصیدة تقول ما تقول ابتداءً من إیقاعها الشعری ثم بفضائها التعبیریة الذی یترجم الحالة النفسیة للشاعر مما یوحی بصدق التجربة وتأثیرها. وقد نهض هذا الإیقاع الموسیقی للقصیدة لیخدم الحالة الشعوریة: القلقة ثم المستقرة، فبدا متساوقاً مع هذا التیار الذی اتضح فی تلك المراوحة لحركة الانتقال والسیر عبر الصحراء صعوداً وهبوطاً متناغماً مع حركات تفعیلات البحر البسیط:

مستَفعِلن فَاعِلن مستفعِلن فَاعِلن *** مستَفعلن فَاعِلن مستَفعِلن فَاعِلن

إلى جانب ما أداه حرف القافیة من وظیفة إیقاعیة تراءت بحرف اللام المضمومة المشبعة المتجهة للأعلى متلائمة مع مسار الرحلة فی توجهها الارتقائی نحو الممدوح.

وعلى هذا فالإیقاع الشعری بمحوریه: الداخلی والخارجی قد نهض بوظیفة تعبیریة انضوت فی ثنایا المنظومة العامة للمدحیة، التی شكلت ثنائیة: "القلق والأمل" ركیزتها الرئیسة. مما یمنحنا الثقة للقول: إن القصیدة العربیة التقلیدیة عامة، والمدحیة على وجه الخصوص، لیست على إطلاقها، مفككة الأغراض، مشتتة الأوصال، إنما قد نجد فیها هذا التواصل العضوی الذی هو أداة الناقد والمتلقی لاستعادة وجوده وغایته.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:20|
لمحات.. من أدب أواخر العهد العثمانی فی مدینة حمص 

هذه باقة من الحدیث عن بعض شعراء حمص فی نهایة العهد العثمانی، لم أشأ أن تتخذ طبیعة البحث فی اتجاه واحد، ولكنی أردت لها أن تكون حُسوة طائر ولمحة عابر، إنها إلمامة السائح العجلان یلاحقه نفیر القطار وإلحاح المسافرین.. فإلى بعض المعالم لاكلها.. ولعل إلمامة أخرى وأخرى تتیح لنا الولوج إلى الخبایا والزوایا...

الحدیث عن أدب القرن التاسع عشر فی حمص خاصة وبلاد الشام عامة حدیث ذو خصوصیة، فلیس موضوعه ذاك الموضوع الممتع المشوق، ولا أفقه ذاك الأفق الرحیب المترامی الآفاق الذی یجذب إلیه المتشوق الظامئ، ولیست فیه تلك الومضات الذكیة الرائعة التی تعجب بها العقول، ولا تلك العواطف الدافئة التی تستكین إلیها النفوس.

هذه الأحكام السلبیة التی بدأت بها كلامی قد تكون صادقة على العموم، ولكن أیضاً قد لا تكون شاملة على الرغم من صدقها، فالباحث لا یمكن أن یفقد فی خضم ذلك الأدب بصیص نور هنا وقبساً من النار هناك، وأن من الصخر لما یتفجر منه الأنهار. وإذا كنا لا ننتظر أنهاراً ولا سواقی تتفجر من شعر شعراء ذلك القرن، ولا نتوقع بزوغ شموس منهم فی سماوات الشعر وآفاقه... فإننا لا نعدم لدیهم بعض الدفء والإخلاص نلمسه ونحسه فی مقطوعات من شعرهم وخاصة فی شعر التوسلیات والمدائح النبویة والقصائد ذات المنحى الصوفی.

ونعود إلى مدینة حمص وإلى تاریخ الأدب فیها: یخبرنا الأستاذ المرحوم رفیق فاخوری(1) فی مقالة له أن النشاط الأدبی بدأ یدب فی حمص منذ عام 1930 أو قبله بقلیل، أما الزمن الذی سبق هذا التاریخ فقد وجد فیه أدب لا یسمو على مستوى الأدب العثمانی إلا بمقدار... فالعقم والكلفة یسودانه، وربما فضله أدب عصر الانحطاط من حیث الشكل وسلامة التعبیر(2).. ویمكن أن نضیف إلى قول الأستاذ الفاخوری قولنا: أن تفاهة الموضوعات هی غالباً ما یتسم به شعر تلك المرحلة وأدبها إلا ما نجا لسبب أو لآخر.

ومن الجدیر بالذكر ههنا أن شعر شعراء حمص فی تلك المرحلة من الصعب جمعه، فباستثناء دیوان الشیخ أمین الجندی ودیوان مصطفى زین الدین لا یوجد بین أیدینا أثر آخر مطبوع إلا ما قام بنشره میخائیل بطرس معماری من شعر بطرس كرامة(3) وإبراهیم الحورانی(4) ولم أقف علیهما، أما الآثار الأخرى فهناك دیوان تام حصلت على مصورة له من الظاهریة بدمشق وهو دیوان محمد درویش عجم(5)، وهناك دیوان عمر نبهان الموجود لدی مخطوطاً.. وأخبرنی الأستاذ عبد المعین الملوحی أن لدیه مخطوطاً یشتمل على شعر الشیخ زكریا الملوحی ولم أره.. أما سائر القصائد لسائر الشعراء فهی موزعة فی كنَّاشات لدى الأسر، وبعض الأسر ضنین بها حریص علیها.. ولكن ذلك الحرص لا یستمر فی الأجیال الجدیدة ولا ینتقل إلیها- وقد یكون الحق إلى جانبها- مما یؤدی إلى ضیاع كثیر من آثار شعراء المدینة فی ذلك العصر واندثار أخبارهم.

ومن الملاحظ التی یجب تقدیمها أن أولئك الشعراء كان جمهورهم من فئة العلماء، علماء الدین، الذین لهم مشاركة فی عدد من فنون العلم كالفقه والأصول والمنطق والقراءات... وكان الشعر لدیهم مظهراً من مظاهر البراعة والتمیز من الآخرین.. فالشیخ العلامة خالد الأتاسی(6) معروف فی تاریخ الفقه والقانون بشرحه العظیم للمجلة(7)، ولكنه كان یقول الشعر، والشهید عبد الحمید الزهراوی معروف بعمق ثقافته الحكمیة والفلسفیة والفقهیة والسیاسیة وكان یقول الشعر وقد یرتجله، وعلمت من الشیوخ أن له دیواناً أتلف برمیه فی البئر لدى مداهمة الأتراك لبیته.. وقل مثل ذلك فی سائر الشعراء فی تلك المرحلة، فقد كان معظمهم من حملة العلم ونقلته وملقنیه إلى الأجیال التالیة، ولم یكونوا من الشعراء أصحاب الرؤیة النفاذة الخلاقة ولا من أصحاب الریادة والإبداع.. وأرى أن مثل هذا الحكم لا ینطبق على حمص وحدها وإنما یمكن تعمیمه على بلاد الشام، فقد كان الشعر الحی الخلاّق مفقوداً إلا من بعض الومضات، وكانت سوریة كما یقول الأستاذ أحمد الجندی(8): عالة فی الثقافة الأدبیة والإنتاج الفنی على مصر، ومرتبطة بها ارتباطاً أدبیاً وثیقاً، ولم یكن لدینا شاعر یحسب حسابه، وشعراؤنا آنذاك لم یتأثروا بأحد ولم یؤثروا فی أحد، بل كانوا ینضحون من ذاكرتهم ما وعت من المحفوظات ینظمونها مجدداً.. أو فی قالب آخر دون أن یتكلفوا إیراد معنى نفیس أو خیال طریف... لأن إلهامهم الشعری كان مقصوص الجناح مهیضاً لا یستطیع الارتفاع والسمو إلى الأجواء العالیة، فكلهم قد تعلموا النظم، ولكنهم لم یلهموا الشعر، لذلك یمكننا أن نعد عشرین واحداً منهم ممن یجید النظم، ومع ذلك قد لا نحظى بقصیدة واحدة لهم جمیعاً تستحق تسمیتها بالشعر. ولكن إذا كانت هذه الأحكام صحیحة أو على قدر محدود من الصحة فما فائدة تتبع أخبار هؤلاء الشعراء وما الغایة من الاهتمام بشعرهم أو الكاتبة عنهم؟!

والجواب: إن ذلك الجیل یمثل حلقة من حلقات تاریخنا الأدبی قد تعجبنا أو لا تعجبنا ولكنها كانت حقیقة واقعة فهی تستحق التسجیل والحفظ والبحث والدرس ولها ما لها وعلیها ما علیها، وهی على كل حال كانت مرآة لعصرها، وإذا كان ذلك العصر یتصف بالخمود والخمول فمن أین التألق والصفاء؟

ویجب أن نذكر أن شعراءنا فی تلك المرحلة كانوا علماء شعراء فی عصر یعز فیه وجود القارئ الكاتب ربما فی حی بأكمله أو فی أسرة بقضها وقضیضها.. فآثارهم إذن هی من أهم ما تبقى لنا من آثار عقلیة لجیل كامل. زد على ذلك أن كثیراً من الأحداث المحلیة كإقامة بناء ما أو مجیء والٍ أو رحیل باشا أو حدوث شغب... كل ذلك كان یسجل فی الشعر.. فشعرهم بغض النظر عن قیمته الأدبیة یتضمن فوائد تاریخیة واجتماعیة وأثریة. هذا ولعل ولوجنا حرم أولئك الشعراء ومخالطتنا لشعرهم سیعدل من أحكامنا العامة القاسیة تجاه بعضهم على الأقل، وسأختار بعض شعراء ذلك العصر وأتحدث بإیجاز عن كل واحد منهم، وسأبدأ بأعرفهم وأكثرهم شهرة وشیوع ذكر، أعنی بالشیخ أمین الجندی.

الشیخ أمین الجندی:

ولد فی حمص عام 1766م وبها تلقى علومه الأولى على الشیخ محمد الطیبی والشیخ یوسف الشمسی، وتابع تحصیله فی دمشق على ید عدد من علمائها كالشیخ أحمد العطار وعبد الرحمن الكزبری وغیرهم، وله فیهم قصائد مدیح رنانة. وعرف الشیخ بتعلقه بآل الكیلانی ومدیحه لهم. ولما جاء إبراهیم باشا سنة 1247هـ قرّب الشیخ أمیناً إلیه وجعله ندیمه، وكان الشیخ ینظم القصائد مصوراً انتصارات إبراهیم باشا وهزائم الأتراك:(10)

هذا ولما فاض جور الترك فی *** ظلم العباد وصار أمراً مشكلا

وتظاهرت أعمالهم بمقاصد *** ومظالمٍ وحوادثٍ لن تقبلا

سلبوا البلاد من العباد فلا ترى *** فی حكمهم ذا نعمة متمولا

والملك ملك الله یؤتیه الذی *** قد شاء لا هو بالوراثة والولا

من یخبر الأتراك أن جیوشهم *** هُزمت وأن "حسینهم" ولَّى إلى

وقد لا تكون لهذا الشعر أهمیة فنیة، لكن الخطورة فیه آنذاك والأهمیة الكبرى أنه أنكر حق الأتراك فی الحكم وجعلهم من المغتصبین له ومن المحرّفین لكتاب الله، وقرر أن الحكم إنما هو للعرب، لذلك شن حملة شعواء فی هذه القصیدة على أنصار الأتراك من العلماء السائرین فی ركابهم، والذین یزینون أعمالهم على أنها هی الحق ویشاركونهم فی ارتكاب المظالم:

ومشایخ الإسلام أصبح جهلهم *** علَماً فلم تر قط منهم أجهلا

وقضاتهم للسحت قد أكلوا فهل *** أبصرت حیاً من مضرّتهم خلا

زعموا أولی الأمر الولاة وغرّهم *** فی الآیة الاصغا لمن قد أوّلا

نعم الخلافة فی قریشٍ أصلها *** وبها لقد جاء الحدیث مسلسلا

ولا شك أن هذا الصوت نادر آنذاك، له قیمته القومیة وإن كان فجاً من الناحیة الفنیة. وقد سافر الشیخ أمین الجندی إلى القاهرة صحبة إبراهیم باشا الذی قدمه إلى والده محمد علی باشا بقوله: أتیت لك بأعز هدیة من البلاد الشامیة. وأنشد الشیخ الجندی بین یدی محمد علی قصیدة امتدحه بها، ابتدأها بغزل جمع فیه ما استطاع من السابقین:

بدت شمساً وماست سمهریا *** وغنت بلبلا ورنت ظُبیا

وسلَّت من لواحظها جهاراً *** على العشاق عضباً مشرفیا

مهاةٌ ما رآها البدر إلا *** تمنى أن تكون له محیا

سرتْ والنور یغشاها سُحیراً *** وعرف المسك یصحبها ملیا

وسرتُ وراءها وأنا سعید *** بلثمی نعلها الرطب الذكیا

وبعد أن لثم نعلها وصل الشیخ إلى ما یسمیه علماء البدیع بحسن التخلص فانتقل من الغزل إلى المدیح:

إلى أن أجلستنی فوق عرشٍ *** لدى قصر حوى روضاً بهیا

ذكرت لها الأفاضل فاستهلتّ *** بمن لأبی الحسین غدا سمیا

إماماً عارفاً براً تقیا *** خفاجیاً كریماً أریحیا

ویستمر بإیراد معانی المدیح مستعرضاً ما وعته ذاكرته.. ولا أرید أن أطیل فی الحدیث عن الشیخ الجندی لأن حیاة الرجل وشعره ومواقفه یمكن أن تقصر حدیثنا علیه وما إلى هذا قصدنا، لذلك سأختصر حدیثی بإشارات سریعة إلى ما أراه هاماً فی شعره.

لا شك فی أن الشیخ كان مشغوفاً بالجمال، ذا قدرة رائعة على النظم، ولكن سلاسل التقلید الشعریة كانت أقوى منه ومن غیره فرسف فی أغلالها، فامتلأ دیوانه بالتخمیس والتشطیر واستخدام مصطلحات العلوم التی كثیراً ما أساءت إلى الشعر وسلبته تدفقه وحیویته.. ومع ذلك ففی دیوانه ومضات ولموسیقاه نفثات ومن منا لا یطرب لقول الشیخ ترتله حناجر المنشدین:

یا غزالی كیف عنی أبعدوكْ *** شتتوا شملی وهجری عودوكْ

 ***

قلت: رفقاً یا حبیبی قال: لا *** قلت: راعِ الودَّ یا ریم الفلا

قال: من یهوى فلا یشكو البلى *** قلت: حسبی مدمعی لی قال: لا

 ***

ذاب قلبی فی هوى بیض اللَّمى *** واستهلّ الدمع من عینی دما

ثم ودعت حیاتی عندما *** فأرقونی. یا ترى كیف السلوكْ

ومن لا یترنح مع ضربات الإیقاع على قوله:

هیَّمتنی تیَّمتنی *** عن سواها أشغلتنی

عاتبی ماذا علیها *** باللقا لو أتحفتنی

ولا یزال شعره یغنَّى حتى أیامنا، وسمعت أن أصحاب هذا الفن فی حلب یعتنون بأدوار الشیخ الجندی عنایة فائقة.

وأترك الشیخ الجندی وأنتقل إلى الحدیث عن شعراء لم تطبع دواوینهم، وقد عاش أكثرهم وتوفی فی القرن التاسع عشر، وأحدهم كان مخضرماً بین التاسع عشر والعشرین، ولكنه فی أشعاره لم یكن سوى امتداد لما كان علیه الشعر قبله على الرغم من معاصرته لشوقی وحافظ ولغیرهم من مبدعی الشعر. وسأذكرهم حسب تسلسل وفیاتهم الأقدم فالأقدم وسیكون المقدم ذكره الشیخ زكریا الملوحی.

زكریا الملوحی:

هو زكریا بن إبراهیم بن علی الملوحی، ولد وتوفی فی حمص، ورجح المرحوم أدهم الجندی أن وفاته ربما كانت بین عامی 1843-1848م. وذكر الجندی أنه لم یعثر لهذا الشاعر إلا على أبیات قلیلة رواها فی كتابه.

وقد ساقت إلی المصادفة كنَّاشاً اشتمل فیما اشتمل علیه، على عدة قصائد للشیخ زكریا مما جعل.. فی الإمكان التعریج على شعر هذا الشاعر فی حدود ما عثرنا علیه.

القصائد التی حفظها الكنَّاش معظمها ذو منحى صوفی، وهی على قلتها تدل على علو كعب الشاعر وعلى مقدرته على نظم القریض، كما تشیر إلى التأثیر العمیق الذی أحدثته ثقافته الدینیة والصوفیة فی شعره.

والحق أن الشیخ كان ینهج فی شعره منهجاً مطروقاً ویسیر فی طریق لاحبة عبَّدها من سبقه من شعراء التصوف. وأتى هو ینسج على منوالهم، ویشطِّر أشعارهم أو یخمّسها، ویستخدم أسالیبهم الرمزیة فی التعبیر عن حبه للذات الإلهیة وذلك بالغزل الحسی فی الظاهر، وإفهام هذا الغزل بالرموز التی تصرف المعانی عن ظواهرها وتشیر إلى المقصود منها، وتبعد عن الخاطر تلك المعانی الظاهرة الطافیة على السطح، ولنأخذ مثالاً على ذلك بعض أبیات له من قصیدة "مد المدید":

ذات حسن ذكرها سكَر *** وجها تعنو له الصورُ

مذ تبدّت فی محاسنها *** تنجلی حارت بها الفكر

إن هذا الكون مظهرها *** یقظة یا من له نظر

نسبةٌ هذا الجمال لها *** ظاهراً، فالمبتدا الخبر

فالبدایة كما نرى غزلیة وعادیة جداً، ثم أتت التلمیحات والعبارات التی تصرفنا عن الدلالات الحسیة إلى فهم ما یرنو إلیه الشاعر وهو التغنی بجمال الذات الإلهیة المتجلیة ظاهراً فی جمال هذا الكون.

ویمیل الشیخ الملوحی فی معظم ما وجدناه من شعره إلى استخدام مصطلحات العلوم التی یعرفها، ویفسح المجال لولعه الشدید بالمحسنات البدیعیة، ویتفنن فی إیرادها، ولنقف لدن هذه الأبیات: (من الطویل)

أریح الصبا مُرّی على حیّ من أهوى *** وقولی له: مضناك أودت به الأهوا

وحییه عنی یا ریاح تحیة *** معنعنة عنها حدیث الهوى یروى

وبثِّیه أشجانی ووجدی ولوعتی *** وكیف عِنانی عنه فی الحب لا یُلوى

أبیت اللیالی ساهر الطرف ساجیاً *** وروض هجوعی كله یابس أحوى

وأصبح مسلوب الجنان مولِّها *** كمجنون لیلى غارقاً لا أرى الصحوا

وطُور اصطباری دكه عاصف الجوى *** غراماً بمن أضحى فؤادی له مأوى

وأثر الصنعة أبرز من أن یخفى، وكأن الشاعر یصوغ شعره صیاغة عقلیة، فهو یمد یده إلى معارفه المتنوعة یتناول منها ما یرید، لیبنی به القصیدة، فتأتی القصیدة كأنها بناء استمدت حجارته من مقالع مختلفة، لكن الغایة توحد هذا التعدد، وما الغایة ههنا سوى أن الشاعر یعبر عن مواجده بهذه الطریقة التی ارتضاها لنفسه، وارتضاها عصره لشعرائه. وقد لاحظنا استخدامه لمصطلحات بعض العلوم "معنعنة، حدیث، یروى" كما لاحظنا كیف استمد من القرآن سورة الطور الذی دُك لمَّا تجلى الرب لموسى، وأخذ من الأدب قصة مجنون لیلى إلى أن وصل فی النهایة إلى تقریر حبه لأحبائه حتى الموت. وقبل أن ندع الشیخ زكریا أحب أن نستمع إلى مقطوعة أخرى من شعره الصوفی: (من الطویل)

حبیب له بالحسن قامت شهوده *** وأُدهش فی مجلى المال شهوده

إذا شامه المشتاق أوما بوجهه *** ركوعاً، وإن حیَّاه طال سجوده

بأوج البها قد أشرقت شمس حسنه *** ولاحت بأفلاك المعانی سعوده

فما جنَّة الفردوس إلا لقاؤه *** وما النار والأهوال إلا صدوده

فهل أنت یا أعمى البصیرة مبصر *** من الحسن ما عینی وقلبی یروده

وفی ختام حدیثنا عن الشاعر نشیر إلى أن الرجل كان معروفاً بلقب الحافظ لحفظه القرآن، وكان عالماً بالموسیقا بارعاً فی الخطابة، حاضر البدیهة، له موشحات بدیعة، وقد كف بصره فی أواخر حیاته، ولا یزال بعض الناس فی حمص حتى أیامنا هذه یحفظون له أبیاتاً فی تاریخ وفاة أو ولادة أو بناء. ویبدو أنه كانت له مكانته فی مدینته وكانت له مشاركة ما فی الحیاة الفنیة آنذاك.

رسلان زین العابدین: (ت 1879م)

انتقل الآن إلى الحدیث عن شاعر آخر، عرف فی حیاته بالأدیب، واشتهرت أسرته بسبب لقبه بآل الأدیب.

على یمین الخارج من سوق الحشیش باتجاه الغرب، وقد خلف وراءه مسجد القاسمی، وتحت أقواس عقدٍ متداعیة وإلى الأمام قلیلاً تقع "زاویة" مهجورة الآن، یتصدرها قبر الجد علی زین العابدین الذی أتى إلى حمص من ناحیة (أورفه) فی تركیا منذ حوالی مائتی عام، وأقام عقبه من بعده فی حمص.

خلَّف الشیخ علی ولداً واحداً هو الشیخ رسلان الذی عُرف بأدبه وشعره ولقِّب بالأدیب، وقد ذكره الوفائی(11) فی تاریخه فقال فیه: "كان رجلاً عالماً أدیباً فاضلاً عاقلاً متكلماً" وكان شأن آثاره شأن غیرها من آثار معاصریه فقد آلت إلى الضیاع ولم یقم أحد بحفظها حتى ذووه فإنهم لم یحفظوا شیئاً منها، وبعد البحث والسؤال عثرت له على قصیدة واحدة لدى الأستاذ عبد المهیمن زین العابدین، وهی مطبوعة فی مصر وعدد أبیاتها (89) بیتاً، وهی لا تختلف فی شیء عن قصائد المدیح النبوی المعروفة فی تلك الأیام. فالشاعر یحشد كل صفات المدیح وأخبار المعجزات التی تنسب إلى رسول الله  ویقارنها بمعجزات غیره من الرسل ثم یفضله علیهم، ثم یخلص إلى الاعتذار عن تقصیره فی مدیح الرسول، وتتسم القصیدة عموماً بالركاكة الأسلوبیة آفة العصر آنذاك قال:

یقولون لی: تمم لنا وصف أحمدٍ *** فإنك ذو علم ولست بجاهل

فقلت لهم عدّوا النجوم جمیعها *** ولا تهملوا عدّ النجوم الأوافل

فإن تستطیعوا عدّها بتمامها *** فقولوا لمثلی: صف لأكمل كامل

وینتقل الشاعر بعد ذلك إلى الاستغاثة بالرسول متوسلاً بنسبه الشریف طالباً الرحمة ببركة النسب والقرابة:

وإنی لفرع من فروعك سیدی *** ولی نسبة للمرتضى بالتناسل

فكم من مرة یا خیر من وطئ الثرى *** تداركنی من كید ضدّ مزایلی

ثم یتوسل بكبار الصحابة واحداً واحداً حتى یصل إلى التوسل بشیخ الطریقة القطب عبد القادر وبسائر المشایخ كالدسوقی والرفاعی والبدوی إلى أن یصل إلى حسن الختام:

وصلّ إلهی كل وقت وساعة *** على المصطفى نور البدور الكوامل

كذا الآل والأصحاب ما قال واقع *** بباب ندى المختار حطت رواحلی

وكان الشاعر بدأ قصیدته بقوله:

بباب ندى المختار حطت رواحلی *** فحاشا لطه أن یرد لسائلی

هو الحامد المحمود والحاشر الذی *** هو الواصل الموصول بل خیر واصل

ولا شك أن للشیخ شعراً كثیراً بدلیل شهرته بالأدیب، ولكن لیس بین أیدینا غیر هذه القصیدة، لذلك یمكننا أن نقول اعتماداً علیها: إنه كان شاعراً عادیاً لم یستطع أن یخرج عن ركاكة الأسلوب السائدة فی عصره، ولكنه على كل حال یبقى اسمه إبان عصره شاعراً- كائناً ما كانت نظرتنا إلى الشعر- بل كانت له شهرة بذلك ونال سمعة طیبة وحسن ذكر.

توفی الشیخ رسلان سنة 1879 ودفن بمقبرة "باب هود".

محمد عجم "ت 1894":

هو محمد بن عبد الرحمن عجم، ذكره الأستاذ عمر رضا كحالة فی معجم المؤلفین ولم یذكر له تاریخ ولادة ولا وفاة، إلا أن المؤرخ عبد الهادی الوفائی ذكر أن وفاته كانت عام 1312 = 1894م.

هذا الشاعر جمع دیوانه بنفسه، وذكر فی مقدمته أنه جمع شعره نتیجة لإلحاح أصدقائه، ویقول: أنه استنكف مراراً لأنه لیس من فرسان هذا المیدان، لكن من قبیل التقلید- وهذه عباراته-. ویستفاد من قراءة الدیوان أن صاحبه كان یعمل موظفاً "عدّاد أغنام" وكان یحرص على مدیح الرسمیین آنذاك.

بدأ دیوانه بقصیدة بمدیح الرسول تبركاً، ثم انتقل إلى مدیح "البكوات" و"الأفندیة" فمن نماذج مدیحه قوله یمدح محرّم "بیك" بن إسماعیل "بیك" قائمقام حمص سنة 1292هـ: (من الكامل)

إن طاب عیشك بالمسرة أو صفا *** قبل الفوات، فوات دهراً أنصفا

خذ فرصة اللذات صاح ولا تكن *** ممن تمنَّع بل تمتَّع بالصفا

لیل العناء لقد تولى هارباً *** إذ سلّ برق الأنس سیفاً مرهفا

والسحب جاد على الرباء بطلِّه *** والروض فی زهَر الربیع تزخرفا

فبخٍ بخٍ طابت مواسم أنسنا *** والهمُّ عنا قد ترحَّل واختفى

هذا محرّم قد وفى لسمیِّه *** وبطالع الإسعاد جاد وأتحفا

هیَّا نهنیه بأسرع همةٍ *** فی خیر عامٍ بالمسرّة قد وفى

ثم یستطرد الشاعر فی ذكر صفات الممدوح، فمحرم بیك لیث الشرى ودری اللفظ ویوسفی الحسن إلى ما هنالك...

فإذا ما انتهینا من باب المدیح انتقل بنا الشاعر إلى التشطیر والتخمیس والمطرزات، ثم یلی ذلك الأدوار الغنائیة، فنستمع لدیه إلى مثل هذه الأنغام: (مجزوء الرمل)

یا نسیم الصبح بلِّغ *** جیرة الشِّعب الیمانی

حال صبّ مستهامٍ *** یرتجی نیل الأمانی

یلی ذلك باب للرثاء ولذكر العمران، وباب الألغاز وآخر للهجاء، وهجاؤه بذیء اللفظ عاهر الصور، یستخدم فیه ما هب ودب من ألفاظ بذیئة ولعل هذا ما دفع المؤرخ الوفائی إلى الإعجاب به فقال: وله هجو ظریف. إننا أمام شاعر أنصف نفسه وشعره منذ مقدمة دیوانه فهو یعترف بأنه یقول ما یقول من باب التقلید، والحقیقة أنه نظَّام، ولكن لیس من المستوى الرفیع ولا الوسط.. وقیمة دیوانه لا تنبع من قیمة شعره ولكن من كونه یقدم لنا نموذجاً تاماً من أدب ذلك العصر، ولأنه یقدّم لنا فوائد تاریخیة تتعلق بجزیئات تاریخ المدینة كأسماء القضاة والحكام وتاریخ بعض الأبنیة، ولیته اقتصر على ذلك، ولكنه ملأ دیوانه بقصائد ذات مناسبات تافهة كولادة طفل أو زواج فلان وموت فلانة من الناس العادیین الذین لیس لهم خبر یروى ولا أثر یحفظ ولا عمل یذكر. ولا ینجو شعره فی أحسن حالاته من ركاكة أسالیب العهد العثمانی، وقد لا یخطئ طرافة الفكرة ولكن لا یستقیم لدیه التعبیر عنها، لنسمعه مثلاً یقول: (من الكامل)

لو كان لی كالعاشقین عواذل *** لجعلت ذمّ العاذلین تغزُّلی

ولو أنهم حشدوا جیوش مكایدٍ *** لسعیت فی تشتیتهم وتوصلی

لكن محبوبی تعشَّق نفسه *** فی نفسه وكذاك أعظم مشكل

قد هام فی لاهوته ناسوته *** فُقد العذول فما یكون تحیِّلی

فإذا ما نظرنا إلى هذه العبارات "توصلی، وكذاك أعظم مشكل... الخ" أدركنا ما تجنیه ركاكة التعبیر على الفكرة مهما تكن طرافتها.

ومن أمثلة مطرزاته "والمطرزة مقطوعة من المنظوم إذا أخذت الحرف الأول من كل بیت من أبیاتها تركب لدیك الاسم المقصود" قوله مطرزاً باسم "عارف": (من الوافر)

علقت بأغیدٍ حلو التثنی *** وقلبی من لظى الهجران خائفْ

أبى قربی لدیه وصدّ عنی *** غزالٌ قد حوى أسنى اللطائف

رنا عجباً وهزّ قضیب بان *** كحیلُ الطرف مسدول السوالف

فقلت له رویدك فی المعنَّى *** فأنت بحالة العشاق عارف

ولا أحب أن أطیل أكثر من ذلك فی كلامی عن محمد عجم، وفی الحدیث عنه متسع ولكنی أحب أن أنقل إحساساً فحواه أن الرجل ربما كان یملك فطرة شاعر وتوثبه، لكن ثقافة عصره وتقالیده الفنیة كانت أقوى منه بكثیر، فسار على الدرب وقنع بالشعر صنعة عقلیة طریقها النظم.

وأتساءل: أیستحق دیوانه أن یحقق وینشر؟

أظن أنه یمكننا أن نجیب بـ(لا) فلیس هناك ما یسوغ نشر مثل ذاك الشعر وقد لا یستحق ثمن الورق الذی سیطبع علیه..

ویمكننا أن نجیب بـ(نعم) على تردد، لا لأن الشعر یستحق ذلك، وإنما لبعض الفوائد التی یمكن أن یستمد شیئاً منها بعض الباحثین فی أمور ذلك العصر من الوجهة الاجتماعیة والسیاسیة والاقتصادیة والأدبیة.

عمر نبهان ت 1898م:

هو الشیخ عمر بن عبد القادر نبهان، لم أستطع تحدید ولادته، ولكنه بالتأكید ولد فی مطلع القرن التاسع عشر، ولم أستطع الحصول على تفصیلات تتعلق بنشأته وأطوار حیاته، ولكن من الثابت فی حدود ما سمعته أن نشأته كانت دینیة خالصة، یخالطها زهد وتقشف ورغبة عن متع الحیاة، كان یعمل حتى الظهر فقط، وما بعده خصصه للعبادة وطلب العلم مرافقاً أولاده الأربعة إلى حلقات العلم فی المسجد: عبد القادر وحامد ومحمد وأحمد، ویبدو أنه كانت له مبادرة إلى عمارة المساجد أو ترمیمها، فهناك مسجد لا یزال یحمل اسمه فی "باب الدریب" كما تدل لائحة أسماء المساجد فی مدیریة الأوقاف بحمص، وهناك مسجد آخر مشهور باسم مسجد الشیخ عمر فی الحمیدیة، وحدثنی بعضهم أنه المقصود به.

عثرت على دیوانه الصغیر مصادفة، وهو مكتوب بخطه، وقد قصر شعره على مدح الرسول الأعظم، وقدم لدیوانه بمقدمة حدد فیها موضوع شعره فقال: "فهذا ما یسر الله تعالى من مدح سید المرسلین وحبیب رب العالمین محمد " وقد كان شعره منسجماً مع مقدمته، فلا نعثر فی دیوانه على بیت واحد تقرب به وتزلف إلى أحد، وله قصیدتان فی مدح شیخه أحمد الاروادی ولیستا فی حقیقة أمرهما إلا امتداداً لمدیحه النبوی وسنقدم بعض نماذج من شعره قبل تقدیم تعلیقنا الأخیر، قال یمدح الرسول: (من الكامل)

قسماً بمكة والحطیم وما حوى *** قلبی سوى مدح ابن رامة ما حوى

وبطیبةٍ والبانِ ثم بحاجرٍ *** وبمرقدٍ جسمُ الحبیب به ثوى

كم لیلة قد بتِّها متفكراً *** وبمهجتی نار یؤججها النوى

شوقاً إلى تلك الأماكن لا إلى *** (حمص) وإن نسبوا لها طیب الهوى

یا خیر مبعوث أتى بشریعة *** غراء فیها من تمسَّك ما غوى

حاشا محبك أن یبوء بخیبةٍ *** ولكل شخصٍ فی المحبة ما نوى

یا أیها الشادی- فدیتك- لی أعد *** ذكر الحجاز ولا تعرّض بالنوى

وأعد علیّ ثنا أجلّ الأنبیا *** طه الذی ما كان ینطق عن هوى

إن هذا الشاعر كما نرى ینطلق انطلاقاً عفویاً فی شعره لا تغلَّه المحسَّنات، ولا تكبله القیود، ولكن ما یسیء إلى شعره هو تلك الركاكة الأسلوبیة التی نلمحها بین حین وآخر، والركاكة لا تعنی الغلط ولا تعنی العامیة، وإنما تتمثل فی العجز عند التصرف باللغة، وتنشأ من عدم تمكن الأدیب من اللغة التی یكتب بها لافتقاره إلى معرفة أصولها وإدراك أسرارها، ولقلة بصره بالفروق الدقیقة بین دلائل المفردات ومعانی التراكیب ومناسبات الجمل وروابطها(12)، وأول دلائل الركاكة شعورنا بثقل الشعر الذی نقرؤه وإحساسنا بأن الشاعر یرقِّع شعره هنا ویرفوه هناك، فمن عبارة زائدة، ومن قافیة قلقة، ومن ضرورة قبیحة. والحق أن الركاكة كانت آفة الكتابة والشعر فی عصور الانحدار ولیست مقصورة على القرن التاسع عشر، ولكن ربما بلغت أوجها فی تلك القرون المتأخرة.

ونعود الآن إلى شاعرنا الشیخ عمر، كنا ذكرنا أن له قصیدتین فی مدح شیخه أحمد الاروادی، ویبدو من قراءة النصین أنهما قیلا بمناسبة وصول الاروادی إلى حمص، وهو شیخ النقشبندیة، وكان وصوله یوماً مشهوداً بدلیل ما ذكره الوفائی: "فصادف یوماً بأن الشیخ أحمد الاروادی كان مشرّفاً لحمص وحاضراً عن طریق طرابلس من بلده جزیرة ارواد، فخرجت العالم لملاقاته...".

وهؤلاء المشایخ أعنی المتصوفة كانوا آنئذ یتمتعون بسلطة أدبیة واسعة، وكانوا موئلاً یحتمی بهم الناس من ظلم الحكام وعسف الأشقیاء، كما أشارت إلى ذلك حوادث كثیرة ذكرها المؤرخ الوفائی. وسنستمع الآن إلى شیء مما قاله الشاعر فی استقبال شیخه: (من الكامل)

خذ من وجوه العارفین إشارة *** وبشارة تنجی من الهلكات

واسأل بهم مولاك ما ترجوه من *** كشف الهموم وسائر الخیرات

فهم الوسیلة فی الدُّنا لمن اهتدى *** وبهم نروم زیادة الحسنات

لما أتى (حمصاً) بدا بدر الهنا *** فیها وأشرق طالع الشطحات

وأنالنا من فیضه ذخراً لنا *** نلقاه یوم العرض فی المیقات

یوماً یرى فیه السعید نجاته *** وعلیه راضٍ بارئ النسمات

فمدیحه لشیخه مرتبط بالمعانی الدینیة، ولیس بعیداً عن المدیح النبوی، لأنه كان یرى أن شیخه مسلسل النسب إلى الحضرة النبویة. ویمكن أن نلخص أحكامنا بأن هذا الشاعر یتسم بالبساطة والعفویة والانطلاق مع مواجده، متحرراً بقدر ما تتیحه له ظروفه من قیود المحسنات والزخارف، ولولا الركاكة التی وقعت فی شعره لكان حكمنا على شعره أقل قسوة من أحكامنا العامة التی قدمناها بین یدی هذه السطور.

ولیسمح لنا القارئ أن ننتقل به الآن إلى شعر الطرافة، شعر المآكل، إلى مائدة مصطفى زین الدین الحافلة بأطایب الطعام.

مصطفى زین الدین (ت 1900م)(11):

من شعراء حمص فی القرن التاسع عشر من یدخل شعرهم فی باب الطرافة وحدها، فالشعر عندهم لیس تعبیراً عن مواجد ولا صبوات، وإنما الهدف منه الإطراف وإمتاع الأسماع بما تهواه وتضحك له الأفواه. ومن هذا النمط وعلى هذه الطریقة كان مصطفى زین الدین.

ولد هذا الشاعر فی حمص عام 1245هـ- 1826م ودرس على علمائها، واطلع على معالم الثقافة العامة المعروفة فی عصره على ید شیوخ مدینته، وحفظ الشعر وتعلَّق بالموسیقا، وكان حسن الصوت، لذلك كله اهتم به الشیخ أبو النصر ابن الشیخ عمر الیافی صاحب المنظومات والقدود وصحبه معه إلى الآستانة. وصار زین الدین منشد الحضرة عند الشیخ الیافی، ثم سافر إلى المدینة المنورة، ثم طاف البلاد المصریة. ولما عاد الشیخ زین الدین إلى حمص وجد شهرة الشاعر الحموی المعروف بالهلالی(14) قد طارت فی الآفاق فدفعته شهوة الشهرة إلى منافسته، فشمر عن ساعد الهمة لمعارضته ومبارزته.

وكان زین الدین شدید الفطنة والزكانة فقلَّب نظره وأعمل رأیه فرأى أن اهتمام الناس بمآكلهم وإشباع بطونهم یفوق اهتمامهم بما یقدمه الهلالی من غزلیات ومن مدائح یقدمها لشخصیات مدینته.. لذلك جعل زین الدین شعره فی وصف المآكل والقدور، فكان یأخذ قصائد الهلالی ویعارضها مستبدلاً موضوعها بما یقدمه من وصف للمآكل، فكان الناس ینصرفون عن الهلالی وشعره ویقبلون على قراءة معارضات زین الدین، وبعضهم كان یحفظها ویرویها، فكان ذلك یشعل الغیظ ویثیر الحنق فی صدر الهلالی.

وقد كتب لأشعار زین الدین البقاء بسبب اهتمام الناس بها، وقام أحد أصدقائه وهو الأدیب محمد الخالد جلبی(15) بجمع أشعاره فی دیوان سماه "تذكرة الغافل عن استحضار المآكل الموسوم بالمعارضات الزینیة على المنظومات الهلالیة"(16).

ولزین الدین أشعار غیر شعره فی وصف المآكل، وهی على نمط شعر عصره من حیث الاحتفال بالبدیع والتطریز وما شابه ذلك، وسنقف الآن مع بعض نماذج من شعره مما قاله فی المآكل، معارضاً قصائد الهلالی: (من الخفیف)

قذف الدهن من فواه القدور *** واستوى الطبخ واستقامت أموری

ودعاة الطعام نادوا هلموا *** أیها الجائعون خمص الخصور

وأجیبوا فیها المدارج صفَّت *** فی ضواحی المیماس بین الزهور

بین قوم على اللحوم عكوف *** قد تبدت خرفانهم كالبدور

یا صدیراً حوى الكنافة بصما *** من یفی حق سعیك المشكور

وتسیر القصیدة على هذا النمط، تذكر السمن ونوعه وریحه، ثم تذكر "القطایف" و"القراص" والرز والحلیب واللبن وغیرها.

ولعل سبب اتجاه زین الدین ونجاحه فی هذا المضمار أنه كان شدید الولع بالطعام وأطایبه، وقد ذكر مترجمه الحلبی قصصاً تكاد لا تصدق عن نهمه وشدة حبه للطعام وإكثاره منه، حتى لقد كان یأكل وحده قدر ما یأكله عدد من الرجال مجتمعین، وسمعت أیضاً بعض الأخبار التی تؤكد ما ذكره الحلبی. وله قصص طریفة، فقد سافر إلى حماه ورفع علیه الهلالی دعوى فی المحكمة وحضر المحاكمة أعیان البلد ووجوهها لیشهدوا تلك المحكمة الأدبیة الطریفة، وقد سجل ما دار فیها من مطارحات ومحاورات، وكان الناس یهتمون بشعره وحسب علمی فقد طبع دیوانه ثلاث طبعات على الأقل.

ومن شعره فی غیر المآكل ما رواه المرحوم أدهم الجندی فی كتابه أعلام الأدب والفن: (من الطویل)

رمانی بسهم من لحاظٍ فواتكٍ *** غزال له دانت أسود المعارك

فما البدر یحكیه ولا الغصن إن بدا *** أو اختال من ثوب البها فی مسالك

یلذ لی التعذیب فی حب من غدا *** وأصبح من دون البریة مالكی

ونختتم حدیثنا عن الشاعر بوقوفنا معه وهو یتحدث عن الكبة: (من الرمل)

هاتها كبة هبرٍ بُسطت *** بالصوانی بعد ضرب وامتهان

یا لها حمراء بالسمن انقلا *** وجهها بالفرن آناً بعد آن

منسف الرز به جیء بعدها *** ذو محیا منه قد ضاء المكان

ولا یخفى ما فی نظم زین الدین من ركاكة أسلوبیة تشفع لها طرافة الموضوع وضیق حیزه.

توفی الشیخ زین الدین إثر نزلة صدریة فی حمص عام 1319هـ = 1900م وقد أعقب من الذكور المرحوم نجیب زین الدین الذی ما زال یضرب المثل حتى الآن فی حمص بنداوة صوته وجمال أدائه وروعة غنائه.

الشیخ عبد الحمید الزهراوی (ت 1916):

كان من المفروض أن یكون مسك الختام أن نتحدث عن السید عبد الحمید الزهراوی لكننا تحدثنا عنه لدى نشرنا شعره فی مجلة التراث العربی مما أغنانا عن التكرار ههنا. ونأمل أن یتاح لنا أن ننشر مقالة أخرى حول شخصیات من العصر نفسه.

وقد رأینا أن نلحق بهذا المقال قصیدة الشیخ أمین الجندی التی مدح بها إبراهیم باشا وهی غیر منشورة فی دیوانه كما أشرنا، وقد ساعدنی فی قراءتها وقدم قراءات صحیحة فیها أخی الأستاذ خالد الزهراوی، ومع ذلك فقد بقیت فیها هنات لم نستطع استدراكها. ویجب أن نشیر إلى أن نشرها إنما هو لقیمتها القومیة آنذاك لا لقیمتها الأدبیة، وقد عثرت علیها مكتوبة على كراس بالحبر الصینی على ورق قدیم متآكل، لذلك رأیت فی نشرها حفظاً لها من التلف والضیاع، ویجب أن أشیر أیضاً أن بعض استعمالات الشیخ فی قصیدته لبعض الألفاظ كانت عامیة. أما الأحداث التاریخیة التی أشارت إلیها القصیدة فیمكن مراجعتها ومعرفة الشخصیات التی ذكرت فیها فی كتاب مختصر تاریخ سوریة للمطران یوسف الدبس 2: 287 وكتاب المناقب الإبراهیمیة والمآثر الخدیویة ص 48 وما بعدها وسائر الكتب التی فصلت القول فی تاریخ محمد علی وابنه إبراهیم باشا.

الحواشی:

(1)-المرحوم الأستاذ رفیق فاخوری من شعراء قطرنا البارزین، عمل طوال حیاته بالتعلیم. ولد 1909 وتوفی سنة 1985 كتب عنه الأستاذ أحمد الجندی فی كتابه شعراء سوریة.

(2)-من مقالة للمرحوم الفاخوری نشرت فی مجلة المعلم العربی، العدد: 3، آذار 1970.

(3)-بطرس بن إبراهیم كرامة 1774- 1851م. انظر أعلام الأدب والفن لأدهم الجندی 1: 36.

(4)-إبراهیم الحورانی 1844-1916 انظر أعلام الأدب والفن 1: 46.

(5)-دار الكتب الظاهریة بدمشق برقم 6869.

(6)-الشیخ خالد الأتاسی: 1834-1908. انظر أعلام الأدب والفن: 38.

(7)-طبع فی عدة مجلدات فی حمص بإشراف ابنه الشیخ محمد طاهر الأتاسی. بدأ بطبعه عام 1930 وطبع آخر جزء منه وهو السادس عام 1937، والمقصود بالمجلة أنها كتاب یحتوی على القوانین الشرعیة والأحكام العدلیة المطابقة للكتب الفقهیة. حررتها لجنة من العلماء فی المشیخة الإسلامیة إبان العصر العثمانی وبین یدی الطبعة الثانیة منها طبعت فی مطبعة الجوائب عام 1298هـ.

(8)-شعراء سوریة: 10 (طبع دار الكتاب الجدید- بیروت 1965).

(9)-انظر حلیة البشر فی تاریخ القرن الثالث عشر 1: 329.

(10)-هذه الأبیات من قصیدة لم تنشر فی دیوانه المطبوع، ولدی نسخة منها مخطوطة.

(11)-عبد الهادی الوفائی 1843-1909. وتاریخه مخطوط وهو بحوزتنا وننوی نشره بالاشتراك مع الأستاذ ریاض البدری.

(12)-د.عبد العزیز الأهوانی: ابن سناء الملك: 37 (طبع مكتبة الانجلو بمصر 1962).

(13)-انظر أعلام الأدب والفن 1: 39 وحلیة البشر فی تاریخ القرن الثالث عشر 3: 1521.

(14)-انظر أعلام الأدب والفن 1: 183.

(15)-محمد خالد الجلبی 1867-1926. انظر أعلام الأدب والفن 1: 57.

(16)-طبع هذا الدیوان عدة طبعات. 
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:19|
الموت هو من أكثر الموضوعات التی تحفل بها أعمال الشعراء والروائیین والمسرحیین المحدثین. فوعی الإنسان بان حیاته لها بدایة ولها نهایة دفعه إلى تأمل القوى التی تقف وراء الوجود ومعنى الوجود وطبیعته. وبالرغم من أن كل كاتب یعالج قضیة الموت بشكل مختلف فإن النقاد والباحثین توصلوا إلى جملة من الطرق التی تعالج بها فكرة الموت فی الأدب.



قدم الكتاب المحدثون الموت على انه المشكلة الوجودیة النهائیة التی تثیر كثیرا من القلق لأنها تفتح طریقا لاكتشاف الذات. كما أن الموت یمكن فهمه فی سیاق اكبر یتمثل فی انه جزء من دورة طبیعیة من الفناء والتجدد. وقد عالج بعض كتاب الكومیدیا السوداء والكتاب العبثیین الموت بشكل هزلی وجعلوه فكرة تبعث على الضحك. ومع ذلك فان هؤلاء الكتاب یدركون أن الموت موضوع على درجة عالیة من الجدیة. ویحمل الموت فی الأدب العدید من المضامین الرمزیة، فارتبط بالهروب والانسحاب فأصبح بذلك مصدرا من مصادر المعانی فی الأدب.



احتل الموت فی الروایة والقصة القصیرة الحدیثة مكانا بارزا. یرى النقاد فی أعمال فرانز كافكا Franz Kafka ودی اتش لورانس D. H. Lawrence اهتماما وجودیا بمشكلة الموت التی تقف وراء حالات من الاستلاب والخوف والانسحاب والتقوقع فی داخل الذات من اجل تجنب مواجهة قوى الموت والفناء. والموت فی أعمال الكتاب المحدثین یرتبط فی الغالب بأفراد تتعاون قوى داخلیة وخارجیة لفصلهم عن الإنسانیة على نحو رمزی. ویرى الباحثون أن اهتمام الكتاب المحدثین بدراسة الموت یفتح لكثیر منهم الطریق أمام فهم أكمل للحیاة وكیف یحیاها الإنسان. ففی أعمال كتاب من امثال غیرترود شتاین Gertrude Stein وایتالو سفیفو Italo Svevo وخاصة فی كتابه – اعترافات زینو- یفضی التأمل والبحث فی محدودیة الحیاة البشریة إلى فهم الهویة الشخصیة وإلى الكشف عن معنى الحیاة. وقد استعمل الكتاب المحدثون الموت كاستعارة ساخرة للحیاة والفن فی القرن العشرین، فالموت یتسلل إلى ثنایا القصة والى عقول الشخصیات ویرسم شكلا عبثیا لقصر حیاتهم ولا جدواها.



وتمتد أشكال الهزل الأسود فی الروایة إلى میدان الدراما فیبحث كتاب الكومیدیا المأساویة ومسرح العبث من أمثال سامیویل بیكیت Samuel Beckett ویوجین یونسكو Eugène Ionesco وهارولد بنتر Harold Pinter الجانب الهزلی للموت. ومع ذلك فان النقاد اكتشفوا كثیرا من التنوع فی كتابات هؤلاء المسرحیین. یعتقد بیكیت انه فی وجه عجزنا عن فهم الموت ومعناه لا یسعنا إلا أن نضحك من عبثیة هذا الكون. ویرى النقاد أن یونیسكو فی معالجته لفكرة الموت أكد معنى الحیاة وجدواها. أما یوجین أونیل Eugene O'Neill وتنیسی ولیامز Tennessee Williams فاستعملا الموت لتتویج الحدث المأساوی على خشبة المسرح وانهائه. وقال الناقد فیلیب ارماتو إن مسرحیات تنیسی ولیامز هی بحث شاعر عن حل للمشكلات التی تولدت من وعی الانسان بحتمیة الموت. بینما رأى ناقد اخر هو روبرت فیلدمان ان مسرحیات یوجین أونیل تعبیر عن الشوق إلى الموت هربا من آلام الحیاة.



هذه المواقف من الموت تنعكس فی الشعر كذلك. ویرى النقاد أن أكثر الشعراء الذین بحثوا فی الموت هم الذین كتبوا أشعارا اعترفوا فیها بمكنونات نفوسهم من امثال سیلفیا بلاث Sylvia Plath وآن سیكستون Anne Sexton وروبرت لویل Robert Lowell وجون باریمان John Berryman. فی أشعار هؤلاء وأمثالهم یقع الوعی بحتمیة الموت فی أعماق الخبرة الحیاتیة، وهی الخبرة التی أدت فی حال بلاث وسیكستون إلى الانتحار. 
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:18|
 النظرة التفاؤلیة عند نازك الملائكة



الموجز

مع أن الشاعرة كانت متشائمة شدیدة التشاؤم فی بدایة حیاتها الشعریة؛ لأنها كانت مفعمة بالاتجاهات الرومنسیة و غلب علیها التشاؤم المطلق و كانت تشعر بالضیق والألم ولا ترى غیرالأزمة والشقاء فی الحیاة و لكن تدریجیا غیرت نظرتها حول الموت و فلسفة الحیاة و بدأت تنظر إلى الحیاة بمنظار جدید فیه مسحة من التفاؤل لیكون بلسما لدائها و مرهما لشفائها وخفّ من حدّة تشاؤمها حیث أصبحت متفائلة بعد تجربتها الفكریة و كثرة مواردها الأدبیة و بعد أن نضج عقلها و فكرها حول مسائل الحیاة. و نرى هذا التغییر حتى فی عنوان مطولتها من "مأساة الحیاة" إلى" أغنیة للإنسان"، فی الواقع آراؤها المتشائمة قد زالت و حلّ محلّها الإیمان بالله و الاطمئنان إلى الحیاة و جو مأساة الحیاة تبدد شیئا فشیئا.

الكلمات الرئیسیة: فلسفة الحیاة، مأساة الحیاة، التفاؤل، أغنیة للإنسان،الاتجاهات الرومنسیة.

التمهید

آمنت الشاعرة أن الحیاة كلها ألم و إبهام و تعقید؛ و اعترفت إلى فناء الإنسان وأنه محكوم إلى الفناء والموت بشع جدا كما تقول:" لم تكن عندی كارثة أقسى من الموت و كان الموت یلوح لی مأساة الحیاة الكبرى، ذلك هو الشعور الذی حملته من أقصى صبای إلى سن متأخرة". وعندما تصف خطیئة الإنسان تعدّ الموت لعنة السماء؛ لكنها ترى فیه أمنا و راحة لأنه سبیل لراحة الإنسان من عناء الحیاة و بالفعل تؤمن بما قال"شوبنهور": " إن أعظم نعیم للناس جمیعا هو الموت".

وبالفعل آمنت بقول" ویلیام جیمز": " إن أكثر دواء تأثیرا لعلاج الآلام و الأحزان هو الإیمان و الاعتقاد". و كان التغییرعاما و شاملا حتى فی عنوان مطولتها من مأساة الحیاة إلى أغنیة للإنسان، فی الواقع قد زالت آراؤها المتشائمة و حلّ محلّها الإیمان بالله و الاطمئنان إلى الحیاة و جو مأساة الحیاة تبدد شیئا فشیئا

قررت نازك الملائكة أن تجد السعادة التی كانت قد بحثت عنها كثیرا فی مختلف الأوساط فلم تجدها وانتهت رحلتها فی هذا المجال بالخیبة، فقد عبرت عن تمسكها بالحیاة فی هذه الحیاة الدنیا ؛ لأن حب الحیاة أمرلا ینفصل عن الحیاة نفسها وأن الإنسان یجد لذة كبرى فی أن یحیاها، مهما كان طبعها و صعدت من إحساسها بالیأس و العدم إلى قمة الرجاء والأمل و آمنت بأننا یجب أن نستسلم للقدر خاضعین؛ لأن العالم یواصل سیرته حتى بدوننا و آمنت بأن الإنسان مهما یفكر فی آلامه و آلام أبنائه ومواطنیه والمجهولات والأسرار والألغاز؛ لكن یجب ألا یعكس الیأس والقنوط و الألم …..فقط، بل یجب أن یكون للتفاؤل مكانه كشأن أشخاص كثیرین الذین وقفوا أمام الكون و مجهولاته و أسراره و كانوا حیارى و لكنهم یرون جمال الحیاة و خیرها و سرورها و أن الحیاة تجری فی نظام سرمدی و على الإنسان أن ینضم بكل حسناته و سیئاته حتى یبلغ ذروة المعرفة و قمتها. و مهما یتأمل فی الآلام الإنسانیة والألغاز والمجهولات لا ینصرف عن الحیاة؛ لأنه لم یجیء الحیاة لیشقى و یصب الهموم على نفسه؛ بل أتاها لتتنعم بها و بطیباتها و ملذاتها و مسراتها و یتمتع بها وأن یكون مسلكه تجاه الحیاة إیجابیا و ینظر إلیها بمنظار التفاؤل و لتكن فلسفتها الابتسام دائما مادام حیا و ینتهز فرصة الحیاة قبل أن تفلت من یده.

و أخیرا آمنت الشاعرة بأن جمیع ما فی ید الإنسان عاریة و ودیعة و لایبقى لدیه طول الحیاة فیخرج من یده آجلا أو عاجلا، ثم شعرت بأن الدنیا قد تغیرت فی نظرتها فعزمت أن تواجه الحیاة بغیر ما كانت تواجهها قبل ذلك، و آمنت بأن:

فلنلذ بالإیمان فهو ختام الیأس و الدمع و الشقاء الآتی لأنه: كاسح الأعین الحزینة من أدمعها الهامرات فی الظلمات فهاجرت إلى الله و عرفته: عرفتك فی ذهول تهجدی، و قرنفلی أكداس عرفتك فی اخضرار الآس عرفتك عند الفلاح یبعثر فی الثرى الأغراس وتزهر فی یدیه الفأس عرفتك عند طفل أسود العینین، و شیخ ذابل الخدین عرفتك عند صوفیّ ثریّ القلب و الإحساس و…….

و تُعلّم الإنسان طریق التسلط على الحزن حیث نراها فی قصیدة " خمس أغان للألم" تثیر فكرة صراع الإنسان فی سبیل الغلبة والاستعلاء على آلامه بأیة وسیلة یستطیعها، حیث تقول:

أ لیس فی إمكاننا أن نغلب الألم؟ نرجئه إلى صباح قادم؟ أو أمسیه؟ ننقُلُه؟ نقنعه بلعبة؟ بأغنیة؟ بقصة قدیمة منسیّة النغم؟( نازك الملائكة، دیوان، ج2،ص57٤).

وهنا نذكر مختارات من أشعارها التی تسود علیها روح التفاؤل:

مع أنها– كما تقول نفسها – كان الباعث على نظم مطولتها الأولى التشاؤم و الخوف من الموت، لكنها بالفعل تؤمن به؛ لأنه ینجو بالحی الشقی من الخوف و سبب الخلاص من هذه الحیاة الطافحة بالأسى و الظلام و تتفاءل به فی قولها:

أ فلیس الممات فی میعة العمر إذن نعمة على الأحیاء حین ینجو الحی الشقی فی الخوف و یغنی فی داجیات الفناء تاركا هذه الحیاة و ما فیها من الزیف والأسى و الظلام بین فك الریاح و القدر العاتی و نوح الشیوخ و الأیتام ( دیوان، نازك الملائكة، ج1، ص٤22).

و ترى فی الموت بلسما لنجاة الأحیاء من الأحزان و ترى فیه خلد الحیاة:

سأرى فیك بلسما ینقذ الأحیاء مما یلقون من الأحزان سأرى فی الممات خلد حیاتی حین تعفو عنی المُنی و الجروح ( دیوان، نازك الملائكة، ج1،ص229).

وهذا رأیها عن الموت:

إنه الموت ذلك الواهب العادل ملقی الهمود فی كل قبر و مریق الفناء فی كل خد و ذراع و كل نحر و صدر (دیوان، نازك الملائكة، ج1،ص387).

و تسلم على الموت: فسلام أیها الموت سلام یا رفات ( دیوان، نازك الملائكة، ج1،ص٦50)

و تحس بالراحة لأن: استرحنا، كُشف اللغز و مات المبهم وتلاشت حرقة الأحلام فی لون العیون ( دیوان، نازك الملائكة، ج2، ص8٤3).

و تعتقد أن الدنیا تبتسم إذا: هیا معی تبتسم الدنیا إذا أنت ابتسمت ماذا یثیر أساك ما دمنا نظل أنا و أنت؟ هیا معی فاللیل مختلج الدجى حبا و شعرا وعرائس الأحلام تفرش دربنا لونا وعطرا (دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص297).

و آمنت بأن یمكن لنا التغلب على الألم: ومن عساه أن یكون ذلك الألم؟ طفل صغیر ناعم مستفهم العیون تسكته تهویدةُ و رقبة حنون و إن تبسمنا و غنّینا له یَنَم ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص58٤).

و لنا یمكن أن ننساه: سوف ننسى الألم سوف ننساه إننا بالرضى قد سقیناه ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص1٤٦).

و ترى كل شیء جمیلا؛ لأن: تعال لنحلم، إن المساء الجمیل دنا و لین الدجى و خدود النجوم تنادی بنا ( دیوان، نازك الملائكة، ج2، ص٤23).

و رغم أزمتها النفسیة، ترى أن النفس ملیئة بالخیال و فیها یوجد الصفاء؛إذن تحبها:

سأحب نفسی فی ارتعاش ظلالها تحیا عصور ملأى بألوان الخیال و هناك فی أحنائها ألقی الجمال سأحب نفسی فی صفاء ظلالها أجد الصفاء و قد وصلناها معنا یحیى الجمال ( دیوان، نازك الملائكة، ج2، ص7٦3).

و تحب الحیاة و ما فیهامن أجل: سأحب الحیاة من أجل ألحانك یا بلبلی الحزین و أحیا سأرى فی النجوم من نور أحلامك ظلا مخلدا أبدیا أحب الحیاة بقلبی العمیق و أمزجها واقعها بالخیال أحب الطبیعة حب الجنون أحب النخیل أحب الجمال فأعشق ذاتی ففی عمقها خیال وجود عمیق الظلال ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص181).

و تُعلّمنا كیف نواجه الحیاة إذا جرحتنا: و إن جرحتنا أكف الحیاة سكبنا الرضى فی شفاه الجراح و ذقنا حنین الجمال اللذیذ و ملح مدامعنا الباردة ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص3٤٤).

و تفتخر بأنها: هنا أنت بنت حقول الجنوب و ألوانها قبستِ العذوبة و الدفء من سحر غدرانها و هذا الصفاء صفاء الحیاة هناك، همسك شدو الرعاهْ لقطعانها ( دیوان، نازك الملائكة، ج2، ص٤37).

و تعتقد علینا أن ننسى الأمس: و انس أمسا ملأ الكون خطوبا آن للأفراح أن تمحو الكروبا آن أن أحیی الأمانی وأغنّی و معی قلبی و أشعاری و لحنی (دیوان، نازك الملائكة، ج1،ص22٦).

عندما تنظر إلى الآفاق تبدو لها هكذا: جزیرة الوحی من بعید تلوح كالمأمل البعید الرمل فی شطها ندی یرشف من دجلة البرود و القمر الحلو فی سماها أمنیة الشاعر الوحید لاحت على البعد ضفّتاها أمنیة العالم الجدید ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص585).

و تؤمن بالله؛ لأنه خالق هذا الكون و أن وراء هذه الحیاة حیاة بدون الحزن و الألم:

فوراء الحیاة معنى عمیق لیس تفنیه سودة الأحزان هو معنى الألوهة الخالد المرجوّ خلق الوجود و الأزمان ( دیوان، نازك الملائكة، ج1،ص237).

فوراء التراب قلب له فی رحمة الله مأمل لیس یفنى مأمل الخافق الذی ضمه الله إلى عدله فأغمض عینا ( دیوان، نازك الملائكة، ج1،ص90٦)

و تحس باعتداد النفس و أن الشمس نارها لن تمزق نغمتها؛لأن:

جنون نارك لن یمزق نغمتی مادام قیثاری المغرد فی یدی اللیل ألحان الحیاة و شعرها و مطاف آلهة الجمال الملهم كم سرت تحت ظلامه و نجومه فنسیت أحزان الوجود المظلم و على فمی نَغَم إلهی الصدى تلقیه قافلة النجوم على فمی ( دیوان، نازك الملائكة، ج1،ص89٤).

و تتفاءل بالجمهوریة العراقیة فی٤1 تموز سنة 1958م:

فرح الأیتام بضمة حب أبویة فرحة عطشان ذاق الماء فرحة تموز بلمس نسائم ثلجیهْ فرح الظمآن بنبع ضیاء فرحتنا بالجمهوریّهْ..( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص5٤٤).

و تتفاءل بالوحدة العربیة ؛لأنها تعود بالحیاة و هی ضوء فی لیلة ظلماء:

تعود مع الوحدة العربیة تعلن الوحدة الكبیرة ضوءا وسلاما فی لیلة لیلاء أعلنتها أمنیة العرب الكبرى و حلم الأجداد و الآباء ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص521).

و تتفاءل كذلك بمستقبل العالم العربی حیث تقول:

یافا وحیفا فی غد نلتقی فنحن والضوء على الموعد تبقى فلسطین لنا نغمة قدسیة على فم المنشد و نسرنا الشامخ لم ینثنی أمام باب الزمن الموصد غدا فلسطین لنا كلها كأن إسرائیل لم توجد (دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص98٤).

و أخیرا طلع الفجر من وراء الظلام و قد قاربت حدود الرجاء: طلع الفجر من وراء الدیاجی یا عیون الشهید نامی قرّی ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص523).

و الیوم حان الفجر یا أمتی فنحن قاربنا حدود الرجاء ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص517).

إذن رأینا كیف تفاءلت بالحیاة و ما فیها، بعد أن آمنت بالله و حل محل آرائها المتشائمة نظرة التفاؤل و نظرت إلى الدنیا و ما فیها بمنظار التفاؤل. و بعد أن تفاءلت بالحیاة تصف لیالی الصیف هكذا:

یا هدوءا مطمئنا یا فضاء مرحا لدْن البریق یشرب الأنجم كأسا من رحیق یا رؤى تقطر لونا أنت عطر و نعومهْ و حفیف و انحدارات أشعهْ و نجوم عكست فی عمق ترعهْ و أناشید رخیمهْ أنت ینبوع سكون و حماسات و عطر و برودهْ یا وساد الأنجم الجذلَى البعیدهْ یا مصبا للحنین أنت للأحلام مأوى یا ملاذا باردا عذبَ الجوار لخدود حَمَلت عبء النهار و اقتل الآن نشوى ( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص٦52).

و تصف الربیع هكذا: إنه الشیخ ربیعْ ذلك الشیخ المَرِح ذو الثیاب الخُضر و الوجه البدیع و الجبین المنشرح كلما طافت خطى نیسان بالدنیا أطلّا من كُوى غرفته عذبا طروبا هاتفا: أهلا و سهلا…….

و فی وصفها الكوارث وا لفواجع لغتها سهلة سلسة دون أی غلاظة تحكی عن تشاؤمها الكثیف. نظمت الشاعرة خلال الفیضان الرهیب عام٤195م التی أغرقت بغداد:

لم یزل یتبعنا مبتسما بسمة حب قدماه الرطبتان تركت آثارها الحمراء فی كل مكان إنه قد عاث فی شرق و غرب فی حنان ذلك العاشق إنا قد عرفناه قدیما إنه لا ینتهی من زحفه نحو رُبانا و له نحن بنیْنا، و له شِدْنا قُرانا إنه زائرُنا المألوف ما زال كریما كل عام ینزل الوادی و یأتی للقانا.( دیوان، نازك الملائكة، ج2،ص533).
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:17|
التشاؤم الاجتماعی عند نازك الملائكة



الموجز

اعتنى الشعراء الكثیرون بدراسة الموضوعات الاجتماعیة بما أنهم یرون استخفاف الشعب و ذلهم أمام احتلال الأجانب و ظلمهم و استبدادهم و مسألة الجهل و التأخر و التخلف و غیر ذلك.

الشعر الاجتماعی الذی یعالج فیه الشاعرآلام شعبه والأمراض الاجتماعیة كالجهل والفقر والأمیة یدعو إلى تحریر المرأة وتربیة الأطفال ویكشف مضارّ بعض المفاسد الاجتماعیة كالقماروالفحشاء وما إلى ذلك و یتحدث كثیرا عن المسائل الوطنیة و العنایة والحنان على المظلومین والبؤساء والفقراء و فی هذا المجال یرید الشاعر ترقیة شعبه، إصلاح المفاسد وزینة الإنسان نفسه بالخصال الحمیدة و فضائل أخرى؛ لأن نتیجتها تآلف المجتمع والسعادة فی الحیاة و التآخی بین الناس.و یحاول رفع مستوى الناس الاجتماعی بمكافحة الجهل والأمیة ونشرالعلم وإثارة الرغبة فی التعلم و التحصیل ویرى أن الجهل سبب آفات مختلفة فی جمیع طبقات المجتمع وأنه أرض مستعدة لجمیع المفاسد و الشرور .

إذن تنبع آلام الشاعر من أجل القضایا الاجتماعیة السائدة فی المجتمع الذی یعیش فیه، تؤثر فی حدة تشاؤمه وأشعاره تتحدث عن تلك الأوضاع الفاسدة و تبین الخراب و الدمار فی مجتمعه فی أسلوب متشائم حزین الكلمات الرئیسیة: القضایا الاجتماعیة، الشعرالاجتماعی، المفاسدالاجتماعیة، إصلاح المفاسد.

التمهید

بعض الأحیان یشغل الشاعر بالبیئة التی یعیش فیها و آلامه نابعة من أجلها و الأوضاع السیاسیة و الاجتماعیة السائدة فی المجتمع الذی یعیش فیه تؤثر فی حدة تشاؤمه و أشعاره تتحدث عن تلك الأوضاع الفاسدة و تبین الخراب و الدمار فی مجتمعه فی أسلوب متشائم حزین و یحكی شعره عن عصبیته و التزامه بما یجری حوله و یبرهن ضیقه الشدید و السید"الكفراوی" یسمی هذا النوع من الشعراء بالثوار السلبیین (الكفراوی، محمد عبد العزیز، تاریخ الشعر العربی، ج٤،ص10٤).

الشاعر الیوم شاعر الجماهیر والمجتمع، إذن یجب علیه أن ینزل إلى مستوى الشعب والمجتمع ویخاطبهم بالمستوى السهل و بلغة یفهمونها ومهما یكن الموضوع خطیرا معقدا فاللغة التی یستعملها الشاعر سهلة و لو كانت فی أشد الموضوعات تعقیدا.

فتحت السیدة نازك الملائكة عیونها إلى الآفاق الوسیعة الإنسانیة و كانت شدیدة الحساسیة إزاء تموجات العالم الفكریة بصورة عامة و المجتمع العراقی بصورة خاصة وهذا التألم و الحزن كان الباعث على تشاؤم الشاعرة، إذن ألمها لیس ألما شخصیا بل:

سأحمل قیثارتی فی غد
و أبكی على شجن العالم (دیوان نازك الملائكة،ج1،ص9٦5)

و كل ما ترید، هو أن تجد سبیلا للإصلاح، هی تعلم جیدا بأن الشعر مرتبط بالعواطف والشعور و ینادی القلوب والأفئدة؛ لهذا السبب تأثیر الشعر أكثر وأعمق فتتمسك بهذه الوسیلة ربما تصلح المجتمع.

اعتمدت الشاعرة فی شعرها على أفكار وعواطف مستمدة من حاجات المجتمع و كثیرا ما كان الغرض فی نظم الأشعار غایة اجتماعیة و كانت متصلة بعصرها و لم تنفصل عنه و تعیش فی بیئة التی أوجدت فیها. قلبها الرقیق، حیاتها المؤلمة و الحزینة، اطلاعها على الشقاء المنتشر و المحن و المصائب فی طبقات الأمة المختلفة دافع إلى الشفقة و الحنان والاتصال بالمجتمع و هكذا كانت اجتماعیة و تحس برسالتها الاجتماعیة إحساسا خاصا و قامت بها مخلصة؛ لأنه لا بدّ للشاعر الذی یرى المسائل الاجتماعیة و یرید أن ینشد فیها، نظر دقیق إلى الحقیقة و الواقع لیرى الضعف والرخوة والركود و…فی المجتمع، لهذا السبب غشی على بصیرتها و نظرتها طبع متشائم؛ لأنها لم تر من المجتمع الذی كانت فیه إلا الكآبة الألیمة و مأساة الحیاة المؤلمة و سیطرت على عقائدها الشخصیة مسحة التشاؤم و لم یكن فی إمكانیتها أن تضع على هذا التشاؤم بلسم التفاؤل فی هذا الأوان.

فسدت أحوال الأمة خاصة فی الحرب العالمیة الثانیة و بعدها و امتد هذا الفساد إلى كل بیت و كوخ؛ حتى إلى كل قلب و فكر من متاعب و أزمات سیاسیة و اقتصادیة و اجتماعیة و ما إلیها. و تحس نازك الملائكة بآلام إنسانیة مرزئة متصلة بعواطفها و أحلامها الخاصة و قد تعرضت لكثیر من التجارب المریرة فی حیاتها نتیجة لأسفارها و تقلبها من الشرق و الغرب و تستغرق فی آلامها وتذوب فی بیئتها حتى تصیر جزءا منها و ترى الشعب فی نفسها و فی نفسها الشعب، حیث تعتقد بأن الإنسان إضافة عن وجوده الفردی مسؤول عن جمیع الناس و كل البشرو تسعى لتلمس جذور الإنسان الممتدة فی الواقع.

إن الظروف التی كان یعانیها المجتمع العراقی آنذاك و الأزمات و الظلمات التی تراكمت حولها و اسودت الدنیا فی عینها و تعقدت الدنیا شدیدا قد انتهت إلى المحنة فی نفسها و كانت منشأ هذا الحزن و الألم فی قلبها و تبدو علاماتها فیها.

إذن تشاؤمها لا ینبع من نفسها وحدها بل إنما ینبع من مجتمعها قبل كل شیء؛ لأن الفساد قد عم المجتمع؛ بما أنه كان فی الاحتلال الإنجلیزی و بعده كان فی انتدابه و هناك لا فرق بین الاحتلال و الانتداب و كان المجتمع العراقی فی حیاة البؤس و الشقاء و الیأس مما كان یتلاحق علیه من الكوارث و الفواجع و مما یجر إلى الحرمان و الجوع و تشرید الأطفال و النساء و ازدیاد المآسی و الأحزان.

إذن طبیعی بأن تسود الشعر روح التشاؤم خلال الحرب و یطفح بالحزن و الألم خاصة حدثت حروب داخلیة كثیرة فی المجتمع العراقی و الأهم منها الحرب العالمیة حیث زادت فی تشاؤمها؛ لإحساسها بآلام مجتمعها و شهدت حوادثها بأم عینها . و هی كشأن سائر الشعراء الملتزمین تشعر شعورا عمیقا بآلام الحیاة التی یحیاها وطنها و تعكسها محنته و ترى فساد الوطن دون الأمل و الرجاء فی تحقق آمالها والآخرین من أبناء الوطن . إذن الحالة الاجتماعیة بسبب المسائل المختلفة تستدعی شدة الألم و الیأس و قد أصبح المجتمع ملیئا بالخرافات المضرة دون حقائق نافعة و قد عنى بما لایعنیه و ترك ما یعنیه، فتشاؤمها مستمد من تشاؤم مجتمعها؛ لأن موجات الیأس و الحزن كثرت خاصة أیام الاحتلال و الانتداب على جمیع الشباب و النفوس؛ فتشاؤمها كان طبیعیا .

تصور الشاعرة المجتمع العراقی الذی كان یعانی من الآلام و الهموم فی هذه الحقبة من التاریخ أو فی هذا العصر الذی نظمت فیه شعرها . و لم یكن شعورها وفقا على خلجات نفسها و أحداث حیاتها فقط؛ فهی قد شاركت الشعب فی مصائبه و سمعت شكاوى المظلومین و الفقراء نالت الشاعرة بعض النواحی الاجتماعیة وعالجت مشاكل مجتمعها؛ مع أنها تعنی بذاتها و تتحدث عما فی نفسها، لكنها لا تغفل عن المجتمع الذی تعیش فیه؛ لأن نفسها تذوب فی المجتمع و ترى نفسها فیه؛ كأنها ذرة منها تعیش فی بقائه و تموت بموته.

تصور الشاعرة طفلة نائمة فی الشارع لیلا من أجل فقرها و أن البرد كیف ینهشها فترتعش من الرعد و تعبر عن ألمها،جوعها و فقرها فی قصیدة " النائمة فی الشارع" وتقول:

    فی الكرّادة، فی لیلة أمطار و ریاحْ
    و الظلمة سقف مُدّ و ستر لیس یزاح
    فی منعطف الشارع، فی ركن مقرور
    حرست ظلمة شرفة بیت مهجور
    كان البرق یمر و یكشف جسم صبیّهْ
    رقدت یلسعها سوط الریح الشتویهْ
    رقدت فوق رخام الأرصفة الثلجیهْ
    تُعول حول كراها ریح تشرینیهْ (نازك الملائكة، دیوان، ج1، ص9٦2).

أو تصف مشكلة إمرأة فی زقاق بغداد فی قصیدة " مرثیة إمرأة لا قیمة لها" أو عندما تبحث عن السعادة فی قصور الأغنیاء و تصف عیشهم فی البذخ و الترف و مشاكلهم الروحیة و تقارن حیاتهم و حیاة الفقراء فی قصیدة " القصر و الكوخ". و تصف مشاكل الریفیین بأن سكانه فقراء محرومون و یعیشون عیشة البؤس و العذاب ثم تصور راعیا صغیرا یأكله الذئب و تصف الثلوج التی تهبط طوال الشتاء و تحرم الفلاحین من استنبات الأرض و نتیجته انتشار الجوع والحزن بینهم و موت مواشیهم وتقول:

    حدّثونی ما لی أراكم حزانى؟
    كل راع فی وحشة و اكتآب
    كل راع جهم الملامح لا
    یشدو و لایزدهیه سحر الغاب
    فهو عند الینبوع ینظر فی الظل
    إلى الأفق شاحبا مصدوما
    ممعنا فی الجمود و الصمت كالموتى
    یناجی الفضاء یرعى الغیوما
    لم تزل قربه على العشب النادی
    عظام لكائن مقتول
    هو ذاك الراعی الصغیر الذی
    راح طعاما للذئب بین الحقول ( نازك الملائكة، دیوان، ج1، ص98).

و تصور هذه الآلام و الأزمات و المشاكل الاجتماعیة بصورة جیدة من أجل ارتوائها بتفكراتها الرومنسیة الطافحة التی تمتعت بها بألوانها المختلفة. و ألمها الحزین الذی اعتراها مع مرور الزمن و تعمقت جذوره فی أعماق حیاتها و وجودها، حیث یزید إیمانها بعبثیة الحیاة كلها و تعتقد أن الحیاة كلها ألم و إبهام و تعقید، لیس نفسیا فقط بل ألم إنسانی و ألم المجتمع البشری.

وفی هذا المنطلق نذكر شذرات من أشعارها:

تبكی الشاعرة على شجن العالم حینما ترى ركب الجیاع والحزانى:

    و أبصرت عند ضفاف الشقاء
    جموع الحزانى و ركب الجیاع
    سأحمل قیثارتی فی غد
    و أبكی علی شجن العالم ( نازك الملائكة، دیوان، ج1، ص9٦5).

أو عندما ترى بشرا جائعین فی القرى:

    خیّبتها القرى و دجاها الحزین
    إن فی أرضها بشرا جائعین
    لم تجد عندهم غیر دمع سخین ( نازك الملائكة، دیوان، ج1، ص٤٤٦).

و لا یمكن لهم أن یفكروا فی العوالم العالیة لأنهم فی صراع مع الجوع دائما:

    كیف یرقى الجیاع فی عالم الروح
    و هم فی حبالة الجسم أسرى
    هؤلاء الجیاع فی عزلة الحرمان
    تمتد حولهم أسوار
    لفّ أرواحهم حجاب كثیف
    و انطوت فی عیونهم أسرار ( نازك الملائكة، دیوان، ج1،ص1٤٤).

و تصف القرى و ساكنیها و أكواخهم هكذا:

    تلك أكواخهم حصیر و أحجار
    و بؤس مخیم لا یزاح
    تخجل الشمس أن تمر علیها
    و یحید الضحى و یكبو الصباح
    غرف رثّة المداخل و الجدران
    سود تجول فیها الریاح
    فی دجاها یعیش قوم جیاع
    نضبت فی أیدیهم الأقداح
    جیاع فی ظلمة الكوخ لم
    تدر بأحزانهم عیون الصباح
    یا دیارا سكانها الجوع و الحمى
    خواء من الندى و الحنان ( نازك الملائكة، دیوان، ج1، ص39٤).

و تعتقد أن الإنسان لم یستطع أن یبید الفقر و الشقاء فی الحیاة:

    هل غلبنا الشقاء و الفقر فی أرجاء
    هذا الكون الطحین الذلیل
    و الصغار العراة هل وجدوا مأوى
    و دفئا عبر الشتاء الطویل
    و الأذى و الشرور هل دحرتها
    الحرب یا من حملتموها لظاها
    أسفا لم یزل على الأرض من
    یتخذ الكأس و المجون إلها
    لم تزل فی الوجود أغنیة تقطر
    حزنا على شفاه جیاع
    فی هتافات لاجئین رمتهم
    محنة الحرب للغنى و الضیاع ( نازك الملائكة، دیوان، ج1،ص390).

و تبكی على أشقیاء الأرض بقولها:

أو دعینی أبكی على أشقیاء

الأرض بین الحنین و الحرمان ( نازك الملائكة، دیوان، ج1،ص155).

و یشتد تشاؤمها عندما تشاهد صرخات الجیاع و دموعهم و شقاءهم:

    اقلعی اقلعی بنا قد سئمنا
    صرخات الجیاع فی كل شعب
    قد رأینا الدموع فی كل عین
    و شهدنا الشقاء فی كل قلب ( نازك الملائكة، دیوان، ج1،ص109)
     
    أو عندما تشاهد الجوع و الفقر و عدم الرخاء، حیث تقول:
    
    أین؟ ضاع الخیال و الحلم
    الفاتن ضاع الجمال ضاع الرخاء
    لیس إلا دنیا من الجوع و الفقر
    علیها یعذب الأبریاء ( نازك الملائكة، دیوان، ج1،ص7٤).

تصف الشاعرة حالة الریفی أنه:

لیس تحت الصفصاف إلا بیوت

الطین و السقم و الطوى والبكاء ( نازك الملائكة، دیوان، ج1،ص109).

و تصرخ حینما تنظر إلى حالتهم فی الشتاء:

لیس یدری ما یفعل الجوع و الحزن

بأهل الأكواخ كل شتاء ( نازك الملائكة، دیوان، ج1، ص٦10).

و یكفی الأرض دمع البائسین و الأیتام:

حسب هذی الأرض الكئیبة دمع

البائسین الجیاع و الأیتام ( نازك الملائكة، دیوان، ج1،ص138).

ثم تخاطب الإنسان أنه لم یقدر أن یتغلب على الفقر والحرمان و تسأل عنه:

    هل تغلبتم على الفقر و الأحزان
    و السقم أیها الواهمونا ( نازك الملائكة، دیوان، ج1،ص59).
    
    و تجیب نفسها عن هذا السؤال بأن الإنسان لم یقدر علیه:
    لم تزل فی الوجود أغنیة الحزن
    یغنی بها الضعاف الجیاع
    لم یزل فی الوجود مرضى حیارى
    أبدا تعتریهم الأوجاع (نازك الملائكة، دیوان، ج1،ص59).

و ترى أن الغنی یستثمر الفلاح الذی یعیش عیشة السوء، فی الحقیقة ترى فی واقع المجتمع الإنسان الحریص الجشع كل الحرص یظهر قدرته على الضعفاء:

    فكنوز الغنی یجمعها الفلاح
    فی عمره الشقی الكسیر
    ذلك الكادح المعذب فی
    القریة بین المحراث والناعور
    فهو یلقی البذور و الترف
    الهافئ یجنی و تشهد الأحزان
    و یموت الفلاح جوعا لیفتر
    لعینی ربّ القصور النعیم ( نازك الملائكة، دیوان، ج1،ص159).

تشاهد الشاعرة هذه القضایا و سوء الحالة الاجتماعیة فیشتد تشاؤمها ، حیث تملأ آهاتها الفضاء: طغت فی الفضاء آهاتنا الحیرى

تغنی رجاءنا المصروعا ( نازك الملائكة، دیوان، ج1،ص0٦1).

ربما یمكن أن نعتبر هذه القصیدة لها خیر وصف فی هذا المنطلق- القضایا الاجتماعیة-، عندما ترى طفلة نائمة جائعة على أرض الشارع فی الشتاء:

    أیام طفولتها مرّت فی الأحزان
    تشرید، جوع، أعوام من الحرمان
    إحدى عشرة كانت حزنا لا ینطفئ
    و الطفلة جوع أزلی تعب ظمأ
    و لمن تشكو؟ لا أحد ینصت أو یعنی
    و المجتمع البشری صریع رؤى و كؤوس
    و الرحمة تبقى لفظا یقرأ فی القاموس
    و ینام فی الشارع یبقون بلا مأوى
    لا حمى تشفع عند الناس ولا شكوى
    هذا الظلم المتوحش باسم المدنیة
    باسم الإحساس ، فوا خجل الإنسانیة

( نازك الملائكة، دیوان، ج1،ص279).

أو عندما تشاهد امرأة فقیرة فی الشارع و تصف حالتها كیف تموت ؟ و یموت مثلها كثیرون من الناس الذین نسمیهم سواد الناس و تصور حالة أزقة بغداد و شوارعها كیف یسودها الفقر و الحرمان فی قصیدة" مرثیة إمرأة لا قیمة لها" ( نازك الملائكة، دیوان، ج1،ص273).

    ذهبت و لم یشحب لها خد و لم ترجف شفاه
    تسمع الأبواب قصة موتها تُروى و تُروى
    لم ترتفع أستار نافذة تسیل أسى و شجوا
    لتتابع التابوت بالتحدیق حتى لا تراه
    إلا بقیة هیكل فی الدرب ترعشه الذِكَر
    نبأ تعثر فی الدروب فلم یجد مأوى صداه
    فأوى إلى النسیان فی بعض الحفر
    یرثى كآبته القمر
    و اللیل أسلم نفسه دون اهتمام للصباح
    و أتى الضیاء بصوت بائعة الحلیب و بالصیام
    بمُواء قطّ جائع لم تبق منه سوى عظام
    بمشاجرات البائعین، و بالمرارة و الكفاح
    بتراشق الصبیان بالأحجار فی عُرض الطریق
    بمسارب الماء الملوّث فی الأزقه، بالریاح
    تلهو بأبواب السطوح بلا رفیق
    فی شبه نسیان عمیقْ
 

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:17|

التشاؤم النفسی عند نازك الملائكة



الموجز

كان بعض الشعراء و الأدباء مشغولین بأنفسهم و یعكفون على آلامهم الخاصة و هذا اللون من شعر المعاناة و الألم الذی یهتم الشاعر ببیان آلامه النفسیة و معاناته ینبع جمیعاَ من أصل واحد و هو الإحساس بالضیاع و الخواء و عبثیة الحیاة. و كانت أدبیاتهم مبنیة على التشاؤم لأنهم ساخطون على الدنیا متبرمون بالعالم و لا یرون فیه إلّا شراَ مستطیراَ لا سبیل إلى دفعه و طفحت دواوینهم بشعر المعاناة و الألم و الحزن فالحیاة عندهم شر كلها و إن فی ازدرائهم للحیاة مغالاة و تشاؤماَ مضرین و یصرخون متألمین لأنهم فقدوا كل أمل و قوة فهم لا یرون فی الحیاة غیر ظلام و فناء و یحسون بالقنوط غافلین عن قیمة الحیاة. و من هؤلاء " نازك الملائكة" التی تكون الحیاة عندها ملیئة بالهموم و الشقاوات و فی نفسها تشاؤم مرّ كثیف و الحیاة فی نظرتها متعقدة مع الخیبة و الخشیة فتعبر عن أحاسیسها و عواطفها الذاتیة الحزینة و تنكفئ إلى ذاتها خاصة حینما ترى أن كلما تغنیت من أحلام جمیلة محض سراب و لیست له حقیقة، أو تجد نفسها محاطة بالأحزان و الآلام تدفع بها حالة من التأمل و المعاناة و الجهد الفكری.

الكلمات الرئیسیة: نازك الملائكة، تشاؤم، عبثیة الحیاة، شعر المعاناة، الإحساس بالضیاع.

المقدمة

هناك أشخاص كثیرون مسلكهم أمام الحیاة و المجتمع سلبی و یؤدی ذلك إلى عزلتهم و ینتهی إلى نوع من العدم و الفناء و یرون أن الحیاة كلها شر؛ لأنه غالب على الخیر و من هؤلاء الذین شاهدوا شرور الحیاة " دیدرو" فإنه یقرر أن المرء حیوان ضارّ لو ترك لطبیعته و "فولتیر" یعتقد بتأصل الشر و "باسكال" یعتقد بوحدة الإنسان و جهل مصیره حیث یقول: " حین أنظر إلى هذا العالم الصامت كله، و فیه الإنسان لا نور لدیه، متروكاَ لنفسه، كأنه ضالّ فی هذا الجانب من العالم دون أن یدری من الذی و ضعه فیه و ما مصیره بعد الموت عاجزاَ عن كل معرفة……" (د. غنیمی هلال، محمد، قضایا معاصرة فی الأدب و النقد، ص 71). أو "لابروییر" یرى الشر أصیلاَ فی الناس و یقول: "لا ینبغی أن نغضب على الناس حین نرى قسوتهم و كفرانهم بالصنیع و ظلمهم و نسیانهم للآخرین، فهم هكذا خلقوا و هذه طبیعتهم". أو مثلاَ یرى "سارتر" أن الخیر فی العالم شعلة ضئیلة تهددها ریاح الشر كل جانب و "البیر كامو" یعتقد بعبثیة الحیاة و استعصائها فی ذاتها علی الفهم (نفس المرجع، ص 75).

تعبر نازك الملائكة عن عواطفها الذاتیة الحزینة و تنكفئ إلى ذاتها عندما تحس بالفراغ و الضیاع و تشعب الأهداف و غموض الغایات كأنها تدور فی حلقة مفرغة لا تعرف لها نهایة تنتهی إلیها و تعترف بالحقیقة المرة هی أن عالم الرؤى و الأحلام الذی التمسته فی الطبیعة سجن آخر لها من لون جدید فلهذا تطلب الخلاص منه. فی هذا الأوان تحس بأن الموت غایة لها لأنها بلغت النهایة و تلاقت الموت على فراشها و ذاقت لذته و استعدت نفسها للرحیل خاصة أنها كانت بین فكی الموت بسبب حمى شدیدة أصیبت بها و غلب الیأس علیها و لا حیلة لها أن ترحب بالموت بما أن حیاتها تنقضی قریبا والألحان تموت على شفتیها قبل أن تقول كل ما عندها و تدفع نفسها إلى حب الحیاة رغم الموت و ترید الحیاة من أجل أن تقول أناشیدها كلها و بعد لا تبالی أن یجیء الموت و یخطفها:

ربما تنقضی حیاتی قریبا

و تموتُ الألحانُ فی شفتیّا

لیْس فی الكونِ بعد شعری ما یغری

فؤادی فمرحبا بالممات

فإذا ما أتممت لحنی كما أهوى

فماذا أریده من حیاتی (نازك الملائكة،دیوان، دار ج1،ص 18)

و عندما تنفجر الآلام فی وجودها قویة وتتناقض الحیاة أمامها و كل ما یكون فی وجودها و إحساسها تناقض الواقع والحقیقة فی هذه اللحظة تحس ببطلان وجودها و خواء أعماقها العاطفیة و تسعى فی البحث عن معنى للوجود الإنسانی و تؤمن بعبثیة الحیاة فتسری فی أشعارها روح التشاؤم و النقمة و مكتبها الشعری أو حالتها النفسیة مفعمة‌بالرومنسیة و هی تدفق فی إبداعها نغما حزینا و فكرا متشائما نتیجة المرارة و الخیبة فی أعماق المحن و الأزمات و یزید التشاوم فیها . و فی هذه الحالة تمیل أن تعود إلى الماضی الجمیل و تهرب من قیود الزمان لأن فیه تحررا –كما هو شأن الشعراء الرومنسیین (د غنیمی هلال، محمد، الرومانتیكیة،ص73)- و تستعرضه بكل تفاصیله و جزئیاته،ربما تقنع نفسها لفشل تجربتها و تحس بالیأس و التمزق و الاغتراب، فی الحقیقة تقابل بین حالتین – كما یعتقد الدكتور" المهنا"(مجلة الشعر فصلیة مصریة، العدد1٤، ینایر٦198م ص10)- و یقول:"……حالة الاغتراب التی یمثلها الماضی المفعم بالحرارة مع أنه میت من الناحیة المعنویة و حالة الاغتراب التی یعكسها الحاضر الخامد على رغم من أنه لم یفقد حرارة الحیاة و تمكن لها العودة إلی الماضی لأن فشل التجربة لا یعنی نهایة التجربة". تمثل نازك الملائكة درجة عظیمة من الألم النفسی و هو میراث نفس فاشلة تطمع فی المستقبل دون أن تنسى خذلان الماضی و قد أدركت هذا الموضوع فهما تاما خاصة بعد أن خرجت من المحیط العربی إلى محیط أجنبی و اشتد صراعها الذاتی و مقتضیات الحیاة من حولها . تلجأ الشاعرة إلى الأزمان من أجل هذه الأزمات، الزمن الماضی بكل ما فیه و انتظار الغد أی مواجهة القبور و الترحب بالموت لأنه یخلصها من هذه الأزمات و لو تكون باردة؛كما تقول:

ومن القبر ذلك المظلم البارد (نازك الملائكة،دیوان،ج1،ص83٦)

القبر ضمك فی برودته (نازك الملائكة،دیوان،ج2،ص٦13)

أو یكون صورة من الوحشة والصمت والظلام:

لم أجد غیر وحشة الیأس

و صمت مثل صمت القبور

أی قبر أعددت لی أ هو كهف؟

ملء أنحائه الظلام الداجی (نازك الملائكة،دیوان،ج1،ص25)

إذن تلجأ الشاعرة إلی دائرة الأزمان و هی الدائرة التی سمتها "یوتوبیا"منطقة یتعطل فیها حكم الزمن و رغم ذلك عالم یموت فیه الضیاء و مرة یضیئه القمر و لكن الصفة الثابتة لها أنها أفق أزلی لا یدركه الفناء كما یعتقد الدكتور" شوقی ضیف"(فصول فی الشعر و نقده، دار المعارف بمصر، ص ٦9). و قد نظمت فی عنائها النفسی و قلق نفسها و صورت خوفها و فزعها و ألمها تصویرا رائعا و تشعر فی حیاتها شعورا عمیقا بأن الشر و الشؤم یلازمانها و لا مفر منهما إلا أن تتخلص من الحیاة و تستقبل الموت و ما الفائدة فی هذه الحیاة الملیئة بالمشقات و الصعاب و یلیق بها أن تستریح من عذابها و عنائها و تحس بلهیب الیأس المتقد فی أعماق نفسها . و أزمتها النفسیة أمام الوجود و الكون و أسرار الحیاة و مصیرها شدید الحدة، فهی كثیرة التفكر فی آلام الإنسان و مصیره و وجوده و الكون و ألغازه و الموت وأسراره و حاولت لتكشف أسرار الحیاة و الطبیعة و ما بعدها فیسری التشاؤم فی أشعارها فتحزن و تبتئس و تكتئب و لون الحیاة بكآبة نفسها وأفكارها السوداء یلح علیها. و یقول الدكتور" هدارة" إنها استخدمت كلمة" لیس"فی مطولتها " مأساة الحیاة " خمسا و سبعین مرة و أطلق علیه "النزعة اللیسیة " لتضاف إلى " النزعة اللاأدریة "(د.هدارة ،محمد مصطفى ،دراسات فی الشعر العربی الحدیث، ص 93)

نرى طابعها أنه هو الحزن و الاضطراب و القلق النفسی و المعاناة، من أجل انهیار آمالها الواسعة و اشتهرت بشاعرة الحزن و البكاء و النواح و كل من یقرأ شعرها یشعر بالحزن الذی تعیش فیه الشاعرة و ینبع من أعماق قلبها و مصدر الآلام لا یخبو فی نفسها؛ و فی هذا المنطلق نذكر أشعارها التی تعبر عن تشاؤمها أمام الكون و الحیاة و الأسرار و الألغاز و تعرف من تفكراتها و نظریاتها حولها. بدأت الشاعرة نظم مطولتها الأولى فی الثانی و العشرین من عمرها التی هی صورة واضحة من اتجاهات الرومانسیة التی غلبت علیها فی هذه الفطرة من حیاتها و كان من مشاعرها التشاؤم و الخوف من الموت، و عنوان هذه المطولة "مأساة الحیاة" و العنوان نفسه یدل على تشاؤمها المطلق خاصة أنها تعتقد بأن الحیاة كلها ألم و إبهام و تعقید و موضوع هذه القصیدة الطویلة فلسفی یدور حول الحیاة و الموت و ما وراءهما من الأسرار و الألغاز؛ و تبدأ بهذه الأبیات:

عبثاَ تحلمین شاعرتی ما

من صباح للیل هذا الوجود

عبثاَ تسألین لن یكشف السر

و لن تنعمی بفكّ القیود (نازك الملائكة، دیوان مأساة الحیاة، ص 21).

و ترى أن الأفق مجهول و لا فائدة للنظر فیه؛ لأنه لا یتجلى و القدر مستغلق صامت:

أبداَ تنظرین للأفق المجهول

فهل تجلى الخفی

أبداَ تسألین و القدر الساخر

صمت مستغلق أبدی (نازك الملائكة، دیوان مأساة الحیاة، ص 22).

تحدثت الشاعرة كثیراَ فی أشعارها عن الإنسان و عن سر وجوده كما تحدثت عن عجزه عن معرفة هذا الكون الغامض المعقد و تعتقد أن حیاة الإنسان مجهولة غامضة ملیئة بالأسرار و الآلغاز التی لم یكن فی إمكان أحد أن یكشفها حتى الآن و مضمون الشعرها الیأس و العجز عن حل هذه الأسرار و الألغازو الرجاء لا طائل تحته:

نحن نحیا فی عالم لیس یُدرى
سره فهو غیهب مجهول
أی شیء هذا الفضاء؟ و ما سر
دجاه ؟ هل خلفه من حدود؟
هو سر الحیاة دقّ على الأفهام
حتى ضاقت به الحكماء
ما الذی یطلع النجوم على الكون
مساء؟ ما كنه هذا الوجود؟
فأیأسی یا فتاة ما فهمت من
قبل أسرارها ففیم الرجاء؟ (نازك الملائكة، دیوان مأساة الحیاة، ص 23).

و تعتقد أن النسان لیس بقادر أن یكشف الأسرار لكنها تسعى أن تجد السعادة و هناك صراع للوصول إلیها و لكن أخیراَ تقنع بالجهل و تریح نفسها من عناء الصراع فی سبیل وصولها لأنه لا یوجد أحد أن رآها إذن تبقى كلغز:

فیم لا تیأسین؟ ما أدرك الأسرار

قلب من قبل كی تدركیها

أسفاَ یا فتاة لن تفهمی الأیام

فلتقنعی بأن تجهلیها

نحن ندعوه بالسعادة لكن

لیس منا من ذاقه أو رآه

ذلك اللغز ذلك الحُلُم المحجوب

خلف الضباب أین تراه ؟ (نازك الملائكة، دیوان مأساة الحیاة، ص 22).

و تعتقد أن الألم جزء لا ینفصل عن الوجود الإنسانی و عقوبة طبیعیة و أنه دائما َمع الحیاة و هذا الجرح عمیق عندما كان الإنسان فی شبابه و لا فائدة من البقاء مادامت الحیاة تجرح الإنسان بالأسى و العذاب :

    كل ما فی الوجود یؤلمنی الآن
    و هذی الحیاة تجرح نفسی (نازك الملائكة، دیوان، ج 1، ص ٤3).
    كل ما فی الوجود یجرحنی الآن
    و لون الحیاة یطعن نفسی (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 257).
    و أكفّ الحیاة تجرحنی فیم
    بقائی؟ حسبی أسى و عذابا
    فی ربیع الشباب ما أعمق الجرح
    إذا كانت الحیاة شبابا (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 250).
    و لا مفر للإنسلن من آلامه و هو محاصر بها مادام یعانی الحیاة:
    أین أمضی یا رب أم كیف أنجو
    من قیود الفناء والأیام
    ضاق بی العالم الفسیح فیا
    للهول أین المفر من آلامی (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 213).
    و لا یمكن أن یفر من الأوهام و الأفكار:
    آه لو كان فی الحیاة مفر
    من شقاء الأوهام و الأفكار (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٤18).

و ترید أن تفهم ماذا تصنع بها المأساة فی المستقبل المجهول و ماذا یستقبلها من أجل هذا تنادی القلب بقولها :

حدثی القلب أنت أیتها المأساة

یا من قدسمیت بالحیاة

ما الذی تصنعین بی فی الغد المجهول

ماذا تری مصیر رفاتی ؟ (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 25).

لهذا السبب تقرر أن تسأل عن اللیل ربما یظهر لها ما ترید و لكن تشاهد الأوهام تسخر منها و لا تجیبها و یبقی سؤالها فی هذا المجال بدون جواب:

    طالما قد سألت لیلی لكن
    عزّ فی هذه الحیاة الجواب
    لیس غیر الأوهام تسخر منی
    لیس إلا تمزق و اضطراب (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٦2).

كما تكون الحیاة مبهمة، إن الموت لغز أیضاَ و حل هذا اللغز صعب جداَ و ما زال یبقی لغز عمیقاَ:

    هل فهمتُ الحیاة كی أفهم الموت
    و أدنو من سره المكنون
    لم یزل عالم المنیة لغزاَ
    عزّ حلاَ علی فؤادی الحزین (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٦2).
    و أكفّ الحیاة تجرحنی واللغز
    یبقی لغزاَ عمیقاَ خفیاَ
    تتحدی الأحیاء قهقهةُ الموت
    و تبقی الحیاة لیلاَ دجیا (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 8٤2).
    و كما أن الحیاة قد جرّعتها الحزن و الیأس، المنایا لا تهتم بأمنیاتها:
    ولْتَجرّعنی الحیاة كؤوس الحزن
    و الیأس ما یشاء شقاها
    هل ستصغی إلی رجائی المنایا
    إن تمنیت صمتها و دجاها
    إن تمنیت أن آعیش فما
    یستمع الموت أو یمد سنینا
    أو تمنیت أن أموت فما یرحم
    حلمی ولست القى المنونا (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 27).
    و ترى الموت غالباَ منتصراَ و أننا أمامه ضعفاء:
    هكذا الموت غالب أبد الدهر
    و نحن الصرعى الضعاف الحیارى
    و له النصر و الفخار علینا
    فاندبوا مادعوتموه انتصارا (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 58).
    و إن المهم هو إرادة القدر:
    هكذا مما یریده القدرالمحتوم
    لا ما تریده آمالی (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 28).

طبعاَ تعود الشاعرة بنسبة الشر فی نفس الإنسانیة إلی خطیئة آدم و حوّاء و تؤكد على هذا الموضوع عدة مرّات خاصة فی مطولتها" مأساة الحیاة" و أغنیة للإنسان" و الشیطان نجح فی قهر الإنسان و غرس نزعة الشر فی وجود الإنسان بخضوعه لإرادته:

لیت حوّاء لم تذق ثمر الدوحة

لیت الشیطان لم یتجنا

علمتنا ثمارنا فكرة الشر

فكان الحزن العمیق العاصر (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 200)

و أحیاناَ تفكرفی الذنب الذی ارتكبه آدم بحیث یحق العذاب على البشر جمیعاَ و تقول:

    حسبها أننا دفعنا إلیها
    ثمن العیش حیرة و دموعا
    أی ذنب جناه آدم حتى
    نتلقى العقاب نحن جمیعا (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 38).
    والحیاة عندها منبع شر و شقاء و اضطراب و لا مهرب منها و تصفها هكذا:
    لقبوها الحیاة و هی اضطراب
    أبدی و لهفة لا تقر
    و امتداد للانهایة لا یبدأ
    لا ینتهی و أین المفر؟(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 3٦1)
    و ترون الحیاة منبع شر
    لیس منها منجى و لیل شقاء
    هی هذی الحیاة زارعة الأشواك
    لا الزهر و الدجى و لاالضیاء
    هی نبع الآثام تستلهم الشر
    وتحیا فی الأرض لا فی السماء(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 37)
    و تصفها أنها كساقیة تسقی كؤوس السم و تعطیها للعطاش:
    هی هذی الحیاة ساقیة السم
    كؤوب یطفو علیها الرحیق
    أومأت للعطاش فاغترفوا منها
    ومن ذاتها فلیس یفیق(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 37)
    والحیاة الإنسانیة شقاء دائم:
    عالم كل من على وجهه یشقى
    و یقضی الأیام حزنا و یأسا
    عبثا فالحیاة سنته الحزن
    و حكم الآهات والدمع جار(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 8٦٤)
    كما ضاق قطرة من نعیم
    أعقبتها من الأسى ألف قطرة
    و مهداتها هی:
    هی هذی الحیاه لاتمنح الأحیاء
    إلا العذاب و الأهوالا(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 3٤1)
    وقد بلغ التشاؤم فبها إلى حد ترى أن الحیاة كلها مأساة من بدایتها ألی نهایتها:
    ما أفظع المبدأ و المنتهى
    ما أعمق الحزن الذی نحمل(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص٦52)

و العالم الملیئ بالشقاء و الألم ولا فائدة فی تهذیب النفس لأنها حاملة الشر و البغضاء:

    هكذا شاءت المقادیر للعالم
    إثم و شقوة و حروب
    و هی النفس تحمل الشر و البغض
    فماذا یفیدها التهذیب (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 50)
    ولا نجاة من الكون المعذب المسوق إلى الأحزان:
    كیف ینجو من الأسى ومتى یشفى
    فی الموجعات و الآلام؟
    یالهذا الكون المعذب فی قید
    من الشرو الأذى و الآثام
    كیف ینجو و الطبع و القدر القاسی
    یسوقان إلى الأحزان (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 51)
    و هناك لیس أی شفاء لهذا الیأس و الحزن؛ لأن:
    لیس یشفیهم من الحزن و الیأس
    دواء فالداء فی الأرواح (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 87)
    و لا یوجد أی رخاء و راحة حتى فی القبر:
    افتحوا هذه القبور و هاتوا
    حدّثونا أین الغنى و الرخاء؟ (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٦5)

مع أنها تعتقد بأن الموت كارثة أقسى و تعتقد أن تشاؤمها قد فاق تشاؤمها" شوبنهاور" لأنه كان یعتقد أن الموت نعیم یختم عذاب الإنسان أما هی فلم تكن عندها كارثة أقسى من الموت و هو یلوح لها مأساة الحیاة الكبرى و أن التشاؤم و الخوف من الموت من مشاعرها. لكنها بالفعل تؤمن بأنه یخلص الإنسان من الشقاء و الألم و تؤمن بقول شوبنهاور: إن أعظم نعیم للناس جمیعا هو الموت؛لأنها تجد فیه راحة لا تجد ها فی الحیاة و لفظ الموت قد ذكر كثیرا فی عالمها الشعری حتى فی عناوین قصائدها الكثیرة؛ " عیون الأموات" ، "أنشودة الأموات" ، "بین فكّی الموت" ، "قلب میت" و…. و ترحب به و تلقاه غیر محزونة و لا سیما فی میعة شبابها إذن فلسفتها العملیة تثبت خلاف آرائها و عقائدها فی هذا المجال:

عدت أخشى الحیاه أفرق منها
و أراها دعابة لا تطاق
فإذا ما أتممت لحنی كما أهوى
فماذا أریده من حیاتی
لیس فی الكون بعد شعری ما یغری
فؤادی فمرحبا بالممات
سوف ألقى الموت المحجّب روحا
شاعریا یحب صمت التراب
و فؤادا یرى الممات شبابا
للمنى و الشعور أی شباب
سوف ألقاك غیر محزونة یا
موت فی میعة الشباب الغرید (نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 218).

و ترى هموم الشباب أحر الهموم و الأحزان و الحیاة كلها ملیئة بالیأس و الحزن حتى مبهجات الحیاة:

یا هموم الشباب فیم تكونین

أحرالهموم و الأحزان

ها أنا فی الشباب تقتلنی الوحدة

و الصمت و الأسى یا هموم

أینما أتجه فثمة أحزان

أراها و وحشة و وجوم

كل شیء أراه یملأنی حزنا

و یأسا من مبهجات الحیاة(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 209)

و تشكو من خیبة أحلامها؛ لأنها:

یا خیبة الأحلام ما أبقیت لی

إلا ضلال كآبتی و ظلامی(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 87٤)

و تحس بالعجز و ترید الرأفة:

آه فارأف بفتاة حطّم الدهرُ مناها

و أفاقت لیهدّ الحزن و الیأس قواها(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٦1٦)

و ترىأن لهذه الشكوی الحزینة لیست فائدة:

آه لا بد من أسانا فماذا

نفع هذی الشكوى الحزینة منا(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٦23)

و أخیرا تنفر من كل شیء و تحس بالسآمة حتى فی التفكیرو البقاء و الواقع و إلخ ولا ترید أن تعیش روحها مثل الناس:

و أنفر من كل ما فی الوجود

و أهرب من كل شیء أراه(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٤5)

روحی لاتعشق أن تحیا مثل الناس

أنا أحیانا أنسى بشریة إحساسی(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 98)

قد سئمت التفكیر یا لیلی الساحی

و ألقیت بالكتاب الحبیب

قد سئمت الأمل المر الكذوبا

أیها الغادر لا تنظر إلیّا(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 570)

قد سئمت الواقع المر المملا

ولقد عدت خیالا مضمحلا

ففیم أعیش ؟ سئمت البقاء

و شاق حیاتی صمت العدم(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 599)

و قصارى القول إذا تطرفنا إلی أشعارها رأینا أن روح التشاؤم كیف سرت فی نفسیة الشاعرة ، و فی نفسها نوع من الیأس و التشاؤم الذی قد تسرب فی كلماتها و ألفاظها و قد آل المطاف بها أن تضجرت بكل شیء فی الحیاة و لا ترید أن تحیا مثل السائرین و آمنت بأننا نعیش فی العالم الذی:

نحن نحیا فی عالم كله دمع

و عمر یفیض یأسا و حزنا

تستشفی عناصر الزمن القاسی

بآهاتنا و تسخر منا(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص 1٦1)

و تعیش فی عالمها الذی رسمت لنفسها و العالم الذی فرض على نفسها و هو سر التألم و التمزق فی حیاتها. و من أجل هذا العالم الملیء بالأحزان و الآلام الذی رسمت الشاعرة لنفسها،و الحیاة فیه جافة باردةو لا معنی للعیش فیه تعتقد بوجوب استقبال الموت لأنه:

    لنمُت فالحیاة جفّت و هذه الأكؤس
    الفارغات تسخر منا
    و سكون الحیاة فی جسد الأحلام
    لم یبق قط للعیش معنى
    و فراغ الآهات أثبت أنا
    قد فرغنا من دورنا و انتهینا
    و لمذا نبقى هنا نسمع الموت
    ینادی بنا فلم لا نجیب؟
    لنمت فالریاح تجرح وجهینا
    و لون الدجى عمیق رهیب(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٦10)
    و هناك سبب آخر لاستقبال الموت،هو:
    عصرتنی الحیاة لم یبق معنى
    لوجودی، لأدمعی،لحیاتی
    كل شیء یلوح لی عدما مرا
    و لغزا مكنفا بالشكاة(نازك الملائكة، دیوان ، ج 1، ص ٤٦2).
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:16|
نازك الملائكة




بدأتْ نظم الشعر بالعامیة العراقیة قبل سِنّ العاشرة ثم نَظمتْ أول قصیدة بالعربیة الفصحى وهی فی العاشرة من العُمر.

تجید الشاعرة العزف على آلة العود التی درستها لمدة ست سنوات فی معهد الفنون الجمیلة. الصفحة الأولی
نبذة عن حیاة نازك الملائكة

ولدت الشاعرة نازك الملائكة فی بغداد عام 1923م ، ونشأت فی بیت علمٍ وأدب ، فی رعایة أمها الشاعرة سلمى عبد الرزاق أم نزار الملائكة وأبیها الأدیب الباحث صادق الملائكة ، فتربَّت على الدعة وهُیئتْ لها أسباب الثقافة . وما أن أكملتْ دراستها الثانویة حتى انتقلت إلى دار المعلمین العالیة وتخرجت فیها عام 1944 بدرجة امتیاز ، ثم توجهت إلى الولایات المتحدة الأمریكیة للاستزادة من معین اللغة الانكلیزیة وآدابها عام 1950 بالإضافة إلى آداب اللغة العربیة التی أُجیزت فیها . عملت أستاذة مساعدة فی كلیة التربیة فی جامعة البصرة .

تجید من اللغات الإنجلیزیة والفرنسیة والألمانیة واللاتینیة ، بالإضافة إلى اللغة العربیة ، وتحمل شهادة اللیسانس باللغة العربیة من كلیة التربیة ببغداد ، والماجستیر فی الأدب المقارن من جامعة وسكونس أمیركا .

مثّلت العراق فی مؤتمر الأدباء العرب المنعقد فی بغداد عام 1965 .

آثارها : لها من الشعر المجموعات الشعریة التالیة :

- عاشقة اللیل صدر عام 1947.

- شظایا ورماد صدر عام 1949 .

- قرارة الموجة صدر عام 1957 .

- شجرة القمر صدر عام 1965 .

- مأساة الحیاة وأغنیة للإنسان صدر عام 1977 .

- للصلاة والثورة صدر عام 1978 .

- یغیر ألوانه البحر طبع عدة مرات .

- الأعمال الكاملة - مجلدان - ( عدة طبعات ) .

ولها من الكتب :

- قضایا الشعر المعاصر .
- التجزیئیة فی المجتمع العربی .
- الصومعة والشرفة الحمراء .
- سیكولوجیة الشعر .

كتبت عنها دراسات عدیدة ورسائل جامعیة متعددة فی الكثیر من الجامعات العربیة والغربیة .

نشرت دیوانها الأول " عاشقة اللیل " فی عام 1947 ، وكانت تسود قصائده مسحة من الحزن العمیق فكیفما اتجهنا فی دیوان عاشقة اللیل لا نقع إلا على مأتم ، ولا نسمع إلا أنیناً وبكاءً ، وأحیاناً تفجعاً وعویلاً " وهذا القول لمارون عبود .

ثم نشرت دیوانها الثانی شظایا ورماد فی عام 1949 ، وثارت حوله ضجة عارمة حسب قولها فی قضایا الشعر المعاصر ، وتنافست بعد ذلك مع بدر شاكر السیاب حول أسبقیة كتابة الشعر الحر ، وادعى كل منهما انه اسبق من صاحبه ، وانه أول من كتب الشعر الحر ونجد نازك تقول فی كتابها قضایا الشعر المعاصر " كانت بدایة حركة الشعر الحر سنة 1947 ، ومن العراق ، بل من بغداد نفسها ، زحفت هذه الحركة وامتدت حتى غمرت الوطن العربی كله وكادت ، بسبب تطرف الذین استجابوا لها ، تجرف أسالیب شعرنا العربی الأخرى جمیعاً ، وكانت أول قصیدة حرة الوزن تُنشر قصیدتی المعنونة " الكولیرا " وهی من الوزن المتدارك ( الخبب) . ویبدو أنها كانت متحمسة فی قرارها هذا ثم لم تلبث أن استدركت بعض ما وقعت فیه من أخطاء فی مقدمة الطبعة الخامسة من كتابها المذكور فقالت :عام 1962 صدر كتابی هذا ، وفیه حكمتُ أن الشعر الحر قد طلع من العراق ومنه زحف إلى أقطار الوطن العربی ، ولم أكن یوم أقررت هذا الحكم أدری أن هناك شعراً حراً قد نظم فی العالم العربی قبل سنة 1947 سنة نظمی لقصیدة (الكولیرا) ثم فوجئت بعد ذلك بأن هناك قصائد حرة معدودة قد ظهرت فی المجلات الأدبیة والكتب منذ سنة 1932 ، وهو أمر عرفته من كتابات الباحثین والمعلقین لأننی لم أقرأ بعد تلك القصائد فی مصادرها " .
نازك الملائكة.. ونقد النقد

مصطفى عاشور

ولدت نازك صادق جعفر الملائكة فی (غرة محرم 1342هـ= 23 من أغسطس 1923م) فی بیت عرف بالعلم والأدب فی بغداد، فأبوها من مدرسی اللغة العربیة المتبحرین فی علومها وآدابها، أما أمها "سلمى عبد الرزاق" فكانت شاعرة مجیدة ولها دیوان منشور بعنوان "أنشودة المجد".

تفتحت الموهبة الأدبیة لنازك مبكرا فاتجهت منذ صغرها إلى دراسة الأدب القدیم، واستفاضت فی دراسة النحو وقرأت ودرست عیون التراث العربی اللغوی والأدبی، وكانت شدیدة النهم للقراءة حتى إنها قرأت كتاب "البیان والتبیین" للجاحظ فی ثمانیة أیام؛ وهو ما أصابها بمرض مؤقت فی عینیها، وتحكی عن نفسها أنها كانت تشعر بالرهبة والخوف إذا لم تقرأ ثمانی ساعات یومیا.

التحقت بدار المعلمین العالیة وتخرجت فیها سنة (1364هـ= 1944م)، وفی عام (1367هـ= 1947م) نظمت أول قصیدة فی الشعر الحر بعنوان "الكولیرا"، وقالت عن القصیدة بأنها "ستغیر خریطة الشعر العربی".

- حصلت على الماجستیر من الولایات المتحدة عام (1370هـ= 1950م) فی الأدب المقارن وأجادت اللغة الإنجلیزیة والفرنسیة والألمانیة واللاتینیة، ثم عادت عام (1374هـ= 1954م) ثانیة إلى الولایات المتحدة لدراسة الدكتوراة فی البعثة التی أوفدتها الجامعة العراقیة، واطلعت على الأدب الفرنسی والصینی والألمانی والهندی.

- وبعد عودتها للعراق عملت بكلیة التربیة ببغداد سنة (1377هـ= 1957م)، ثم انتقلت إلى جامعة البصرة وتزوجت فی عام (14384هـ= 1964م) من الأستاذ الدكتور "عبد الهادی محبوبة" رئیس جامعة البصرة.

- رحلت إلى الكویت مع زوجها وعملا بالتدریس فی جامعة الكویت، ومنحتها الجامعة عام (1406هـ= 1985م) إجازة تفرغ للعلاج بعدما أصیبت بمرض عضال ثم عادت إلى العراق ومنها إلى القاهرة لتكمل علاجها الطبی بسبب نقص الأدویة فی العراق بسبب الحصار الأمریكی. واتخذت نازك وزوجها وابنها الوحید الدكتور "براق" القاهرة سكنا ومستقرا دائما.

- وبعد وفاة زوجها الدكتور "محبوبة" سنة (1422هـ= 2001م) عاشت فی عزلة بعیدا عن ضجیج الحیاة، مما حدا ببعض الصحف أن تنشر أخبارا عن وفاتها رغم أنها ما زالت على قید الحیاة.

- جمعت الدكتورة "نازك الملائكة" بین الشعر والنقد، ونقد النقد، وهی موهبة لم تتوفر إلا للنادر من الأدباء والشعراء، وأصدرت عددا من الدواوین والدراسات النقدیة والأدبیة، فمن دواوینها "عاشقة اللیل" عام (1367هـ= 1947م) و"شظایا ورماد" عام (1369هـ= 1949م)، و"قرارة الموجة" عام (1377هـ= 1957م)، و"شجرة القمر" عام (1388هـ= 1968)، وجمعت دواوینها فی مجلدین ضخمین ونشرا فی بیروت. ومن دراستها النقدیة "قضایا الشعر المعاصر" و"الأدب والغزو الفكری" و"محاضرات فی شعر علی محمود طه" و"سیكولوجیا الشعر".

- وقد حصلت "نازك الملائكة" على عدد من الجوائز الأدبیة منها جائزة الإبداع العراقی عام (1413هـ= 1992م) وجائزة البابطین للشعر.

- وكانت قصیدة "أنا وحدی" آخر قصائدها المنشورة التی رثت بها زوجها الدكتور "محبوبة".

توفیت یوم الخمیس 21 من حزیران - یونیو 2007 فی القاهرة، وقد نشرت الشرق الأوسط التقریر التالی عنها

رحیل نازك الملائكة رائدة الشعر العربی الحدیث

تشیع فی جنازة رسمیة ببغداد القاهرة: جمال القصاص وأیمن حامد الدمام: عبید السهیمی بیروت : سوسن الأبطح غیب الموت فی القاهرة مساء اول من أمس الأربعاء، الشاعرة العراقیة نازك الملائكة رائدة الشعر العربی الحر، عن عمر یناهز 84 عاما، إثر هبوط حاد فی الدورة الدمویة وبعد معاناة طویلة مع أمراض الشیخوخة.

وأفاد منصور عبد الرزاق الملحق الثقافی العراقی بالقاهرة، بأن رئیس الوزراء العراقی نوری المالكی أمر بنقل جثمان الشاعرة الراحلة من القاهرة لتدفن فی بلدها العراق فی جنازة رسمیة. وقدم المالكی العزاء إلى أسرة الشاعرة والى الشعراء والمثقفین العراقیین ووصف المالكی الشاعرة الراحلة بـ«ابنة العراق الغالیة».

ولدت نازك الملائكة فی بغداد فی 28 أغسطس (آب) عام 1923 فی أسرة محبة للثقافة والشعر، وتخرجت فی دار المعلمین العالیة ببغداد عام 1942، ثم التحقت بمعهد الفنون الجمیلة وتخرجت فی قسم الموسیقى عام 1948 وفی عام 1959 حصلت على شهادة الماجستیر فی الأدب المقارن من جامعة وسكونسن بالولایات المتحدة، وعینت أستاذة فی جامعة بغداد وجامعة البصرة ثم جامعة الكویت. ومع تدهور الأوضاع السیاسیة فی العراق غادرته الملائكة، وأقامت لبعض الوقت بعدة دول عربیة، وفی عام 1989 اختارت الإقامة فی القاهرة بشكل دائم، ورفضت العودة إلى العراق، وفی منزل بسیط بضاحیة مصر الجدیدة عاشت مع أسرتها الصغیرة برفقة زوجها عبد الهادی محبوبة، الذی توفی قبل عدة سنوات وابنها الوحید البراق. وخلال تلك الفترة آثرت الملائكة العزلة والابتعاد عن الأضواء والمهرجانات الثقافیة حتى أنها لم تحضر احتفالیة التكریم، التی أقامتها لها دار الأوبرا المصریة فی 26 مایو (أیار) عام 1999، بمناسبة مرور نصف قرن على انطلاقة مسیرة الشعر الحر فی الوطن العربی.

وحاولت «الشرق الأوسط»، الاتصال بنجلها الوحید البراق، لكنه اعتذر عن عدم الحدیث عن أمه الرؤوم ـ على حد قوله ـ لانشغاله بمراسم نقل جثمانها إلى بغداد، لكنه أفاد بأنه سیقیم لها مساء الیوم سرادق عزاء فی أحد مساجد لقاهرة. دشنت نازك الملائكة عام 1947 بقصیدتها «الكولیرا» ما عرف بالشعر الحر فی الأدب العربی، وقد كتبتها تضامنا مع مشاعر المصریین، الذین حصد هذا الوباء أرواح الكثیرین منهم، خاصة فی الریف المصری، لكنها فی الطبعة الخامسة من كتابها الشهیر «قضایا الشعر المعاصر» أقرت بأن قصیدتها لم تكن قصیدة الشعر الحر الأولى، بل سبقتها قصائد نشرت منذ عام 1932. تركت نازك الملائكة تراثا شعریا وأدبیا مهما، بدأته بدیوانها الشعری الأول «عاشقة اللیل» عام 1947 ببغداد، ثم توالت مجموعاتها الشعریة ومنها: «قرار الموجة» 1957، «شجرة القمر» 1968، «یغیر ألوانه البحر» 1977، «للصلاة والثورة» 1978. كما صدرت لها بالقاهرة عام 1997 مجموعة قصصیة لفتت أنظار النقاد بعنوان «الشمس التی وراء الغیمة». وإضافة إلى كتابها النقدی الرائد «قضایا الشعر المعاصر» تركت نازك الملائكة عددا من المؤلفات الأدبیة المهمة، منها دراسة فی علم الاجتماع بعنوان «الجزیئیة فی المجتمع العربی»، «الصومعة والشرفة الحمراء» و«سیكولوجیة الشعر». حصلت نازك الملائكة فی عام 1996 على جائزة البابطین الشعریة.

وأثناء ملتقى القاهرة الدولی للشعر العربی، الذی نظمه المجلس الأعلى للثقافة بمصر فی شهر فبرایر (شباط) الماضی، طرح اسم نازك الملائكة ضمن الأسماء المرشحة للفوز بالجائزة، لكن لجنة التحكیم اختارت الشاعر الفلسطینی الكبیر محمود درویش لیفوز بتلك الجائزة. وكان رئیس اتحادی الكتاب المصریین والعرب محمد سلماوی، قد طالب الشهر الماضی بعلاج نازك الملائكة، كما أصدرت مجموعة من المثقفین والسیاسیین العراقیین المقیمین فی مصر بیانا قبل نحو أسبوعین، طالبوا فیه الحكومة العراقیة بتولی علاج نازك الملائكة، إلا أن أسرة الشاعرة الراحلة سارعت بإصدار بیان نفت فیه تدهور صحتها، وأكدت عدم حاجتها إلى تدخل أی جهة فی حیاة الشاعرة الكبیرة. شوشة: أهم شاعرة عربیة معاصرة فی مصر نعى الشعراء والكتاب رحیل الشاعرة العراقیة الكبیرة نازك الملائكة. وقال الشاعر فاروق شوشة إن الشاعرة العراقیة الراحلة كانت أهم شاعرة عربیة فی النصف الثانی من القرن العشرین، إذ ثبتت موقع الریادة للمرأة الشاعرة فی حركة الحداثة الشعریة، عندما قاد زملاؤها فی العراق السیاب والبیاتی والحیدری حركة التجدید الشعری. ویضیف شوشة أن الشاعرة الراحلة كان لها أیضا دورها النقدی المهم عندما كتبت عن هذه الحركة الجدیدة فی كتابها «قضایا الشعر المعاصر» شارحة أسباب هذه الحركة الجدیدة ودواعیها ومستقبلها. كما كتبت مؤلفا نقدیا مهما عن الشاعر علی محمود طه، كانت فی الأساس مجموعة محاضرات ألقتها فی مصر فی مطلع الستینات. ویوضح شوشة أن الشاعرة الراحلة كان لها أیضا دور ثقافی باعتبارها من علامات التنویر فی الحركة الثقافیة المعاصرة، وقامت بترجمة نماذج عدیدة من الشعر الإنجلیزی لفتت فیه الأنظار إلى شعراء مهمین.

وعن خصائص نازك الملائكة الشعریة قال شوشة إنها كانت مولعة بالتأمل، نتیجة لطابع العزلة الذی كانت تعیش فیه، إذ كانت الشاعرة الراحلة انطوائیة لا تمیل للحیاة الاجتماعیة ولا للعلاقات الواسعة. وقال شوشة إن الشاعرة الكبیرة اختارت مصر لتكون وطنها فی سنوات المرض الأخیرة، إذ كانت مرتبطة بالحیاة الثقافیة المصریة ارتباطا وثیقا وبقیت تعیش فی شقتها بالقاهرة مع ابنها الوحید البراق، تعبیرا عن حبها واعتزازها بمصر. أبو سنة: صوت مرهف وعقل نقدی بارز وقال الشاعر المصری محمد إبراهیم أبو سنة أن رحیل الشاعرة العراقیة الكبیرة یعد خسارة كبیرة للشعر العربی المعاصر، إذ أنها واحدة من ثلاثة رواد بادروا إلى اقتحام ساحة الحداثة الشعریة، أما الآخران فهما بدر شاكر السیاب وعبد الوهاب البیاتی، وبهذا رحل الثالوث الرائد الذی غیر وجه القصیدة فی القرن العشرین.
ویضیف أبو سنة، أن نازك الملائكة كانت صوتا مرهفا وعقلا نقدیا بارزا، امتلكت ناصیة الثقافة العربیة العمیقة، وكذلك استقت من مشارب الثقافة الغربیة، خاصة الإنجلیزیة والأمیركیة. ویتابع أبو سنة أن اتصال الشاعرة الراحلة بحركة التجدید مع زملائها السیاب والبیاتی لم یمنع بروز صوتها الأنثوی الخاص، الذی اتسم بهذه الرقة الفیاضة فی اللغة والصورة الشعریة النضیرة، والعمق فی الإحساس بالأشیاء، وهی خصائص تمیز المرأة وتمیز نازك الملائكة على وجه التحدید.

وقال أبو سنة أن الشاعرة العراقیة أبدعت تسعة دواوین، وكانت قصیدتها الأولى بعنوان «الكولیرا» كتبتها فی عام 1947، وعبرت فیها عن اهتمامها بالقضایا الاجتماعیة والقومیة بعد انتشار وباء الكولیرا فی مصر ذلك العام، حیث بوحی من ضمیرها الوطنی هذا الحادث الاجتماعی لتكتب هذه القصیدة الرائدة.

ویضیف أبو سنة أن البعض رأى فی نازك الملائكة شاعرة تقف على الأعراف بین حدود الكلاسیكیة والرومانتیكیة والواقعیة، فهی لم تبحر بعیدا فی میدان الحداثة، واستطاعت أن تكبح جماح ثورتها الحداثیة نحو إطار متوازن ومعتدل لا یقطع الصلة بین التراث وحركة الحداثة. ویرى أبو سنة أن نازك الملائكة قد تعجلت فی محاولة وضع قواعد لقصیدة التفعیلة قبل أن تنضج هذه القصیدة، غیر أن نازك ـ بحسب أبو سنة ـ كانت حریصة على القصیدة العربیة، وكانت تخشى من انزلاق حركة الحداثة إلى نوع من الفوضى فبادرت بوضع قوانین وتنبؤات، ویضیف أبو سنة أن تحذیر نازك الملائكة للشعراء من التورط فی حداثة تمیل إلى التجریب والتغریب كان تحذیرا فی محله، لأن القصیدة انتقلت بعد ذلك إلى مرحلة التفریط والإفراط، وتمیزت بالفوضى وصارت أطلال أشباح لنماذج مترجمة من الشعر الأجنبی.

- إیمان بكری: تركناها فی عزلتها من جانبها قالت الشاعرة المصریة إیمان بكری إن نازك الملائكة كانت واحدة من أبرز الأصوات النسائیة الإبداعیة التی فرضت نفسها ووجودها وكان لها الفضل فی ترسیخ حركة التجدید فی الشعر العربی، كما تمیزت بالشجاعة فی طرح مشروعها الأدبی وسط كوكبة من عمالقة الشعر العربی الحدیث، وهذا فی حد ذاته انتصار للصوت النسوی فی حركة الشعر الجدیدة. وقالت إیمان بكری إن موت نازك الملائكة مأساة حقیقیة، واستطردت قائلة إن الموت أمر مقدر على كل إنسان، لكن موت شاعرة العراق على هذا النحو هو المأساة ذاتها، إذ أنها عاشت كل تلك السنوات بیننا، لكن لم یحاول واحد إجراء حوار معها یغوص فی مكنونات امرأة مبدعة كنا نرید الاستدفاء بوجودها بجوارنا. وتضیف بكری أننا أهدرنا فرصة كبیرة للولوج إلى عوالم نازك الملائكة، حتى أن كثیرین من الشعراء العرب والمنسوبین إلى الثقافة كانوا یعتقدون أنها رحلت منذ زمن بعید. مشیرة إلى أنه من الخطأ ترك أی مبدع یقع فی حالة الكآبة والعزلة، ولا بد من الالتفاف حوله ومساعدته فی استعادة حیاته الأدبیة. وتضیف بكری أن شعر الراحلة تمیز باستحداث الكلمات والتغییر فی القالب الشعری، والتحدی وكسر التقلید الذی كان قد بدأ یأكل فی الشعر العربی. كما تمیز بالرقة والعذوبة والصدق فی التعبیر وخلق أجواء جدیدة، غامضة فی بعض الأحیان لكنها تشعل الوجدان وتحفز العقل.
كتاب سعودیون : نازك الملائكة مثلت تحولا شعریا مكتملا

اعتبر الأدباء والنقاد السعودیون رحیل الشاعرة العراقیة نازك الملائكة، حدثاً بالغ الأهمیة، وذلك لأهمیة موقعها فی الخریطة الشعریة العربیة الحدیثة، فالشاعرة تعد من أوائل الشعراء الذین كتبوا القصیدة العربیة الحدیثة، فی ما یعد كثیر من النقاد قصیدتها «الكولیرا»، التی نشرتها فی عام 1947، الشرارة الأولى، للشعر العربی الحدیث، التی فتحت باباً واسعاً للتجدید فی الشعر العربی

- الملا: الملائكة كانت تعی دورها یقول الشاعر أحمد الملا، مدیر نادی المنطقة الشرقیة الأدبی: «وفاة الشاعرة العراقیة نازك الملائكة، لها دلالتان: الأولى تاریخیة والثانیة حدثیة، فالتاریخی فی وفاة نازك الملائكة، لا یشك أحد فی دور الشاعرة، فی المسیرة الشعریة العربیة الحدیثة، حیث أن الشاعرة أسست لحركة التجدید الشعری العربی المعاصر، لكن ذلك لا یعنی الریادة، لأن من یطلق الشرارة الأولى لیس بالضرورة أن یكون الرائد فی هذا المجال، ومن یستحق لقب رائد هو من رسخ المبادئ بشكل أكبر، ولذلك هناك خلافات كثیرة حول مكتشف التجربة الشعریة الحدیثة، لكن لا أحد یشك فی أن الملائكة والشاعر بدر شاكر السیاب لهما دور كبیر فی ذلك.

والموقف الآن لا یبحث فی هذا المجال، بقدر ما یبحث فی أهمیة نازك الملائكة ودورها فی التیار الذی عمل على مسألة التجدید الشعری والفكری العربی فی هذا المجال، خاصة أن دورها لم یقتصر على كتابة الشعر فقط، وإنما بحثت فی الجانب النقدی فی هذه التجربة، من خلال كتابها الرائع والمهم «قضایا الشعر العربی المعاصر»، وهذا یعطی دلالة أنها كانت تمارس دورها عن وعی ولیست صدى لتجارب أخرى.

ویضیف الملا: «أما فی الشق الثانی، وهو الحدث (الوفاة) فمن الأسف أن تجد أحد المبدعین ینتهی بهذا الشكل وبدون أی تقدیر، وفی مكان مجهول، بینما المتوقع أن یكون له اهتمام فی حیاته وما بعد مماته. للأسف اننا فی العالم العربی والعالم الثالث عموماً نتذكر مبدعینا ونكرمهم بعد رحیلهم، ویكون حدیثنا عنهم بشكل تطهیری وبشكل یوحی برفع اللائمة عن أنفسنا تجاههم، بینما فی المجتمعات التی تحترم قدراتها وتحترم مبدعیها، تحتفی بهم فی حیاتهم وبعد مماتهم، فقبل موت الشاعرة كانت هناك مطالبات عدیدة برعایة الشاعرة والاهتمام بصحتها، لكن لم یكن هناك التجاوب المأمول مع وضع الشاعرة من قبل المؤسسات المختلفة فی الوطن العربی، وهذا ینسحب على كثیر من المبدعین، الذین یكونون فی أمس الحاجة إلى الرعایة والاهتمام، لكن ذلك لا یأتی إلا بعد فوات الأوان، وما نتمناه فی كل حدث مثل هذا أن یتم الاهتمام بالمبدعین قبل وأثناء معاناتهم، ولیس بعد رحیلهم».

- الزهرانی: موتها انسحاب للشعر من المشهد العبثی الدكتور معجب الزهرانی استاذ الأدب العربی بجامعة الملك سعود، بالریاض، والناقد الأدبی یقول: «تمثل نازك الملائكة، لحظة تحول مهمة جداً فی الشعریة وكذلك سیاق الشعریة العربیة الحدیثة، وهی بقدر ما القی الضوء حولها، ستظل هناك نقاط ملتبسة فی هذا اللحظة التحولیة المثیرة للأسئلة، فقبلها حاول بعض الشعراء المهجریین، احداث نوع من أنواع الثورة فی لغة القصیدة العربیة وفی موضوعاتها وفی أشكالها، ولكن أن تأتی نازك الملائكة وتشخص هذا التحول فی قصائدها، وكذلك السیاب، فهذا ما یثیر الأسئلة، وفی اعتقادی أنه ما زالت هناك حاجة ماسة للبحث فی لحظة التحول هذه، رغم ما كتب عنها من دراسات نقدیة». ویضیف الزهرانی: «الذی یثیر اهتمامی الشخصی عندما أدرس الأدب العربی الحدیث أو حینما أكتب موضوعا حوله، أن الموروث الشعری المكتنز فی الذاكرة العراقیة، سواء الفردیة أو الجماعیة أو المكانیة، إلى الآن لم یبحث بشكل معمق، ونحن بحاجة إلى بحوث تغامر فی هذا الاتجاه تماماً، كأن نقول إن ذاكرة السرد النثری عریقة فی مصر، أو ذاكرة الشعر التقلیدی بنوعیة الفصیح والشعبی عریقة فی الجزیرة العربیة، هناك ذاكرة شعریة ثریة ومتنوعة فی بلاد وادی الرافدین، واعتقد أننا بحاجة إلى دراسات معمقة فی هذا المجال، ویجب أن تستصحب هذه الدراسات دراسات الفكر الفلسفی والأنثربولوجی الحدیث، كشرط أساسی، إذ لا تكفی الدراسات النقدیة والبلاغیة المعتادة، وهذا من شأنه أن یلقی ضوءاً جدیداً على هذا التحول، الذی وجد ناضجاً ومكتملا على ید نازك الملائكة وبدر شاكر السیاب، ولا یكفی أن نقول إنهما تأثرا بالشعر الأنجلیزی، أو بفلان من الشعراء، هذا المقولات تریح الذهن من عناء البحث، لكن هناك حاجة إلى بحوث معمقة فی المناطق المجهولة.

ویبین الزهرانی، نازك الملائكة ربما تكون هی من دشن هذا التحول، وأعطى له مشروعیة التسمیة، لكنها لم تكن وحدها التی مثلت التحول فی المستوى الجمالی، ربما یكون السیاب مثل هذا الجانب بعمق وبجدیة أكثر من الملائكة، لكن المصاحبة النقدیة التی حاولت من خلالها الملائكة أن تتبعها فی كتابتها المبكرة عن قصیدة التفعیلة، والشعر الحر، أیضاً مثیرة للتساؤل والاهتمام، لأنها محاولة جدیة لوضع وتقنین جمالیات هذه الظاهرة واستكشاف قوانینها، وربما نقطة ضعف نازك الملائكة أنها كانت مثل الحصان الذی یركض فی فضاء الشعر، حیث كانت تركض باللغة إلى الأمام، لكنها عندما كانت تنظر تعود إلى الخلف، حیث كانت تستخدم الكثیر من مفاهیم العروض التقلیدیة، وبالتالی كانت هناك مفارقة بین تنظیراتها ونصها الشعری، وهذا ما تنبهت له فی كتاباتها المتأخرة نوعاً ما، لكنها تظل لحظة رمزیة باهرة، ویلح أننا فی أمس الحاجة إلى المزید من البحوث للإلقاء الضوء على هذه اللحظة.

ویرى الدكتور معجب الزهرانی، أن موت الشاعرة له دلالة تتسع لتشمل فضاءات مشرقیة كثیرة، كأنما انسحابها هو موت سلمی، موت سعید، كما یقول البیر كامو فی أحد كتبه، یقابل هذا الموت العنیف هذا الموت العبثی، الذی یكاد یفقدنا حس التعاطف معه لأن هناك من یمارسه بمنظور المقدس الوطنی أو المقدس القومی أو المقدس الدینی، وبالتالی هو موت عبثی یأخذ شكل الجریمة، بینما نازك الملائكة تلك الشاعرة المرهفة الرائدة ماتت بسلم وسلام، وكأنما هی تنسحب من مشهد لم یعد صالحاً للشعر.

* شعراء لبنانیون : ستبقى منارة مشعة > أحب من نازك الملائكة وجهها الأول، الوجه الشجاع والمغامر، من خلال «عاشقة اللیل»، والمقدمة القویة للدیوان، ومن خلال خروجها على النمطیة الكلاسیكیة فی الشعر وتحطیم القیود فی مجتمع محافظ جداً، كالعالم العربی والعراق. امتازت نازك الملائكة فی تلك المرحلة الأولى بشجاعة ورؤیا، وبنبض إنسانی وألم عال جداً، ثم اكملت الشعریة برؤیا نقدیة من خلال كتابها عن القصیدة الحرة. وهو اول كتاب نقدی جریء عن معنى القصیدة الحرة، ومغامرة الشعر العربی المعاصر. بهذا الكتاب سبقت الجمیع، لكنها بعد ذلك انتكست، وسیطر علیها الطابع العراقی المحافظ، وربما النجفی، فتراجعت عن مغامراتها التحدیثیة وعادت إلى الصراط المستقیم، والكلاسیكیة، لتنتج قصائد، إذا ما قیست بالحداثة، فهی لا شیء، وإذا ما قیست بالكلاسیكیة فمستواها متدن. وهنا دخلت نازك الملائكة فی سجن من ظلمة الذات والسجن الاجتماعی حتى الموت. فی البدایات، تقدمت نازك الملائكة على عبد الوهاب البیاتی وبدر شاكر السیاب وبلند الحیدری، كانت أكثر جرأة منهم جمیعا ومبادرة، وأكثر تقدماً من فدوى طوقان، وسلمى الخضراء الجیوسی، لكن الحداثة تحلیق دائم، وهی لم تفعل وإنما طوت جناحیها ونامت، فنامت عنها عیون الشعر.

- الشاعر محمد علی شمس الدین: أحب منها وجهها الأول قبل ثلاثة أعوام، وقعت على نسخة عتیقة من أحد دواوین نازك الملائكة، موقع بخطها، وبقلم أسود سیّال، مهدى إلى الصحافی والمخرج فاروق البقیلی. سحرنی اسمها على الدیوان، واصفرار ورقه، وخطها الجمیل، كالجزء الثانی من اسمها.

عدت إلى البیت لم أنم لیلتها، وانا أقرأ شعراً رومانسیاً لسیدة دخلت أسطورة الأدب الحدیث، كأول من كسر العمود الشعری، قبل ان تتوارى، مفضلة الحیاة ربما على الكتابة، والسكینة او الوحدة أو الألم الصامت على مشقة الإبداع الشعری. «كأس حلیب مثلج ترف»، أظنه مطلع بیت للملائكة فی وصف القمر، حفظته من الكتاب المدرسی، وكنت كلما قرأت بیتاً فی دیوانها المسحور، تلك اللیلة، استعید حالاتی الشخصیة على مقاعد الدراسة، كما تأملت قاموسها الشعری، ولعبتها الماكرة من غیر تصنع، المتعمقة دونما استغراق فی غموض اللاوعی وتموجاته. لا أخفی انی قرأتها، برغبة من یحاول اكتشاف تاریخ أدبی للتحول الخارق الذی طرأ على القصیدة العربیة فی أربعینات القرن الماضی، عبر ما عرف بقصیدة التفعیلة والشعر الحر، قبل ان یتحقق الاختراق الأعظم والأرحب عبر قصیدة النثر، بآفاقها وامتداداتها اللامتناهیة. على ان هذا لا یعنی أن شعر الملائكة تركنی محایداً، لجهة الجمال والصور التی رسمت فی نفسی دوائر من الغیم، واقواس قزح لطیفة، وتلك السیولة القمریة التی تجری فی حبرها كنهر أو ساقیة سماویة. هذا العشق (الملائكی) لا یتسرب إلیه شر إلا شر الألم واللوعة من العشق، رجلاً كان أم وجوداً أم ذاتاً، مألومة بالأسئلة، شعریة كانت أو فكریة.

- الشاعر جوزیف عیساوی: قرأتها كمن یحاول اكتشاف تاریخ أدبی > بغیابها تنطفئ منارة شعّت منذ نصف قرن، بجدیدها فی الشعر، قاله البعض تجدیداً، ورأى البعض الآخر فیه ثورة على التقلید. غیر أننی أجد فی نازك الملائكة أصالة كلاسیكیة نتعلم منها كیف یكون التجدید من داخل الأصول، ولیس طفرة هجینة من خارج كل منطق وكل إرث. نازك الملائكة ستبقى فی شعرنا العربی ضوءاً لا ینطفئ، لأن المنارة تبقى مشعة، ولو انطفأ نورها، لأن البحارة یعرفون مكانها غیباً وإلیها یلجأوون. الشاعر هنری زغیب: منارة ولو انطفأت * شعراء لبنانیون : ستبقى منارة مشعة

- أحب من نازك الملائكة وجهها الأول، الوجه الشجاع والمغامر، من خلال «عاشقة اللیل»، والمقدمة القویة للدیوان، ومن خلال خروجها على النمطیة الكلاسیكیة فی الشعر وتحطیم القیود فی مجتمع محافظ جداً، كالعالم العربی والعراق. امتازت نازك الملائكة فی تلك المرحلة الأولى بشجاعة ورؤیا، وبنبض إنسانی وألم عال جداً، ثم اكملت الشعریة برؤیا نقدیة من خلال كتابها عن القصیدة الحرة. وهو اول كتاب نقدی جریء عن معنى القصیدة الحرة، ومغامرة الشعر العربی المعاصر. بهذا الكتاب سبقت الجمیع، لكنها بعد ذلك انتكست، وسیطر علیها الطابع العراقی المحافظ، وربما النجفی، فتراجعت عن مغامراتها التحدیثیة وعادت إلى الصراط المستقیم، والكلاسیكیة، لتنتج قصائد، إذا ما قیست بالحداثة، فهی لا شیء، وإذا ما قیست بالكلاسیكیة فمستواها متدن. وهنا دخلت نازك الملائكة فی سجن من ظلمة الذات والسجن الاجتماعی حتى الموت. فی البدایات، تقدمت نازك الملائكة على عبد الوهاب البیاتی وبدر شاكر السیاب وبلند الحیدری، كانت أكثر جرأة منهم جمیعا ومبادرة، وأكثر تقدماً من فدوى طوقان، وسلمى الخضراء الجیوسی، لكن الحداثة تحلیق دائم، وهی لم تفعل وإنما طوت جناحیها ونامت، فنامت عنها عیون الشعر.

- الشاعر محمد علی شمس الدین: أحب منها وجهها الأول > قبل ثلاثة أعوام، وقعت على نسخة عتیقة من أحد دواوین نازك الملائكة، موقع بخطها، وبقلم أسود سیّال، مهدى إلى الصحافی والمخرج فاروق البقیلی. سحرنی اسمها على الدیوان، واصفرار ورقه، وخطها الجمیل، كالجزء الثانی من اسمها.

عدت إلى البیت لم أنم لیلتها، وانا أقرأ شعراً رومانسیاً لسیدة دخلت أسطورة الأدب الحدیث، كأول من كسر العمود الشعری، قبل ان تتوارى، مفضلة الحیاة ربما على الكتابة، والسكینة او الوحدة أو الألم الصامت على مشقة
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:15|
التصـــوف و الأدب




یعد التصوف من أهم المباحث الأساسیة التی یدرسها الفكر الإسلامی إلى جانب علم الكلام والفلسفة والفكر العربی المعاصر. وقد قطع التصوف الإسلامی أشواطا كثیرة فی تطوره إلى أن تحول إلى طرق وزوایا ورباطات دینیة للسالكین والمریدین یقودهم شیخ أو قطب. وقد قامت هذه الطرق والزوایا بأدوار إیجابیة تتمثل فی خدمة الناس والفقراء والمحتاجین على مستوى الاجتماعی، والدعوة إلى الجهاد على المستوى السیاسی، بید أن هناك من الزوایا الطرقیة التی كان لها دور سلبی یتمثل فی مهادنة الاستعمار والتحالف معه ضد السیادة الوطنیة ومصلحة الشعب. هذا، وللتصوف علاقة وطیدة بالأدب نثرا وشعرا، إذ استعان المتصوفة بالشعر للتعبیر عن مجاهداتهم وشطحاتهم العرفانیة، كما استعانوا بالنثر لتقدیم قبساتهم النورانیة وتجاربهم العرفانیة الباطنیة. إذاً، ما هی علاقة التصوف بالأدب بصفة عامة والشعر بصفة خاصة؟

1- مفهـــوم التصوف:

من یتأمل الاشتقاقات اللغویة لكلمة التصوف، فإنه سیجد أن الكلمة تدل على عدة معان كالدلالة على الصفاء والصفو؛ لأن هم المتصوف هو تزكیة النفس وتطهیرها وتصفیتها من أدران الجسد وشوائب المادة والحس، وقد تشیر الكلمة إلى أهل الصفة الذین كانوا یسكنون صفة المسجد النبوی، ویعیشون على الكفاف والتقشف وشظف العیش، ویزهدون فی الحیاة الدنیا. وهناك من یربط التصوف بلباس الصوف ؛ لأن المتصوفة كانوا یلبسون ثیابا مصنوعة من الصوف الخشن، فی حین ذهب البیرونی إلى أن التصوف مشتق من كلمة صوفیا الیونانیة، والتی هی بمعنى الحكمة. وعلى الرغم من تعدد معانی كلمة التصوف، فإن الدلالة الأمیل إلى المنطق والصواب هی اشتقاقها من الصوف الذی یشكل علامة تمیز العارف وتفرد الزاهد عن باقی الناس داخل المجتمع العربی الإسلامی، وقد یكون هذا تأثرا بالرهبان النصارى أو تأثرا بأحبار الیهود.

ویقصد بالتصوف فی الاصطلاح تلك التجربة الروحانیة الوجدانیة التی یعیشها السالك المسافر إلى ملكوت الحضرة الإلهیة و الذات الربانیة من أجل اللقاء بها وصالا وعشقا، ویمكن تعریفه كذلك بأنه تحلیة وتخلیة وتجل، ویمكن القول أیضا بأن التصوف هو محبة الله والفناء فیه والاتحاد به كشفا وتجلیا من أجل الانتشاء بالأنوار الربانیة والتمتع بالحضرة القدسیة.

ویلاحظ أن لكل متصوف تعریفا خاصا للتصوف حسب التجربة الصوفیة التی یخوضها فی حضرة الذات المعشوقة. وإذا كان الفلاسفة یعتمدون على العقل والمنطق للوصول إلى الحقیقة، وعلماء الكلام یعتمدون على الجدل ، والفقهاء یستندون إلى الظاهر النصی، فإن المتصوفة یتكئون فی معرفتهم على القلب والحدس الوجدانی والعرفان اللدنی متجاوزین بذلك الحس والعقل نحو الباطن. لذا یعتبر التأویل من أهم الآلیات الإجرائیة لفهم الخطاب الدینی والصوفی على حد سواء.

ویقوم التصوف الإسلامی على موضوعات بارزة تغنی عوالمه النظریة والعملیة ، وهذه المواضیع هی: المجاهدات والغیبیات والكرامات والشطحات. أی ینبنی التصوف على مجموعة من المقامات والأحوال والمراقی الروحانیة عبر مجاهدة النفس ومحاسبتها ، والإیمان بالصفات الربانیة ومحاولة استكشافها روحانیا ووجدانیا، ورصد الكرامات الخارقة التی قد تصدر عن العارف السالك أو المرید المسافر أو الشیخ القطب، فتبرز العوالم الفانطاستیكیة، وتنكشف الأسرار الكونیة ومفاتیح الغیب أمام العبد العاشق الذی انصهر فی حب معشوقه النورانی . وتتحول الممارسات والأقوال والعبارات العرفانیة عند بعض الصوفیة إلى شطحات لا أساس لها من الصحة والواقع، وتكون اقرب من عالم التخریف والأسطورة والأحلام.

ویستعیر التصوف مصطلحاته من عدة معاجم كالمعجم الفلسفی والمعجم الأدبی والمعجم النحوی والمعجم الصرفی والمعجم الكیمیائی، والمعجم الفقهی، والمعجم الأصولی، والمعجم القرآنی، والمعجم النبوی….

2- مراحل التصوف:

یمكن تقسیم أطوار التصوف إلى عدة مراحل أساسیة یمكن إجمالها فی المراحل التالیة:

أ‌- مرحلة الزهـــد:

انطلق التصوف الإسلامی مع مجموعة من الزهاد والأتقیاء الورعین الذین كانوا یعتكفون فی المساجد، یقضون حیاتهم فی عبادة الله وتنفیذ أوامره واجتناب نواهیه . وكان أهل الصفة فی عهد الدعوة الإسلامیة من الزهاد الذی ارتضوا حیاة التقشف والفقر وسبیل الفاقة؛ لأن الدنیا زائلة بینما الآخرة باقیة. وكان الرسول ( صلعم) نموذجا حقیقیا للزهد والورع والتقوى ، إذ لم ینسق مع مغریات الحیاة الدنیا، بل كان یكبح نفسه من أجل نیل رضى الآخرة. ولقد سار الصحابة رضوان الله علیهم على نفس الطریق الذی سار فیه النبی المقتدى ، فآثروا حیاة النسك والزهد والتقشف والورع من أجل نیل مرضاة الله وجنته العلیا.

ب- مرحلة التصوف السنی:

لم یظهر التصوف السنی إلا بعد مرحلة الزهد والتقشف فی الدنیا واختیار حیاة الورع والتقوى والإخلاص فی الاعتكاف والإكثار من الخلوة و التخلی عن الدنیا واستشراف الآخرة. وسمی بالتصوف السنی ؛ لأنه كان مبنیا على الشریعة الإسلامیة وأحكام الشرع الربانی، أی إن الصوفیة كانوا یوفقون بین الباطن والظاهر أو یؤالفون بین الشریعة النصیة والباطن العرفانی. وبتعبیر آخر، كان المتصوفة السنیون یستندون إلى الكتاب أولا، فالسنة النبویة ثانیا مع الابتعاد عما یغضب الله و تمثل أوامره والابتعاد عن الحرام وارتكاب الذنوب والمعاصی والارتماء فی أحضان الذات المعشوقة. ومن أهم المتصوفة السنیین نذكر: الحسن البصری الذی عرف بالخوف الصوفی، والمحاسبی الذی أوجد أصول التصوف والمجاهدة، والقشیری المعروف بالرسالة القشیریة، والغزالی صاحب كتاب " منقذ الضلال" والذی یعد من السباقین إلى التوفیق بین الظاهر والباطن على ضوء الشریعة الإسلامیة، ورابعة العدویة المعروفة بالمحبة الإلهیة، والجنید ، وأبو نصر السراج، وابن المبارك ، ومالك بن دینار، وعبد القادر الجیلانی، وأحمد البدوی، وأحمد الرفاعی، وابن عبدك….

ج- مرحلة التصوف الفلسفی:

انتعش التصوف الفلسفی إبان العصر العباسی فی منتصف القرن الثالث الهجری مع انتشار الفكر الفلسفی، والاحتكاك بثقافات الشعوب المجاورة ، وترجمة الفكر الیونانی من قبل علماء بیت الحكمة الذی بناه المأمون فی بغداد لنقل تراث الفكر الهیلینی وفكر المدرسة الإسكندریة إلى اللغة العربیة. وبطبیعة الحال، سیتأثر التصوف الإسلامی بالمؤثرات الخارجیة والمؤثرات الداخلیة على حد سواء كما نجد ذلك واضحا لدى الحلاج صاحب نظریة الحلول، والبسطامی صاحب نظریة الفناء، وابن عربی صاحب فكرة وحدة الوجود، ناهیك عن شطحات غریبة فی تصوف ابن الفارض والشریف الرضی وجلال الدین الرومی ونور الدین العطار والشبلی وذی النون المصری والسهروردی. هذه النظریات الصوفیة هی التی ستدفع المستشرقین لربط التصوف بالمعتقدات المسیحیة والیهودیة والعقیدة البوذیة والنرڤانا الهندیة والتصوف الفارسی.

3- الأدب الصوفی:

أ‌- الشعر الصوفی القدیم:

یمكن تقسیم الأدب الصوفی إلى ثلاثة أطوار: الطور الأول یبدأ من ظهور الإسلام وینتهی فی أواسط القرن الثانی للهجرة؛ " وكل ما بین أیدینا منه طائفة كبیرة من الحكم والمواعظ الدینیة والأخلاق تحث على كثیر من الفضائل، وتدعو إلى التسلیم بأحكام الله ومقادیره، وإلى الزهد والتقشف وكثرة العبادة والورع، وعلى العموم تصور لنا عقیدة هذا العصر من البساطة والحیرة.

والطور الثانی یبدأ من أواسط القرن الثانی الهجری إلى القرن الرابع. وهنا یبدو ظهور آثار التلقیح بین الجنس العربی والأجناس الأخرى، وفیه یظهر اتساع أفق التفكیر اللاهوتی، وتبدأ العقائد تستقر فی النفوس على أثر نمو علم الكلام. وفیه یظهر عنصر جدید من الفلسفة. والأدب الصوفی فی طوریه الأول والثانی أغلبه نثر، وإن ظهر الشعر قلیلا فی طوره الثانی. وفی الطور الثانی هذا یبدأ تكون الاصطلاحات الصوفیة والشطحات.

أما الطور الثالث فیستمر حتى نهایة القرن السابع وأواسط القرن الثامن، وهو العصر الذهبی فی الأدب الصوفی، غنی فی شعره، غنی فی فلسفته، شعره من أغنى ضروب الشعر وأرقاها، وهو سلس واضح وإن غمض أحیانا." [1]

هذا، وقد تطور الأدب الصوفی نثرا وشعرا، وبلغ الشعر الصوفی ذروته مع ابن العربی وابن الفارض فی الشعر العربی، وجلال الدین الرومی فی الشعر الفارسی. ولم یظهر الشعر الصوفی إلا بعد شعر الزهد والوعظ الذی اشتهر فیه كثیرا أبو العتاهیة ، و قد ظهر الشعر الصوفی كذلك بعد شعر المدیح النبوی وانتشار التنسك والورع والتقوى بین صفوف العلماء والأدباء والفقهاء والمحدثین كإبراهیم بن أدهم، وسفیان الثوری، وداود الطائی، ورابعة العدویة، والفضیل بن عیاض، وشقیق البلخی، وسفیان بن عیینة، ومعروف الكرخی ،وعمرو بن عبید، والمهتدی. ویعنی هذا أن الشعر الصوفی ظهر فی البدایة عند كبار الزهاد والنساك، ثم" أخذت معالمه تتضح فی النصف الأول من القرن الثالث الهجری. فذو النون (ت245هــ) واضع أسس التصوف، ورأس الفرقة لأن الكل أخذ عنه وانتسب إلیه، وهو أول من فسر إشارات الصوفیة وتكلم فی هذا الطریق.

ولم ینته القرن الثالث الهجری حتى أصبح الشعر الصوفی شعرا متمیزا یحمل بین طیاته منهجا كاملا للتصوف، وأما الذین جاؤوا بعدهم فإنهم تمیزوا بالإفاضة والتفسیر." [2] ویقول الدكتور شوقی ضیف فی هذا السیاق:" ومنذ أواخر القرن الثالث الهجری تلقانا ظاهرة جدیدة فی بیئات الصوفیة، فقد كان السابقون منهم لاینظمون الشعر بل یكتفون بإنشاد ماحفظوه من أشعار المحبین وهم فی أثناء ذلك یتواجدون وجدا لایشبهه وجد، أما منذ أبی الحسین النوری المتوفى سنة 295هـ فإن صوفیین كثیرین ینظمون الشعر معبرین به عن التیاع قلوبهم فی الحب آملین فی الشهود مستعطفین متضرعین، مصورین كیف یستأثر حبهم لربهم بأفئدتهم استئثارا مطلقا، نذكر منهم سحنون أبا الحسین الخواص المتوفى سنة 303، وأبا علی الروذباری المتوفى سنة 322 ، والشبلی دلف بن جحدر المتوفى سنة 334 وجمیعهم من تلامذة الجنید.

وواضح أن العصر العباسی الثانی لم یكد ینتهی حتى تأصلت فی التصوف فكرة المعرفة الإلهیة ومحبة الله كما تأصلت فكرة أن الصوفیة أولیاء الله ،" [3] وقد ترتب عن هذا أن اشتهر كثیر من الصوفیة فی العصر العباسی كالسری السقطی الذی یعد أول من تكلم فی لسان التوحید وحقائق الأحوال ، وهو أیضا أول من تكلم فی المقامات والأحوال قبل ذی النون المصری [4]، وسهل بن عبد الله التستری، والجنید، والحسین بن منصور المشهور باسم الحلاج، والحسن بن بشر، ویحیى بن معاذ، وأبی سعید الخراز، وحمدون القصار النیسابوری، والمحاسبی، وابن العربی ، وابن الفارض، والشریف الرضی، والنفری صاحب كتابی:" المواقف" و" المخاطبات". ومن أصول التصوف عند هؤلاء العارفین: التمسك بكتاب الله تعالى، والاقتداء بسنة رسول الله( ص)، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وأداء الحقوق. [5] ویقول الجنید:" طریقنا مضبوط بالكتاب والسنة، ومن لم یحفظ القرآن ولم یكتب الحدیث ولم یتفقه لا یقتدى به". [6] ومن الشعراء الذین مالوا إلى الكتابة الصوفیة جحظة البرمكی إبان العصر العباسی حیث یظهر تجلده ومحاسبته للنفس ومیله إلى التزهد والتقشف فی الحیاة وارتضاء عیش الفقر والضنك بدلا من الارتماء فی أحضان الدنیا الفانیة:

    إنی رضیت من الرحیق بشراب تمر كالعقیق
    ورضیت من أكل السمیـــــد بأكل مسود الدقیق
    ورضیت من سعة الصحـــــن بمنزل ضنك وضیق

وعرفت رابعة العدویة بكونها شاعرة فلسفة الحب ؛ لأنها حصرت حیاتها فی حب الذات الربانیة والسهر المستمر من أجل استكشافها لقاء ووصالا:

    أحبك حبین: حب الهوى
    وحبا لأنك أهل لذاكـــــــا
    فأما الذی هو حب الهوى
    فشغل بذكرك عمن سواكا
    وأما الذی أنت أهل له
    فكشفك لی الحجب حتى أراكا
    فلا الحمد فی ذا ولا ذاك لی
    ولكن لك الحمد فی ذا وذاكا

واعتبر ذو النون القرآن الكریم محرك القلوب والهمم والوجدان الروحی، و عده السبب لكل تذلل عرفانی یصدر عن المحب العاشق:

    منع القرآن بوعده ووعیده
    مقل العیون بلیلها أن تهجعا
    فهموا عن الملك الكریم كلامه
    فه۫ما تذل له الرقاب وتخضعا

ویشید ذو النون بمحبة الله التی توصل العارف السالك إلى النجاة والفوز برضى الله ووصاله اللدنی:

    من لاذ بالله نجــــا بالله
    وسره مــــرّ قضاء الله
    لله أنفاس جـــــــرت لله
    لاحول لی فیها بغیر الله

ویعظم الجنید حضور الله فی قلبه الذی یعمره بهواه ، ولا یستطیع أن ینساه مادام أن الله هو المستند والمعتمد:

    حاضر فی القلب یعمره
    لســـت أنساه فأذكره
    فهو مولای ومعتمدی
    ونصیبی منـــه أوفره

ویبین الجنید شوقه نحو الذات الإلهیة فی لحظات اللقاء والفراق وتعظیمه للحضرة الربانیة أثناء تواجدها فی قلب العارف المحب:

    وتحققتـــك فی الســــر
    فنــاجـــاك لســــــانی
    فاجتمعــــــنا لمعان
    وافترقـــــنا لمعـــــانی
    إن یكن غیبك التعظـ
    ـیم عن لحظ عیانی

فلقد صیرك الوجد من الأحشــــــاء دانی [7]

ویتبنى الجنید فی بعض الأبیات الشعریة نظریة الفناء فی الذات الربانیة على غرار أبی یزید البسطامی، ویكون الفناء عن طریق تجرد النفس عن رغباتها وقمعها لشهواتها وانمحاء إرادتها والفناء فی الذات الإلهیة كما فی هذا البیت الشعری:

أفنیتنی عن جمیعی
فكیف أرعى المحلا

وقد عمل الجنید على إرساء نظام الطرق الصوفیة وتحدید مسالك العارفین ونظام المریدین فی التصوف الإسلامی. ومن شعراء المحبة الإلهیة وفكرة الفناء الصوفی عبر انمحاء الإرادة البشریة وذوبانها فی الإرادة الربانیة الشاعر الصوفی أبو الحسین سحنون الخواص الذی قال:

    وكان فؤادی خالیا قبل حبكـــم
    وكان بذكر الخلق یلهو ویمزح
    فلما دعا قلبی هواك أجابه
    فلست أراه عن فنائك یــــــبرح
    رمیت ببین منك إن كنت كاذبا
    وإن كنت فی الدنیا بغیرك أفرح
    وإن كل شیء فی البلاد بأسرها
    إذا غبت عن عینی بعینی یملح

ومن الشعراء الذین تغنوا بفكرة الفناء والمحبة الإلهیة الشاعر الصوفی أبو علی الروذباری:

    روحی إلیك بكلها قد أجمعت
    لو أن فیها هلكها ما أقلعت
    تبكی علیك بكلها عن كلها
    حتى یقال من البكاء تقطعت

وتشید میمونة السوداء بالعارفین السالكین الذین یحبون الله ویسلكون فی تجلدهم الروحانی مقامات وأحوالا من أجل الاتحاد بالله ومعانقته والاتصال بجبروته وقدسیته النوارنیة:

    قلوب العارفین لها عیون
    ترى ما لا یراه الناظروما
    وألسنة بسر قد تنــــاجی
    تغیب عن الكــــرام الكاتبینا
    وأجنحة تطیر بغــیر ریش
    إلى ملكــــوت رب العالمینا
    فتسقیها شراب الصدق صرفا
    وتشرب من كؤوس العارفینا

 [8]

ویعد الحلاج من كبار الصوفیة الذین تغنوا بالذات الربانیة ، وقد استطاع أن یبرهن على وجود الله اعتمادا على التجلی النورانی والمحبة الروحانیة التی یعجز عن إدراكها أصحاب الظاهر والحس المادی:

    لم یبق بینی وبین الحق اثنان
    ولا دلیـــل بآیات وبرهان
    هذا وجودی وتصریحی ومعتـقدی
    هذا توحد توحیدی وإیمانی
    هذا تجل بنور الحق نائره
    قد أزهرت فی تلالیها بسلطان
    لایستدل على الباری بصنعته
    وأنتــــم حدث ینبی عن أزمان

ویزور الحلاج حبیبه فی الخلوات ویذكره سرا وجهرا، ویدركه بالقلب الوجدانی فی الحضور والغیاب قربا وبعدا، ویفهم جیدا كلمات الرب من خلال تجلیاته النورانیة وحضرته القدسیة واللدنیة:

    لی حبیب أزور فی الخلوات
    حاضر غائب عن اللحظات
    ماترانی أصغی إلیه بسمع
    كی أعی ما یقول من كلمات
    كلمات من غیر شكل ولا نط
    ــق ولا مثل نغمة الأصوات
    فكأنی مخاطب كنت إیا
    ه على خاطری بذاتی لذاتی
    حاضر غائب قریب بعید
    وهو لم تحوه رسوم الصفات
    هو أدنى من الضمیر على الو
    هم وأخفى من لائح الخطوات

بید أن الحلاج یسقط فی فكرة الحلول والتی تعنی حلول اللاهوت فی الناسوت، وتذكرنا هذه الفكرة الصوفیة بالمعتقد المسیحی الذی یؤكد الطبیعة الثنائیة للمسیح. وقد أودت هذه الفكرة بمتصوفنا إلى الصلب والإعدام حینما خرج إلى الناس وهو یقول: أنا الله أو أنا الحق، وما فی جبتی إلا الله، وفی هذا یقول الحلاج:

    سبحان من أظهر ناسوته
    سر سنا لاهوته الثاقب
    ثم بدا لخلقه ظاهرا
    فی صورة الآكل والشارب
    حتى لقد عاینه خلقه
    كلحظة الحاجب بالحاجب

وفی موقع آخر یؤكد هذه الحلولیة بقوله الشعری:

    مزجت روحك فی روحی كما
    تمزج الخمرة بالماء الزلال
    فإذا مسك شیء مسنی
    فإذا أنت أنا فی كل حال
    ویقول أیضا:
     
    أنا من أهوى، ومن أهوى أنا
    نحن روحان حللنا بدنا
    فإذا أبصرتنی أبصرته
    وإذا أبصرته أبصرتنا

وهذه الشطحات الصوفیة هی التی دفعت المستشرقین إلى ربط التصوف الفلسفی بالمؤثرات الخارجیة بعیدا عن القرآن والسنة، إذ أرجعوا التصوف الإسلامی إلى مصادر خارجیة كالمسیحیة والیهودیة و الفارسیة والبوذیة والأفلاطونیة المحدثة. و من جهة أخرى، یلقى الصوفیة فی مسالكهم الوجدانیة ومقاماتهم أنواعا من البلاء والمحن خاصة أثناء خلوتهم الروحانیة التی تستلزم الصبر والتجلد والفقر والمعاناة والضنى من أجل لقاء الله والاتصال به حضرة وتجربة وانكشافا كما فی هذین البیتین للشاعر العباسی أبی الحسن النوری:

كم حسرة لی وقد غصت مرارتها
جعلت قلبی لها وقفا لبلواك
وحق ما منك یبلینی ویتلفنی
لأبكینك أو أحظى بلقیاك [9]

ویعد ذو النون المصری أول من تحدث عن الأحوال والمقامات الصوفیة إلى جانب السری السقطی، وهو حسب شوقی ضیف:" الأب الحقیقی للتصوف، هو أول من تكلم عن المعرفة الصوفیة فارقا بینها وبین المعرفة العلمیة والفلسفیة التی تقوم على الفكر والمنطق، على حین تقوم المعرفة الصوفیة على القلب والكشف والمشاهدة، فهی معرفة باطنة تقوم على الإدراك الحدسی، ولها أحوال ومقامات" . [10] وإلیكم أبیات ذی النون المصری وهو یناجی ربه روحانیا:

    أموت وما ماتت إلیك صبابتی
    ولا قضیت من صدق حبك أوطاری
    تحمــــــــــل قلبی ما لا أبثه
    وإن طال سقمی فیك أوطال إضراری

أما ابن العربی فیقول بوحدة الوجود الناتجة عن تجاوز ثنائیة الوجود: وجود الله ووجود الكون، فعن طریق امتزاجهما فی بوتقة عرفانیة واحدة تتحقق الوحدة الوجودیة بین العارف والذات الربانیة، كما یؤمن ابن عربی بتعدد الأدیان مادامت تنصب كلها على محبة الله واستجلاء ملكوته روحانیا:

    عقد الخلائق فی الإله عقائدا
    وأنا اعتقدت جمیع مااعتقدوه
    وقال ابن عربی أیضا:
    
    لقد صار قلبی قابلا كل صورة
    فمرعى لغزلان ودیر لرهبان
    وبیت لأوثان وكعبة طائف
    وألواح توراة ومصحف قرآن
    أدین بدین الحب أنى توجهت
    ركائبه فالحب دینی وإیمانی

ومن الشعراء الذین اشتهروا بالكتابة الصوفیة ابن الفارض المصری الذی عاش ما بین القرن السادس والسابع الهجری( 576هـــ- 632هـ )، وتأثر بالتجربة الصوفیة للسهروردی. وكتب عدة قصائد صوفیة من أشهرها تائیته الكبرى وكافیته التی یتغزل فیها بالذات الربانیة مبدیا لواعجه وتشوقه إلى الحضرة الربانیة كاشفا عواطفه الصادقة ولهفته لرؤیة الله :

    ابــــق لی مقلـــة لعلــی یومـــــــا
    قبل مـــوتی أرى بها من رآكا
    أین منی مارمت؟ هیهات بل أیـــ
    ن لعیـــنی باللحــــظ لثم ثراكا
    وبشیری لو جاء منك بعطف
    ووجودی فی قبضتی قلت هاكا
    قد كفى ماجرى دما من جفون
    لی قرحی! فهل جرى ما كـفاكا
    فانا من قلاك فیــــــــك معنى
    قبل أن یعرف الهــــوى یهـــواكا
    بانكساری بذلتی بخضوعی
    بافتقـــــاری بفـــاقـــتی لغنــــــاكا
    لاتكلــــنی إلى قوى جلد خا
    ن ، فإنی أصبحــت من ضعــفاكا
    كنت تجفو وكان لی بعض صبر
    أحسن الله فی اصطباری عزاكا!
    كم صدود عساك ترحم شكوا
    ی، ولو باستماع قولــی عساكا!
    شنّع المرجفون عنك بهجری
    وأشاعـــــوا أنی سلـوت هــــواكا
    ما بأحشائهم عشقت، فأسلو
    عنــــــك یوما. دع یهجر حاشاكا
    كیف أسلو ؟ ومقلتی كلما لا
    ح بریـــــق تلفتت للقـــــــــــــاكا
    كل من فی حماك یهواك لكن
    أننــــــا بكــــــل مـــن فی حماكا

ومن ممیزات الشعر الصوفی القدیم السمو الروحی، واستكناه المعانی النفسیة العمیقة ، والخضوع لإرادة الله القویة، والإكثار من الخیال ، واستعمال الرمزیة والشطحات الصوفیة، والجنوح نحو الإبهام والغموض، والتأرجح بین الظاهر والباطن، والتأثر بالشریعة الإسلامیة كما هو شأن التصوف السنی ، وتمثل المصادر الفلسفیة والعقائد الأجنبیة كما هو حال الشعر الصوفی الفلسفی.

ب‌- الأدب الصوفی الحدیث:
إذا كان الكثیر من المتصوفة هم الذین كتبوا الأشعار الصوفیة فی محبة الله وفنائه فی الشعر العربی القدیم، ففی العصر الحدیث نجد الشعراء هم الذین دبجوا تجارب صوفیة فی قصائد ذاتیة وجدانیة كما فی القصائد الرومانسیة عند عبد الكریم بن ثابت فی مصنفه الشعری :" دیوان الحریة" الذی قدم فیه الشاعر رحلات صوفیة وجدانیة یقوم بها الشاعر السالك المسافر بتعراجه فی السماء ، وهو فی حالة سكر وانتشاء، ولا یعود إلى وعیه إلا مع فترة الصحو ویقظة اللقاء والوصال. ولابد أن نذكر شاعرا رومانسیا آخر أبدع الكثیر من القصائد الصوفیة ألا وهو: الشاعر المصری محمود حسن إسماعیل كما فی دیوانه الشعری:" قاب قوسین" الذی یقول فیه معبرا عن حالة الكشف الصوفی والتجلی الربانی:

    مزقی عن وجهــــك الیانع، أسمال القنــاع
    وارفعی الستـر، بلا خوف على أی متــاع
    زادك النور، وفی دربك ینبـــوع الشعــاع
    فانفذی…فالسر إن سرت على قیــد ذراع
    واصرعی الموج، ولو أقبلت من غیر شراع

. [11]

ت‌- الشعر الصوفی المعاصر:

مع انطلاق الشعر العربی المعاصر أو ما یسمى بشعر التفعیلة منذ منتصف القرن العشرین، بدأ الشعراء یشغلون التراث فی شعرهم على غرار تجربة إلیوت فی دیوانه "أرض الیباب" ، حینما اتكأ على الموروث الأسطوری لنعی الحضارة الغربیة وإعلان إفلاسها. واقتداء بإلیوت، غدا الشعراء العرب المعاصرون یوظفون التراث الأسطوری والتاریخی واستخدام الأقنعة الدینیة والفنیة والأدبیة والصوفیة، وتشغیل الرموز المكانیة والطبیعیة واللغویة من أجل خلق قصیدة الرؤیا والانزیاح التی تتجاوز طرائق الاجترار والامتصاص والاستنساخ فی التعامل مع التراث إلى طریقة الحوار والتناص قصد خلق تعددیة صوتیة تحیل على المعرفة الخلفیة للكاتب ومرجعیاته الثقافیة وسمو حسه الشعری، وجمعه بین المتعة والفائدة فی شعره.

وقلما نجد شاعرا عربیا معاصرا یكتب شعر التفعیلة أو الشعر المنثور بدون أن یوظف التراث أو یشغل الكتابة الصوفیة أو یستلهم الشخصیات الصوفیة أو یستعمل تعابیر المعرفة اللدنیة أو یستحضر مقتبسات المتصوفة والوعاظ أو ینحو منحاهم فی التخییل والتجرید واستعمال الرموز و الاستعانة برشاقة الأسلوب وتلوین النصوص الشعریة بنفحات الدین والعرفان الباطنی. هذا، وإن استعارة" الشخصیات الصوفیة مثلت ظاهرة واضحة فی الشعر المعاصر، وقد اختار شعراؤنا المعاصرون شخصیات عدیدة من أهل التصوف واجهوا بها قارئ قصائدهم، واتخذوا منها قناعا یتحدثون به ومن ورائه عن مشاغلهم ومعاناتهم ومواقفهم. ولیس ذلك فحسب، بل نجد الشاعر المعاصر أحیانا یندمج فی الشخصیة الصوفیة ویحل فیها حلولا صوفیا. ویتحد بأبعادها بفعل تشابه أحواله بأحوالها." [12] ومن الشعراء الذی وظفوا الخطاب الصوفی نذكر: بدر شاكر السیاب و نازك الملائكة وعبد الوهاب البیاتی وأدونیس وصلاح عبد الصبور ومحمد الفیتوری وخلیل حاوی ومحمد عفیفی مطر ومحمد محمد الشهاوی وأحمد الطریبق أحمد ومحمد السرغینی وحسن الأمرانی ومحمد بنعمارة وعبد الكریم الطبال وأحمد بلحاج آیة وارهام ومحمد علی الرباوی وآخرین.

وقد استعار هؤلاء الشعراء مجموعة من الشخصیات الصوفیة كشخصیة النفری عند أدونیس، وشخصیة السهروردی وفرید الدین العطار وجلال الدین الرومی عند عبد الوهاب البیاتی، وشخصیة الحلاج عند صلاح عبد الصبور فی قصیدته الدرامیة" مأساة الحلاج"، وعبد الوهاب البیاتی فی قصیدة بعنوان" عذابات الحلاج"، وأدونیس فی قصیدة تحت عنوان" مرثیة الحلاج"، وشخصیة إبراهیم بن أدهم عند الشاعر التونسی محیی الدین خریف، وشخصیة رابعة العدویة عند نازك الملائكة فی قصیدتها" الهجرة إلى الله".

ویمتاز الشعر الصوفی المعاصر باستعمال التناص بكثرة فضلا عن الاستشهاد بالمستنسخات والمقتبسات والشذرات العرفانیة. كما یشغل الشعراء المعاصرون فی قصائدهم ودواوینهم الشعریة خطاب الانزیاح الصوفی و الرموز الإحالیة والعبارات الموحیة الرشیقة. وهناك من الشعراء من سقط فی خاصیة الإبهام والغموض خاصة الشاعر الحداثی أدونیس الذی حول كتاباته الشعریة إلى طلاسم من الصعب تفكیكها و فهمها وتأویلها . وهناك من أحسن توظیف التناص الصوفی فی سیاقه الشعری الملائم إبداعیا، وهناك من وظف العبارات العرفانیة والمفاهیم الصوفیة دون أن یعیش التجربة أو یستكنهها بشكل جید؛ مما أوقع نصوص الكثیر منهم فی التصنع الزائد والتمحل الشعری.
خاتمــــة:

ویتضح لنا مما سبق ، أن المتصوفة والشعراء على حد سواء استعملوا الكتابة الشعریة للتعبیر عن تجاربهم العرفانیة وأحوالهم الذوقیة ومجاهداتهم النفسیة ومقاماتهم الباطنیة.

هذا، وقد ترابط الشعر مع التصوف منذ مرحلة مبكرة لینتعش الشعر الصوفی مع القرن الثالث من العصر العباسی. وقد سبق هذا الشعر ما یسمى بشعر الزهد وشعر المدیح النبوی اللذین سبقا الشعر الصوفی منذ فترة مبكرة. وقد آثرنا أن یكون موضوعنا منصبا على الشعر الصوفی مرجئین الكتابة النثریة إلى دراسة لاحقة إن شاء الله.
وعلیه، فقد بینا أن الشعر الصوفی عرف عدة أطوار فی القدیم والحدیث، ففی القدیم ارتبط التصوف بشعر الزهد وشعر المتصوفة السنیین، لینتقل بعد ذلك إلى شعر المتصوفة الغلاة أو المتصوفة الفلاسفة. وإذا كان الشعر الصوفی فی القدیم من نظم المتصوفة ، فإن الشعر الصوفی فی العصر الحدیث والمعاصر من نسج الشعراء المبدعین الذین صاغوا قصائد صوفیة فی إطار تجارب كلیة أو جزئیة أو فی شكل استشهادات تناصیة موحیة أو فی شكل مستنسخات تناصیة وظیفیة وغیر وظیفیة.
حواشی

[1] أحمد أمین: ظهر الإسلام، المجلد الثانی، 3-4، دار الكتاب العربی، بیروت، لبنان، ط 1969، ص:173؛

[2] - د. علی جمیل مهنا: الأدب فی ظل الخلافة العباسیة، الطبعة الأولى 1981، مطبعة النجاح الجدیدة ، الدار البیضاء، ص:173؛

[3] - د. شوقی ضیف: العصر العباسی الثانی، دار المعارف بمصر، ط 2 ، ص:113-114؛

[4] د. شوقی ضیف: العصر العباسی الثانی، دار المعارف بمصر، ط 2 ، ص:109؛

[5] أبو عبد الرحمن السلمی: طبقات الصوفیة، طبعة لیدن، 1960م، ص: 141؛

[6] أبو عبد الرحمن السلمی: طبقات الصوفیة، طبعة لیدن، 1960م، ص: 141؛

[7] أبو نصر السراج: اللمع، طبعة دار الكتب الحدیثة 1960م، ص:283؛

[8] انظر النیسابوری: عقلاء المجانین، ترجمة میمونة، طبعة دمشق، سوریا، 1924م؛

[9] أبو عبد الرحمن السلمی: طبقات الصوفیة، طبعة لیدن، 1960م، ص: 153؛

[10] شوقی ضیف: العصر العباسی الثانی، ص:475-476؛

[11] محمود حسن إسماعیل: دیوان قاب قوسین، ط الأولى، 1964م، دار العروبة، القاهرة، ص:10؛

[12] محمد بنعمارة: الأثر الصوفی فی الشعر العربی المعاصر، شركة النشر والتوزیع ، المدارس، الدار البیضاء، ط 1، 2001م، ص: 266؛

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:14|
إبراهیم ناجی




نشأته وحیاته :

ولد إبراهیم ناجی بن أحمد ناجی بن إبراهیم القصبجی إبراهیم ناجی فی حی شبرا بالقاهرة فی الحادی والثلاثین من شهر دیسمبر عام 1898، لأسرة القصبجی المعروفة بتجارة الخیوط المذهبة، عمل والده فی شركة البرق (التلغراف)، وهی شركة إنجلیزیة، یوم كانت مصر تحت الهیمنة البریطانیة، فأجاد اللغة الإنجلیزیة، وتمكن من الفرنسیة والإیطالیة، وكان شغوفاً بالمطالعة، وامتلك فی بیته مكتبة حافلة بأمهات الكتب، فنشأ ابنه إبراهیم على حب المطالعة، وشجعه أبوه على القراءة، وكان یهدی إلیه الكتب، فأتقن العربیة والفرنسیة والإنجلیزیة والألمانیة، وأمه هی السیدة بهیة بنت مصطفى سعودی التی ینتهی نسبها إلى الحسین علیه السلام، وتمت بصلة قربى من جهة الأخوال إلى الشیخ عبدالله الشرقاوی ولما حاز ناجی شهادة الدراسة الثانویة سنة 1917 انتسب إلى كلیة الطب، وتخرج فیها سنة 1923، وافتتح عیادة بمیدان العتبة بالقاهرة، وكان یعامل مرضاه معاملة طیبة، وفی كثیر من الحالات لا یأخذ منهم أجرة، بل یدفع لهم ثمن الدواء، ثم شغل عدة مناصب فی وزارات مختلفة، فقد نقل إلى سوهاج ثم المنیا ثم المنصورة، واستقر فیها من عام 1927 إلى عام 1931، حیث رجع نهائیاً إلى القاهرة، وكان آخر منصب تسلمه هو رئیس القسم الصحی فی وزارة الأوقاف.

حكایته مع جماعة أبوللو: تفتحت موهبة إبراهیم ناجی الشعریة باكراً، فقد نظم الشعر وهو فی الثانیة عشرة من العمر، وشجعه والده علیه، وفتح له خزائن مكتبته، وأهداه دیوان شوقی ثم دیوان حافظ ودیوان الشریف الرضی، ومن شعره فی الصبا قصیدة قالها وهو فی الثالثة عشرة من عمره، عنوانها "على البحر"، وفیها یقول

إنی ذكرتك باكیا

والأفق مغبر الجبین

والشمس تبدو وهی

تغرب شبه دامعة العیون

والبحر مجنون العباب

یهیج ثائره جنونی

اهتم بالثقافة العربیة القدیمة فدرس العروض والقوافی وقرأ دواوین المتنبی وابن الرومی وأبی نواس وغیرهم من فحول الشعر العربی، كما نـهل من الثقافة الغربیة فقرأ قصائد شیلی وبیرون وآخرین من رومانسیی الشعر الغربی.

بدأ حیاته الشعریة حوالی عام 1926 بترجمة بعض أشعار الفرید دی موسییه وتوماس مور شعراً وینشرها فی السیاسة الأسبوعیة ، وانضم إلى جماعة أبوللو عام 1932م حیث الشعراء العرب الذین استطاعوا تغییر صورة القصیدة العربیة لشكل أكثر تحرراً من القواعد الكلاسیكیة ، وكان أیضا یكتب الدراسات النقدیة كدراسته عن الشاعر الفرنسی بودلیر. فی شهر سبتمبر من عام 1932 صدر العدد الأول من مجلة جمعیة أبولو، وكان رئیس تحریرها أحمد زكی أبو شادی، وقد اشترك إبراهیم ناجی مع أحمد زكی أبو شادی فی إصدار المجلة، وفی العدد الثانی من المجلة تم الإعلان عن تأسیس جمعیة أبوللو الشعریة وفی 10 أكتوبر من نفس العام اجتمع لفیف من الأدباء فی كرمة ابن هانئ، وفیهم إبراهیم ناجی، وانتخب أحمد شوقی رئیساً للجمعیة، ولكنه توفی بعد أربعة أیام، فخلفه نائبه مطران خلیل مطران، وكان إبراهیم ناجی من الأعضاء المؤسسین، وبعد أقل من عام جرت انتخابات جدیدة فی 22 سبتمبر عام 1933 وانتخب مطران رئیساً وأحمد محرم وإبراهیم ناجی وكیلین وأحمد زكی أبو شادی سكرتیراً.

هدفت هذه الجماعة إلى البعد عن الأغراض التقلیدیة للشعر والاتجاه للذاتیة أی تعبیر الشاعر عن مكنوناته بصورة اكثر عمقا كذلك الابتعاد عن أدب المناسبات والتحرر من الصنعة والتكلف، وعلى صفحات المجلة نشر إبراهیم ناجی معظم ما كتب من شعر وما ترجم، وكان من أشهر ما ترجمه قصیدة "البحیرة" للشاعر الفرنسی لامارتین وقصیدة "أغنیة الریح الغربیة" للشاعر الإنجلیزی الرومنتیكی شیلی، وقد صدر من المجلة خمسة وعشرون عدداً من سبتمبر1932 إلى دیسمبر1934، ثم توقفت عن الصدور. اشتهر ناجی بشعره الوجدانی ورأس رابطة الأدباء فی مصر فی الأربعینیات من القرن العشرین وعرف عنه تأثره بالشاعر مطران خلیل مطران وأحمد شوقی.

وبعد صدور دیوانه الأول سافر فی شهر یونیو مع أخیه إلى تولوز فی فرنسا، لیساعد أخیه على الانتساب إلى إحدى الكلیات هناك، ومنها سافر إلى لندن لحضور مؤتمر طبی، وفی لندن قرأ النقد الحاد الذی كتبه طه حسین عن دیوانه الأول، كما قرأ هجوم العقاد علیه، فشعر بخیبة كبیرة، وبینما كان یجتاز أحد الشوارع، صدمته سیارة، فنقل إلى مستشفى سان جورج، ولبث فیه مدة، فقد دخل رأس عظمة الساق فی فتحة الحوض فهشمته، وكان یعانی بالإضافة إلى ذلك من داء السكری، ورجع إلى مصر یائسا من الشعر والأصدقاء، وأخذ یكتب قصائد الهجاء فی هذا وذاك، بل أخذ یترجم ویكتب القصص، فكتب قصة "مدینة الأحلام"، تحدث فیها عن حبه الطفولی الأول، ونشرها مع قصص أخرى مؤلفة ومترجمة فی كتاب یحمل العنوان نفسه، قال فی مقدمته: "وداعاً أیها الشعر، وداعاً أیها الفن، وداعاً أیها الفكر". ثم نقل الشاعر إلى وزارة الأوقاف، حیث عیّن رئیس القسم الطبی، فاطمأنت نفسه، لما وجد فیها من تقدیر وتكریم، وقد عاصر ثلاثة وزراء كانوا یقدرون الشعر والشاعر، وهم عبد الهادی الجندی وإبراهیم الدسوقی أباظة وعبد الحمید عبد الحق وفی هذه المرحلة أخذ یمدح كل من له ید العون وكان من أبرز من مدحهم إبراهیم الدسوقی أباظة وزیر الأوقاف، وقد جمع كل ما قاله فی مدحه من شعر تحت عنوان: "الإبراهیمیات" وضمنه دیوانه الثانی "لیالی القاهرة" لكنه أخرج من وظیفته عام 1952، ولم یكن یدخر شیئا فعاش فی ضنك وتنكر له أقرب الناس إلیه، بمن فیهم زوجته، وأخذ ینغمس فی السهر، وفی هذه المرحلة تعرف إلى الممثلة زازا وأحبها ، ونظم فیها قصیدة مطولة باسمها مصوراً إیاها بالربیع الذی حل على خریف حیاته كان ناجی یهمل صحته، ولا یأخذ العلاج، وقد ألح علیه داء السكری، إلى أن وافاه الأجل فی 25 مارس 1953 عن عمر ناهز الخامسة والخمسین، ودفن إلى جوار جده لأمه الشیخ عبد الله الشرقاوی، فی مسجده بجوار الحسین صدرت عن الشاعر إبراهیم ناجی بعد رحیله عدة دراسات مهمة، منها: إبراهیم ناجی للشاعر صالح جودت ، وناجی للدكتورة نعمات أحمد فؤاد ، كما كتبت عنه العدید من الرسائل العلمیة بالجامعات المصریة . الألم والفراق فی شعر ناجی :

مما سبق فإن ناجی مر بظروف صعبة فی حیاته وتخلى عنه الأقارب والأحباب فی أحیان كثیرة.. ولكن كانت أول تجربة تعمق نظرته البائسة للحیاة هی محبته أیام الدراسة الثانویة لفتاة كانت زمیلته وتعلقه بها حتى أنها حینما تزوجت بغیره تهدمت مشاعره وكتب أكثر قصائده شهرة عن نظرته لهذه التجربة مصوراً أن ما بقی من الشاعر مجرد أطلال لروحه ولكنه عاد فی نهایة القصیدة یستسلم للقدر ، وحملت القصیدة عنوان "الأطلال" وتقع فی أكثر من مائة وثلاثین بیتاً فی شكل مقاطع، یتألف كل مقطع من أربعة أبیات، أكثر المقاطع منظومة على الرمل، وقد غنت أم كلثوم مقاطع منها مع بعض التعدیل فی الألفاظ وضم مقاطع من قصیدة أخرى عنوانها "الوداع". یا فؤادی لا تسل أین الهوى كان صرحاً من خیال فهوى وكان یشعر دوما بنوع من الفراق عن الأحباب وكتب یقول : سألتك یا صخرة الملتقى متى یجمع الدهر ما فرقا إذا نشر الغرب أثوابه وأطلق فی النفس ما أطلقا أریك مشیب الفؤاد الشهید والشیب ما كلل المفرقا وبحسب الناقد أحمد زیاد المحبك " یعبر إبراهیم ناجی فی معظم شعره عن نزوع فردی رومانسی حزین، فشعره ذاتی، یكاد یكون خالصاً للحب والوجدان، بل للقهر والحرمان، فهو یعبر عن حب محروم، ویصدر عن رؤیة متشائمة، ونظرة حزینة، وروح مكتئبة". فی قصیدته أنوار المدینة یقول ضحكت لعینی المصابیح التی تعلو رؤوس النیل كالتیجان ورأیت أنوار المدینة بعدما طال المسیر وكلت القدمان وحسبت أن طاب القرار لمتعب فی ظل تحنان وركن آمان فإذا المدینة كالضباب تبخرت وتكشفت لی عن كذوب امانی قدر جرى لم یجر فی الحسبان لا أنت ظالمة ولا انا جانی أما عضو الهیئة العلمیة بجامعة الإمام صادق الإیرانیة رقیة رستم بور فتعلق على التشاؤم فی شعر ناجی بقولها: "عاش الشاعر فی القرن العشرین وظل متشائما بكل مظاهر الحیاة فهو یتشاءم بالدنیا وما فیها وبالحب والهوى حینا آخر ومرجع ذلك یبدو إلى أن الشاعر الرومانسی یجد سعادته فی ظلال الحب باعتباره عاطفة یمكنها أن تضم الكون بأسره ولذا فهو دائما أبدا حزینا یبحث عن عالم المثل الذی ینشده" . نستمع له حزینا یقول: إنی امرؤ عشت زما نی حائرا معذبا أمشی بمصباحی وحی داً فی الریاح متعب أمشی به وزیته كاد به ان ینضبا عشت زمانی لا أرى لخافقی متقلبا غیر أنه وجد للشاعر العدید من الأبیات المتفائلة نوعاً بالطبیعة على وجه الخصوص مثل قصیدته الربیع والتی یخاطبه فیها بقوله: مرحى ومرحى یا ربیع العام أشرق فدتك مشارق الأیام بعد الشتاء وبعد طول عبوسه أرنا بشاشة ثغرك البسام وابعث لنا أرج النسیم معطراً متخطراً كخواطر الأحلام وغیرها قصیدة لإبنیه عماد وأمیرة: یا ابنتی إنی لأشعر أنی ملأت مهجتی شموس منیرة أشرقت فرحتان عندی فهذی لعماد وهذه لأمیرة أنتما فرقدان ، وهو جدید بالذی ناله وأنت جدیرة اغنما كل ما یطیب وفوزا بالمسرات والأمانی الوفیرة وافرحا بالذی یطیب ویرجى عیشة نضرة وعین قریرة الإنتاج الشعری وهجوم طه حسین والعقاد :

كان أوّل ما صدر لإبراهیم ناجی هو دیوان (وراء الغمام) الذی نشرته له جماعة أبولو عام 1934، ویغلب علیه الحزن والتعبیر عن الحب المحروم، ویضم بعض القصائد المترجمة، وقُوبل هذا الدیوان بهجومٍ قاسٍ من النقّاد, ولاسیّما طه حسین وعباس العقاد، فقد نقده طه حسین نقداً مرّاً فی كتابه "حدیث الأربعاء" واصفاً شعره بأنّه ذو جناحٍ ضعیفٍ لا یقدر على التحلیق وفضل علیه الشاعر علی محمود طه الذی وصفه بأنه مهیأ لیكون جبّاراً فی فنّه، أمّا العقاد فكان أكثر حدّة وعُنْفاً, فوصف شعر ناجی بالتصنع والمرض بل لم یكتف بهذا الوصف فاتّهم ناجی بسرقة شعر ولعلّ هذا النقد القاسی الذی تعرّض له ناجی والذی كاد بسببه أن یهجر الشعر كان سبباً رئیسیاً فی قلّة الدواوین الشعریّة التی أصدرها فی حیاته, إذ لم یصدرْ له سوى دیوانٌ واحد بعد ذلك وهو دیوان "لیالی القاهرة" الذی صدر عام 1943، ویقصد بلیالی القاهرة لیالی الحرب العالمیة الثانیة، التی نشبت أواخر عام 1939 وهو یعبر فیها عن كراهیته للحرب التی حرمته من سهر اللیالی ونشرت له دار المعارف بعد وفاته دیوانه الثالث: (الطائر الجریح) عام 1957، وفی سنة 1960 أصدرت وزارة الثقافة المصریّة "دیوان ناجی" وهو دیوان "شامل" ضمّ دواوین ناجی الثلاثة بالإضافة إلى بعض القصائد المتناثرة التی لم تَرِد فی أیٍّ من الدواوین السابقة. وقد قام بجمعه كلٌّ من الدكتور أحمد هیكل ، أستاذ الأدب العربی بكلیة دار العلوم وقتها، والشاعرین; أحمد رامی وصالح جودت بالإضافة إلى شقیق الشاعر, محمد ناجی. ثم أصدرت دار العودة فی بیروت عام 1986 دیوان إبراهیم ناجی، وقد ضم دواوینه الثلاثة، وبرغم الإنتاج الشعری القلیل للشاعر مقارنة بمعاصریه، إلا أنه لم یكتف بالشعر فقط، فقد كانت له نشاطات فی الترجمة، حیث قام ناجی بترجمة بعض الأشعار عن الفرنسیة لبودلیر تحت عنوان (أزهار الشر)، وترجم عن الإنجلیزیة روایة (الجریمة والعقاب) لدیستوفسكی، وعن الإیطالیة روایة (الموت فی إجازة)، كما نشر دراسة عن شكسبیر، وقام بإصدار مجلة حكیم البیت ، وألّف بعض الكتب الأدبیة مثل مدینة الأحلام وعالم الأسرة وغیرهما. لقد كان ناجی دائما محل انتقاد من آراء تعیب علیه قلة روح الإیمان والاعتماد على الله للعیش مطمئن النفس بدلاً من الشعور بالملل من الحیاة والأحیاء، وقد تمیز الشاعر فی رأی البعض بالنزعة الروحیة الأشبه بالصوفیة وتبرز فی كثیر من التعبیرات التی استخدمها مثل (جعلت النسیم زادا لروحی)(أسكر نفسی)(صحا القلب منها). أما الشاعر نفسه فقد هجا كثیراً أولئك الذین یكلفون القراء الاطلاع على أشعارهم الضعیفة ممن یصفهم بعدم الموهبة ویقول فی قصیدة له مخاطبا شاعر من ذاك النوع: أیها الحی وما ضر الورى لو كنت متا أو شعر ذاك لا بل حجر ینحت نحتا تلقم الناس وترمیهم به فوقا وتحتا ناجی متهم بضعف الوطنیة عاب الكثیر من النقاد على ابراهیم ناجی أنه كان منصب تركیزه على الشعر العاطفی الرومانسی وقصائد الهجر هی أغلب ما تركه للأجیال ، غیر أن هناك رأی آخر یرى أن الشاعر من جهة لم تجمع كل قصائده فإنتاجه الحقیقی أكبر من الدواوین القلیلة المجمعة ولم یكن یهتم بحفظ شعره الذی ألقاه فی العدید من المناسبات والدلیل على هذا كشف الأستاذ حسن توفیق للعدید من القصائد المجهولة للشاعر بإصدار الأعمال الشعریة الكاملة ، ومن جهة أخرى فهناك العدید من القصائد التی تبرهن على حبه لأمته العربیة ، ومن الفریق الأول الدكتور والأدیب محمد مندور بقوله "قد أوشك معظم شعره أن یصبح قصیدة غرام متصلةٍ وإن تعدّدت أحداثها وتنوّعت أنغامها"، ومن الفریق الثانی الدكتور طه وادی الذی رأى بأن قصیدة "لیالی القاهرة" نوعٍ الغَزِل العجیب لحبٍّ آخر وحبیبةٍ أخرى, وأنّه غزلٌ فی حبّ مصر, وحسرةٌ على ما أُصیبتْ به من عدم القدرة على قهر أعدائها، كذا الأستاذ الناقد مصطفى یعقوب عبد النبی والذی برر الأمر بكثرة القصائد المجهولة لناجی. ومنها قصیدة بعنوان "المجد الحی" ضمن كتاب "أدب العروبة" الذی أصدرته جماعة أدباء العروبة وهی جماعة أدبیة ترأسها الوزیر الأدیب إبراهیم الدسوقی أباظة ومنها یا أمّة نبتتْ فیها البطولاتُ لا مصر هانت ولا الأبطال ماتوا ویدل أیضا على ذلك قصیدته المنشورة ضمن "المجلّة الطبیة المصریة" عام 1937 ضمن رصد وقائع المؤتمر الطبّی التاسع الذی حضره عددٌ من الوفود الطبیّة العربیّة ومنهم إبراهیم ناجی قال فیها: یا شاعرَ الوادی وغرّید الرّبى قُلْ للضیوفِ تحیّةً وسلاما مصرالعریقُ وفادُها حفَظْتُ لكُم َهْداً على طُول المَدى وزِمَاما لستُمْ بها غُرَباءَ, أَنْتُمْ أَهْلُها أَنّى حَللَتُم تَنّزِلُون كِراما

ومنها أیضا: الشّرْقُ مَهْدٌ للنبوغِ ومَوْلدٌ للمجْدِ فیه رَبَا وشَبّ غُلاما زَكَت النبوّة فی حِمَاهُ ورعْرعتْ وتألّقت كالفرقدیّنِ نِظَاما مُوسى الذی شَقّ العُبابَ وفجّر الصخّر العنیدَ سواكباً تترامى عیسى الذی فدّى الوجودَ وعلم الغفّران والإحسانَ والإكراما ومحمّدٌ یَكْفیكَ أنّ محمّداَ بیّن البریّةِ أَوْجَدَ الإسلاما هذا هو الشّرْقُ العظیم لم یَزَلْ نوراً لمن رَام الهدى وإماما ومن قصیدة بعنوان مصر یفتتحها بقوله: أجل إن ذا یوم لمن یفتدی مصرا فمصر هی المحراب والجنة الكبرى أجل عن ماء النیل قد مر طعمه تناوشه الفتاك لم یدعو شبرا فهلا وقفتم دونها تمنحوها أكفاً كماء المزن تمطر خیرا سلاما شباب النیل فی كل موقف على الدهر یجنی المجد أو یجلب الفخرا تعالوا فقد حانت أمور عظیمة فلا كان منا غافل یصم العصرا شباب نزلنا حومة المجد كلنا ومن یغتدی للنصر ینتزع النصرا أعلام الأدب العربی فی شعر ناجی : أحب الشاعر إبراهیم ناجی الكثیر من الرفقاء من أعلام الأدب العربی ومنهم الأدیب السوری الراحل سامی الكیالی والذی قال فیه یا أیها الضیف العزیز نعمت بالعیش الحسن صدر الشام حنا علیك ومصر لو تدری أحن قمنا لها كل بنا حیة رسول مؤتمن والأرز الطود المعصب بالجلال المطمئن یا مؤنس المصری فی حلب وما ننسى المنن وفی رثاء الشاعر مطران خلیل مطران قال یا نفس إن راح الخلیل وعنده ورد الخلیل فعجلی برحیلی هو مصرع للعبقریة روعت فی عرشها والتاج والإكلیل أما فی الشاعر أحمد شوقی فرثاه یقول قل للذین بكوا على شوقی النادبین مصارع الشهب وا لهفتاه لمصر والشرق ولدولة الأشعار والأدب هذا طریق قد ألفناه نمشی وراء مشیع غال كم من حبیب قد بكیناه لم یمح من خلد ولا بال وفی الأستاذ إبراهیم دسوقی أباظة إذا أخذ البدر المنیر مكانه وملك آفاق السما وتمكنا فذلك تكریم الربیع لروضه جلاها الأباظیون ورافة الجنى وأنت الذی فك القیود جمیعها عن الشعر تأبى أن یهان فیسجنا قالوا عنه :

لقبه الشعراء من أبناء جیله بشاعر الأطلال نسبة للملحمة الكبیرة المعنونة بهذا العنوان. الدكتورة نعمات أحمد فؤاد: "كان ناجی سریع الانفعال كثیر الأوهام قلق الظنون طاغی الحس رفاف النفس هفاف المشاعر، وكلها عوامل تظهر أثرها فی صاحبها فی كل ما یصدر عنه" . الأمیر عبد الله الفیصل: " یعد ناجی من ابرز الشعراء الذین أقرأ لهم واحبهم " .

الناقد مصطفى یعقوب عبد النبی " على الرغم من أنّ جماعة "أبوللّو" والتی تعدّ من أبرز الظواهر الأدبیة فی تاریخ الأدب العربی المعاصر, قد ضمّت عشرات الأسماء من الشعراء العرب, إلاّ أن إبراهیم ناجی یقف فی مقدّمة تلك الأسماء

الناقد الشهیر مصطفى عبد اللطیف السحرتی:" كان ناجی ظاهرةً شعریّةً فریدةً, بهرت بیئتنا الأدبیة فی مطلع الثّلْث الثانی من هذا القرن, شاعریّةً مجدّدةً نفرت من القوالب القدیمة; شاعریّة غنائیّة وجدانیّة مبدعة" .

الدكتور محمد مندور فی معرض تعلیقه على قصیدة ناجی الشهیرة "العودة" حیث یقول: "هذه القصیدة التی أَحسبها من روائع النّغم فی الشّعر العربیّ الحدیث, على الرغم من كونها تندرج تحت فن عربیّ قدیم, وهو فن بكاء الدیار. ومع ذلك امتازت بالجدة والجمال

الدكتور شوقی ضیف الرئیس السابق لمجمع اللغة العربیة : " كلّ شعر ناجی رومانسیٌّ خالًصٌ, وأخرج الشعر من باب الرؤیةِ والخیال إلى باب الحقیقة والتجربة الواقعة".
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:13|
الوصف أساس النظم فی الأدب الأندلسی



الملخص

ان الاندلس متعددة الاوصاف فی شبه جزیرة مترامیة الاطراف ومتعددة المناخات من سواحل البحر الابیض المتوسط حتی الاقیانوس الاطلسی، وهذا یعنی بان الادب الاندلسی ملون بالوان الطبیعة، و قدابدع فی وادیه شعراء کثیرون.

فشبه جزیرة ایبریا تتآلف من عناصر جبلیة وسهلیة وتشغل الهضبة الکبری حیزاً واسعاً، ففیها من السهول والجبال والشلالات المتفاوتة وثلوج کثیرة من غرناطة حتی سفوحة، فالوصف فی أدب الأندلس من الأمور الأساسیة فی شعر الشعراء، من بدایة القرن الثانی حتی التاسع المیلادی.

الکلمات الدلیلیة : الشعراء – الأندلس – الوصف – المدن – البحار ، والأنهار.

المقدمة

إن الأندلس بلاد غزیرة عند العرب، والمسلمین و هی جنة الغرب، لأن فیها حضارة غنیة، ورفیعة، و قد نشأت فی مدنها، و ربوعها فکانت حضارة المسلمین کالکواکب اللامعة المضیئة فی سماء امتلأت بالظلمة، فکانت أوروبا تلک السماء المظلمة حیث یحترق فیها الفلاسفة، و المفکرون.

فمن الذین کانوا یعیشون فی الاندلس و هم فلاسفه کابن رشد و ابن باجه و ابن طفیل ، کان بجانبهم اطباء و ریاضیون و فلکیون و مهندسون خلقوا منهاجنة للفکر و واحةً للعقل و کان الی جانب هولاء المفکرین فنانون و ادباء و شعراء و لغویون ، قدملاوا رحابها سحراً و غردوا اناشید الحیاة . لقداسست المکتبات الخاصه للشباب تزود بالکتب العربیة و اخذ کل منهم یلتحق فی منتدیات الادب و یدخل الجامعات العربیة، حتی اصبحت اللغة العربیة هی لغة الثقاقة ، و اضطر أکثر الأساتذة فی تلک الدیار یلقون محاضراتهم باللغة العربیة.

لقد وصف الشعراء الأندلسیون العرب تلک البلاد وصفاً نستنبط منها أنها کانت أهلاً لذلک، لأن الأندلس علی مدی ثمانیة قرون أصبحت مرکزاً حضاریاً لامعاً، ومنارة علمیة و ثقافیة وأدبیة.

لما کانت الأندلس بلاد الطبیعة الساحرة، والمناظر الخلابة و الأزهار و الورود و النوار و الریاحین و الجداول و الغدران و الافیاء و الاغصان .لقد کان من الطبیعی ان یحفل شعراوها بوصف هذه الطبیعة الخلابه متمثلین فیها کل المعانی ، و لذلک ترکوا فیها تراثاً فی وصف الروضیات و ما یلحق بها و لایوجد عند امة اخری من تلک التی مارست الأدب الرفیع.

فالمسعودی یصف تلک البلاد بقوله فی مروج الذهب : (والعنبر کثیر بارض الاندلس یجهز الی مصر و غیرها و یحمل الی قرطبه من ساحل لهایقال له شنترین و شذونه وتبلغ الاوقیه منه بالاندلس ثلاثة مثاقیل ذهباً

و قال الشیخ أحمد بن محمدبن موسی الرازی: (بلد الأندلس هو آخر الإقلیم الرابع إلی المغرب و هو عند الحکماء بلد کریم البقعة ، طیب الشربه،کثیر الأنهار الغزیرة و العیون العذبة. (المسعودی،مروج الذهب ج1 ،162) و کما قیل حول غرناطة وصف الشعراء الاف البیت من أشعارهم فی وصف الأندلس لکل مدینة قصائد خاصة ذی بحور متنوعة منها:

    غرناطة مالها نظیر
    ما مصر؟ ما الشام؟ ما العراق
    ما هی الا العروس تجلی
    وتلک من جملة الصداق

 [1]

و لقد فتنت جمال تلک البلاد شعراءها و استهوتهم،فابدعوافی وصفها وغنوا بجمالها و حنوا الیها کما یقول ابن خفاجه فی وصف الاندلس:

    یا اهل اندلس لله درکم
    ماء و ظل و انهار و اشجار
    ما جنة الخلد الا فی دیارکم
    ولو تخیرت ،هذا کنت اختار
    لا تختشوا ،بعدذا،ان تدخلوا سقراً
    فلیس تدخل ،بعدالجنة النار

 [2]

فالوصف له معان متنوعة و هو احد اغراض الشعر من العصر الجاهلی حتی العصر الحدیث و استوضح فی المعجم بهذا المعنی:(استو صفت الطبیب لدائی ،اذا سالته ان یصف لی ما اعالج به،و و صف الشی ای حلاه و اصل الوصف الکشف و الاظهار کماقال ابن الرومی:

اذا وصفت ما فوق مجری و شاحها

غلائلها ردت شهادتها الازر

    (ابن الرومی،دیوان،ج3،ص448)

یقول شوقی ضیف حول القصیدة الجاهلیه: ما اشبه القصیده عندهم بفضائهم الواسع الذی یضم اشیاء متباعده لاتتلاصق، فهذا الفضاء الرحب الطلیق هو الذی املی علیهم صورة قصیدتهم ( شوقی ضیف، الادب الجاهلی،68) فلذلک اخذ الشعراء فی العصر الجاهلی یصفون الحیاة الصامتة و الحیة مع ان وصف الریاض لم یکن بینهم شیئاً متداولا لان اراضیهم کانت خالیه عن ذلک خلافاً للاندلس فلذلک یقول المرقش الاکبر:

    هل تعرف الدارعفا رسمها
    الا الاثافی و مبنی الخیم
    امست خلاءً بعد سکانها
    مغفرة ماان بها من ارم

 [3]

ولکن الوصف فی الادب العباسی یتزاید شیئا فشیئاً و اخذت الریاض تکثر فی ارض العراق و نری ابن الرومی یصف ،ریاضاً کثیرة ویصف ناعورة جمیله تدور بالمیاه:

    وناعورة شبهتها حین البست
    من الشمس ثوباً فوق اثوابها الخضر
    بطاووس بستان یدور و ینجلی
    و ینفض عن اریاشه بلل القطر

 [4]

و من الشعراء الوصافین للادب الاندلسی ابن حمدیس یصف التماثیل السود و هی تقذف المیاه من افواهها بقوله وصفاً رائعا:

    وضراغم سکنت عرین ریاسة
    ترکت خریر الماء فیه زئیرا
    و تخالها والشمس تجلولونها
    ناراً والسنها اللواحس نورا
    فکانما سلت سیوف جداول
    ذابت بلانارٍ فعدن غدیرا

 [5]

و هذا شاعر آخر متذوق بالشعر اللطیف و هو ابوبکر محمدبن سیرین السسبتی و کان یعیش فی غرناطه و یحیها ، فلما نزل بها الثلج،ضاق بها بعض اصدقانه و انشد ابوبکر ابیاتاً رقیقه موشیةً بالتوریة و الجناس و حسن التعلیل دون غلو و مبالغة قائلاً: [6]

    رعی الله من غرناطه متبوءاً
    یسر حزیناً اویجیر طریداً
    تبرم منها صاحبی عند مارای
    مسارحا بالثلج عدن جلیدا
    هی الثغر صان الله من اهلت به
    و ماخیرثغر لایکون برودا

فی وصف الازهار:

هناک شعراء آخرون خصصوا شعرهم بوصف الازهار منها شقائق النعمان و النیلوفر والنرجس و الورد و وصفوما وصفوا فیها حتی احسن وصفهم فالشقائق لونها احمر القانی وقد عمد الشعراء الی الاکثار من الاضفاء علیها شکل الحروب و هو ابوالفضل العیاض یصف الشقیق بقوله:

غیر بعید عن بیت الخالدی

انظر الی الزرع و خاماته

کتائباً تحفل مهزومه

شقائق النعمان فیها جراح  [7]

و هذا ابن الزقاق له ابیات فی الشقیق من ارق ماقاله الاندلسیون حول هذه الزهرة البهیجه و ان کان قد اقام علیها حد السرقه علی حسب التعبیر الفقهی حسین جعلها مذنبه فی نظر الغمام سارقةً حمرة الخدود:

    و ریاض من الشقائق اضحی
    یتهادی بها نسیم الریاح
    زرتها و الغمام یجلد منها
    زهرات تروق لون الراح
    قلت ماذنبها؟فقال مجیباً
    سرقت حمرة الخدود الملاح [8]

والمعتمد بن عباد یصف النیلوفر باحسن وجه بقوله: [9]

    یا ناظرین ندی النیلوفر البهیج
    و طیب مخبره فی الفوح والارج
    کانه جام در فی تالقه
    قد احکموا وسطه فصاً من التسبیح

و هناک ابی زمرک یصف الورد و القرتفل توصیفاً جمیلاً لیس له مثیل بقوله:

اتونی بنوار یروق نضارةً کخد الذی اهوی و طیب تنفسه و ما ابصرت عینی کزهرقرنفل حکی خد من یسبی الفواد و عرفه اقر بعینی ان اری الزهر یانعاً و قد نازع المحبوب فی الحسن وصفه  [10]

اما ابن خفاجة و هو شاعر القرن الخامس فی الاندلس وعرف بشاعر الوصف فی عصر ملوک الطوائف یصف الورود والریاض باجمل شکل ممکن بقوله:

    فیابرد ذاک الماء هل منک قطرة
    فها انا استسقی غمامک صادیا
    وقف حیث سال النهر ینساب ارقما
    وهب نسیم الایک ینفث راقیا
     
    ویصف من جهة اخری مدینه بلنسیة کانها بنت کاعب و البستها ورود بقوله:
    
    کان بلنسیة کاعب
    وملبسها السندس الاخضر
    اذا جئتها سترت وجهها
    با کمامها، فهی لاتظهر
    وفی ابیات اخری قائلاً:
    
    بلنسیة جنة عالیة
    ظلال القطوف بهادانیة
    عیون الرحیق مع السلبی
    ل و عین الحیاة بهاجاریة
     [11]

و أرجو فی الختام ان اکون قدوضحت بعض النقاط للوصف وسوف أبین فی المستقبل القادم وصفاً خاصاً فی مقال آخر والسلام علی من اتبع الهدی.
المصادر والمراجع

   1. الإحاطه فی أخبار غرناطه / لسان الدین الخطیب / تحقیق محمد عبدلله – مکتبة الخانچی / 1977 م
   2. ازهار الریاض فی اخبار عیاض / المقری التلمسانی / اللجنة المشترکه / الامارات/ 1987 م
   3. البیان المغرب فی اخبار اندلس و المغرب / ابن عذاری المراکشی / دار الکتاب العربی لبیا / 1973 م
   4. تاریخ ابن خلدون / منشورات الکتاب اللبنانی / بیروت / 1968 م
   5. دیوان ابن حمدیس الصقلی / تحقیق احسان عباس / دار صادر بیروت / د ت.
   6. دیوان ابن خفاجه /تحقیق عمرفاروق الطباع / دارالقلم / 1988 م
   7. دیوان ابن رومی / تحقیق حسین نصار / دارالکتاب / القاهرة / 1973 م
   8. دیوان ابن دراج / تحقیق محمود مکی / المکتب الاسلامی / دمشق / 1989 م
   9. دیوان ابن الزقاق / تحقیق عفیقه دیوانی / دارالتقافة / بیروت 1989 م
  10. الشعر و الشعراء / ابن قتیبه / دار التقافة / بیروت 1980 م
  11. فلائد العقیان / فتح بن خاقان / مطبقة التقدم العلمیه / 1320 ه
  12. ابن زمرک الاندلسی / حیاته و ادبه / صالح عبدالسلام البغدادی / منشورات الجانعه /1988 م
  13. نفح الطیب / المقری التلمسانی / إحسان عباس / دار صادر / 1968 م

حواشی

[1] (نفح الطیب،ج1، 173)

[2] (الخفاجی،دیوان،113)

[3] (المجانی،ج1،229)

[4] (ابن رومی،دیوان،ج3، 449)

[5] (نفح الطیب، ج3، ص32)

[6] (نفح الطیب،ج1، 166)

[7] (نفح الطیب،ج3)

[8] (نفح الطیب،ج4)

[9] (قلائد العقیان،ص275)

[10] (نفح الطیب،ج4، 684)

[11] (ابن خفاجه،دیوان6)
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:12|
رومنطیقیة القلب الحزین قصیدة
الوصف عند خلیل مطران

الأسد الباكی نموذجا



أقحم شعر الوصف فی أدبنا العربی ضمن الشعر الغنائی أو الوجدانی أو الذاتی وهو الشعر الذی یعبر فیه الشاعر عن ذاته أو "أناه " و بلفظ موجز رؤیا الذات أو موقفها من العالم و الوجود بخلاف الشعر الموضوعی أو التمثیلی حیث یعبر فیه الشاعر عن ذات الأمة ، غیر أن شعر الوصف فی أدبنا العربی القدیم ظل وصفا میكانیكیا لا تندغم الذات فیه فی الموضوع أو لا تتصل وشائج القرابة بین الذات الشاعرة و موضوعها ، فیظل الوصف خارجیا ترى فیه أثر كد الذهن فی خلق القرائن أو إدراكها بین المقتبس منه( المشبه به ) والمقتبس له ( المشبه)عن طریق التشبیه الصریح أو الاستعارة وترى التفنن فی ذلك ومحاولة السبق فی ابتكار التشبیهات و الاستعارات ولكن من غیر أن یصیر الشاعر قلب الوجود وروحه فلا یسع العالم حینها إلا أن یكون مظهرا لتلك الذات، ذلك أن الوصف بغیر هذا المعنى یكون أقرب إلى العلم منه إلى الفن لأن میكانیكیته تحید به عن روح الشعر التی هی فی الصمیم رؤیا وذلك لأنك فی الشعر لا تطلب الحقائق الموضوعیة وإنما تطلب كیانا شعریا فی تفاعله مع الوجود ورؤیته له، وذلك الكیان الشعری هو أشبه بالبناء المشمخر الذی تدخله لأول مرة مكتشفا سرادیبه وردهاته وغرفه متذوقا جماله واقعا على فرادته وأنت واثق أنك لم تقع على مثله من قبل على كثرة ما دخلت إلى الدور والقصور وبالمختصر فالشعر هو الرؤیا والفرادة معا لأن الروح الشعریة لا تقبل الاستنساخ والتقلید إعدام لها وتجنی على روح الشعر، وقد غاب هذا المفهوم العمیق للشعر عن أذهان أسلافنا ونقادنا القدامى فانصرفوا إلى النقد الفقهی أو تتبع السرقات الأدبیة واكتشاف مصادرها لولا محاولات من هنا ومن هناك تخرج من تلك الصحراء منقذة أناها ملقیة بها فی إصرار فی مملكة الشعر المعروفة بحدودها المتعالیة على سواها من الممالك ولعل امرأ القیس أفضل الشعراء الذین فروا بجلدهم من صحراء التیه لائذین بمملكة الشعر وترى الوصف عنده لصیقا فی معظم الأحوال بذاته ویغدو الوجود بمظاهره ملونا بلون ذاته وخیر مثال على ذلك هو وصفه للیل:

ولیل كموج البحر أرخى سدوله

علی بــأنواع الــهموم لــــیبتلی

فقــــــلت لـــه لما تمطى بصلبه

وأردف أعـــــجازا وناء بكلكل

ألا أیـــها اللیل الطویل ألا انجل

بصبح وما الإصباح منك بأمثل

فاللیل هنا لیس لیلی ولیلك أو لیل الكائنات الذی تسكن فیه إلى بعضها البعض ولیس بلیل موضوعی نستمتع فیه بجمال النجوم وروعة السكون بل هو لیل خاص ملون بلون الذات الحزینة الخائفة منه والذی ترى فیه غولا یناور ویتهجم محاولا إزهاق روح الشاعر وسكینته وأنت إذا أردت مثلا للوصف الموضوعی أو الذی أسمیناه میكانیكیا فلن تعدمه لأنه الكثرة الطاغیة فی شعر الوصف فی أدبنا القدیم فمنه قول امرئ القیس فی وصف سرعة جواده :

مكر مفر مقبل مدبر معا

كجلمود صخر حطه السیل من عل

أو قول طرفة فی وصفه الطلل :

لخولة أطلال ببرقة ثهمد

تلوح كباقی الوشم فی ظاهر الید

أو كقول الأعشى فی وصف مشیة حبیبته:

كأن مشیتها من بیت جارتها

مر السحابة لاریث ولاعجل

أو كقول المتنبی فی وصف جثث الأعداء:

نثرتهم فوق الأحیدب نثرة

كما نثرت فوق العروس الدراهم

أو كقول أبی تمام فی نفس الغرض :

تسعون ألفا كــــــآساد الشرى

نضجت جلودهم قبل نضج التین والعنب

وتستطیع أن تجد لذلك أمثلة كثیرة فی شعر البارودی وإسماعیل صبری وحافظ وشوقی ولا یتسع المقام للاستطراد فی ضرب الأمثلة. غیر أن الشعر الحدیث وفی تأثره بالشعر الغربی الفرنسی والإنجلیزی خاصة وفی العب من نظریات النقد عند أعلامه فی الغرب تنبه إلى ذلك وأدرك بعض الشعراء أن الشعر فی حقیقته رؤیا وكان هذا أهم مظهر من مظاهر التجدید قبل النظر فی الأوزان والقوافی لاأثر فیه للتقلید أو الاستنساخ ولعل شاعرنا الكبیر خلیل مطران أبرز الشعراء المحدثین الذین أدركوا ذلك ونفذوا ببصیرتهم إلى حقیقة الشعر ولبابه. وخلیل مطران( 1872- 1943) شاعر القطرین العربی الصمیم المنحدر عن الغساسنة ملوك الشام وكان أخر ملك منهم جبلة بن الأیهم الذی أسلم وقد قال الشاعر مشیرا إلى نسبه العریق هذا:

ألا یابنی غسان من ولد یعرب

وأجدادكم أجدادی العظماء

وبقیت بقیة منهم لم تسلم محتفظة بنصرانیتها، ونزحت إلى لبنان بعض العائلات منها كعائلة مطران التی تمذهبت بالأرثوذكسیة فی البدء ثم تكثلكت وأما اللقب الذی لحق بهم فذلك أن أحد أجداد الشاعر كان مطران كنیسه ببعلبك، وقد تعرضت عائلة الشاعر للاضطهاد وإلى مصادرة الأملاك التابعة لهم فی وادی البقاع من قبل الولاة التابعین للباب العالی فی استانبول فنزحت إلى الإسكندریة ثم إلى القاهرة وفیها عاش الشاعر ونبه ذكره مشتغلا بالصحافة فی جریدة " الأهرام" ثم أصدر عام 1900 "المجلة العربیة" وعام 1902 أصدر الجوائب. والشاعر أحد أركان النهضة الشعریة فی العصر الحدیث جمع بین الملكة الشعریة والملكة اللغویة ودقة التصویر والدفق العاطفی والتمكن من الأدب العربی قدیمه وحدیثه إضافة إلى اتقانه اللغتین الفرنسیة والإنجلیزیة ومطالعته للأدبین الفرنسی والإنجلیزی خاصة الرومنطیقی منه كشعر ووردزورث وشلی وجون كیتس وبایرون وألفرید دی موسیه وفرلین ورامبو وهوغو ولامارتین وغیرهم ثم فوق ذلك كله حس إنسانی رفیع ونبالة خلق وصفاء ضمیر واستقامة نفس فلا یذكر غیره إلا بالخیر كما ترفع عن النقد الجارح والقذف والحسد وأخلاقه شهد له بها معاصروه، ویكفی دلیلا على رهافة حسه ووفائه أنه دخل مرة إلى حدیقة فی القاهرة فلقی فتاة فی عمر الزهور أعجب بها وخفق لها فؤاده بمشاعر الوداد فحام حولها حومان النحل حول الزهر من 1897 إلى 1903 غیر أن الفتاة ماتت مصدورة فحزن الشاعر لموتها وصمم على حیاة العزوبیة وكتب فی رثاء الراحلة قصیدة یقول فی مطلعها:

سررت فی العمر مره

وكنت أنت المسره

فقد كان مطران إذا رجل عفة واستقامة عانى من شظف العیش وكدح بشرف مترفعا عن سفاسف الأمور وفی نظراته حزن تكشف عن ألم دفین وحسرة متمكنة من النفس لعلها حسرة الزوال وانفضاض المجالس وبطلان الحیاة وتهافت ملذاتها ورغائبها ثم سلطة القدر وسیفه المسلط على الإنسان إذ لا یمكن الإنسان من نیل رغائبه ولعل موت حبیبته أسوأ مؤشر على ذلك. وفی شعر مطران هدوء وسلاسة فهو غیر شوقی المقتفی أثر الشعراء الكبار كالمتنبی وأبی تمام والبحتری وهو غیر حافظ صاحب المزاج الحاد وقد كانت كلماته المنتقاة موحیة بذلك ، مجلجلة بتأثیر من طفولته المشردة وكهولته التعیسة من غیر زوج وولد وكأنه أراد للناس حیاة غیر حیاته فثار على الخصاصة سلیلة الفقر والطبقیة . أما خلیل مطران فهو كالنهر إذ استوى فی سهل یجری هادئا متمهلا بلا صخب أو ضوضاء متأملا الوجود بنظرة حانیة لا یخفى على المتأمل انكسارها ونفس یغلفها شعور بالأسى ولكنها هادئة لا تثور كالبركان وتقذف بحممها فی شعرها فتحرق القارئ معها . لقد كان الشاعر الإنجلیزی ووردزورث ینصح الشعراء أن یتمهلوا فلا ینبغی أن یمسك الشاعر بقلمه كلما خفق قلبه أو اضطرمت مشاعره، أی أن یكون الشعر استجابة عارضة لمؤثر خارجی بل یجب علیه أن یتأنى ویترك المشاعر تهدأ والزمن یفعل فعله لیذهب الزبد جفاء وما ینفع الناس والفن یبقى وتنجلی الغاشیة عن الأشیاء لأن العاطفة القویة تلفها كالضباب، وهی قویة صاخبة معربدة تلمع كالشهاب فجأة ثم تخبو رویدا رویدا وتنتهی رمادا. وقد سلم مطران من هذه الآفة التی تسئ إلى الشعر فصانه عن أن یكون زبدا أو رمادا. وفی قصیدته" الأسد الباكی" وهی من عیون الشعر الحدیث ولاتعنی الحداثة أن یكون الشعر على نسق شعر التفعیلة والكثیر منه رغاء، إنما الحداثة هی الوعی بالزمن و الإندغام فی العصر فی علاقته الجدلیة بالماضی منفصلا متصلا ومتصلا منفصلا وبإضافة شیء إلى المعمار الإنسانی لا بكلمة تلوكها الألسن وتمجها القلوب الانسانیة الحقة. ولقد كتب الشاعر هذه القصیدة إثر أزمة خانقة عاشها الشاعر وطوحت به ذلك أنه فشل فی مشروع من مشاریع حیاته حیث عمل من عام 1909 إلى عام 1912 بالتجارة وربح وخسر ثم قام بصفقة مضاربة خسر فیها أمواله واعتزل بعین شمس یائسا ولم یعد إلى القاهرة إلا بعد توسل الأحباب والأصحاب. والعنوان ذاته موحی بعمق الأزمة فالأسد على سبیل الاستعارة دال على معانی الرجولة وصفاتها الجوهریة كالقوة الروحیة والشهامة والترفع عن الصغائر وتأتی الصفة لاحقة بالموصوف لتوحی بالعجز تحت وطأة الظروف وقسوة الزمن فیأبى الشاعر أن یریق ماء وجهه ویتزلف وینافق استجلابا للسلامة أو الرفاه ولا یسعفه غیر الدمع أبلغ تعبیر عن عمق الجرح وهو فی حد ذاته لغة قوامها كیمیاء الجسد لا اللفظ السالك مجرى الطعام وسخونته وشفافیته البلوریة هما آیة الصدق مع النفس والعالم ، والحق أن خصیصة الوصف الحلولی هذه لم یكن مطران وحده هو ممثلها فی شعرنا الحدیث فقد تخلص هذا الشعر فی صیغته الحداثیة من آفة الذات والموضوع فهما واحد ولیس العالم إلا حلول الشاعر فیه وتلونه بلونه فهو لیس عالما حیادیا بل مزاجیا وفی وسع علم النفس أن یمدنا بمفاتیح تفتح أبواب الفهم وتنیر حلكات الطریق ولعل الإسقاط خیر ما یسعفنا به هذا العلم من مكتشفاته فی دنیا النفس القریبة البعیدة، ذلك أن عالم اللاوعی وعظمة خطره فی الحیاة الإنسانیة واستعصائه على المراقبة والتحری فهو كالحزب السری ینشط فی الخفاء ویجید المكر والتلاعب ولا یحب العلن لتعوده على حیاة الخفاء فیجئ الوصف أحیانا فیه إشارات من العقل الباطن بل هو كضربات الفرشاة التی تكمل رسم اللوحة وكثیرا ما تكون تلك الضربات حاسمة، وهنا تحدیدا یتجلى معنى التمایه بین الذات والموضوع وهو ما عنیناه بالإندغام، ولا تقف الصورة الشعریة عند هذا الحد فالرؤیا الشعریة تتمرد على الواقع وتخرق المألوف ولا تساوم فی حریتها وشفافیتها واندفاعها نحو الآفاق بقوة عجیبة یضفی علیها الحلم مسحة رومنطقیة أو صوفیة ویزیدها الرمز أحیانا إیحائیة أو ضبابیة تحافظ بها على رونقها، وخیر مثال على هذا الوصف الذی أسمیناه بالحلولی هذا المقطع للسیاب فی وصف مصباح الإضاءة اللیلیة فی دروب المبغى البغدادی:

وكأن مصباحیه من ضجر

كفان مدهما لی العار

كفان بل ثغران قد صبغا

بدم تدفق منه تیار

فإذا كان هذا المقطع یعكس حالة الشبقیة التی كانت تعذب الشاعر حد الفناء ، فإن الوصف هنا تجاوز الحدود المألوفة ففیه حركیة الكفین والثغرین والتشبیه هنا خلاق فهو من قبیل تشبیه الجامد بالحی ثم تأتی دلالة العار وهی دلالة دینیة أخلاقیة فی ذات الوقت موحیة بالإحساس بالذنب وارتكاب المعصیة، غیر أن النزوة الجسدیة والقوة الشهوانیة أقوى وأغلب فتلون الوجود كله بلونها القانی . وأما فی قصیدة خلیل مطران فكثیرا ما نقع على هذا الوصف الذی أسمیناه بالوصف الحلولی حیث یتأنسن الوجود بفعل رؤیة الشاعر التی ترى الوجود حیا فاعلا دینامیكیا بمظاهره لا مجرد أحجام وكتل وأرقام فترى الشاعر یحاوره محاولا الوقوف على خفایاه كاشفا إیاها كقوله:

شاك إلى البحر اضطراب خواطری

فیجیبنی بریاحه الهوجاء

واللمسة الرومنطیقیة واضحة هنا خاصة فی قوله " بریاحه الهوجاء" إلا أن البحر هنا صار یجسد جبروت الطبیعة وقهرها وهو موقف للذات المغلوبة التی صارت ترى الوجود وكأنه تآمر علیها فلتحمل صلیبها إلى ذروة الجلجلة وحیدة فی معاناتها ولو كلفها ذلك حیاتها ! ثم یأتی الوصف متتابعا متلاحقا فالشاعر ود لو أن قلبه كالصخر لا یتألم ولا ینزف وكأنه حسد الصخرة على بلادتها وعدم إحساسها ولو أن السقم والبرحاء نفذا إلى أعماقها فهدت صلادتها وخففت من غلواء الداء وتباریحه على الشاعر . لقد غدت الطبیعة والشاعر هنا واحدا ولم تعد موضوعا وهذا ما یضفی على التشبیهات دینامیكیة ویخرجها عن رتابة التشبیهات الكلاسیكیة:

ثاو على صخر أصم ولیت لی

قلبا كهذی الصخرة الصماء !

ینتـــابها موج كموج مكارهی

ویــــفتها كالسقم فی أعضائی

أما البحر ذاته فعاد إلیه الشاعر لیضفی علیه سمة الإنسان فألحقه بزمرة الیائسین، وأی یأس؟ إنه یأس الشاعر ذاته الذی أسقطه على الوجود فتلون كله بلون أسود ، وكأن مفتاح الرؤیا تجلى فی معنى لفظة " كن أیها الوجود" فكان كما أراده الشاعر وجودا ذاتیا لاحقیقة له إلا فی قرارة نفس الشاعر. ویمكن فهم ذلك كله بالعودة إلى علم النفس حیث تبحث الذات إذا وقعت فی كمین عن نظراء لها أصیبوا بما أصیبت به لتخف الغلواء وهو ما یجسده القول المأثور " إذا عمت خفت" وقد عمت البلوى هنا الوجود كله فالصخرة بلواها فی بلادتها والبحر فی كمده والوجود كله سأمان والأفق معتكر:

والأفق معتكر قریح جفنه

یغضی على الغمرات والأقذاء

ولن تجد فی الشعر العربی قدیمه وحدیثه شاعرا أبدع فی وصف الغروب شأن خلیل مطران وفی الواقع فوصفه استبطان للذات وكشف لخفایاها بترصد عناصر اللوحة الطبیعیة المتجلیة فی غروب الشمس ، ولقد رأى فیه الشاعر عبرة، وأیة عبرة؟ لعلها عبرة الاضمحلال والزوال وقدیما قال الشاعر:

منع البقاء تقلب الشمس

وطلوعها من حیث لا تمسی

وطلوعها حمراء صافیة

وغروبها صفراء كالورس

الیوم أعلم مایجیء به

ومضى بفصل قضائه أمس

غیر أن الشاعر یرى الظلام طمسا للیقین وذهابا بالنور الذی تمثل جنازته ، فالظلام یذكر بالهجوع الأبدی لولا أن الشمس تشرق غدا والحیاة تبدأ دورتها من جدید لكن وحشة الروح وكآبة النفس ظلمة دامسة لن تشرق علیها شمس السرور وحق للشاعر أن یتألم لها:

یاللغروب ومابه من عبرة

للمستهام وعبرة للرائی !

أولیس نزعا للنهار وصرعة

للشمس بین جنازة الأضواء؟

أولیس طمسا للیقین ومبعثا

للشك بین غلا ئل الظلماء؟

أولیس محوا للوجود إلى مدى

وإبادة لمعالم الأشیاء؟

حتى یكون النور تجدیدا لها

ویكون شبه البعث عود ذكاء

ولا غرض للاستفهام هنا إلا الإثبات. أما السحاب فقد تلون بلون الدم والدم فی عرف الرومنطیقیین رمز المعاناة والتباریح فلا بأس أن یشبه به خواطره الحزینة مادام قد رأى الوجود كله بتأثیر من نفسه كئیبا:

وخواطری تبدو تجاه ناظری

كلمى كدامیة السحاب إزائی

وولع الشاعر بالحمرة یمتد حتى إلى الدمعة وقد عهدناها بلوریة شفافة عند الرومنطیقیین ولكنها عند الشاعر غدت حمراء:

والشمس فی شفق یسیل نضاره

فوق العقیق على ذرى سوداء

مرت خلال غما متین تحدرا

وتقطعت كالدمعة الحمراء

وقد خان الشاعر التوفیق هنا فلو أننا سلمنا معه بحمرة الدمعة وقلنا أنها اختلطت بالدم الذی كان الشاعر ینزف به مما به من تباریح ،فأی شئ یقطع الدمعة الحمراء؟ وهو یرید وصف احتجاب جزء من قرص الشمس وراء السحاب الأحمر ولو كان أراد غیر ذلك لكان أجدر به أن یقول "وتنزلت " مثلا إذا برز قرص الشمس ثانیة بعد احتجابه بالغمام. وترى الشاعر فی النهایة أقام مناحة وجودیة وتأبینا كونیا له ، ومادام الشاعر هو قلب الوجود وإذا كان القلب تعیسا حزینا فلن یضخ إلى الوجود إلا الكآبة والیأس، فبكت الطبیعة لبكائه والزمن جسد للشاعر معنى الزوال بهذا المشهد الرومنطیقی الحزین الجامع بین لوعة المعنى ودلالة اللون:

فكأن آخر دمعة للكون قد

مزجت بأدمعی لرثائی

وكأنی آنست یومی زائلا

فرأیت فی المرآة كیف مسائی !

وأما البحر الذی اختاره الشاعر لقصیدته فهو الكامل وهو یتسع بتفعیلاته الست المتكررة "متفاعلن" السباعیة لتضمن المعنى والشجن والدفق العاطفی ویزیده إضمار " متفاعلن" جرسا موسیقیا عذبا تستلذه الأذن ویعلق بالقلب وأما الضرب بإضمارمتفاعلن وحذف النون مع إسكان اللام لتغدو " مستفعل" فهو أعذب ما فی الكامل على كثرة أعاریضه وأضربه وحتى البارودی فی رثائه لزوجته تخیر هذا الضرب. لقد كنا نعد الوصف فی الشعر مهارة ذهنیة ولغویة معا تظهر براعة الشاعر فیه فی تمثل المشبه به وكلما كان فریدا غیر مسبوق وكانت علاقته بالمشبه وطیدة كلما كان الشاعر ذا عبقریة مفلقة فجاء مطران وزاد على هذا بأن أنسن الطبیعة واندغم فیها ووصفها من خلال وجدانه على سبیل التمایه أی أن تغدوا الذات والموضوع واحدا وهو بذلك مدین بلا شك للرومنطیقیة الغربیة التی اغتذى بلبانها وتمثل " الرؤیا" التی نص علیها ولیم بلیك، وقد ساعده على ذلك إضافة إلى الدفق الوجدانی وقوة المخیلة وخصبها امتلاك الأداة أی اللغة التی طوعها لأغراضه البیانیة ولا عجب فمن یزعم أن الغساسنة أجداده لا جرم أنه یمتلك ناصیة اللغة وقد أفلح الشاعر فی ذلك إلى حد بعید وستبقى قصیدته " الأسد الباكی" خیر ما یمثل مذهبه الجدید فی فن الوصف على الرغم من مسحة الكآبة البادیة علیها
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:12|
تعریفه:
هو هذا اللون من الشعر الذی یهدف به الشعراء إلى تعلیم الناس شئون دنیاهم وأخراهم، وتزویدهم بالحقائق والمعلومات المتعلقة بحیاة الفرد والجماعة، وأسرار الطبیعة وما وراء الطبیعة..
1-فهو یعالج الأخلاق والعقیدة والعبادة، ویتناول الخیر والشر، والفضیلة والرذیلة ، وما ینبغی الإنسان أن یكون علیه، وما یجب أن یتحاشاه ویتباعد عنه … یسلك الشاعر فی ذلك أسالیب الترهیب والترغیب والنصح والعظة..
2-ویتناول التاریخ والسیر: فیقرر ویبین الأنساب والأصول والفروع، وتسلسل الحوادث وترتیبها، ویبحث العلل والأسباب، ویربط النتائج بمقدماتها…
3-ویعرض للعلوم والفنون والصناعات، فیقرر الحقائق المتعلقة بشأنها، ویضع لها القواعد ویستنبط لها القوانین.
یقوم الشاعر بكل أولئك لیقدمها لقمة سائغة لمن یرید تعلیمه، فتعیها ذاكرته، وتسجلها حافظته، فیسهل علیه استدعاؤها واستحضارها فی الوقت المناسب.
وبهذا ترى أن المیادین التی یعمل فیها هذا اللون من الأدب، أو الشعر الذی نسمیه (تعلیمیا) ثلاثة میادین:
(1) أصول الأخلاق والعقائد.
(2) السیر والتاریخ.
(3) الحقائق والمعارف المتعلقة بالعلوم والفنون والصناعات.
عند الیونان:
عرفت الیونان هذا اللون من الأدب عند جماعة من شعرائها القدامى، ومن أشهرهم (هزیود ) فی القرن الثامن قبل المیلاد، وكان من أهم الأعمال المنسوبة إلیه قصیدتان: أولاهما التی تتناول موضوعی الأخلاق والعقائد، والمعارف والحقائق المتعلقة بالفنون والصناعات. فهی تتحدث عن الجانب الخلقی وتوجه مجموعة نصائح وعظات بصدد العدالة، والظلم والقناعة والجشع، وعناصر كلٍّ منها، وأصوله ونتائجه بضرب الأمثال والحقائق التاریخیة والسماویة والأرضیة… كما تعرض أعمال الحقل وما یتصل بها، فیبین فصول السنة وما یلائمها من ضروب الزراعة، وما تحتاج إلیه من أداة وفن...
والقصیدة الثانیة هی: (التیوجونیا).. أو أنساب الآلهة، وتعرض للآلهة، فتبین نشأتهم وأنسابهم وأصولهم وشعبهم، وتترجم لكل منهم، فتفصل وظائفه وأعماله وتاریخ حیاته 1.
وعند الهنود:
وعرف الهنود أیضا هذا الضرب من الشعر، فراحوا ینظمون به جملة من المعارف والعلوم التطبیقیة ، مما دفع (البیرونی ) إلى الشكوى من أنهم كانوا یعمدون إلى نظم قواعد الریاضیات والفلك، لأن ذلك یخرجهم أحیاناً عن ضبط القواعد وما یستلزمه من دقة فی التعبیر لا تتسنى فی النظم2 .
لدى العرب:
أما بالنسبة للأدب العربی؛ فیذهب الذاهبون إلى أن العرب لم یعرفوا هذا اللوّن من الأدب إلاّ فی وقت متأخر نتیجة اتصالهم بالفكر الوافدِ فهناك من یرى أن هذا التأثیر ناشئ عن الثقافة الهندیة التی اتصل بها العرب فی العصر العباسی، ومن هؤلاء الأستاذ أحمد أمین 3 وشكری فیصل4، ویرى آخرون أن ذلك من مكتسبات الثقافة الیونانیة5 .
على أن الدكتور طه حسین یرى أن أبان بن عبد الحمید اللاحقی هو مبتكر هذا الفن فی الأدب العربی، إذ یقول: "... یظهر أن أبان هو أول من عنی بهذا الفن6 ...". ویقول عنه فی موضع آخر"... فهو إمام طائفة عظیمة من الناظمین، نعنی أنه ابتكر فی الأدب العربی فنّاً لم یتعاطه أحد من قبله، وهو فن الشعر التعلیمی"7 .
ویذهب شوقی ضیف إلى رأیین متناقضین كلّ التناقض، متعارضین التعارض كلّه، ولا ندری على أیهما استقر رأیه النهائی بإزاء المسألة !.. ففی كتابه: العصر العباسی الأول، یرى أنه " فن استحدثه الشعراء العباسیون، ولم تكن له أصول قدیمة، ونقصد فن الشعر التعلیمی الذی دفع إلیه رقى الحیاة العقلیة فی العصر، فإذا نفر من الشعراء ینظمون بعض المعارف أو بعض السیر والأخبار"8 … بینما یذهب الدكتور شوقی ضیف فی كتابه الآخر ( التطور والتجدید فی الشعر الأموی) مذهباً آخر یوشك- فی رأینا- أن یكون صائباً، ولكنه لم یسر فیه إلى آخر الشوط، كما سنرى بعد…
فهو یذهب ههنا إلى أن الشعر التعلیمی ذو نشأة عربیة خالصة فی آخر القرن الأول الهجری وأول الثانی، أو قل فی أواخر دولة الأمویین.. إذ أن أراجیز الرُّجاز و بخاصة رؤبة والعجاج قد كانت متوناً لغویة، وبالتالی فهو النواة والبذرة التی انبنى علیها الشعر التعلیمی فی جانب الكلام المنظوم، وتطور فی جانب النثر فكانت المقامات... ویقول الكاتب : "ونحن نؤمن بأن هؤلاء الرّجاز-وفی مقدمتهم رؤبة- هم الذین أعدوا شعراء العصر العباسی لا للشعر التعلیمی فحسب، بل لاقتباسهم للغریب فی أشعارهم، فالغریب أصبح جزءا هاما فی مادة الشعر عند الشعراء الممتازین من أمثال بشار وأبی نواس وأبی تمام..." 9
ویقول عن رؤبة وعن أبیه العجاج: "والإنسان لا یلم بدیوانیهما حتى یقطع بأنهما كانا یؤلفان أراجیزهما قبل كل شیء من أجل الرواة، ومن اجل أن یمداهم بكل غریب، وكل أسلوب شاذ، ومن هنا كنا نسمی هذه الأراجیز متونا لغویة، وقد بلغت هذه المتون صورها المثالیة عند رؤبة، فهو النمو الأخیر لهذا العمل التعلیمی الذی أرادته المدرسة اللغویة من جهة، والذی استجاب له الرجّاز من جهة أخرى. ولعل هذا ما جعل اللغویین یوقرونه أعظم التوقیر، فأبو الفرج یقدمه فی ترجمته بقوله: "أخذ عنه وجوه أهل اللغة: وكانوا یقتدون به ویحتجون بشعره ویجعلونه إماماً.." 10 ویقول الدكتور ضیف: "والأرجوزة الأمویة من هذه الناحیة تعد أول شعر تعلیمی ظهر فی اللغة العربیة 0011" ویقول: "... ومهما یكن فقد ألهمت الأرجوزة الأمویة الشعراء فی العصر العباسی أن یقوموا بنظم شعرهم التعلیمی، كما ألهمت أصحاب النثر وضع المقامة"12 .
وهذا الذی ذهب إلیه الكاتب یوشك أن یكون صواباً لولا أنه قصر به قلیلا... ذلك أننا نرى أن هذا اللون من الأدب لم تكن بذرته قد بذرت فی هذه المرحلة من العصر الأموی، ولكن البذرة قد نبتت واستوت على سوقها منذ زمن بعید بعید !!.
من أین أتت الخدعة ؟
ونحن نرجح تخطئة الذین ذهبوا إلى أن الشعر التعلیمی إنما عرفه الأدب العربی مع ما عرفه من الثقافة الدخیلة، والفكر الوافد- شرقیّة وغربیّة، هندیّة ویونانیّة- أو ابتكر فی هذا العصر العباسی ابتكاراً بسبب امتزاج الأفكار والثقافات وتوالدها، أو أن الأرجوزة الأمویة هی التی وجهت إلیه الشعراء العباسیین!..ِ
إن الخطأ قد أتى هؤلاء الكاتبین من جهة ( التطبیق).. فهم یُعَرِّفون الشعر التعلیمی تعریفاً نظریاً جیداً، واضح الحدود والمعالم، بیّن القسمات والسمات، وحین تأتی مرحلة التطبیق العملی یجانبهم التوفیق، ولا یجدون إلا بعض الجزئیات أو الأقسام فی فترة معینة من الزمان تنطبق علیها هذه النظریات، ومن هنا ینطلقون إلى القول بأن هذا الفن كان عدما فیما مضى ثم أصبح له وجود منذ هذه الفترة التی اسُموها بالعصر العباسی، أو على أحسن الفروض العصر الأموی !..
إن هؤلاء الكتّاب یعرفون الشعر التعلیمی بمثل ذلك التعریف الذی صدّرنا به هذا الحدیث، ثم یقسمونه ثلاثة أقسام كما رأینا.
كل ذلك فی أسلوب یخلو فی الغالب من المقومات الفنیة كالخیال والأسلوب الطلی الجمیل بقصد تسهیل الحفظ والتذكر13 .
ثم هم حین یأتون إلى مرحلة النظر فی الأدب العربی منذ جاهلیته، وهل حوى نماذج من الشعر التعلیمی، یذهبون تلك المذاهب التی أشرنا إلیها فیما تقدم !.
رأینا:
ومع أن ما فی الشعر التعلیمی- فی عمومه- من مآخذ وعیوب أكثر مما فیه من حسنات وفضائل ( وأن ما فیه من مثالب ونقائص لا یدعو إلى الدفاع عنه، والتحمس للقول بأن العرب قد عرفوه فی أدبهم، نقرر أن الأدب العربی منذ جاهلیته قد شارك فی هذا اللون من الفن بكل أقسامه التی قدمناها:
(1)فبالنسبة للتاریخ وذكر القرون الخالیة والأمم البائدة، قد امتلأ الأدب العربی بشعر الشعراء فی ذلك، وقد كان ذلك أحد المنطلقات التی انطلق منها جماعة من الشعراء خصوصاً أولئك الذین كانوا على شیء من الثقافة الدینیة والعلمیة كأمیة بن أبی الصلت، وعدی بن زید… 14 الخ من ذلك قصیدة عدی فی منشأ الخلق وقصته خلق آدم وحواء وهبوطهما من الجنة التی یقول فیها:
اسمع حدیثاً كما یوماً تُّحدثه عن ظهر غیب إذا ما سائل سألا
أن كیف أبدى إله الخلق نعمته فینا، وعرّفنا آیاته الأُولا
كانت ریاح وماءٌ ذو عرانیة
..
. وظلمة لم تدع فتقاً ولا خللا
فأمر الظلمة السوداء فانكشفت وعزل الماء عما كان قد سفلا
.

.
..
وبسط الأرض بسطاً ثمّ قدّرها تحت السماء سواء مثل ما فعلا
.
وجعل الشمس مصراً لا خفاء به
. بین النهار وبین اللیل قد فصلا
.
قضى لستة أیام خلیقته وكان أخرها أن صوّر الرجلا
.
وعاه آدم صوتاً فاستجاب له
. بنفحة الروح فی الجسم الذی جبلا
.
ثم استمر الشاعر یتحدث عن خلق حواء وإسكانها مع زوجها الجنة، ونهیهما عن أكل الشجرة، إلى أن أخذ یتحدث عن العقاب الذی أنزل بالحیة جزاء ما أغوت آدم وزوجه، فیقولن:
فلاطها اللّه إذ أغوت خلیفته
. طول اللیالی ولم یجعل لها أجلا
.
تمشی على بطنها فی الدهر ما عمرت
. والترب تأكله حزناً وأن سهلا 15
.
وینظم عدی قصة الزّباء وجذیمة وقصیر، تلك القصة التاریخیة المشهورة:16
ألا یا أیها المثرى المرجّى
. ألم تسمع بخطب الأولینا
.
دعا بالبقة الأمراء یوماً
. جذیمةُ حین ینجوهم ثبینا
.
فطاوع أمرهم وعصى قصیراً
. وكان یقول- لو تبع- الیقینا
.
ودست فی صحیفته إلیه
. لیملك بضعها ولأن تدینا
.
فأردته ورغب النفس یرد
. ویبدی للفتى الحَین المبینا
وخبّرت العصا الأنباء عنه
. ولم أرمثل فارسها هجینا
.
وقدمت الأدیم لراهشیه
. وألفى قولها كذباً ومنینا
.
ومن خدر الملاوم والمخازی
. وهن المندیات لمن منینا
.
أَطفّ لأنفه الموسی قصیر
. لیجدعه، وكان به ضنینا
فأهواه لمارنه فأضحى
. طلاب الوتر مجدوعاً مشینا
.
وصادفت امرءاً لم تخش منه
. غوائله وما أمنت أمینا 17
.
وهكذا تسیر القصیدة فی تصویر الحادثة وقصها... الخ.
(2) فإذا انتقلنا إلى لون آخر من الشعر التعلیمی فی الجاهلیة، وهو ذلك الذی أسموه ( حقائق الفنون والعلوم والصناعات) وجدنا له مثالاً صارخاً للشاعر الجاهلی ( الأخنس بن شهاب)… وهذه القصیدة یذكر فیها سكنى قبائل نجد قبیلة قبیلة، فهی من هذه الناحیة تدخل فی علم تقویم البلدان- أو ما یسمى بالجغرافیة- فمما جاء فی هذه القصیدة:-
فمن یكُ أمسى فی بلاد مقامه
. یسائل أطلالا بها لا تجاوب
.
فلا بنة حطّان بن قیس منازل
. كما نمّق العنوان فی الرّق كاتب
.
لكل أناس من معدِ عمارة
. عروض إلیها یلجؤون وجانب
.
لكیز لها البحران والسِّیف دونه
. وإن یأتهم ناس من الهند هارب
.
تطایر من أعجاز حوش كأنها
. جهام أراق ماءه فهو آیب
.

.
وبكر لها برُّ العراق وإن تخف
.

.

. یحل دونها من الیمامة حاجب
.
وصارت تمیم بین قفٍ ورملة لها من جبال منتأى ومذاهب
.
وكلب لها خبّ، فرملة عالج
. إلى الحرة الرجلاء حیث تحارب
.
وغسّان حیّ عزّهم فی سواهم
. یجالد عنهم خسّر وكتائب
.
وبهراء حیّ قد علمنا مكانهم
. لهم شرك حول الرصافة لاحب
.
وغارت إیاد فی السّواد ودونها
. برازیق عجم تبتغی من تحارب
.
ونحن أناس لا حجاز بأرضنا
. مع الغیث ما نلقى ومن هو غالب
.
ترى رائدات الخیل حول بیوتنا
. كمعزى الحجاز أعوزتها الزّرائب 18
.
فالقصیدة- كما ترى- من الشعر التعلیمی دون ریب؛ ذلك لأن المقصود منها هو بیان مساكن هذه القبائل فی جزیرة العرب والعراق وما إلیهما.
(3) أما القسم الثالث من الشعر التعلیمی، وهو الذی یتناول العقائد والأخلاق, فهو فی الشعر الجاهلی أكثر من أن یحصى عدداً، خصوصاً عند هؤلاء الشعراء من أمثال أمیة بن أبی الصلت وعدی، وزهیر... فإذا جئنا إلى العصر الأموی، وجدنا هذا الضرب من الشعر قد تمثل بوضوح فی عدة موضوعات، أولها: أنه نظمت به الكیمیاء- أو الصنعة كما كانوا یسمونها..-ِ فلقد روى المسعودی أن حكیم آل مروان- خالد بن یزید بن معاویة الذی اشتهر باهتمامه بالكیمیاء قد وضع منظومة فی هذه الصناعة، ذكر فیها طریقة تحویل المعدن الخسیس إلى جوهر نفیس، یقول فیها:
خذ الطّلْق مع الأشْقِ
. وما یوجد فی الطرق
.
وشیئاً یشبه البرقا
. فدبِّره بلا حرق
.
فإن أحببت مولاكا
. فقد سوِّدت فی الخلق 19
.
كما استخدم هذا الشعر فی تعلیم غریب اللغة كما قدمنا فی صدر هذا الحدیث عند الكلام عن الأرجوزة الأمویة، التی أسهمت فی إبراز صورة الشعر التعلیمی العباسی، وفی المقامة فی جانب النثر فیما بعد.. ولقد وقعت محاولة لاستخدام هذا اللون فی شرح فروع الدین - فی رأی عبد الملك بن مروان - من أحد شعراء العصر، فوقف عبد الملك فی سبیلهِ ..وذلك فیما یروى من أن الشاعر الأموی ( الراعی النمیری) قد أنشد عبد الملك بن مروان قصیدته التی یشكو فیها السعادة وهم یأخذون الزكاة، حتى إذا بلغ قوله:
أخلیفة الرحمن إنّا معشر
. حنفاء نسجد بكرة وأصیلا
.
عرب نرى للّه فی أموالنا
. حق الزكاة منزلا تنزیلا
.
قال عبد الملك: لیس هذا شعراً، هذا شرح إسلام وقراءة آیة 20 !...
وهكذا استمر الأمر، نرى شیئا من الشعر التعلیمی فی هذا الموضع أو ذاك، حتى إذا جاء العصر العباسی، رأینا الشعراء ینظمون به فی جملة موضوعات ومسائل علمیة وتاریخیة وقصصیة إظهاراً للبراعة، ودلالة على قدرتهم على التجدید والابتكار، وتدلیلاً على أنهم قد ألموا بمعارف العصر، وثقافات الأمم الأخرى التی نقلت إلى العربیة.. وأنهم قد صاروا على شیء من هضم هذا الذی ترجم، فهم یسهمون بدورهم فی نقله وإیصاله إلى الآخرین عن طریق هذا اللون من الشعر !.. ومن أوائل هؤلاء الشعراء الذین أخذوا من هذا الفن بطرف السید الحمیری (105- 173 ه) الذی كان مفتوناً مغرماً بنظم القصص والمناقب والأخبار التی تروی عن علی وأبنائه. من ذلك ما یروى من أنه سمع محدثاً یذكر أن النبی صلى اللّه علیه وسلم كان ساجداً، فركب الحسن والحسین على ظهره، فقال عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه: " نعم المطیّ مطیكما!.." فقال النبی صلى الله علیه وسلم: "ولنعم الراكبان هما" !.. فانصرف السید الحمیری من فوره، فقال فی ذلك:
أتى حسن والحسین النبی
. وقد جلسا حجره یلعبان
.
فغدّاهما، ثم حیّاهما
. وكانا لدیه بذاك المكان
.
فراحا وتحتهما عاتقاه
. فنعم المطیة والراكبان
.
ولیدان أمّهما بَرَّة
. حَصان مطهّرة للحصان
.
وشیخهما ابن أبى طالب
. فنعم الولیدان والوالدان 21
.
ومن ذلك ما یروى من أن علیاً كرم الله وجهه. عزم على الركوب، فلبس ثیابه وأراد لبس خفیه فلبس أحدهما، ثم أهوى إلى الآخر لیأخذه، فانقض عقاب من السماء فأخذ الخف وحلّق به ثم ألقاه، فسقط منه أسود- ثعبان- وانساب فدخل جحراً، فلبس الخف، وحین سمع السید ذلك قال فی سرعة:
ألا یا قوم للعجب العجاب
. لخف أبی الحسین وللحباب
.
أتى خفاً له وانساب فیه
. لینهش رجله منه بناب
.
فخرّ من السماء له عقاب
. من العقبان أو شبه العقاب
.
فطار به، فحلق ثم أهوى
. به للأرض من دون السحاب
.
إلى جحر له فانساب فیه
. بعید القعر لم یرتج بباب
.
كریه الوجه أسود ذو بصیص
. حدید النّاب أزرق ذو لعاب
.
ودفع عن أبی حسن على
. نقیع سمامه بعد السیاب22
.
وسید هذا المیدان غیر مدافع هو أبان بن الحمید اللاحقی المتوفى سنة 200 ه الذی برع فیه حتى ذهب كثیر من الكاتبین إلى أنه مبتدع هذا الفن ومبتكره فی الأدب العربی على غیر مثال سابق، فنظم فی السیر والتاریخ الفارسی، إذ نظم سیرة أردشیر وسیرة أنو شروان 23 وكتاب بلوهر, وكتاب حكم الهند24 ، كما نظم القصیدة المسماة ( ذات الحلل) فی نشأة الخلق وأمر الدنیا وضمنها شیئاً من المنطق. ومن الناس من ینسبها إلى أبی العتاهیة، والصحیح أنها لأبان25. ولیس بین أیدی الناس من كلّ أولئك الآن شیء- ونظم كذلك فی فرائض الصوم والزكاة أرجوزة مزدوجة، ونظم كلیلة ودمنة فی خمسة آلاف بیت26، أو فی أربعة عشر ألف بیت27... لم یبق منها إلاّ جزء یسیر أورده الصولی فی الأوراق, كما أثبت شیئاً من مزدوجة الفرائض.
یقول أبان فی مزدوجة الفرائض شارحاً أحكام الصوم والزكاة:
هذا كتاب الصوم وهو جامع
. لكل ما قامت به الشرائع
.
من ذلك المنزل فی القرآن
. فضلاً على من كان ذا بیان
.
ومنه ما جاء عن النیِّ
. من عهده المتبع المرضیِّ
.
صلى الإله وعلیه سلّما
. كما هدى الله به وعلّما
.
وبعضه على اختلاف الناس
. من أثر ماضٍ ومن قیاس
.
والجامع الذی إلیه صاروا
. رأی أبی یوسف مما اختاروا
.
قال أبو یوسف: أمّا المفترض
. فرمضان صومه إذا عرض
.
.
والصوم فی كفارة الأیمان
.

.

.

. من حنث ما یجری على اللسان.
.
ومعه الحج وفی الظهار
. الصوم لا یدفع بالإنكار
.
وخطأ القتل وحلق المحرم
. لرأسه فیه الصیام فافهم
.
فرمضان شهره معروف
. وصومه مفترض موصوف
.
والصوم فی الظهار إن لم یقدر
. مظاهر یوماً على محرر
.
والقتل إن لم یك عمداً قتله
. فإن ذاك فی الصیام مثله
.
شهران فی العدة كاملانِ
. متصلان لا مفرّقان
.
والحنث فی روایة مقبولهْ
. ثلاثه أیامها موصوله
.
ومثلها فی عدة الأیام
. للمحرم الحالق فی الإحرام
.
ثلاثة یصومها إن طلقا
. لا بأس إن تابعها أو فرّقا28
.


وهذا أنموذج من نظمه لكلیلة ودمنة، یقول فی المقدمة:
هذا كتاب أدب ومحنه
. وهو الذی یدعى كلیل دمنه
.
فیه دلالات وفیه رشد
. وهو كتاب وضعته الهند
.
فوصفوا آداب كل عالم
. حكایة عن ألسَن البهائم
.
فالحكماء یعرفون فضله
. والسخفاء یشتهون هزله
.
وهو على ذاك یسیر الحففا
. لذّ على اللسان عند اللفظ
.
یا نفس لا تشاركی الجهّالا
. فی حب مذموم كّان قد زالا
.
یا نفس لا تشقی ولا تُعَنیّ
. فی طلب الدنیا ولا تمنیِّ
.
ما لم ینله أحد إلا ندِمْ
. إذا تولىّ ذاك عنه وسدم
.
دنیاك بالأحباب والإخوان
. كثیرة الآلام والأحزان
.
وهی وإن نیل بها السرور
. آفاتها وغمها كثیر
.
ویقول فی باب الأسد والثور:
وإنّ من كان دنیءَ النّفس
. یرضى من الأرفع بالأخس
.
كمثل الكلب الشقی البائس
. یفرح بالعظم العتیق الیابس
.

.
وإن أهل الفضل لا یرضیهم
.. شیء إذا ما كان لا یغنیهم
.
كالأسد الذی یصید الأرنبا
. ثم یرى العیر المجد هربا
.
فیرسل الأرنب من أظفاره
. ویتبع العیر على أدباره
.
والكلب من رقته ترضیه
. بلقمةٍ تقذفها فی فیه
.
ویقول فی الباب ذاته:
وباذل النّصح لمن لا یشكره
. كطارح فی سبغ ما یبذره
.
لا خیر للعاقل فی ذی المنظر
. إن هو لم یحمده عند المخبر
.
ولیس فی الصدیق ذكر الصفاء
. خیر إذا لم یك ذا وفاء
.
الرجل العاقل من لا یسكره
. كأس سمو واقتدار یبطره
.
فالجبل الثابت فی أصوله
. لا تقدر الریح على تحویله
.
والناقص العقل الذی لا رأی له
. یطغى إذا ما نال أدنى منزله
.
مثل الحشیش أیّما ریح جرت
. مالت به فأقبلت وأدبرت29
.
وبنظم أبان لهذا الكتاب، ولقیانه المكافأة الجزیلة من البرامكة، وبإقبال الناس علیه، أقبل غیره من الشعراء على نظم هذا الكتاب كذلك، والنّسج على منواله.
ومن هنا تدافع الشعراء ینظمون الشعر التعلیمی فی عدة أبواب من المعارف والعلوم والفنون، فاستخدموه فی الصراع العقدی والمذهبی، وفی الحكمة والموعظة، وفی الفلك والنجوم، والسیرة والتاریخ، وفی اللهو والمجون والحب وأصوله وقوانینه !...
ففی میدان الصراع العقدی والمذهبی:
كان بشر بن المعتمر یفید من هذا اللون الشعری فی الصراع المذهبی، وتأیید وجهة نظر الاعتزال، وتابعه جماعة من الشعراء الذین أثارهم بشار بن برد بما ذهب إلیه من تفضیل النار على الأرض، وإبلیس على آدم فی أبیاته التی یقول فیها:
إبلیس أفضل من أبیكم آدم
. فتبینوا یا معشر الأشرار 30
.
فتصدوا له یردون علیه مبینین أن للأرض الفضل على النار، ذلك لأنها أصل النار، وأنّ النار موجودة فیها (بالقوة)، وأنّ فی الأرض أعاجیب لا تحصى ولا تعد من المعادن والنبات والعناصر الأخرى...
فلبشر قصیدتان طویلتان رواهما الجاحظ فی الحیوان، أولاهما فی ذمّ فرق الإباضیة والرافضة والحشویة، وذكر فیها أصنافاً من الحیوان، وتحدث عن أعاجیبها وطبائعها، وما تقتات به، مستدلاً بذلك على قدرة الخالق، وقد بدأها بالحكمة، فقال:
الناس دأباً فی طلاب الغنى
. وكلهم من شأنه الختر
.
كأذؤب تنهشها أذؤب
. لها عواء ولها زفر
.
تراهم فوضى وأیدی سبا
. كل له فی نفسه سحر
.
تبارك الله وسبحانه
. بین یدیه النفع والضر
.
من خلقه فی رزقه كلهم
. الذیخ والتیتل والعفر
.
ویعدد أصناف الحیوان، وكیف تعیش وتقتات، حتى ینتهی من ذلك إلى قوله:
إنی وإن كنت ضعیف القوى
. فالله یقضی وله الأجر
.
لست إباضیاً غبیّاًولا
. كرافضی غرّه الجفر
.
كما یغرّ الآل فی سبب
. سَفْراً، فأودى عنده السفْر
.
كلاهما وسّع فی جهل ما
. فعاله عندهما كفر
.
لسًنا من الحشو الجفاة الألى
. عابوا الذی عابوا ولم یدروا 31
.
والقصیدة الثانیة تتحدث عن العالم وما فیه من المخلوقات المختلفة الأجناس، ویعدد الشاعر الحیوان وأوضاعه مستدلاً بذلك على حكمة الله، مستخلصاً من ذلك أن العقل وحده هو الذی ینبغی أن یهتدی به الناس، وألاّ یتخذوا غیره رائداً مرشداً كما یفعل من ضلوا واحتكموا إلى التقلید:
أما ترى العالم ذا حشوة
. یقصر عنها عدد القطر
.
أوابد الوحش وأجناسها
. وكل سبع وافر الظفر
.
وبعد أن یعدد أجناساً من الحیوان، یقول:
فكم ترى فی الخلق من آیة
. خفیة الحسبان فی قعر
.
أبرزها الفكر على فكرة
. یحار فیها واضح الفجر
.
لله در العقل من رائد
. وصاحب فی العسر والیسر
.
وحاكم یقضی على غائب
.

. قضیة الشاهد للأمر
.
ثم یعود الشاعر فیعدد الحیوان ویذكر طبائعه، وأنه فی طلب رزقه یقلد بعضه بعضا، وعلى مثالهم فی هذا أبناء آدم، إلاّ أنهم مختلفون فی الدین، ومتفاوتون فی الرأی والقدر، وقد تحكمت فیه واستولت عادة الاتباع والتقلید:
وكل جنس فله قالب
. وعنصر أعراقه تسری
.
وتصنع السرفة فیهم على
. مثل صنیع الأرض والبذر
.
والأضعف الأصغر أحرى بأن
. یحتال الأكبر بالفكر
.
متى یرى عدوه قاهرا
. أحوجه ذاك إلى المكر
.
كما ترى الذئب إذا لم یطق
. صاح فجاءت رسلاً تجری
.
وكل شیء فعلى قدره
. یحجم أو یقدم أو یجری
.
والخلد كالذئب على خبثه
. والفیل كالأعلم كالوبر
.
والعبد كالحرّ وإن ساءه
. و الأبغث الأعثر كالوبر
.
لكنهم فی الدّین أیدی سبا تفاوتوا فی الرأی والقدر
.
قد غمر التقلید أحلامهم
. فناصبوا القیاس ذا السَّبر
.
فافهم كلامی واصطبر ساعة
. فإنما النجح مع الصبر
.
وانظر إلى الدنیا بعین امرئ
. یكره أن یجری ولا یدری32
.
وحین أنشأ بشار قصیدته المتقدم ذكرها فی تفضیل النار وإبلیس على الأرض وآدم أنشأ صفوان الأنصاری قصیدته المضادة فی تفضیل الأرض وآدم، فقال :
زعمت بانّ النار أكرم عنصراً
. وفی الأرض تحیا بالحجارة الزند
.
وتخلق فی أرحامها وأرومها أعاجیب لا تحصى بخط ولا عقد
.
وفی القعر من لج البحار منافع
. من اللؤلؤ المكنون والعنبر الورد
.
وفی قلل الأجبال خلف مقطم
. زبرجد أملاك الورى ساعة الحشد
.
وفی الحرّة الرجلاء تلقی معادن
. لهن مغارات تبجس بالنقد
.
من الذهب الإبریز والفضة التی
. تروق وتصبی ذا القناعة والزهد
.
وكلّ فلزّ من نحاس وآنك
. ومن زئبق حی ونوشادر یسدی
.

.

.
وكلّ یواقیت الأنام وحلیها
. من الأرض والأحجار فاخرة المجد
.
.وفیها مقام الحل والركن والصفا
. .ومستلم الحجاج من جنة الخلد 33
.
كما شارك فی الرد على بشار أیضاً سلیمان الأعمى_ أخو مسلم بن الولید قائلاً:
لابدّ للأرض إن طابت وان خبثت
. من أن تحیل إلیها كلّ مغروس
.
وتربة الأرض إن جیدت وإن قحطت
. فحملها أبداً فی إثر منغوس
.
وبطنها بفلزّ الأرض ذو خبر
. لكل جوهرة فی الأرض مرموس
.
وكلّ آنیة عمت مرافقها
. وكل منتقد فیها وملبوس
.
وكل ما عونها كالملح مرفقة
. وكلها مضحك من قول إبلیس 34
.
فی میدان الموعظة والحكمة:
ومن أبرز الشعراء الذین استخدموا الشعر التعلیمی فی الموعظة والحكمة أبو العتاهیة الذی كانت له عدة قصائد تعلیمیة أسهم بها فی میدان نقل العلم والمعرفة للآخرین، و "... أخذت مكانها فی تربیة الذوق الإسلامی وتهذیب الناشئین 000" 35 ... ومن أبرز قصائده هذه أرجوزته المعروفة بذات الأمثال التی یقف فیها موقف المعلم من تلامیذه، أو الحكیم الواعظ الذی یوجه الناس ویریهم سبیل الرشاد من منبره... وهی أرجوزة مزدوجة ینفرد كل بیت فیها بقافیة یشترك فیها شطران، ویذكر أبو الفرج أنها طویلة جداً 36 . وفیها أربعة آلاف مثل 37 ولكنه لم یثبت منها فی أغانیه إلاّ ثلاثة وعشرین بیتاً 38 إلاّ أن جمع دیوانه قد أورد منها ما یقرب من الخمسین بیتاً 39 .
وأبو العتاهیة فی ذات الأمثال هذه یأتینا بحكم أخلاقیة وأمثال سائرة سجّل فیها خلاصة تجاربه وآرائه فی الحیاة مصوغة صیاغة مضغوطة مركزة فی أخصر عبارة بحیث تبدو فی صورة الأمثال السائرة- كما هو واضح من اسمها- فتخف على الألسنة، وتعلق بالذاكرة، فیسهل تداولها، ویسرع فی الذهن استدعاؤها واستحضارها، ومن هنا یحتسبها من یحتسبها فی الشعر التعلیمی40 ، ویضعها من یضعها فی أدب الحكمة !..
والقصیدة لا تعرض لموضوع واحد، أو لفكرة واحدة، ولكنها تعرض لعدة موضوعات، ولأفكار شتى، فكلّ بیت یعرض فكرة مستقلة، وقد تشترك عدة أبیات فی عرض فكرة، ولكن یظل كل بیت وحدة قائمة بذاتها، ترض جانبا مستقلا من جوانب الفكرة العامة 41 . یقول أبو العتاهیة:
...حسبك ما تبتغیه القوت
. ما أكثر القوت لمن یموت
.
الفقر فیما جاوز الكفافا
. من اتّقى الله رجا وخافا
.
إن كان لا یغنیك ما یكفیكا
.

. فكل ما فی الأرض لا یغنیكا
.
إن القلیل بالقلیل یكثر
. إن الصفاء بالقذى یكدّر
.
ومنها:
لكل شیء معدن وجوهر وأوسط وأصغر وأكبر
.
وكل شیء لاحق بجوهره
. أصغره متصل بأكبره
.
مازالت الدنیا لنا دار أذى
. ممزوجة الصفو بألوان القذى
.
الخیر والشر بها أزواج
. لذا نتاج، ولذا نتاج
.
من لك بالمحصن ولیس محصن
. یخبث بعض ویطیب بعض
.
لكل إنسان طبیعتان
. خیر وشر وهما ضدان
.
والخیر والشر إذا ماعدّا
. بینهما بؤن بعید جدا
.
وهكذا تمضی الأرجوزة التی یتضح فیها تعدد الموضوعات وتشتت الأفكار الذی رّبما كان السبب فیه أنها لم تنظم فی وقت واحد، وإنما نظمت فی أوقات متباینة متباعدة، كلما خطر للشاعر خاطر، وعنت له فكرة جدیرة بالتسجیل أسرع إلى تسجیلها رجزاً وألحقها بدفتره42 .
ومن شعره هذا مذكراً بالموت وسكراته، لائماً على نسیانه والسهو عنه:
حتى متى تصبو ورأسك أشمط
. أحسبت أن الموت فی اسمك یغلط
.
أو لست تحسبه علیك مسلّطا
. ویلی ، وربك إنه لمسّلط
.
ولقد رأیت الموت یفرس تارة
. جثث الملوك وتارة یتخبط
.
فتألف الخلان مفتقداً لهم
. ستشط عمن تألفن وتشمط
.
وكأننی بك بینهم واهی القوى
. نضواً تقلص بینهم وتبسط
.
وكأننی بك بینهم خفق الحشا
. بالموت فی غمراته یتشحظ
.
وكأننی بك فی قمیص مدرجاً
. فی ریطتین ملفف ومخیط
.
لا ریطتین كریطتی متنسم
. روح الحیاء ولا القمیص مخیط 43
.
ویمكن النظر فی هذه النصوص التی أوردناها من قبل لبشر بن المعتمر، وصفوان الأنصاری، وسلیمان الأعمى- باعتبارها نماذج للحكمة والموعظة، بل هی من صمیم ذلك دون ریب، كما یمكن اعتبار آداب وأشعار الوعاظ والزهاد من الأدب التعلیمی فی الصمیم!..
الاستعمار.. ودوره فی تخریب التعلیم فی البلاد الإسلامیة
یقول المستشرق الإنكلیزی (هاملتون جب):
"لقد استطاع نشاطنا التعلیمی والثقافی عن طریق المدرسة العصریة والصحافة أن یترك فی المسلمین- ولو من غیر وعی منهم- أثرا یجعلهم فی مظهرهم العام ( لا دینیین) إلى حد بعید، ولا ریب أن ذلك هو اللب المثمر فی كل ما تركت محاولات الغرب لحمل العالم الإسلامی على حضارته من آثار).
ویقول الدكتور عبد الحلیم محمود- شیخ الجامع الأزهر السابق رحمه الله:
(إن الأمر قد وصل بالاستعمار أن صاغ خریجی كلیات الحقوق، بحیث لا یفهمون بعد (اللیسانس) كتابا عربیا فی المواد التشریعیة، ولیس الأمر بغریب، إن جدول التدریس فی كلیات الحقوق یخصص عشرین محاضرة فی الأسبوع للقوانین الأوروبیة، ومحاضرتین فقط للشریعة الإسلامیة)

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:11|
المجون فی شعر بشار بن برد دوافعه وأبعاده
ـــ د.أحمد علی محمّد(*)

المقدمة:

دواعی البحث ومشكلته ومنهجه:

كانت دوافع أغلب الدراسات الأدبیة التی تناولت موضوع المجون فی الشّعر العباسی خاصة تتركز حول أثر الظروف التاریخیة التی أسهمت فی نشوء تلك الظاهرة، فكانت النتیجة التی خلص إلیها معظم تلك الدراسات لا تخرج عن حدود الأحكام العامة والتقییدات المنهجیة التی یظهر بموجبها الشعراء وكأنّهم انتظموا فی مدارس وهیئات منظمة وحملوا أفكاراً محددة ثم أشاعوها بصورة مقصودة، ومن هنا تسنى لكثیر منهم الكلام على تیارات ومذاهب واتجاهات لها خصائصها الفكریة والفنیة الممیزة، والواقع أنّ هذا النهج المدرسی فی دراسة الفن قائم على مغالطة واضحة، ذلك لأنّ الفن خارج عن التقیید، وبعید عن التصنیف، لأنّه محكوم بالخصوصیة، من أجل ذلك كان تلمس الحقائق الموضوعیة فی دراسة ظواهر الفن لا یأتی بما هو موصولٌ بطبیعته.

إنّ التصنیفات المنهجیة لا تكترث فی النتاجات الأدبیة إلا بما هو متكرر أو ما یشكّل خطوطَ ظاهرةٍ عامة، لتكون هنالك نتائج وخصائص ومقومات مشتركة لهذه الفئة من الشعراء أو تلك، وهنا تكمن الخطورة التی یخضع بموجبها الشّعر إلى أفكار مصممة مسبقاً، فإصرار الباحثین على استخلاص القیم العامة والخصائص المشتركة یلغی مفهوم الخصوصیة لكلّ شاعر بل لكلّ نصٍّ، لأنّ الشّعراء مختلفون فیما بینهم، واستجابتهم للأفكار متباینة. هذا أمر، وأمرٌ آخر أنّ الشعر العربی فی كلّ تفصیلات تاریخه لم یكن منبعثاً عن اتجاهات فكریة، ولم یكن ملتزماً بالتعبیر عنها بصورة قسریة إلا ما كان من شعر الفِرَقِ، وهذا لیس اتجاهاً عاماً فی الشعر العربی على أیة حال، أو أنّ شعر الفِرق لم یشكّل لدى القارئ العربی حضوراً دائماً فی الذاكرة، وإنّما هو شعر تستدعیه الحوادث التاریخیة والصراعات المختلفة التی كانت قائمة بین المذاهب والأحزاب، وقد أكد الزمّان أنّ الشّعر الجید الذی عبر عن صموده الأزلی هو الشّعر الذی قیل بمعزل عن الظروف التی كانت تحیط به، وخارج إطار الأفكار التی كانت سائدة فی حقبة من الحقب أیضاً، بدلیل أننا نقرأ شعر المتنبی والبحتری وابن الرومی الیوم لما یمثله ذلك الشّعر من خصوصیة، ومن هنا أصبح یلبی عندنا حاجة جمالیة تشبع رغبتنا للتمیز والإبداع.

لقد آثر أغلب من درس الشعر وَفْق تیارات فكریة اعتباره دلیلاً على وجود تلك الأفكار وشیوعها وبیان آثارها فی الواقع، بمعنى أنّ هذا النمط من الدراسات لم یُعْنَ بالظاهرة الأدبیة، لأنّ المجون على سبیل المثال شكّل لدیهم موضوعاً فكریاً، فكان الشعر حاملاً لذلك الموضوع، والأصل أن یُدرس المجون على اعتباره موضوعاً فنیاً غیر تابع للأفكار أو الأحداث، لأنّ الشّعر فی الحقیقة لا یستطیع التعبیر عن الأفكار الدقیقة كما یعبر عنها النثر، وإذا ما حدث مثل ذلك خرج الشّعر على طبیعته، بدلیل أنّ الذین حاولوا تضمین الشّعر الأفكار والمعارف العلمیة حولوه إلى قوالب جامدة دخلت فی إطار الشعر التعلیمی الذی یخلو من روح الفنّ، والحقّ أنّ الشّعر هو الذی یخلق الأفكار ویبتكر المعانی ویثیر الانفعالات ومن ثَمَّ یحمل الناس على التأثر والتواصل والتمثل، یقول أبو تمام:

ولولا خلالٌ سنّها الشّعرُ ما دَرَى          بُغَاةُ المعالی أین تُؤتى المكارمُ

ومن الدراسات التی بالغت فی تصنیف الأسباب الموضوعیة لظاهرة المجون دراسة هدارة الموسومة بـ "اتجاهات الشعر فی القرن الهجری الثانی" حیث وضع الباحث یده على جملة من الأسباب التی جعلت من المجون تیاراً فنیاً جارفاً، وقد حدد أولاً الإطار الزّمنی لهذه الظاهرة بالقرن الهجری الثانی ملغیاً المحاولات الفنیة السابقة فی هذا الموضوع لأنّها لم تشكّل عنده تیاراً فنیاً له خصائصه ومقوماته الممیزة، ثم حدد مفهوم المجون بقوله: "هو ارتكاب المآثم والدعوة إلى التحلل الأخلاقی، ومجانبة الآداب بدعوى الحریة الفكریة"([2">)، والسؤال الذی یطرح نفسه هنا: هل الشعر عبر فواصل تاریخه كان ینطق بما یوافق الأخلاق والفضائل؟ ثم متى كان الجانب الأخلاقی أو حتى الموضوع الشعری معیاراً لجودة الفنّ عامة والشّعر خاصةً؟ وهل موضوع الهجاء ـ وهو من أوسع أبواب الشعر العربی ـ بعیدٌ عن ارتكاب المآثم والتحلل الأخلاقی، وخصوصاً ذلك الهجاء الذی یعمد فیه الشعراء إلى القذف والفحش؟ ثم هل كان الغزل العربی أو حتّى المدیح خالصاً لوجه الأخلاق؟

إذا كان المجون عند هدارة ما هو إلا التصریح بالمآثم والتحلل الأخلاقی ومجانبة الآداب، فإنّ باباً واسعاً فی الشّعر العربی دخل فی المجون، وعلیه فإنّ الباحث لم یوفق فیما أرى بتحدید هذا المفهوم تحدیداً موضوعیاً، أو أنّه لم یستطع ضبطه بما یوافق مجالات استخدامه الحقیقة، فما اصطلح علیه بشعر المجون وإن كان متسعاً إلا أنه لا یخرج عن حدود العبث مع ما ینطوی علیه ذلك المفهوم من عوالق وملابسات، وتحت هذا الإطار یمكن أن ندرج مجون بشار ومجون أبی نواس. والعبث لم یكن منقطعاً عن الأسباب والدوافع الشخصیة، من أجل ذلك كان مجون بشار یختلف عن مجون أبی نواس، لأنّ هنالك من الأسباب النفسیة والاجتماعیة والثقافیة والطباع ما یجعل المجون نزوعاً فردیاً یدل على سمات خاصة، إذ الناس فی هذه الأمور مختلفون، فهم وإن تقاسموا صفة العبث إلا أنّ لكلّ فرد دوافعه، ثم إن مؤدى العبث بین الشعراء متباین، فعبث بشار لم یصل إلى درجة تعابث أبی نواس مثلاً، كما أنّ عبث أبی دلامة لم یصل إلى درجة عبث بشار، فهؤلاء جمیعاً كانوا من المجان ولكن لكلّ نفر منهم أسبابه ودوافعه.

لقد وقف كلّ من د. طه حسین وفلهوزن وعبد الرحمن بدوی كما یصور هدارة([3">)، عند أسباب المجون، فزعم د. طه حسین أنّ التماجن فی الشعر قد بدأ بتحول السلطة من الأمویین إلى العباسیین، ویرمی من وراء ذلك إلى أنّ العنصر الفارسی كان له الأثر البارز فی نشوء هذه الظاهرة، ثم تبنّى هدارة هذا الرأی عندما لاحظ أنّ أغلب الشعراء المُجّان كانوا من الموالی، وهذا مؤداه إلى أمرین: الأول یشی بأنّ عهد بنی أمیة كأنّه عهد لم یُعَبّر فیه الشّعراء إلا عن الفضائل، وهذا غیر صحیح على الإطلاق فصور النقائض التی شارك فیها كبار شعراء بنی أمیة كلّها فی الهجاء القائم على التهتك وتتبع سوءات الشعراء والطعن فی أنسابهم وتحقیرهم إلى الحدّ الذی تنتفی فیه إنسانیتهم، ثم إنّ شعر الفرزدق وما فیه من فحش هل یُصَنّف خارج دائرة المجون؟

وإذا أعدنا النظر فی غزل الأمویین كغزل عمر بن أبی ربیعة ووضاح الیمن وغیرهما، فهل نجد فی ذلك الغزل ما یخالف غزل بشار وأبی نواس؟ والأهم من ذلك هل كان الشعر الجاهلی بمنأى عن التعابث والمجون، فماذا بشأن خمریات الأعشى هل تخرج عن المجون؟ وهل نستطیع أن نعد شعر الأعشى ومجاهرته بشرب الخمرة وفتونه بها إلى الدرجة التی صرفته عن الدخول فی الإسلام أقل من ظاهرة فنیة؟

ما معنى الربط بین المجون وتحول السلطة من الأمویین إلى العباسیین إذن؟

والثانی یتصل بالحكم النقدی المعزول عن الموضوعیة، فهل كان كلّ شعراء المجون من الموالی؟ ألم یكن أبو دلامة زند بن الجون والحسین بن الضحاك الخلیع وغیرهما على رأس شعراء المجون فی العصر العباسی؟

لقد تسنى للدكتور هدارة أن یقول: "إنّ المجون لم یكن دعوة ساذجة بریئة تدعو إلى الترف والتظرف الاجتماعی فحسب، وإنما هو نتیجة مؤثرات عمیقة اجتماعیة وفكریة ودینیة"([4">).

من أجل ذلك جعل الشعوبیة من دوافع المجون عند الشعراء الموالی على اعتبار الشعوبیة كما قال: "كانت تهدف إلى تحطیم معنویات المسلمین ودس الأكاذیب والمفتریات فی أصول دینهم حتى ینتقموا لأصولهم الفارسیة"([5">)، فلما وصل فی بحثه إلى ذكر بعض الشعراء العرب قال: "هنالك من شعراء المجون من لا صلة لهم بالشعوبیة والذی دعاهم إلى ذلك عوامل اجتماعیة وثقافیة"([6">)، وهذه نتیجة محیرة تثیر جملةً من التساؤلات أبرزها: كیف تجتمع أهداف الشعوبیة التی تحضّ الشعراء الأعاجم على إشاعة الفساد والتحلل والإباحیة لتخریب بنیة المجتمع العربی من الداخل تمهیداً للقضاء على وحدته وتسریع انهیاره، مع الأسباب الاجتماعیة والثقافیة النابعة من صمیم المجتمع العربی والتی تدفع هی الأخرى الشعراء العرب إلى الفساد والتحلل والإباحیة، ثم ما مؤدى ذلك؟ هل البنى الاجتماعیة والثقافیة فی المجتمع العربی العباسی أسهمت هی الأخرى فی مجون شعرائها لتهدم نفسها بنفسها أیضاً، أقول كیف اجتمعت أهداف الشعوبیة مع العوامل الثقافیة والاجتماعیة فی نشوء ظاهرة المجون إذا كانت بالفعل ذات أغراض سیاسیة؟

إنّ المجون عند هدارة مقدمةٌ وفاتحة وتمهیدٌ للزندقة، فإذا كان المجون قد انحصر بالتعبیر عما یجانب الخلق القویم والدعوة إلى الإباحیة، فإن الزندقة عنده تلامس الشعور الدینی والعقیدة، فكلّ معنىً تردد فی شعر العباسیین الذین ظهروا فی القرن الثانی یشكك فی سلامة العقیدة هو داخل فی الزندقة والإلحاد، وعلى هذا الأساس عدّ الزندقة كالمجون محصورة فی شعراء القرن الهجری الثانی، وهذا اعتبار خاطئ أیضاً لأنّ الزندقة المرادفة للإلحاد لا تتصل بزمن دون زمن، ولو أردنا تبیان ذلك لضاق المقام بنا.

لسنا فی الواقع ننكر أثر الشعوبیة فی بث الفرقة بین طبقات المجتمع، ولسنا بصدد نفی تهمة الشعوبیة عن الشعراء الموالی، فهذا أمر یثبته التاریخ، غیر أننا ننكر بشدة أن تكون هناك أسبابٌ ودوافعُ واحدة لتعابث الشعراء ومجونهم، ومن ثمّ فإنّ إقرار نتائج عامة فی هذا الموضوع یضر بالشعر موضوع الدراسة الأدبیة، لأنّ ذلك فی اعتقادی یدخل فی باب دراسة تاریخ الأفكار ولا یدخل فی دراسة الشعر لأنّ الشعر ینبغی أن ُدرس لذاته، غیر تابع للتاریخ ولا الأفكار ولا العقائد، وعلیه فإننا نرید دراسة ظاهرة المجون فی شعر بشار فی إطارها الخاص وأسبابها الشخصیة المتصلة بالشاعر، ومن ثم تبیان أبعادها فی شعره، والتساؤل بعد ذلك عن قیمتها الفنیة والمكانة التی تشغلها فی تاریخ بشار الشعری، فی محاولة لفهم شخصیته وتقدیر الفنّ الذی جاء به، مصورین مشكلة البحث بالتساؤل الآتی: إذا كان بشار بن برد ماجناً زندیقاً، وهو فی مجونه وزندقته مدفوع إلى "تحطیم معنویات المسلمین ودس الأكاذیب فی دینهم حتى ینتقم لأصوله الفارسیة" ([7">) كما قال هدارة على اعتباره شاعراً شعوبیاً ومولى، فكیف تقبّلَه القارئُ المسلم، وكیف تسنم المكانة السامقة فی سماء الشعر العربی، ولماذا قدمه النقاد العرب المسلمون على سائر شعراء عصره، ولماذا لا یزال الدرس الأدبی یحفل به وبشعره كل هذا الاحتفال؟ وبمعنى آخر: ما أثر مجون بشار مع قبح ما یعنیه المجون فی تقییم شخصیته وشعره؟ وهل كان الناس فی العصور المنصرمة قد وضعوا مجونه جانباً حین حكموا على جودة شعره؟ أم أن الأحكام القاسیة التی أطلقها النقد الحدیث على بشار ومجونه فیها من العسف والظلم ما لم یره المتقدمون؟

أما المنهج الذی نرید من خلاله النظر إلى مجون بشار فقائم على عرض الأخبار التی ساقها الأدباء وعلى رأسهم الأصفهانی، المتصلة بمجونه وتحلیلها ومناقشتها ومقابلتها بأشعاره المشهورة فی هذا الباب. ومن ثم عرض آراء بعض المحدثین فی مجون بشار وتحلیلها ومحاورتها بغیة الوصول إلى فهم واضح لدوافع وأبعاد قضیة المجون فی شعر بشار، وقد استقامت لنا خطة هذا البحث فجعلناه فی ثلاث نقاط أساسیة:

ـ ظواهر مجون بشار.

ـ دوافع مجونه النفسیة والاجتماعیة والفكریة.

ـ أبعاد المجون وأثره فی تقییم شخصیته وشعره.

1. مجون بشار:

لقد علقت شبهةُ المجون والزندقة بشخصیة بشار من جراء سلوكه قبل كلّ شیء، فهو بطبیعته متبرم بالناس مفطور على استعدائهم، إذ شحذ لسنه منذ الصغر بهجائهم، حتى لكأن موضوع الهجاء كان وسیلة لإثبات وجوده، ثم كان موضوع الغزل مجالاً آخر لتثبیت تلك التهمة على اعتبار الغزل كان أداته للتعبیر عن اللذة والمتعة التی كان یمیل إلیها بطبیعته، فكان مجونه متردداً بین هجائه وغزله على نحو خاص حتّى قال یونس النحوی على نحو ما روى ابن سلام: "العجیب من الأزد یدعون هذا العبد ینسب بنسائهم ویهجو رجالهم یعنی بشاراً"([8">).

هجاء بشار وشبهة المجون:

كان بشار ـ على نحو ما یذكر الأصفهانی ـ قد قال الشعر ولما یبلغ عشر سنین، فكأن أول عهده بالشعر یهجو الناس، "فإذا هجا قوماً جاؤوا إلى أبیه فشكوه فیضربه ضرباً شدیداً، فكانت أمه تقول: كم تضرب هذا الصبی الضریر، أما ترحمه؟ فیقول: بلى والله إنی لأرحمه، ولكنه یتعرض للناس فیشكونه إلی، فسمعه بشار فطمع فیه فقال: یا أبت إن هذا الذی یشكونه منی إلیك هو قول الشعر، وإنی إن ألممت علیه أغنیتك وسائر أهلی، فإن شكونی إلیك فقل لهم ألیس الله یقول: لیس على الأعمى حَرَجٌ فلما أعادوا شكواه قال لهم بُرد ما قاله بشار فانصرفوا وهم یقولون فقْه بُرد أغْیظ لنا من هجاء بشار"([9">).

وواضح أنّ بشاراً منذ صغره قد أدرك خطورة الهجاء، وأثره البالغ فی الناس فشحذ لسانه بذمهم لیهابوه ویتجنبوا معرة لسانه، وفی الوقت نفسه جعل من الهجاء وسیلة للتكسب فروی عنه أنّه قال: دخلت على الهیثم بن معاویة وهو أمیر البصرة فأنشدته:

إنّ السلام أیّها الأمیر             علیك والرحمة والسرور

فسمعته یقول: إن هذا الأعمى لا یدعنا أو یأخذ من دراهمنا شیئاً، فطمعت فیه فما برحت حتى انصرفت بجائزته"([10">). ولذلك كان الموسرون بالبصرة یسترضونه تجنباً لهجائه، وهو بطبعه لم یكن یحسن مصانعة الناس، ومن ثم لم یكن بارزاً فی المدح كبروزه فی الذم، وقوله فی الخبر الآنف لأبیه: "أغنیك وسائر أهلی" عظیم الدلالة على میله الشدید إلى الهجاء، وتكریسه هذا الموضوع للنیل من الخصوم ومن ثم حصوله غصباً على جوائزهم.

كل الهجاء سلاحاً ذا حدین، فهو من جهة أسلوب ناجع فی رد ع الخصوم والنیل منهم انتقاماً وتشفیاً، وبالفعل كان الناس فی مختلف طبقاتهم ومراكزهم یخافون لسانه، لأنه فاحش القول وشعره سائر بین الناس، یتناقله المغنون وتنشده الجواری وتنوح به النائحات، كما كانت مجالس العلماء تحفل بأشعاره أشد ما یكون الاحتفال، إذ الأصمعی وهو من النقاد المتشددین كان یرى أن بشاراً خاتمة الشعراء، ولولا أنه متأخر عن زمن الفحول لكان قدّمه على كثیر منهم، وهو من جهة أخرى السبب الذی أحدث جفوة بینه وبین الناس، بل كان هجاؤه باباً للقدح فی عقیدته، وإبراز مجونه وزندقته، ولیس ذلك فحسب بل كان الهجاء سبباً فی مقتله كما سنرى.

إذن بشار من محترفی الهجاء، تصید فیه سقطات الخصوم، وأمعن فی تصویر مباذلهم، وقد تمرس فی هذا الباب كما تروی الأخبار، إذ حمل فی نفسه صور النقائض التی كانت تدور بین أعلام الشعر الأموی، ولهذا اختلف إلى المربد وعاین جولات الخصوم فی التهاجی، وقد أحب أن یشارك فی ذلك، فقال: "هجوت جریراً لم یجبنی ولو أجابنی لكنت اشعر الناس"([11">) إذ أراد أن یمتحن قدرته البیانیة فی الهجاء فكانت نفسه تنازعه إلى مقارعة جریر وغیره من كبار الشعراء.

وما إن تمكن من هذه الأداة الجارحة حتى انخرط فی مهاجاة أعلام عصره، وكبار الشخصیات إذ نراه یتعرض للمفكرین والزهاد والنقاد والنحاة والشعراء، فكان هجاؤه لواصل بن عطاء قد أضفى على شخصه رنیناً هائلاً، وبالمقابل أشعر خصمه بإهانة بالغة، والخلاف بین الرجلین غامض إذ لم تفصل المصادر فیه، وكل ما هناك أن بشاراً كان فی بادئ أمره من أصحاب الكلام، وكذلك كان واصل بن عطاء، فلما صار واصل إلى الاعتزال وصار بشار كمما یقول الأصفهانی إلى الرجعة، حدث اختلاف بین الرجلین من حیث المذهب الفكری، فانقلبت العلاقة بینهما من علاقة ود وإعجاب، إذ سجل الأصفهانی شعراً یمدح فیه بشار واصلاً ویشید بخطبه وبلاغته، إلى علاقة عداء وخصومة، فهجاه هجاء موجعاً فی قوله:

مالی أشایع غزّالاً لـه عنق                 كنِقْنِقِ الدَّوِّ إن ولّى وإن مثَلا

عُنقَ الزرافةِ ما بالی وبالُكمُ                 أتكفرون رجالاً أكفروا رجلا؟

فما كان من واصل إلا أن حرّض الناس علیه متهماً إیاه بالزندقة والفجور، فكان یقول فی مجالسه: "أما لهذا الأعمى الملحد المكنیّ بأبی مُعاذ من یقتله، أما والله لولا أن الغیلة سجیة من سجایا الغالیة لدسَسْت له من یبعج بطنه فی جوف داره"([12">).

وواضح أنّ الخصومة بین الرجلین حملت واصل بن عطاء على اتهام بشار بالزندقة، وكانا قبل ذلك على ود ومحبة، والسؤال هنا: هل كان بشار قبل مخالفته واصل بن عطاء ملتزماً بالمبادئ داعیاً إلى المثل متقیداً بالأعراف، وهل كان تحوله إلى المجون بعد ما دب الخلاف بینه وبین واصل؟ فی الحقیقة أنّ مجون بشار مرتبط بمحاولاته الأولى فی النظم بدلیل أنّه كان یهجو الناس منذ صغره ویتعرض لأنسابهم ویقدح فی أعراضهم، غیر أنّ واصلاً فیما یبدو لم یثره كل ذلك فی بدایة الأمر لأنّه كان على وفاق مع بشار، ولما اختلفا أخذ یبین عَواره ویتتبع سقطاته فی أشعاره الماجنة ویدعو الناس إلى قتله والتخلص منه كما یبین الخبر الآنف.

________________________________________

* باحث من سوریة.

([2">)  اتجاهات الشعر فی القرن الهجری الثانی، محمد مصطفى هدارة، ص:203.

([3">)  حدیث الأربعاء، طه حسین، 2/81، وتاریخ الإلحاد، عبد الرحمن بدوی.

([4">)  اتجاهات الشعر، محمد مصطفى هدارة، ص230.

([5">)  المرجع نفسه ص215.

([6">)  المرجع السابق.

([7">)  المرجع السابق، ص218.

([8">)  الأغانی للأصفهانی: 3/149.

([9">)  الأغانی للأصفهانی: 3/146.

([10">)  المرجع نفسه.

([11">)  نفسه 3/162.

([12">)  نفسه.

لم یسلم العلماء والنحاة من هجاء بشار فقد عرّض بالأصمعی وسیبویه وغیرهما من الأعلام بسبب بعض ما أخذا علیه فی اللغة أو النحو، فهو مثلاً یهجو سیبویه ویعیره بأمه الفارسیة، وهنا نلتفت إلى ناحیة مهمة تتصل بشعوبیته، وموقفه الباطن أو الظاهر من الصراع بین العرب والأعاجم، فقد قیل إنّ بشاراً شعوبی متعصب للعجم دون العرب، وهذا الأمر كما أظن ناجم عن مواقف شخصیة أكثر من كونه موقفاً سیاسیاً أو فكریاً أو ثقافیاً، فالمتأمل شخصیة بشار یجد أنّه رجلٌ حاد الطباع متقلب المزاج سریع الاستجابة لما حوله شدید الانفعال، یمكن أن یثور لأقل الأسباب، فماذا یمكن أن نتوقع منه حین یكون فی مجلس فیدخل أعرابی فینال منه ویزدریه، یقول الأصفهانی: "دخل أعرابی على مَجْزَأة بن ثور السدوسی وبشار عنده وعلیه بزّة الشعراء، فقال الأعرابی: من الرجل؟ فقالوا: شاعر، فقال: أعرابی هو أم مولى؟ قالوا: بل مولى، فقال ما للموالی وللشعر؟ فغضب بشار وسكت هنیهة ثم قال: أتأذن لی یا أبا ثور؟ قال: فقل ما شئت یا أبا معاذ فقال":

خلیلی لا أنام على اقتسار                 ولا آبى على مولى وجار

لقد رأى كثیر من الدارسین فی مثل هذا الشاهد ما یدل على شعوبیة بشار، إذ عاب على العرب عاداتهم وسخر من أحوالهم، وبالمقابل افتخر بأصله الفارسی، والصحیح أن مثل هذا الشعر لا یخرج عن الإطار الذی قیل فیه والمناسبة المتصلة به، والدافع الذی حمل بشاراً على قوله، فلا یعدو كونه ردة فعل طبیعیة من قبل شاعر كبیر كبشار.

وما من أحد ینكر عصبیة بشار لأصوله الفارسیة، ومبالغته فی الإشادة بنسبه، واعتزازه الشدید بقومه، ولكن هذا الأمر لا ینحل بالضرورة عن مسألة التحزب، أو العمل المنظم فی إطار الشعوبیة لبلوغ أهداف سیاسیة كما توهم بعض الدارسین، بل ینحل عن موقف شخصی، وكیف لا؟ وبشار قد بلغ ما بلغ من الشهرة وذیوع الصیت وعلو القدر، فلیس أقل من أن یدافع عن ذاته ویرد كید الخصوم بكل ما أوتی من قوة، لأنه فی مثل هذه الظروف یدافع عن ذاته وشاعریته وتمیزه، من أجل ذلك لم یكن متسامحاً حتى مع سیبویه وهو من أصل فارسی حین عاب علیه قوله:

تلاعب نینان البحور وربما                  لهوت بها فی ظل مرؤومة زهر

فقال سیبویه لم أسمع بنون ونینان، فلما بلغ ذلك بشار بن برد قال فی هجائه([1">):

أَسِبْوَیْهِ یا بن الفارسیة ما الذی             تحدثت عن شتمی وما كنت تنبذ

وهذا یدل على أنّ بشاراً لم یدخر وسعاً فی اكتساح الخصم مهما كان، سواء أكان من العرب أو الفرس، وهذا أمر كما قلنا یتصل بطباعه ونفسیته ولم یكن بحال من الأحوال طویة أو فكرة خبیئة یحارب من أجلها لبلوغ هدف من الأهداف، لهذا كان الهجاء عنده ناجماً عن مواقف معینة ومرتبطاً بمناسبات محددة.

لقد كان هجاء بشار متلوناً بتلون المواقف التی عاشها، ومختلفاً باختلاف الشخصیات التی تناولها، وهو من ثم صورة واقعیة لتفصیلات حیاته الخاصة، وقد انحل فی ذلك الهجاء نزوعه الفطری إلى هذا الغرض الفنی الذی وجد فیه ذاته وعبر به عن وجوده، والواقع أن عاهته قد لعبت دوراً بارزاً فی هذا الأمر، فكانت تدفعه إلى درء شر الخصوم بالذم والمهاجاة، من أجل ذلك انحط فی هجائه لیتناول به صغار الشعراء أمثال حماد عجرد، وحماد أدنى طبقة منه كما یقول الجاحظ: "بشار فی العیوق، وحماد فی الحضیض"([2">)، ولیس ذلك فحسب بل شهر الهجاء بوجه عامة الناس والسوقة، وهذا ما أذهبَ بشاشة شعره، وجعله هدفاً للخصوم لیوجهوا السهام إلى عقیدته أولاً، كالذی كان یصنعه حماد عجرد وقد دس علیه كثیراً من الأقوال، ونحله بعضاً من الأشعار ثم أشاعها فی الناس لیبرزه فاسقاً ماجناً، ولعل أخطر تلك الأشعار التی حرفها قوله:

یا بن نهبى رأسی علی ثقیل                 واحتمال الرؤوس خطب جلیل

ادع غیری إلى عبادة الاثنیـ               ـن فإنی بواحد مشغول

یا بن نهبى برئت منك إلى الله              جهاراً وذاك منی قلیل

وقال الأصفهانی: "فأشاع حماد هذه الأبیات لبشار، وجعل فیها مكان "فإنی بواحد مشغول" فإنی عن واحد مشغول" لتصح علیه الزندقة، فمازالت الأبیات تدور فی أیدی الناس حتى انتهت إلى بشار فاضطرب منها وجزع، وقال أساء بذمی، والله ما قلت إلا "فإنی بواحد مشغول" فغیرها حتى شهرت فی الناس"([3">).

ولم یكن بشار قد اقتصر على هجاء العامة والدهماء من الناس، وإنما تجاسر على الكبراء والقادة والرؤساء، وهذا أسهم بدوره فی تشنیع سیرته، فقد روی أنه هجا روح بن حاتم فحلف أن یقتله، غیر أنّ بشاراً استجار بالمهدی فشفع له عند روح، ثم هجا العباس بن محمد، كما هجا غیره من الكبراء، وقد كان هجاؤه للخلیفة المهدی فیه ختام حیاته إذ قتله بتهمة الزندقة وتفصیل ذلك ما أورده الأصفهانی فی قوله: "خرج بشار إلى المهدی ویعقوب بن داود وزیره فمدحه ومدح یعقوب فلم یحفل به ولم یعطه شیئاً، ومر یعقوب ببشار یرید منزله فصاح به بشار: "طال الثواء على رسوم المنزل" فقال یعقوب فإذا تشاء أبا معاذ فارحل، فغضب بشار وقال یهجوه:

بنی أمیة هبوا طال نومكم                   إنّ الخلیفة یعقوب بن داود|

ضاعت خلافتكم یا قوم فالتمسوا          خلیفة الله بین الزق والعود

فلما طالت أیام بشار على باب یعقوب دخل علیه وكان من عادة بشار إذا أراد أن ینشد أو یتكلم أن یتفل عن یمینه وشماله ویصفق بإحدى یدیه على الأخرى ففعل ذلك وأنشد:

یعقوب قد ورد العفاة عشیة               متعرضین لسیبك المنتاب

فسقیتهم وحسبتنی كمونة                 نبتت لزارعها بغیر شراب

مهلاً لدیك فإننی ریحانة          فاشمم بأنفك واسقها بذناب

طال الثواء علی تنظر حاجة                شمطت لدیك فمن لها بخضاب

تعطى الغزیرة درها فإذا أبت               كانت ملامتها على الحلاب

یقول لیعقوب: أنت من المهدی بمنزلة الحالب من الناقة الغزیرة التی إذا لم یوصل إلى درها فلیس ذلك من قبلها إنما هو من منع الحالب منها، وكذلك الخلیفة لیس من قبله لسعة معروفة إنما هو من قبل السبب إلیه، فلم یعطف ذلك یعقوب علیه وحرمه، فانصرف إلى البصرة مغضباً، فلما قدم المهدی البصرة أعطى عطایا كثیرة ووصل الشعراء، وذلك كله على یدی یعقوب فلم یعط بشاراً شیئاً من ذلك، فجاء بشار إلى حلقة یونس النحوی فقال: هل ههنا أحد یحتشم؟ قالوا له: لا. فأنشأ بیتاً یهجو فیه المهدی، فسعى به أهل الحلقة إلى یعقوب، فقال یونس للمهدی إن بشاراً زندیق وقامت علیه البینة عندی بذلك وقد هجا أمیر المؤمنین فأمر ابن نهیك أن یضرب بشاراً ضرب التلف ویلقیه بالبطیحة"([4">).

ومن الملاحظ أن المهدی أمر بقتل بشار بسبب الهجاء لا بسبب الزندقة، فالزندقة كانت شبهة حاضرة لكل من یخرج على أمر الخلیفة أو یهجوه، ولو تأملنا علاقة بشار بالمهدی لعلمنا أن الخلیفة لم یستعده بسبب شعره قبل هذه الحادثة، فسوف نعرض صوراً لاحقة لعبث بشار مع المهدی وتطاولـه على القیم وتعرضه لكبار الشخصیات كما هو الشأن فی قصته مع خال المهدی، غیر أن هجاءه لابن داود ثم تعرضه للخلیفة جعله یدفع حیاته ثمناً لذلك التعابث، ومن الطریف أن یونس النحوی كما یذكر الخبر الآنف قد استشف زندقة بشار وبدت له البینة من خلال هجاء الخلیفة لیس غیر، مما یشی أن الرجل راح ضحیة شعره، ثم كان هنالك من یرید التخلص منه فأوغر صدر الخلیفة علیه لیقتله بتهمة الزندقة، وتروی المصادر متابعة للخبر السابق أن المهدی لما ضرب بشاراً "بعث إلى منزله من یفتشه وكان یتهم بالزندقة فَوُجِد فی منزله طومار فیه بسم الله الرحمن الرحیم، إنی أردت هجاء آل سلیمان بن علی لبخلهم فذكرت قرابتهم من رسول الله  فأمسكت"([5">).

غزل بشار وشبهة المجون:

كان الغزل باباً آخر ثبتت من خلاله زندقة بشار، ذلك لأنه كان یمیل إلى الغزل كمیله إلى الهجاء، لا بل كان غزله فی نظر الزهاد والمصلحین أشد خطراً على الناس من هجائه، لشیوع شعره وسرعة انتشاره وسهولة جریانه على الألسنة، إضافة لما كان ینطوی علیه من إباحیة وفساد، فقیل لیس فی البصرة غزل ولا غزلة إلا ویروی شعر بشار، من أجل ذلك كثر من هاجمه فقال سوار بن عبد الله ومالك بن دینار: "ما شیء أدعى لأهل هذه المدینة إلى الفسق من أشعار هذا الأعمى"([6">)، وكان واصل بن عطاء یقول: "إن من أخدع حبائل الشیطان وأغواها لَكلماتُ لهذا الأعمى الملحد"([7">)، والواقع أن هذه المخاطر التی تصورها المصلحون والمفكرون والزهاد فی غزل بشار كانت فی غایة المبالغة، وخصوصاً أنّ نفراً من النقاد لم یرَ فی شعره كل هذا الفساد الذی أشیر إلیه، فقد قیل للمهدی حین منع بشاراً من ذكر النساء فی شعره: "ما أحسب شعر هذا أبلغ فی هذه المعانی من شعر كُثَیّر وجمیل وعروة وقیس بن ذریح وتلك الطبقة"([8">) غیر أنّ المهدی كما تقول المصادر كانت عنده غیرة على النساء فمنع بشاراً من التغزل بهن فقال: "لیس كلّ من یسمع تلك الأشعار یعرف المراد منها وبشار یقارب النساء حتى لا یخفى علیهن ما یقول وما یرید وأی حرة حصان تسمع قول بشار فلا یؤثر فی قلبها، فكیف بالمرأة الغزلة والفتاة التی لا همّ لها إلا الرجال"([9">)

إنّ موقف المهدی من غزل بشار لا یستقیم على قاعدة واحدة، فهو وإن كان غیوراً على النساء، خائفاً من الفتنة التی یصنعها بشار فی قلوبهن، إلا أنّه فی مجالسه الخاصة كان یدعوه إلى إجازة ما یرتج علیه من أبیات فی الغزل، كالذی رواه الأصفهانی فی قوله: "نظر المهدی" إلى جاریة تغتسل.... فأنشأ یقول: نظرت عینی لحینی، ثم ارتج علیه فقال من بالباب من الشعراء قالوا: بشار، فإذن له فقال أجز: نظرت عینی لحینی، فقال بشار:

نظرت عینی لحینی                نظراً وافق شینی

سترت لما رأتنی                  دونه بالراحتین

فقال له المهدی قبحك الله ویحك أكنت ثالثنا... فضحك وأمر له بجائزة"([10">).

وتأویل موقف المهدی المتباین من غزل بشار أنّه لما شاع وانتشر فی الناس، أضحى ذلك باباً فی إغواء النساء، ومجالاً للفساد والإباحیة، وقد لاحظ أن غزله یختلف عن غزل المتقدمین لكونه مكشوفاً للناس، ولیس ذلك فحسب بل بدا فی غزله خبیراً بأحوال الحسان عارفاً طباعهن، مما جعل بعض العشاق یفتنون النساء بشعره، فروی أنّ رجلاً جاء إلى بشار فقال له: أنت بشار، قال: نعم، فقال: آلیت أن أدفع لك مئتیّ دینار، وذلك أنی عشقت امرأة، فجئت إلهیا فكلمتها فلم تلتفت إلی فهممت أن أتركها فذكرت قولك:

قاس الهموم تنل بها نجحا                   واللیل إن وراءه صبحا

لا یؤیسنك من مخبأة             قول تغلظه وإن جرحا

عسر النساء إلى میاسرة          والصعب یمكن بعدما جمحا

وقیل.. لما سمع المهدی هذه الأبیات قال لبشار: "أتحض الناس على الفجور وتقذف المحصنات المخبآت، والله لئن قلت بعد هذا بیتاً واحداً فی نسیب لآتین على روحك"([11">).

2 ـ دوافع المجون عند بشار:

یَصْدُرُ مجون بشار بن برد عن التعابث بصورة أساسیة، ولیس التعابث فی حال من الأحوال تطاولاً مقصوداً على أعراف المجتمع وقیمه، أو انتفاضاً على واقع، أو موقفاً فكریاً هادفاً، وإنما هو میل فطری، واتجاه ذاتی یخلو فیه الرجل إلى متعته ولذته ویتحلل من قیود كثیرة كانت مفروضة علیه، والمهم أن المجتمع قد قبل عبث بشار وغیره بصورة فن وشعر، ذلك لأن بشاراً فی تعابثه قد لاذ بالفن الذی وفر له هامشاً للحریة الفردیة، وكان فی الوقت ذاته مضماراً لتخطیه القیم والمبادئ، وقد ركب أسلوب التعابث والتظرف، وكان هذا الأسلوب مقبولاً عند أشد الخلفاء غیرة وحیاءً أعنی الخلیفة المهدی الذی قبل تعابث بشار فی كثیر من المواقف من باب التسلی والإضحاك، فقد روی أن یزید بن منصور الحمیری دخل على المهدی وبشار عنده ینشده شعراً فقال لبشار: ما صناعتك؟ فقال: أثقب اللؤلؤ فضحك المهدی ثم قال لبشار: ویلك أتتنادر على خالی، فقال: وما أصنع به یرى شیخاً أعمى ینشد الخلیفة شعراً ویسأله عن صناعته([12">).

كان بشار إذن یمیل إلى الدعابة والهزل والتظرف والعبث، وكان لعاهته أثر بالغ فی ذلك، لأنه كما یقول دائماً، یرید التفوق على المبصرین، ولم یكن لدیه وسیلة لبلوغ ذلك سوى العبث الذی عبر به عن وجوده، كما كان أسلوبه فی الإبداع، من أجل ذلك أشار فی غیر موضع من أشعاره إلى أنه أجاد الوصف مع أنه كفیف، وقد ذكر ذلك على لسان إحدى النساء:

عجبت فطمة من نعتی لها                  هل یجید النعت مكفوف البصر

ومرة أخرى یتكلم فی شعره على عاهته مشیراً إلى أن تلك العاهة لم تلغ تفرده أو تقضِ على ذكائه وعبقریته:

عمیت جنیناً والذكاء من العمى            فجئت عجیب الظن للعلم موئلا

وكان أوجع الهجاء فی نفس بشار ذاك الذی یطول شكله، أو یشیر إلى عاهته، لهذا قیل إنه بكى لما شبهه حماد عجرد بقرد أعمى، فقیل له ما یبكیك من هذا الشعر؟ فقال: إنه یرانی ولا أراه.

إن بشاراً كان یدرك أنه لم یستطع مبارزة المبصرین من الشعراء وغیر الشعراء، لأنه كان یشعر أنه مكشوف لبصرهم، وهم مستورون عنه لا یستطیع أن یجسد معایبهم الخلقیة على نحو ما كان خصومه یجسدون عاهته وشكله، لهذا ما كان یزعجه شیء فی هجاء الشعراء مثلما یزعجه تصویرهم إیاه بالقرد لأن هذا التصویر صادف إحساساً لدیه بقبح المنظر وسوء الطباع. وهنا ترسخ فی نفسه كره للناس وتبرم شدید بهم، ومن ثم تحول ذلك الإحساس إلى تطاول وتمرد وعبث، فبطریق التعابث أراد تجاوز قصوره، وبطریق ازدراء القیم أراد التعبیر عن حریته المطوقة بالمحدود، وبطریق التهتك أراد أن یعوض ما حرمته الطبیعة من نعمة البصر، ولكن مع كل ذلك لم یكن بشار یسعى إلى العبث سعی القاصد الناقم، وإنما كان یبلغ ذلك بلوغ الساذج البسیط الذی لم یجد فی نفسه الشخص القادر على التمام لعیب فی نفسه وشكله، فمن هنا آثر ترك نفسه على سجیتها، فقطع الحیاة عابثاً لا یقیم وزناً للحدود، وكان لأصحابه دور بارز فی كل ذلك، ففی مسألة التعابث كان منقاداً أكثر من كونه قائداً، رُوِیَ أنّ رجلاً یقال له سعد بن القعقاع یشارك بشار فی المجانة "فقال له وهو ینادمه: ویحك یا أبا معاذ قد نسبنا الناس إلى الزندقة فهل لك أن تحج بنا حجة تنفی ذلك عنا، قال: نِعْمَ ما رأیت، فاشتریا بعیراً ومحملاً وركباً فلما مرا بزرارة قال له: ویحك یا أبا معاذ ثلاثمئة فرسخ متى نقطعها مل بنا إلى زرارة نتنعم فیها فإذا أقبل الحاج عارضناهم بالقادسیة وجززنا رؤوسنا فلم یشك الناس أن جئنا من الحج فقال له بشار: نِعمَ ما رأیت وإنی أخاف أن تفضحنا، قال لا تخف فمالا إلى زرارة یشربان الخمر ویفسقان، فلما نزل الحاج بالقاسدیة راجعین أخذا بعیراً ومحملاً وجزا رؤوسهما وأقبلا وتلقاهما الناس فقال سعد بن القعقاع:

ألم ترنی وبشاراً حججنا          وكان الحج من خیر التجاره

خرجنا طالبی سفر بعید          فمال بنا الطریق إلى زراره

فآب الناس قد حجوا وبَرّوا                وأُبنا موقرین من الخساره([13">)

ویكشف لنا هذا الخبر حقیقیة عبث بشار، فهو فی قرارة نفسه یرید أن یزیل عن نفسه صفة الزندقة التی نسبها الناس إلیه، ولما عرض علیه ابن القعقاع الحج وافق وقال: نِعْمَ ما رأیت، ثم غرر به سعد فأقنعه أن الرحلة إلى الحج طویلة ولیس بوسعهما بلوغ الغایة فعرض علیه ثانیة أن یمیلا إلى زرارة إلى أن یعود الحجاج لیعودا معهم وكأنهما قد أدیا الفریضة، غیر أن سعداً فضح الأمر فی الشعر الذی قاله وكان بشار یخاف من ذلك وقد حدث. فبشار فی هذه الحكایة منقاد على اعتباره كفیفاً یحتاج لمن یقوده ویذهب به، وقد برزت نیته الصادقة فی إزالة التهمة عنه غیر أن رفیق السوء هو الذی غرر به فكانت المسألة برمتها لا تخرج عن حدود التعابث والمجون، ولو كان بشار یضمر فی نفسه سوء الاعتقاد لكان رفض فكرة الحج من أساسها.

3. أبعاد المجون وأثره فی تقویم شعر بشار:

إن ما جاء به الباحثون من آراء حول مجون بشار لا یؤخذ بكلیته، كما أنه لا یرد فی جملته، وربما كانت تصوراتهم إزاء موضوع المجون بدوافعه السیاسیة والفكریة أو حتى العرقیة منوطةً بالواقع التاریخی الذی عاش فیه بشار، غیر أن ما یحتمل النظر فی جملة الأسباب التی دعت بشاراً إلى التعابث والتمرد والتطاول على القیم هو أن الخلفاء كانوا یتهاونون فی ردع المتماجنین من الشعراء، فالمهدی مع تشدده لم یزدجر بشاراً على عبثه ومجونه، وإنما أمر بقتله حین هجاه، فكان ظاهر تهمته رمیه بالزندقة والإلحاد، وأما باطنها فهو الهجاء كما تجمع المصادر التی تكلمت على موت بشار، ولیس ذلك فحسب بل إن عدداً من الخلفاء كانوا قد اتخذوا من الشعراء المجان ندماء ومسامرین بغرض التسلی، وكان بشار ینال الأعطیات الجزلة من جراء تماجنه، وبمعنى أن عین الرقیب كانت تغفل عن مجونه طالما أن ذلك المجون لا یشكل خطراً على ذوی السلطان، أو ینال من شخصیاتهم.

ویبدو أن هذه المسألة كانت واضحة فی أذهان نقاد الشعر القدیم وعلى رأسهم الأصمعی والجاحظ، فالأصمعی كان من أوثق الرواة وأصدقهم وأغزرهم علماً، وأوسعهم معرفة بصناعة الشعراء، كما أنّ الجاحظ من أظهر النقاد الذین أمعنوا النظر فی جمالیات العربیة، وقد حمله ذلك على تألیف أهم كتاب یبین مآثر اللغة وبیانها الساحر، وقد تعصب للعرب بفضل لغتهم، وهذان الرجلان كانا من أشد المناصرین لمذهب بشار فی الشعر، ولیس ذلك فحسب بل إن الأصمعی أوشك أن یختم الشعر به، كما أن الجاحظ جعله على رأس طبقة الشعراء المحدثین حین قال: "بشار من أصحاب الإبداع والاختراع"([14">)، ثم رفع ناقد مثل ابن رشیق من قدره فقدمه على سائر الشعراء: "أتى بشار بن برد وأصحابه فزادوا معانی ما مرت بخاطر جاهلی ولا مخضرم ولا إسلامی"([15">) كما أحصى النقاد معانیه المولدة والفریدة حتى فاق الشعراء جمیعاً بما جاء به من خطرات الفؤاد وتجلیات الوجدان وقد تناقلت الكتب من معانیه المولدة قوله:

یا قوم أذنی لبعض الحی عاشقة             والأذن تعشق قبل العین أحیانا

وهذا كله یثبت أن بشاراً قد تسنّم ذروة الشعر العربی زمناً، وقد أقر له الأقدمون بالتفوق والعبقریة، ولم یكن مجونه حائلاً دون الاعتراف بفضله، وقد كان الأصمعی وهو عربی شهد لبشار بالشاعریة، ولم یثنه عن الاعتراف بفضله ما كان یظهره بشار من عداء للعرب، وكذا الجاحظ المعتزلی لم یصده هجوم بشار على المعتزلة وواصل بن عطاء عن الإشادة بشعره.

ومؤدى ذلك أن النقاد القدامى لم ینظروا إلى مجون بشار بعیداً عن ظروفه الخاصة، إذ المجون عند بشار وغیره موضوع فنی، والموضوع فی الواقع یمثل مادة الشعر، والحكم النقدی لا یهتم بالمادة بمقدار اهتمامه بالصیاغة وسبل تجویدها، ومن الطبیعی أن یرتقی بشار المكانة السامقة التی وضعه فیها النقاد، ذلك لأنه امتلك ناصیة البیان وأجاد فی صناعته إجادة لم تتوافر لكثیر غیره من شعراء العربیة.

كما أن شخصیة بشار لم تكن مكروهة لإسهامه فی المجون، لأن المجون كما قلنا موضوع فنی، وكذا تعابثه كان مقبولاً فی مجتمع لأن الفنان بنوازعه الممیزة ومزاجه المتقلب وطباعه الحادة كان یمثل حضوراً دائماً فی المجتمع لأن رصیده فی الإبداع یفوق سلبیاته، ولهذا حفل الدرس الأدبی فی القدیم ببشار وشعره بإبداعاته ومباذله ولم یكن المجون فی حال من الأحوال یحجب النظر عن محاسن أشعاره، والأهم من ذلك أن مجون بشار وزندقته لم یَعْدما إشارات المنصفین إلى أنه متهم، وقد حاولنا فیما تقدم الوقوف عند بعض الشواهد والأخبار التی تلفت النظر إلى هذه الناحیة، ظناً منا أن شاعراً كبیراً كبشار نال شهرة وحظوة فی عصره لم یعدم منافساً أو عدواً یتقول علیه ویدس فی أخبار ما یشوه صورته، والحق أن مجمل الأخبار التی عرضناها فی هذا الباب تحمل على الظن أن بشاراً كان متهماً، وهو بطبیعة الحال لیس بریئاً تماماً من كل ما نسب إلیه، غیر أن صورة المجون التی رسمت له كانت مضخمة أوسع ما یكون التضخیم، ومن عجب أن الباحثین المحدثین قد أسهموا فی تضخیم مجون بشار فإذا به یستحیل إلى تیار قوی تنعكس فیه أسباب وأهداف ونتائج هی فی ظنی أكبر من بشار ومن شعره، وما أعده جنایة بحق بشار بن برد فی الدراسات المحدثة التی تكلمت على مجونه أنها استبعدت تماماً كل إشارة یمكن أن تنصفه أو تبعد عنه صفة المجون والزندقة([16">).

المراجع:

1 ـ اتجاهات الشعر فی القرن الثانی الهجری، محمد مصطفى هدارة، مصر، دار المعارف، 1963.

2 ـ الأغانی لأبی الفرج الأصفهانی، طبعة مصورة عن طبعة دار الكتب المصریة.

3 ـ حدیث الأربعاء، طه حسین، مصر، دار المعارف.

4 ـ دراستان: من قتل بشار، والخیر والشر فی لزومیات المعری، محیی الدین صبحی، دمشق، وزارة الثقافة، 1981.

5 ـ العمدة فی محاسن الشعر وآدابه ونقده، ابن رشیق القیروانی، تحقیق محمد قرقزان، بیروت، دار المعرفة، 1981.

________________________________________

([1">)  نفسه: 3/167.

([2">)  البیان والتبیین للجاحظ: 1/64.

([3">)  الأغانی: 3/169.

([4">)  نفسه: 3/187.

([5">)  نفسه.

([6">)  نفسه: 3/184.

([7">)  نفسه.

([8">)  نفسه.

([9">)  نفسه.

([10">)  نفسه.

([11">)  نفسه 30/192.

([12">)  نفسه.

([13">)  نفسه: 3/179.

([14">)  البیان والتبیین للجاحظ: 1/59.

([15">)  العمدة لابن رشیق: 2/970.

([16">)  هنالك دراسات قلیلة أشارت إلى الظلم الذی لحق بشار بن برد منها دراسة لمحیی الدین صبحی (من قتل بشاراً).
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:10|
خلیل الخوری رائد الروایة العربی


ثمة مبرران لاخراج خلیل الخوری (1837 - 1907) من العتمة. المبرر الاول یكمن فی مرور مائة عام على وفاته. أما المبرر الثانی فیعود الفضل فیه الى الباحث المصری محمد عبد التواب الذی أقنع «المجلس الاعلى للثقافة» لاعادة نشر روایة الخوری «وی اذن لست بافرنجی» باعتبارها باكورة الروایات العربیة. ولكن إلى أی مدى حقق هذا النص شروط الفن الروائی؟ وفی ای ظرف كتب ونشر وطلع على الناس؟ ظروف كتابة «وی اذن لست بافرنجی» تستقیها «الشرق الأوسط» من أرشیف منتصف القرن التاسع عشر، وتستطلع رأی صاحبها، وأهل ذاك الزمان بها.

الروایة ذات العنوان الطریف «وی اذن لست بافرنجی»، لیست الباكورة الیتیمة لهذا النهضوی المغمور. فقد اصدر عام 1858، باكورة الصحف العربیة فی المشرق العربی وهی «حدیقة الأخبار»، وهی رابع صحیفة بعد «الوقائع المصریة» الصادرة فی القاهرة 1828، و«مرآة الأحوال» 1855، و«السلطنة» 1857، الصادرتان فی اسطنبول. وقبل ان نغلق الهلالین على بواكیر خلیل الخوری، یجدر التنویه بأنه اشترك فی تأسیس «الجمعیة العلمیة السوریة» فی بیروت، وهی أول جمعیة ثقافیة فی العالم العربی تضم مسؤولین وأعضاء من كل الادیان والمذاهب. كذلك، كان الشاعر والروائی خلیل الخوری الحلقة الاولى فی سلسلة الادباء الذین اصدروا دوریات سیاسیة فی لبنان والمشرق العربی مثل الشاعر بشارة عبدالله الخوری الملقب بـ «الاخطل الصغیر» الذی اصدر جریدة «البرق» فی بیروت. وللاسف لیست كل بواكیر الخلیل مفیدة. فبعد عشر سنوات من صدور «حدیقة الاخبار» كدوریة نهضویة مستقلة، حوّلها صاحبها فی 13 اغسطس (آب) 1868 الى جریدة رسمیة، وتحوّل حضرته فی عام 1870 من كاتب مقاتل فی سبیل التمدن والحریة والعدالة، الى مكتوبجی یراقب الصحف ویرفع التقاریر عنها الى الوالی، مما یسبب فی توقیفها. واذا كانت «حدیقة الاخبار» اول جریدة مستقلة فی بیروت تصبح جریدة رسمیة للولایة، فإن صاحبها كان اول مكتوبجی بیروتی بعد ان كان هذا المنصب حكرا على الموظفین الاتراك.

ولنعد الى الروایة للاجابة عن بعض الاسئلة التی تطرحها مقدمة الطبعة الجدیدة التی كتبها الباحث المصری سید البحراوی: هل صدرت «وی اذن لست بافرنجی» عام 1859؟ وهل كانت مجهولة حتى اكتشفها محمد عبد التواب؟ وهل كانت من ألفها الى یائها - باستثناء مدخلها التقلیدی - «روایة حقیقیة فی المعنى الفنی للروایة» على حد تأكید الزمیل عبده وازن فی «الحیاة» بتاریخ 8 نوفمبر (تشرین الثانی) 2007؟

منذ ان اصدر ابن مدینة «الشویفات» الصغیرة المجاورة للعاصمة بیروت «جرناله» حرص على نشر حلقة من روایة مترجمة عن الفرنسیة فی كل عدد. الا ان عدد 13 اكتوبر (تشرین الثانی) 1859 تضمن العبارة التالیة: «اذا كنت ایها القارئ مللت من مطالعة القصص المترجمة، وكنت من ذوی الحذاقة، فبادر إلى مطالعة هذا التألیف الجدید المسمى: وی.. اذن لست بافرنجی». والمطالعة ستحصل من خلال سلسلة حلقات نشرها المؤلف فی اعداد جریدته على مدى 18 شهرا. ذلك ان الكتاب الذی احتضن الروایة بعید ظهور الحلقة الاخیرة منها فی «حدیقة الاخبار» صدر فی عام 1861، بدلیل الاعلان الذی نشره المؤلف فی جریدته بتاریخ 21 مارس (آذار) 1861 وقال فیه «هذا المؤلف الجدید المحتوی على نقد مختلف یسرّ القارئ ولا یخلو من الفائدة بطریقة هزلیة مقصود بها الجد مع روایة شهیة المطالعة. الذی تلاه الجمهور مشهوراً بالتدریج فی (حدیقة الاخبار) قد نجز طبعه الآن كتابا مستقلا مغلفا بورق سمیك ملوّن، وسیباع بسعر عشرة قروش للنسخة. والذی یأخذ منه اكثر من خمسین نسخة دفعة واحدة یخصم له، فی المائة، عشرون».

مما تقدم، یمكن القول ان الروایة نشرت فی كتاب مستقل عام 1861. اما ما جرى فی عام 1859، وتحدیداً فی الشهر العاشر منه، فهو بدء نشر الروایة على حلقات وفی كل عدد من الجریدة «اذا سمح الوقت»، او بالاحرى مساحة الصفحات المحدودة، التی لم تسمح بنشر حلقة فی كل عدد، مما استدعى عاماً وستة اشهر لنشر روایة صغیرة.

ولنقلب الصفحة على السؤال الثانی المتعلق باكتشاف الروایة. فی سیاق ترجمته لحیاة خلیل الخوری، نوه فیلیب طرازی فی الجزء الاول من كتابه «تاریخ الصحافة العربیة» بالروایة فقال ان «وی اذن لست بافرنجی، هو كتاب اخلاقی وضعه على اسلوب القصة وضمنه انتقاداً دقیقاً على الاخلاق والعادات مع ملاحظات لطیفة على المتنبی والفنس دی لامرتین». وكرّت السبحة.

الكتاب الذی یحتضن الروایة موجود فی المكتبات العامة، وكذلك هو حال «حدیقة الاخبار». لذلك، لیس اكتشافاً العثور على الروایة. ولكن، ما یستحق التنویه بالنسبة للباحث محمد سید عبد التواب، هو كشفه ان الروایة هی باكورة الروایات العربیة. وبالطبع یجب ان یرد هذا الحكم بتحفظ. فمن یمكنه الجزم بعدم العثور على روایة عربیة اخرى یعود صدورها الى تاریخ سابق لعام 1861 حیث صدرت الروایة فی كتاب مستقل، او عام 1859 حیث بدأ مؤلفها بنشرها فی حدیقته على حلقات.

یبقى السؤال الثالث والاخیر. هل روایة «وی اذن لست بافرنجی» حائزة على الشروط الفنیة، خصوصاً اذا علمنا انها كتبت منذ 148 سنة، خاصة وان مقدمتها مباشرة وتنظیریة وخاتمتها لا تمت الى الفن الروائی بصلة. فالمقدمة تشبه فی مضمونها المقالات الفكریة والاجتماعیة التی نشرها الخوری فی جریدته وقارن خلالها بین الشرقیین والغربیین على اصعدة «العلوم والمعارف والمبادىء العلمیة». وكرر فی سیاق المقدمة ما سبق واكد علیه الرواد الذین سبقوه ومنهم اسعد یعقوب الخیاط والمعلم بطرس البستانی: «اننا نرید ان یكون الانكلیزی انكلیزیاً والفرنساوی فرنساویاً والعربی عربیاً». وحسناً فعل حین استدرك فی القسم الاخیر من مقدمته القصیرة، وقرر الاحجام عن ایراد «كلما هو خاطر فی بالنا من الافكار السامیة، لاننا نخشى ملل القارىء وربما ایضاً لا یخلو الامر اننا نحن قد مللنا». اما الخاتمة فكانت اكثر تنظیراً ومباشرة، إذ یقول الخوری: «لا یجب ان نستهجن كل شیء لأنه افرنجی، ولا نستحسن كل شیء لانه عربی. فإن لكل قوم احسانات واساءات لا تخفى عمن تمعن بالحقائق. وعلینا معشر العرب ان نحدق النظر، ونتأمل بفكر خال من شوائب الغرض، بأبناء عمنا بین البشر القاطنین القارة الاوروبیة، ونأخذ عنهم فقط ما كان واسطة لتقدمهم علینا بدرجات التمدن والتهذیب». ولكن الاخذ عن الاجانب لا یجوز ان یرادف السرقة، بل ان یكون اقتباساً وبما یتناسب «مع الروح الأهلیة لكل امة».

صحیح ان الروایة ملتزمة وتستهدف تنویر قارئها. ولكن المقدمة والخاتمة كانتا اقرب الى الخطاب النهضوی المباشر، منهما الى الكلام الادبی المداور الذی یقتضیه المنهج الفنی لصیاغة الروایة.

ما تقدم لا یقلل من قیمة روایة «وی اذن لست بافرنجی»، واعتراف محمد عبد التواب بریادة خلیل الخوری فی فن الروایة العربیة. فالروایة كتبت فی عام 1859 ولیس فی عام 2007. والاعتراف بریادة شامی یندر حدوثه من الباحثین المصریین.

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:9|
الجلال والجمال فی شعر ابن عربی
 - د. محمد علی آذرشب *

مقدمات
یمثل ابن عربی قمة من قمم العرفان فی تاریخنا الإسلامی، وأودّ قبل الدخول فی أدب ابن عربی أن أشیر إلى بعض الملاحظات بشأن العرفان والأدب لتكون مقاربة لما أبتغی تقدیمه فی هذا المقال.
1- العرفان - الناس.
ابتلی معظم قادة الفكر وأصحاب الكلمة فی عالمنا الإسلامی منذ فترة مبكرة بالابتعاد عن الناس، وشاع فقه السلطة الذی یبرر للحاكم كلَّ ما یمارسه من ظلم وتسلط واستبداد، وأصبح أكثر أصحاب المدارس الفكریة وكتّاب التاریخ والفقه والحدیث یمارسون أعمالهم لخدمة السلطة، وأضحى لهم من المكان والجاه ما جعلهم یتنافسون على التقرب من السلطان، على حساب ترك عامة الناس یكابدون ویعانون ویكدحون ویجوعون ویقتلون ویسجنون دون أی اهتمام بمعاناتهم،بل وأكثر من ذلك عملوا على تبریر ما ینزل بهم باعتباره قضاءً وقدراً لیس لهم أن یعارضوه.
وإلى جانب هذا التوّجه كان هناك التوجّه الإسلامی الأصیل الذی اهتمّ بالناس، فكان فقهه فقه الناس، وكانت حركته للدفاع عن الناس، وعن كرامتهم وعزّتهم وشخصیتهم. وتمثّل هذا الاتجاه بالدرجة الأولى بمدرسة أهل بیت رسول الله (ص).
فكان دعاة هذه المدرسة یقدمون من الفكر والفقه ما ینفع الناس، ویتحركون لتحریر الناس من عبودیة الطاغوت والشهوات تحقیقاً لعزتهم وكرامتهم. والطریف أن الحركات المنحرفة التی أرادت أن تستقطب الجماهیر مثل حركة الزنج والقرامطة رفعت هی أیضاً شعارات الدفاع عن مدرسة أهل البیت لعلمها بما فی هذه الشعارات من دوافع تستحث الجماهیر على الحركة وتستقطب عواطفها.
والعرفان نشأ فی أحضان مدرسة الناس، نجد جذوره الأولى فی "نهج البلاغة" و"الصحیفة السجادیة" وخطب "مجموعة كربلاء" وتعالیم "الصادقین"، ثم انتشر وتبلور بین "الناس" بعیداً عن توجهات السلاطین. واستمرّ مع الناس یربیهم ویرفعهم ویسمو بهم، ویصونهم من السقوط والهزیمة والاستسلام للواقع الفاسد.
ونرى العرفاء یعلنون على مرّ التاریخ ولاءهم لآل بیت رسول الله (ص)، ومن ذلك قول ابن عربی یرویه عنه القاضی نور الله الشوشترى فی كتابه مجالس المؤمنین:
على رغم أهل البُعد یورثنی القربى *** رأیت ولائی آل طه وسیلة
بتبلیغه إلاّ المودة فی القربى *** فما طَلَبَ البعوث أجرا على الهدى
العرفان إذن مدرسة الناس التی تأبى أن تجعل درجات كرامة الناس مرتبطة بما یملؤون به أذهانهم فی المدارس
یقول الإمام الخمینی:
جوت به عشق أعدم از حوزه عرفان، دیدم
أن یه خواندیم وشنیدیم، هن باطل بود
2- العرفان - العزّة
الدعوة إلى الارتباط بالله هی دعوة إلى التحرر من العبودیة لما سوى الله، هی دعوة للترفع عن السقوط فی عبودیة المال والشهوة والسلطة والجاه، من هنا یستشعر الإنسان عزّته فی كنف الله: (من كان یرید العزّة فلله العزّة جمیعاً) سورة فاطر 35/10، (أیبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جمیعاً) سورة النساء 4/139، (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنین) سورة المنافقون 63/8، من هنا فإن جماعة الفقراء لا یلینهم الطمع، ولا یفلّ ساعدهم المتاع، ولا تدق أعناقهم فضول العیش.
یقول ابن عربی:
أنا عزّ العزّ ما ملكت *** نفسی ذات الذلّ والعدم
(دیوان/ 23)
ویقول عن عزّة حسامه، وهی كنایة عن دفاعه المستمیت عن عزّته:
نصبت حساماً للردى فی فرنده *** شعاع له بین الفریقین فیصل
حملت به لا أرهب الموت والردى *** ولا أبتغی حمداً له النفس تعمل
ولكن لیعلو الدین عزّا وشرعنا *** إلى موضع منه الطواغیت تسفل
\(الدیوان /67)
هذه العزّة هی التی جعلت جماعة العارفین تسترخص الحیاة للدفاع عن أوطانها أمام الغزاة فی مختلف العصور، جدیر بالذكر أن زعماء الثورات وحركات المقاومة فی العصر الحدیث ینتمون بدرجة وأخرى إلى مدارس العرفان، ولا أدل على ذلك من ضجیع ابن عربی فی مثواه الأخیر الأمیر عبد القادر الجزائری، والإمام الثائر) الثانی روح الله الموسوی الخمینی.
3- العرفان - النفس
"النفس البشریة، التی تمثل جانب الطین والصلصال والحمأ المسنون تقف دائماً أمام تجلی نفخة رب العالمین فی هذا الموجود البشری، والعرفاء تحدثوا كثیراً عن هذا التعارض. ونفخة رب العالمین تتجلّى فی العشق، ولا یكون الإنسان عاشقاً إذا كان غارقاً فی "الذاتیة"، ولا یرى الإنسان وجه الحقیقة إذا كان راسفاً تحت ركام ذاتیته المستفحلة.
وكل الذین عشقوا فأبدعوا فی جمیع العلوم والفنون أناس تخلّصوا من ذاتیاتهم الضیقة وانطلقوا إلى رحاب نفخة رب العالمین فیهم سواء كانوا تحركوا عن قصد فی هذا الانطلاق أم عن دون قصد.
من هنا فكل المبدعین فی الدنیا وكلّ من برزت مواهبهم فی مجال من المجالات هم أناس تحرروا بدرجة وأخرى من ذاتیاتهم فعشقوا وخطوا خطوات على طریق العرفان.
لا یمكن لأصحاب الآثار الفنیة والعلمیة والأدبیة الخالدة إلاّ أن یكونوا عاشقین، وهم فی عشقهم دخلوا ساحة العرفان شاؤوا أم أبوا.
فالعرفان أساس كل ابتكار خالد وفن ساحر.
العرفان هجرة الإنسان من نفسه إلى معشوقه، یقول الإمام الخمینی:
هجرت ازخویش غوده سوى دلدار رویم
واله شمع رخش كشته وبروانه شویم
ویخطئ من یظنّ أنه مبدع أو مبتكر أو فنان أو أدیب ممتاز إذا كان یتحرك من أجل ذاته وشهرته وماله لا یمكن للمواهب أن تسجّل عطاءها إلاّ إذا كان العشق حادیها. ولا یمكن أن یكون الإنسان عاشقاً إذا كانت قبلته ذاته ونفسه، فلیترك مثل هذا الإنسان الطریق للعشاق ولیكف عن تقوّل العشق.
یقول الإمام الخمینی:
سَرِ خودكیر وره عشق به رهوار سیار
كر ندارى سرِ عشّاق وندانی ره عشق
وما أجمل الشاعر العربی الذی عبّر عن هذه الحقیقة بلغة شعریة عامیة مغنّاة أطربتنا أیام الشباب إذ قال:
حبّ إیه اللی انته جای تقول علیه
أنت عارف قبل معنى الحبّ إیه
كان هواك خلاّك ملاك
إنت لو حبیت یومین
لیه بتتجنه كده عالحبِّ لیه
ویعبر الإمام الخمینی عن تجاوز العارف لذاته حین یدخل فی عالم العرفان والعشق فیقول:
جسم بیمار ترادیدم وبیمار شدم
من به خال لبت أی دوست كرفتارسدم
همجو منصور خریدارسر دارشدم
فارغ ازخودتشدم وكوس "أنا الحق" بزدم
4- العرفان - الأدب
الأدیب الممتاز مثل كلّ فنان ومبتكر ممتاز عاشق یخرج من إطار ذاتیة الطین لیرتفع إلى عمق هذا الكون، مع اختلاف بین الأدباء فی درجة هذا العشق حسب مستوى هذا الأدیب أو ذاك.
فالأدیب إذن عارف، ویستطیع فی لحظات توهّج مشاعره أن یرتبط بعالم أسمى من هذا العالم المادیّ المحدود فیقدّم لنا تجربة شعوریة خالدة ینقلها لنا شعراً أو نثراً ذا تأثیر خالد فی المستمع والقارئ.
والشعر بالذات یعبّر أفضل تعبیر عن مفهوم الأدیب لأنه "الفناء المطلق بما فی النفس من مشاعر وأحاسیس وانفعالات، حین ترتفع هذه المشاعر والأحاسیس عن الحیاة العادیة، وحین تصل هذه الانفعالات إلى درجة التوهج والإشراق أو الرفرفة والانسیاب على نحو من الأنحاء.." (النقد الأدبی/ 57)
من هنا نستطیع أن نفهم سبب انتشار لغة الشعر عند العرفاء، لأن اللغة العادیة لا تستطیع أن تعبّر عن توهّج المشاعر، فلابد أن تصحبها الموسیقى والخیال والظلال لكی تستطیع أن تنقل الشحنة العاطفیة المتراكمة فی نفس العارف.
الجلال والجمال
كثر الحدیث عن معنى الجلال والجمال وعن ارتباط الاثنین مع ما بینهما من تضاد على الظاهر، فالجلال مظهر الغلبة والقهر والقدرة، والجمال مظهر اللطف والرحمة. وهو كلام طویل لا طائل تحته، لأن الإنسان العاشق یرى دائماً فی معشوقة الجلال والجمال. قال الشاعر العربی:
أهابك إجلالا وما بك قدرة *** علیّ ولكن ملء عین حبیبها
وقال آخر:
یصرعن ذا اللب حتى لا حراك به *** وهن أضعف خلق الله إنسانا
ویذكر ابن عربی أنه ما ذاق فی نفسه القهر الإلهی قط ولا كان له من هذه الحضرة فیه حكم. (الفتوحات 4/316).
ولكنه هو یذكر فی فصّ الآدمی (ص54):
"إن الحق وصف نفسه بأنه ظاهر وباطن، فأوجد العالمَ عالمَ غیب وشهادة، لندرك الباطل بغیبنا، والظاهر بشهادتنا.
ووصف نفسه بالرضا والغضب، وأوجد العالم ذا خوف ورجاء فتخاف غضبه وترجو رضاه. ووصف نفسه بأنه جمیل وذو جلال، فأوجدنا على هَیبة وأُنس، فعبّر عن هاتین الصفتین بالیدین".
ویرى ابن عربی أن التجلی الإلهی للبشر لا یكون إلاّ فی جلال جماله یقول: "ولحضرة الجلال السُبُعات الوجهیة المحرقة، ولهذا لا یتجلى فی جلاله أبداً، ولكن یتجلى فی جلال جماله لعباده، فیه یقع التجلّی، فیشهدونه مظهر ما ظهر من القهر الإلهی فی العالم" (الفتوحات 3/543).
وكما ذكرت إن الجلال والجمال مترابطان، إذا تجلّى الجمال ملك شغاف القلب وقهر العاشق، وخلق فی نفسه هیبة ورهبة ووجلا. فالإنسان العاشق دائماً بین خوف ورجاء یعتوران فی قلبه فیزداد اندفاعاً نحو طلب رضا المعشوق وتحقیق المُثُل التی یطلبها المعشوق.
وفی الأدب العرفانی الفارسی یشبّهون صباحة وجه الحبیب بتجلّی الجمال، ویشبهون ذؤابة شعر المعشوق على صدغیه وسحر عیونه النجلاء بتجلّی الجمال. یقول الشاعر:
تجلّى كَه جمال وكَه جلال است
رخ وزلف أن معانی امثال است
ومما لاشك فیه أن صباحة وجه الحبیب لا تكتمل إلاّ بعقارب الصدغین وسحر العینین، وهكذا الجمال لا یكتمل إلا بهذا السحر الذی یصرع ذا اللب حتى لا حراك له.
وبمناسبة قول ابن عربی بأن الله "جمیل ذو جلال، فأوجدنا على هَیبة وأنس، فعبّر عن هاتین الضفتین بالیدین" أقول إن الإمام الخمینی یتحدث عن هذه الید فی أشعاره بأنها الید اللطیفة معبراً عن الجلال بالید باعتبارها رمز القدرة، وعن الجمال باللطیفة. یقول:
باده ازدست لطیف تودراین فصل بهار
جان فزاید، كن در این فصل بهار أمده ام
لماذا ینشد الإنسان الجمال؟
عن هذا السؤال كثرت الأجوبة فی المدارس الفلسفیة، غیر أن ابن عربی ینقل عن رسول الله (ص) حدیثاً له دلالته البالغة فی التعبیر عن النظریة الجمالیة لدى هذا العارف، وفی الإجابة عن السؤال المذكور.
فی الفتوحات (ج4، ص369) یروى عن صحیح مسلم قوله (ص): "إن الله جمیل یحب الجمال"
فالله جمیل وهذا كاف لیعبّر عن سبب اتجاه الإنسان نحو الجمال، وهكذا نحو كل صفات جلال الله وجماله كالعلم، والقدرة، والسعة، والغنى، والكرم، والانتقام من الظالمین، ونصرة المظلومین، والقهر، والغلبة و...
فالإنسان مخلوق بفطرته لكی یكدح كدحاً نحو الله لیلاقیه، والكدح نحو الله لیس قطع مسافة مكانیة، بل قطع أشواط على طریق التخلق بأخلاق الله. هذه هی فطرته التی فُطِر علیها، إنه یتجه بفطرته نحو المثل الأعلى، فإن كان مؤمناً بالله الواحد الأحد اتجه نحو المثل الأعلى الحقیقی الذی خلق الإنسان ورسم له طریق تكامله اللامتناهی، وإن كان كافراً اتجه أیضاً نحو مثل أعلى، ولكن نحو مثل أعلى سرابی:
مثل الذین كفروا ...
الإمام الخمینی فی شعره العرفانی یعبّر عن هذه الحقیقة.. حقیقة أن الإنسان مخلوق وهو عاشق هائم فی طلب المعشوق بقوله:
مازاده عشقیم ویسر خوانده جامیم
درست وجابنازی دلدار تمامیم
5- العرفان والغزل
الغزل إظهار الشوق إلى المحبوب، والحدیث عن لوعة فراقه، وذكر أوصاف جلاله وجماله، وإذا تحدّد هذا المحبوب بامرأة معینة فإن هذه المرأة هی الوسیلة التی ینتقل منها المتغزل من النسبی إلى المطلق، وهی النافذة التی یطلّ منها الغزلیّ إلى عالم الجمال المطلق.
مما تقدم لا نرى الوصف الحسّی للمرأة وذكر العلاقة الجنسیة بها من الغزل، لأنه یتعارض مع روح الغزل التی ترید أن ترفع الشاعر إلى عالم الجمال المطلق.
والواقع أن كل شاعر عاشق، وكل عاشق عارف، ولو جفّ العشق لجفّت روح الشعر والعرفان أیضاً فی نفس الإنسان. ولانطفأت النار الملتهبة فی صدره.
یقول العطار فی منطق الطیر/ ص186- 187 بعد أن یسمى العشق الوادی الثانی من الأودیة السبعة:
بعد از أن، وادیّ عشق آید یدید
غرق اتش شد كبی كه أنجار سید
عاشق أن باشد كه جون أتش بود
كرمْرو، سوزنده وسركش بود..
عقل درسوداه عشق استادنیست
عشق، كار عقل مادرزادنیست
عشق اینجا أتش است وعقل دود
عشق جون أمد كَر یزد عقل زود
أی: إن وادی العشق یغرق العاشق فی النار، غیر أن العاشق الحقیقی كالنار ساخن وحارق وطاغ.. والعقل لیس بحاكم فی دنیا العشق، فوظیفة العشق غیر مهمة العقل، فالعشق نار والعقل دخان، وإن شبت النار زال الدخان، وإن جاء العشق فرّ العقل بسرعة.
وفی الأبیات حدیث عن العلاقة بین الشعور والعقل لا مجال لذكره فی هذا الحدیث.
وابن عربی ممن عاش فی وادی العشق، وتحدث عنه فی غزل عبّر فیه عن جلال المحبوب وجماله.
وهنا أشیر إلى أن غزل ابن عربی لم یكن فی الله مباشرة وإنما كان فی امرأة، أمرأة عاشت حیاة حقیقیة أو خیالیة، ولا فرق بین الاثنتین، المهم أنهما ملكتا قلبه، وأثارتا فی نفسه الشوق إلى الجمال المطلق.
ومن الطریف أن تكون المرأة الأولى إیرانیة أصفهانیة وهی التی نظم فیها أشواقه وأحسن قلائده یقول:
"لما نزلت بمكة سنة خمسمائة وثمان وتسعین، ألفیت جماعة من الفضلاء، ولم أرَ فیهم مع فضلهم مثل أبی شجاع بن رُستَم الأصفهانی، وكان لهذا الشیخ بنت تقید النظر وتزین المحاضر، علمُها عَمَلُها، علیها مسحةُ مَلَك وهمّة مَلِك، فقلدناها من نظمنا فی هذا الكتاب أحسن القلائد، فكل اسم أذكره فی هذا الجزء فعنها یكنی، ولم أزل فیما نظمته، فی ذا الجزء على الإیماء إلى الواردات للإلهیة، والتنزلات الروحیة، والمناسبات العلویة، جریا على طریقتنا المُثلى، والله یعصم قارئ هذا الدیوان مَنْ سبقَ خاطرُه إلى ما لا یلیق بالنفوس الأبیة والهمم العلیة المتعلقة بالأمور السماویة.."
هی بنت العراق بنت إمامی *** وأنا ضدَّها سلیلُ یمانی
هل رأیتم یا سادتی أو سمعتم *** أنّ ضدین قطّ یجتمعانِ
لو ترانا برامةٍ نتعاطى *** أكؤساً للهوى بغیر بَنانِ
والهوى بیننا یسوق حدیثاً *** طیباً مطرباً بغیر لسانِ
لرأیتم ما یذهبُ العقلُ فیه *** یمنٌ والعراق مقتنعانِ
كذب الشاعر الذی قال قبلی *** وبأحجار عقله قد رمانی
أیها المنكح الثریّا سهیلا *** عَمْرَكَ الله كیف یلتقیان
هی شامیة إذا ما استهلّت *** وسهیل إذا استهلَ یمانی
مرضی من مریضة الأجفان *** علّانی بذكرها علّانی
هَفَت الوُرق بالریاض وناحت *** شجْوُ هذا الحَمام مما شجانی
بأبی طفلةٌ لعوب تَهادى *** من بناتِ للخدرِ بین الغوانی
طلعت فی العِیان شمسا فلما *** أفلت أشرقت بأفقِ جنانی
یا طلولاً برامةٍ دارساتٍ *** كم رأت من كواعبٍ وحسانِ
بأبی ثم بی غزالٌ ربیب *** یرتعی بین أضلعی فی أمانِ
ما علیه من نارها فهی نور *** هكذا النور مُخمِدُ النیرانِ
یا خلیلیَّ عرّجا بعَیانی *** لأرى رسم دارها بِعیانی
فإذا ما بلغتما الدار حُطّا *** وبها صاحبیَّ فلتبكیانی
وقفا بی على الطلول قلیلا *** نتباكى، بل أبْكِ مما دهانی
الهوى راشقی بغیر سهام *** الهوى قاتلی بغیر سنانِ
عرّ فانی إذا بكیت لدیها *** تُسعدانی على البُكا تُسعدانی
واذكروا لی حدیث هندٍ ولبنى *** وسلیمى وزینبٍ وعِنانِ
ثم زیدا من خاجر وزرود *** خبراً عن مراتع الغِزلانِ
واندبانی بشعر قیس ولیلى *** وبَمیٍّ والمبتلى غیلانِ
طال شوقی لطفلة ذات نثرٍ *** ونظامٍ ومنبرٍ وبیانِ
من بنات الملوك من دار فُرسٍ *** من أجلِّ البلادِ من إصبهان
كنت أطوف ذات لیلة بالبیت فطاب وقتی، وهزّنی حال كنت أعرفه، فخرجت من البلاط من أجل الناس، وطفت على الرسل، فحضرتنی أبیات، فأنشدتها أُسمِع بها نفسی ومن یلینی لو كان هناك أحد، فقلت:
لیت شعری هل دروا *** أیّ قلب ملكوا
وفؤادی لو دوى *** أیّ شِعب سلكوا
أتراهم سلموا *** أم تراهم هلكوا
حار أرباب الهوى *** فی الهوى وارتبكوا

فلم أشعر إلاّ بضربة بین كتفیّ بید ألین من الخزّ، فالتفت فإذا بجاریة من بنات الروم لم أرَ أحسن وجهاً ولا أعذب منطقاً، ولا أرقّ حاشیة، ولا ألطف معنى، ولا أدق إشارة، ولا أظرف محاورة منها، قد فاقت أهل زمانها ظرفاً وأدباً وجمالاً ومعرفة" ثم تبدأ هذه الجاریة تستنشده الأبیات.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:9|
لوركا قتیل اسبانیا المرتحل فی شعر السیاب والبیاتی ودرویش (2-2) - قصائد لمدن مسحورة تشهد علی مصرع شاعر - د. عدنان الظاهر
فیدیریكو غارسیا لوركا شاعر إسبانی متمیز قتله الحرس الأسود الفاشی عام 1936 وهو فی الثامنة والثلاثین من عمره فی غرناطة آوائل الحرب الأهلیة (1936 ــ 1939) التی قاد الثورة المضادة فیها الجنرال فرانكو إذ نجح فی عبور مضیق جبل طارق من جهة المغرب یقود أربع فرق عسكریة وكان یقول لدیَّ هناك داخل إسبانیا طابور خامس. من فرانكو جاء هذا المصطلح الذی أصبح شهیراً فی عالمی السیاسة والحرب.كان لوركا محسوباً علی الیسار السیاسی وكان معادیاً للدكتاتوریة. أشهر أعماله مسرحیة (عُرُس الدم). تمیّز بطریقة جدیدة فی كتابة الشعر تمتزج فیها رمزیة وسوریالیة شعراء عشرینیات القرن الماضی الفرنسیین المعروفین مع أسلوب كتابة الحكایات التراثیة الشعبیة الأندلسیة.كما كان له هوی خاصاً بتراث وأغانی غجر الأندلس. الفارس وغریمه
فی المقطع الرابع ینسی البیاتی غرناطة المدینة المسحورة فینصرف مأخوذاً إلی وصف واحدٍ من مشاهد مصارعة الثیران المعروفة فی إسبانیا. لقد سبق وأن مهّد الشاعر لذلك فی المقطع الأول، فلقد ذكر أنكیدو قاتل الثور السماوی. فی هذا المقطع نری أنكیدو لا جسداً بارداً طریح فراش الموت بل إنساناً معدّاً إعداداً جیداً لمصارعة الثیران. لكن مع فارق جدَّ كبیر: یطعن الفارسُ غریمَه البهیمة طعنةً غیر قتّالة، لكنه هو، الفارس أنكیدو، من یخسر المبارزة فی نهایة المطاف إذ یسقط قتیلاً مضرجاً بدمائه الساخنة. الثور یخور جریحاً فی الساحة وسط تهریج جمهور المتفرجین. هل سقط الثور كالفارس المصارع قتیلاً؟ السطر الأخیر فی هذا المقطع لا یفصح عن ذلك صراحةً (والثورُ فی الساحةِ مطعوناً بأعلی صوتهِ یخور). فالفعل یخور قد یعنی الخوَر (تخورقواه فیسقط علی الأرض حیّاً لكنْ منهوك القوی أو أن یسقط میتاً) وقد یعنی الخُوار (خوار الثور، مثل عواء الكلب ومواء القطط...). فی وسط هذا المقطع نقرأ (فمانِ أحمرانِ فاغرانْ) وهی إشارة واضحة تدل علی سقوط كلٍّ من الفارس والثور الخصم قتلی.
هل یجوز لی أن أُطلق علی هذا المقطع إسم (مشهد مصارعة الثیران)؟ وهل یجوز لی أنْ أقترح حذف هذا المقطع من مجمل القصیدة المكرّسة أصلاً للشاعر الفذ لوركا؟ أُرجّحُ بقاء المقطع كما هو، فلوركا إبن إسبانیا وإسبانیا أرض مصارعة الثیران العنیفة التی تسیل فیها دماء الثیران أو الفرسان أو كلیهما أحیاناً. أراد البیاتی أن یقولَ إن بلداً كهذا وإن أرضاً كهذه وإنَّ شعباً كهذا مُهیأةٌ بطبیعتها لوقوع كارثة إنقلاب الردة الدمویة التی وقعت عام 1936 وكان من أبرز ضحایاها الشاعر فیدیریكو غارسیا لوركا. اللوحة تمثّلُ خلفیةً ممتازة وتمهیداً لما وقع وكان البیاتی بحق بارعاً فی رسم صور مشهد مصارعة الثیران. یُخیل لی أن البیاتی أفاد كثیراً من رسوم لوحة الرسّام الإسبانی بیكاسو الشهیرة (غیورنیكا) التی خلّد فیها بالأسود والأبیض مأساة مدینة غیورنیكا التی دمرتها الطائرات الألمانیة خلال الحرب الأهلیة إیاها التی أشعل فرانكو فتیل حرائقها. لقد أعان بذلك هتلر قرینه الجنرال فرانكو. فی هذه اللوحة یقف ببرود ثور كبیر مثل ثیران المصارعة كأنه خرج لتوّهِ منتصراً وسط وضعٍ متوتر مشحون بأجواء الموت والخراب والدمار. سیف مكسور وأصابع مقطوعة ورؤوس مشوّهة وأم تحمل طفلاً تبحث عن الأمل والخلاص فی بصیص من ضوءِ مصباحٍ معلّق فوق الرؤوس. هل هذا الثور البارد الأعصاب هو الجنرال الدموی فرانكو بعینه؟ الثور الذی فاز بمعركة الصراع وخرج منتصراً علی شعب بأكمله بعد أن أغرقه بالدماء والموت والحرائق. أین مكان الشاعر لوركا فی هذه اللوحة؟ أین لوركا صاحب مسرحیة (عُرُس الدم)؟
إذا قتل الشاعر دیك الجن حبیبته وأحرق جثتها فی ساعة سكرٍ وجبل من رمادها كأساً
لشرابه فإن لوركا ما كان حبیباً ولا كان أثیراً لدی قاتله فرانكو كما هو معلوم.لم یُحرقْ جثمانُه ولا أحدَ یعرف أین تمَّ دفن جسده وتحت أیة تربةٍ فی غرناطة. إذن لا سبیلَ للمقارنة أو المقابلة بین الواقعتین. قصیدة (دیك الجن) جاءت فی الدیوان بعد مراثی لوركا مباشرةً.
مرّةً أخری، نواجه فلسفة البیاتی وإیمانه القوی الراسخ أنَّ بعض مظاهر الطبیعة ووقائع الحیاة تتكرر بهذا الشكل أو بذاك. النتیجة واحدة وإنْ تعددت وتنوّعت الوسائل والتفصیلات. فكما أنَّ عائشة تبقی عائشة، المرأة حواء وإبنة حواء بصرف النظر عمّا تقوم به من أدوار.كذلك الموت، یبقی موتاً مهما تعددت سبل تنفیذه، سواء جاء نتیجة طعنة سیف أو خنجر أو جاء نتیجةً لطعنةٍ بقرن خنزیرٍ أو ثور أو بإطلاقة حرسٍ فاشیٍّ أسود أو بشظیة قنبلة مدفع أو برصاصة عدو فی إحدی جبهات القتال أو أن یموتَ الإنسانُ حتف أنفه فی بیته علی سریر نومه أو علی سریر أحد المستشفیات. وعلیه فإنّ الموت هو سریر واحد یضطجع علیه مناصفةً كلٌّ من لوركا القتیل وعشیقة دیك الجن القتیلة.
أفلم یقل شاعر مجهول:
ومن لم یمتْ بالسیفِ مات بغیرهِ
تعددت الأسبابُ والموتُ واحدُ
وقال أبو الطیب المتنبی:
فطعمُ الموتِ فی أمرٍ حقیرٍ
كطعمِ الموتِ فی أمرٍ عظیمِ

یتكلم البیاتی فی المقطع الأخیر وهو السادس عن المدن التی أخلفت المدینة المسحورة غرناطة. إنه یضع المدن الأكثر سوءاً فی مقابل المدن الأكثر نقاءً وجمالاً. فمدرید أضحت عاصمة الدیكتاتور فرانكو بعد أن سقطت مدینة النور غرناطة. مدرید التی إنبطحت أمام جحافل الفاشیست أصبحت مدینة (الضرورة) التی تقرض الفئرانُ فیها الرجال الذین یتشوهون ویتلوثون لا محالةَ فی أوساخ مثل هذه المدن وبما أتی به الطوفان من أعراف
وتقالید لا تمتُّ بصلةٍ لأعراف وتقالید مدینة النور المسحورة. لقد قابل المدینة الرأسمالیة الجدیدة مدرید برمزٍ لمدینة وحضارةٍ كانت تسیر فی الطریق لبناء الإشتراكیة، وكان لوركا محسوباً علی الیسار الإشتراكی.
فی هذا المقطع یتلمس المرء خیوطاً ضعیفة متأثرة بما كتب الشاعر الإنجلیزی توماس إلیوت فی قصیدته الشهیرة (الأرض الخراب) The Waste Land.
درویش ولوركا
لوركا هو عنوان قصیدة محمود درویش، كلمة واحدة فقط، كلمة بسیطة. القصیدة تنتشرُ علی أربع صفحات صغیرة (نفس قیاس صفحات دیوان السیاب) جعل الشعر فیها علی شكل رباعیات ذكر فیها مدرید مرتین ولوركا ثلاث مرات وكذا ذكر إسبانیا ثلاث مرّاتٍ. وكسابقیه الشاعرین إلتزم درویش إیقاع التفعیلة ودرج مثلهما علی الوقوف علی القوافی وآواخر الأبیات أو السطور إلاّ فیما ندر من الحالات.
هل ظلمتُ الرجل إذ وضعته فی صف واحدٍ وعلی منصّة واحدة من حیث الإرتفاع عن مستوی الأرض مع السیابالسیاب والبیاتی شدیدَ الإعجاب بقصیدة محمود درویش. نعم، وبقیتُ كذلك بعد أن فرغت من دراسة هاتین القصیدتین. وجدته یتخذ لنفسه فی هذه القصیدة مكاناً لائقاً فی ذات الحافلة التی یستقلها مع السیاب والبیاتی. ولكی نتفهم قصیدته جیداً علینا أن نفهم أنَّ ظروفه وتكوینه وثقافته تختلف بشكل جوهری عن ظروف وتكوین وثقافة الشاعرین الآخرین. ما كان علیلاً ومنبوذاً ومحُارباً فی رزقه ولقمة أطفاله وقبیح الصورة كالسیاب الذی كان أشدهم معاناة وأكثرهم بؤساً فی حیاته القصیرة. ولا كان فقیراً مُدقِعاً شدید التلوّن السیاسی كالبیاتی الذی ذاق الحالین فی حیاته الطویلة: المُرَّ فی موسكو والحلو فی القاهرة ومدرید وعمّان ثم دمشق حیث یرقد جثمانه تحت ثراها.
تشرّدٍ وحرمان ومنافٍ
لقد رأی كلٌ منهم شیئاً من لوركا فی نفسه أو رأی شیئاً من نفسه فی لوركا. ثلاثتهم شعراء إنخرطوا بهذا الشكل أو ذاك فی العمل السیاسی وتحمّلوا جرّاء ذلك ما تحمّلوا من فصل من الوظائف وتشرّدٍ وحرمان ومنافٍ. لكن یظلُ درویش متمیزاً بأمور كثیرة أخری تباعد ما بینه وبینهما. فهو ربیب حیفا المُترف وشاعر فلسطین المبرِّز ومدلل الشعراء العرب والنخبة العربیة المثقفة، وهوالمناضل الثابت من أجل فلسطین سیاسةً وعقیدةً.لم ینقلبْ ولم یتلون ولم یتغیر كما فعل صاحباه. عانی ما عانی فی بیروت بعد الإجتیاح الإسرائیلی للبنان. ثم أصبح بعد ذلك أحد الوجوه البارزة فی منظمة التحریر الفلسطینیة وسفیراً لفلسطین فی باریس.كل هذه العوامل مجتمعةً تجعله مختلفاً عن صاحبیه فی أسلوب التعامل مع موضوع تراجیدی معقد كموضوع مصرع لوركا. لا یقل عن ذلك أهمیةً موضوع المرأة فی أشعاره. فبیئته المنفتحة فی حیفا وصداقاته المنوعة مع الجنس الناعم ثم إقامته الطویلة فی بیروت ثم سفارته فی باریس عاصمة الثورات والعطور والجمال والمتاحف والزهور والأناقة والترف الحضاری... كل هذه العوامل جعلت الشاعر دونما أدنی ریب مخلوقاً آخر یختلف جذریاً عن السیاب الذی كان یشكو أبداً من الحرمان الجنسی وحین تزوج قرینته أم غیلان لم یعرف إمرأة أخری سواها. وكذلك كان الأمر مع عبد الوهاب البیاتی، فقد قضّی أعوام شبابه الباكر وأعوام الدراسة فی دار المعلمین العالیة من دون أن یعرف طعم الحب أو الصداقة مع الجنس الآخر. فی شعره نجد إشاراتٍ كثیرة عن الحب لكنها مجرد نظم وتلفیق (وشطحات صوفیة) وبقایا أمانی سنیِّ المراهقة. وحین إقترن بإبنة عمه أم علی لم یعرف إمرأةً سواها علی الإطلاق. أردتُ أن أقول إنَّ روح وتربة وطینة محمود درویش ونشأته وبیئاته الرقیقة والناعمة والأرستقراطیة أحیاناً أعدّته لأن یكون شاعر رومانس وفتنة وجمال وغزل متمیزاً ومتفوقاً علی صاحبیه. هل من عجب حین نجد الشاعر یمزج هذه الأجواء المخملیة بألفاظ العنف والخروج عن (الأتیكیت) الدبلوماسی الذی تعلّمه فیما بعد فأتقنه فی باریس سفیراً لبلده فلسطین؟ نقرأ فی قصیدته ألفاظاً مثل الدم والزلزال والإعصار والریاح والزئیر وتطایر أحجار الشوارع والنظر الشزْر والأسیاف والجرح والإعدام. عاش وعایش درویش كارثة إحتلال فلسطین ومحنة شعبه تحت الإحتلال والتفرقة والتعسف. ترك أو أُجبرَ علی ترك وطنه لیجد نفسه بعد ذلك فی بیروت محاطاً بالدماء والخراب والقصف العشوائی والموت الیومی أثناء الإجتیاح الإسرائیلی عام 1982. هل كان الشاعر یتنبأ بما سیقع فی لبنان ساعات كتابته لهذه القصیدة فأفرغ فیها تفاصیل نبؤته وإختلط فیها الماضی الجمیل العریق بالمستقبل المظلم الأسود حیناً والأحمر دماً أحیانا؟ هذا ما حصل. نقرأ أغلبَ ما جاء فی قصیدة (لوركا) لمحمود درویش:
(عفوَ زهرِ الدم یا لوركا وشمسٌ فی یدیكْ
وصلیبٌ یرتدی نارَ قصیدةْ
أجملُ الفرسانِ فی اللیلِ یحجّون إلیكْ
بشهیدٍ وشهیدةْ.
هكذا الشاعرُ زلزالٌ وإعصارُ میاهْ
وریاحٌ إنْ زأرْ
یهمسُ الشارع للشارعِ قد مرّت خطاهْ
فتطایرْ یا حجرْ.
القصیدة واضحة تفصح بتواضع جمٍّ عن مضامینها. إنها خالیة من بُنی السیاب الفكریة المعقدة والتجرید والتضمین والتقدیم والتأخیر وشراع كولومبس. ولا نجد فیها إستطرادات البیاتی وخلطه الأوراق المحكم وتهویماته الصوفیة وإفراطه فی الرمز والرجوع إلی التأریخ القدیم سائحاً وبحاراً ممتازاً. لیس فیها أنكیدو وعشتار وعائشة وأمیرات بابل وصور مصارعة الثیران وقائمة الحیوانات الطویلة. لا شیءَ من ذلك فیها. إنها أُغنیة تصدح بالنغم والإیقاعات التی تدخل النفس بسهولة وعفویة. یتكلم عن شاعر قتیل من خلال أجواء دینیة مسیحیة (الصلیب) والتراتیل ثم یذكر الإله والموسیقی والحج والشهادة والصلاة والأقمار. أجواء وطقوس كنسیة معروفة فی البلدان المسیحیة وكان لوركا مسیحیاً فی إسبانیا الكاثولیكیة.لقد قاد فرانكو إنقلاب الردة الأسود بدعوی إنقاذ المسیحیة الكاثولیكیة من الإلحاد.
والبیاتی لأقارن بین ما قال هو وما قال الشاعران الآخران حول موضوع واحد؟ الجواب كلاّ. الغریب ــ وما أكثر الغرائب فی الحیاة ــ إنی كنت قبل أن أدرس قصیدتی الفرسان والقمر
ثم لا ینسی درویش وقد ذكر الموسیقی والتراتیل أن یذكر آلة العزف الإسبانیة المشهورة (الجیتار) والغجر الذین یستخدمون هذه الآلة فی غنائهم المرافق لرقصة (الفلامنكو) الأندلسیة ذائعة الصیت. ثم تعود عروق محمود بالضرب علی أوتار روحه وطبیعته الرومانسیة فیذكر أجمل الفرسان والقمر ــ العُش والحسناء وحدیث الحب وأجمل الفتیان وعطر زهر البرتقال.لم نجد هذه الأجواء الفارهة فی قصیدة السیاب لكن قد نجد القلیل القلیل جداً جداً منها فی قصیدة البیاتی. أحسبُ أنَّ المحاكمة الأكثر عدلاً هی فی مقارنة هذه القصیدة بالذات مع أشعار نزار قبانی التی قالها عن إسبانیا والأندلس وغرناطة وقصر الحمراء وهی كثیرة فی دواوین نزار. لیس لدی شك فی أنَّ درویش قد درس جیداً وإستوعب أشعار نزار هذه وتمثلها وهضمها فتأثر بها عمیقاً قبل أن یجلس لیكتب قصیدة (لوركا). الرجل لا ینكر تأثره بباقی الشعراء، وتلكم فضیلة یُحمد علیها.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:8|
یقول أدونیس : "الشعر رؤیا بفعل ،و الثورة فعل برؤیا "ومن هنا فهو یوضح الجدل بین الشعر و الثورة و ما فی الشعر من شوق إلى الحیاة المتحركة المتصاعدة ،و ما فی الثورة من نار الإلهام الشعری ،ومن هذا المنطلق تبرز أهمیة بدر شاكر السیاب كواحد من أبرز أعلام الحركة الشعریة المعاصرة بوجهها الثوری ،و هنا تنزل قصیدته "أنشودة المطر "من مجموعته التی تضم أشهر قصائده ، و التی ألفها فی فترة كان وضع العراق متأزما على جمیع الأصعدة ،
إثر استقالة رئیس الوزراء فاضل الجمالی و فشله فی الإصلاحات الزراعیة والاجتماعیة و قد زاد شقاء الشعب حدته
فیضان دجلة الذی هدد بغداد فی ربیع 1954 م ، و آلم السیاب أن یرى مثل هذا الشقاء فی بلاده و تذكر أیام ضیاعه و تشرده فی الكویت و فقره وهو بعید عن العراق ، فاضطرم الحنین فی أعماقه إلى ربوع بلاده و إذا بقصیدة تتولد عن قریحته ، تختلف عن قصائده هی أنشودة المطر ، نشرها فی مجلة الآداب جوان 1954م و نشرت سنة 1960م ضمن المجموعة ، جاء فی مقدمتها كلمة للسیاب یقول فیها :"إنها من وحی أیام الضیاع فی الكویت على الخلیج العربی " .
إن أنشودة المطر ، تندرج ضمن النصوص التی تنتمی إلى الحقل الوجدانی ، و فیها عمق المعانی الوطنیة بربطه بین الحبیبة و الوطن ، كما صورت تداعیات السیاب المستوحاة من ذاكرة الحب و الطفولة و من ذكریات الغربة و النضال .
بنیت قصیدة أنشودة المطر على مجموعة من الحركات المتداخلة ، ینبنی هیكلها الخارجی على تسع مقطوعات ،
و ینبنی هیكلها الداخلی على ثلاث علاقات : علاقة الشاعر بالحبیبة ثم علاقة الشاعر بالأم ،و أخیرا علاقة الشاعر بالوطن ، و تدور القصیدة حول محور واضح تدور حوله كل المعانی ،وهو كلمة مطر عنصر موحد لكل الحركات المتداخلة فی نسیج النص ، یربط بین الحبیبة التی یخصبها المطر و بین الأم التی استحالت إلى عنصر من عناصر الطبیعة
و بین الوطن العراق الذی تحوله إلى خصوبة .
إن كلمة مطر منبع حركة مسترسلة تنبض منها المعانی و تنمو و منها ینسج الشاعر أحاسیسه و یتواصل فی الزمان .
و كلمة مطر طاقة صوتیة توزعت توزیعا متنوعا و بأشكال مختلفة ، بصورة مثلثة الإیقاع تردد ست مرات كلازمة كبرى ، و بصورة ثنائیة تردد مرتین كلازمة متوسطة تردد خمسا و ثلاثین مرة و بصورة مفردة الإیقاع تردد ثلاث عشرة مرة كلازمة صغرى .
فالشاعر أحدث تنویعات على كلمة مطر و قد أضفى هذا التردید على القصیدة جوا طقوسیا أو قداسیا یوحی بابتهالات الشاعر فی حضرة أنثى ،و هنا تكشف كلمة مطر دلالتها الرمزیة ، أبرزه النقاد و ربطوه بتموز و بعشتار رمز الخصب عند الكلدانیین ،و نلاحظ ارتفاع الشاعر بدلالة الماء لم یبق فی مفهومه الضیق كعنصر من عناصر الطبیعة بل جعله عبارة ذات طاقة سحریة تعطی دفقها الشعری فی القصیدة .
و بدخول كلمة مطر فی شبكة من العلاقات مع بقیة المفردات اكتسبت إمكانات متعددة من الدلالات تتظافر جمیعا لتوحی بمفهوم الثورة ، كما جاءت هذه الكلمة على لسان الأطفال و على لسان الصیاد و على لسان المهاجرین و فی صوت الرحى و على لسان الشاعر و فی ترجیع الصدى ، والمطر فعل تغییر فی الطبیعة و فی النفس .
تنفتح القصیدة بمطلع غزلی یحدد فیه الشاعر عنصر الزمن ، وقت السحر ، زمن فاصل بین الموت والحیاة بین الظلام و النور ، زمن التردد بین منزلتین الأمل و الیأس ، حالة من القلق و التوتر .

موضوع الغزل فی هذه القصیدة عینا الحبیبة حشد فیهما الشاعر الطبیعة بزمانها و بمكانها یأشجارها و بعمرانها ،
بلیلها و بنهارها ، خرج فیهما عن صورة العینین التقلیدیة إلى صورة أكثر طرافة تلتحم فیها الحبیبة بالطبیعة ،
و بهذا یعلن المطلع عن طابع القصیدة الوجدانی ، و تبدأ الحركة بالعینین فتنشأ ساكنة سكونا كلیا ساعة المیلاد،
ثم تتصاعد حركتها باتجاه العناصر الطبیعیة فتشهد تحولات كثیرة ( تورق الكروم . ترقص الأضواء. تنبض النجوم )
و یأتی الخطاب الشعری دفقا من المعانی ،و حشدا من الصور تتنامی شیئا فشیئا ، وتتولد صورة العینین : غایتا نخیل ساعة السحر ، صورة رومنسیة توحی بالهدوء و السكینة ، والصورة الثانیة لشرفتین ینأى عنهما القمر ، صورة توحی بحركة الفعل تنأى و بمفهوم البعد فی القصائد التقلیدیة و لكن التعبیر عنه جاء بأسلوب جدید اعتمد على الإیحاء .
و صورة ثالثة ، تجلت فی ابتسام العینین ،ربطها الشاعر بحركة الطبیعة ، و كأن الحیاة مصدرها عینی الحبیبة ، كما یوحی فعل ابتسم بالسعادة التی تتحقق بفضل حركة العینین ، هذه الصور حسیة بصریة تساهم الحركة تدریجیا فی تشكیلها و نحتها .
و عناصر الطبیعة تتجمع فی العین على أساس اعتبار العین محل البصر و وسیلة الرؤیا و النفاذ إلى عناصر الوجود .
و عناصر الطبیعة تخص العراق ، غابات نخیل فتتطلع الرؤیا نحو الوطن الحبیب .
و ینطلق الخطاب فی القسم الأول من القصیدة فی اتجاه أول ،من الشاعر إ لى الحبیبة ، یصور فیه أثر الضباب فی نفسه ، معبرا عن حزنه بالبكاء ، ویعود بنا فعل " تستفیق " إلى ذاكرة الشاعر ،یصوغها فی شكل ومضات واقعیة
تمتزج بالمسار الغنائی الإنشادی ، وتسمه بنبرة واقعیة ، و تجعله یكشف عن المتناقضات .
و نتساءل عن المعنى الذی حمله الشاعر لإنشاد الأطفال للمطر ؟ و للإجابة نكتفی بالإشارة إلى أننا نستطیع أن
نأخذ كلمتی الأطفال و العصافیر فی معناهما الحقیقی و تظل الوحدة مع ذلك موحیة نتیجة الصورة التی ترسمها و ما تخلفه من أبعاد تخییلیة لكن الرمز یسحب على الكلمتین فتوحی الأولى بتجدد الحیاة ،و طفولة العالم البریء ،و تدل الثانیة على الحریة والانطلاق ، ومن هنا یتمكن الشاعر من استدراج السامع و یحمله فی رحلة ذهنیة ،داخل عالم الدلالات المتنوعة .
و نحن أمام هذا التركیب الإنشادی ،كأننا بالشاعر یقص علینا أنشودة الأناشید ، رابطا بین همومه والعالم الخارجی
و ینغلق القسم الأول باللازمة جعلها الشاعر على لسان الأطفال ،لأنه ربط بین واقعه و ماضیه و أسس التقابلیة بین حاضره الملیء بالقلق و الحزن ،و طفولته السعیدة مؤكدا حنینه إلى الماضی ، كما نلاحظ جملة من التداعیات
بین الشاعر و ذاته ،فیقع المزج بینه و طفولته و قدسیة المطر .
أما القسم الثانی فی القصیدة ،یتغیر فیه عنصر الزمن : " تثاءب المساء " ، زمن یؤدی به الشاعر معنى الحزن و یتدرج بنا عن طریق التداعی ، فیصلنا صوت الشاعر من أعماق الذكرى المنبثقة من طبقة الوعی السفلی ،و تحتل تداعیات الشاعر المنبثقة من ذاكرة الطفولة حیزا مهما فی سلسلة التداعیات و تصدر عنها أغلب الومضات الواقعیة النابعة من الماضی ، ویتقابل القسم الثانی مع القسم الأول ، فالطفولة فیه تنشد الفرح ، و فی الثانی یتكثف معنى الحزن عن طریق ذكرى الموت ، كما أن الذاكرة لا تبنی أحداثا منسقة فی الزمان حسب مسار منطقی ، إنما تصدر من مخزون الألم و الحرمان .

و فی هذا القسم ربط الشاعر بین الجو الممطر الموحی بالكآبة و بین كآبة الطفل الیتیم و عمق حزنه بسؤاله ، وهنا
یضمن الشاعر الخطاب الشعری مضمونا قصصیا : قصة یتمه واصطدامه بالموت ، كما صور الشاعر معاملة الكبار للصغار فی قضیة الموت فهم لا یصرحون بها و لو همسا ، و یضمن الشاعر قصة الصیاد الحزین الذی یلعن المیاه و المطر لیضیف مأساة جدیدة دون أن یصرح بها فنفهم أن المطر تحولت إلى مصدر شقاء بعد أن كانت مصدر سعادة
و یتدرج الشاعر فی رسم علامات الحزن فی الوجود ، فیبدؤها بحزن الطفولة المصدومة بالموت و یربطها بحزن الصیاد الشقی و بحزنه ، فتبدو معاناته المكثفة ، و تبرز صورة المطر المتناقضة و یتوجه الشاعر إلى كل الذوات و یصبح الخطاب مرثیة تكسبه لغة المراثی لونا قاتما ( دموع _ لحود _تنشج _المزاریب ) .
و یستعید الشاعر فی هذا القسم طیف الحبیبة ، یبوح لها بحزنه بسبب المطر ، و یستعید جملة من الأحداث كان فیها غریبا بعیدا عن وطنه ، یصوغها فی شكل ذكریات و فی نفس تفجعی و یتحول الخلیج إلى رمز یجسد فیه الشاعر معنى الغربة و الضیاع و یساهم الصدى فی تعمیق غربته صدى یرجعه الخلیج كالنشیج و یضاعف الاستفهام حزنه ،و یأتی خطاب الشاعر مترجرجا مثل الدموع یؤدیه كاف التشبیه :(كالدم المراق ، كالجیاع ، كالحب ، كالأطفال كالموتى ) ضرب من الاختناق أو ما یشبه الاحتضار .
فی القسم الثالث یتحول السیاب من ذاكرة الغریب اللاجئ إلى ذاكرة المناضل المقموع فی العراق ، ویوظف كلمة العراق توظیفا سیاسیا واضحا و یتدرج فی تعریة واقع وطنه و یحمل مدلول المطر معنى الثورة على القهر الاجتماعی و السیاسی ،و یربط بین المطر و بین جوع الفقراء الدائم و یتفاءل بالثورة التی تهب الحیاة لكل الناس .
و هنا یصور المأساة الجماعیة من خلال نشید المهاجرین ، نلمس عمق الفاجعة ، فالجوع دائم رغم خصوبة الأرض
و الرحى لا تطحن حبا بل تطحن الحجر ،و التمر الردیء و فی دورا نها تدعو إلى الثورة و تظهر مرة أخرى ثنائیة الحیاة والموت و تتحول تجربة الشاعر من بعدها الذاتی إلى بعد إنسانی أعمق ، لتعانق جرح الإنسان فی كل زمان و فی كل مكان ویصبح الخطاب الشعری احتجاجا على لسان المضطهدین للتعبیر عن تطلعاتهم ولتحقیق حیاة فضلى
و بلوغ إنسانیتهم كما لعبت الأصوات دورا هائلا فی التعبیر عن الثورة ، إذ خلقت جوا حماسیا مكثفا أداه صوت الرحى و نداء الشاعر و أصوات المهاجرین ،و زاد الشاعر هذا الواقع إیقاعا درامیا بتضمینه قصة الغریق المجسدة
لمأساة الإنسان و صراعه مع الطبیعة .
قصیدة أنشودة المطر ،جاءت فی شكل ابتهال ، مزج فیها الشاعر بین الغنائیة الحالمة و بین الواقعیة الحادة ، و جاء فیها الرمز على جملة من الثنائیات منها : الحیاة و الموت _الذات و الموضوع _الجفاف و الخصب _الظلام و النور _الحزن والفرح . و یبرز صوت الشاعر مبتهلا فی حضرة عشتار الهة الخصب و العطاء ، ربة الطبیعة والحیاة المتجددة و التی تستمد صفاتها من عناصر الطبیعة . كما لعب الرمز دور الرابط الأساسی لجمیع العلاقات ، فتبنى
الحركة من الأنثى رمز الطبیعة إلى الأم و من الأم إلى العراق إلى الخلیج ، إلى المطر ، حلقة دائریة تمثل دورة الحیاة .
و نهض الرمز بوظیفة أخرى هامة فی كسر خط الغنائیة الرومنسیة الحالمة و خلق حركة انفعالیة توحی بنغم تفجعی
یبرز عمق المفارقات المتجذرة فی عمق الوجود المجسدة للصراع الإنسانی فی جل مظاهره .
إن الرمز فی قصیدة أنشودة المطر ،كسر هندسة القصیدة التقلیدیة ، و جعل بنیتها تجمع بین الشعر والغناء و القصة
و الخطاب الباطنی و تستقطب موضوعات متعددة یتداخل فیها الذاتی بالموضوعی و تنفصل عما یسمى فی النقد
بالغرض و تجعل الحیاة بكل مفارقاتها غرضها الرئیسی .
و نلاحظ حركة التداعیات التی تصلنا عبر صوت الشاعر الذی یحملنا من الحاضر إلى الماضی ثم یربط الحاضر بالمستقبل ، ثم یتحرك صوته من الغور إلى السطح و من الذات إلى الواقع الخارجی و تفصح ذاكرة الشاعر عن مخزونها فی شكل ومضات واضحة ، تنبثق من ذاكرة الطفل و من ذاكرة الغریب اللاجئ و من ذاكرة المناضل المقموع ،و هذه التداعیات بمثابة الأساس الذی تتكئ علیه القصیدة و قد ظهرت فی شكل صور تتوالد فصار
النص تراكما من الصور ، أولها صور تنبنی على التشبیه وهی طریقة تحصر الصورة فی مجرد وظیفة الوصف
أما الصور التی بناها الشاعر على الطباق فقد استطاعت أن تبرز المفارقة الكامنة فی عمق الحیاة .
و یبدو التناغم بین الصورة و الموسیقى الداخلیة ، فنلاحظ كثرة الأصوات المتضمنة لحرف الشین ، المؤدیة لوشوشة صوت المطر ، و بعض الصور أداها الشاعر بأسلوب الجناس و الطباق و الوسائل البلاغیة القدیمة و بهذا التلوین من التصویر ، تخرج قصیدة أنشودة المطر عن التصنیف الكلاسیكی إذ الصورة فیها وحدة بنائیة محوریة توحی بالأفكار و تلح علیها، وارتكز إیقاع القصیدة الداخلی على أسلوب التعاود وهو أهم عواملها فقد تكررت كلمة : مطر : 35 مرة و كلمة خلیج : 7 مرات ،و كلمة الردى :5 مرات و كلمة العراق : 5 مرات . و تكرار جملة ( یاواهب … ) و ( فی كل قطرة مطر ) و تكرار اللازمتین الأولى تختص بالمدى و الثانیة تتعلق بالمطر و عموما فإن طابع العبارة یغلب علیها طابع الماء : (نهر .مجداف .یغرق . بحر .سحاب . غیوم .مطر . قطرة خلیج .. الخ ).
إن ما یمكن الإشارة إلیه أن إثراء القصیدة بالبناء القصصی الدرامی بلغ أقصاه فی أنشودة المطر ،وقد ألغت رومنسیة الماضی بشكل غیر واضح و رسمت الخطوط الكبرى للقصیدة العربیة المعاصرة مجسدة قلق البحث
و التجدید فی أفق مستقبلها .
و لعلنا نتساءل عن توظیف بدر شاكر السیاب للأسطورة فی هذه القصیدة ، وللإجابة لابد من الإشارة أن قصائده السابقة لم تكن الأسطورة فیها دائما قادرة على الالتحام العضوی لما جاء فیها من ثقل فی التوظیف و لما كانت الألغاز فیها واردة لتضلیل الرقابة ، ولكنه فی قصیدة "أنشودة المطر "،أم دیوانه المسمى بها ابتكر فیها رمزا خاصا
به هو "المطر "، جعله یلف النص و یتغلغل فی جسده ، له شحنة دلالیة ثریة وهو العمود الذی انطلاقا منه تتفرع القصیدة فی اتجاهین ، اتجاه اسطوری واتجاه واقعی .
كما نسجل كیف تناول السیاب موضوع الخصب فی الطبیعة فقد وثب به وثبة عبقریة و حمل المطر رمز الثورة الاجتماعیة التی یرید أن تتفجر فی العراق ،و كیف جسد بإیقاع صوت المطر صورة درامیة فی المفارقات بین الخیر
و الشر و المجاعة و الاخضرار ، لقد جعل السیاب كلمة مطر رمزا أفرغ فیه معاناته و رؤیاه .
إن الأبعاد الأسطوریة فی القصیدة أهم مفاتیح فضاء المعنى و الالمام بأسطورة الخصب الأساسیة ، أسطورة أدونیس و عشتروت ، فضاء دلالی تتجدد منه دورة الحیاة ، و تنبع منه جل العلاقات : علاقة الابن بأمه _علاقة الأنثى بالطبیعة _علاقة الفصول بالموت و المیلاد _علاقة الصیاد بالماء _علاقة الغریق باللؤلؤ _ علاقة الماء بالماء فی دورته _علاقة الذكر بالأنثى علاقة الوطن بالأرض الأم عشتروت _علاقة الشاعر بالمجتمع _
إن الأسطورة عالم لخلق فضاء الصورة و البنیة الأسطوریة عمارة تشكل عروق الواقع و أنسجته .و أنشودة المطر رمز الأمل و الانتصار على القمع و البوار ،و الأسطورة فیها عالم لخلق فضاء الصورة و بنیتها عمارة تشكل عروق الواقع و أنسجته و جمع حقلها الدلالی تجربة السیاب السیاسیة و الاجتماعیة و الذاتیة و الرؤیا الشعریة التحدیثیة
ورغم ما فیها من أصداء شعر ألیوت و من أساطیر الخصب البابلیة و الكنعانیة بشكل عام تبقى إنجازا باهرا من إنجازات الشعر العربی فی الخمسینات .

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:8|
دلائل الاحتباس الشعری فی القرن الثانی الهجری



یحمل التاریخ فوق ظهره كتبا جمة، یطوی بعض سجلاتها تارة ویترك أخرى مفتوحة تارة أخرى، بعضها مدونة بأحبار سود مطرزة على جلد ذی نفس غیر عاقلة تحكی فترة رخاء وأخرى حبّرتها النصول بالقانی من الدماء على جلد ذی نفس عاقلة، وشكلت السیاط فی بعضها خطوط الصفحات یكتب فوقها الجلاد ما یرید، تحكی فترة شدة وعناء. وتاریخ المسلمین تقلب بین هذین النوعین من الجلود، ومالت الكفة إلى جلود البشر، فشهدت المجتمعات المسلمة على مدى أربعة عشر قرنا سماءأ صافیة فی بعضها وفی أكثرها تلبدت بالحالك من الغیوم تمطر عذابات.

ومثلَ القرن الثانی الهجری علامة فارقة فی تاریخ المسلمین، حیث شهد الثلث الأول منه تنازع روح الدولة الأمویة إلى الترقوة صاحبتها عملیات قمع شدیدة للثورات والانتفاضات حتى خرجت، وانهار جسد الدولة الأمویة لتحل الروح فی جسد الدولة العباسیة مؤذنة بعهد جدید ومعلنة عودة الحكم إلى الفرع العباسی من قریش، بدلا من علویّها، وكما قام الحكم الأموی على الدم لمدة قرن من الزمان ابتدأ الحكم العباسی بالدم.

هذه التحولات الكبیرة فی تاریخ المسلمین، كان للشعراء حضورهم فی تسجیل وقائعها وتضمینها فی صدور قصائدهم وأعجازها، وبخاصة ما یتعلق بالنهضة الحسینیة التی كانت تغذی حركات المعارضة، أعمل الدكتور الشیخ محمد صادق محمد الكرباسی جهده وسجلها فی كتابه "دیوان القرن الثانی" قسم "الحسین فی الشعر العربی القریض" من سلسلة دائرة المعارف الحسینیة، الذی صدر عن المركز الحسینی للدراسات فی لندن، فی 396 صفحة من القطع الوزیری، والذی غطى الفترة الزمنیة (24/7/719م) حتى (29/7/816م).

الإحتباس الشعری

ولكن رغم التحولات الكبیرة والخطیرة التی شهدها المسلمون فی القرن الثانی، وبخاصة قبل وبعد سقوط الأمویین فی العام 132 هـ، فان الشعر العربی الخاص بالنهضة الحسینیة، تقلصت مساحته، ویعزو المؤلف ذلك إلى شدة البطش الذی كان یمارسه النظام الأموی، صحیح إن عهد عمر بن عبد العزیز (101 هـ) شهد رفع سب الإمام علی وأهل بیته (ع) ولعنه من على المنابر، ولكن هذه الفترة استمرت ثلاثین شهرا فقط، وعاد الظلم من جدید على شیعة أهل البیت (ع) بصورة أشد، ولما كان الشعراء یمثلون الطبقة الواعیة من المجتمع فمن باب أولى أن یكون الظلم الواقع علیهم أشد قسوة، ولهذا فان الموالین من الشعراء انكفأوا على أنفسهم أو إنهم تعرضوا للتهمیش، وهاجر بعضهم أو هجّر وأُبعد، وضاعت عدد غیر قلیل من المقطوعات فی زحمة الظلم والمطاردة، كما كان العهد الأموی یمارس الدس والدجل من جانب ومن جانب آخر یشتری الذمم لإنتاج الأحادیث الكاذبة أو القصائد المضادة لفضائل أهل البیت (ع)، ولذلك اقتصر الشعر الحسینی على الولائیین لأهل بیت النبی (ص) وكان هذا واحد من أسباب انحسار رقعة الشعر الحسینی، واحتباس حرارته فی صدور الموالین، ولعل أبو الفرج الأصفهانی (ت 356 هـ) خیر من یعبّر عن هذه الظاهرة الأدبیة بقوله: "وقد رثى الحسین بن علی صلوات الله علیه جماعة من متأخری الشعراء أستغنی عن ذكرهم فی هذا الموضوع كراهیة الإطالة، وأما من تقدم فما وقع إلینا شیء رثی به، وكانت الشعراء لا تقدم على ذلك مخافة من بنی أمیة وخشیة منهم".

ولم یختلف الحال بعد زوال العهد الأموی، فالظلم الواقع على شیعة أهل البیت (ع) ازدادت وطأته، وبخاصة بعد أن توسد العباسیون الحكم واقتعدوا نمارقه، مع إنهم دخلوا قصر الرئاسة من بوابة الثأر لدماء الإمام الحسین (ع) والرضا من أهل البیت (ع)، فعلى سبیل المثال وصل الأمر بهارون العباسی (ت 193 هـ) أن طلب من وزیره الفضل بن الربیع (ت 208 هـ)، بنبش قبر الشاعر منصور بن سلمة النمری (ت 190 هـ)، حتى یستخرج جثته ویحرقها، لان هارون تناهى إلى سمعه أبیاتا للنمری فی رثاء الإمام الحسین (ع)، أزعجته كثیرا، كان مطلعها:

شاء من الناس راتع هامل … یعللون النفوس بالباطلْ

وفار تنور غضبه عند البیت:

ألا مساعیر یغضبون لها … بسِلّة البِیض والقنا الذابلْ

وقد بلغ الظلم الزبى، وضیقوا الدائرة على أئمة أهل البیت (ع) بین سجن وقتل وسمّ، حتى قال الشاعر:

والله ما فعلت أمیة فیهم… معشار ما فعلت بنو العباس

ولكن البیت وان كان یقدم صورة للواقع الذی كان علیه أبناء الرسول (ص) فی العهد العباسی، لكن العهد الأموی أسس لهذا العدوان بقتله الإمام الحسین (ع) ولذلك صدق القول "لا یوم كیومك یا أبا عبد الله الحسین". وبشكل عام فان طبقات الشعراء فی القرن الثانی الهجری یحصرهم المحقق الكرباسی فی أربع: طبقة موالیة للحكم، وثانیة موالیة للرسول (ص) وأهل بیته (ع)، وثالثة مستقلة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وقفت على أعراف الحیاة، ورابعة سائرة وراء مصالحها ترى حیاتها فی تجنب الإنشاد فی الإمام الحسین (ع) لما قد یجلبه الحق من همّ وحرمان وإبعاد.

مفاهیم خاطئة

عندما یتناهى إلى سمع المرء كلمة "الرفض والروافض" فان ذهنه سیقوده إلى شیعة أهل البیت (ع) ویسوقه فكره إلى سقیفة بنی ساعدة التی جرت فیها "بیعة الفلتة" للخلیفة أبی بكر التیمی (ت 13 هـ) والنبی محمد (ص) بعد لم یدفن، ورفض شیعة علی (ع) أمثال عمار بن یاسر وسلمان الفارسی وأبو ذر الغفاری لمثل هذه البیعة. وعندما یتناهى إلى السمع كلمة السُنّة والسنیون، فان الذهن سیقود المرء إلى السقیفة نفسها واصطفاف قادة من المهاجرین إلى جانب الخلیفة. ولكن الحقیقة مختلفة جدا، فلا السقیفة أنتجت المسلمون الروافض ولا هی ابتدعت المسلمون السنّة، فالروافض كما یؤكد البحاثة الكرباسی مصطلح نشأ فی القرن الثانی الهجری، على ید المغیرة بن سعید المقتول فی العام 119 هـ إشارة إلى الرجال الذین رفضوا الالتحاق بثورة زید بن علی السجاد المستشهد فی العام 121 هـ، فكما یقول السجستانی (ت 250 هـ) والنوبختی (ت 310 هـ) ما حاصله: "إن المغیرة بن سعید هو الذی سمّاهم الرافضة لمّا رفضوا زیداً وفارقوه فی الكوفة وتركوه حتى قتل"، ولذلك یقول ابن منظور فی لسان العرب: 5/267: "والروافض جنود تركوا قائدهم وانصرفوا، فكل طائفة منهم رافضة والنسبة إلیهم رافضی، والروافض قوم من الشیعة سموا بذلك لأنهم تركوا زید بن علی".

ومثل ذلك یقال فی مصطلح السنّة، فمن الوهم المعرفی والخطأ الشائع القول إن المصطلح إشارة إلى سنّة الرسول محمد (ص)، أو أن المصطلح من إفرازات السقیفة، بل هو من مبتدعات الماكنة الإعلامیة الأمویة، أطلق لأول مرة على الذین امتنعوا من سبّ الإمام علی (ع) فی خلافة عمر بن عبد العزیز، فكان الواحد منهم یلتقی صاحبه فی السر ویسأله هل أنت سُنِّی یعنی ممن یعمل بسنّة معاویة فی سب الإمام علی وسبطیه (ع)، وكان الواحد إذا امتنع من السب عمداً أو سهواً التفت إلیه جلیسه وقال له: نسیت السنّة یا شیخ! مما یدل أن اللعن كان یتم بصوت مسموع فی أثناء الصلاة وخارجها!!، ثم استقرت التسمیة تدریجیا، ویعبر الفقیه الكرباسی عن أسفه، لأن: “التسمیتین انحرفتا عن مسمّیهما فقیل لأتباع مدرسة أهل البیت (ع) رافضة ولأتباع المدارس الأخرى سنّة".

الاختبار الصعب

فی الواقع أن حب أهل البیت (ع) والولاء لهم لیس من الأمور الهینة، فالولائی الحقیقی یختبر عند الامتحان، والشاعر الملتزم یبان التزامه عند الملمات والشدائد، ولذلك فلا عجب أن الإنشاد فی حق بیت النبوة من المنازل الكبیرة والمراتب السامقة، ولذلك ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) (ت 148 هـ): (من قال فینا بیت شعر بنى الله له بیتا فی الجنة). وهذه المنزلة صعبة، بخاصة عندما تكون السیوف مصلة على الرقاب، ولهذا لا یخفی الشاعر یوسف بن لقوة الكوفی المتوفى فی القرن الثانی إحساسه فی قصیدة من الخفیف تحت عنوان "مالی مجیر سواهم" یقول فی مطلعها:

أحمد الله ذا الجلال كثیراً … وإلیه ما عشت ألجی الأمورا

إلى أن یقول:

إنّ صرف الزمان ضعضعَ رُكنی … ما أرى لی من الزمان مجیرا

لیس ذنبی إلى الزمان سوى أننی … أحببت شُبّرا وشبیرا

وعلیا أباهما أفضل الأمة … بعد النبی سبقا وخیرا

فعلى حبهم أموت وأحیا … وعلى هدیهم اُلاقی النشورا

فالشاعر هنا لا یبالی إن وقع الموت علیه، وهذه من طبیعة الشعراء الملتزمین الذین یدركون حقیقة الولاء لأهل البیت النبوی (ع) وما یجر علیهم من إبتلاءات، لانهم یؤمنون فی الوقت نفسه أن مآلهم إلى خیر، من هنا فان الشاعر كمیت بن زید الأسدی (ت 60-126 هـ) مات على الولاء شهیدا على ید والی الكوفة یوسف الثقفی، وقد اشتهر بلامیته، عندما أنشدها على الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع)، حیث رفع الإمام (ع) یدیه بالدعاء وقال: (اللهم اغفر للكمیت ما قدّم وما أخّر وما أسرّ وما أعلن وأعطه حتى یرضى)، ووقع الدعاء فی محله، لان الشهادة فی سبیل الحق منزلة عظیمة لا یلقاها إلا ذو حظ عظیم. فاللامیة المعنونة بـ "عجب لا ینقضی" من بحر الطویل، ومطلعها:

ألا هل عم فی رأیه متأمل … وهل مدبر بعد الإساءة مقبل

اختص 15 بیتا منها فی وصف الإمام الحسین (ع) فی معركة الطف وما حل به وبأهل بیته، إلى أن یقول:

كأنّ حسینا والبهالیلُ حوله … لأسیافهم ما یختلی المتبقِّلُ

یخضن به من آل أحمدَ فی الوغى … دماً طُلّ منهم كالبهیم المحجلُ

وغاب نبیُّ الله عنهم وفقدُهُ … على الناس رُزءٌ ما هناك مُجلَّلُ

فلم أرَ مخذولا أجلَّ مصیبةً … وأوجبَ منه نُصرةً حین یُخذلُ

ومن مفارقات الدهر وصروفه، وبعد قرون من الإهمال المتعمد للحكومات المتعاقبة، قررت وزارة الدولة للسیاحة والآثار العراقیة فی عهد ما بعد 9/4/2003م، فی بیان صادر عن رئاسة الوزراء فی العشرین من آذار مارس العام 2007، إجراء مسح لإعمار قبر الشاعر المنسی، الواقع على تل كمیت غرب ناحیة الكمیت على بعد 40 كیلومترا من مركز مدینة العمارة، عرفانا بالجمیل لدور هذا الشاعر الشهید فی الدفاع عن مقدسات الأمة الإسلامیة بعامة والشعب العراقی بخاصة، ودفاعا عن العراق الذی ولد فی كنفه وقدم له أدبه وما یملك، واستشهد على صعیده بسیوف أعدائه التی هوت على بطنه وبقرته حتى مات محتسبا صابراً، وكانت آخر كلماته قبل أن تفیض روحه إلى بارئها "اللهم آل محمد اللهم آل محمد اللهم آل محمد".

سید القرن

ما یلفت النظر فی قصائد الولاء، أن الشاعر إسماعیل بن محمد الحِمیَری المتوفى فی العام 178 هـ كان سید الموقف الشعری فی القرن الثانی الهجری، جاهر بفضائل أهل البیت (ع): "وأعلن مناقبهم دون تهیّب أو تردّد، فلم یدع منقبة وردت إلا ونظمها وكثرة ما فی هذا القرن من شعره یبیّن ذلك"، إذ كانت له 33 مقطوعة شعریة من مجموع 94 مقطوعة لـ 39 شخصیة وقف الشیخ الكرباسی علیها من بین مئات المصادر وأمات المراجع التاریخیة، یلیه عبد الله بن الزبیر الأسدی وله 18 مقطوعة ثم الكمیت وله 6 مقطوعات، وسدیف ابن میمون المكی (146 هـ) وله 5 مقطوعات، وكلا من الشاعر كثیر عزة الخزاعی (105 هـ) وأبو نؤاس الحكمی (198 هـ) ولهما أربع مقطوعات، وتوزعت البقیة بین ثلاث واثنین ومقطوعة أو بیت واحد. كما استدرك المؤلف بمقطوعتین من شعر القرن الأول الهجری. ولعل من أشهر ما یتصف شعر القرون الأولى القریبة من عصر النبوة والإمامة، أنها تترجم أحادیث الرسول أو وقائع حصلت فی عهده، فیأخذ الشعر دوره القدیم فیكون دیوان عهد الرسالة كما كان من قبل دیوان العرب، وهكذا كان شعر الحِمیَری المتصف بالجرأة والشجاعة، ومن ذلك بیتان من البحر الكامل تحت عنوان :نعم الراكبان" یصف طلب أبی بكر من النبی (ص) حمل الحسن أو الحسین لما رآهما والنبی یحملهما، فرد علیه (ص): "نعم المطی مطیهما ونعم الراكبان هما"، فینشد:

مَن ذا الذی حمل النبی برأفة … ابنیه حتى جاوز الغمضاءا

مَن قال نِعم الراكبان هما ولم … یكن الذی قد قال منه خفاءا

أو قصیدة فی وصف ما جرى فی كربلاء أنشدها فی محضر الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) بطلب منه حیث أجلس حرمه خلف ستر فبكى الإمام (ع) وارتفع الصراخ والبكاء من داره، والحمیری ینشد من مجزوء الكامل تحت عنوان "الأعظم الزكیة":

أُمُرر على جدَث الحسیـــ … ـن وقل لأَعظُمه الزكیّة

یا أعظُما لا زلتِ من … وطفاءَ ساكبة رویّة

ما لذّ عیشٌ بعد رضِّكَ بالجیاد الأعوجیّة

قبرٌ تضمّن طیِّباً آباؤه خیرُ البریّة

الوسیلة وأشیاء أخرى

من الأمور التی خضعت للجدال بعد فترة من عصر الرسالة الإسلامیة هی مسألة الشفاعة والتوسل بالنبی وأهل بیته الكرام، ففی حین یقر القرآن الكریم مسألة الوسیلة، بقوله سبحانه فی سورة المائدة: 35: (یا أیها الذین آمنوا اتقوا الله وابتغوا إلیه الوسیلة)، وقوله سبحانه فی سورة الأنبیاء: 28: (ولا یشفعون إلا لمن ارتضى)، غیر أن بعض المدارس الفكریة المتأخرة، حاولت تحت دعوى التوحید نسف مسألة الوسیلة التی مَنّ الله بها على بعض عباده الذین اصطفى، ومنهم النبی محمد (ص) وأهل بیته الكرام (ع) الذین أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهیرا، وأكدتها الروایات والأحادیث. وقد كانت هذه المسألة فی العصر الأول من المسلمات بحیث وردت فی أبیات الشعراء ولم یجدوا فی ذلك حرجا، من ذلك قصیدة للفرزدق (ت 110 هـ) فی مدح أهل البیت (ع) یقول فی بعضها من البسیط:

من معشر حبُّهم دِینٌ وبغضهم … كُفرٌ وقربهم منجىً ومعتصمُ

یُستدفعُ السوءُ والبلوى بحُبِّهم … ویُستدبُ به الإحسانُ والنِّعمُ

مُقدَّمٌ بعد ذكر الله ذكرُهُمُ … فی كل بدءٍ ومختوم به الكَلِمُ

إن عُدّ أهلُ التقى كانوا أئمتهُم … أو قیلَ مَن خَیرُ أهلِ الأرض قیلَ همُ

ومن ذلك قصیدة لأبی نؤاس (ت 198 هـ) فی الشفاعة، من الكامل تحت عنوان "الحصن الحصین" یقول فیها:

مُتمسِّكاً بمحمد وبآله … إن الموفَّقَ مَن بهم یستعصمُ

ثمّ الشفاعة من نبیِّك أحمدٍ … ثم الحمایة مِن علیٍّ أعلمُ

ثم الحسینُ وبعده أولادُه … ساداتنا حتى الإمام المُكتمُ

سادات حُرٍّ ملجأٌ مُستعصَمٌ … بِهم ألوذُ فذاك حِصنٌ مُحكم

ومما تؤرخه المقطوعات، هو لون اللباس الذی كان یرتدیه المعزون بفقد قریب أو عزیز، إذ كان الأسود والأخضر إشارة إلى الحزن والمصاب، وهذا ما نستبینه من قصیدة سیف بن عمیرة النخعی المتوفى فی القرن الثانی الهجری، من بحر الكامل فی مائة وستة أبیات حملت عنوان: جلّ المصاب"، وتعتبر هذه القصیدة من أطول القصائد فی دیوان القرن الثانی أنشأت فی رثاء الإمام الحسین (ع)، یقول الشاعر فی بعض أبیاتها:

إبكِ الحسینَ بلوعةٍ وبعبرةٍ … إن لم تجدها ذُب فؤادك واكثِرِ

وآمزج دموعَك بالدماء وقَلَّ ما … فی حقه حقًّا إذا لم تَنصُرِ

والبس ثیاب الحزن یوم مُصابِهِ … ما بین أسودَ حالكٍ أو أخضرِِ

فعساك تحظى فی المعاد بِشِربةٍ … مِن حوضهم ماءٍ لذیذٍ سُكَّرِِ

بید أن الأقوام عند العزاء تختلف فی ملبسها، فبعض یرتدى الأبیض وآخر الأصفر، ویكثر استعمال الأسود، ویقل استخدام الأخضر، والشاعر یؤرخ لتلك الفترة حیث كان الأسود والأخضر هما اللونان المستعملان عند المسلمین، وبمرور الزمن اختص الأخضر بنسل أهل البیت (ع) والذین یطلق علیه لقب السادة، حیث یضعون فی مجالس العزاء على الإمام الحسین (ع) قطعة خضراء على الكتف أو حول الخاصرة إلى جانب رداء اسود، فیما یكتفی غیرهم بالأسود.

ویصاحب الملبس البكاء، لان البكاء فی واقع الأمر إظهار للحزن الشدید على ما حلّ بالإسلام من قتل سید شباب أهل الجنة (ع)، حیث یمثل البیت النبوی عدل القرآن، وهما وصیة رسول الله (ص) فی أمته، ولهذا أصاب الشاعر جعفر بن عفان الطائی المتوفى حدود عام 150 هـ كبد الحقیقة فی قصیدته من الطویل بعنوان "لیبك على الإسلام"، عندما أنشد:

لیبكِ على الإسلام مَن كان باكیا … فقد ضُیِّعَت أحكامُهُ واستُحِلَّت

غداةَ حُسینٌ للرماح دَریئةٌ … وقد نَهِلَت منه السیوفُ وعَلّتِ

كما تحرى الشاعر خالد بن معدان الطائی المتوفى حدود عام 103 هـ، صدقا فی قصیدته من البسیط المعنونة "جاؤوا برأسك" عندما أنشد:

فكأنما بكَ یا بنَ بنت محمدٍ … قتلوا جهاراً عامدین رسولا

قتلوكَ عطشاناً ولم یترقَّبوا … فی قتلكَ التأویلَ والتنزیلا

ویُكبِّرون بأن قُتلتَ وإنما … قتلوا بك التكبیرَ والتهلیلا

ولذلك فلا عجب أن تمطر السماء دما على الإمام الحسین (ع) كما بكت من قبل على النبی یحیى بن زكریا (ع)، ویخلد الشاعر سیف النخعی هذه الواقعة فی ملحمته "جلّ المصاب":

وعلیه أمطرت السماءُ وقبلُهُ … یحیى دماً وسواهما لم تُمطرِ

بین عصرین یشكل القرن الثانی الهجری علامة فارقة تفصل بین عصرین من حیث الإنتاج الأدبی فی جانبیه المنثور والمنظوم، بین العصر الجاهلی وعصر المخضرمین (من البعثة حتى نهایة عصر الخلافة الراشدة فی العام 40 هـ)، إذ أصاب العربیة اللحن وتهجنت بعض مفرداتها، وكان هذا من آثار اختلاط المسلمین بالثقافات واللغات الأخرى وورود غیر العرب ولحنهم فی اللغة، ولذلك كما یقول المصنف: "فقد بدأت اللغة العربیة تشعر أنها لم تعد على أصالتها الأولى بل امتزجت بمفردات جدیدة بدأت تنعكس على الأدب العربی" ولذلك ضعف الاستشهاد بقول الشاعر فی بیان اللغة وقواعدها وآدابها: "فكان أن انتهت فترة الاحتجاج بقول الشاعر بعد بشار بن برد المتوفى عام 168 هـ"، لكن القرآن الكریم ظل هو المعین الذی لا ینضب والذی لن یتسنّه ماؤه.

ویستظهر المحقق الكرباسی من مجمل دیوان القرن الثانی الهجری أمور عدة، أهمها:

أولا: غلب الاتجاه السیاسی على الكثیر من القصائد، وبخاصة لدى الكمیت بن زید الأسدی الذی یمثل فی هذا الجانب وبحق فارس الحلبة.

ثانیا: غلبت صبغة المعارضة والتمرد على الواقع السیئ، على الكثیر من القصائد، بخاصة وان القرن شهد تحولات سیاسیة خطیرة كان السیف هو الحاكم فیها والدماء تسیل من تحت شفرتیه، وكان الشاعر منصور بن سلمة النمری فارس المیدان فیه.

ثالثا: سعى شعراء الولاء إلى تخلید كل منقبة لأهل البیت وردت فی القرآن أو على لسان النبی محمد (ص) إلى قصائد، لتخلید تلك المناقب والمكارم، وكان الشاعر إسماعیل بن محمد الحِمیَِری سید الموقف. رابعا: ولأن النهضة الحسینیة تتجدد، فان باب الرثاء ظل مفتوحا للشعراء على مصراعیه، وقد أبدع فیه عدة من الشعراء، كالنمری والحِمیَری، واشتهر الشاعر سلیمان بن قتة التمیمی الدمشقی بقصیدته المعنونة "وإنّ قتیل الطف"، ومطلعها:

مررتُ على أبیاتِ آلِ محمدٍ … فلم أرَها أمثالَها یومَ حُلَّتِ

وأخیرا

لا یخلو أی مجلد من مجلدات دائرة المعارف الحسینیة البالغة نحو 600 مجلد وصدر منها حتى الیوم 34 مجلدا، من فهارس قیّمة فی أبواب كثیرة، تختلف من مجلد إلى آخر حسب الباب الذی یطرقه الكاتب، وفی هذا الدیوان، نتابع من خلال: فهارس المتن: فهرس الأعلام والشخصیات، القبائل والإنسان والجماعات، القوافی والروی، البحور والأوزان. ونتابع فی فهارس الهامش: فهرس الأبیات وأنصافها، التأریخ، الناظمین والشعراء، الأعلام والشخصیات، القبائل والأنساب والجماعات، اللغة. وفی الفهارس المشتركة بین المتن والهامش، نتابع: فهرس الآیات المباركة، الأحادیث والأخبار، الأمثال والحكم، مصطلحات الشریعة، المصطلحات العلمیة والفنیة، الطوائف والملل، الوظائف والرتب، الآلات والأدوات، الإنسان ومتعلقاته، الحیوان ومتعلقاته، النبات ومستحضراته، الفضاء ومتعلقاته، الأرض ومتعلقاتها، المعادن، الأماكن والبقاع، الزمان، الوقائع والأحداث، المؤلفات والمصنفات، المصادر والمراجع، مؤلفی المراجع، وفهرس الخطأ والصواب. وفی سبیل أن یقف القارئ على وجهات نظر غربیة واستشراقیة للنتاج الشعری الولائی فی القرن الثانی الهجری، ختم الدكتور محمد صادق الكرباسی كتابه بقراءة نقدیة للدكتور بیار جون لویزارد، وهو مستشرق فرنسی مسیحی المعتقد، باحث فی المركز الوطنی للأبحاث والعلوم، وبروفیسور فی المؤسسة الوطنیة للغات الشرقیة، قال فیه: "وفی هذا العصر – القرن الثانی للهجرة- حیث المشاعر العلویة كانت متوهجة، كما تؤكد على ذلك الحركات المناوئة للأمویین والعباسیین، لم یصلنا إلا القلیل من ذلك الشعر الذی نظم فی رثاء الإمام الثالث، وما وصلنا فهو تصور فیه مشاعر المحبة تجاه حفید النبی"، وعبر عن كبیر تقدیره للجهد المبذول فی الكتاب، ذلك: "أن العمل الموسوعی للشیخ محمد صادق محمد الكرباسی یبدو مدهشا، حیث أثمرت جهوده من خلال القصائد التی كان من الصعب جمعها وتقدیمها بإخراج الموضوع إخراجا رائعا".

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:7|
اللغة الشعریة عند السیاب .. والثورة على الشعر الكلاسیكی القدیم


یشكل السیاب محور الثورة على الشعر الكلاسیكی القدیم الذی كان سائداً فی بدایة القرن العشرین ولكن السیاب الى جانب نازك الملائكة استطاع ان یخرج من عباءة التقلید والانتصار لنفسه عندما اخذ یسیر فی نمط الشعر الحدیث فابداع السیاب لغة جدیدة یتفق فیها المضمون مع الشكل والفكرة مع الصوت فالنبرة الصوتیة

عند السیاب تتغیر بتغیر الفكرة وهی تخط بین مدلول الكلمة وبین شكلها . لقد استطاع السیاب بالوسائل الجدیدة ان یتصور حالات الازمة عند الانسان الحدیث وقد ظهرت مهارة السیاب الشعریة فی تجدید العروض الذی شكل ازمة فی العالم العربی فی الاربعینیات من القرن المنصرم فالموسیقا الجدیدة لاشعار السیاب تحررت من اسر القافیة فكانت التجربة الشعریة تجسیداً للعاطفة الرومانتیكیة وللمباشرة الواقعیة فالسیاب الى جانب نازك الملائكة وعبد الوهاب البیاتی وغیرهم من الشعراء وسعوا امكانیة النموذج الشعری الفردی الى حد كبیر جداً ولكن السیاب قد بدأ على الطریقة الرومانتیكیة فهو متأثر جداً بـ بودلیر فی مجموعتیه الشعریتین « ازهار ذابلة » « اساطیر » .‏

فقد كتب السیاب قصیدة مؤكداً تنوع العاطفة لدیه یقول :‏

دیوان شعر ملؤه غزل بین العذارى بات ینتقل‏

انفاسی الحرى تهیم على صفحاته والحب والامل‏

وستلتقی انفاسهن بها وترف فی جنباته القبل‏

ان بدایة السیاب كانت اشعاراً مملوءة بالشفافیة والعفة والاستعارة التی تثیر المشاعر وتكثر فیها الصور التی تطلق العنان للفكر ان یحلق فی سماء هذه الكتابات التی خطها شاعر عانى الامرین فی مدینته یقول : سوف امضی / اسمع الریح تنادینی بعیداً / فی ظلام الغابة اللفاء والدرب الطویل / یتمطى ضجراً ، والذئب یعوی، والافول / یسرق النجم ، كما تسرق روحی مقلتاك / فاتركینی اقطع اللیل وحیداً / سوف امضی فهی مازالت هناك / فی انتظاری .‏

نلاحظ اللغة السوداویة التی تصبغ شعر السیاب فهو متشائم حتى فی غزله ولكن ما یجعلك تحلق معه هو الصور الجمیلة التی یفاجئنا بها فی كل شعر نقرؤه فهو یحاول ان یشد القارئ مهما كان بعیداً عنه كی یندمج معه ویشاركه همومه یقول : الزورق النائی وانات المجادیف الطوال / تدنو على مهل .. وتدنو فی انخفاض وارتفاع / حتى اذا امتدت یداك الیّ فی شبه ابتهال / وهمست « هاهو ذا یعود » رجعت فارغة الذراع/ .‏

فلغة السیاب مجازیة خارقة حیث ان مثل هذه الاستعارات والمجازات غریبة ولكنها اصبحت عادیة عنده لانها اللغة التی میزته عن شعراء عصره .‏

فالمجادیف لا تئن ومع ذلك جعلها مشخصة تئن وتحزن وهذه لیست لغة عادیة ولكنها لغة استخدمها شاعر بارع فوظفها خیر توظیف فی شعره .‏

فالسیاب شاعر ارتبط وانعجن بنخیل العراق وذاب صبابة لانه حاد یشتاق الى رشفة من نهر دجلة الذی عاش جنبه وزرع على ضفتیه احلى الذكریات وهو الشاعر المطرود الذی حرم ان یقضی بقیة حیاته فی ارضه فهو قد تطرق الى مختلف مشاكل المجتمع الانسانی لان حداثة واتساع مجموعة المواضیع ادت الى اتساع الوسائل التشبیهیة وترسیخ المعنى الرمزی الذی یسمح بنقل ادق التفاصیل عن الرغبات المخفیة .‏

یقول فی قصیدته غریب على الخلیج :‏

جلس الغریب ، یسرح البصر المحیر فی الخلیج / و یهد أعمدة الضیاء بما یصعد من نشیج / أعلى من العباب یهدر رغوه و من الضجیج / صوت تفجر فی قرارة نفسی الثكلى : عراق / كالمد یصعد ، كالسحابة ، كالدموع الى العیون / الریح تصرخ بی : عراق .‏

كما انه یتذكر فی قصیدته ( المخبر ) و هذا شیء طبیعی لانسان بعید عن وطنه یتذكر فیه أدق التفاصیل یقول :‏

الحقد كالتنور فی : إذا تلهّب بالوقود / الحبر و القرطاس - أطفأ فی وجوه الامهات / تنورهن . و اوقف الدم عن ثدی المرضعات /.‏

لم یظهر السیاب فی دور المصور الفوتوغرافی لما یراه من مناظر فی هذه الطبیعة بل كان یسعى بكل ما یملك من سعة الأفق وقوة الفكر الى إثارة القارئ على استیعاب العناصرالتی تكلم عنها و ذلك من خلال الموسیقا الرائعة التی تتناغم لتشكل تفعیلات رائعة لذلك نحن لا نتصور عنده استعمالاً متكرراً و مستمراً فی اشعارنا الیومیة الحالیة للكلمة ، و قد استعملها السیاب دائماً یقول :‏

یمد الكرى لی طریقاً الیها : / من القلب یمتد عبر الدهالیز عبر الدجى و القلاع / الحصینة / و قد نام فی بابل الراقصون / و نام الحدید الذی یشحذونه /.‏

ان السیاب دائم التذكر لبلدته جیكور فهو یذكر نخیلها و الاصداف الموجودة فی نهر البویب فنجد ان لغته فی الوصف الغنائی العاطفی المخصص لبلده و لنهر بویب التی یتخلل قریته جیكور یقول :‏

أود لو أطل من أسرة التلال / لألمح القمر / یخوض بین ضفتیك ، یزرع الظلال / ویملأ السلال بالماء و الاسماك و الزهر / اود لو أخوض فیك ، أتبع القمر / و اسمع الحصى یصل منك فی القرار .‏

أما إذا دخلنا الى الجانب الغزلی و فن عاطفة الحب حیث ان عاطفة الحب فی الشعر العاطفی تتجلى من خلال الصور المتداخلة البدائیة التی تصور احساسه العالی بالطبیعة و خاصة فی النساء الجمیلات فهو یفجر من خلال اشعاره رغبته العاطفیة الجامعة فالشهوات الجسدیة تتكرر كثیراً فی اشعاره الى جانب الكلمات المنمقة یقول :‏

ترف شعورهن علی . تحملنی الى الصین / سفائن من عطورنهودهن .اغوص فی بحر من الأوهام ،و الوجد / فألتقط المحار أظن فیه الدرثم تظلنی وحدی / جدائل نخلة فرعاء / فأبحث بین أكوام المحار . لعل لؤلؤة ستبزغ منه كالنجمة .‏

و هناك عنصر بالغ الأهمیة كان موجوداً فی شعر السیاب ألا و هو توظیف الأسطورة فی الشعر حیث وظفها خیر توظیف و استطاع بإتقان الشاعر المبدع ان یجعل الأساطیر مادة تخدم شعره یقول ناجی علوش عن استخدام السیاب للأسطورة : ( لم یستطع أحد من الشعراء العرب أن یستعمل الأسطورة و الرمز إن هذا الكلام یدل على أن النمط الذی استخدمه السیاب فی الشعر كان متسلسلاً بهذا المقدار . كما استطاع السیاب ان یستعملها .‏

فمن النادر ان نرى عنده اشعاراً لم تمثل الرموز الخرافیة أو الاسطورة و هذا ما نلاحظه فی قصیدتی « مدینة بلا مطر » و « سربروس فی بابل » و فی حالات أخرى تصادف الأسطورة مقدمة فی القصائد الشعریة بكلمة واحدة فقط وهی معزولة تماماً منفصلة عن الموضوع الرئیس ، و عن قرائن الكلام و ان وجود هذه الكلمة یبرره و یسوغه فقط ، الموضوع الثانوی العارض و المتفرع عن الموضوع الرئیس و هذا ما حدث فی قصیدة « المومس العمیاء ».‏

یقول الدكتور فاخر میّا «لوكان السیاب أول شاعر عربی استعمل الأساطیر القدیمة كما أكد «علوش» لما وجب علینا أن نورد ماقاله السیاب نفسه متعجباً بمقدرة أبی تمام وموهبته على كسر واخضاع المقولات القدیمة فی الإبداع «یقول السیاب» ان استعمال الأسطورة فی الشعر لیس جدیداً على الأدب العربی فلعل شاعرنا العربی الكبیر أبا تمام أول من استخدمها بین كل الشعراء العالم ولوسار الشعراء العرب من بعد أبی تمام على خطه الشعری لكان بیننا الیوم الكثیرون ممن یضارعون ایلوت وستویل وسواهما ».‏

ویعود علوش ویقول «إن الأسطورة فی شعر السیاب لیست واضحة تماماً ..لقد حاول شرح ولعه وحبه للأساطیر لكنه لم یستطع ایجاد مخارج مقنعة لاستعماله هذا فی الشعر العربی» .‏

فمثلاً سندباد السیاب هو مغامر جریء كما ورد فی ألف لیلة ولیلة یعود بالبضائع من خلف البحار وبالقصص البریة المتوحشة یقول.‏

وجلست تنتظرین عودة سندباد من السفار /والبحر یصرخ من ورائك بالعواصف والرعود / هو لن یعود / أو ماعلمت بأنه أسرته آلهة البحار /فی قلعة سوداء فی جزر من الدم والمحار / هو لن یعود /ورحل النهار /فلتر حلی ،هو لن یعود /.‏

إن أبطال قصص الف لیلة ولیلة تستعمل أحیاناً وسائل سحریة للوصول الى أهداف شخصیة أو إلى أهداف انسانیة ومن الوسائل التی استعملها السیاب الحصان الطائر والبساط الطائر یقول.‏

آه لوعندی بساط الریح /لوعندی الحصان الطائر/ آه لو رجلای كالأمس تطیقان المسیر ! /لطویت الأرض بحثاً عنك /لكن الجسور ا قطعتها بیننا الأقدار .مات الشاعر فی وانسدت كوى الأحلام /آه یاجمیلة إن ابداع السیاب ابداع جدید یتفق فیه الشكل مع المضمون فی الشعر الحدیث حیث استطاع بالوسائل التجدیدیة أن یتخیل ویتصور حالة الأزمات والكوارث التی تواجه الانسان فی المجتمع وقد ظهر ذلك جلیاً فی التجدید الشعری الذی سار علیه السّیاب یسبق طائفة العشراء الذین تزاحموا فی عصره .‏
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:6|

یمكن القول ان البدایة الحقیقیة للمنهج الاجتماعی كانت فی مطلع القرن العشرین ، ومن ابرز اعلامه (كارل ماركس) ، الذی ارتبط باسمه نوع من النقد الاجتماعی هو (النقد الماركسی) . فقد سعى (ماركس) إلى دراسة الادب والفن بصورة عامة على غرار رؤیة اجتماعیة ترى ان العمل الفنی یحیى فی عالم اجتماعی ، وان الصراعات بین الطبقات تؤدی الى خلق الفن ، كما أنَّ الاعمال الفنیة تتألف دائماً فی موضوعات لها دلالة اجتماعیة
ان المبدأ الاساس فی النقد الماركسی هو الانعكاس الموضوعی وتمثل الادب للواقع ، إذ تؤكد نظریة الانعكاس ، ان الحیاة الاجتماعیة على بنیتین :بنیة دنیا تتمثل فی الانتاج المادی ، وبنیة علیا تتمثل فی الانتاج الفكری المتضمن نظماً سیاسیة وقوانین وفلسفات وعلوماً وآداباً وفنوناً ، وما اتصل بذلك من مظاهر ثقافیة مختلفة ، والبنیة الدنیا هی الاساس الحقیقی الذی ینبنى علیه المجتمع . فالادب والفن انعكاس للواقع الموضوعی ، ومن ثم وسیلة من وسائل المعرفة ، یقول بلیخانوف فی هذا الاتجاه لیس صحیحاً ان الفن یعبر عن مشاعرالناس وعواطفهم وحدها ، كلا انه یعبر عن عواطفهم وافكارهم معاً ، یعبر عنها لا على نحو مجرد ، وانما بالصور
لقد ارتبطت نظریة الانعكاس بفكرة الایدولوجیا ، وصار الالتزام بالتجارب الانسانیة ، واحداً من مقومات النقد الماركسی ، فضلاً عن ضرورة المحتوى الثوری ، مشفوعاً بصیاغة جمالیة فائقة ، وانكار الانفصال بین المعیارین الجمالی والسیاسی، وعندما نصل الى (لوكاتش) ، نجد انَّه اسهم فی تطور الواقعیة الاشتراكیة ، بوصفها مذهباً فی الادب والفن ، على وفق رؤیة فلسفیة خاصة به نتجت عن فهم خاص للماركسیة تماشیاً مع ظروف ما بین الحربین والمد الفاشی ، وتراجع الثورة فی العالم ، وقد حوى ذلك كله كتاب (لوكاتش) الرؤیا للعالم
اما فی عالمنا العربی ، فكان لجهود اسماعیل ادهم ، وشبلی شمیل ، وسلامة موسى ، ویحیى حقی ، ومحمد مندور ، ومحمود امین العالم ، ورجاء النقاش ، اثر كبیر فی تبلور النقد الاجتماعی فی النقد العربی الحدیث ویعد الدكتور محمد مندور من البارزین فی هذا الاتجاه ، فقد حمل شعار (الادب نقد الحیاة) ، ونادى بالالتزام فی الادب إذ انه یرى بأن الوقت قد حان "لكی یلتزم الادباء والفنانون بمعارك شعوبهم وقضایا عصرهم ومصیر الانسانیة كلها . ویحدد الدكتور محمد مندور مفهوم النقد الاجتماعی مبیناً انه "یرتكز على منطق العصر وحاجات البیئة ، ومطالب الانسان المعاصر ... ، ولا یكتفی بالنظر فی الموضوع ، بل یتجاوزه الى المضمون أی ما یفرغه فیه الادیب والفنان من افكار واحاسیس ووجهة نظر
ثمة ناقد اخر له اسهامٌ كبیر فی النقد العربی هو الناقد محمود امین العالم الذی اصدر كتابه (فی الثقافة المصریة) بالاشتراك مع عبد العظیم انیس دعا فیه الادباء والفنانین الى الالتزام بقضایا عصرهم ، ومشكلات مجتمعهم ، غیر ان هذا الالتزام ، لا یتم على حساب الادب والفن ، وانما من خلال تفاعل حقیقی بین الشكل والمضمون.
ان كلام محمود امین المتقدم ، یدل على ان صاحبه كان واعیاً بان أی تصور للادب والفن ، مهما كان متطوراً ، لایمكنه ان یلغی من حسابه مسألة الفن ذاته ، ومسألة الجمال والشكل ، لان الواقع بنظرهِ هومجموع العلاقات المتشابكة بین الانسان والعالم المحیط به ، بین الحاضر والمستقبل ، بین التجارب الذاتیة والاحلام والعواطف والأخیلة .
من خلال ما تقدم نستطیع القول بأن حضور المنهج الاجتماعی قد ازداد فی الحركة النقدیة التی واكبت ظهور الشعر الحر ، لاسیما ما یخص الشاعر عبد الوهاب البیاتی إذ أن قسماً كبیراً من نصوصهِ الشعریة كان تعبیراً عن هذا الواقع ، وما یحدث فیه من تقلبات سیاسیة واجتماعیة واقتصادیة ، لذلك نجد عدداً من الدراسات النقدیة تطرقت الى هذه القضیة وحاولت اظهارها بشكل او بآخر ، ومن بین هذه الدراسات : (الرؤیا فی شعر عبد الوهاب البیاتی) لمحیی الدین صبحی / و (الرؤیا الابداعیة فی شعر البیاتی) لعبد العزیز تشرف ، و (الالتزام والتصوف فی شعر عبد الوهاب البیاتی) لعزیز السید جاسم ، و (شجرة الرماد المواجد فی شعر البیاتی) للدكتور وفیق رؤوف ، و (النموذج الثوری فی شعر عبد الوهاب البیاتی) لمجموعة من النقاد العراقیین والعرب ، و (مأساة الانسان المعاصر فی شعر عبد الوهاب البیاتی) لمجموعة من النقاد العراقیین والعرب والغربیین .
لقد حظی البیاتی باهتمام كبیر من قبل الناقد (محمد زفزاف) ولا سیما فی دراسته الموسومة بـ (النموذج الثوری فی شعر عبد الوهاب البیاتی) ، إذ حاول الناقد الدخول الى عالم البیاتی الشعری من خلال مقدمة تناول فیها ثورة الادباء والشعراء على الواقع الاجتماعی والسیاسی السائد فی تلك الفترة التی عاشها البیاتی ، ویمضی الناقد فی رصد النمو الثوری فی شعر البیاتی الذی یغنی للثورات من المحیط الى الخلیج باحثاً عن المدینة الفاضلة المنسیة فی التاریخ، ویشیر الناقد الى تغیر واضح فی اشعار البیاتی لذلك كانت (اباریق مهمشة) و (المجد للاطفال والزیتون) و (كلمات لا تموت) تعبر عن البساطة والوضوح فی شعر البیاتی ، إلا انه تحول بشكل واضح فی (الذی یاتی ولا یاتی) و (سفر الفقر والثورة) و (الموت فی الحیاة) ، ویحاول الناقد ان یتلمس الخطوط التی سار علیها الشاعر واستلهم من خلالها الابعاد التاریخیة والواقعیة والاسطوریة لیخرج بنتیجة حاول تلخیصها بأنها عائدة الى التراث الفارسی فی صورة (عمر الخیام) ، وتاریخ العراق القدیم فی صورة (انكیدو وكلكامش) ، وتاریخ العراق الحاضر ، وتجربة الشاعر مع وطنه الام ، والتراث العربی الاسلامی ، والتأریخ القدیم بصفة عامة لیؤكد ان البیاتی كان دائم الرجوع الى الماضی محاولاً ربطه بالحاضر.
من جانب اخر یشیر الناقد ، الى الحس الانسانی الذی تعمق فی شعر البیاتی مما دفعه الى الارتقاء بماضیه وبماضی الانسانیة الى حاضر والى مستقبل ، عن طریق تحول كل القوى الادراكیة وكل التاریخ ، وكل الاساطیر الى شیء واحد فقط اسمه (الثورة).
ویشیر الناقد الى انه على الرغم من التشاؤم وذكر الموت الذی یهیمن على معظم اشعار المجموعة الشعریة (الموت فی الحیاة) إلا ان البیاتی یوضح لنا ان الثوری متوقع لموته العاجل او الآجل ، وهذا سِرُّ قوتهِ وصمودهِ، كما یبین ان حكایة (الموت والحیاة) سیطرت على المجموعة الشعریة للشاعر حتى بدت كما لو كانت قصیدة واحدة ، فالبیاتی یستقطب التأریخ ویجمع الحوادث ویحولها الى رمز لیعید حكایة الموت فی الحیاة أو التعذیب الثقافی.
واللافت للنظر ان الناقد لم یبق اسیراً لمعطیات المنهج الاجتماعی وانما افاد من أطروحات المناهج الأخرى ، وهی جزء من رؤیته النقدیة الناضجة ، التی ترى امتزاج الشكل بالمضمون فی أی عمل ادبی لذلك كانت أفادته من معطیات المنهج الاسطوری وبعض اجراءات المنهج النفسی متساوقة مع تلك الرؤیة .
وتعدُّ دراسة الدكتور (احسان عباس) واحدة من الممارسات النقدیة ، التی عالجت شعر البیاتی فی ضوء اجراءات المنهج الاجتماعی ، اذ اختار الدكتور (احسان عباس) قصیدة (سوق القریة) بوصفها أنموذجا شعریاً مختلفاً عمّا تعارف علیه لدى الشعراء فی ایضاح النزعة الاجتماعیة .
یبدأ الناقد دراسته مباشرةً عن طریق تحلیل قصیدة (سوق القریة) وهی القصیدة التی حظیت بقراءات متنوعة بین النقاد ، ویقف فی بدایة قراءته التحلیلیة عند لفظة (الشمس) لكونها تصلح ان تكون تحدیداً زمنیاً كما تصلح ان تشیر الى معاناة الناس المحتشدین، ویؤكد الناقد ان فی القصیدة حلماً كبیراً بل سلسلة من الاحلام التی اسقطها الشاعر على السوق ، ویؤكد اهمیة عنصر المفارقة فی القصیدة التی یقیمها الشاعر بین القریة والمدینة مستمداً حكمه على المدینة من تصور الفلاحین لها وهم یقولون لدى عودتهم منها :
والعائدون من المدینةِ
یالها وحشاً ضریر
صرعاه موتانا واجساد النساء
والحالمون الطیبون
هذه المفارقة تضیف بؤساً الى بؤس الریفیین ، وینسون وهم (الحاصدون المتعبون) انهم مسخرون جسدیاً ومعنویاً لیزرعوا صاغرین كی یأكل الاقطاعیون .
یشیر الدكتور (احسان عباس) الى ان هذه القصیدة اقرب ما تكون الى لوحة الرسم وكل ما افادته من الشكل الجدید هو حریة الاختیار فی الاحصاء ، وارسال الاقوال والحكم دون مدخل.
ویستمر الناقد بالابحار فی خلیج البیاتی الشعری لیؤكد ان هذه القصیدة على الرغم من كل الدلالات التی تحملها لا تستطیع ان تعطینا تصوراً كاملاً عن جمیع الروافد التی تعمل مُشكِّلة التیار البیاتی، لذلك عَمد الناقد الى اخذ قصیدة اخرى وهی قصیدة (مسافر بلا حقائب) التی یفتتحها البیاتی بقولهِ :
من لا مكان
لا وجه لا تأریخ لی ، من لا مكان
تحت السماء وفی عویل الریح اسمعها تنادینی
"تعال!"
یشیر الدكتور (احسان عباس) الى انه لن یعمد الى تحلیل القصیدة ، ولكنه یسجل بعض الملاحظات التی بدأها بكون القصیدة تقدم معجماً لفظیاً متكاملاَ، كما انها (تجسد واقع الغربة الذی یعانیه الشاعر ، وهذهِ الغربة لیست غربة عن الذات وانما هی غربة میتافیزیقیة لانبتات الصلة بالمكان والزمان (التاریخ) ، ویؤكد الناقد بان البیاتی فی هذه القصیدة مؤمنٌ بإستحالة استردادهِ لهویتهِ لان الشاعر یؤكد انه سیبقى بلا وجهٍ ولا تاریخ ولا مكان ، ویخلص الدكتور (احسان عباس) فی نهایة تحلیله الى انه اذا كان كل من نازك والسیاب قد اشتركا فی ارتیاد شكل جدید ، فإن البیاتی كان اسبق المجددین الى تغییر طبیعة المحتوى فی ذلك الشكل . لقد القى الأولان حجراً فی ماء الشعر وسَرَّهُما – الى حین – اندیاح الدوائر واتساع اقطارها فی ذلك الماء ، وذهب الثالث یعمل على تحویل مجرى ذلك الماء لیسقی غراساً مختلفة.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:5|
البنائیة الأسطوریة عند السیاب
فی قصیدة
(سربروس فی بابل)
تقدم لنا التصورات البنائیة بطابعها الأسطوری ابنیه تركیبیة تشیر الى عملیة البناء الذی یتعلق بالكیفیة التركیبیة للنصوص الشعریة ، هذه الابنیة التی تقوم بتصور الوقع الاسطوری بوظیفة ذهنیة بفرز نموذج یقیمه الفعل العقلی بعد الفراغ من عملیات التشكیل المدروسة بتراتبیة بنائیة وهی توجد بالقوة التصوریة ، وبفعل التمثیل بمعالمها حتى یصل بالمبحث الاسطوری الى الدراسة المستفیظة والحالة المتتابعة للاحتمالات التی یتسع لها مصطلح البنائیة الاسطوریة عند السیاب ، وان التصمیم الذی یتعلق بهیكلیة هذه المنظومة الاسطوریة باعتبارها منظومة تتعلق بالكشف الحسی والادراك الظاهر للخصائص المتمثلة فی العنصر التركیبی للصورة التجریبیة للاسطورة وهی تعتمد على رموز عملیات التوصیل المتشكلة بالوقائع وان تعریف البنائیة الاسطوریة للشعر بانها اٍحكام دقیق لعملیات التولید الذهنیة بوقائع تتمثل فی الوصف لبنیة القصیدة عبر الاجابة على اسئلة تقتضی التمییز بین هذه التصورات المختلفة للبنیة الاسطوریة وهو الاصطلاح الذی تحدده نتائج ذات طابع موضوعی یحتكم فیه التولید والخلق الشعری الى اسس معرفیة . والسیاب اتخذ من هذه الوحدات البنائیة للاسطورة المكون المتشكل وفق قوانین الصیاغة وعنصر التمییز بین المنظومة الاسطوریة وطبیعة الوقائع التی تتصل بالظاهرة الصوتیة للقصیدة الى جانب رمزها المتمثل بالقدرة على اثارة هذه التصورات الذهنیة من الناحیة الدلالیة ، وعلیه فان العناصر التی تتعلق بالجانب الاتصالی الصوتی للمفردة الشعریة الذی نسمیه العنصر الموضوعی لحركة الاسطرة ، وقصیدة السیاب (سربروس فی بابل ) هی نسج اتصالی لحلقة مفقودة داخل هذه الوقائع فی العراق وان اساسیاتها مرتبطة بحالة التشابه البنائیة من الناحیة الاسطوریة بین المدلول الخارج للحدث ، والمدلول الداخلی لتركیبة البنیة السیاسیة فی العراق وهی البنیة الموضوعیة التی تكشفت للوهلة الاولى بالسیطرة الاستعماریة على العراق واقامة منظومات سیاسیة خاویة وخائبة قامت بتجریدها للاشیاء وفق حجة (البنائیة السیاسیة الجدیدة) وقد تشكلت هذه البنائیة السیاسیة على مجموعة من المنظومات السیاسیة ذات الدلالة الخارجیة وقد مثلت هذه المنظومات احكاما اسطوریة شكلت فی حینها اتجاها ت تاریخیة وشخصیة اعطته رؤیة جدیدة لعالم اسطوری تكمن فیه هذه الصورة البشعة المحكومة بالعلاقات المطلقة احیانا والمباشرة من الناحیة الفوضویة فی بناء هذه المنظومات. والبنیة الاسطوریة عند السیاب خاضت غمار هذه الصراعات متصلة بتركیب النص الشعری ونسجه اللغوی – والصوتی الخفی الذی یظهر فی اسطورة ( سربروس فی بابل) وهو الكلب الذی یحرس ( مملكة الموت) فی الاساطیر الیونانیة القدیمة حیث یقوم عرش (برسفون) الهة الربیع بعد ان اختطفها اله الموت وقد صور دانتی (فی الكومیدیا الالهیة ) حارسا ومعذبا للارواح الخاطئة( ).
والسیاب یمیز بین البنیة من ناحیة الاسلوب الاسطوری وهی تتصل بتركیبة النص والبنیة المتعلقة بالنسج اللغوی الاسطوری ، وفی الحالة الثانیة یتشكل النص الشعری عند السیاب حیث نرى البنیة تتصل بالحكایة ووظیفة الزمن والشخصیات وهیكل الاحداث الذی یشكل الخلیة اللغویة بمستویاتها الصوتیة وامكانیاتها البنائیة فی تاكید مهمة النص الشعری واهتمامه بفروع المعرفة الصوتیة المتخفیة والمضمرة داخل النص الشعری وهی تبحث عن الاسس النظریة لكی تجعل البحث النظری داخل هذه النصوص هی من الاهتمامات المتعمقة فی اشعار القاریء الجاد بان هناك معطیات عدیدة تقوم بعملیة التحلیل لهذا الاشعار الصوتی الخفی وهو یبلور نقطة عمیقة الجذور فی خلق هذا الكشف الدقیق للخصائص الاصیلة فی نظم الایقاع الصوتی الخفی، وقد یظهر هذا النظم عند السیاب وفق تراكیب عدیدة من الاختلافات ذات الدلالات العمیقة وهی القادرة بالمقابل على اضاءة حقائق قیمة ترتبط بالبنیة الاسطوریة وعقول تلك المجامیع البشریة التی تعین هذا الفهم من التطورات التی تحدث فی هذه التشكیلات ذات النظام الایقاعی الظاهر وفق اسس جذریة تتعلق بالدور التكوینی لاساسیات التوازن الاسطوری من الناحیة اللغویة الذی یقوم به التركیب الشعری وفق الصیغة الكیفیة من منظومة اللغة وتفاصیلها الصوتیة الخفیة التی تبلغ عنصر المبحث الشعری الذی یركز على المنظومة الایقاعیة التی تتناسب والمجال الطبیعی لحركة الاسطورة فی (سربروس فی بابل) وهنا یتشكل الفضاء الاسطوری عند السیاب بواسطة مركبات متعددة المستویات یطغی علیها الفعل الدلالی داخل اختلافیة للبنیة وفق قیمة دلالیة للمعنى بانكماش مجال التعدد للمعانی وازدیاد الاكتمال فی الفائدة التی تجعل ثراء المضمون من الناحیة الفنیة هو الجانب الامكانی فی الاستبعاد للمعانی المترهلة ،ونحن مع رای الجرجانی فی المعنى الذی (ینقسم الى قسمین)(قسم انت ترى احد الشاعرین فیه قد اتى بالمعنى غفلا ساذجا ، وترى الاخر قد اخرجه فی صورة تروق وتعجب)( ) المعنى الذی یاتی غفلا وفی الصورة الاخرى الذی یاتی مصنوعا ویكون ذلك اما لانه متاخرا قصر عن متقدم واما لانه هدى متاخرا لشیء لم یهتد الیه المتقدم. مثال ذلك:
قال البحتری:
لیل یصادفنی ومرهفة الحشا
ضدین اسهره لها وتنامه


وقول المتنبی :
وقیدت نفسی فی ذراك محبة
ومن وجد الاحسان قیدا تقیدا
وقول المتنبی:
وماثناك كلام الناس عن كرم
ومن یسد طریق العارض الهطل
وقول الكندی:
عزُّوا وعزَّ بعزهم من جاوروا
فهم الذرى وجماجم الهامات
فی هذه الابیات تتشكل الصور بعملیة اختلافیة ، وان البنائیة الشعریة التی تقول (ان المعنى فی هذا البیت هو المعنى فی ذلك ولاخلاف فی معنى عائد الیك فی البیت الثانی فی هیأته وصفته، وان الحكم فی البیتین كحكم الاسمین فی منظومة اللغة مثل (سربروس فی بابل) حسب ماتقوله الاسطورة الیونانیة ، ولكن السیاب جمع (سربروس) وهی كلمة یونانیة مع كلمة تخص حضارة بابل وسربروس كلب یحرس مملكة الموت فی الاساطیر الیونانیة – ولاعلاقة بین سربروس وبابل لان الكلمة الیونانیة لایجمعها جنس واحد مع بابل لان بینهما اختلاف كبیر فی تفاصیل المعنى ولكن هناك تطابق بین سربروس ووجوده الان فی العراق ، والسیاب كان یمیز بین هذه الاساطیر ومسمیاتها لانها تؤدی وظیفة تكاد تكون مطلقة من الناحیة الفنیة وهی تتمازج وتتداخل وتنسجم مع خواصها الاسطوریة برغم التصویر المتناقض فی نظر السیاب الذی انتج هذا التناقض فهو السبیل الى حالة الصیرورة الوجودیة واستمرار الحیاة برغم الاحتلال ورغم مایحدث من انتهاكات مریبة وهذا یذكرنا بقصیدة السیاب (وصیه من محتضر) حین یقول:
این العراق؟ واین شمس ضحاه تحملها سفینة
خیر البلاد سكنتموها بین خضراء وماء
هی جنة فحذار من افعى تدب على ثراها .
هذا یعنی ان الرمز الاسطوری عند السیاب كان رمزا ستراتیجیا فی بابل ولو كان الناقد المبدع عبالجبار عباس حیا لغیر رایه فی مفهوم الاسطورة عند السیاب لجعلها مفهوما ستراتیجیا ولیس كنایة بلاغیة ولیس فرصة للتلذذ باكتشاف الحقائق او الاختفاء وراء هذه الرموز ، وان الوظیفة الاسطوریة لاتنتهی بمجرد الانكشاف للقاریء لتشكیلة هذه الرموز وان سربروس هو لیس رمزا للطاغیة قاسم فقط انما هو رمز لاكبر احتلال عسكری (امیركی بریطانی للعراق) فی العصر الحدیث وفی هذا السیاق اتذكر قال لی الناقد الانطباعی المبدع عبدالجبار عباس ( انی كتبت كتاب السیاب بشكل سریع) ثم یستدرك الناقد الراحل فی الصفحة (196) من كتابه السیاب قائلا ( ان السیاب عمد الى الاكثار من الاساطیر لحاجة تنكریة) ویقول ( ان الاساطیر فی شعره لیست حلیة جمالیة تضاف الى قصائده ویمكن الاستغناء عنها ، بل امست ضرورة فنیة واسلوبا راسخا یبنی به قصیدته حتى لو لم یكن ثمة حرج من مضمون القصیدة بدلیل انه عمد الى هذه الاساطیر فی هجائه للشیوعیین فی قصیدة ( رؤیا 1956) وهذا اعتراف من الناقد المبدع عبالجبار عباس بان الاساطیر تؤدی وظیفة تنكریة قد یصح فی قصیدة ( سربروس فی بابل )( ) وهو رمز اسطوری عبر عن خیبة امل سیاسیة لم تحقق الحلم المنشود فی العراق .
یقول السیاب :
لیعوِ سربروس فی ا لدروب
فی بابل الحزینة المهدمة
ویملأ الفضاء زمزمة ،
یمزق الصغار بالنیوب ، یقضم العظام
ویشرب القلوب
عیناه نیزكان فی الظلام
وشدقه الرهیب موجتان من مُدى
تخبیء الردى .
و العلاقة التی تربط الاسطورة باللغة تكون من خلال ابراز الصورة ومظاهر التكوین فی التشكیلة المرئیة للصورة الشعریة وهی تقتضی رسالة لغویة تحدث داخل مجموعة من الاشیاء وهی تنتقل الى السیاق الاسطوری فی اللغة ، لانها تتخلل اللحظة الحرجة فی التصور داخل مكون لغوی اسطوری یتمتع بالمعنى الدلالی للاسطورة وهو مقتضى جدید لانطولوجیا الاسطورة عند السیاب حیث تعود هذه الجذور الى مفهوم الحاضر الوجودی فی فلسفة الاسطورة وفی اللحظة الراهنة عند السیاب وهو یكتب النص الشعری لانه أقتضاء یتعلق ببیان هذا العنصر الوجودی للاسطورة وملامحه الحاضرة فی مسار التذكیر الواقعی فی (سربروس فی بابل) وهو ایضا الزامی فی تبیان الموجود فی الحاضر ، والامر یتعلق فی مسار الكلب الذی یحرس مملكة الموت فی الاساطیر الیونانیة باعتباره لحظة خطابیة راهنة تتعلق بالحدث التاریخی للاسطورة لانه الكشف عن القیمة الاسطوریة فی ثنایا وجودها الذی تمیز بالتحدیث فی اطارها الفلسفی وهو تساؤل عن اللحظة ودلالتها اللغویة ومدى الامكانیة التی توفرها الاسطورة فی تدشین التحدیث كمسار یتمحور داخل منظومة التاریخ التی ارست الاشكالیة التقنیة كما تفسرها النصوص الاسطوریه ، وهی قیمة تقع فی مركزیة حركة التاریخ لانها اثبتت خصوصیة هذا التحدیث الاسطوری داخل نصوص السیاب الشعریة ، والسیاب اسس هذا التوازن الاسطوری فی فلسفة التحدیث وعمد على نقله خطابیا داخل شروط امكانیه ومعرفیة وهی تتحرك بملاحظة جد تحدیثیة وفق مقتضیات الحالة الراهنة ، فالكلب (سربروس ) هو نفس الكلب الذی یجوب العراق من شماله الى جنوبه حالیا وهو نفس العراق المهدم وسربروس الذی یمزق اطفاله( بالنیوب ویقضم العظام) وینشر الخراب والمكان هو العراق ولبنان وفلسطین الحقول التجریبیة فیما یتعلق بتحلیل النص الشعری بانطولوجیا الحاضر، ویرى السیاب ان التشخیص الدقیق لفلسفة الاختیار الاسطوری فی اللحظة الراهنة هو الشكل الممتد داخل اسس منهجیة تندرج داخل النص الشعری ،هذا المنهج اللاسطوری هو الذی شكل حفریات المعرفة منذ البدایة لدى السیاب وهو التجسید الحقیقی لما یحدث باختیار یمتد عبر التاریخ . والسیاب حول هذا الرصد للوحدات الاسطوریة بتجذیر یتعلق بالمقولات الواعیة التی تولدت بلغة اتصالیة عالیة الوقع بعد ان قوض مفهوم الوظیفة التنكریة للاسطورة التی اشتملت الحس التاریخی الذی یلوذ به السیاب كما یتهمه البعض من النقاد هنا وهناك فی كتب النقد ، فالسیاب لابس التاریخ بالاسطورة وبشكل تحدیثی باعتبارها تحول فی الانساق وتباین فی الانشطار الذی اصبح یطبع مسار النص الشعری للسیاب .
اشداقه الرهیبة الثلاثة احتراق
یؤج فی العراق-
لیعِو سربروس فی الدروب
وینبش التراب عن الهنا الدفین
تموزنا الطعین،
یاكله : یمص عینیه الى القرار ،
فی هذه الابیات یشكل المنظور اللغوی بانساق فلسفة الاسطورة واقعا جدلیا یستطلع اشكالیة التاریخ ، اننا نستطیع ان نفكك هذا التشكیل فی اللغة الاسطوریة وفق انموذج بنائی یعكس دعامة الوجود الصوتی الخفی للنص وفق مركزیة الماضی والحاضر ووفق رؤیة ارسطیة تفترض التاسیس اللغوی باقتراب یصور تدرج هذه العملیات وفق زمنیة لغویة تتقدمها المصدریة السیكولوجیة وفق منظومة تعتمد الثنائیة ( السیكولوجیة) الذهنیة فی استعمال یجذر التعیین بنظریة اللغة وذهنیة القدرة التطبیقیة للاسطورة واعادة تشكیل الوعی باستدعاء حركیة التاویل لنمطیة التفكیك الارسطی لهذه الوحدات التی تشكلت بنواة النظریة البنائیة فی اللغة ، فالسیاب افصح عن الابنیة النصیة باحتیاطی وفره ببناء سابق فی حلقة القص الاسطوری ورهافة فی النسج الشعری حیث طور هذه التكوینیة الاسطوریة بمشاهدة وسماع (العواء لسربروس) فی الدروب وفق منطق اجرائی انتجه السیاق الفلسفی للنص وفق انتقائیة تاملیة ماخوذة من تجربة الیباب لالیوت وعملیة النبش فی التراب والبحث الدقیق فی ثنایا التركیب للاسطورة فی (تموزنا الطعین) والسیاب واصل تتبع الواقعة المحسوسة سسیولوجیا انه الفعل العملی لتجمیع الحدود الفلسفیة للاسطورة داخل بوتقة التفكیك التعاقبی الذی شكله الصوت فی (یاكله یمص عینیه الى القرار) وهذا تحول فی المنظور الرؤیوی عند السیاب فی فلسفة اللغة الاسطوریة من وجهة النظر المركزیة للابنیة النصیة وهی تقوم بتاهیل الوعی الاسطوری من وجهة نظر دالة وشروح تمرر هذا الارث الفلسفی للاسطورة عند السیاب .
یقصم صلبه القوی، یحطم الجراء
بین یدیه ، ینثر الورود والشقیق .
اواه لو یُفیق
الهنا الفتیُ، لویبرعم الحقول ،
لو ینثر البیادر النضارفی السهول،
لو ینتضی الحسام ، لویفجر الرعود والبروق والمطر
ویطلق السیول من یدیه. اه لو یؤوب !
ان المباشرة بتمثیل العودة لحقیقة بعث الحیاة من جدید لانها العنصر الوسیط الذی یربط بین لغة التمثیل هذه من الناحیة (السیمیولوجیة) لانها تفعل فعل التجاوز لحدود اللغة العادیة ای لغة الاداة الى لغة الاسطورة الفلسفیة وهذا موضوع یعكس المبحث (السیمیولوجی) فی وحداته الدالة الكبرى لان المنحى اللغوی الذی ینتهجه السیاب فی هذه الاشكالیة هو منحى الرسائل المشفرة التی تتواصل مع العام الاسطوری لفلسفة اللغة وفق دراسة بنائیة تتموضع داخل الوظیفة الشعریة لانها الاهمیة الدقیقة فی اقتضاء الضرورة لان السیاب یقوم بایقاف الانماط التقلیدیة للغة ذلك بانتقاله الى العمق لینشر البیادر النضار فی السهول ، فهو یربط التفاوت الاختلافی فی اللغة وفق سیمیولوجیا تاسیسیة لرموز اسطوریة یستخدمها السیاب كرسائل مشفرة یحاول ان یتواصل مع الرمزیة التقلیدیة للغة وبالمحاور اللغویة الاوسع فی ظل سیمیولوجیة التواصل (الانثروبولوجی للغة) (لو ینتضی الحسام ، لویفجر الرعود والبروق والمطر ) ویطلق السیول من یدیه . اه لو یؤوب !) وهذه حالة التصنیف للابنیة اللغویة وفق تلك المعاییر المشفرة عند السیاب من الناحیة الاسطوریة . والسیاب اعتمد علاقة التجاور الحسی فی اللغة، فالاشارة عنده ترتبط (بالدال والمدلول) وهی تتجاوز المنحى الواقعی الى مشهد الواقع الاسطوری ، وهناك علاقة ایقونیة تتمركز فی الدال والمدلول فهی ترتبط بالمشاركات الشكلیة وتظهر اثناء القراءة او فی التصویر اللغوی للمشهد فی حقیقته الاسطوریة ( الهنا الفتی لو یبرعم الحقول). لقد اتخذ السیاب فی بنائه الاسطوری دلالة تحدیثیة قائمة بین ماحدث فی العراق فی المرحلة الماضیة ای فی العام 1959 وبین ما یحدث الان من اشكالیات وتجاوز فی ظل الاحتلال العسكری الامیركی البریطانی للعراق ، ففعل التشابه قائم بین المرحلتین التاریخیتین قبل العام 1958 وامتداداتهما فیما بعد وما حصل من نزاعات سیاسیة ، هذه التركیبة او المعادلة الرمزیة فهی تؤكد الدال والمدلول فی الرابطة الفعلیة بین الداخل والخارج والحالة الرمزیة التی لم تنفصل لانها تمثل مرجعیات رمزیة واسطوریة مختلفة ، واننا نلاحظ هذا التنوع التدریجی القائم على الانتقال داخل الحدث التاریخی من مرتبة تحدیثیة فی النص الى مرتبة تحدیثیة اخرى وهی تتشكل من الناحیة اللغویة على اساس تقلیدی فی عملیة تفصیل الحدث كما قلنا فی بدایة هذا البحث ، الا ان الوظیفة الاسطوریة هی التی تخضع هذه المستویات من البنیة اللغویة الى الحالة الضروریه فی تكوین الصیرورة ، وهو مظهر اشاری مشفر عند السیاب لانه یكتسب اهمیة (سیمیولوجیة) من ناحیة انتاج الرمز الاشاری لیتفاعل مع العناصر الایقونیة التی تتمثل فی الدوائر اللغویة المشفرة مع الاخذ بعین الاعتبار الرموز اللغویة الاداتیة التی تنبنی بالتقابل مع هذه المفاصل الرمزیة المحددة بالسیمیولوجیا الثقافیة وهی تضفی على النص عدة من الدلالات والاعتبارات السسیولوجیة العامة .
یقول السیاب:
لحافنا التراب ، فوقه من القمر
دم ، ومن نهود نسوة العراق طین .
ونحن اذ نبض من مغاور السنین
نرى العراق ، یسال الصغار فی قراره :
(ما القمح ؟ ماالثمر ؟ )
ماالماء ؟ ماالمهود ؟ ماالاله ؟ ماالبشر ؟
فالتقسیم الذی تمحور فی العلاقة السیمیولوجیة الخاصة بین (سربروس الامیركی فی العراق) وهی الاشارة التی تتضمن العلاقة بین الدال والمدلول وفق منظومة (داخلیة وخارجیة) وهی ترتبط باشارات تتكون من سیاقات متجاورة ومعروفة ، اما التشابه الحسی (لسیمیولوجیا اللغة) التی تركزت على التجاور الواقعی وفق انموذج لغوی اسطوری واضح وهو یشیر الى العلاقة الایقونیة بین الدال والمدلول بالمشاركة النوعیة التی تظهر للمتلقی لهذه الابیات الشعریة التحدیثیة عند السیاب لتضع التشابه وفق النسبة والتناسب فی اطار مراحل تاریخیة تتجلى فیها المشاهد (السسیولوجیة الحسیة) وتلتقی فیها الصیغ المتناظرة بقساوة تلك الابعاد التاریخیة ، والتشابه الحاصل فی المحصلات فی العراق ماقبل العام 1958 وما بعدها وبین احتلال العراق فی العام 2003 من قبل الامبراطوریة العسكریة الامیركیة ، فالذی حصل هو صدق حدس السیاب فی التحدیث للنص الشعری وماشكله من رموز اسطوریة فی الكلب (سربروس) هذا الكلب الاسطوری الذی ظهر فی مرحلتین تاریخیتین من اخطر المراحل التأرخیة التی حدثت فی العراق الذی شكل التنوع فی الدلالة التحدیثیة فاصبح معناه الرمزی یقع طردیا فی سلم التاریخ وفی المقدمة فی تصویر فعل هذا التجاور وقوته اللغویة الاسطوریة وتراثه وعمقه الرمزی ، والسیاب یهدف من هذا التحدیث السسیولوجی للنص الشعری عبر البحث السیمیولوجی ووفق وظیفة بنائیة فی تمثیل قائمة من الاسئلة ، ولذلك ینبغی ان نحدد طریقة الانبثاق فی تفصیل معیار الحدث الشعری وهو یتركب من الاشیاء لیتصل بتلك المحاور السیمیولوجیة التی تشیر الى الضرورات الدالة فی ( ما القمح؟ ما الثمر ؟ ما الماء ؟ مالمهود ؟ ما الاله ؟ ما البشر ؟ ) هذه الضرورات من الاسئلة تتعرض لجوانب سیكولوجیة وسسیولوجیة واقتصادیة ودینیة اضافة الى الدلالة الرمزیة التكوینیة وهذا یرتبط بتشكیلة الانبثاق التی تتعلق بمنهجیة التحدیث للنص الشعری عند السیاب ، فكـان جواب السیاب:
رفیقة الزهور والمیاه والطیوب ،
عشتار ربة الشمال والجنوب ،
تسیر فی السهول والوهاد
تسیر فی الدروب
تلقط منها لحن تموزاذا انتثر ،
تلمه فی سلة كأنه الثمر
لكن سربروس بابل – الجحیم
یحبُ . فی الدروب خلفها ویركض
ان الوصول الى البنیة السیمیولوجیة یؤكدها الاختیار التوثیقی للدلالة فی انتظام یستخلصه كشف القواعد العملیة للغة الاسطوریة وفق المستوى التوقیتی الذی الزمه التناول لزمنیة عشتار الدالة من الناحیة الاسطوریة , وهی زمنیة متغیرة وفق حتمیات واختیارات تتوضح انظمتها بالبحث على مستوى التاریخ للوصول الى حالة ایقاعیة تؤكد سر المتغیرات فی الوعی السیمیولوجی للاسطورة ،وهنا یتم اخضاع العنصر السیاقی الى مفهوم الدوائر الدلالیة وفق استیعاب ینبثق بدلالة اختلافیة للاسطوره(عشتار ربة الشمال والجنوب ) و(تلقط منها لحم تموز اذا انتثر ،) وهنا تاتی وظیفة النظم الدلالی المتعلقة بالمنهجیة السیمیولوجیة طبقا للحالة البنائیة ، والسیاب یتمثل تصوره للاشیاء من خلال تواصل حلقة الانبثاق للاتصال بالموضوع السیمیولوجی للاسطورة وتشیر دلالة الاشیاء الى الحالة الضروریة التی یتركب فیها مستوى الوعی للاسطورة والتضامن الذی تقتضیه الوحدات المتبادلة سواء على المستوى اللغوی للاسطورة او مستوى الانساق التوفیقیة داخل البنیة اللغویة ، فالاختیار یأتی مرة اخرى فی نظر السیاب بحركة الفعل الانبثاقی حیث تنبعث عشتار بحكم التوفیقیة الاسطوریة وبرغم الخضوع السیاقی وتدرجه واحتمالاته ، فالمنظومة الاسطوریة تتناسب بشكل عكسی مع حجم الواقعة والوقیعة التی احدثها (سربروس فی عشتار ) لكن الادلة اللغویة تشیر الى عملیة التوازن عند السیاب وهی عودة البنیة الاسطوریة فی التدرج والتقنیة فی الانبعاث . هذا التدرّج هو الذی یحدد مفهوم التغایر الذی یحدث فی سیمیولوجیة اللغة بصفته تطابقا یفضی الى حاجة واستجابات لوسائط تتموضع فی الاتساق والمكوث والاجابة على كل الاحتمالات التی یحدثها ( سربروس فی بابل وفی عشتار حصرا)
یمزق النعال فی اقدامها یعضعض ،
سیقانها اللدان ، ینهش الیدین او یمزق الرداء.
یلوث الوشاح بالدم القدیم
یمزج الدم الجدید بالعواء .
لیعوِ سربروس فی الدروب
لینهش الالهة الحزینة ، الالهة المروعه ،
فان من دمائها ستخضب الحبوب
سینبت الاله ، فالشرائح الموزعة
تجمعت ؟ تململت . سیولد الضیاء
من رحم یترُُّ بالدماء .
لقد افرغ السیاب اللغة من التلیّف والخضوع الى طائلة الذات الاسطوریة وعممها بالواقعة وبحركة تصویریة مثلت أداة التبادل فی هذه الوقائع من صیغ اللفظ السیمیولوجی الذی افصح عن معناه بطریقة منفتحة على الحس والربط الجدلی بین هذا التموضع داخل الحس والنسج داخل الجملة الشعریة بافتراض مبحث سیمیولوجی یخضع العلامة الى الدلالة كما فی (لینهش الالهة الحزینة ، الالهة المروعة ، فان من دمها ستخضب الحبوب) فالمبحث الدلالی اكتسب الجدیة فی الاتصال بالاخر حیث استند الى المطابقة فی اللغة والتوثیق الاسطوریین وفق مقاومة تتشكل بالواقعة لعشتار والعودة الى الجذور الفكریة للاسطورة الرافدینیة باعتماد المغزى السسیولوجی، لان هذا الافتراض یذكرنا بالمغزى الفكری وفق دلالة لغویة تشكل المحتوى لهذا الفكر الرافدینی ، والسیاب موضع المستوى الدلالی حین موضع اللغة وطوع الاسطورة تحت هامش التاویل باستهداف یمتلك انعكاسیة مرتبطة بالخطاب الشعری المتین الذی وضع ارضیة للدلالة تحت رایة اللغة الاسطوریة بانجاز تخاطبی ذی اهمیة ( انثروبولوجیة) مكن السیاب من خلال التعبیر الاسطوری واللغة المؤسطرة العالیة الخصوبة ان یؤكد هذا الانفتاح داخل رؤیة جدلیة وجودیة تعنی بحركة الاتصال والتواصل مع جدلیة التاریخ من خلال الكشف اللغوی للاسطورة وعلاقتها التحدیثیة بالنص الشعری صاحب الجاذبیة العلائقیة فی التحدیث .

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:4|
تحلیل الخطاب.. مقدمة للقارئ العربی




تقدیم:

مصطلحات كل علم تالیةٌ له فی الوجود، وكلّما تقدّم العلم إلاَّ ونمت مصطلحاته، وتحدَّدت معانیها، ممّا یفرض على العلم حتمیَة الرُّجُوع إلى ذاته لتأمُّلها ومساءلتها بمناقشة تصوُّراته ومصطلحاته، وإذا لم یفعل ذلك فالتاریخ كفیلٌ بأنْ یقومَ بهذا العمل، ممّا یفضحه أمام ذاته وأمام الآخرین.

وتسعى هذه المساءلة، التی أحسبها مقدمة للقارئ العربی، إلى استنطاق بعضٍ من الموروث النقدی والمصطلحی العربی والغربی من منظور معجمی ودلالی وتنظیری بما یكفل الوقوف على دلالات: النص والخطاب وما یعتریهما من تداخل وتلازم مع كلٍّ من التحلیل والنّقد والقراءة.

هذا وأخشى أن أكون فی تقدیمی لهذا البحث مثلُ الذی آخذه على المشتغلین فی حقل الدراسات اللسانیة والنقدیة من الاختلاط والتراكم وغیاب النّسق، وإذن تكون مداخلتی هذه دلیلاً ذاتیاً على الموضوع الذی تتصدّى له، ولا ضَیْر، لأنّ مطلق التصریح بهذا الوعی الذاتی خطوةً نحو تجاوز هذا الوضع.

أولاُ: بین النص والخطاب:

1-النص:

النّون والصّاد أصل صحیح یدلّ على رَفْعٍ وارتفاعٍ وانتهاء فی الشیء. یقالُ:نصَّ الحدیثَ إلى فلان: رَفَعه إلیه. والنَّصُّ فی السَّیْر أَرْفَعُه. ومِنَصَّةُ العَرُوس منه أیضاً. وباتً فُلاَنٌ مُنْتَصّاً على بعیره، أی مُنْتَصِباً. ونَصُّ كلِّ شیء:مُنْتَهاهُ. ونَصَصْتُ الرَّجُلَ: استقْصَیْتُ مسألتَه عن الشیء حتّى تستخرجَ ما عنده. وهو القیاسُ،لأنّك تبتغی بُلُوغَ النِّهایة. ومن هذه الكلمة النَّصْنَصَةُ: إثباتُ البعیر رُكْبَتَیْه فی الأرضِ إذا هَمَّ بالنُّهُوض. والنَّصْنَصَةُ: التَّحْریكُ. والنُّصَّةُ: القَصَّةُ من شَعْر الرَّأْس، وهی على مَوْضِعٍ رَفیعٍ.

ومن المنظور الاصطلاحی، فإن النص "نسج تتخلّله جملة من الوحدات الدالة والمفاهیم القائمة"، وهو تعریف "رولان برث". وانطلاقا من تعریف النص المقترح من "تودوروف فإن النص لا یقع فی المستوى نفسه الذی تقع فیه الجملة، كما أنه لا یقع موقعها من حیث المفهوم. وعلى هذا الأساس فإن النص یجب أن یتمیز عن الفِقْرة باعتبارها وحدة نمطیة من عدة جمل، لذا، یمكن عدُّها علامة من علامات الترقیم. كما أنّ النصّ فی تصوّّر "تودوروف" یتحدّد باستقلالیته وانغلاقه (أی له بدایة ونهایة)، كما أنّه ذو محتوى دلالی متجانس متكامل، ویمتاز بالوضوح، بینما سعى بنفنیست" إلى القول بأنّ: "الجملة إبداعٌ لیس له تعریف، وتنوّعٌ بدون حدود، وهی الحیاة نفسها للغة فی أثناء الفعل".

كما انتهى محمد مفتاح إلى أنَّ النصّ "مدوَّنة حدث كلامی ذی وظائف متعدّدة"، وذلك على الرّغم من إقراره المبدئی بأنَّ "للنصّ تعاریف عدیدة تعكس توجهات معرفیة ونظریة ومنهجیة مختلفة".

فبوصفه:

- "مدوَّنة كلامیة"، یعنی أنّه لیس صورة فوتوغرافیة أو رسما أو عمارة أو زیّاً، وإن استعان الدَّارس برسم الكتابة وفضائها وهندستها فی التحلیل.

- "حدث": یقع فی زمان ومكان معیّنیْن لا یعید نفسه إعادة مطلقة مثله فی ذلك مثل الحدث التاریخی.

- "تواصلی": یهدف إلى إیصال معلومات ومعارف ونقل تجارب إلى المتلقی.

- "تفاعلی": على اعتبار أنَّ أهم وظائفه التفاعلیة للنصّ اللغوی هی تلك التی تقیم علاقات بین أفراد المجتمع وتحافظ علیها، علماً بأنّ الوظیفة التواصلیة فی اللغة لیست كلّ شیء.

- "مغلق": ونقصد انعلاق سمته الكتابیة الأیقونیة التی لها بدایة ونهایة، ولكنّه من الناحیة المعنویة هو:

- "توالدی": كون الحدث اللغوی لیس منبثقاً من عدم، وإنّما هو متولّد من أحداث تاریخیة ونفسانیة ولغویة، وتتناسل منه أحداث لغویة لاحقة به.

تلك هی أهم "المقومات الجوهریة الأساسیة "للنص من وجهة نظر بنیویة، واجتماعیة أدبیة، ونفسیة دلالیة، ووفق منظور تحلیل الخطاب".

فالنص إذن، منعكس لثقافة المجتمع بكافة شبكاته المعقدة عبر التاریخ والجغرافیة والعلاقات بین الأفراد أی أنه ذاكرة ملخصة للنظام المعرفی للمجتمع. فالنص أیا كان هو مجموعة من العلاقات اللغویة التی تخدم فكرة أو مجموعة أفكار أو مفاهیم قابلة للتفسیر والشرح والتأویل مما یمهد لتطویع النص لقراءات جدیدة أو تأكید قراءة ما.

2- الخطاب:

لغة: من خَطَبَ: یقال خاطَبَهُ، یُخَاطِبُهُ خِطاباً، والخُطْبَةُ من ذلك، وهی: الكلام المَخْطُوبُ به. والخَطْب: الأمر یقعُ، وإنَّما یُسَمَّى بذلك لما یقعُ فیه من التَّخاطُب والمُراجَعَة. وفَصْلُ الخِطاب: أی خِطابٌ لا یكونُ فیه اخْتِصارٌ مُخلٌّ ولا إسْهَابٌ مُمِلٌّ.

وهو فی الاصطلاح: الكلام بین اثنین بوساطة شَفَهیة أو مَكْتُوبة أو مَرْئِیَة، والخِطَابُ: الرِّسَالةُ، وهو ممّا أقرّه مَجْمعُ اللغة العربیة بالقاهرة.

وهو فی عرف ج. دوبوا من وجهة نَظَرٍ لسَانِیة متعدّدُ المفاهیم، إذْ یُمكن أن یكون:

1- الكلام

2- مرادف للملفوظ

3- ملفوظ أكبر من الجملة

فإذا وقفنا على هذه المفاهیم الثلاثة، ألفینا رولان بارث نتصر للتحدید الثالث، ویتّخذه مرتكزاً لتحلیله البنیوی، فمن وجهة نظر القواعد فهو سلسلة متتالیة من الجمل. ولكن التحلیل اللسانی للخطاب ینطلق من التعریف الثانی (خطاب/ ملفوظ)، إذ المنطلق یضع حدوداً للطرح بین ما هو لسانی وغیر لسانی، ذلك لأنّ اللسانیات تسعى لمعالجة الملفوظات المجتمعة، ودراسة مسارها عندما تحدّد قواعد للخطاب وقوانین، وتصفه وصفاُ معقولاً وقابلاً للملاحظة والتأمّل كسلسلة متتالیة من الجمل.

ثانیاً- لماذا اعتماد الخطاب المكتوب دون المنطوق؟

اللغة نظام. والنّظام اللغوی أنماطٌ عرفیة تنتظم فی الأصوات والكلمات والتراكیب للتعبیر عن المعانی والتجارب والأحداث والمشاعر. أمّا الأنماط، فهی صور المفردات، نحو (فَعَلَ، فُعِلَ) وبالنسبة للأسماء (المجرّد والمزید). فالأنماط إذن: صیغ تواضع علیها الأفراد فی مجتمع ما وتنتظم فیها الأصوات والكلمات (إذ لا یمكن أن نقول مثلاً فی "المَجْلِس" (على وزن مَفْعِل) "تَجَلَّسَ"، أی أنّ كلّ حرف یأخذ موضعه المُحدّد من الصیغة.

وبناءً على ما سبق یمكن أن نجمل مستویات الأداء اللغوی فی ثلاثة أمور أساسیة، هی:

1- الأداء العامّی: الذی ینقل ما فی الحیاة الیومیة بتراكیب وأصوات فیها الاضطراب والعُجْمة.

2- الأداء العلمی لنقل الأفكار، ویكون بأصوات وتراكیب تعتمد الصحّة فحسب.

3- المستوى الفنّی لنقل التجارب: ویظهر فی أصوات وتراكیب تعتمد الفصاحة والبلاغة، إذ یجب أن نختار الأغراض المناسبة لهذا الفن أو ذاك (ترحّم، أسىً، رثاء)، وأن نختار التعبیر الصحیح البلیغ والعبارة المؤثّرة قصد التأثیر بأسالیب فنیة تناسب المقام وتعتمد ضوابط مشتركة توافق القیاس والسّماع.

إن اللغة مجموعة من العناصر اللغویة التی یعتمدها المتكلم أو الكاتب فی صیاغته نصوصه، بینما فی مجال الخطاب یعتمد موروثه اللغوی المكتسب أداة لإنجاز رسالة خاصة، وفق ملابسات وظروف معینة. وعلى هذا فالخطاب لا یكافئ اللغة فی شیء بل یختلف عنها جملة وتفصیلا.

ثالثاً:- بین الخطاب الأدبی والنصّ الأدبی:

إن المجتمع ینتج نصوصاً أدبیة، وعلى اللغوی أن یكتفی بعرض جملة من المفاهیم والحدود الكفیلة بإیضاح خصائص أسلوبیة على نحو تحدیده مواقع النّعوت فی مثل: (سعید أشقر اللّون) و (سعید وسیمٌ قسیمٌ)، فالنَّعتُ فی المثال الأوّل وصفی، وفی المثال الثّانی تقویمی، وعلى هذا فالنصّ الأدبی إیحائی الدّلالی بینما یرمی الخطاب الأدبی یرمی إلى التواصل الأدبی (نظریة الأدب)، والمشكلة إزاء ذلك لا تزال قائمة، یضاف إلى ذلك أنّ الخطاب التأویلی لا یزال حقلاً معرفیاُ لا یمكن حصره على وجه من الوجوه. كما أنّه لا یمكننا بأی حال من الأحوال أن نضع النصّ الأدبی الشعری والنّصوص العلمیة والدینیة (تجوّزاً) على قدر من المساواة فی المعالجة والمعاملة. "لذلك فالنصُّ الشّعری مثلاً لیس مدوَّنة أحكام سماویة تقدّم مسبقاً أجوبة عمّا تطرحهُ من أسئلة. فخلافاً للنصّ الدینی الشّرعی الذی یعدُّ حجّةً والذی یتعیّنُ إدراك معناه الجاهز على كلّ امرئ یمتلك أذنیْن للسَّماع، فإنّ النصّ الشعری متصوَّرٌ على أنّه بنیَة تقتضی أن ینمو فیها، ضمن فهم متَحاوَرٍ حُرٍّ، معنىً لیس مُنَزَّلا من أوّل وهلة، بل معنىً یتمُّ تفعیلهُ خلال تلقیّه المتعاقب التی یُطابقُ تسلسلُها الأسئلة والأجوبة. وجمالیة التلقی تحدّد لنفسها غایة الكشف عن الكیفیة التی یتمُّ بها تشكُّلُ المعنى حین یُنجزُ الشّاعر صراحةً هذا التسلسل الذی یظلُّ على العكس كامناً فی أغلب الأحیان".

فجمالیة التلقی إذن، دعوة إلى تأویل جدید للنص الأدبی یروم استجلاء سمات التفرّد وإبداع فیه (أو نقیضهما الإتّباع ووالابتذال) لا باستنطاق عمقه الفكری فی حدّ ذاته أو وصف سیرورة تشكّله الخارجی كما هی فی ذاتها، وإنّما بتحدید طبیعة وقعه وشدّة أثره فی القراءة والنقّاد من ردود فعلهم وخطاباتهم. فهی إذن نقدٌ للنصّ بنقد تلقّیه، الأمر الذی یعدم أیّ علاقة بین جمالیة التلقّی ونقد النّقد.

على أن من الدَّارسین المحدثین من یوجب الإقرار بأنه من "العبث، البحث عن فوارق أو أوجه التقارب بین الخطاب والنص، ذلك لأنّ مفهوم الخطاب احتضنته علوم لسانیة وقَعَّدت له، فصار حقلاً من حقولها، ولمّا تلقّفه المعجم النقدی للعلوم الإنسانیة انزاح عن خصوصیته اللسانیة، فعرَف توسّعاً فی الاستعمال، وإنْ حرص بعض الدّارسین فی حقول العلوم الإنسانیة والاجتماعیة على الاحتفاظ بجوهر مرجعیته اللسانیة. لكنّنا عندما نُعاین استعمالاته فی كتاباتهم ونقابلها بالدراسات اللسانیة الصّارمة، تظهر الهوّة كبیرة. أمّا مصطلح النصّ، إذا لم یستقر له تصوُّرٌ لدى المنظّرین، حیث اعترفوا بصعوبة تحدید ماهیته، فمن العسیر أیضاً التقریب بینه وبین الخطاب، ذلك أنّ نظریة النصّ تنزع نحو الدرس الفلسفی والجمالی، لهذا وجبَ التریُّث فی استعمال المفاهیم وتحدید مواقعها فی المعجم النقدی، بل أصبح الأمر فی بعض الأحیان لهواً وتَرفاً علمیَّیْن لا جدوى منه". وفی هذا إقرار بعدم القول بالتطابق التامّ بینهما.

رابعاً-التحلیل:

لغة: من حلّل العقدة: أی فكها وحلّل الشیء: أرجعه إلى عناصره الأولى. وحلَّلْت الیمین أحلِّلها تحلیلا: أی لمْ أفعلْ إلاَّ بقَدْر ما حلَّلتُ به قَسَمی أنْ أفْعَلَهُ ولمْ أُبالغ، ثمَّ كثُر هذا فی كلامهم حتَّى قیل لكل شیء لمْ یُبالغ فیه تحلیلٌ.

والتحلیل اصطلاحا: هو بیان أجزاء الشیء ووظیفة كل جزء فیها ویقوم على الشرح والتفسیر والتأویل والعمل على جعل النص واضحًا جلیّاً. ومن هذا المنطلق یركز الناقد على اللغة والأسلوب والعلاقات المتبادلة بین الأجزاء والكل، لكی یصبح معنى النص ورمزیته واضحَین، من حیث یعتمد التلخیص لما فیها من تنظیم المعلومات بشكل منطقی، وقدرةً على فهم النص. لذا فإنّ قراءة النص على عَجَلٍ لا تعد تحلیلا، فإذا وقف القارئ على النص وقفة سریعة وفهم فیها النص وأدرك مغزاه، وقرأ ما بین السُّطور، وكان على وعی بالدلالات الاجتماعیة للألفاظ، وعرف عناصر الجمال والقبح فیه، دخل فی منطقة النقد والتذوق الأدبی. أما عملیة التحلیل الفنی فإنها تحتاج إلى جهد ووقت وخبرة وبحث وتنقیر.

أمّا وقد قام التحلیل على التفسیر والشرح والتأویل، ألا یوجد فرق بین هذه المعانی جمیعها؟

الحقّ أن أغلب هذه المعانی معانٍ مشتركة, وإن كانت فی الوقت نفسه تتفرَّدُ بدلالات خاصة تمیزها عن المعانی الأخرى, إلا أن الشرح ارتبط كثیرا بالتفسیر, ولعل هذه المفردة هی التی تؤدی المعنى على أحسن وجه, فالمعانی الأخرى تحوی معنى الشرح ولكنها لا تشمله. فالشرح، وإن ارتبط بمعانی الكشف والتوضیح والبیان, والفتح والتفسیر والحفظ فإنّه یجمع بین بیان وضع اللفظ وبین تفسیر باطن اللفظ, أی "التفسیر" و"التأویل"، أمّا "التفسیر" فكشْفُ المُراد عن اللفظ المشكل وبیان وضع اللفظ إمّا حقیقة أو مجازاً. أمّا "التأویل" فمن: أوَّل الكلام وتأوَّله: دبَّره وقدَّره وأوَّله: فسَّره، ویكون ذلك بردّ أحد المحتمَلَیْن إلى ما یطابق الظاهر، وبذلك خرجت دلالات هذه الألفاظ من معنى المشترك حین دخلت مجال الدراسة العلمیة , فاختص التأویل والتفسیر بالدراسة القرآنیة والمعجمیة, والشرح بالشعر, إلا فیما ندر, وأصبح لكل منها اصطلاح خاص به. فالشرح هو التعلیق على مصنف درس من وجهة علوم مختلفة وقد كتبت الشروح على معظم الرسائل المشهورة أو الأشعار العربیة نحو شرح مقامات الحریری (ت516هـ)، وشرح مشكل شعر المتنبی لابن سیده (ت 458هـ). وعلى هذا فالشّرح أیضا:" توضیح المعنى البعید بمعان قریبة معروفة "ومن هنا اكتسب الشرح معناه الخاص. وأما التفسیر, فهو شرح, لكنه من نوع آخر, فهو "شرح لغوی أو مذهبی لنص من النصوص" ومن هنا نجد أنّ هذا الاختصاص لم یأت اعتباطا, فلكل مصطلح مجاله الذی یتقاطع فیه مع المجال الثانی, لكنه لا یتّحد معه على الرغم من اتحادهما فی الأصل اللغوی.

وعلى هذا فإن الشرح لفظ عام, وهو مصطلح ذو شقّین: التفسیر والتأویل, وقد یتداخل الشِّقاَّن أثناء عملیة الشرح, فنضطر إلى التعامل مع التفسیر على أنّه مرادف للشرح.

وبناءً على ما تقدّم، فإنّ التحلیل: هو دراسة نقف بها على كشف خبایاها الرسالة المنطوقة أو المكتوبة أو المرئیة، كما نقف على جزئیاتها وعناصرها الأولیة، ووظیفة كل منها بالشرح والتفسیر والتأویل، دون مبالغة فی ذلك أو إخلال فیه.

خامساً- النقد:

من نقَدَ، وهو "أصل صحیح على إبرَاز شیء وبُروزه. من ذلك: النَّقْد فی الحافر، وهو تقشُّره. والنَّقْد فی الضِّرْس: تكسُّره، وذلك یكون بتكشف لِیطِه عنه, ومن الباب: نَقْدُ الدِّرْهَم، وذلك أن یُكْشَفَ عن الحَال فی جَوْدته أو غیر ذلك. ودرهم نقد: وَازِنٌ جیِّدٌ، كأنه قد كشف عن حاله فعُلِم. وتقولُ العربُ: ما زالَ فُلانٌ یَنْقُدُ الشَّیءَ، إذا لَمْ یُدیمُ النَّظَر إلیه باختلاسٍ حتَّى لا یُفْطَنَ لهُ.

على أنَّ النَّقْدَ الذی یعنی التَّمْییزَ یعبّرُ عن حُكْمِ قیمة جمالیة بالجَوْدة أوْ الرَّداءَة هیَّأ لاستخدامه مجازاً فی التََّمْییز بین جیِّد الشِّعْر والكلام وردیئهما إلى أن ظهرت وظیفة ناقد الكلام والنَّاقد الأدبی. "فالنّاقد الأدبی إذن یعدُّ مبدئیاً خبیراً یستعمل قدرة خاصة ومرانة خاصة فی قطعة من الفن الأدبی هی عمل لمؤلِّف ما یفحص مزایاها وعیوبها ویصدر علیها حُكماً". فمن المَجاز قولهم: "نقدَ الكلامَ: ناقشهُ. وهو من نَقَدَة الشِّعر ونُقّاده. وانْتَقَدَ الشِّعْرَ على قَائله".

وقد أتى على أهل التألیف حینٌ من الدَّهْر ساروا فیه بین (نقد الشِّعر) و (تمییز جیِّده من ردیئه)، یقول قدامة بن جعفر (ت337هـ):" ولَمْ أجِدْ أحداً وضَع فی نَقْد الشِّعر وتلخیص جیِّده من ردیئه كتاباً".

وعلى هذا فالنَّقد اصطلاحا: هو حكم ٌ قیمی أو عملیة كشف أو مناقشة یُمَّیز بها الأثر الأدبی أو الفنی جیّده من ردیئه وصحیحه من زیفه،الأمر الذی جعل منه ممارسة تقوم على قواعد معیاریة یُحاكم بها الأثر الأدبی، ممّا حدا بمعظم الدارسین المحدثین إلى إدانته، إدانة ما قام علیه من نقد حدیث ومعاصر. فبعضهم یتّهمه بالتقصیر والضیاع,وفقدان المنهجیة, وبعضهم یتهمه بأنه یخلع على الأدب العربی ثوباً على غیر مثاله, فبدا مُضْحكاً مرفوضاً فی صورته الحدیثة والمعاصرة، الأمر الذی یجعل بعض تطبیقاته ظواهر غیر صحیة تقوم على "التَّخَنْدُق والتحیُّز والمعیاریة"، وصار "ضرَراً" و"خُدعةً" حینما وقفنا قانعین "بما قاله غیرنا عن مؤلّف عظیم بدل أن نذهب مباشرة إلى ذلك الأدیب، ونحاول أن نمتلك أدبه لأنفسنا".

أمّا النقد الحدیث من منظور غربی, فیرى فی النقد القدیم إیمانًا بوجود محتمل نقدی, وأنّه ذو نزعة حرفیة یتعامى عن رؤیة الطبیعة الرمزیة للقول الأدبی, لذا فقد" أصرَّ بارث فی بعض المناسبات أنَّهُ لیس ناقداً أدبیاً. فلقد كان یرى أنّ النَّقد یشتمل على التقویم وإصدار الأحكام، الأمر الذی یرى فیه نشاطاً برجوازیاً رفض أن یشارك فیه"، لذا فإنّه یعوّل على مفهوم ودور للنقد الحدیث یرى فیه النّاقد قد أصبح كاتباً بمعنى الكلمة, وأنّ النقد غدا من الضروری أن یقرأ ككتابة، على اعتبار أنّ النَّاقد لا یُمكنه أن یكون بدیلاً للقارئ فی شیء، إذ لیس من المجد أن یسمح لنفسه- أو یطلب من منه البعض- إعطاء صوت، مهما یكن محترماً، لقراءة الآخرین، ولا یكون هو ذاته سوى قارئ أنَابَهُ آخرون للتعبیر عن مشاعرهم الخاصّة بدعوى معرفته أو قدرته على إصدار الأحكام، أی أن یرمز -باختصار-إلى حقوق جماعة على الأثر الأدبی، لأنّه حتى ولو جاز لنا تعریف النّاقد بأنَّه قارئ یكتب، فذاك یعنی أنّ هذا القارئ یلتقی فی طریقه بوسیط مخیف هو: الكتابة.

ولعلَّ فی تقدیم بارث لنَّقدَ على أنَّه"قراءة عمیقة (وإن ركّزت على جانب معیّن)"، ما یُحدّدُ مفهومه وطبیعته بصورة مؤقّتة، كون هذه القراءة" تكشف فی الأثر الأدبی عن مُدرك محدَّد، وهی فی ذلك تعملُ حقّاً على فكِّ الرُّمُز وتُساهمُ فی التأویل "على اعتبار أنّه یحتلُّ من حیث الفائدة المنهجیة "مكاناً وسطاً بین العلم والقراءة. إنّه یُعطی لغة الكلام الخالص الذی یُقرأ، كما یُعطی كلاماً (بین أشیاء أُخَر) للغة الأسطورة التی صیغ منها الأثر الأدبی، والذی یتناولها العلم."

أمّا "أن تكون القراءة نتاجاً، أی أن نجعل من القارئ منتجاً لا مُستهلكاً"فلیس بالأمر المیسور فی كلّ الأطوار، ولا یسری على كلّ الناس، وعلى كلّ القرّاء، اللهمّ إذا كانت بارث یرمی إلى تضییق مجال القراءة فیحصره فی الكتّاب وحدهم، لأنّ مثل هذا التفكیر ینشأ عنه إلغاء جمهور القرّاء وسوادهم، وهذا الجمهور هو المقصود بالكتابة الأدبیة، إذ لا یمكن أن یكتب الكتّاب لأنفسهم، أو أن یكتبوا لبعضهم بعضاً (وهم قلّة قلیلة على الأرض). إنّه لا ینشأ من مثل هذا التفكیر إلاّ قتل الكتابة، وقتل القرّاء معاً، أی نعیُ الأدب، ثمّ تشییعه إلى مثواه الأخیر وإلى الأبد. لذا بات تحدید مفهوم القراءة ووظیفتها مرهون بتحدید القرّاء. فمن هم هؤلاء؟وما مواصفتهم؟ وما هی أیدیولوجیاتهم؟ وما أذواقهم وما ثقافاتهم؟ وما فلسفاتهم فی الحیاة؟ هل هم العمّال فی المعامل، أم هم الطلاّب فی الجامعات، أم هم الأساتذة الذین یحاضرون فی أصول العلم، أم هم أولئك الذین یكتبون، أی الذین یحترفون الأدب احترافاً؟ أم هم أصناف أُخَر من البشر، وخَلْقٌ من النّاس؟

سادساً- القراءة:

القراءة لغة: تأدیة ألفاظ النص وتتبُّعها نظراً أو نطقاً. ویعتمد القارئ فی ذلك مستویات كالأداء والحفظ والفهم، والتذوق.

1_ مستوى الأداء: وغایة أن یؤدی القارئ الأصوات أو الصور الصوتیة أو الرمزیة بدون إبدال واضح للمعانی عند الأطفال والمذیعین أو المنشدین أو المتَسَلِّین.

2_ مستوى الحفظ: ویقوم على قراءات متتالیة أو متقطعة أو متصلة، فیهتم بالعلاقات الصوتیة والمعنویة ویثبت صورها فی الذاكرة الحركیة أو الصوتیة وهی شائعة فی المدارس والمسارح (التمثیل).

3_ مستوى الفهم: ویقوم على قراءة واعیة متأنیة تلتمس معانی التراكیب والألفاظ والعبارات والعلاقات النحویة والفنیة وإدارة الحركة الجزئیة فی النص والحركة الكلیة التی توجد جوانبه بوساطة التحلیل والتركیب وهی قراءة المتعلمین فی المدارس المتقدمة وفی الجامعات وفی الحیاة العامة.

4- مستوى التذوق: وهی قراءة متتالیة متأنیة تحلّل البنی السطحیة والعمیقة الأصلیة والفرعیة ورصف المعانی الإنمائیة الدقیقة لتعزیز الفكرة الأساسیة وتتبع المقویات الدلالیة والمعجمیة والمجازیة والفنیة, الخاصة, وتحیط بامتداد النص وتبرز عمقه وتكتشف أبعاد التفكیر والتعبیر والتصویریة وترابط أجزائه بالبیئة اللغویة والاجتماعیة والفكریة والبنیة الفنیة وبذلك تتمثل الظلال والأصلیة والحوادث والأفكار والانفعالات والآثار النفسیة الجمالیة فینفعل بما یوحی به من عواطف وصور الجمال وهذه هی قراءة الدارسین والمحللین للنصوص الأدبیة وغیرها.

أمّا القراءة من منظور اصطلاحی، فهی آلیة تفكیك الشّفرة اللغویة المتمثلة فی تداخل شبكة العلامات والإشارات اللغویة ضمن سیاق محدد تعدّ الجملة وحدته الأولى، وبما یكفل الوقوف على بنیة النصّ الأساسیة والتی یقسمها العالم اللغوی ناعوم تشومسكی، إلى بنیتین: إحداهما فوقیة سطحیة وأخرى تحتیة عمیقة.

لكن اللسانیات بحكم امتلاكها، فی رأینا على الأقل، كلَّ العناصر والإجراءات الجدیرة لقراءة النص الأدبی قراءة شاملة كاملة، وبحكم أنّ وضعها المعرفی یجتزئ أصلا، بالبحث فی النّظام اللغوی البشری لدى حدود الجملة لا ینبغی له أن یتجاوز حدودها النّحویة، وبحكم أنّ هذا الوضع المعرفی لا ینبغی أن یتیح لها أن تمضی بعیداً فی أدغال النصّ الأدبی ومجاهله ومكان الجمال فیه، فإنّ الأسلوبیة-بحكم تفرّعها عن اللسانیات-أوشكت أن تغتدی میكانیكیة الإجراءات بحیث تراها لاهثة جاهدة إلى الكشف عن نظام الأسلوب من خلال الجملة، أی البحث فی عناصر الجملة من فعل وفاعل ثم مفعول، أو من فعل وفاعل ثم حال، أو من فعل وفاعل ثم تمییز، أو من فعل وفاعل وجار ومجرور، أو من مبتدأ وخبر، وغیرها، وذلك وفق نظام تعلیق لا یكاد یجاوز البحث فی التركیب اللغوی وتبادل البنى النّحویة فی نصّ من النّصوص.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ تشومسكی نفسه تساءل فی أحدث كتاباته عما إذا "كان مستویات أخرى غیر المستویین الوجیهین السابقین (البنیة السّطحیة والبنیة العمیقة) الذین افترضا فی البحث المعاصر؟ فأجاب من حیث رأى أنّ"ما اصطلح على تسمیته بـ" برنامج الحد الأدنى" جهداَ یُوجبُ إخضاع الافتراضات التقلیدیة للتقصّی المتأنّی من منطلق أنّ أكثر القضایا تبجیلاً أنّ للغة صوتاً ودلالة، وتُترجم هذه القضیة، فی المصطلحات الجدیدة بشكل طبیعی، إلى الدعوى التی تقتضی بأن الملكة اللغویة)تلتقی بالأنظمة الأخرى للذهن/الدّماغ عند مستویین وجیهیَّیْن یتّصل أحدهما بالصوت والآخر بالدلالة، الأمر الذی یجعل كلّ ما حلّل بموجب مستویی " البنیة السّطحیة والبنیة العمیقة" كان ضحیّة لخطأ فی الوصف، وأنه یمكن أن یُفهم بشكل مماثل أو أفضل فی ضوء شروط المقروئیة فی المستویین الوجیهیّیْن: ویعنی هذا، عند المطّلعین على الأبحاث المتخصّصة، مبدأ الإسْقاط، ونظریة الرَّبْط، ونظریة الحالة الإعرابیة، وشرط السلسلة، وغیرها.

كما تعدّ القراءة، كما یراها أصحاب نظریة التلقی التی تؤمن بأن القارئ یشارك فی كتابة النص، هی عملیة نفسیة حركیة تختص بإعادة الأثر الأدبی أو النص إلى مدركات أولیة عبر إعادة تفكیك الإشارات اللغویة وموازنة العلاقة بین مجموعة الدوال مع المدلولات فی الجملة الواحدة ومن ثم النص كاملاً. وهنا نرى أن القراءة فعل تأویلی،لأنها مطالبة وقادرة على إضاءة النص وعلى نحو یتیح للقارئ اكتشاف البنیة الداخلیة للعمل، لذا فـإنّ مهمّة الناقد الأدبی الجدیدة تنحصر فی الاهتمام بنوعیة العلاقة بین النصّ والمتلقی، وذلك انطلاقاُ من هذه الأسئلة المعهودة: كیف انفعل القارئُ بالنصّ؟ هل كان ردّ فعله محض "استهلاكه" بكیفیة نمطیة ومرضیة تجرى على نسق مطرد رتیب فی قراءة الأدب، أو هو نوعٌ من الإخفاق فی إكراه هذا النصّ على قول ما یریده القارئ أن یقوله، أو أنّه سیندهش بجدّته التی كانت تكیّف تعاطیه للأدب، ومن ثمّ بمعانقته هذا الأفق الجدید والمختلف الذی یصدر عنه ذلك النص.

لنتصورّ الآن أن ناقداً قرأ مسرحیة كومیدیة أو شاهدها معروضة، فإنّ التفاعل معها سیتمّ التوافق العفوی بین أفق النصّ وأفق التلقی طالما أنّ المسرحیة قد أجابت عن أسئلته واستجابت لانتظاراته. وسیقوم هذا دلیلاً على أنّها نُسخة مطابقة لأصلٍ جاهزٍ تكَرِّرُ موضوعه أو صورةٌ موافقةٌ لمعیارٍ تجترُّ شكله. لكن النّاقد نفسه سرعان ما یشعر بالغُبْن ومن ثم یخیبُ أفق توقّعه إذا قام بمراوغة تقوم على مداراة هذه المسرحیة بأن یقرأها كما لو كانت مسرحیة تراجیدیة على طریقة "راسین" (1639-1699) أو ملحمیة على طریقة"بریخت" (1898-1956). بید أنّه إذا قرأ أو شاهد مسرحیة عبثیة من ذلك النّوع الذی یكتبه "صمویل بیكیت" (1906-1989) أو "أوجین یونسكو" (1909-1994)، وكان ذا دماثة فكریة تؤهله تلقائیاً لتقبُّل صدمة هذا المسرح المختلف، ولارتضاء آثاره فإنّه سیكفُّ عن الهوس بالجمالیة الكومیدیة بل وقد تتغیّرُ نظرته إلى الأشیاء وإلى الوجود من حیث تصبح سوداویة بعد أن كانت تفاؤلیة.

وتبدو هذه الأمثلة المتفرقة بسیطة جدا لو قارناها بجملة المتغیرات الدلالیة للنص، وأخص بالذكر هنا النص الأدبی والنص الشعری على وجه التحدید. فقد أجمع النقاد على أن إشكالیة الأدب تأتی من طبیعة اللغة ذاتها، أدبیة النص، والتی تعمل على توظیف الآلیة اللغویة بعیدا عن معناها التداولی البسیط نحو ما یعرف باستكشاف جمالیات اللغة عبر "المجاز. والمجاز عموما هو عملیة تطویع لغوی ضمن إطار یتجاوز المعجم وصولاً إلى التسییق بما یضفی على اللفظ رونقاً یخرجه من حیّز الحقیقة إلى رحابة المجاز الذی تتیح للمفردة الواحدة أن تخدم وظیفة تعبیریة جمالیة فی آن معاً.

هذه الجمالیة التی، وإن كان بإمكانها أن تُسهم فی اكتمال المهامّ التی یتعیّنُ أداؤها على "نظریة الفن وتاریخه" اللذین هما فی طور التجدید وإحداث قطیعة جذریة مع الأعراف العلمیة المقرّرة، إلاَّ أنَّه لا یمكن لها "أن تدّعی لنفسها أنّها إبدال منهجی بالتّمام والكمال". فلیست جمالیة التلقی "نظریة مستقلّة قائمة على بدَهیات تسمح لها بأن تحلَّ بمفردها المشكلات التی تواجهها، وإنّما هی مشروع منهجی جزئی یحتمل أن یقترن بمشاریع أخرى وأن تكتمل حصائله بوساطة هذه المشاریع. "وأنا إذ أقرُّ بذلك، أترك لغیری-شریطة ألاَّ یكون خصماً وطرفاً فی آنٍ واحدٍ-عنایة تقریر ما إذا كانَ ینبغی، فی مجال العلوم التأویلیة الاجتماعیة، اعتبارُ هذا الاعتراف بالنّقص من لدن منهج ما علامة على ضعفه أو على قوّته".
*خاتمة:

بعد هذه الإطلالة التی أردناها متكاقئة على جهود بعض الدّارسین المحدثین عرباً وأعاجم فی تطویق تحلیل النص أو الخطاب فی المعجم والدلالة والنظریة وما یدخل فی فلكهما من مصطلحات ذات الصلة، ارتأینا أن نلتمس بعض العُذر (المفضی إلى الأسف) للمحدثین من العرب على محاولة الحفاظ فی عَنَت على ماء الوجه التنظیری على النّحو الذی فكّر فیه معاصروهم من الأعاجم، أو بعض أسلافهم من الشّعراء المحدثین، الذین ضاقوا ذرعاً بأغراض الشّعر القدیم وأشكاله وما برع فیه القدماء من وصف ورثاء ومدح وغزل، فجدّدوا من حیث جدّد الغربیون التوّاقُون إلى طلب الجدید والتجدید، فبادروا إلى التنظیر على التنظیر، والذی أضحى على أهمیته كالكساء الفضفاض نقحم فیه حساسیتنا إقحاماً باسم المعاصرة والحداثة دون أن یتمازج ذلك مع ما نستجلبه أو نسقطه من أحدث التقنیات والنظریات الغربیة هی تجربة حساسیتها، ولها خصوصیتها وتفرّدها وكلّ ما یمیّزها عن خصوصیة حساسیتنا وتفرّد لغتنا، الأمر الذی لا ینقص من أهمیة التنظیر فی شیء، والإفادة مما فی أیادی غیرنا بما یمثّل حواراً مع حاضرنا، لكن دون أن نسقط فی جلب اللّعب الثقافیة الخالیة من حرارة التجربة الحسّیة، ونقع فی الفوضى المصطلحیة التی یزید فی استفحالها ما یفد علینا آنیّاً من مصطلحات فیضیق بذلك مجال التطبیق اتساعَ مجال التنظیر، فلا نمسك عندها إلاَّ بالجانب الضنین من هذه التجربة أو ما اصطلح علیه حدیثاً بـ "البریكولاج اللغوی وهو أمرٌ نبّه إلیه الأسلاف وحذّروا من مغبّته، "فقد قال أبو بكر بن السرّاج (ت 316هـ) فی رسالته فی الاشتقاق، فی (باب ما یجبُ على النّاظر فی الاشتقاق أن یتوقّاهُ ویحترس منه): ممّا ینبغی أنْ یَحْذَرَ منه كلُّ الحَذَر أن یَشتقَّ من لغَة العرب لشیءٍ من لغة العَجَم، فیكونَ بمنزلة من ادّعى أنَّ الطَّیْرَ وَلَدَ الحُوت". فإذا صدق ذلك على اللفظ فالمعنى به أولى.

ونحن أمام تعریف للنصّ بات فیه أقرب إلى الخطاب وتحلیل یحتمل الإخلال كما قد یحتمل الموضوعیة، وأمام نقد لم تكتمل معالمه ومناهجه وتستقرّ مصطلحاته, ناهیك عمّا یعكسه من ظواهر سلبیة أهمها" التَّخَنْدق" و"التحیّز" و"المعیاریة" لا نملك-والحال هذه- إلا أن نفضّل القراءة الواعیة المتأنیة ونأخذ بها، على تعدّدها، وفق مستوى تذوّقی یدرك فیها القارئ العلاقات النحویة وطریقة الأداء اللغوی، والدلالات المركزیة والهامشیة والاجتماعیة الكامنة فی الأثر الأدبی بشقّیه الشعری والنثری الذی یحتمل أكثر من تأویل، ما دام "لا أحد- بحسب بارث: یعرفُ شیئاً عن المعنى الذی تمنحه القراءة للأثر الأدبی، ولا عن المدلول-وذلك، ربَّما، لأنّ هذا المعنى، اعتباراً لكونه شهوة، ینتصبُ فیما وراء سنن اللغة. فالقراءة وحدها تعشق الأثر الأدبی، وتقیم معه علاقة شهوة. فإنّ نقرأ معناه نشتهی الأثر (س)، ونرغبَ فی أن نكُونَه، وأن نرفض مضاعفته بمعزل عن كلّ كلام آخر غیر كلامه هو ذاتُه: إنّ التعلیق الوحید الذی یمكن أن ینتجه قارئ محض وسیبقى كذلك، هو المعارضة. وعلیه، فإنَّ الانتقال من القراءة إلى أیٍّ من الحدود أو الإسقاطات الأخرى فمعناه تغیُّر الشَّهْوة، وعلینا تَبـِعَةُ ما نقرأ.
المصادر والمراجع

أ. العربیة

*إبراهیم، طه أحمد: تاریخ النقد الأدبی عند العرب من العصر الجاهلی إلى القرن الرابع الهجری، مطبعة لجنة التألیف والترجمة والنشر، القاهرة، 1937م.

*ابن خلدون، عبد الرحمن محمد: مقدمة ابن خلدون، تحقیق درویش الجویدی، المكتبة العصریة للطباعة والنشر، ط2، صیدا، بیروت، 1416هـ-1996م

*ابن عرفة، عبد العزیز:الفعل الإبداعی فی جدلیة تلقیه وكتابته، الكتابة الإبداعیة بین حساسیة المرحلة ومعادلها الفنی أو التقنی، مجلة الفكر العربی المعاصر، یصدرها مركز الإنماء القومی، بیروت، لبنان، العدد 30/31، 1984م.

*ابن فارس، أبو الحسین أحمد بن زكریا: معجم مقاییس اللغة، تحقیق عبد السلام محمد هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزیع، 1399هـ-1979م.

*ابن قتیبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم:الشعر والشعراء، مطبعة بریل، لیدن المحروسة، 1902 م.

* ابن مصباح، وناس: ملاحظات أولیة حول الشروح الأدبیة، مجلة الحیاة الثقافیة، العدد 41 , 1986م.

*ابن منظور، أبو الفضل جمال الدین بن مكرم: لسان العرب، دار صادر للطباعة والنشر-دار بیروت , لبنان, 1956م.

*أبو زید، نصر حامد: الاتجاه العقلی فی التفسیر، دراسة فی قضیة المجاز فی القرآن عند المعتزلة، دار التنویر للطباعة والنشر، ط1، بیروت، لبنان، 1982م.

*أنیس إبراهیم ومنتصر عبد الحلیم والصوالحی عطیة، وأحمد محمد خاف الله: المعجم الوسیط، دار الفكر، بیروت.

* أمین، أحمد: النقد الأدبی، دار الكتاب العربی، ط4، بیروت، لبنان، 1387هـ-1967م.

*أوكان، عمر: اللغة والخطاب، أفریقیا الشرق، الدار البیضاء، المغرب، أفریقیا الشرق، بیروت، لبنان، 2001م.

*بارث، رولان: النقد والحقیقة، ترجمة إبراهیم الخطیب، مراجعة محمد برادة، مجلة الكرمل، العدد 2، 1984م.

*البغدادی، عبد القادر:خزانة الأدب، تحقیق عبد السلام محمد هارون، دار الكتاب العربی للطباعة والنشر، القاهرة، 1387هـ-1967م.

*تشومسكی، نعوم: آفاق جدیدة فی دراسة اللغة والذهن، ترجمة حمزة بن قبلان المزینی، منشورات المجلس الأعلى للثقافة المشروع القومی للترجمة بإشراف جابر عصفور، القاهرة، ط1، 2005م.

* ثودی، فیلیب وكورس، آن:بارث، ترجمة جمال الجزیری، مراجعة وإشراف وتقدیم إمام عبد الفتاح إمام، منشورات المجلس للثقافة ضمن المشروع القومی للترجمة بإشراف جابر عصفور، القاهرة، ط1، 2003م.

*الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر:البیان والتبیین، تحقیق عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجی، القاهرة.

* الجوالیقی، أبو منصور:المعرّب من الكلام الأعجمی على حروف المعجم تحقیق أحمد محمد شاكر، مطبعة دار الكتب المصریة، ط2، 1389 هـ - 1969م.

*جونی، عدی:إشكالیة الترجمة وثقافة النص، مجلة أفق الثقافیة الإلكترونیة، عدد فبرایر2000م.

* الخولی، أمین: التفسیر , معالم حیاته , منهجه الیوم، أخرجه فی كتاب مستقل جماعة الكتاب، 1944م.

*خیاط، یوسف:معجم المصطلحات العلمیة والفنیة، دار لسان العرب، بیروت، 1974م.

*دائرة المعارف الإسلامیة، ترجمة إبراهیم خورشید وآخرین، مطبعة الشعب، القاهرة.

*الرّاغبُ الأصبهانی، أبو القاسم حسین بن محمد: محاضرات الأدباء، بیروت.

*الزبیدی، السید مرتضى الحسینی: تاج العروس من جواهر القاموس، تحقیق عبد الستار أحمد فراج، مطبعة حكومة الكویت ضمن سلسلة التراث العربی لوزارة الإعلام فی الكویت، 1391هـ-1971م.

*الزمخشری، أبو القاسم محمود:أساس البلاغة، دار المعرفة، بیروت، 1399هـ- 1979م.

*العاكوب، عیسى علی: التفكیر النقدی عند العرب، مدخل إلى نظریة الأدب العربی دار الفكر المعاصر، بیروت، لبنان، دار الفكر، دمشق، سوریة، ط2، 1423هـ-2002م.

*عروی، محمد إقبال: ظواهر سلبیة فی الخطاب النقدی الروائی-التخندق، التحیُّز، المعیاریة، مجلة آفاق الثقافة والتراث، تصدر عن دائرة البحث العلمی والدراسات بمركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، العدد53، السنة4، 1427هـ-2006هـ.

*الفیروزآبادی، مجد الدین محمد بن یعقوب:القاموس المحیط، دار الجیل، بیروت.

* فتحی، إبراهیم: معجم المصطلحات الأدبیة.

* قباوة، فخر الدین: محاضرات فی علوم اللغة، الدراسات العلیا، السنة الجامعیة 1984-1985م.

*قدامة بن جعفر: نقد الشعر، تحقیق كمال مصطفى مكتبة الخانجی، ط3، القاهرة، 1392هـ-1978م.

*قطب، سید: النقد الأدبی، أصوله ومناهجه، دار الفكر العربی، القاهرة.

*كلیطو، عبد الفتاح: الأدب والغرابة(دراسات بنیویة فی الأدب العربی)، دار الطلیعة، ط1، بیروت، 1982م.

*مؤمن، أحمد:اللسانیات، النشأة والتطور، دیوان المنطبوعات الجامعی، ابن عكنون، الجزائر.

*مرتاض، عبد الملك:القراءة بین القیود النظریة وحریة التلقی، مجلة تجلیات الحداثة، معهد اللغة العربیة وآدابها، جامعة وهران، العدد4، یونیو 1996م.

* المرعی، فؤاد: النقد الأدبی الحدیث، مدیریة الكتب والمطبوعات بجامعة حلب، 1981-1982م.

*مرغان، كلیفورد ودیز، جیمس: فن الدراسة، ترجمة جمیل مراجعة یوسف حورانی، منشورات دار مكتبة الحیاة، بیروت، لبنان، 1974م.

*مروة، حسین:دراسات نقدیة فی ضوء المنهج الواقعی، مكتبة المعارف، بیروت، لبنان، 1988م

*مفتاح، محمد: تحلیل الخطاب الشعری(استراتیجیة التناص)، المركز الثقافی العربی، الدار البیضاء، بیروت، ط3، 1992م

*یاوس، هانس روبیرت: جمالیة التلقی-من أجل تأویل جدید للنص الأدبی، ترجمة رشید بنحدو، منشورات المجلس الأعلى للثقافة، ضمن المشروع القومی للترجمة بإشراف جابر عصفور، القاهرة، 2004م.

*یوسف، أحمد:بین الخطاب والنص، مجلة تجلیات الحداثة، معهد اللغة العربیة وآدابها، جامعة وهران، العدد1، 1992م.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:3|
قراءة فی كتاب شعرالنقاد لعبدالله الفیفی
هل یمكن للناقد أن یكون شاعراً؟



حین تشحذ النصوص الشعریة الحَّیة قدرة الناقد على المضاهاة والموازنة والمفاضلة بین النصوص والشعراء على حد سواء فانه سیمتلك -فی معظم الأحیان- القدرة على نظم الشعر ورصف ألفاظه واستعراض أسالیبه، فهو أعرف بها من سواه.
ویأتی السؤال المهم هنا، وهو: ما القیمة الفنیة لمثل هذه النصوص الشعریة التی كتبها ویكتبها كبار النقاد؟
ولكی لا یأتی الحكم على ظاهرة كهذه سریعاً وغیر دقیق فان الدكتور عبدالله أحمد الفیفی(1) یتقصى هذه الظاهرة فی كتاب له أسماه «شعر النقاد، استقراء وصفى للنموذج» (2) حیث یستثمر الباحث الاستقراء وسیلة منهجیة تعینه على ان یسند حكمه النقدی ویرصنه بشأن مسألة خلافیة كهذه.
وظاهر الأمر ان الناقد قد یستطیع ان یضللنا بحیث ینسج لنا شعر غزل- على سبیل المثال- فنحسبه شاعراً عاشقاً حین یستعیر اسالیب الشعراء العشاق والفاظهم وصورهم، ونظنه حزینا حین یضع نفسه موضع الراثین والمفجوعین ویقلد طرائقهم فی القول، فهو قد خبرها جمیعاً، بید ان فرضیة كهذه یعوزها البرهان، وهذا ما ینهض به موضوع هذا الكتاب عبر اختیاره ثلاثة من كبار النقاد هم «ابن رشیق، أبو علی الحسن بن علی القیروانی 390 - 463ه = 1000- 1071م والقرطاجنی، أبو الحسن حازم 684ه = 1285م والعقاد عباس بن محمود 1306 - 1383 = 1889 - 1964م. ولئن كان الاخیر یمتاز على سابقیه بدراسات حول شعره فان تلك الدراسات- التی جاءت تراوح فی غالبها بین التحامل علیه والانحیاز له- جمیعها لم تربط ظواهر شعره بعموم الظواهر المندرجة فیها من شعر النقاد لان شعر النقاد تأسیساً لم تحدد معالم نموذجه فی دراسة نقدیة شاملة من قبل»(3).

وبذلك فان الباحث عبدالله الفیفی لا یقصر هذه الظاهرة على عصر دون سواه وانما یطلق الحكم علیها فی عصور متباینة، فضلاً عن انه لم یدخل فی نماذجه الثلاثة الشاعر الذی یقول آراء نقدیة متفرقة فی معاصریه او من سبقهم من الشعراء من غیر ان یصل الى درجة الناقد- وما اكثر الاشارات الى ذلك فی كتب التراث-(4) كما ان الباحث اخرج من دائرة اهتمامه الناقد الذی لم یصدر دیواناً شعریاً فی الاقل وانما اكتفى بقطع شعریة متفرقة ولا سیما الناقد الذی یعی ركة شعره وتهافته كالاصمعی الذی لم یدع شاعراً سبقه او عاصره الا وحكم علیه بالفحولة او الفصاحة وربما بالنأی عنهما والتجرد منهما(5) ولكنه یقول فی شعره:

    «أبى الشعر الَّا ان یفیء ردیئه
    علَّی ویأبى منه ما كان محكما
    فیالیتنی إذ لم أجد حوك وشیه
    ولم أك من فرسانه كنت مفحما»(6)

وبلیغة هی اجابة المفضل الضبی على من سأله: لم لا تقول الشعر وانت أعلم الناس به؟ فأجاب: علمی به هو الذی یمنعنی من قوله وأنشد:

    «وقد یقرض الشعر البكی لسانه
    وتعیی القوافی المرء وهو لبیب»(7)

ویعی الباحث ان الجانب المضمونی كثیراً ما یستأثر بالاهتمام وقد كان محور دراسات كثیرة وبؤرتها الرئیسة. ولذلك فانه یبدأ بالجانب الصوتی وهو یدرك ان مثل هذا الفصل بین المستوى الصوتی والمستوى الدلالی هو قدر الدراسات الاكادیمیة واسلوبها فی التحلیل والتجزئة لا بهدف التهشیم بل من اجل الفهم والتغلغل الى اعماق الظاهرة الفنیة. ویلجأ الفیفی الى الجانب الاحصائی كی یضیء ظاهرة صوتیة وجدها بارزة فی شعر النقاد وهی تعمد حشد الأصوات المتشابهة او التی تتقارب مخارج حروفها كالسین والشین على سبیل المثال وبما یدعوه بعضهم بظاهرة التجمعات الصوتیة ویدخلها فی باب الایقاع الداخلی تمییزاً لها عن (الوزن والقافیة) حیث تدرجهما بعض الدراسات فی اطار ما یدعى بالایقاع الخارجی.(8) ولعل هدف النقاد الشعراء من ذلك هو اضفاء ایقاع صاخب یعزز الصنعة الشعریة التی تطل بوجهها سافراً من خلال شعر النقاد.

وینتقل الباحث الفیفی الى مبحث آخر وهو بصدد التوغل فی المحور الشكلی لشعر النقاد، فیقف عند البدیع الذی هو من المحسنات اللفظیة. وهذه هی التسمیة الاصلیة لهذه الظاهرة- التی بدأت حمیدة فی الشعر العربی وانتهت ذمیمة بسبب شدة المبالغة بها- فیجد ان البدیع بكل انماطه ولا سیما الجناس یطغى على شعر ابن رشیق والقرطاجنی خاصة ویعزو الباحث مبالغة القرطاجنی فی هذا الشأن كقوله مثلاً:

    منى النفس یدنی منكم والنوى تقصی
    فكم ذا یطیع الدهر فیكم وكم یعصی

الى انه یسعى الى تطبیق نظریته فی «حسن التألیف بین الحروف والكلمات وتلاؤمه مع مراعاة حسن الوضع، وتقارب الالفاظ والمعانی وتطالبهما… على حین أن (ابن رشیق) فی احتفاله بتنغیم الأصوات والبدیع كان یخالف رأیه النظری الذی لا یرى ذلك الاحتفال المفرط باللفظ(9) وهنا یشیر الباحث الى انه سیعود الى هذه المسألة عبر بحث آخر یضاهی فیه بین رأی الناقد النظری وتطبیقه الشعری.

ولا ینطبق ما ذكر بشأن كثافة البدیع على العقاد الشاعر، ولكن هذا لا یعنی خلو شعره من البدیع ولا سیما الجناس الاشتقاقی منه. ویبرر الباحث هذا بتطور موقف الشعر العربی عامة من ظاهرة البدیع.

وعلى الرغم من ان التجمعات الصوتیة الناتجة عن تكرار حرف بعینه والتی سبق للباحث ان وقف عندها یمكن ان تندرج فی اطار تكرار الحرف او الحرفین اللذین یتقارب صوتاهما بید انه یفرد للتكرار مبحثاً، وهو یردفه ب(الحشو) لا بمعناه العروضی بل بمعناه اللغوی(10) اشارة الى ما لا غناء فیه من الالفاظ والعبارات.

كقول ابن رشیق:

     
    نظرت لها الایام نظرة كاشح
    ترنو بنظرة كاشح معیان

فالشطر الثانی كله مجرد حشو لاستكمال الوزن. ولا نرى ما رآه الفیفی بشأن البیت الذی ساقه دلالة على نمط من الحشو اسماه العقاد نفسه ب(الحشو المبارك) فی دراسته عن ابن الرومی. وجاء قول العقاد:

    متى؟ إی وربك قل لی متى؟
    وسلهم عن الیوم والموعد

فهنا لا یبدو قوله (ای وربك قل لی متى) مجرد حشو بل انه الحاف والحاح على جانب یلح على ذهن الشاعر فیعبر عنه مركزاً على ظرف الزمان (متى) ومضفیاً الحیویة علیه من خلال الاستفهام والقسم والأمر والتكرار وقد تضمنها جمیعاً صدر البیت. على ان الباحث الفیفی محق فیما سوى ذلك. ویعرج الدكتور عبدالله هنا على التكرار لا بمستواه الصوتی حسب وانما المستوى الدلالی منه ایضاً مع انه أفرد جزءاً لاحقاً للمستوى الدلالی منفرداً بید ان سیاق البحث یتطلب هنا ان یردف الدلالة بالصوت على صعید ظاهرة التكرار.

وینتبه القارئ الى ان الباحث یقدم لمبحثه (القافیة) بكلام تنظیری عن القافیة بوجه عام وهو ما لم یطرد لدیه فی المباحث السابقة (صنعة التنغیم والبدیع والتكرار والحشو) ویفسر الباحث هذا ضمناً بانه تصور (رؤیة) لطبیعة التقفیة ووظیفتها یطبقه على شعر النقاد. ومن طریف تحلیله لقول ابن رشیق:

    وبماذا أصف الخصر
    وما إن لك خصر
    
    بك شغلی واشتغالی
    ومضى زید وعمرو

«فان هذا الشطر الاخیر من الابیات «ومضى زید وعمرو لابرز مثال على اضطراب ابن رشیق الى استدعاء قوافیه عن ای طریق ومهما كلفه الأمر والا فمن زید وعمرو؟ وما علاقتهما بانشغال ابن رشیق»؟(11) والدكتور الفیفی بصدد قافیة الراء التی اضطرت ابن رشیق الى ان یرصف الشطر الثانی من البیت الثانی وعلى هذا النحو. ویتوقف الباحث عند قوافی القرطاجنی فیستنتج بعد بعض الاحصاء ان الفاظ قوافیه ربما تكون مهیأة نظم القصیدة ولذلك یتفق معظمها فی بنائها الصرفی كان تكون من المصدر المیمی مثلاً وقد تصل بعض قوافیه الى درجة من (لزوم ما لا یلزم). وربما یلجأ فی قوافیه الى الالفاظ المعجمیة الغریبة ذات الوقع الثقیل على الاذن والنفس على حدٍ سواء..

وثمة محور خامس اتفق علیه النقاد الشعراء ممن اختارهم الدكتور عبدالله الفیفی وهو طول القصیدة اذ لا تعوزهم الالفاظ والصیغ الجاهزة یحبرون بها الصفحات. وقد ادرج طول القصیدة فی اطار المستوى الشكلی نظراً لقصور بعده الدلالی. وابن رشیق لم یكن یطیل قصائده فی دیوانه ولكنه على الصعید النظری یرى ان (المطیل من الشعراء اهیب فی النفوس من الموجز) وهنا یعود الباحث الى هذه المضاهاة بین ما یقوله الناقد على صعید التنظیر وما ینظمه من شعر ینسجم مع هذا التنظیر او یتضاد معه.

ویدرس الباحث اللغة والاسلوب فی اطار مستوى الدلالة، وهو یعی ان بعض ملامح المادة اللغویة جاء ذكرها فی اطار المستوى الصوتی حیث یكون الجانب الدلالی فی هذه الحالة فی الظل. وقد عولجت بعض الظواهر اللغویة على المستویین الصوتی والدلالی على حد سواء. وجاء الآن الدور للمستوى الدلالی منفرداً كی یستأثر بالضوء. وهو یبدأ بالمحسنات المعنویة كالطباق والمقابلة وبروزها فی شعر النقاد الثلاثة یلیها الغریب الذی یبدو نسبیاً، ولكنه مما تتآزر فیه غرابة اللفظ مع غرابة التركیب والتعبیرات. ویفرد الباحث مبحثاً لما دعاه ب(التكلف الصناعی) تارة والانشائیة النثریة تارة اخرى، وهو یورد لهما نماذج من شعر النقاد الثلاثة. و یمضی فی رصد هذه السمات السقیمة فی شعرهم فیشفعها بما دعاه ب(النزوع الى التحذلق البیانی والذهنی) المفضی الى عتمة الغموض. وهو لیس الغموض الفنی الدال بل انه غموض- ینطوی على تعقید ولبس. وكل هذا ینتهی بشعر النقاد الثلاثة الى الخطابیة فالنثریة التی لا یبقى لهم فیها سوى النظم. ویتقصى انعكاس المهنة العلمیة لاولئك النقاد الثلاثة على شعرهم وقد ظهر بأشكال شتى یقف عندها الدكتور الفیفی ویعطیها مسمیات منها الاحالات الثقافیة والنظم الثقافی مما یبعد نظمهم عن روح الشعر وجوهره وسحره.

ویأتی مبحث الصورة تالیاً لمبحث اللغة والاسلوب، فیقف عندها الباحث، وهو لا یسمیها الصورة الشعریة او الصورة الفنیة كما قد یسمیها بعضهم(12) ولكنه یتوصل الى افتقار شعرهم للصورة الاستعاریة القائمة على التخییل، فی مقابل كثرة نماذج التشبیه والمحاكاة (الفوتوغرافیة) كما اسماها الدكتور عبدالله وهو یقصد التقلید الحرفی الخالی من الاضافة والَّا فان المصور (الفوتوغرافی) قد یبدع فی انتقاء الزاویة الأكثر دلالة. او لیس الاخراج فی مجالی السینما والتلفزة هو شیء من هذا؟. ومما یذكر ایضاً ان الاستعارة مما یمكن للناقد المتمرس ان یخضعه للصنعة والافتعال. مثلها فی ذلك مثل التشبیه. وهذا لا یقلل بأی حال من الأحوال من شأن الاستنتاج الذی توصل الیه الباحث فی هذا الشان.

ویفرد الكتاب لمصطلح التناص مبحثاً خاصاً وهو یطلق علیه اسم تداخل النصوص (الاخذ) بید انه لا یرفض تسمیته ب(التناص) ویخلص الى ان شعر النقاد اتكا بشكل سلبی على النصوص الشعریة التی اطلع علیها اولئك النقاد وان استثمارهم لتلك النصوص كان مظهر ضعف فی شعرهم لا مظهر قوة، وهو یختم دراسته بما دعاه ب(بنیة النموذج) حیث یتوصل الى ان هذه البنیة التی نتجت عن استقراء وصفی تشیر الى تعارضها مع طبیعة الشعر فی مقوماته التاسیسیة او فی اهون الحالات الى ضعف تلك المقومات.

واذا كانت دراسات اخرى قد حامت حول هذا الموضوع وتوصلت الى ان النقد «حرفة منفصلة عن الشعر لها اصحابها من ذوی العلم والدرایة. وانهم یرون -كما یشیر خلف الأحمر- ان النقد حرفة وحذق كالصیرفة، وان تقویم الشعر وقف على صیارفته لاعلى قائلیه»(13) فان دراسة الدكتور عبدالله بن أحمد الفیفی الموسومة (شعر النقاد) قد انصرفت الى هذا الموضوع وتوغلت فی دقائقه وتفاصیله وفقاً لمنهج وصفی وان انطوى على معیاریة ضمنیة تتجلى منذ الصفحات الاولى للدراسة «وما اسهل الشعر حین ینقلب رصفاً صوتیاً كهذا»(14)ومثله «فای تعمل بعد هذا؟ وای قسر للالفاظ على مواضعها من اجل الجناس؟(15) ویاتی الاستقراء للنماذج المتقصاة مقنعاً وفی اطار منهج دقیق ومحكم یتوخى النص الشعری اولاً ویرتكز الیه وینطلق منه ویستنتج من وحیه وهو ما یحمد لهذا البحث. واذا كان لا بد من سطور اخیرة دالة فان اسس الالهام الشعری وحالاته وامزجته هی غیر الجهد النقدی الدؤوب القائم على استیعاب النصوص والتعمق فیها والتوصل الى آراء بشأنهامع انهما (النقد والشعر) یلتقیان فی آخر الامر تحت مظلة واحدة بید ان معینیهما فی الذهن البشری والموهبة الانسانیة متباینان او كما قال مسلم بن الولید فی سیاق آخر غیر هذا السیاق»:

    «حنین ویأس كیف یتفقان
    مقیلاهما فی القلب مختلفان»(16)

ولا بد اذن من ان یطغى أحدهما فیلغی الآخر او یضعفه. بید أن المجال ما یزال مفتوحاً للدرس والاضافة فی هذا الشان فقد تفاجئنا الدراسات القابلة بما یتناقض مع هذا الاستنتاج. وربما یولد الشاعر الناقد الذی یجلی فی المجالین فلا تنطبق علیه مثل هذه الأحكام، لا سیما ان كثیرین- ومنهم الدكتور الفیفی- یحاولون الاخذ باطراف الشعر والدراسات النقدیة على حد سواء، ولهم فی المجالین نتاج حاضر. ولكن ما توصل الیه البحث بصورته هذه صحیح ومؤكد عبر هذا الاستقراء المنهجی الذی یقترب من روح الدراسة التطبیقیة ذات الطابع المنهجی.

 [1]
حواشی

[1]

    (1) كاتب هذا البحث استاذ فی جامعة الملك سعود، كلیة الاداب، قسم اللغة العربیة، له اصدارات غزیرة منها؛ مجموعة شعریة عنوانها: اذا ما اللیل اغرقنی»، مطابع الشریف، الریاض 1411ه 1990م. ودراسة نقدیة عنوانها: «الصورة البصریة فی شعر العمیان» النادی الادبی بالریاض 1417ه 1997م شعر بن مقبل، جزءان 1999 مفاتیح القصیدة الجاهلیة 2001م حداثة النص الشعری فی المملكة العربیة السعودیة 2005م وله اصدارات اخرى.
    (2) الدكتور عبدالله بن احمد الفیفی، شعر النقاد، استقراء وصفی للنموذج، مركز البحوث بجامعة الملك سعود، الریاض 1419ه 1998م.
    (3) نفسه، ص2.
    (4) د. عبدالجبار المطلبی، دراسات فی الادب الاسلامی والأموی الشعراء نقاداً دار الشؤون الثقافیة العامة بغداد 1986م.
    (5) ینظر: الامام الادیب الراویة الناقد ابو سعید الاصمعی، فحولة الشعراء تحقیق: د. محمد عبدالمنعم خفاجی وطه محمد الزینی، المطبعة المنیریة بالازهر، القاهرة 1953، ص 19 وما بعدها.
    (6) ابن رشیق القیروانی، العمدة فی محاسن الشعر وادابه ونقده، تحقیق: محمد محیى الدین عبدالحمید، دار الجیل بیروت 1981م.
    (7) نسه، ج1 ص117.
    (8) ینظر: د. عبدالرحمن یاغی، مقدمة فی دراسة الأدب الحدیث، المطبعة الاردنیة، عمان 1975، ص94.
    (9) د. عبدالله الفیفی، شعر النقاد، ص13.
    (10) الفیروز آبادی، القاموس المحیط، عالم الكتب، بیروت، بدون تاریخ، مادة (ح ش و).
    (11) د. عبدالله الفیفی، شعر النقاد، ص26
    (12) ینظر على سبیل المثال: د. عبدالإله الصائغ، الصورة الفنیة معیاراً نقدیاً، دار الشؤون الثقافیة العامة، بغداد 1987، وینظر كذلك: د. مدحت سعد محمد الجیار، الصورة الشعریة عند أبی القاسم الشابی، الدار العربیة للكتاب، طرابلس 1984.
    (13) د. عبدالجبار المطلبی، دراسات فی الأدب الإسلامی والأموی، الشعراء نقاداً، ص6.
    (14) د. عبدالله الفیفی، شعر النقاد، ص7.
    (15) نفسه، ص10.
    (16) أبو تمام حبیب بن أوس الطائی، دیوان الحماسة، تحقیق د. عبدالمنعم أحمد صالح، الدار الوطنیة، بغداد 1980، ص268.
 
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:2|
الشُّعَراءُ وَالنَّحْویّونَ


الخلاف بین الشعراء والنحویین (علماء النحو) قدیم مستمر: یُخَطِّئُ النحویون أقوال الشعراء، ویُسَفِّهُ الشعراء أحلام النحویین، والغاوون مذبذبون بین هؤلاء وهؤلاء!

ولا یعرف الشوق إلا من یكابده!

وقد كابدت بحیاتی طلب الشعر والنحو، وطلب علمی الشعر والنحو ؛ فلا أحكم هنا إلا بما عانیت، فی مسألة مطروحة دائما وكأن طرحها فرض كفایة على مثقفی كل زمان ومكان ؛ وهل أشرف مما نقوم جمیعا فیه الآن من زمان ومكان! ولقد خطرت لی فی هذه المسألة، أفكار أربع، یمكننی بها أنا وأنتم أن نتجاذب أطرافها ؛ عسى أن نركن من فهمها إلى ركن وثیق:

    • الشِّعْرُ وَالنَّحْوُ:
    - حقیقةُ وجود كل منهما فی الكلام، وما یجتمعان علیه، وما یفترقان فیه.
    • عِلْمُ الشِّعْرِ وَعِلْمُ النَّحْوِ:
    - منهجُ البحث عن حقیقة كل منهما، المفضی إلى نظریات ضابطة.
    • الشّاعِرُ وَالْفَصیحُ:
    - حقیقةُ وجود كل منهما فی المتكلمین، وما یجتمعان علیه، وما یفترقان فیه.
    • عالِمُ الشِّعْرِ وَعالِمُ النَّحْوِ:
    - حقیقةُ وجود كل منهما فی الباحثین، وما یجتمعان علیه، وما یفترقان فیه.
    إننا إذا تأملنا كل فكرة من هذه الأفكار حق تأملها، واتفقنا فی نقدها على قول فصل - وضعنا علاقةَ بَیْنِ الشعراء والنحویین (علماء النحو)، فی موضعها الصحیح ؛ فعَرَفَ كلٌّ حَدَّه، فَوَقَفَ عِنْدَه!

1 حدثنا أبو تمیم عبد الحمید بسیونی وكان مستشار جابر الصباح أمیر الكویت الأسبق، أنه شهد مجلس أستاذنا محمود محمد شاكر، وقد أقبل محمود حسن إسماعیل - وكلهم معاصرون ماتوا فی أثناء هذا القرن الهجری الخامس عشر ؛ رحمهم الله جمیعا رحمة واسعة، ولم یَفْتنّا بعدهم، ولم یحرمنا أجرهم! - ینشد من شعره المجلسَ الجلیل، وفیه الحسّانی حسن عبد الله - عفا الله عنه! - یَتَسَقَّطُ له، حتى لَقَطَ شیئا صاح به علیه ؛ فغضب محمود حسن إسماعیل. قال أبو تمیم: فلما كان المجلس التالی، بَدَرَ إسماعیلُ بقصیدته من الشعر الحر " الوَهَجُ وَالدّیدانُ "، یقول:

    " تَفْعیلَتانْ
    ثَلاثُ تَفْعیلاتْ
    وَسَبْعُ تَفْعیلاتْ

    وَأَحْرُفٌ تُعانِقُ الْأَلْحانَ بِالْأَحْضانِ وَالرّاحاتْ
    تُدَفِّقُ النّورَ عَلى حَفائِرِ الْأَمْواتْ
    شَلّالَ موسیقا بِلا قَواعِدٍ مَرْسومَةِ الرَّنّاتْ
    مَعْصومَةِ الْإیقاعِ دونَ حاسِبٍ مُزَیَّفِ الْمیقاتْ
    یَعُدُّها مِنْ قَبْلِ أَنْ تَجیءَ بِالْأَسْبابِ وَالْأَوْتادِ وَالشَّطْراتْ
    تَشُقُّ بابَ الرّوحِ لا تَسْتَأْذِنُ الْإِصْغاءَ وَالْإِنْصاتْ
    وَلَیْسَ فی إِعْصارِها سَبّابَةٌ تُعَذِّبُ الْهالاتْ
    وَلا فُضولُ الْمَوْتِ وَهْوَ یَسْأَلُ الْحَیاةَ عَنْ تَوَهُّجِ السّاحاتْ
    وَلا فُضولُ اللَّیْلِ وَهْوَ یَسْأَلُ الْفَجْرَ لِماذا تَنْسَخُ الرُّفاتْ
    ضَجَّ الْبِلى مِنْ صَیْحَةِ الْإِشْراقِ فی تَشَبُّثِ الْمَواتْ
    وَانْتَفَضَتْ هَیاكِلٌ مَرْصوفَةُ الطُّقوسِ مِنْ تَناسُقِ الْأَشْتاتْ
    وَكُلُّ ما فیها قَرابینُ تُقَدِّسُ الرِّمامَ فی كُلِّ حَصادٍ ماتْ
    مَصْلوبَةُ الْجُمودِ وَالرُّكودِ وَالْهُمودِ وَالسُّباتْ
    عَلى مَطایا زَمَنٍ مُهَرَّأِ الْأَكْفاتْ
    تَحَرَّكَتْ فی غَبَشِ الْكُهوفْ
    جَنائِزًا فی لَحْدِها تَطوفْ
    مَشْلولَةَ الْمَسیرِ وَالْحِراكِ وَالْوُقوفْ
    كَأَنَّها لِتُرَّهاتِ أَمْسِها رُفوفْ
    أَوْ أَنَّها لِكُلِّ نورٍ شَعَّ فی زَمانِها حُتوفْ
    تُریدُ شَلَّ الْوَهَجِ الْعَصوفْ
    بِأَعْیُنٍ ضِیاؤُها مَكْفوفْ
    وَأَلْسُنٍ نِداؤُها مَعْقوفْ
    تَهاتَرَتْ مَخْدورَةً مِنْ سَمْتَةِ الْعُكوفْ
    وَراعَها تَمَزُّقُ السُّجوفْ
    وَخَیْبَةُ التَّكْرارِ وَالدُّوارِ فی الْقیعانْ
    فَأَنْشَبَتْ هُذاءَها فی الْقَشِّ وَالْعیدانْ
    وَالْحَبُّ عَنْ عَمائِها مُغَلَّفٌ نَشْوانْ
    وَوَعْیُها مِنْ غَشْیَةٍ غَفْلانْ
    وَطَرْفُها مِنْ عَشْیَةٍ ظَمْآنْ
    لِكُلِّ ما لَمْ یَبْقَ فیهِ قَبَسٌ لِخُطْوَةِ الْإِنْسانْ
    سُبْحانَ رَبِّ النّورِ مِنْ تَحَرُّكِ الْأَكْفانْ
    سُبْحانَهُ سُبْحانْ
    مَنْ أَیْقَظَ الدّیدانْ
    أَنْغامُ هذا الطَّیْرِ ما لَقَّنَها بُسْتانْ
    وَلا حَداها حارِسٌ یَقْظانْ
    وَلا بِغَیْرِ ما تَجیشُ نارُها تَحَرَّكَتْ بَنانْ
    مِنْ ذاتِها وَوَحْیِها رَحیقُها الصَّدْیانْ
    الرّافِضُ الْإیماءَ لِلْوَراءِ یَمْتَصُّ خُطا الرُّكْبانْ
    الرّافِضُ الْقِیاسَ فی الصَّدى وَفی الْمَدى وَفی اللِّسانْ
    وَفی هَوى التَّنْغیمِ وَالتَّفْخیمِ وَالتَّرْنیمِ وَالْإِرْنانْ
    تَدَفَّقَتْ لا تَعْرِفُ التَّطْریزَ فی تَوَهُّجِ الْأَلْحانْ
    وَلا خِداعَ السَّمْعِ فی تَبَرُّجِ الْحُروفِ لِلْآذانْ
    وَلا لِخَطْوِ اللَّحْنِ قَبْلَ سَكْبِهِ مِنْ نایِها میزانْ
    أَسْكَرَها خالِقُها قَبْلَ انْبِثاقِ اللَّحْنِ بِالْأَوْزانْ
    تَحَرَّرَتْ فَما بِها لِلْقالَبِ الْمَصْبوبِ قَبْلَ كَأْسِها إِذْعانْ
    زَخارِفٌ مَطارِفٌ مَتاحِفٌ لِقِشْرَةِ الْأَكْوانْ
    قَواقِعٌ بَراقِعٌ بَدائِعٌ زَیّافَةُ الْأَلْوانْ
    جَلَّ عَزیفُ النّایِ أَنْ یَقودَهُ إِنْسانْ
    وَجَلَّ روحُ الْفَنِّ عَنْ تَناسُخِ الْأَبْدانْ
    فَالشِّعْرُ شَیْءٌ فَوْقَ ما یَصْطَرِعُ الْجیلانْ
    روحٌ تَرُجُّ الرّوحَ كَالْإِعْصارِ فی الْبُسْتانْ
    بِزَفِّها وَحَرْفِها وَنورِها الْمُمَوْسَقِ النَّشْوانْ
    وَخَمْرِها الْمَعْصورَةِ الرَّحیقِ مِنْ تَهادُلِ الْأَزْمانْ
    لِكُلِّ جیلٍ كَأْسُه لا تَفْرِضُوا الدِّنانْ
    مَلَّ النَّدامى حَوْلَكُمْ عِبادَةَ الْأَكْفانْ
    فَجَدِّدوا أَرْواحَكُمْ لا تَظْلِمُوا الْمیزانْ
    فَالشِّعْرُ لَحْنٌ مِنْ یَدِ الرَّحْمنْ
    سُبْحانَهُ سُبْحانْ

مُلْهِی النُّسورِ عَنْ خُطَا الدّیدانْ ". (دیوانه) ومن تأمل هذه التعبیرات حق تأملها: " حاسِبٍ مُزَیَّفِ الْمیقاتْ "، " سَبّابَةٌ تُعَذِّبُ الْهالاتْ "، " فُضولُ الْمَوْتِ "، " فُضولُ اللَّیْلِ "، " تَشَبُّثُ الْمَواتْ "، " تَناسُقِ الْأَشْتاتْ "، " تَحَرُّكِ الْأَكْفانْ "، " تَناسُخِ الْأَبْدانْ "، " عِبادَةَ الْأَكْفانْ "، " خُطا الدّیدانْ " - رأى كیف عَرّاهُ للملأ، ثم سَلَحَ علیه! بل كیف زَلْزَلَه، وأَضَلَّه عن نفسه، ثم تركه فی بَیْداء! فأَیَّةُ مَذَمَّةٍ لم یَصُبَّها علیه! وأَیَّةُ مَحْمَدَةٍ لم یَسْلُبْها منه! فتُرى كیف اختلفا اختلافا شدیدا وكان ینبغی أن یأتلفا، حتى إذا أخطأ إسماعیل خَطَأً انْتَهَزَه الحَسّانیُّ نُهْزَةً باردةً؟ وماذا كان ذلك الخطأ ولا مَصْلَحَةَ فی التَّشْنیعِ به، حتى أَكْمَدَه علیه هذا الكَمَدَ، واستعداه هذه العَداوة؟

قال المظفر العلوی المتوفى سنة 656 الهجریة: " یَنْبَغی لِلشّاعِرِ أَلّا یُعادِیَ أَهْلَ الْعِلْمِ، وَلا یَتَّخِذَهُمْ خُصومًا ؛ فَإِنَّهُمْ قادِرونَ عَلى أَنْ یَجْعَلوا إِحْسانَه إِساءَةً، وَبَلاغَتَه عیًّا، وَفَصاحَتَه حَصَرًا، وَیُحیلوا مَعْناهُ، وَیَنْتَقِضوا ما بَناهُ! فَكَمْ مِنْ أَدیبٍ أَسْقَطَ أَهْلُ الْعِلْمِ حُكْمَ أَدَبِه، وَأَخْمَلوا مِنْ ذِكْرِه ما تَنَبَّلَ بِه! وَلَوْ عَدَدْناهُمْ لَأَفْرَدْنا لَهُمْ كِتابًا! وَلِلّهِ عَمّارٌ الْكَلْبیُّ حَیْثُ یَقولُ:

ماذا لَقیتُ مِنَ الْمُسْتَعْرِبینَ وَمِنْ قِیاسِ نَحْوِهِم هذَا الَّذِی ابْتَدَعوا إِنْ قُلْتُ قافِیَةً بِكْرًا یَكونُ بها بَیْتٌ خِلافَ الَّذی قاسوهُ أَوْ ذَرَعوا قالوا لَحَنْتَ وَهذا لَیْسَ مُنتَصِبًا وَذاكَ خَفْضٌ وَهذا لَیْسَ یَرْتَفِع وَحَرَّضوا بَیْنَ عَبْدِ اللّهِ مِنْ حُمُقٍ وَبَیْنَ زَیْدٍ فَطالَ الضَّرْبُ وَالْوَجَعُ كَمْ بیْنَ قَوْمٍ قَدِ احْتالوا لِمَنْطقِهِمْ وَبَیْنَ قَوْمٍ عَلى إِعْرابِهِمْ طُبِعوا ما كُلُّ قَوْلِیَ مَشْروحًا لَكُمْ فَخُذوا ما تَعْرِفونَ وَما لَمْ تَعْرِفوا فَدَعوا لِأَنَّ أَرْضِیَ أَرْضٌ لا تُشَبُّ بِها نارُ الْمَجوسِ وَلا تُبْنى بِهَا الْبِیَع

وَلَعَلَّ أَهْلَ الْعِلْمِ یَأْتونَ إِلَى الْمَعانِی الْمُسْتَحیلَةِ وَالْأَلْفاظِ الْمُخْتلَّةِ، فَیُقَوِّمونَ أَوَدَها بِعِلَلِهِمْ، وَیُصْلِحونَ فاسِدَها بِمَعْرِفَتِهِمْ ؛ وَمَنْ هذِه سَبیلُه فَما یَحْسُنُ أَنْ یُغْضَبَ وَلا یُقْشَبَ ؛ فَرُبَّ داهِیَةٍ وَقَعَ عَلى مَنْ هُوَ أَدْهى مِنْهُ ". (نضرة الإغریض)

ولو قد حضر المظفر العلوی مجلس أستاذنا ذاك، لعرف كیف یَقْدِرُ الشعراء من النَّحْویّین (علماء النحو) على أكثر من ذلك، ولَعَطَفَهُمْ علیهم بإغرائهم بخِدْمَتِهِمْ لهم كما فعل أخیرًا ببعض كلامه، لا بتَهْدیدِهم وهم المُمْتَلِئون بأنفسهم، بأن یَهْتِكَ النَّحْویّونَ أستارَهم ظُلْمًا وعُدْوانًا ویَفْضَحوا أسرارَهم بَغْیًا وبُهْتانًا! ثم العجبُ له یستشهد بشعر عمارٍ ینعى فیه على النَّحْویّینَ (علماء النحو) تَعْنیتَهم له، من غیر استكانة لهم ولا إقرار بسلطانهم! أم تُراه یُخَوِّفُ الشعراء بالكَمَدِ الذی وَجَدَه عَمّارٌ، من حیث كان السعیدَ منهم من وُعِظَ بأخی صَنْعَتِه - حتى یُقْرّوا ویَسْتَكینوا! لقد كان ینبغی للمظفر العلوی، أن یشتغل بجوامع ما بین طائفتی الشعراء والنَّحْویّینَ (علماء النحو) تَرْغیبًا ومُؤالَفَةً وإِصْلاحًا، أكثرَ منِ اشتغاله بفوارق ما بینهما تَرْهیبًا ومُخالَفَةً وإِفْسادًا!

2

مَثَلُ اللغة المعینة مَثَلُ بنیان الإنسان المعین، ومَثَلُ شِعْرِ اللغة المعینة مَثَلُ بنیان إنسانٍ وُلِدَ من ذلك البنیان السابق، ومَثَلُ نَحْوِ اللغة المعینة مَثَلُ جِهازٍ مُعَیَّنٍ فی البنیان السابقِ الوالد مُسْتَمِرٍّ إلى البنیان اللاحقِ المولود.

ومَنْ تَأَمَّلَ بُنیانَ الشعر وَجَدَ بُنیانَ اللغة: جِهازَ أَصْواتِها وَمَقاطِعِها الصَّوْتیة ومعانیها، وجِهازَ صِیَغِها الصَّرْفیة ومعانیها، وجِهازَ مفرداتها المُعْجَمیّة ومعانیها، وجِهازَ تَراكیبها النَّحْویَّة ومعانیها - ورأى كیف تمتزج فی الجهاز الواحد مبانیه ومعانیه، وفی البنیان الواحد أجهزتُه كلُّها - امتزاجَ الأشباح والأرواح، لِتُؤَدِّی رسالةً واحدة لا تُؤَدّى إلا بذلك امْتِزاجًا فامْتِزاجًا، مثلما یُؤَدّی عَمَلَه الإنسانُ نفسُه صاحبُ هذه اللغة ؛ وكُلُّ عَمَلٍ مُوَفَّقٍ یعمله الإنسان - واللغة عَمَلُه الفَذُّ - ففیه طَبیعَتُه البُنْیانیَّة ؛ " لَعَنَ اللّهُ مَنْ هَدَمَ بُنْیانَه "!

وإذا جمعنا تُراثَ لغة ما، استطعنا أن نمیز الشعر منه، لأنه جزء محدد - ولم نستطع أن نمیز النحو، لأنه عنصر مُتَأَصِّلٌ فی مُرَكِّب هذا التراث كله ؛ ومن ثم یعمل النحوُ فی بُنْیان الشعر وغیره من البُنْیانات اللغویة المولودة، ویَتَكَوَّنُ بُنْیانُ الشعر من جهاز النحو وغیره من الأجهزة اللغویة المستمرة ؛ فبین الشعر والنحو عُمومٌ وخُصوصٌ مُطْلَقانِ!

3

وكذلك نستطیع أن نمیز بالعموم والخصوص المطلقین، الشاعرَ والفَصیحَ بعضَهما من بعض ؛ فأولهما المشتغل بإنتاج الشعر، والآخر المشتغل بإنتاج النحو، والشاعرُ یجب أن یكون فَصیحًا، أی أن یستعمل جهاز النحو من اللغة التی یقول فیها شعره، والفَصیحُ یجوز أن یكون شاعرًا، وأن یكون غیر شاعر، ولكن یجب أن یكون أیَّهما، لیقول من اللغة ما یستعمل فیه جهاز نحوها.

وإنما یكون الشاعرُ والفَصیحُ - ویَبْرَعان، ویَفْرَعان - بمَلَكَةٍ فَنّیَّةٍ یستوعب بها كل منهما تُراثَه على منهج من مناهج الارتیاح الإیحائی، سَعْیًا إلى مَیْلٍ وُجْدانی من مُیول التَّرْجیحات الذَّوْقیّة - ویجری مجراه اتِّباعًا فابْتِداعًا ؛ فتتحول مَلَكَتُه الفنّیَّةُ من مرحلة الاستعداد، إلى مرحلة القدرة، حتى مرحلة المهارة، أی من مرحلةٍ یُتْقِنُ فیها عمله واعیا أنه یتقن أو یحاول الإتقان، حتى مرحلةٍ یتقن فیها عمله غافلا عن أنه یتقن أو یحاول الإتقان!

كلامُ الحق - سبحانه، وتعالى! - ورسولِه - صلى الله علیه، وسلم! - وصحابتِه - رضی الله عنهم! - ثم كلامُ سحبانِ وائلٍ وقُسِّ بن ساعدة وأكثمَ بن صیفیٍّ وغیرِهم، ثم كلامُ الشافعی والجاحظ وعبد الحمید وابن المقفع والأصفهانی والتوحیدی وغیرِهم، ثم كلامُ الطبری وعبد القاهر الجرجانی والمعری وغیرِهم، ثم كلامُ ابن خلدون وابن تیمیة وابن القیم والقاضی الفاضل والصفدی وغیرِهم، ثم كلامُ الجبرتی والسبكی وابن عبد الوهاب وغیرِهم، ثم كلامُ المنفلوطی والعقاد والمازنی وسید قطب والرافعی ومحمود شاكر وحمد الجاسر والطنطاوی والبهبیتی وغیرِهم، ثم كلامُ المسعودی ویحیى حقی وعبد الحلیم عبد الله ونجیب محفوظ ویوسف إدریس وفتحی غانم ومصطفى محمود وزكریا تامر وعبد الرحمن منیف وعلی أبو المكارم وغیرِهم!

وكلامُ شعراء المعلقات والمفضلیات والأصمعیات والحماسات والجمهرات وغیرِهم، ثم كلامُ شعراءِ رسول الله - صلى الله علیه، وسلم! - وشعراءِ صحابتِه، ثم كلامُ جریر والفرزدق والأخطل والكمیت وغیرِهم، ثم كلامُ أبی العتاهیة وصالح بن عبد القدوس وبشار وأبی نواس وغیرِهم، ثم كلامُ دیك الجن وعلی بن الجهم وأبی تمام والبحتری والعَكَوَّك وابن الرومی والمتنبی وأبی فراس والمعری وغیرِهم، ثم كلامُ التطیلی وابن خفاجة وابن سهل وغیرهم، ثم كلامُ ابن حمدیسَ والبهاء زهیر وابن سناء الملك وغیرِهم، ثم كلام ابن غنام وابن عثیمین والساعاتی وغیرِهم، ثم كلام البهلانی وأحمد شوقی وحافظ إبراهیم والزبیری وغیرِهم، ثم كلام الشابی وإبراهیم ناجی وعلی طه ومحمود إسماعیل ومحمود شاكر وحمزة شحاتة والنجفی والجواهری وغیرهم، ثم كلام عمر أبو ریشة والسیاب ونازك وأمل دنقل ومحمود درویش ومحمد الفیتوری وحسن قرشی ومهران السید وعبد اللطیف عبد الحلیم وغیرِهم.

مادة بعضها من بعض، وبعضها یدل على بعض مشهورًا ومغمورًا، لا یرضى إلا أن یُحْشَر معه - ینبغی لكلٍّ من طالِبَیِ الشعر والفَصاحَةِ العَرَبیَّیْنِ، أن یبحث عنها، ویستوعبها، ویتحقق بها، ویلهج بذكرها ؛ فیلتبس بها ظاهرا وباطنا، حتى یقَلِّدها عفوًا، أو یتَناساها قصدا! فإن قلدها انضاف إلى مذهب أصحابها، وإن تناساها انطلق إلى مَذْهَبٍ ینفرد به حتى ینضاف إلیه فیه غیرُه!

4

ونستطیع أن نمیز بالعموم والخصوص المطلقین كذلك، عالمَ الشعر والنحویَّ (عالمَ النحو) بعضهما من بعض ؛ فأولهما المشتغل بالبحث عن حقیقة وجود الشعر ضَبْطًا لنظریاته، والآخر المشتغل بالبحث عن حقیقة وجود النحو ضَبْطًا لنظریاته، وعالم الشعر لا یستغنی عن علم النحو، والنحویُّ (عالم النحو) لا یكتمل إلا بعلم الشعر.

وإنما یكون عالمُ الشعر والنحویُّ (عالم النحو) - ویَبْرَعان، ویَفْرَعان - بمَلَكَةٍ عِلْمیَّةٍ یستوعب بها كل منهما تراثَه العلمیَّ على منهج من مناهج التأمل الظاهریة أو الباطنیة، سَعْیًا إلى نظریة ضابطة من نظریات ترتیب المقدمات والنتائج - ویجری مجراه كذلك اتِّباعًا فابْتِداعًا ؛ فتتحول مَلَكَتُه العِلْمیَّةُ كذلك من مرحلة الاستعداد، إلى مرحلة القدرة، حتى مرحلة المهارة.

كتبُ البیان والتبیین والحیوان والأغانی وغیرِها، ثم كتبُ الصناعتین والوساطة وأسرار البلاغة ودلائل الإعجاز وشرح الحماسة وشرح دیوان المتنبی وغیرِها، ثم كتبُ العمدة والموازنة وعیار الشعر والمثل السائر ومنهاج البلغاء وغیرِها، ثم كتبُ الدیوان وفی المیزان الجدید ورسالة فی الطریق إلى ثقافتنا ونمط صعب ونمط مخیف وأباطیل وأسمار والنقد الأدبی الحدیث وغیرِها، ثم كتبُ قراءة الشعر والصورة فی الشعر العربی والرمز والرمزیة فی الشعر المعاصر وواقع القصیدة العربیة وحركة الشعر الحدیث فی سوریة وعن بناء القصیدة العربیة الحدیثة وتشریح النص وغیرِها!

وكتبُ الكتاب والمقتضب ومعانی القرآن والأصول وشرح القصائد السبع الطوال الجاهلیات وشرح المفضلیات وغیرِها، ثم كتبُ الخصائص وسر صناعة الإعراب والمقرب والبحر المحیط وغیرِها، ثم كتبُ الأمالی وشرح المفصل وشرح الكافیة وخزانة الأدب ونتائج الفكر وغیرِها، ثم كتبُ الاقتراح وهمع الهوامع والألفیة وشرح الأشمونی وحاشیة الصبان وحاشیة الشهاب وشرح بانت سعاد والمغنی وغیرِها، ثم كتبُ النحو الوافی واللغة العربیة معناها ومبناها والبیان فی روائع القرآن وخصائص الأسلوب فی الشوقیات وبناء الجملة العربیة والنحو والدلالة والجملة فی الشعر العربی ومدخل إلى دراسة الجملة العربیة ونظام الجملة فی شعر المعلقات وغیرِها!

مادة بعضها من بعض كذلك، وبعضها یدل على بعض مشهورًا ومغمورًا، لا یرضى إلا أن یُحْشَر معه - ینبغی لكلٍّ من طالِبَیْ علم الشعر وعلم النحو العربیین، أن یبحث عنها، ویستوعبها، ویتحقق بها، ویلهج بذكرها ؛ فیلتبس بها ظاهرا وباطنا، حتى یقَلِّدها عفوًا، أو یتَناساها قصدا! فإن قلدها انضاف إلى مذهب أصحابها، وإن تناساها انطلق إلى مَذْهَبٍ ینفرد به حتى ینضاف إلیه فیه غیرُه!

5

بهؤلاء جمیعا وأمثالهم على مسیرة التاریخ الثقافی، تكون فنونُ اللغة وعلومُها دائما، وتحیا حیاة طیبة، ثم على آثارهم یسعى غیرُهم من أصحاب اللغة، إِكْبارًا لهم، ووُثوقًا بهم، ولا یقبلون فیهم لَوْمَةَ لائِمٍ!

وأنى لهم أن یُخْطِئوا مَرامِیَهُمْ اللغویة بأعمالهم على أیِّ وجه كان الخطأ، فیُلیموا وهم الموهوبون المُوَفَّقون إلى تثقیف مواهبهم، المشتغلون دائما بأعمالهم، المُتَطَوِّرون من حال إلى أحسن منها!

ولكننا نتكلم من ذلك فی مسألة خطأ الشاعر والفصیح ؛ فخطأُ عالم الشعر ربما ینبنی على خطأ الشاعر نفسه، وخطأُ النحوی (عالم النحو) ربما ینبنی على خطأ الشاعر والفصیح كلیهما! بل نستطیع أن نكتفی من هذا بالكلام فی خطأ الشاعر ؛ فالفصیحُ نفسه ربما یكون هو الشاعر نفسه، كما شرحت فیما سبق!

6

لقد رأى بعض العلماء المعاصرین أن الشاعر یخطئ أحیانا مَرْماه اللغوی، وأن خطأه حَدَثٌ واقعی، یدل على غفلة تفكیریة بأثر اضطراب أو شرود أو جهل. وأبى ذلك غیرُهم من المعاصرین، بأنَّ خطأه وَجْهٌ مُهْمَلٌ من الصواب، یَدُلُّ على خَطْرَةٍ فكریة طارئة لم تتمكن من العادات الجماعیة بعد!

ولیس المذهبان بجدیدین ؛ فلقد كان عبد الله بن أبی إسحاق المتوفى سنة 117هـ - وهو وابنه زید هما المذكوران فی شعر عمّار السابق ذكره - وتلمیذُه عیسى بن عمر المتوفى سنة 149هـ، وأبو عمرو بن العلاء المتوفى سنة 154هـ، وتلمیذُه یونس بن حبیب المتوفى سنة 182هـ - كلُّهم من أئمة النحویین (علماء النحو)، وكان الأَوَّلانِ أَمْیَلَ إلى تخطئة الشاعر إذا خالف القاعدة، وكان الآخِران أَمْیَلَ إلى تصویبه واعتماد ما خالفهما فیه والقیاس علیه. ولقد دَرَجَ البصریون مَدْرَجَ الأَوَّلَیْنِ، ودَرَجَ الكوفیون مَدْرَجَ الآخِرَیْنِ ؛ " وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّیها "!

قال القاضی الجرجانی المتوفى سنة 392هـ: " دونَكَ هذِهِ الدَّواوینَ الْجاهِلیَّةَ وَالْإِسْلامیَّةَ ؛ فَانْظُرْ: هَلْ تَجِدُ فیها قَصیدَةً تَسْلَمُ مِنْ بَیْتٍ أَوْ أَكْثَرَ لا یُمْكِنُ لِعائِبٍ الْقَدْحُ فیهِ، إِمّا فی لَفْظِه وَنَظْمِه، أَوْ تَرْتیبِه وَتَقْسیمِه، أَوْ مَعْناهُ، أَوْ إِعْرابِه؟ وَلَوْلا أَنَّ أَهْلَ الْجاهِلیَّةِ جُدّوا بِالتَّقَدُّمِ، وَاعْتَقَدَ النّاسُ فیهِمْ أَنَّهُمُ الْقُدْوَةُ وَالْأَعْلامُ وَالْحُجَّةُ - لَوَجَدْتَ كَثیرًا مِنْ أَشْعارِهِمْ مَعیبَةً مُسْتَرْذَلَةً، وَمَرْدودَةً مَنْفیَّةً! لكِنَّ هذَا الظَّنَّ الْجَمیلَ وَالِاعْتِقادَ الْحَسَنَ، سَتَرَ عَلَیْهِمْ، وَنَفَى الظِّنَّةَ عَنْهُمْ ؛ فَذَهَبَتِ الْخَواطِرُ فِی الذَّبِّ عَنْهُمْ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَقامَتْ فی الِاحْتِجاجِ لَهُمْ كُلَّ مَقامٍ! وَما أَراكَ - أَدامَ اللّهُ تَوْفیقَكَ! - إِذا سَمِعْتَ قَوْلَ امْرِئِ الْقَیْسِ:

    یا راكِبًا بَلِّغَ إِخْوانَنا مَنْ كانَ مِنْ كِندَةَ أَوْ وائِل
    فَنَصَبَ بَلِّغْ - وَقَوْلَه:
    فَالْیَوْمَ أَشْرَبْ غَیْرَ مُسْتَحقِبٍ إثْمًا مِنَ اللّهِ وَلا واغِل
    فَسَكَّنَ أَشْرَبُ - وَقَوْلَه:
    لَها مَتْنَتانِ خَظاتا كَما أَكَبَّ عَلى ساعِدَیْهِ النَّمِرْ
    فَأَسْقَطَ النّونَ مِنْ خَظاتانِ لِغَیْرِ إِضافَةٍ ظاهِرَةٍ - وَقَوْلَ لَبیدٍ:
    تَرّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذا لَمْ أَرْضَها أَوْ یَرْتَبِطْ بَعْضَ النُّفوسِ حِمامُها
    فَسَكَّنَ یَرْتَبِطَ وَلا عَمَلَ فیهِ لِلَمْ - وَقَوْلَ طَرَفَةَ:
    قَدْ رُفِعَ الفَخُّ فَماذا تَحْذَری
    فَحَذَفَ النّونَ - وَقَوْلَ الْأَسَدیِّ:
    كُنّا نُرَقِّعْها وَقَدْ مُزِّقت وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَى الرّاقِع
    فَسَكَّنَ نُرَقِّعُها - وَقَوْلَ الْآخَرِ:
    تَأْبى قُضاعَةُ أَنْ تَعْرِفْ لَكُمْ نَسَبًا وَابْنا نِزارٍ وَأَنْتُمْ بَیْضَةُ الْبَلَد
    فَسَكَّنَ تَعْرِفَ - وَقَوْلَ الْآخَرِ:
    یا عَجَبًا وَالدَّهْرُ جَمٌّ عَجَبُهْ
    مِنْ عَنَزیٍّ سَبَّنی لَمْ أَضْرِبُهْ
    فَرَفَعَ أَضْرِبْهُ - وَقَوْلَ الْفَرَزْدَقِ:
    وَعَضُّ زَمانٍ یَا ابْنَ مَرْوانَ لَمْ یَدَعْ مِنَ الْمالِ إِلّا مُسْحَتًا أَوْ مُجَلَّف

فَضَمَّ مُجَلَّفًا (…) ثُمَّ تَصَفَّحْتَ مَعَ ذلِكَ ما تَكَلَّفَهُ النَّحْویّونَ لَهُمْ مِنَ الِاحْتِجاجِ إِذا أَمْكَنَ، تارَةً بِطَلَبِ التَّخْفیفِ عِنْدَ تَوالِی الْحَرَكاتِ، وَمَرَّةً بِالْإِتْباعِ وَالْمُجاوَرَةِ ؛ وَما شاكَلَ ذلِكَ مِنَ الْمَعاذیرِ الْمُتَمَحَّلَةِ، وَتَغْییرِ الرِّوایَةِ إِذا ضاقَتِ الْحُجَّةُ ؛ وَتَبَیَّنْتَ ما راموه فی ذلِكَ مِنَ الْمَرامِی الْبَعیدَةِ، وَارْتَكبوا لِأَجْلِه مِنَ الْمَراكِبِ الصَّعْبَةِ، الَّتی یَشْهَدُ الْقَلْبُ أَنَّ الْمُحَرِّكَ لَها وَالْباعِثَ عَلَیْها، شِدَّةُ إِعْظامِ الْمُتَقَدِّمِ، وَالْكَلَفُ بِنُصْرَةِ ما سَبَقَ إِلَیْهِ الِاعْتِقادُ وَأَلِفَتْهُ النَّفْسُ (…) شَكَكْتَ فی أَنَّ نَفْعَ هذَا الْحُكْمِ عامٌّ، وَجَدْواهُ شامِلٌ، وَأَنَّ الْمُتَقَدِّمَ یَضْرِبُ فیهِ بِسَهْمِ الْمُتَأَخِّرِ، وَالْجاهِلیَّ یَأْخُذُ مِنْهُ ما یَأْخُذُ الْإِسْلامیُّ، وَأَنَّه قَوْلٌ لا حَظَّ لَه فِی الْعَصَبیَّةِ، وَلا نَسَبَ بَیْنَه وَبَیْنَ التَّحامُلِ ".

(الوساطة)

لقد أراد القاضی الوساطة بین المتنبی وخصومه، فاقتص آثار الشعراء مُخْطِئینَ، حتى یُبَرِّئَ المتنبیَ بعُموم البَلْوى، ثم یَحْكُمَ بضرورة الاعتماد فی تقدیر الشاعر المُخْطِئِ، على الغالب علیه ؛ فإن غلب علیه الصوابُ وَجَبَ تَصْنیفُه فی طائفة المُصیبین، وإن غلب علیه الخطأُ وجب تَصْنیفُه فی طائفة المُخْطئین، فأما عِصْمَتُه فَرَأْیٌ فائِلٌ لا یراه لنفسِه الشاعرُ نَفْسُه إلا أن یكون مَهْووسًا، وهو الإنصافُ!

7

ولكنْ فات القاضیَ الجرجانیَّ أنه ینبغی ألا یرى لنفسه العصمةَ كذلك النحویُّ (عالم النحو) نفسُه - وأنا أَرُدُّ عَجُزَ كلامی هنا على صَدْرِه - فربما خَفِیَ علیه مرادُ الشاعر اضطرابًا أو شُرودًا أو جَهْلا كذلك ؛ فاستعجل التخطیء كما استعجل الشیخ القاضی نفسُه تخطیء بعضِ ما أورد على الشعراء!

قال ابن رشیق القیروانی المتوفى سنة 463هـ: " حَكى الصّاحِبُ بْنُ عَبّادٍ فی صَدْرِ رِسالَةٍ صَنَعَها عَلى أَبی الطَّیِّبِ، قالَ: حَدَّثنی مُحَمَّدُ بْنُ یوسُفَ الْحَمّادیُّ، قالَ: حَضَرْتُ بِمَجْلِسِ عُبَیْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ طاهِرٍ، وَقَدْ حَضَرَه الْبُحْتُریُّ، فَقالَ: یا أَبا عُبادَةَ، أَمُسْلِمٌ أَشْعَرُ أَمْ أَبو نُواسٍ؟ فَقالَ: بَلْ أَبو نُواسٍ، لِأَنَّه یَتَصَرَّفُ فی كُلِّ طَریقٍ، وَیَبْرَعُ فی كُلِّ مَذْهَبٍ: إِنْ شاءَ جَدَّ، وَإِنْ شاءَ هَزَلَ، وَمُسْلِمٌ یَلْزَمُ طَریقًا واحِدًا لا یَتَعَدّاهُ، وَیَتَحَقَّقُ بِمَذْهَبٍ لا یَتَخَطّاهُ. فَقالَ لَه عُبَیْدُ اللّهِ: إِنَّ أَحْمَدَ بْنَ یَحْیى ثَعْلَبًا لا یُوافِقُكَ عَلى هذا. فَقالَ: أَیُّها الْأَمیرُ، لَیْسَ هذا مِنْ عِلْمِ ثَعْلَبٍ وَأَضْرابِه مِمَّنْ یَحْفَظُ الشِّعْرَ وَلا یَقولُه ؛ فَإِنَّما یَعْرِفُ الشِّعْرَ مَنْ دُفِعَ إِلى مَضایِقِه. فَقالَ: وَرِیَتْ بِكَ زِنادی، یا أَبا عُبادَةَ! إِنَّ حُكْمَكَ فی عَمَّیْكَ أَبی نُواسٍ وَمُسْلِمٍ، وافَقَ حُكْمَ أَبی نُواسٍ فی عَمَّیْهِ جَریرٍ وَالْفَرَزْدَقِ ؛ فَإِنَّه سُئِلَ عَنْهُما، فَفَضَّلَ جَریرًا، فَقیلَ لَه: إِنَّ أَبا عُبَیْدَةَ لا یُوافِقُكَ عَلى هذا، فَقالَ: لَیْسَ هذا مِنْ عِلْمِ أَبی عُبَیْدَةَ ؛ فَإِنَّما یَعْرِفُه مَنْ دُفِعَ إِلى مَضایِقِ الشِّعْرِ ". (العمدة)

وهذه عادةُ الشعراء التی یُدافعون بها عادةَ النحویین (علماء النحو) تلك، ویُؤَرِّثُ نارَها طلابُهما الغاوونَ المُذَبْذَبون بینهما كلیهما جمیعا معا، حتى إذا سَكَتَ عن كل منهما الغضبُ خالصةً نیَّتُه للحق، وبَرِئَ من التَّسَرُّع صافیةً نفسُه من الغُرور - قال فی الآخرِ غیرَ ما قال ؛ فقال فیه الآخرُ غیرَ ما قال ؛ فاجتمع الشمل فی خدمة اللغة فَنًّا وعِلْمًا: یعتمد الشاعرُ من النحوی (عالم النحو)، على أَرْضٍ قَویَّةٍ راسِخَةٍ، فیُؤَصِّلُ بنیانَ فَنِّه، ویتعلق النحویُّ (عالمُ النحو) من الشاعر، بِسَماءٍ قَویَّةٍ سامِقَةٍ، فیُفَرِّعُ بنیانَ عِلْمِه!

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:1|
الإبداعات فی الشّعر الأندلسی



موجز البحث:

أنّ فی الأدب الأندلسی توجد إبداعات وتجدیدات کثیرة ، خاصة فی مجال الشعر، وهذه الابداعات تنقسم إلی قسمین؛ ابداعاتٌ فی شکل الشعر وموسیقاه وهی ما تسمّی بالموشحات والزجّل وابداعاتٌ فی الأغراض والمعانی الشعریه وهی ما نباحث عنها تحت عنوان: شعر الطبیعه وشعر الجهاد ورثاء الممالک الزائلة والحنین إلی الاوطان والاستنجاد والاستغاثة والمخلّعات.

الکلمات الرئیسیّه: الابداعات، الشعر، الأندلس  
 
  
 
 

المقدمه:

إنّ العصر الأندلسی کان من العصور المزدهره فی الأدب العربی ولهذا یحظی بأهمیّته بالغه وعنایه کبیره من جانب الأدباء والباحثین، ولا شک فی أن هذه البقعه من البقع الاسلامیّه أدبا خاصاً وأسلوبا متمیّزا بالنسبه إلی المشرق ، علی جانب هذه الأهمیّه نهج الأدباء منهجاً واحداً فی دراسه هذا العصر ولم یتحدثوا بوضوح عن الأغراض الموجوده فی أدبه من شعر ونثر ولا یعلم باحث هذا العصر هل الشعراء الأندلیسون أبدعوا فنّاً جدیداً فی عالم الأدب أم کانوا مقلدین تقلیداً محضاً وقد حاولنا فی هذه المقاله أن نزیل الابهامات الموجوده فی ادب هذا العصر وادّعینا بأن لأدبا الأندلس کانت أسالیب خاصه والفنون الجدیده فی الشعروباحثنا عن الشعر خاصه، ولمّا قال قائل لنا أنّ هذه الموضوعات التی أشرنا إلیها کابداعات والتجدیدات توجد فی شعر المشارقه قبلهم والشعرا/ الاندلیسون لم یکونوا مقلّدین تقلیداً محضاً، قلنا فی ردّ هذا السؤال، بأن الأندلیسین لم یکونوا مقلّدین عن المشارقه تماماً بل أخذوا الموضوعات من المشارقه وونوّعوها وطوّروها ووَسّعوها وأبدعوها وأضافوا إلیها مطالب ومسائل جدیده، حتّی تظن أنّ هذا الموضوع کان فی العصر الأندلسی فحسب، وإنّ من یزعم أنّ ابداع الأندلسیین اختصّ بالموشحات والزجل فقط، لم یعرف الشعر إلاّ بموسیقاه وشکله،لأن الشعر مالکه طبیعیه لایتاتی الا بلمحاکاه التقلید ولا یتوسّع إلاّ بأخذ الموضوعات عن الآخرین والبسط فیها وایجاد التطوّر والتوسع فیها وتناول المعانی القدیمه لا یعاب علی الشاعر إذا أخذ المعانی القدیمه وصوّرها بتصویر جدید وصبّها فی قالب طازج وألبسها ثوباً متمایزاً عن سابقیها. والان علینا أن نأتی بسؤالین:

1-ماهی  الأغراض الجدیده التی أنشدفیها الشعراء الأندلسیوّن؟

2-ماهی دوافع الشعرا لانشاء هذه الموضوعات؟

أمّا قبل الإجابه بهذین السوالین نباحث أوّلا من الأندلس والأدب فیها ثم نختصّ بحثنا إلی الإجابه بهذین السؤالین.
الأندلس وسبب تسمیتها

إن الاسم القدیم لهذه البلاد ایبریا [3] وهولفظ اغریقّی نسبهً إلی قوم یعیش بها والاسم الآخر لهذه البلاد اسبانیا ویوجد أقوال کثیره فی اسبانیا، ویقال نسبه إلی حیوان یعیش بها وعدده کان کثیرا ویسّمی«بالاشبان» بمعنی الأرنب، أمّا الأعراب سموها بالأندلس نسبه إلی القبائل الجرمانیه التی سکنت بهذه المنطقه وتسّمی بالفندال [4] وسمّیت المنطقه «بالفندلس» ثمّ تغیّرت بأندلس بضم الدال وفتحها.
البیئه السیاسیّه والاجتماعیه فی الأندلس:

بعد ما استأذن موسی بن نصیر الولید فی زمن الأمویین، عزم المسلمون علی أن یفتحوا شمال افریقیا واسبانیا کلّها بسبب خصبها وغناءها واسبانیا آنذاک کانت علی أسوا الحال سبب الضرائب الباهظه واستبداد الملاّکین علی الفلاّحین وألقی موسی بن نصیر اثقال هذا العمل الکبیرعلی عاتق جندیّ بربریّ یسّمی بطارق ابن زیاد وبعد شهرین نزل الطارق فی الضفه الاوروبیّه وفتحت هذه البلاد کلها وبقی المسلمون ثمانیه قرون تقریباً فی الأندلس، حتّی سقطت غرناطه آخر قواعد المسلمین فی ید المسیحیین وانتهت بهذا خلافه المسلمین فی الأندلس سنه 1492 م و897 هجریّا [5]. أمّا تشکلت فی الأندلس الدول والطوائف الکثیره وشاهدت الأندلس عهوداً کثیره، مثل عهد الولاه وعهد بنی أمیّه وعهد ملوک الطوائف ودوله المرابطین وعهد الموحّدین ودوله بنی الأحمر [6]. أمّا من جهه الاجتماعیه أنّ هذه البقعه بسبب جوها المعتدل وخصب أراضیها وغزاره میاهها ووفره خضراءها وکثره ثمارها کانت منظراً للجمال ومطمحاً للآمال وحملت هذه المسأله الخلفاء والملوک علی تشیید المدن العامره والقصور الکبیره والمساجد والمجامع والجسور والأبراج والحّمامات والأحواض ویمکن الإشاره بقصر «الحمراء» فی غرناطه وقصر «اشبیلیه» انتشرت الموسیقی ولاسّیما بدخول زریاب المغنی الی الأندلس وکثرت المدارس للموسیقی والغناء. وفی نتیجه هذا الترف والرخاء نری ضعفاً دینیّاً وفلسفیّاً فی هذه البلاد.
البیئه الأدبّیه:

حینما تدفّق العرب علی الأندلس حملوا معهم تراثهم القدیم وطبیعتهم الشعریّه، وحل الشعر حیثما حلّوا واهتموا منذ مجیئم اهتماماً بالغاً بالشعر. وقد قلّد الأندلسیون فی کثیر شوؤنهم الشعرا المشارقه. حتی اطلقوا علی شعراءهم القاب شعرا المشرق، مثل الغالب الأندلسی الذّی یکنّی بأبی تمام وابن زیدون یلقّب بالبحتری وابن هانی بالمتنّبی، وما لبث حتی صار هذا التقلید منافسه واصحبت هذه المنافسه سبباً لتقویه  الأدب فی الأندلس، اتفق کثیر من الأدبا علی أنّ عهد الموحّدین عهد رفعه منزله الشعر وتعالیه. انشد شعراء الأندلسیون فی الموضوعات التی أنشدبها الشعراء فی المشرق، کالمدح والرثاء والهجاء والحماسه والحکمه والمدائح النبویّه والوصف والغزل والخمر وغیرها وظهر الکبائر من الشعراء، مثل  ابن هانی وابن شهید وابن خفّاجه وابن ادریس وابن عبدون وابن عبدربّه والکثیر من الشعراء الذین  برزوا فی هذا العصر.
الابداعات فی الشعر الأندلسی:

من الأدبا الذین ذهبوا إلی أنّ الشعر الأندلسی شعر تقلیدیّ محض [7] ومنهم من یقول أن التقلید فی السیاسیه والحیاه الاجتماعیّه وفی بعض الموضوعات الشعریّه [8]، أمّا من الخطأ أن نظنّ أنّ الشعر الأندلسی، یغیب فی ظلام المحاکاه ومن الخطأ أن نتصّور بأنّ الأندلسیین لم یضافوا إلی الأدب هیکلیّه جدیده، لأنّ من یدقّق فی الشعر الأندلسی یجد أن الموشحات والزجل کانت ثوره فی الأدب وفی الشعر، أمّا لم یقتصر هذا التطّور والتجدید فی شکل الشعر بل نری بعضاً من الموضوعات الجدیده فی الأندلس التی لم یشیروا شعراء المشرق إلیها، ام أشاروا اشاره وجیزه إلی هذه، فنتطرق إلی هذه الإبداعات ونبدأ أوّلا من الابداع فی شکل الشعر وموسیقا. ثم نتطرق إلی التجدید فی الموضوعات والأغراض الشعریه.

الابداع فی شکل الشعر وموسیقاه:

الف: الموشحات:

الموشح لغه بمعنی الوشاح وهوالثوب المرصّع باللؤلؤ والجوهر، وهوشبیه بالقلاده وفی اصطلاح الأدباء نمط من انماط الکلام المنظوم نشأ فی الأندلس فی أواخر القرن الثالث الهجری مقارنا بالتاسع المیلادی وهویختلف عن القصائد الموجوده فی الشعر العربی من حیث الاوزان العروضیه وفی معظمها تخرج عن أوزان الخلیل [9].

اتفق الأدباء أنّ مخترع الموشحات مقدّم بن معافر الفریری [10] کما ینسب إلی محمد بن محمود القبّری الضریر [11].

أمّا أنّ أصل فن الموشحات یرجع إلی جماعات تسمّی «بِجُنکلر» [12] وکانوا یطوفون البلاد ویتغنون بالأنشاد الحماسیه أوالغرامیه کما تأخّر الشعراء فی الأندلس عن جماعات فی جنوب فرنسه تسمّی«بالتروبادور» وهم یتغنون ویرقصون ویطوفون فی البلاد، من شعراء الموشحات یمکن أن نشیر إلی ابن عبدربّه الذی أخذ هذا الفنّ من مقدّم بن معافر الفریری کما برز فی هذا الغنّ عباده القزاز وابن رافع رأسه وابن زهر وابن باجه وابن سهل الاسرائیلی و  وتأثر فی المشرق من هذا الفن ابن سناء الملک وفی العصر الحاضر نظم ابوالوفاء الرمزی والرّصافی الموشّحات.

أمّا الموشحات من جهه الاوزان تنفسم إلی قسمین:

الف: ما جاء علی اوزان خلیلّیه فی بحور الشعر المعروفه،

ب: ما لاوزن له ولا یخضع أمام الشعر التقلیدی وکان غرضه الأصلی «الغنا» وکانت عاده علی وزن «مستفعلن فاعلن فعولن» مرتین و«فاعلاتن فاعلن» مرّتین مثل:

صَبَرتُ والصبرُ المعانی          ولم أقُل للمطیل هجرانی               مُعذّبی کفانی

أمّا الموشّح باعتبار جزئیه ینقسم إلی :

الأول: التام وهوما تألّف من ستّه أقفال وخمسه أبیات وابتدی فیه بالأقفال أی ما ذکر بمطلع الموشح. الثانی: الأقرع وهوما ترکّب عن خمسه أقفال وخمسه ابیات وابتدی فیه بالأبیات ولم یذکر فیه مطلع الموشّح. أجزاء الموشح:

1-المطلع ویطلق علی القفل الأوّل من الموشحه ویتألّف عادهً من شطرین أواربعه أشطر ویسمّی الموشح«تامّا» إذا بدأ بالمطلع.

2-القفل أواللازمه هوالجزء المتکّرر فی الموشحه وفی الاجمال بیتٌ أوعده ابیات.

3-البیت: یتّکون من«الدور» مضافاً «القفل» الذی یلیه.

4-الدور: ما تأتی بعد المطلع فی الموشّح التام.

5-السَّمط : اسم اصطلاحّی لکّل من أشطر الدور.

6-الغُصن: اسم اصطلاحی لکلّ شطر من أشطر الأقفال.

7-الخرجه:القفل الأخیر فی الموشحه.

والآن تأتی بموشح ونعیّن بالضبط هذه المصطلحات .

وهذه الموشحه لأبی بکر محمد بن زهر الأشبیلی المتوفی 595 هـ.

سَلِّم الأمرَ لِلقَضاء     فَهُوَ لِلنَّفسِ أَنفعُ [13]               مطلع الموشح

الغصن الأوّل وَ اغتَنِم حینَ أقبلا  وَجهَ بدرٍ تَهَلَّلا

 الدور الأوّل البیت الأوّل  لا تَقُل بالهمومِ لا  

   کَلّ ما فاتَ وانقضی    لیسَ بِالحُزنِ یَرجَعُ         القفل الاوّل  

   واصطبح بابنه الکروم          السَّمط الدور الثانی                من یدی شادنٍ رخیم    السَّمط            البیت الثانی

   حینَ  یفترُّ عن  نَظیم  الثانی الثانی      فیه برقٌ قد أَومَضا                                 ورحیقٌ مُشَعشَعٌ قد اَثَّرت الموشحات علی الأدب المغربی، کما تأثّر الاسبانیون بطریق الموشحات الأندلسیه وأثّرت علی الأدب المشرقی حتی کثرت فی عصر الانحطاط (المملوکی والعثمانی ).

أنشدت الموشحات لأغراض کثیره مثل وصف الطبیعه ووصف الخمر والغزل و… . ب)الزَّجل [14]: فی اللغه الطرب ورفع الصوت للتغنّی وفی الاصطلاح لونٌ من ألوان الأدب فی الشعر الذی ینشد بالعلمیه برفع الصوت، إنّ الزجل تعدّدت لهجاته بتعدّد الأماکن التی نشأبها. أمّا نشأته بالاتّفاق الأندلس وإنّه کشقیقه الموشحات من الفنون التی استحدثه الأ ندلسیّون، أمّا مخترع الزجل بالاتفاق هوأبوبکر ابن قزمان المتوفی(555 هـ) وکان لابن قزمان فضل الشهره والتجدید. من أشهر شعراءه احمدبن الحاج المعروف «بمد غلّیس» وعیسی البلیدی وأبوعمر الزاهر الاشبیلی وابن الزیّات وسهل بن مالک و… أمّا وزن الزجل هونفس وزن الموشحات وأتی إمّا بشکل الموشح وإمّا بشکل رباعی أوالدّوبیت (ذوبیتین) ویقال إنّ وزن الزجل بهذه الصوره: ألف.ألف.ب.ب.ب.ألف إنّ الزجل مثل الموشح مطلع واغصان وأقفال وبیت وخرجه، أمّا الزجل بیدأ بالمزدوج ثمّ الرباعی ویتکّرر المزدوج بعد کلّ رباعی . 
  من أزجال ابن قزمان:

                         هَجَرن حبیبی هَجَر        وأنا لس لی بعد صَبَر        المطلع البیت الاول            لس حبیبی إلاّ ودود    قطع لی قمیص من قدود       الدور الاول            وخاط بنقص العهود   وحَبَّب إلیّ السَّهَر          القفل الاول          کان الکُسبتان من شُجون     وَ الإبَر من سهام الجُفون الزجل هولغه عامه الناس وعبارته مألوفه بالنسبه إلی الموشحات وفی لغته عدم التکلّف والفاظه أصدق فی التعبی.

الإبداعات من جهه الأغراض والموضوعات:

أشرنا المباحث السابقه إلی مدی تقلید الأندلسیین من المشارقه فی موضوعاتهم الشعریه وکما أشرنا بعد مدّه قلیله صار هذا التقلید منافسه، ولکّن الأندلس تتشکّل من شعوب مختلفه منها عربی وبربری وقوطی ورومی ویهودی ولاتینی.ولکّل ٍ من هذه الشعوب عقلیّه خاصه وتفکّر متمایز عن الآخروعلینا، ألاّ نتصور مساویاً کلا التفکیری الشرقی والغربی فی موضوع واحدٍ من الأغراض الشعریه، فعلی هذا أخذ الشعراء الأندلسیون یمثلّون بیئتهم الجدیده ونزعات نفوسهم وشعورهم، من غیر أن یقلّدوا المشارقه، فترکوا التقلید وأسباب هذا التطوّر هی التعلق بأوطانهم الجدیده والجمال الفاتن للأندلس، وقد بلغت حرکه التطور إلی ذروتها فی القرن الثانی عشر فنری شعر ابن حمدیس وابن عبدون وابن خفّاجه ولسان الدین الخطیب بیّنه التعبیر [15]. فیقول بطرس البستانی :«إذا شئت أن تلتمس إبداع شعراء الأندلس وافتنانهم ودقه وصفهم وجمال تصویرهم … فاسمعهم یذکرون الطبیعه الناعمه الناضره…» [16] ویقول حنا الفاخوری: یتجلّی لنا الشعر الأندلسی مزیجاً عجیباً من قدیم وحدیث ومن اتبّاعیّه وابتداعیّه …». [17]

ویقول البستانی: تفنّن الأندلسیّون فی شتّی الأوصاف حتی برعوا وفاقوا المشارقه، کوصف الطبیعه والمدن… ویمکن أن نقسم شعر الأندلسین إلی ثلاثه أقسام کما فعل . عبدالعزیز العتیق فی کتابه؛ 1-الفنون التقلیدیه 2- الفنون الموسّعه 3-الفنون المستحدثه [18].

أما الفنون المستحدثه بالاتفاق ؛ 1- شعر الطبیعه ، و2- شعر رتاء الممالک الزائله و3- شعر الجهاد، 4- وشعر الوطن.

یقول الفاخوری :إنّهم [الأندلسّیون] قد أظهروا فی بعض الموضوعات، تمیزهم عن سواهم، کما فی الوصف ورثاء الممالک البائده والشکوی والاستنجاد. وهکذا بدأ الأندلسّیون بمحاکاه الشرق، ثم نافسوه فی حبّ التجدید والتحّرر [19]. أمّا إذا عاب أحدعلینا بأنّ هذه الموضوعات من جهه التسمیه لیست جدیده نقول له أخذ شعرا الأندلس هذه الموضوعات وصبّوها فی قالب جدید وفی صیاغ متفاوتٍ، کمانری أنّهم فی شعر الطبیعه أوردوا ابداعات وطوّروها ومنها:

الف)وجود التشابیه والاستعارات الکثیره والبدیعه ب) مزج هذا النوع من الشعر(الطبیعه) بالفنون الآخری ج) التشخیص  د) الرمز  ه) الجمع بین النقیضین؛ ونأتی بمثالٍ عن کلّ هذه المسائل : أمّا فی وجود التشابیه الجمیله التی لانراها قبل هذا، التشبیه الذی نراها فی شعر ابن خفّاجه للنّهر:

مُتَعَطِّفٌ مِثلُ السِّوارِ کأنّه                             وَالزَّهرُ یکنِفُهُ، مجرَّ سَماءِ [20]

ففی هذا البیت، أوّلاً شبّه النّهر بالسوار وثانیاً شبهها بالمجرّه ونجومِها. أویمکن أن نشیر إلی شعر سعیدبن الفرج فی مزج الفنون بالاخری [21]

               أزعَمتُ أنّ الوردَ من تفضیله
                                  خجلٌ وناحله الفضیله عانِدُ
          إن کان یستحیی لفضل جماله
                                  فحیاءُهُ فیه جمالٌ زایدٌ

إنّ الشاعر یجعل خجل الورود لاحمرار وجنه المحبوب وجمالها. فیصف الشاعر الطبیعه أوّلا ثمّ الجبیبه ثانیاً.

أمّا صنعه التشخیص فی شعر الطبیعه کثیرهٌ وأشدّ واغرب مظاهر الشعر عندهم، کقول ابن حصن فی النیلوفر:

کلّما اَقبل الظلام علیه              غَمَّضَت أنجم السماء عینیه فإذا عاد للصباح ضیاءُ           عاد روح الحیاه منه الیه…

أمّا من شعر هم فی رثاء الممالک الزائله ؛ یمکن أن نقول أنّ اکتساح مدن الأندلسی وسقوطها فی ید النصاری والیهود والفرنجه والاسبانیین أجّج فی نفوس الشعراء روح الرثاء لمدنهم ولا نتذکر من شعراء المشرق قصیده کامله تختّص برثاء مدینه واوطانٍ ومن یدّعی أن سینیّه البحتری هی من شواهد هذا النوع من الشعر فی الأدب المشرقی فأخطا فی رأیه لأنّ هذه القصیده لیست رثاءاً بل وعظٌ وتذکّر للأجیال المقبله علی فناء کلّ شخص وشیءٍ.

أما من أحسن القصائد التی انشدت فی هذا المجال ؛ رائیه ابن شهید الّذی یرثی فیها لقرطبه بعد خرابها .

جار الزمانُ علیها فتفّرقوا                       فی کل ناحیه وباد الأکثر

ومنها: سینّیه ابن الأبّار  البلنسی:

أدرک بخیلِ الله أندلسا                        إن السبیل إلی منجاتها دَرَسا یا للجزیره أضحی أهلها جَزَراً               للحادث وأمسی جدّها  تسعا ومنها نونیّه أبی البقاء الرندی :

لکُلّ شیءٍ إذا ما تَمَّ نقصانُ      فلا یغر بطول العِیش انسان هی الأمورالتی کما شاهدتها دولٌ       من سَرّه زمنٌ ساءته أزمان وهذه الدار لا تبقی علی أحدٍ           ولا یدوم علی حالٍ لها شأنُ

أمّا من شعرهم بما یسمّی بالجهاد کما یسمونه بعض الأدبا بالشعر الاستغاثه والاستنجاد وهذا النوع من الشعر هومن ابداعات الأندلسیین وأنّ الغرض الرئیسی فی هذا النوع من الشعر لیس المدح والرثاء والتکسّب کمانراه فی شعر الجهاد عند المشارقه، بل القصیده مزیجه من فنّ غنائی وملحمّی وهووصف الایمان بقوّه السلاح والاستنهاض وکلّ هذه القصیده عاطفه محضه أنّ الشاعر الأندلسی مشغوفٌ بوطنه ومحبّ بترابه  ولا یتحمّل حینما یری غارات الیهود والفرنجه علی بلاده وسقوط بلاده فی ایدیهم.

دهی الجزیرة أمر لا مردّ له   هوی له أحدٌ وانهدّ ثهلان وأین قرطبة دار العلوم فکم   من عالمٍ قد سما فیها له شانُ وأین حمصٌ  وما تحویه من نزَهٍ   ونهرها العذبُ فیاضٌ وملآنُ

أمّا یوجد بعض من الفنون الجدیده ولکن ما أشار إلیها إلاّ أدیبٌ أوادیبان فی مباحثهم عن هذا العصر ولم نشر إلی هذه الفنون حتّی لا یعاب علینا ولکن نشیر إلی بعض هذه الفنون ؛ منّها المخلّعات [22] هولونٌ من الطرد والعکس وهی من الصناعات اللفظیه التی اخترعها الاندلسّیون ومنها الحنین إلی الاوطان کما أشرنا إلیها تحت عنوان شعر الوطن والاستغاثه والاستنجاد ورثاء الممالک الزائله، کما أشار بعض الأدبا إلی شعر الحسین (ع) یعنی فی رثاء الحسین ابن علی بن ابیطالب ، ولکن هذه الموضوعات لیست جدیده بل توجد الکثیر الکثیر من القصائد فی رثاء الحسین بن علی بن ابیطالب (ع) ولکن یعتقد بعض الأدباء أنّ الشعراء الأندلسیین اختصّوا دواوین عدیده لرثاء الإمام الحسین(ع) وهذا من الطریف بأنّ هذه المسأله تحظی بأهمیه واسعه فی هذه البلاد ومن شعراءه ابوالبحر صفوان المرسی وعبدالرحمن الأشبونی واحمدبن دّراج القسطلی وعباده بن عبدالله الأنصاری [23].

نتیجه البحث : وبهذا نختم کلا منا عن الابداعات فی الشعر الأندلسی مشیراً بأنّهم لیسوا مقلدین تقلیداً محضاً بل عندهم تجدیدات وابداعات من جهه شکل الشعر ومن جهه معانیه واغراضه والأدب الأندلسی لیس ادب المحاکاه فی الشعر فقط، بل هوأدب التطوّر والتوّسع والابتداع  وفی النهایه نرجومن الله أن یکون البحث مفیداً ومرشداً لقارئیها ولباحثی الأدب الأندلسی، راجیاً من المولی التوفیق لهم والنجاح لجمیعهم والله من وراء القصد وهوالمستعان. 
 
  
 
 
 

المراجعات:

طالبٌ فی مرحله الرکتوراه، بجامعه الحره الاسلامیّه بمرکز العلوم والتحقیقات ،طهران بایران.

الاستاذ العمید فی جامعه طهران وجامعه العلوم والتحقیقات طهران، والاستاذ المشرف لرسالتی.

عبدالمنعم الخفاجی ، الأدب الأندلسی، التطوّر والتجدید، ص 15.

المصدر نفسه، ص16.

بطرس البستانی، ادباء العرب فی الأندلس، ص 12-6.

حنا الفاخوری، الجامع فی التاریخ الأدب العربی، ص 892.

عبدالمنعم الخفاجی، المصدر نفسه، ص 161.

المصدر نفسه، ص 164-162.

    10-بطرس البستانی، المصدر نفسه، ص 164.     11-عبدالعزیز العتیق، المصدر نفسه، ص 181.      12-حنا الفاخوری، تارخ الأدب العربی، ص 812.      13-عبدالعزیز العتیق، المصدر نفسه ص 89.      14-شوقی ضیف، تاریخ الأدب العربی، عصر الدول والامارات، ص 165.      15-بطرس البستانی، المصدر نفسه، ص 37.      16-حنا الفاخوری تاریخ الأدب العربی، ص 801.      17-حنا الفاخوری، تاریخ الأدب العربی ، ص 801.      18-عبدالعزیز العتیق ، الأدب العربی فی الأندلس، ض 176.     19-حنا الفاخوری، المصدر نفسه، ص(801-798).     20-بطرس البستانی، ادباء العرب ، ص 82.      21-شوقی ضیف، تاریخ الأدب العربی، عصر الدول والامارات، الأندلس، ص 296.      22-بکری شیخ أمین، مطالعات فی الشعرالمملوکی والعثمانی، ص 199-198.      23-شُبَّر ، سید جواد، أدب الطف أوشعراء الحسین، ج 4،ص 11. 
 
 



 

المراجع والمآخذ

   1. افرام بستانی، فُؤاد، المجانی الحدیثه، المطبعه الکاثولوکیه، بیروت ، لبنان.
   2. بروکلمان، کارل،تاریخ الأدب العربی ترجمه العربیه، الهیئه المصریه العامه 1993.
   3. البستانی، بطرس، أدباء العرب فی الأندلس وعصر الانبعاث، دارنظیر عبّود ، بیروت لبنان.
   4. التلمسانی، أحمدبن مقری، نفح الطیب من غصن الاندلس الرطیب، دار صادر، بیروت، لبنان.
   5. الخفاجی، عبدالمنعم، الأدب الأندلسی، التطور والتجدید، دارالجیل، بیروت لبنان.
   6. الخفاجی، عبدالمنعم، الحیاه الأدبیّه، دارالجیل، بیروت، لبنان 1978.
   7. الدقاق، عمر، ملامح الشعر الأندلسی، دارالعلم للملایین بیروت، لبنان.
   8. رضوان الدایه، المختار من الشعر الأندلسی، دار الفکر المعاصر ، بیروت لبنان.
   9. زیدان، جرجی ، تاریخ آداب اللغه العربیّه، دار مکتبه  الحیاه، بیروت لبنان 1789.

   1. شیخ أمین، بکری، مطالعات فی الشعر المملوکی والعثمانی، دارالعلم للملایین، بیروت، لبنان 1085.
   2. صادق الرافعی، مصطفی، تاریخ آداب العرب ، دار الکتاب العربی بیروت ، لبنان.
   3. ضیف شوقی، تاریخ الأدب العربی، عصر الدول والامارات، الأندلس، دارالمعارف، قاهره، مصر.
   4. ضیف  شوقی ، الفن ومذاهبه فی الشعر العربی ، دارالمعارف ، مصر.
   5. عباس ، احسان، تاریخ الأدب العربی فی الأندلس، عصر سیاده قرطبه، دارالشروق، الاردن، 1997.
   6. احسان، تاریخ الأدب العربی فی الأندلس، عصر المراطین ، دارالشروق، الاردن، 1997.
   7. العتیق، عبدالعزیز، الأدب العربی فی الأندلس، دارالنهضه العربیّه، بیروت، لبنان.
   8. عوض الکریم، مصطفی، فن التوشیح، المکتبه العلمیّه، بیروت، لبنان.
   9. الفاخوری، حنا، الجامع فی التاریخ الأدب العربی، الأدب القدیم، دارالحبل، بیروت لبنان.
  10. الفاخوری، حنا، تاریخ الأدب العربی، نشر طوس، تهران 1987.
  11. د.نظام طهرانی، نادر، تاریخ الأدب فی عصر الانحطاط ، نشر فرهیخته، طهران، ایران 1990.
  12. شبّر السید جواد، أدب الطفّ أوشعراء الحسین (ع) بیروت، لبنان.

حواشی

[1] طالبٌ فی مرحله الرکتوراه، بجامعه الحره الاسلامیّه بمرکز العلوم والتحقیقات ،طهران بایران.

[2] الاستاذ العمید فی جامعه طهران و جامعه العلوم و التحقیقات طهران، والاستاذ المشرف لرسالتی.

[3] عبدالمنعم الخفاجی ، الأدب الأندلسی، التطوّر والتجدید، ص 15.

[4] المصدر نفسه، ص16.

[5] بطرس البستانی، ادباء العرب فی الأندلس، ص 12-6.

[6] حنا الفاخوری، الجامع فی التاریخ الأدب العربی، ص 892.

[7] عبدالمنعم الخفاجی، المصدر نفسه، ص 161.

[8] المصدر نفسه، ص 164-162.

[9] عبد العزیزعتیق، الادب العربی فی الاندلس، ص183.

[10] بطرس البستانی، المصدر نفسه، ص 164.

[11] عبدالعزیز العتیق، المصدر نفسه، ص 181.

[12] حنا الفاخوری، تارخ الأدب العربی، ص 812.

[13] عبدالعزیز العتیق، المصدر نفسه ص 89.

[14] شوقی ضیف، تاریخ الأدب العربی، عصر الدول و الامارات، ص 165.

[15] بطرس البستانی، المصدر نفسه، ص 37.

[16] حنا الفاخوری تاریخ الأدب العربی، ص 801.

[17] حنا الفاخوری، ، المصدر نفسه، ص 801.

[18] عبدالعزیز العتیق ، المصدر نفسه، ص 176.

[19] حنا الفاخوری، المصدر نفسه، ص(801-798)

[20] بطرس البستانی، ادباء العرب ، ص 82.

[21] شوقی ضیف، تاریخ الأدب العربی، عصر الدول و الامارات، الأندلس، ص 296.

[22] بکری شیخ أمین، مطالعات فی الشعرالمملوکی والعثمانی، ص 199-198.

[23] شُبَّر ، سید جواد، أدب الطف أو شعراء الحسین، ج 4، ص 11.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:1|

المقامات، الفن العربی الأصیل


القصة أو الحکایة من أقدم الأنواع الأدبیة التی ربما سبقت الشعر وتحتل مکانا واسعا بین آداب الشعوب. ولم یکن العرب منذ أقدم العصور إلا کغیرهم من الأمم، یرددون الحکایات ویتمتعون فی مجالسهم بسماعها ولاشک أن القصص تصور العادات والتقالید والآراء والمعتقدات للذین یقصون تلک القصص أو الذین یحکونها ناهیک عما یعتریها من دقائق خاصة قلما توجد فی باقی الأنواع الأدبیة. ولقد ظهر فی القرن الرابع الهجری نوع أدبی جدید یدعی بالمقامات یمکن القول أن جوهرها تلک القصص والحکایات إلا أن مبدعیها تعمدوا التصنیع والتأنیق فیها. وهذه المقامات تضم الحکایات والنوادر والمطایبات، بینما لاتخلومن جوانب تاریخیة وحکمیة وأدبیة. المفردات الرئیسة: المقامات، الروایة، البطل، بدیع الزمان، الحریری، النثر الفنی. التمهید: شهد النثر العربی منذ أقدم العصور إلی یومنا هذا تقلبات کثیرة تجلت فی مختلف الأسالیب والفنون وخلف نتاجات أدبیة قیمة، إلا أن من یتتبع نتاجات الأقدمین ومؤلفاتهم نظما ونثرا یری أنهم عنوا بالفنون الشعریة المختلفة عنایة خاصة فی نتاجاتهم التی تتناول التراث الشعری بین الشرح تارة والنقد تارة أخری. وخیر دلیل علی هذا الرأی هوالکتب المصنفة فی مجال الشعر تحت العناوین المختلفة کـ"نقد الشعر" و"طبقات الشعراء" بالإضافة إلی اعتماد النحویین علی الشواهد الشعریة ما استطاعوا إلیه سبیلا فی شرح قواعدهم النحویة. تعد المقامات إحدی الفنون النثریة التی یبالغ فیها الاهتمام باللفظ والأناقة اللغویة وجمال الأسلوب بحیث تتعدی الشعر فی احتوائها علی المحسنات اللفظیة إلا أنها لم تحظ اهتمام الأدباء والنقاد وهذا لایعنی أنهم أهملوا هذا الفن کلیا بل المقصود هوأن النثر بشکل عام والمقامات علی وجه الخصوص نالا أقل اهتمام بالمقارنة إلی ما ناله الشعر العربی من علوالشأن. یهدف هذا المقال إلی دراسة المعنیین اللغوی والأدبی للمقامة مبینا عناصرها الفنیة وکیفیة نشأتها وتطورها والغور فی خصائصها ودراسة ما یمیزها عن القصة وأخیرا التعریف بأهم أصحابها. إن أول من قام بصیاغة هذا النوع الأدبی هوبدیع الزمان الهمذانی (357هـ - 398هـ) الذی یعد مبدع المقامات ( البستانی، أدباء العرب، ج 2، ص 389) غیر أن هناک تباین فی الآراء بین النقاد والباحثین فی اعتبار الهمذانی مبدعا لهذا الفن الأصیل بحیث یعتقد جرجی زیدان أن بدیع الزمان الهمذانی اقتبس أسلوب مقاماته من رسائل إمام اللغویین، أبی الحسین أحمد بن فارس (390هـ). ( المصدر نفسه، الصفحة نفسها. ) بینما یعتبر الدکتور زکی مبارک مقامات الهمذانی مشتقة من أحادیث بن درید (321هـ) ویری بین مقامات الهمذانی وأحادیث بن درید مشابهات قویة من حیث الحبکة القصصیة واستخدام السجع. (مبارک، النثر الفنی، ج 1، ص 197) المقامات المقامات فی اللغة جمع المقامة؛ والمقامة هی المجلس. والمقصود بالمقامة فی الأدب «قصة تدورحوادثها فی مجلس واحد. » (البستانی، أدباء العرب، ج 2، ص 389). المقامة قصة وجیزة أوحکایة قصیرة مبنیةعلی الکدیة (الاستعطاء) وعناصرها ثلاثة: 1) راویة ینقلها عن مجلس تحدث فیه. 2) مکدٍ (بطل) تدور القصةحوله وتنتهی بانتصاره فی کل مرة. 3) ملحة (نکتة)، (عقدة) تُحاک حولها المقامة؛ وقد تکون هذه الملحة بعیدة عن الاخلاق الکریمة وأحیاناً تکون غثّة أوسَمحة وتبنی المقامة علی الإغراق فی الصناعة الفظیة خاصة والصناعة المعنویةعامة. تحدر فن المقامات لیس فیما أثر عن العرب مقامات سابقة علی مقامات بدیع الزمان الهمذانی (358ـ398 هـ)، فهومن أجل ذلک یعتبر مبدع هذا الفن. علی أن نفراً من الأدباء کابن عبد ربه وابن قتیبة والحصری، یفضلون أن یقولوا إن بدیع الزمان اشتق فن المقامات من فن قصصی سابق. (المصدر نفسه، الصفحة نفسها، بتصرف. ) ویرید الدکتور زکی مبارک أن یثبت أن مقامات بدیع الزمان مشتقّة من "أحادیث ابن درید"؛ وابن درید (321 هـ) هذا کان راویة وعالماً ولغویّاً وقد عنی بروایة أحادیث عن الأعراب وأهل الحضر. ( مبارک، النثر الفنی، ج 1، ص 197) ولاریب فی أن بین أحادیث ابن درید وبین المقامات شبهاً قویاً من حیث القصص واستخدام السجع، ولکن هناک أیضا فروقا کبیرة فی الصناعة وفی العقدة وفی وجود بطل المقامات وهوالمکدی، وفی انبناء المقامة علی الکدیة وعلی الهزء من عقول الجماعات مع إظهار المقدرة فی فنون العلم والأدب، إلی ماهنالک من خصائص یعتریها فن المقامات. بالإضافة إلی أن هذا لایعنی أنّ بدیع الزمان لم یطلع علی أحادیث ابن درید أوعلی مارُوی عن العرب من قصص وأحادیثَ وأسمار، ولکن الفرق بین ما روی عن العرب من الأحادیث وبین المقامات من حیث الغایة والأسلوب کبیر جداً. وعلی کل فإن بدیع الزمان إن لم یکن مبدع فن المقامات، فإن مقاماته أقدم ماوصل إلینا من هذا الفن الأدبی الرائع. خصائص المقامات وللمقامات خصائص نستعرضها بشیء من التبیان لأوجهها: أولا- المجلس: یجب أن تدور حوادث المقامة فی مجلس واحد لاینتقل منه إلا فی ماشذَّ وندر (وحدة مکان ضیقة). ثانیا- الراویة: ولکل مجموع من المقامات راویة واحد ینقلها عن المجلس الذی تحدث فیه. ثالثا- المکدی: ولکل مجموع من المقامات مکد واحد أیضاً أوبطل، وهوشخص خیالی فی الأغلب، أبرز میزاته أنه واسع الحیلة ذرب اللسان ذومقدرة فی العلم والدین والأدب وهوشاعر وخطیب، یتظاهر بالتقوی ویضمر المجون، ویتظاهر بالجد ویضمر الهزل وهویبدوغالباً فی ثوب التاعس البائس إلا أنه فی الحقیقة طالب منفعة. وتنعقد المقامة دائماً بأن یجتمع الراویة بالمکدی فی مجلس واحد ویکون المکدی دائماً متنکراً، ولذلک قلما یفطن الراویة لوجوده ـ إذا کان قد سبقه إلی المجلس ـ أولحضوره إذا حضر بعده. وتنحل عقدة المقامة بأن ینکشف أمر المکدی للراویة علی الأقل أویکشف المکدی أمره للراویة (وأحیاناً للحاضرین) فی الأغلب ولایکشف المکدی أمره إلابعد أن یکون قدنال من أهل المجلس مالا أوثیابا، بعد أن استدر عطفهم. وکثیراً ما یعلم أهل المجلس أن المکدی قد خدعهم وسلبهم، ولکنهم لایضمرون له شرا لأنه أطربهم أوسلاهم أوأفادهم. رابعا- الملحة (النکتة أوالعقدة): وهی الفکرة التی تدور حولها القصة المتضمنة فی المقامة، وتکون عادة فکرة طریفة أوجریئة، ولکنها لاتحثّ دائماً علی الأخلاق الحمیدة، وقد لاتکون دائماً موفقة. خامسا- القصة نفسها: کل مقامة وحدة قصصیة قائمة بنفسها، ولیس ثمة صلة بین مقامة وأخری إلا أن المؤلف واحد والراویة واحد والمکدی واحد، وقد تکون القصص من أزمنة مختلفة مُتباعدة وإن کان الراویة واحداً. سادسا- موضوع المقامة: موضوعات المقامات مختلفة منها أدبی ومنها فقهی ومنها فکاهی و منها حماسی، ومنها خمری أومجونی، وهذه الموضوعات تتوالی علی غیر ترتیب مخصوص عندبدیع الزمان. أما الحریری (فیما بعد) فالتزم أن تکون الموضوعات متعاقبة علی نسق مخصوص وقد تکون المقامة طویلة أوقصیرة. سابعا- اسم المقامة: واسم المقامة مأخوذ عادة من اسم البد الذی انعقد فیه مجلس المقامة نحو: المقامة الدمشقیة، التبریزیة، الرملیة (نسبة إلی الرملة بفلسطین)، المغربیة، السمرقندیة، البلخیة، الکوفیة، البغدادیة، العراقیة، الخ. . . . أومن المحلة التی تنطوی علیها المقامة نحوالمقامة الدیناریة، الحرزیة، الشعریة، الإبلیسیة، الخمریة الخ. . . . ثامنا- شخصیة المقامة: إن الشخصیة التی تبدوفی المقامة لیست شخصیة المکدی ولکنها شخصیة المؤلف وتنبنی هذه الشخصیة علی الدرایة الواسعة بکل شیء یطرقه المکدی، أوالمؤلف علی الأصلح، فهوواسع الاطلاع علی العلوم العربیة خاصة، بصیر بالفنون الأدبیة من شعر ونثر وخطابة، حاد الذهن قوی الملاحظة فی حل الألغاز وکشف الشبهات، مرح طروب فی اجتیاز العقبات وسلوک المصائب. تاسعا- الصناعة فی المقامات: فن المقامات فن تصنیع وتأنق لفظی (وخصوصاً عند الحریری) فهناک إغراق فی السجع وإغراق فی البدیع من جناس وطباق، وإغراق فی المقابلة والموازنة وفی سائر أوجه البلاغة حتی ما لایدخل فی باب البلاغة علی وجه الحصر؛ کالخطبة التی تقرأ طرداً وعکساً والخطبة المهملة (التی لانقط فیها) أوالتی تتعاقب فیها الأحرف المهملة والأحرف المعجمة (المنقوطة) وما إلی ذلک. عاشرا- الشعر: المقامة قصة نثریة ولکن قد یتخللها شعر قلیل أوکثیر من نظم صاحبها علی لسان المکدی، أومن نظم بعض الشعراء، فیما یروی، علی لسان المکدی أیضاً، وقدیکون إیراد الشعر لإظهار المقدرة فی النظم أولاظهار البراعة فی البدیع خاصة عند الحریری. ( فروخ، تاریخ الأدب العربی، ج 2، صص 412- 415، بتصرف. ) ویتبع القصص والمقامات فنّ الفکاهة وهی روایة الحکایة فی حال من المرح مع الاشارة إلی ما یستطیبه الناس عادة من اللهووالجنس والهزؤ والإضحاک والإطراف. والمقامات نفسها مملوءة بالفکاهة، وتظهر الفکاهة فی الشعر أیضاً وتکون فی الشعر لفتة بارعة أوملحة نادرة أونکتة صائبة أوتعبیراً جدیداً طریفاً، وقد تکون عرضاً لأمور لاتقتضی الإنسان تفکیراً بل یأخذ الإنسان منها بظاهر القول هوناً وفی هذا الباب أخبار المکدین (المتسولین) والطفیلیین، ومثل ذلک الأحاجی، وهی أسئلة علی غیر المنهاج المنطقی تحتاج فی الإجابة التی نباهة وذکاء أکثر مما تحتاج إلیه من العقل والمعرفة. وفی المقامات شیء کثیر من هذا کله مبنی علی التوریات وراجع إلی أحوال مفردة، وهی المسمیّ "ألغازاً" فمن الفکاهة العادیة قول ابن لَنکَك: لاتَخدَعَنکَ اللّحی والصّور تسعة أعشار مَن تری بَقَر ومن الألغاز سؤال فی مقامات بدیع الزمان هو: أی بیت (من الشعر) أولّه یغضب وآخره یلعب؟ وجواب هذا السؤال الملغز: هوقول عمروبن کلثوم: کأنّ سیوفنا منّا ومنهم مخاریق بأیدی لاعبینا! (لأنّه یبدأ بالکلام علی السیوف ـ وهی من آلات الحرب ـ ثم ینتهی باللعب بالمخاریق، والمخراق خرقة ملفوفة یتضارب بها الصبیان). ویدخل فی هذا الباب کتب الجدال والمناظرات والخصومات، کما نجد عند أبی حیّان التوحیدی وفی کتب علماء الکلام من الأشعریة والمعتزلة، ومانراه فی کتب التوحید وأصول الدین؛ کما یدخل فیه الکتب التی تعرض الآراء والمذاهب کرسائل إخوان الصفا وجمیع الکتب المؤلفة فی فنون السلوک والعلم وفی علوم العربیة من اللغة والنحووالنقد. روّاد المقامات کان بدیع الزمان الهمذانی (357 هـ 398 هـ) والحریری (446هـ 516هـ) من أبزر کتاب المقامات فی العصر العباسی وتتناول السطور القادمة أهم السمات الأدبیة لدی الأدیبین بإیجاز بالغ: 1- بدیع الزمان الهمذانی (357هـ 398هـ ) ومقاماته: إن مقامات بدیع الزمان قصار فی الأغلب وفیها فصاحة وسهولة ووضوح إلی جانب الدعابة والمرح والتهکم وبدیع الزمان حسن الابتکار قل أن تجد له مقامتین فی معنی واحد، وهویجید فی مقاماته السرد والوصف الحسّی والتحلیل ویحسن دراسة الطبائع وتصویر المعائب وعرض مساویء المجتمع، غیر أنّه لایقصد إلی إصلاح هذه المساویء بنصح أوبردع، وإنمّا غایته التهکّم بأصحابها وإطراف الآخرین بتصویرها واستعراضها، وهوکثیر الاحتقار للناس. وأسلوب بدیع الزمان فی مقاماته خاصة، حلوالألفاظ سائغ الترکیب جمیل الوصف کثیر الصناعة المعنویة (فی الاستعارات والکنایات والتوریات خاصة) من غیر تکلّف ولا إغراق فی السجع. وللمقامات الخمسین التی بدأ بدیع الزمان کتابتها منذ عام 375 هـ راویة واحد هوعیسی بن هشام ومکد (بطل) واحد هوأبوالفتح الإسکندری (نسبة إلی الإسکندریة التی هی قرب الکوفة علی الفرات) وهما شخصیتان تاریخیتان. ومن أشهر مقاماته مقامتین؛هما المقامة المضیریة والمقامة البشریة. أما المقامة المضیریة فتظهر فیها براعة البدیع فی الوصف ودقة التصویر، علی شیء کثیر من السخر وخفة الروح. أما الأخری البشریة، فهی التی وفق بها بدیع الزمان لاختراع شاعر جاهلی تبنّاه التاریخ من بعده، ألاوهوبشر بن عوانة العبدی. (البستانی، أدباء العرب، ج 2، صص 390ـ394 بتصرف. ) 2- أبوالقاسم الحریری (446هـ 516هـ ) ومقاماته:یبدأ الحریری مقاماته بإسناد الکلام إلی روایتها الحرث بن همّام، ولکنه لایقصتر کالبدیع علی قوله: (حدثنا) بل یمیل إلی التغییر فی بدء کل مقامة فینتقل بین (حدّث) و(روی) و(حکی) و(أخبر) و(قال). وکان مکدی (بطل) مقاماته هوأبازید. (البستانی، أدباء العرب، ج 2، ص 428) والحریری فی مقاماته أکثر تعلقاً بالحواضر من بدیع الزمان، فما یکاد یخرج إلی البادیة إلا فی واحدة منها أواثنتین، ومقاماته فی الغالب أطول من مقامات أستاذه بید أن طولها لایعود علی اتساع الفن القصصی فیها، وإنما علی اجتماع خبرین فی مقامة واحدة. أوعلی فیض الألفاظ، وکثرة المترادفات، ومعاقبة الجمل علی المعانی. أوعلی الإکثار من الشعر، وفیه القصائد التی یشرح بها أبوزید أحواله، ویقص أخباره. وللحریری لغة متینة، قصیرة الجمل یقطعّها تقطیعاً موسیقیاً، فما تتعدی جملته الکلمتین أوالثلاث، قلّما زادت فبلغت الخمس أوالست وهوفی إنشائه بادئ الصنعة، ظاهر التکلّف، یتعمد الغریب، ویسرف فی استعماله، ویفرط فی اصطناع المجاز والتزیین حتی تجف عبارته ویقل ماؤها ویعسر مساغها. الخاتمة والنتیجة: إن هذا المقال ألقی الضوء علی المقامات التی تعتبر جانبا غضا ثریا من النثر العربی الذی له عراقة فی تاریخ الأدب العربی وتناول المعنیین اللغوی والأدبی للمقامات کما تحدث عن نشأة هذا الفن وتطوره واقفا عند خصائص المقامات وقوفا متأملا وأخیرا تحدث عن رواد المقامات وهما الهمذانی والحریری. وتجدر الإشارة إلی أن هذا الفن فن عربی أصیل یستحق اهتماما أکثر من ذی قبل من جانب الباحثین والدارسین والأدباء لیعرفوا بذلک الجیل الجدید جانبا من جمال الأدب العربی بمناهله الثریة وتراثه الضخم. قائمة المصادر والمراجع: 1- البستانی بطرس، أدباء العرب فی الأعصر العباسیة، دار الجیل، بیروت – لبنان، طبعة جدیدة ومنقحة، لاتا. 2- الحریری أبومحمد القاسم بن علی، مقامات الحریری، دار الفکر للطباعة والنشر والتوزیع، بیروت – لبنان، الطبعة الأولی، 2007م. 3- فروخ عمر، تاریخ الأدب العربی، دار العلم للملایین، بیروت – لبنان، الطبعة الخامسة، 1985م. 4- مبارک زکی، النثر الفنی فی القرن الرابع، مطبعة دار الکتب المصریة، القاهرة، الطبعة الأولی، 1934م. 5- الهمذانی أبوالفضل بدیع الزمان، مقامات بدیع الزمان الهمذانی، شرح الأستاذ محمد عبده، المطبعة الکاتولیکیة، بیروت – لبنان، الطبعة الثالثة، 1924م.

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:0|
التقاء الساكنین فی اللغة العربیة



لا شكَّ أنَّ ظاهرةَ التقاء الساكنین تُحدِثُ تغییراً فی بناء الكلمات فی اللغة العربیة ونطقها وإعرابِها، وهی ظاهرةٌ تستحق الوقوف والدراسة لتَكرارها فی كلامنا الفصیح إعرابا ونطقا وضبطا.

فالتخلص من التقاء الساكنین قدیمٌ قِدمَ لغتنا العربیة، والشواهدُ علیه كثیرة من شعرنا الجاهلی والقرآن الكریم والحدیث الشریف وأقوال العرب، أما فی القرآن الكریم فقد أخذت ظاهرة التقاء الساكنین اهتماما عند الدارسین على مر العصور.

وخلاصة القاعدة فی اللغة العربیة تقول: إذا التقى ساكنان فیتم التخلص من أولهما؛ إما حذفا إذا كان معتلا، أو بتحریك أحدهما بالحركات إن كان الساكن صحیحا.

وفی أصل الكلمة الواحدة لا یجتمعُ ساكنان، وإنما الاجتماع یتم بتغییر الكلمة بسبب العوامل الداخلة علیها، أو عند وصلها بكلمة أخرى؛ فالأمرُ من (قَامَ) (قُمْ) ومن (وَفَى) (فِ) ومن (رَأى) (رَ) أو (رَهْ)، والمضارع المجزوم مِن (یقول) (لَمْ یَقُلْ) وهكذا.

مواضع التقاء الساكنین:

قیل: إنَّ العرب لا تبدأ بساكن ولا تقف على متحرك، ولكن عند تصریف بعض الأفعال یطرأ السكون على أوله فیتم التخلص منه بهمزة الوصل، ویغلِبُ ذلك فی أمر الثلاثی والخماسی والسداسی (ذَهَبَ یَذْهَبُ اذْهَبْ), (اسْتَعَانَ اسْتَعِنْ اسْتِعَانَة)، فالقاعدة تقول: یأتی الأمرُ من المضارعِ بعد حذف حرف المضارعة كما فی المثال السابق، وبما أنَّ فاء الفعل ساكنةٌ فلا بد من النطق بمتحرك، وتخلصا من هذه المشكلة جیء بهمزة الوصل للنطق بمتحرك بدایةً، وهذه الهمزة تسقط لفظا عند الوصل كما فی (وقال لهُ اذْهَبْ). وقول (إنَّ العرب لا تقف على ساكن) لیس على إطلاقه، وقد توسَّع علماء التجوید فی ذلك وأجازوا الوقوف على متحرك فی الروم أو الإشمام أو هاء السكت.

هل یلتقی ساكنان فی الكلمة الواحدة؟

لا یلتقی ساكنان خطّاً فی الكلمة الواحدة، وإنما الالتقاءُ یكون لفظا من أجل الوقوف العارض، ویكون ذلك فی وسط الكلمة أو فی نهایتها، ولا یكون فی بدایة الكلمة إطلاقا، ففی الوسط لا یكون إلا بعد مدٍّ مع التضعیف؛ كما فی (الصَّاخَّة)، (الحاقَّة)، وما شابههما، وفی الطرف إذا وَلِیَ المدَّ سكونٌ عارض مثل (رحیْمْ) (علیْمْ)، ویكون أیضًا مع حرفین صحیحین؛ الأول ساكن أصلی والثانی عارض من أجل الوقف كما فی والفجْرْ. ولیالٍ عشْرْ [الفجر: 1-2].

أما النوع الأول فیُتخلص منه بالمد، وأما الثانی الذی فیه الحرفان الصحیحان فالنطق به صعب؛ إذ تشم رائحة الحرف الأخیر شما؛ إذ یصعب نطق الساكن الأخیر إذا سبقه ساكن صحیح. ویسمى "رَوْمًا" قال السیوطی: "ولم یَجمعوا (یقصد العرب) بین ساكنین فی حشو الكلمة، ولا فی حشو بیت، ولا بین أربعة أحرف متحركة؛ لأنهم فی اجتماع الساكنین یبطئون، وفی كثرة الحروف المتحركة یستعجلون، والكثیرُ فی التقاء الساكنین یكون فی الوصل بین الكلمات كما فی قالت الأعراب آمنا [الحجرات: 14] ومثله كثیر فی القرآن وغیره من كلام العرب [1].

إذًا یلتقی ساكنان فی كلام العرب ولكن طرفاً، وزاد بعضهم: أنه تلتقی ثلاث سواكن طرفا، واستشهدوا على ذلك بالكلمات المشددة طرفا التی تقع بعد مد كما فی (جانّ) (حاجّ) (صوافّ) (تتَّبعانّ) وكذلك فی (أراْیْتْ) و(أاْنْتْ) فی قراءة ورش بالإبدال.

كیف یتم التخلص من الساكنین؟

هناك طرق عدة للتخلص من الساكنین:

1- الحذف خطاً:

- یُحذف حرفُ العلة إذا وقع آخرَ الأمر (ادْعُ) (اجْرِ) (اسْعَ)، ویعود حرف العلة مفتوحا عند اتصال الفعل بنون التوكید: (اجرِیَنْ) (ادنُوَنَّ).

- یُحذف حرف العلة إذا وقع فی الفعل الأجوفَ وسكن آخرُه كما فی (قُلْ) (بِعْ) (نَمْ) (لا تنَمْ) (لم یقلْ). وإذا تحرك آخره عادت العین المحذوفة كما فی (قُولا), (نامُوا)، (خافِی) …. لعدم تتابع الساكنین، كما تحذف العین إذا اتصلت بالفعل ضمائر الرفع المتحركة نحو: (قُلتُ)، (بِعتُ)، (قُلنَ)، (هَبْنَ). فالأصل فی (قُلْتُ) (قَوَلْتُ)؛ تحركت الواوُ بعد فتحة فقلبت ألفاً فصارت (قَالْتُ)، فاجتمع ساكنان فحذفت الألف لاجتماع الساكنین. وكذا (بِعت) (بَیَعْتُ) (باعْتُ) (بعْتُ). أما (یقلنَ) (یقْوُلْنَ) (یَقُوْلْنَ) (یقُلْنَ)؛ نقلت حركة الواو إلى الحرف الصحیح الساكن لأنه أولى بتحمل الحركة، ثم حذفت لالتقاء الساكنین.

- یحذف حرف العلة من الاسم المنقوص إذا نون بالرفع أو الجر كما فی (قاضٍ)، وتبقى الیاء بعد تنوین الفتح؛ لأنَّ الیاء فتحت وتخلصت من التسكین.كما فی (رأیت قاضیاً).

- تحذف الألف المقصورة لفظا إذا نونت كما فی (قرًى) رفعا ونصبا وجرا؛ لأن التنوین ساكن ویأتی بعد ساكن وهو حرف العلة، فیحذف تخلصا من التقاء الساكنین.

- إذا لحقت الفعلَ الماضی المعتل واوُ الجماعة أو تاء التأنیث یحذف المعتل من الفعل ویعوض عنه بحركة من جنس المحذوف قبل الألف للدلالة على أنَّ المحذوف ألف (رأى + و = رأَوْا) (غَزَى + تْ = غَزَتْ)، أما إذا وَلِیَ واوَ الجماعة الساكنة سكونٌ فتضم الواو كما فی قوله تعالى اشتَرَوُا الضلالة [البقرة: 16]، فتم التخلص من سكون الواو بضمها؛ وذلك لمجیء الساكن بعدها. وإن كان أصل المعتل (لام الفعل) واوا فتحذف ویضم الحرف الذی قبلها لمناسبة الواو: (سَرُوا) بوزن (فَعُوا) فأصلها (سَرُوُوا)؛ تحركت الواو بالضمة لمناسبة واو الجماعة واستثقلت الضمة على الواو فحذفت، ثمَّ حذفت الواو نفسها دفعا لالتقاء الساكنین.

- یحذف حرف العلة من المضارع المعتل الآخر عند إسناده لواو الجماعة أو یاء المؤنثة المخاطبة كما فی (یرمِی)، (یدنُو)، (یسعَى) فعند الإسناد تصبح (یرمُون)، (لم یدنُوا)، (لتسعَوْا). و(ترمِین)، و(تَدنِین)، و(تَسعِین). ویحرك بالفتح ما قبل المحذوف إن كان ألفا (یسعَوْن) وبالضم إن كان المحذوف واوا (یغزُون) وبالكسر إن كان المحذوف یاء (تغزِین). ویُعامل فعلُ الأمر معاملةَ المضارع؛ لأنه مأخوذ منه فیحمل علیه، (اسعَوْا) و(اسعَیْ) و(اغزُوا) و(ارمِی).

- یحذف حرف العلة من اسم المفعول المعتل العین كـ(مَقْوُول) من (قال)، (مقُوْوْل) ثم (مقُول) بحذف الواو تخلصا من التقاء الساكنین وكذلك (مَبْیُوع) من (باع)، (مَبِیْوْع) ثم (مَبیِع) نقلت حركة العین إلى الساكن قبلها فالتقى ساكنان فحذفت واو المفعول.

- تحذف ألفُ المصدر من (إفعال) و(استفعال) إذا كان الفعل معتل العین مثل "أقام إقامة واستقام استقامة" فأصلهما: (إقوام) و(استقوام)، نقلت حركة العین - وهی الفتحة - إلى الساكن قبلها، فالتقى ساكنان: عین الكلمة والألف، فحذفت الألف لالتقاء الساكنین فصارتا "إِقَوْمَا" (بكسر ففتح فسكون) و"استِقَوْما" (بكسر التاء وفتح القاف وسكون الواو) فقلبت العین ألفا لتناسب الفتحة قبلها، فصارتا "إقاما واستقاما" ثم عوض المصدر من ألف الإفعال والاستفعال المحذوفة تاء التأنیث. واختصاراً عندما نقول (أكرم) فالمصدر (إكرام) على وزن (إفعال) وفی (أعان) (إعاان) (إفعْال) فالتقى ساكنان فیحذف عین الفعل (الألف الأولى من إعاان) ویعوض عنها بتاء التأنیث فتصبح على وزن (إفالة) وكذا فی (استعان).

- إذا لَحِقَ مضارعَ الأفعال الخمسة نونُ التوكید مثل (لیقولونّ) فتصبح (لیقولُنّ)؛ لأنَّ أصل الكلمة (لیقولونْنَّ) ففی هذه الكلمة ثلاث نونات؛ نون الرفع والنون الأولى الساكنة المدغمة والنون المشددة المفتوحة الآخر ثم حذفت نون الرفع لتوالی الأمثال، فالتقى ساكنان واوُ الجماعة والنونُ الأولى الساكنة من النون المشددة المفتوحة الآخر, فحُذِفت واو الجماعة تخلصاً من التقاء الساكنین، وبقیت الضمة على اللام للدلالة على المحذوف. وهكذا فیما یقاس علیه.

- تعود الفتحة إلى آخر المضارع المجزوم إذا اتصلت به نون التوكید الثقیلة أو الخفیفة مثل: (والله لتجتهدَنَّ)، ویعرب عندها فعلَ مضارع مبنیاً على الفتح لاتصاله بنون التوكید فی محل جزم؛ وذلك لأنَّ التنوین ساكن و(لتجتهدْ) مجزوم فیتم التخلص من السكون الأول ببنائه على الفتح.

2- وأما الحذف لفظاً فكثیر فی لغتنا العربیة وأهمه:

- تُحذف الألفُ المقصورة لفظا إذا نُوِّنت كما فی قُرًى وهُدًى رفعاً ونصباً وجرّاً؛ لأن التنوین ساكن أتى قبله ساكنٌ وهو حرف العلة فتحذف الألف تخلصا من التقاء الساكنین.

- تُحذف حروفُ العلة إذا وَلِیَها ساكنٌ كما فی (وفی السماء) و(على الأرض) ففی السماء تم حذف ثلاثة أحرف هی یاء (فی) وهمزة الوصل واللام الشمسیة من (السماء) التی عُوِّض عنها بتضعیف السین، أما (على الأرض) فحذف حرفان هما ألف (على) وهمزة الوصل من الأرض. وأمثلته كثیرة فی اللغة العربیة.

- تحذف همزات الوصل من (ابن) و(اسم) و(امرؤ) و(امرأة) وغیرها من الأسماء المبدوءة بهمزة وصل وكذلك المصادر والأفعال المبدوءة بهمزة وصل وأل التعریف إذا سبقت بساكن كما فی (یا ابن الأكرمین) وسبحِ اسْم ربك الأعلى [الأعلى: 1]، وقالوا اتخذ [البقرة: 116]، تحذف الواو فی (قالوا) وهمزة الوصل فی (اتخذوا) وهذا كثیر فی لغتنا العربیة.

- حذفت الهمزة من مضارع (رأى) لالتقاء الساكنین فأصل المضارع من رأى (یرْأَیُ) بوزن (یَفْعَلُ)، استثقلت الضمة على الیاء فحذفت، ثم قلبت الیاء ألفاً لمناسبة الفتحة، أو نقول: تحركت الیاء بعد فتحة فقلبت ألفاً، ونقلت حركة الهمزة إلى الحرف الصحیح الساكن قبلها، ثم حذفت لالتقاء الساكنین: الهمزة والألف فأصبح الفعل (یرى) [2].

3- حذف التنوین والنون:

یحذف التنوین من اسم العلم إذا وصف بـ(ابن) كـ"محمدُ بْنُ عبد الله"؛ لأن محمداً ینتهی بتنوین، والتنوین ساكن الآخر وجاء بعده الباء الساكنة من (بن) فالتقى ساكنان وللتخلص من هذه الظاهرة تمَّ حذف التنوین من (محمدٍ) ولا یحذف التنوین من آخر العلم إذا كان (ابنٌ) خبراً كجوابنا: (محمدٌ ابنُ عبد الله) لمن یسأل (منْ محمد؟) فأثبتت همزة الوصل فی (ابن) لأنها وقعت خبراً لا صفة، والواجب الوقف عند نهایة العلم الأول إن كان مصروفا ولفظ همزة (ابن) بالحركة. وعلى هذا یقرأ من یقرأ قل هو الله أحدُ اللهُ الصمد [الإخلاص: 1-2] ترك التنوین من (أحد) وأما من یقرأ فی التوبة وقالت الیهود عزیرٌ ابن الله [التوبة: 30] بالتنوین فإنه ینون لأنه خبر ولیس وصفا، وقد ذهب بعضهم إلى أنَّ التنوین إنما سقط لالتقاء الساكنین [3].

4- التخلص بالحركات:

ویكون التخلص من التقاء الساكنین بالحركات والمقصود بالحركة هنا: تحرك الحرف بأحد الحركات الثلاثة (الفتح، الضم، الكسر) وأشهرها:

- الكسر وهو الأصل فی التخلص من التقاء الساكنین بالحركات وقاعدتُه إذا وَلِیَ الساكنَ حرفٌ صحیح ساكن یحرَّك الأول بالكسر كما فی قالتِ الأعراب [الحجرات: 14] قلِ الله [النساء: 127] (لا تهملِ الواجب) وكذلك فی قوله تعالى: فنعِمَّا هی [البقرة: 271] وأصله (فنِعْمَ ما) فأدغمت (نعم) بـ(ما) فلزم تسكین المیم الأولى فالتقت مع العین الساكنة وللتخلص من سكونها تمَّ كسر العین، وهناك من قرأ بإبقاء الساكنین فی العین والمیم وهی قراءة متواترة قرأ بها قالون عن نافع وأبو عمرو البصری وشعبة عن عاصم بخلاف وأبو جعفر بلا خلاف. وكذلك هی مرسومة متصلة للإدغام وكذلك تَعْدُّوا یَهْدِّى اسْطَّاعوا.

- ذكر ابن هشام فی مغنی اللبیب من أن (ذلك) أصلها ساكنة اللام مثل (تلك) فالتقى ساكنان (الألف واللام) فحركت الثانیة بالكسر.

- تكسر واو (أوْ) إذا ولیها ساكن كما فی أوِ اخْرجوا [النساء: 66] أوِ انْقُص [المزمل: 3].

- إذا نون الظرف (إذْ) كما فی (یومئذٍ) و(حینئذٍ) و(عندئذٍ) فإن (إذ) ظرف مبنی على السكون دخل علیه التنوین (تنوین عوض عن جملة) فالتقى ساكنان: الذال والنون الساكنة (التنوین) فحركت الذال بالكسرة للتخلص من التقاء الساكنین فأصلهما (یومئذِنْ) - (حینئذِنْ) - (عندئذِنْ).

ویحرك بالفتح إذا كان المضارع المجزوم مشددا فنقول لم یشدَّ والأصل لم یشدْدْ فتوالى ساكنان فحرك الثانی بالفتح، والفتحة لخفتها، أو بالكسرة لأنها الأصل، وإذا كانت عین الفعل مضمومة جاز التحریك بالضم أو الكسر إتباعاً للعین فنقول: لم یَعُدَّ، لم یَعُدِّ، لم یَعُدُّ.

ویتخلص من السكون فی مثل (كانتْ) إذا أضیف لها ألف كما فی (كانتا) و(خانتاهما) فإن تاء التأنیث حرف مبنی على السكون فدخلت علیها ألف التثنیة وهی ساكنة ففتحت التاء للتخلص من التقاء الساكنین ولا یكون قبل الألف من الحركات إلا الفتح.

وكذلك مثل (ذالكما – تلكما) مما دخل فیه ألف التثنیة على میم الجمع الساكنة فتحركت المیم بالفتح تخلصاً من الساكنین. وكذلك كل فعل أمر مبنی على السكون (آخره حرف صحیح) دخلت علیه ألف التثنیة كما فی (انطلقْ) – (اركبْ)، فصارا: (انطلقَا) – (اركبَا).

ویحرك بالفتح أیضاً نون (مِنْ) الجارة فالأصل فی نون (من) الجارة أن تكون ساكنة إذا ولیها متحرك كما فی (منْ قبلك) أما إذا ولیها (أل) التعریف فتحرك بالفتح كما فی قوله ومِنَ الناس من یقول [البقرة: 8].

ویحرك بالضم میم الجمع الساكنة: وهی میم زائدة عن بنیة الكلمة الدالة على جمع المذكر حقیقة أو مجازا، ولا یكون الساكن بعد میم الجمع فی القرآن إلا همزة وصل فإذا ولیها متحرك تبقى ساكنة كما فی قوله تعالى: سواء علیهمْ أأنذرتهمْ أمْ لمْ تنذرهمْ لا یؤمنون [البقرة: 6].

وإذا ولیها ساكن كما فی قوله تعالى: فأخذتكمُ الصاعقة [البقرة: 55]، أنفسكمُ اسْتكبرتم [البقرة: 78]، وتقطعت بهمُ الأسباب [البقرة: 166].

ویحرك بالضم واو الجماعة كما فی وعصَوُا الرسول [النساء: 43] فتمنوُا الموت [البقرة: 94]؛ للتخلص من التقاء الساكنین، ولو ولیها متحرك لبقیت ساكنة مثل: واخشَوْا یوما [لقمان: 33]، لبَغَوْا فی الأرض [الشورى: 27]؛ لانتفاء السبب.

5- النبرة:

النبر عند العرب ارتفاع الصوت یقال نبر الرجل نبرة إذا تكلم بكلمة فیها علو وأنشدوا:

إنی لأسمع نبرة من قولها فأكاد أن یغشى علی سرورا

والنبر صیحة الفزع، ونبرة المغنی رفع صوته عن خفض، ونبر الغلام ترعرع، والنبرة وسط النقرة، وكل شیء ارتفع من شیء نبرة لانتباره [4]. ویقصد بالنبرة قرع الحرف حتى یظهر صوته دون غیره، والنبرة علامة لحذف الحرف المعتل إذا ولیه ساكن وكان هذا المحذوف یخل بتركیب الجملة أو یحصل التباس بینه وبین غیره؛ فتقول للمفرد (كتب الواجب) ولا یفرق بینه وبین المثنى (كتبا الواجب) باللفظ إلا إذا نبرت اللام فی الواجب للدلالة على حذف ألف كتبا.

ومثله: وقالا الحمد [النمل: 15] تحذف ألف التثنیة فی (قالا) حال الوصل للساكنین وینبر باللام من (الحمد) للدلالة على حذف الألف الأصلیة لا الفتحة حتى لا یلتبس (قالَ الحمد) و(قالا الحمد).

6- المد:

المد هو إطالة الصوت بحرف من حروف المد الثلاثة عند ملاقاة همز أو سكون كما قال علماء التجوید، فالسكون ظاهر العلة، وأما الهمز فربما لأنه من أقوى الحروف فعند لفظه كأننا نلفظ حرفاً مضعفا أی حرفین ساكنا ومتحركا أو مقلقلا فأخذ حكم المد للتخلص من التقاء الساكنین، كما فی (الملائكة)، (بما أنزل) ….. إلخ "ووجه المد هو أن حرف المد ضعیف والهمز قوی فزید فی المد تقویة للضعیف عند مجاراة القوی. وقیل للتمكن من النطق بالهمز لأنه مهجور" [5]

والمتمعن فی هذا التعریف یرى أن سبب المد هو التخلص من التقاء الساكنین فالهمزة عند لفظها وسطا وآخرا تتكون من صوتین الصوت الأول ساكن والثانی متحرك یخرج من أقصى الحلق، متمیزا بنبرته عن باقی الحروف. فالمد یقوم مقام الحركة وذلك أن الحرف یزید صوتا بحركاته كما یزید الألف بإشباع مده.

أما المد الذی یلیه سكون أصلی فیكون لازم المد ویكون بعد تضعیف وهو الأكثر كما فی (الضالَّین) و(الحاقَّة) و(دابَّة) وهو ما سماه علماء التجوید كلمیا مثقلا وأما الكلمی المخفف فملحق به لأنه قلیل ویخلو من التضعیف ومواطنه قلیلة وهی (ءالآن) فی موضعین بسورة یونس. ویلحق به المد الحرفی أیضا بنوعیه المخفف والمثقل كما فی (ألـمـ).

7- المد العارض للسكون:

عرَّف علماء التجوید المد العارض للسكون بأنه مد لأجل السكون العارض إذا سبقه حرف مد، فالمد زیادة فی صوت حرف المد بمقدار أربع حركات أو خمس أو ستٍ، وعند المد یتم التخلص من توالی الساكنین وهما حرف المد والساكن الذی یلیه لفظا، وكل مد ساكن، ولكن إذا مد فإنه یشبه المتحرك كما فی الرحیمْ الدین ویلحق به مد اللین كما فی (الصیف) و(خوف) وكل مثنى مجرور أو منصوب عینین النجدین …… إلخ.

وهكذا نجد أنَّ العرب تتخلص من التقاء الساكنین إما بالحذف أو تحریك أحد الصحیحین أو بالمد أو بالنبرة وذلك لأن توالی الساكنین ولا سیما فی وسط الكلمة ضعف فی اللغة وبما أن العربیة من أقوى وأجمل اللغات فإنها تنساب من متحرك إلى متحرك أو من متحرك إلى ساكن ثم تنطلق إلى متحرك وهذه الحركة المتناغمة تضفی علیها رونقا لا یشعر به إلا أصحاب الذوق السلیم.
حواشی

[1] السیوطی، الأشباه والنظائر فی النحو، تحقیق عبد الإله نبهان مطبوعات مجمع اللغة العربیة بدمشق 1985 ج1/ص172.

[2] عاصم البیطار، النحو والصرف، جامعة دمشق 1988م.

[3] السیوطی، الأشباه والنظائر فی النحو، تحقیق عبد الإله نبهان مطبوعات مجمع اللغة العربیة بدمشق 1985 ج1/ص2.

[4] لسان العرب ج5/ص189.

[5] البرهان فی تجوید القرآن، محمد صادق القمحاوی.

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:59|
ابو تمام
تحلیل النص الأدبی
فتح عموریة.. السیف أصدق إنباء
17 من رمضان 223 هـ

كانت وصیة الخلیفة المأمون لأخیه المعتصم وهو على فراش المرض أن یقضی على فتنة بابك الخُرَّمی، وكان زعیم فرقة ضالة، تؤمن بالحلول وتناسخ الأرواح، وتدعو إلى الإباحیة الجنسیة. وبدأت تلك الفتنة تطل برأسها فی أذربیجان، ثم اتسع نطاقها لتشمل همدان وأصبهان، وبلاد الأكراد وجرحان. وحاول المأمون أن یقضی علیها فأرسل الحملات تترى لقمع تلك الفتنة، لكنه توفی دون أن یحقق نجاحًا، تاركًا للمعتصم مهمة القضاء علیها.
وما إن تولى المعتصم الخلافة حتى انصرف بكلیته للقضاء على فتنة بابك الخرمی مهما كلفه الأمر، وخاصة بعد أن شغلت الخلافة سنوات طویلة، وأنهكت میزانیة الدولة، وأهلكت الرجال والأبطال. واستغلت الدولیة البیزنطیة انشغال الخلیفة المعتصم بالقضاء على تلك الفتنة الهوجاء وراحت تعتدی على حدود الدولة العباسیة، وجهزت لذلك جیشًا ضخمًا قادة إمبراطور الدولة، حیث هاجم شمال الشام والجزیرة.
وكان بابك الخرمی -حین ضاق علیه الحصار، واشتد الخناق علیه، وأیقن ألا مفر من الاستسلام- قد اتصل بإمبراطور الروم یحرضه على غزو الدولة العباسیة؛ لیخف الحصار علیه، وزین له أمر الهجوم بأن معظم جیوش الدولة مشغول بالقضاء علیه، ولم یبق فی العاصمة قوة تدافع عنها، ووعده باعتناق المسیحیة هو وأتباعه.
عزز ذلك الأمر من رغبة الإمبراطور فی الهجوم على الدولة العباسیة، ودخل بقواته مدینة "زبطرة" التی تقع على الثغور وكانت تخرج منها الغزوات ضد الروم. وقتل الجیش البیزنطی من بداخل المدینة من الرجال، ثم انتقل إلى "ملطیة" المجاورة، فأغار علیها وعلى كثیر من الحصون، ومثّل الجیش الرومی بمن وقع فی یده من المسلمین، وسمل أعینهم، وقطع آذانهم وأنوفهم، وسبى أكثر من ألف امرأة مسلمة، ورجع الجیش البیزنطی إلى القسطنطینیة فرحًا بما حقق، واستُقبل من أهلها استقبالا رائعًا.
النفیر
وصلت هذه الأنباء المروعة إلى أسماع الخلیفة المعتصم وكان قد أوشك على قمع فتنة بابك الخرمی. وحكى الهاربون الفظائع التی ارتكبها الروم مع المسلمین، فاستعظم الخلیفة ما حدث، وأمر بعمامة الغزاة فاعتمّ بها، ونادى لساعته بالنفیر والاستعداد للحرب، وبعث بنجدة إلى أهل زبطرة بقیادة "عجیف بن عنبسة"، استطاعت أن ترد إلیها الهاربین من أهلها تطمئنهم، وفی هذه الأثناء تمكن "الأفشین" أبرع قادة المعتصم من القضاء على الفتنة وألقى القبض على بابك الخرمی فی (10 من شوال 222هـ = 16 من سبتمبر 837 م).
وكان المعتصم قد سأل: أی بلاد الروم أمنع وأحصن؟ فقیل: عموریة؛ لم یعرض لها أحد من المسلمین منذ كان الإسلام وهی عین النصرانیة، فسارع بتعبئة الحملة وتجهیز الجیش بكل ما یحتاجه، حتى قیل: إنه لم یتجهز قبله مثله، وخرج إلى عموریة فی (جمادى الأولى 223هـ= إبریل 838م) ولم تكن من عادة الحملات الكبرى الخروج فی ذلك الوقت، غیر أن الخلیفة كان متلهفا للقاء، ورفض قبول توقیت المنجّمین الذین تنبئوا بفشل الحملة إذا خرجت فی هذا التوقیت، وهذا ما عبر عنه الشاعر الكبیر "أبو تمام" فی بائیته الخالدة التی استهلها بقوله:



السیف أصدق أنبـاءً مـن الكتـبفی حدّه الحد بیـن الجـد واللعـب
بیض الصفائح لا سود الصحائف فیمتونهـن جـلاء الشـك والریـب
والعلم فی شهـب الأرمـاح لامعـةًبین الخمیسین لا فی السبعة الشهـب
أین الروایة؟ أم أین النجـوم؟ ومـاصاغوه من زخرف فیها ومن كذب
تخـرصًـا وأحادیـثـا ملـفـقـةلیست بنبـع إذا عُـدّت ولا غـرب
عجائبـا زعمـوا الأیـام مجفـلـةعنهن فی صفر الأصفار أو رجـب


فتح أنقرة
وعند "سروج" قسم المعتصم جیشه الجرار إلى فرقتین: الأولى بقیادة الأفشین، ووجهتها أنقرة، وسار هو بالفرقة الثانیة، وبعث "أشناس" بقسم منها إلى أنقرة ولكن من طریق آخر، وسار هو فی إثره، على أن یلتقی الجمیع عند أنقرة.
علم المعتصم من عیونه المنتشرین فی المنطقة أن الإمبراطور البیزنطی قد كمن شهرًا لملاقاة الجیش الإسلامی على غرّة، وأنه ذهب لمفاجأة الأفشین، وحاول الخلیفة أن یحذر قائده، لكنه لم یستطع، واصطدم الأفشین بقوات الإمبراطور عند "دزمون" وألحق الأفشین بالإمبراطور البیزنطی هزیمة مدویة فی (25 من شعبان 223 هـ= 838م) ولم یحل دون النصر الضباب الكثیف الذی أحاط بأرض المعركة أو المطر الغزیر الذی انهمر دون انقطاع، وهرب الإمبراطور إلى القسطنطینیة، وبقی قسم من جیشه فی عموریة بقیادة خاله "یاطس" حاكم "أناتولیا".
دخلت جیوش المعتصم أنقرة التی كانت قد أخلیت بعد هزیمة الإمبراطور، وتوجهت إلى عموریة فوافتها بعد عشرة أیام، وضربت علیها حصارًا شدیدًا.
حصار عموریة
بدأ الحصار فی (6 من رمضان 223هـ= 1 من أغسطس 838م)، وأحاطت الأبراج الحربیة بأسوار المدینة، فی الوقت نفسه بعث الإمبراطور البیزنطی برسوله یطلب الصلح، ویعتذر عما فعله جیشه بزبطرة، وتعهد بأن یبنیها ویردّ ما أخذه منها، ویفرج عن أسرى المسلمین الذین عنده، لكن الخلیفة رفض الصلح، ولم یأذن للرسول بالعودة حتى أنجز فتح عموریة.
ابتدأت المناوشات بتبادل قذف الحجارة ورمی السهام فقُتل كثیرون. وكان یمكن أن یستمر هذا الحصار مدة طویلة، لولا أن أسیرًا عربیًا قد أسره الروم دلّ الخلیفة المعتصم على جانب ضعیف فی السور، فأمر المعتصم بتكثیف الهجوم علیه حتى انهار، وانهارت معه قوى المدافعین عنه بعد أن یئسوا من المقاومة، واضطر قائد الحامیة "یاطس" إلى التسلیم، فدخل المعتصم وجنده مدینة عموریة فی (17 من رمضان 223هـ= 12 من أغسطس 838م). وقد سجل أبو تمام هذا النصر العظیم وخلّد ذكرى المعركة، فقال:



فتح الفتوح تعالى أن یحیـط بـه
نظمٌ من الشعر أو نثر من الخطب
فتح تفتّـح أبـواب السمـاء لـه
وتبرز الأرض فی أثوابها القشب
یا یوم وقعة عموریة انصرفـت
عنك المنى حُفّلا معسولة الحلـب


ثم یصور الأهوال التی نزلت بالمدینة حتى اضطرت إلى التسلیم تصویرا رائعًا، فیقول:



لقـد تركـتَ أمیـر المؤمنیـن بهـا
للنار یوما ذلیل الصخـب والخشـب
غادرت فیها بهیم اللیل وهو ضحـى
یشلّـه وسطهـا صبـح مـن اللهب
حتى كأن جلابیـب الدجـى رغبـت
عن لونها وكأن الشمـس لـم تغـب
خلیفـة الله جـازى الله سعیـك عـن
جرثومة الدیـن والإسـلام والحسَـب
بصرت بالراحة الكبرى فلـم ترهـا
تُنال إلا علـى جسـر مـن التعـب
إن كان بین صروف الدهر من رحـم
موصولة أو زمـام غیـر منقضـب
فبین أیامـك اللاتـی نُصـرت بهـا
وبیـن أیـام بـدرٍ أقـرب النسـب
أبقت بنی الأصفر الممراض كما سْمهم
صُفْرَ الوجوه وجلّت أوجـه العـرب



وبعد هذا النصر قرر المعتصم المسیر إلى القسطنطینیة، لكن هذا المشروع لم یقیض له أن ینفذ، بعد أن اكتشف المعتصم مؤامرة للتخلص منه دبرها بعض أقربائه، كما أن فتح القسطنطینیة یحتاج إلى قوى بحریة كبیرة لم یكن یملكها ساعتها، فتوقف المشروع إلى حین.

أما شاعرنا
244 ـ أبو تمام ( 188 ـ 231هـ = 804 ـ 846م )
فهو حبیب بن أوس بن الحارث الطائی، من حوران، من قریة جاسم، فی بلاد الشام. ولد فی أیام الرشید، وقیل اسم والده تَدْرَس، وكان نصرانیـاً فأسلم وتسمی أوس، وانتمی لقبیلة طیء. نشـأ أبو تمام فقیراً، فكان یعمل عند حائك ثیاب فی دمشق، ثم رحل إلی مصر. فكان وهو صغیر یسقى الماء فی جامع عمرو بن العاص، ویتردد علی مجالس الأدباء والعلماء، ویأخذ عنهم. وكان یتوقد ذكاء، ونظم الشعر فی فترة مبكرة من حیاته. ثم عاد من مصر إلی الشام. ویُعد أبوتمام من أعلام الشعر العربی فی العصر العباسی. عُرِف بخیاله الواسع، ویمتاز عن شعراء عصره بأنه صاحب مذهب جدید فی الشعر یغوص علی المعانی البعیدة، التی لا تُدرك إلاّ بإعمال الذهن والاعتماد على الفلسفة والمنطق فی عرض الأفكار. یعدُّ أول شاعر عربی عنی بالتألیف، فقد جمع مختارات من أجمل القصائد فی كتاب سماه ( الحماسة ). أكثر شعره فی الوصف والمدح والرثاء، له دیوان شعر مطبوع.
ومن مشهور شعره قصیدته فی فتح عموریة، التی مدح فیها الخلیفة المعتصم،

القصیدة




السَّیْـفُ أَصْـدَقُ أَنْبَـاءً مِـنَ الكُتُـبِ
فـی حَـدهِ الحَـدُّ بَیْـنَ الجِـد واللَّعِـبِ
بیضُ الصَّفَائِحِ لاَ سُودُ الصَّحَائِـفِ فـی
مُتُونِهـنَّ جـلاءُ الـشَّـك والـریَـبِ
والعِلْـمُ فـی شُهُـبِ الأَرْمَـاحِ لاَمِعَـةً
بَیْنَ الخَمِیسَیْـنِ لافـی السَّبْعَـةِ الشُّهُـبِ
أَیْنَ الروایَـةُ بَـلْ أَیْـنَ النُّجُـومُ وَمَـا
صَاغُوه مِنْ زُخْرُفٍ فیها ومـنْ كَـذِبِ
تَخَرُّصَـاً وأَحَادِیثـاً مُلَفَّـقَـةً لَیْـسَـتْ
بِـنَـبْـعٍ إِذَا عُـــدَّتْ ولاغَـــرَبِ
عَجَائِبـاً زَعَـمُـوا الأَیَّــامَ مُجْفِـلَـةً
عَنْهُنَّ فی صَفَـرِ الأَصْفَـار أَوْ رَجَـبِ
وخَوَّفُوا النـاسَ مِـنْ دَهْیَـاءَ مُظْلِمَـةٍ
إذَا بَـدَا الكَوْكَـبُ الْغَرْبِـیُّ ذُو الذَّنَـب
ِوَصَیَّـروا الأَبْـرجَ العُلْـیـا مُرَتِّـبَـةً
مَـا كَـانَ مُنْقَلِبـاً أَوْ غیْـرَ مُنْقَـلِـبِ
یقضون بالأمـرِ عنهـا وهْـیَ غافلـةٌ
مادار فـی فلـكٍ منهـا وفـی قُطُـبِ
لـو بیَّنـت قـطّ أَمـراً قبْـل مَوْقِعِـه
لم تُخْـفِ ماحـلَّ بالأوثـانِ والصُّلُـبِ
فَتْـحُ الفُتـوحِ تَعَالَـى أَنْ یُحیـطَ بِــهِ
نَظْمٌ مِن الشعْرِ أَوْ نَثْـرٌ مِـنَ الخُطَـبِ
فَتْـحٌ تفَتَّـحُ أَبْـوَابُ السَّـمَـاءِ لَــهُ
وتَبْـرزُ الأَرْضُ فـی أَثْوَابِهَـا القُشُـب
ِیَـا یَـوْمَ وَقْعَـةِ عَمُّوریَّـةَ انْصَرَفَـتْ
مِنْـكَ المُنَـى حُفَّـلاً مَعْسُولَـةَ الحَلَـبِ
أبقیْتَ جِدَّ بَنِـی الإِسـلامِ فـی صعَـدٍ
والمُشْرِكینَ ودَارَ الشـرْكِ فـی صَبَـب
ِأُمٌّ لَهُـمْ لَـوْ رَجَـوْا أَن تُفْتَـدى جَعَلُـوا
فدَاءَهَـا كُــلَّ أُمٍّ مِنْـهُـمُ وَأَبــوَبَ
رْزَةِ الوَجْـهِ قَـدْ أعْیَـتْ رِیَاضَتُـهَـا
كِسْرَى وصدَّتْ صُدُوداً عَنْ أَبِی كَـرِبِ
بِكْـرٌ فَمـا افْتَرَعَتْهَـا كَـفُّ حَـادِثَـةٍ
وَلا تَرَقَّـتْ إِلَیْـهَـا هِـمَّـةُ الـنُّـوَبِ
مِنْ عَهْـدِ إِسْكَنْـدَرٍ أَوْ قَبـل ذَلِـكَ قَـدْ
شَابَتْ نَواصِی اللَّیَالِی وهْـیَ لَـمْ تَشِـبِ
حَتَّـى إذَا مَخَّـضَ اللَّـهُ السنیـن لَهَـا
مَخْضَ البِخِیلَـةِ كانَـتْ زُبْـدَةَ الحِقَـبِ
أَتَتْهُـمُ الكُـرْبَـةُ الـسَّـوْدَاءُ سَــادِرَةً
مِنْهَـا وكـانَ اسْمُهَـا فَرَّاجَـةَ الكُرَبِـج
َرَى لَهَـا الفَـألُ بَرْحَـاً یَـوْمَ أنْـقِـرَةٍ
إذْ غُودِرَتْ وَحْشَةَ السَّاحَـاتِ والرِّحَـب
ِلمَّا رَأَتْ أُخْتَهـا بِالأَمْـسِ قَـدْ خَرِبَـتْ
كَانَ الْخَرَابُ لَهَا أَعْـدَى مـن الجَـرَبِ
كَمْ بَیْنَ حِیطَانِهَـا مِـنْ فَـارسٍ بَطَـلٍ
قَانِـی الذَّوائِـب مـن آنـی دَمٍ سَـربِ
بسُنَّـةِ السَّیْـفِ والخطـی مِـنْ دَمِــه
لاسُنَّـةِ الدیـن وَالإِسْـلاَمِ مُخْتَـضِـب
ِلَقَـدْ تَرَكـتَ أَمیـرَ الْمُؤْمنیـنَ بِـهـا
لِلنَّارِ یَوْمـاً ذَلیـلَ الصَّخْـرِ والخَشَـبِ
غَادَرْتَ فیها بَهِیمَ اللَّیْـلِ وَهْـوَ ضُحًـى
یَشُلُّـهُ وَسْطَهَـا صُبْـحٌ مِـنَ اللَّـهَـبِ
حَتَّى كَـأَنَّ جَلاَبیـبَ الدُّجَـى رَغِبَـتْ
عَنْ لَوْنِهَـا وكَـأَنَّ الشَّمْـسَ لَـم تَغِـبِ
ضَوْءٌ مِـنَ النَّـارِ والظَّلْمَـاءُ عاكِفَـةٌ
وَظُلْمَةٌ مِنَ دُخَانٍ فـی ضُحـىً شَحـبِ
فالشَّمْـسُ طَالِعَـةٌ مِـنْ ذَا وقـدْ أَفَلَـتْ
والشَّمْـسُ وَاجِبَـةٌ مِـنْ ذَا ولَـمْ تَجِـبِ
تَصَرَّحَ الدَّهْـرُ تَصْریـحَ الْغَمَـامِ لَهـا
عَنْ یَوْمِ هَیْجَـاءَ مِنْهَـا طَاهِـرٍ جُنُـبِ
لم تَطْلُعِ الشَّمْـسُ فیـهِ یَـومَ ذَاكَ علـى
بانٍ بأهلٍ وَلَـم تَغْـرُبْ علـى عَـزَبِ
مَا رَبْـعُ مَیَّـةَ مَعْمُـوراً یُطِیـفُ بِـهِ
غَیْلاَنُ أَبْهَى رُبىً مِـنْ رَبْعِهَـا الخَـرِبِ
ولا الْخُـدُودُ وقـدْ أُدْمیـنَ مِـنْ خجَـلٍ
أَشهى إلى ناظِری مِـنْ خَدهـا التَّـرِبِ
سَماجَـةً غنِیَـتْ مِنَّـا العُیـون بِـهـا
عَنْ كل حُسْـنٍ بَـدَا أَوْ مَنْظَـر عَجَـبِ
وحُسْـنُ مُنْقَـلَـبٍ تَبْـقـى عَوَاقِـبُـهُ
جَـاءَتْ بَشَاشَتُـهُ مِـنْ سُـوءِ مُنْقَلَـبِ
لَوْ یَعْلَمُ الْكُفْرُ كَمْ مِـنْ أَعْصُـرٍ كَمَنَـتْ
لَـهُ العَواقِـبُ بَیْـنَ السُّمْـرِ والقُضُـبِ
تَدْبیـرُ مُعْتَصِـمٍ بِاللَّـهِ مُنْتَقِـمٍ لِـلَّـهِ
مُرْتَـقِـبٍ فــی الـلَّـهِ مُـرْتَـغِـبِ
ومُطْعَـمِ النَّصـرِ لَـمْ تَكْهَـمْ أَسِنَّـتُـهُ
یوْماً ولاَ حُجِبَـتْ عَـنْ رُوحِ مُحْتَجِـب
ِلَمْ یَغْـزُ قَوْمـاً، ولَـمْ یَنْهَـدْ إلَـى بَلَـدٍ
إلاَّ تَقَدَّمَـهُ جَـیْـشٌ مِــنَ الـرعُـب
ِلَوْ لَمْ یَقُدْ جَحْفَلاً، یَـوْمَ الْوَغَـى، لَغَـدا
مِنْ نَفْسِهِ، وَحْدَهَا، فـی جَحْفَـلٍ لَجِـبِ
رَمَـى بِـكَ اللَّـهُ بُرْجَیْهَـا فَهَدَّمَـهـا
ولَوْ رَمَى بِكَ غَیْـرُ اللَّـهِ لَـمْ یُصِـبِ
مِـنْ بَعْـدِ مـا أَشَّبُوهـا واثقیـنَ بِهَـا
واللَّـهُ مِفْتـاحُ بَـابِ المَعقِـل الأَشِـبِ
وقـال ذُو أَمْرِهِـمْ لا مَرْتَـعٌ صَــدَدٌ
للسَّارِحینَ ولیْـسَ الـوِرْدُ مِـنْ كَثَـبِ
أَمانیاً سَلَبَتْهُـمْ نُجْـحَ هَاجِسِهـا ظُبَـى
السُّیُـوفِ وأَطْـرَاف القـنـا السُّـلُـبِ
إنَّ الحِمَامَیْنِ مِـنْ بِیـضٍ ومِـنْ سُمُـرٍ
دَلْوَا الحیاتین مِـن مَـاءٍ ومـن عُشُـبٍ
لَبَّیْـتَ صَوْتـاً زِبَطْرِیّـاً هَرَقْـتَ لَـهُ
كَأْسَ الكَرَى وَرُضَابَ الخُـرَّدِ العُـرُبِ
عَداكَ حَـرُّ الثُّغُـورِ المُسْتَضَامَـةِ عَـنْ
بَرْدِ الثُّغُور وعَـنْ سَلْسَالِهـا الحَصِـبِ
أَجَبْتَهُ مُعْلِنـاً بالسَّیْـفِ مُنْصَلِتـاً وَلَـوْ
أَجَبْـتَ بِغَیْـرِ السَّیْـفِ لَــمْ تُـجِـبِ
حتّى تَرَكْـتَ عَمـود الشـرْكِ مُنْعَفِـراً
ولَـم تُعَـرجْ عَلـى الأَوتَـادِ وَالطُّنُـب
ِلَمَّا رَأَى الحَـرْبَ رَأْیَ العیـن تُوفَلِـسٌ
والحَرْبُ مُشْتَقَّةُ المَعْنَـى مِـنَ الحَـرَبِ
غَـدَا یُصَـرفُ بِالأَمْـوال جِرْیَتَـهـا
فَعَـزَّهُ البَحْـرُ ذُو التَّیـارِ والـحَـدَبِ
هَیْهَاتَ! زُعْزعَتِ الأَرْضُ الوَقُـورُ بِـهِ
عَن غَـزْوِ مُحْتَسِـبٍ لاغـزْو مُكتسِـبِ
لـمْ یُنفِـق الذهَـبَ المُرْبـی بكَثْـرَتِـهِ
على الحَصَى وبِـهِ فَقْـرٌ إلـى الذَّهَـبِ
إنَّ الأُسُـودَ أسـودَ الغـیـلِ همَّتُـهـا
یَومَ الكَرِیهَةِ فـی المَسْلـوب لا السَّلـبِ
وَلَّـى، وَقَـدْ أَلجَـمَ الخطـیُّ مَنْطِـقَـهُ
بِسَكْتَةٍ تَحْتَهـا الأَحْشَـاءُ فـی صخَـبِ
أَحْذَى قَرَابینه صَرْفَ الـرَّدَى ومَضـى
یَحْتَـثُّ أَنْجـى مَطَایـاهُ مِـن الهَرَبِـم
ُوَكلاً بِیَفَاعِ الأرْضِ یُشْرِفُـهُ مِـنْ خِفّـةِ
الخَـوْفِ لامِــنْ خِـفَّـةِ الـطـرَبِ
إنْ یَعْدُ مِنْ حَرهَـا عَـدْوَ الظَّلِیـم، فَقَـدْ
أَوْسَعْتَ جاحِمَهـا مِـنْ كَثْـرَةِ الحَطَـبِ
تِسْعُونَ أَلْفـاً كآسـادِ الشَّـرَى نَضِجَـتْ
جُلُودُهُـمْ قَبْـلَ نُضْـجِ التیـنِ والعِنَـبِ
یارُبَّ حَوْبَاءَ لمَّا اجْتُثَّ دَابِرُهُـمْ طابَـتْ
ولَـوْ ضُمخَـتْ بالمِسْـكِ لـم تَـطِـبِ
ومُغْضَبٍ رَجَعَتْ بِیـضُ السُّیُـوفِ بِـهِ
حَیَّ الرضَا مِنْ رَدَاهُمْ مَیـتَ الغَضَـب
ِوالحَرْبُ قائمَةٌ فی مـأْزِقٍ لَجِـجٍ تَجْثُـو
القِیَـامُ بِـه صُغْـراً علـى الـرُّكَـبِ
كَمْ نِیلَ تحتَ سَناهَـا مِـن سَنـا قمَـرٍ
وتَحْتَ عارِضِها مِـنْ عَـارِضٍ شَنِـبِ
كَمْ كَانَ فی قَطْعِ أَسبَـاب الرقَـاب بِهـا
إلـى المُخَـدَّرَةِ العَـذْرَاءِ مِـنَ سَبَـبِ
كَمْ أَحْـرَزَتْ قُضُـبُ الهنْـدِی مُصْلَتَـةً
تَهْتَزُّ مِـنْ قُضُـبٍ تَهْتَـزُّ فـی كُثُـبِ
بیـضٌ، إذَا انتُضِیَـتْ مِـن حُجْبِـهَـا،
رَجعَتْ أَحَقُّ بالبیض أتْرَاباً مِنَ الحُجُـبِ
خَلِیفَةَ اللَّهِ جـازَى اللَّـهُ سَعْیَـكَ عَـنْ
جُرْثُومَـةِ الدیْـنِ والإِسْـلاَمِ والحَسَبِـبَ
صُرْتَ بالرَّاحَـةِ الكُبْـرَى فَلَـمْ تَرَهـا
تُنَـالُ إلاَّ علـى جسْـرٍ مِـنَ التَّـعـبِ
إن كـان بَیْـنَ صُـرُوفِ الدَّهْـرِ مِـن
رَحِمٍ مَوْصُولَةٍ أَوْ ذِمَامٍ غیْـرِ مُنْقَضِـب
ِفبَیْـنَ أیَّامِـكَ اللاَّتـی نُصِـرْتَ بِهَـا
وبَیْـنَ أیَّـامِ بَـدْرٍ أَقْــرَبُ النَّـسَـب
ِأَبْقَـتْ بَنـی الأصْـفَـر المِـمْـرَاضِ
كاسْمِهمُ صُفْرَ الوجُوهِ وجلَّتْ أَوْجُهَ العَرَبِ





الهدف من دراسة النص الأدبی :
الوقوف على إبداعات الأدیب فی نصه وماتجلى فیه
من جمالیات جعلت القارئ ینفعل بها ویتأثر
مثلما انفعل بها الأدیب من قبل وتأثر ؛ انفعالاً وتأثراً یجعلانه
مشدوداً إلى مافی النص من سمات فنیة ترقى بالأدب , ومن
قیم موضوعیة تسمو بالإنسان إلى مراقی التقدم والكمال .

صفات الناقد الجید

-سلامة الذوق ؛ لأن المتنبی یقول :

ومن یك ذا فم مریض ,,, یجد مراً به الماء الزلالا .

-دقة الحس , فلابد من أن یتجاوب الناقد والأثر الأدبی
وینفعل به انفعالاً عمیقاً , فینتقل بكل حواسه إلى الجو
الذی عاش فیه الأدیب ویتقمص شخصیته .

- التجرد , فلایكون لهواه منفذاً إلى حكمه , فقد أنصف
النقاد المسلمون قبلاً الأخطل النصرانی , فینبغی أن لایكون
للهوا سلطان على حكم الناقد .

قبل تحلیل النص :

- معرفة الأدیب ( فالأدب یفسر الأدیب ,
وحیاة الأدیب تفسر الأدب )
فبعض النصوص الخالدة لانستطیع فهمها إلا بمعرفة قائلیها ,
ولانستطیع أن نعلل بعض الظواهر الأدبیة إلا بذلك
( لم أجاد الحطیئة الهجاء ولم یجد الفخر؟!!!)
علماً بأن من الباحثین من یرى إبعاد الآثار الأدبیة عن أجوائها.

-المناسبة :
وهی السبب المباشر لإنشاء النص , فالقصیدة
كالبركان یعتمل بالتوتر تحت سطح الأرض وساعة انفجاره تأتی متأخرة عن ساعة تكوینه , وهناك فئة من النقاد ترى
إبعاد النص عن مناسبته , وعن صاحبه لكی یحلل النص دون
نظر إلى الظروف المحیطة به , وهذا صحیح , ولكن المناسبة كالضوء الذی یساعدنا على رؤیة ماتحت النص , وعلى الدارس
أن لایغرق فی دراسة مناسبة النص وقائله , فتكون دراسة نفسیة .

- الزمان والمكان :
فمعرفة الزمان مهمة لمعرفة تطور الأجناس , والظواهر الأدبیة
ولمعرفة فضل من تقدم ومزیة من تأخر , ومعرفة المكان
تساعد على وصف الظواهر الأدبیة وتفسیرها , فأدب الصحراء
یختلف عن أدب المدینة , وأدب الریف یمتاز عن أدبی المدینة
والصحراء .

- قراءة النص :
على دارس النص أن یخلص إلى قراءة النص قراءة صحیحة
واعیة , تفحص عن فهمه له , وإحساسه به , ووقوفه على
مضمونه .

# تحلیل النص :

وهنا یتناول الشكل والمضمون كل على
حدة , دون أن ینسى أنهما مرتبطان بلا انفصال .

عناصر النص الأدبی:

الشكل :
1-بناء القصیدة:
- المطلع .
-الخاتمة .
-الطول .
-الوحدة .

2- اللغة ( الأسلوب ).
3- الصورة الأدبیة .
4- الموسیقا .

المضمون :

1- الأفكار .
2- العاطفة

أولاً : الشكل /

المطلع :
البیت الأول فاتحة القصیدة متى ماعثر علیها الشاعر انصب على موضوعه لأنه المفتاح الذی یدخل به المتلقی إلى فضاء النص .

# من الشروط التی حددت لجودة المطلع :

1-أن یكون خالیاً من المآخذ النحویة .
2- أن یكون معبراً عن مضمون النص وأن تراعى فیه جودة اللفظ
والمعنى معاً, ومن المطالع التی توحی بموضوعها قول أبی تمام :

السیف أصدق أنباء من الكتب ... فی حده الحد بین الجد واللعب

فموضوعها هنا ( الحرب والحماسة ).

كذلك لابد أن لا یكون مما یتشاءم منه أو یتطیر به , بل حسن الوقع على النفس بعیداً عن التعقید , واضحاً سلس النغم والجرس .

3-إن لم یكن رائعاً فینبغی أن لایكون بارداً كقول أبی العتاهیة :

ألا مالسیدتی مالها ... أدلاًّ فأحمل إدلالها

فمثل هذا الكلام لایناسب فی بدایة قصیدة تلقى بمناسبة اجتماعیةكبیرة یبایع فیها المهدی بالخلافة.

4-أن یكون نادراً انفرد الشاعر باختراعه كقول المتنبی :
الرأی قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهی المحل الثانی

ب الخاتمة :

استحسن نقادنا الأقدمون أن یكون البیت الأخیر مختاراً رائعاً
لأنه آخر ما یرتسم فی النفس ویعیه السمع.
وأحسن الانتهاء ماجمع الجودة والإشعار بتمام الكلام .
ومن ذلك قول علی السنوسی فی قصیدته ( كیف أصبحت )
كیف أصبحت وماذا تصنعین ... وإلى أی مكان تنظرین
ینعی على الأمة الإسلامیة ماوصلت إلیه من ذلة وهوان أمام أعدائها
ویثیر الحماسة لاسترداد الحقوق المسلوبة , فیختم القصیدة
بهذا البیت الملیء حماسة :

أفما آن لنا یاأمتی ... أن نرد الصاع للمستهترین

الطول /
لم یحدد القدماء طولاً معیناً للقصیدة ,
وكان شعراء العرب یمیلون إلى القصائد القصیرة لأسباب فنیة
واجتماعیة ونفسیة
منها : الرغبة فی التنقیح , والاكتفاء بماقل ودل .
ومنها :أن القصیدة القصیرة أروج وأسیر عند الحفاظ والرواة .
ومنها : حرصهم على تجنیب السامع السآمة والملل .

والمعدل المألوف الذی اتفق علیها شعراء المعلقات
ومن بعدهم حتى العصر الأموی یراوح بین ( 20--> 50 بیتاً ).

فالطول یحدد باعتبار المتلقی وباعتبار الوقت وكذا القائل
ویحدد بالتجربة الشعریة والثروة اللغویة .
وبالغرض من القصیدة , وبالوزن والقافیة , وكان ابن الرومی
یمیل إلى الأوزان والقوافی التی تساعد على إطالة القصیدة .

الوحدة :

وهی إما موضوعیة أو عضویة

1-الوحدة الموضوعیة :
إذا كان النص فی موضوع واحد , فهو ذو وحدة موضوعیة
فتكون القصیدة مدحاً أو وصفاً أو رثاءاً ......., وأغلب
الشعراء القدماء لم یلتزموا بوحدة الموضوع .
ولیست وحدة الموضوع أن یكون النص مدیحاً أو غزلاً
أو رثاءاً فحسب بل أن یكون النص مراعیاً مقتضى الحال
أی ( الغرض الأساس من القصیدة ).

2-الوحدة العضویة :
فلابد أن تكون عملاً فنیاً تاماً , فهی كالجسم الحی یقوم
كل قسم منها مقام جهاز من أجهزته , ولایغنی عنه غیره
فی موضعه إلا كما تغنی الأذن عن العین أو القدم عن الكف
أو القلب عن المعدة .
ومن علامات الوحدة العضویة براعة الأسلوب القصصی الذی
یساعد على الترابط والتلاحم فی القصیدة .

والوحدة العضویة فی الأدب القصصی أصل من أصوله
ولایجوز إهماله ولایمكن أن یسمى العمل الأدبی قصة بدونه
لأن القصة مبنیة على تلاحم الأجزاء مرتبة تعتمد على توالی
الأحداث وتأثیرها فی نفوس المتلقین .


الحدیث عن أبی تمام ..

الإسلام فی شعره .. بقلم: صدقی البیك

إنه حبیب بن أوس الطائی، خرج من إحدى قرى حوران فی جنوب سوریة، وأصبح شاعر المعتصم ومن حوله من القواد والولاة.


وإذا بدأنا بقصیدته (فتح عموریة) وجدناها تزخر بهذه المفاهیم، فالأبیات التی تفتتح بها القصیدة تمثل مفهوماً إسلامیاً واضحاً وهو محاربة الشعوذة وادعاء علم الغیب «كذب المنجمون ولو صدقوا» فلو كانت هذه الأجرام السماویة تدل على المستقبل لكشفت ما بمعالم الكفر:


لو بینت قط أمراً قبل موقعه
لم تخف ماحل بالأوثان والصلب

ولكن النصر الذی وفضح زیف المنجمین وكذبهم، كان فتحاً مبیناً وعملاً صالحاً یتقبله رب السماء.

فتح تفتح أبواب السماء له
وتبرز الأرض فی أثوابها القشب

وعندما یخاطب المعتصم یبین له أن مافعله كان رفعاً لنصیب الإسلام وقعراً لعمود الشرك، فالمعركة بین الإسلام والشرك، وأحدهما فی صعود والآخر فی انحدار:

أبقیت جد بنی الإسلام فی صعد
والمشركین ودار الشرك فی صبب

ویتمنى لو أن الكفر كان یعلم أن عاقبة أمره مرهونة بسیوف المسلمین من زمن سحیق، وأن ذلك التدمیر والإیقاع بالعدو هو من تدبیر رجل یعتصم بحبل الله وكل عمله لله:

لو یعلم الكفر كم من أعصر كنت
له العواقب بین السمر والقضب

تدبیـر معتصم بالله، منتقـم
لله، مرتقـب فی الله مرتغـب

ویختم قصیدته بالدعاء للخلیفة بأن یجزیه الله خیر الجزاء على ما قدمه من الخیر والنصر للإسلام، فإن هناك رابطة قویة تشد هذه المعركة إلى أختها فی بدر.

خلیفة الله جازى الله سعیك عن
جرثومة الدین والإسلام والحسب

فبین أیامك اللاتی نصرت بها
وبین أیـام بدر أقرب النسـب

قصة فتح عموریة

فی تاریخ الطبری 9 \ 56-57 و الكامل فی التاریخ 6 \ 479 و ما بعدها , و النجوم الزاهرة 2 \ 238 .فی الحدیث عن السبب فی غزو المعتصم بالله لعموریة :



خرج توفیل بن میخایل ملك الروم إلى بلاد المسلمین فی سنة ثلاث و عشرین و مئتین , و أوقع بأهل زبطرة و غیرها , و یقال :



قتل من بها من رجال و سبى الذریة و النساء , و أغار على أهل ملطیة و غیرها من حصون المسلمین , و سبى المسلمات , و مثل بمن صار فی یده من المسلمین و سمل أعینهم , و قطع أنوفهم و آذانهم .



فبلغ الخبر المعتصم فاستعظمه , و كبر لدیه , و بلغه أیضاً أن إمرأة هاشمیة صاحت و هی أسیرة فی ید الروم :



وا معتصماه !



فأجابها و هو جالس على سریره :



لبیك لبیك !



و نهض من ساعته , و صاح فی قصره :



النفیر النفیر



ثم ركب دابته , و سمّط خلفه حقیبة فیها زاده , فلم یمكنه المسیر إلا بعد التعبئة , و جمع العساكر , فجلس فی دار العامة و أحضر قاضی بغداد و آخرین من أهل العدل , فأشهدهم على ماله فجعل ثلثاً لولده و ثلثاً لله تعالى و ثلثاً لموالیه .

ثم سار فعسكر بغربی دجلة للیلتین خلتا من جمادى الأولى و و وجه مجموعة من قواده إلى زبطرة معونة لأهلها , فوجدوا ملك الروم قد إنصرف عنها إلى بلاده , بعدما فعل ما فعل , فوقفوا حتى تراجع الناس إلى قراهم و اطمأنوا .

فلما ظفر المعتصم ببابك قال : أی بلاد الروم أمنع و أحصن ؟ فقیل : عموریة , لم یتعرض لها أحد منذ كان الإسلام , و هی عین النصرانیة , و هی أشرف عندهم من القسطنطینیة . فسار المعتصم إلیها و قیل : كان مسیره فی سنة اثنین و عشرین , و قیل : أربعة و عشرین , و تجهز جهازاً لم یتجهزه خلیفة قبله قط من السلاح , و العدة و الآلة , غیرها

و لما علم بذلك الروم فقالوا :

و الله إنا لنروی أنه لا یفتحها إلا أولاد الزنا !

و إن هؤلاء أقاموا إلى زمان التین و العنب لا یفلت منهم أحداً !

فبلغ ذلك المعتصم فقال :

أما "إلى وقت التین و العنب " فأرجو أن ینصرنی الله قبل ذلك , و أما" أن یفتحها أولاد الزنا " فما أرید أكثر ممن معی منهم

فجهز جیشه و أعد عدده و خرج للغزو .

و یقال : لما نزل المعتصم على عموریة هجم الشتاء , فأرسل إلیه أهلها أن عموریة لا تفتح إلا بعد نضج التین و العنب .

و یقال : أن بعض من كان بعموریة من الرهبان قال :

إنا نجد فی كتبنا أنه لا یفتح عموریة إلا ملك یغرس فی ظهرها التین و الكرم , و یقیم حتى تثمر , فأمر المعتصم بأن یغرس التین و الكرم فكان فتحها قبل ذلك .

و یقول السیوطی : و كان لما تجهز المعتصم بالله لغزو عموریة حكم المنجمون أن ذلك طالع نحس , و أنه یكسر , فكان من نصره و ظفره ما لم یخفَ ( انظر : تاریخ الخلفاء ص 336 ) .

قلنا أن المعتصم تجهز جهازاً لم یتجهزه خلیفة قط من السلاح و العدد , و توجه إلى بلاد الروم , فأقام عند نهر اللمیس فیها , و هو عند سلوقیة قریباً من البحر و أراد المعتصم أن یوقع الرعب فی قلوب الروم قبل أن یصل إلى عموریة و لهذاّ دبّر النزول على أنقرة , فإذا فتحها الله علیه صار إلى عموریة , إذ لم یكن مما یقصد له فی بلاد الروم أعظم من هاتین المدینتین , و الأحرى أن تجعل غایته التی یؤمها .

و تمكن من تدمیر أنقرة أسر جنودها و قتل فرسانها و سبی نسائها ثم جعل العسكر ثلاث عساكر میمنة و میسرة و قلب و أمر كل عسكر أن یكون له میمنة و میسرة و امرهم ان یحرقوا القرى و یخربوها و بأخذوا من لحقوا فیها ففعلوا حتى وافوا عموریة , و داروا حولها و قام المعتصم بتقسیم عموریة بین قواده , و جعل لكل منهم أبراجا منها على قدر أصحابه , و علم أن موقعا من المدینة وقع سوره من سیل قد أتاه , فبنی وجهه بالأحجار و لم یدعم ما وراءه فرأى المعتصم ذلك المكان فأمر فضربت له خیمة هناك و نصب المجانیق على ذلك الموضع , فانفرج السور عن ذلك الموضع و اندفع المسلمون و هم یكبرون , و تفرقت الروم عن أماكنها و قد غلبهم الرعب فجعل المسلمون یقتلونهم فی كل مكان حیث وجدوهم , و أخذ المسلمون من عموریة أموالاً لا تعد و لا توصف , فحملوا منها ما أمكن حمله , و أمر المعتصم بتهدیم أبراجها , و إحراق ما بقی منها , و إحراق ما بقی من المجانیق و الآلات كی لا یتقوى بها الروم على شیء من حرب المسلمین , و كانت إقامته فی عموریة خمسة و عشرین یوماً لا غیر .
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:58|
شاعر الجلال عباس محمود العقاد


یعتبر العقاد ظاهرة أدبیة وفكریة خارقة فی دنیا الفكر والأدب فهو كالجاحظ أدیب موسوعی لم یقصر نشاطه على حقل من حقول المعرفة وإنما سعى إلى الثقافة ككل ونظر إلیها على أنها كل لا یتجزأ.

والذی یبهر فی هذا الكاتب عصامیته فهو إن اكتفى فی تعلمه النظامی بنیل الشهادة الإبتدائیة فقد كدح فی سبیل المعرفة كدحا وأخلص فی طلبها مضحیا بالزوجة والولد ومتاع الدنیا مكتفیا بما یسد الرمق ویحفظ ماء الوجه.

وأما الصفة الثانیة الباهرة فیه فهی حبه للحریة وإیمانه بأنها أساس الصلاح فی الفرد وتعلقه بالحریة دفعه إلى الذود عن كرامته والاعتزازبنفسه حتى لكأنه أحد آلهة الإغریق. ولقد كان لویس عوض على حق حین قال :" صورة العقاد عندی لا تختلف عن صورة هرقل الجبار الذی یسحق بهراوته الأفاعی والتنانین والمردة وكل قوى الشر فی العالم" مارس العقاد النقد والتراجم والمقال وأخرج كتبا آیة فی تحری الدقة العلمیة والحقیقة مستعینا بقلمه السیال وبثقافته الجبارة فی شتى شؤون المعرفة. فلقد عرف العقاد بالعبقریات وبقصة سارة وبالدیوان فی الأدب والنقد وبسیرته الذاتیة "أنا" وبهذه المؤلفات شاع بین الباحثین والأساتذة والطلبة. غیر أن الثابت أن الذی كان یحز فی نفس الأستاذ العقاد- رحمه الله- أنه لم یشع كشاعر وأن شهرة حافظ وشوقی كانت تؤلمه أعمق الألم ، ولاغرو فی ذلك فالعقاد یرى أن الشعر مقتبس من نفس الرحمن وأن الشاعر الفذ بین الناس رحمن أولیس هو القائل

والشعر من نفس الرحمن مقتبس

والشاعر الفذ بین الناس رحمن

بلى فالشاعر تفضی إلیه ألسنة الدنیا بأسرارها فهو روح الوجود وضمیره والشاعر أعلى درجة من غیره ومن وصل إلى هذه المرتبة فقد حقق أعظم مأرب فی الحیاة.

ولقد أخرج العقاد عدة دواوین شعریة وأعطاها عناوین تتماشى وسنی عمره " یقظة الصباح" "وهج الظهیرة" " أعاصیرمغرب" " أشجان اللیل" ودیوان آخر رصد فیه وقائع الحیاة الیومیة على عادة شعراء الغرب أسماه " عابر سبیل". ویجدر بنا قبل التطرق إلى شعر العقاد أن نعرف موقفه من الشعر فلقد عرف الكاتب الشاعر بخصومته العنیفة لأنصار شعر التفعلیة ولما كان عضوا بالمجلس الأعلى للآداب والفنون ومقررا للجنة الشعر كان یحیل قصائد التفعلیة على لجنة النثر للاختصاص فلقد حارب هذا النوع من الشعر وكان یسمیه الشعر السائب . فهو من المحافظین على عمود الشعر دون الخروج على الأوزان الخلیلیة فالوزن والقافیة هما حدا الشعر وما یمیزه عن النثر، والشاعر الفذ هو الذی یعبر عن أفكاره وأحاسیسه محافظا على الوزن والقافیة دون أن یحد الوزن من قدرته التعبیریة ، إن الشعر عند العقاد فن محكوم بالقیود وهو مناورة بها یتمیز الشاعر عن الشویعر والشعرور.

ولم یقف العقاد عائقا أمام سنة التطور فالتجدید فی الشعر ضرورة من ضرورات العصر وقد مارسه أجدادنا فأبدعوا الموشحات والأزجال والمجزوء ومخلع البسیط ونوعوا القوافی حتى تتأتى المرونة فی التعبیر وتتحقق المتعة الفنیة ویتحاشى السأم من الرتابة المملة فی الوحدة، وهكذا مارس العقاد التجدید فی الشعر بتنویع القافیة واستعمال المجزوء والاستعانة بالأوزان الخفیفة فی الرمل والخفیف والمتقارب والمدید ، وأضاف الى ذلك قصر الشعر على الوجدان وقد كان شعار مدرسة الدیوان :

ألا یا طائر الفردو

س إن الشعر وجدان

وتحاشى المدیح الزائف والریاء الكاذب والمبالغة الحمقاء وفی دیوان " عابر سبیل" قصر الشعر على هموم الحیاة الیومیة كقصیدة الكواء، لیلة العید وفی هذا الدیوان بالذات قصیدة عن طفل صغیر شرب على وجه الخطأ (الجعة) البیرة فاستمرأها واستحلاها فیقول العقاد على لسان الطفل - وهو إمعان فی الواقعیة الشعریة والصدق الفنی- (البیلا البیلا ) عوض البیرة البیرة لأن كثیرا من الصغار ینطقون الراء لاما .

وهكذا فقارئ شعر العقاد یقف أمام عمارة نحتت أحجارها بإزمیل وأحجارها من جرانیت أسوان لا یبهرك الجمال فی تلك العمارة بقدر مایبهرك الجلال فالعقاد كما یرى تلمیذه زكی نجیب محمود شاعر الجلال ، ولنا فی تفسیر نزوع الشاعر هذا المنزع رأی مستمد من التركیبة النفسیة للعقاد المنبهرة بالبطولة الممجدة للأبطال ولعل قامته الهرقلیة وعصامیته الأسطوریة زادتا فی تقدیره لنفسه ومواهبه ومن ثمة إعجابه بشخصه وهو موقف یؤدی بصاحبه إلى العزلة فی جبل الأولمب مع آلهة الإغریق ویصبح الجلیل والعظیم هو ما ینزع إلیه ذلك الشخص ولسنا ننفی صفة الجمال الفنی فی شعره ففی بعض قصائده لمحات فنیة جمیلة إقرا شعره فی وصف الشاعر واكتناه أغوار نفسه واستمتع بكلماتها الفنیة الجمیلة:

    یجنی المودة مما لاحیــــــاة لــــــــه
    إذا جفاه من الأحیـــــاء خـــوان
    ویحسب النجم ألحاظا تساهـــــــــره
    والودق یبكیه دمع منـــه هتــان
    إذا تجهم وجه الناس ضاحكــــــــــه
    ثغرالورود ومال السرو والبان
    تفضی له ألسن الدنیا بما علمــــــت
    كأنما هو فی الدنیا سلیمــــــان
    والشعر ألسنة تفضی الحیاة بهـــــــا
    إلى الحیاة بما یطویه كـتــمــان
    لولا القریض لكانت وهی فاتنـــــــة
    خرساء لیس لها بالقول تبــیــان
    مادام فی الكون ركن فی الحیاة یرى
    ففی صحائفه للشعر دیـــــــوان

وفی قصیدة " العقاب الهرم " وهی قصیدة موحیة بمعانی العظمة المقهورة بالزمن، إنها قصة عقاب هرم فعجز عن الصید وصارت فرائسه تمرح أمامه نظرا لعجزة، وینسحب هذا المعنى على الأشخاص العظماء والدول الكبرى إنه الجلال عندما یشیخ، یقول الشاعر عن العقاب:

    یهم ویعییه النـــهــــوض فیجثــــــــم
    ویعزم إلا ریشه لیس یعــزم
    لقد رنق الصرصور وهو على الثرى
    مكب وصاح القطا وهو أبكم
    یلملم حدبـــاء الــقــدامــــــى كـــأنـــها
    أضالع فی أرماسها تتهشــــم
    ویثقله حمل الجـنـاحیـــــن بعــدمـــــــا
    أقلاه وهو الكاسر الـمتقــحــم
    إذا أدفأته الشمـس أغفـــــى وربمــــــا
    توهمها صیدا له وهو هیثــــم
    لعینیك یا شیخ الطــیـور مـهــــابـــــــة
    یفر بغاث الطیر عنها ویهـزم
    وما عجزت عنك الــــغـــداة وإنـمـــــا
    لكل شباب هیـــبة لا تهـــــرم

وفی قصیدته عن "أسوان" وقصرها الفرعونی العتیق الذی زاره الشاعر هنا نقف أمام الجلالین جلال المعمار الهندسی وجلال التعبیر الفنی عند الشاعر یقول العقاد:

    رعى الله من أسوان دارا سحیــــقة
    وخلد فی أرجائهــا ذلك الـقـصـــــرا
    أقام مقام الطود فیهـا وحـــــولـــــه
    جبال على الشــطـیـن شــامخة كبـرا
    ولیلة زرنا القصر یعـلـــو وقــــاره
    وقار الدجى الساجی وقد أطلع البدرا
    قضى نحبه فیه الزمـان الذی مضى
    فكان له رسمـا وكان لـــــه قــبـــــرا
    فیاوجه "أوزیریس" هــلا أضــأتـها
    وأنت تضئ السهل والجبل الـوعرا
    فما رفـعـــت إلا إلــــیــك تــجــلـــة
    ولا رفعت إلا إلى عرشك الشـكـــرا
    ولست ضنینا بالضــیــــاء وإنــمـــا
    لكل إله ظلمة تحجــــــب الفــكـــــرا

واحص مفردات العظمة والجلال فی هذا المقطع من مثل : الطود، شامخة ،كبرا، وقاره، قضى نحبه فیه الزمان، تجلة، رفعت إله ……إلخ أما ناقدنا الكبیر الدكتور شوقی ضیف فیری أن العقاد أقحم الفكر والمنطق فی الشعر فجاءت قصائده دلائل منطقیة ومسائل عقلیة لغلبة الفكر والحجاج على الكاتب الشاعر العقاد وأنت واجد مثل هذا فی شعره. إقرأ هذا المقطع معی لتقع على صحة هذا الرأی :

    وهذا إلى قید المحبة شاخـــــص
    وفی الحب قید الجامح المتوثـــــب
    ینادی أنلنی القید یا من تصوغه
    ففی القید من سجن الطلاقة مهربی
    أدره على لبی وروحی ومهجتی
    وطوق به كفی وجیدی ومنـكـبــــی
    ورب عقیم حطم العقــــم قیــــده
    یحن إلى القید الـثـقیل عــلـى الأب

فهذه فلسفة عمیقة تؤكد أن لا حیاة بلا ضرورة وأن القیود مهماز القریحة والإرادة الانسانیة . أما هذا المقطع فهو زبدة التأمل والتفكیر لا یتأتى إلا لأولی الفكر والحجاج:

    والعقل من نسل الحیاة وإنما
    قد شاب وهی صغیرة تتزین
    والطفل تصحبه الحیاة وماله
    لب یصاحب نفسه ویلقــــــن
    إن العواطف كالزمام یقودنا
    منها دلیل لا تراه الأعیـــــن

على أن فی بعض قصائد العقاد غنائیة شجیة استلها من مكنون ضمیره وسلخها من تباریح وجدانه وآهات نفسه وقل فی الشعر العربی من بلغ هذه الغنائیة الحزینة حتى المتنبی الذی یقول :

    یا ساقیی أخمر فی كؤوسكما
    أم فی كؤوسكما هم وتسهید؟
    إن طلبت كمیت اللون صافیة
    وجدتها وحبیب النفس مفقود
    یقول العقاد
    ظمآن لا صوب الغمـــــــــــــام ولا
    عذب المدام ولا الأنداء تروینی
    حیران حیران لا نجم السمــــاء ولا
    معالم الأرض فی الغماء تهدینی
    یقظان یقظان لا طیب الرقاد یـــــدا
    نینی ولا سحر السمار یلهینــــی
    غصان غصان لا الأوجاع تـبـلینی
    ولا الكوارث والأشجان تبكـینی
    سأمان سأمان لا صفو الحیـــاة ولا
    عجائب القدر المكنون تعنینــــی
    أصاحب الدهر لا قلب فیسعدنـــــی
    على الزمان ولا خل فیأسونــــی
    یدیك فامح ضنى یا موت فی كبدی
    فلست تمحوه إلا حین تمحونـــی

وبعد فهل العقاد شاعر ؟

وجو ابنا نعم إنه شاعر ولئن طغت شهرته كناقد وقصصی و كاتب مقالات و باحث فی سیر العظماء فلن نبخسه حقه فی إلحاقه بمملكة الشعر ، ونزعم أن له فی وادی عبقر الهاتف الذی یزین له زخرف القول وفی تقدیرنا أن الشعر الحدیث الذی جدد بهاءه وأحیا مواته البارودی وحافظ وشوقی ، ونفخت فیه روح الحیاة جماعة "أبولو" بروما نسیتها الحزینة والرابطة القلمیة بانطلاقتها الوثابة، إن هذا الشعر بحاجة إلى دواوین العقاد وإن موقفه من الشعر صحیح سلیم ولو أنه یفهمه كما فهمه كبار شعراء الإنجلیز ودیوان " عابر سبیل"یعتبر فتحا فی الشعر العربی بعد أن عفر جبینه أحقابا أمام قصور الخلفاء فالشعر صورة من الحیاة ونسل مبارك من رحمها وفی الحیاة أطیاف ومشاعر و طرائق قدد یتسع لها الشعر جمیعا بما فیها الفكر وثمار العقل وهذه هی أهمیة العقاد كشاعر.

ولعل نقیصته الوحیدة تحامله الشدید على شوقی لسبب نفسی أكثر منه فنی ثم حملته الشعواء على شعر التفعیلة الذی توطدت دعائمه وبذخت صروحه وكان فتحا جدیدا فی حیاتنا الأدبیة.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:57|
إشكالیة الحداثة فی القصیدة العربیة الحدیثة


" كما أن الخیال یُجسِّم صور الأشیاء الغیر معروفة، فإن یراع الشاعر یُحیلها إلى أشكال ویمنح، الأشیاء الشفیفة حیزا محدودا ویجعل لها اسما " ـ شكسبیر ـ

لكل عصر همومه، ومشاكله وقضایاه، والإنسان مُطالَبٌ فی كل عصر بأن یواجه الحیاة بما یلائمها من سلوك، ومن خلال هذه المواجهة تتجذّر قیم العصر وتتبلور مُثُلُـه؛ والمواجهة هنا مُعاصَرة الحیاة من ناحیة، ومواجهتها بعلاقات، وسلوكات فردیة وجماعیة تتجدد باستمرار فی نسقها.

والتجدید من سنن الكون، والإنسان معنی دائما بالتجدید والتحدیث والعصرنة لما تنطوی علیه هذه العناصر من تقدم، وتطور تسمح بتحقیق مستوى أفضل من العیش. والتقدم مجالاته عدیدة، وغیر مقتصرة على الجانب المادی وحسب؛ إنما یطال المجالَ الروحیَّ والنفسیَّ للإنسان، وإحداث التوازن بین المجالین المادی والروحی، وإذ یستهدف أیضا الارتفاع بمستوى العقل الإنسانی والمعرفة الإنسانیة، لِـمَا تهدف إلیه من تحقیق ذاتیة الإنسان، وإبراز مواهبه، واحتضانها، وتوظیفها لخیر الإنسانیة، وتفجیر طاقاته الكامنة مما ینتج عنه فرصُ الإبداع والابتكار،واتساع المجالات التی یتجلى فیها ذلك الإبداع وخصوصا فی میادین الإبداع الأدبی والفنی.

إن المقصود بالإبداع هنا..الإبداع البَنَّاء الذی یستند إلى جذور الأمة،ورقیها وتطلعاتها المعاصرة، فالتلازم ضروری بین الأصالة والحداثة..وهذا التلازم لا یتحقق إلا بفعل الإبداع،لأن الإبداع هو ماهیة الفن،والفن شكلٌ ومضمونٌ، فالشكل هو صیغة التعبیر، والمضمون هو الموقف. وما تعبیر الحداثة فی الأدب والفن إلا مرادف لتعبیر الإبداع.والدعوة إلى الأصالة فقط تؤدی إلى تقلید التراث، وتكراره وفی ذلك جمود الفن وزواله، والدعوة إلى المضمون فقط یؤدی إلى إخراج العمل الفنی عن معناه.لكی یصبح بوق دعایة لاتجاهٍ فكری، أو سیاسی أو عقائدی
الإبداع الأصیل

ما دمنا سنقتصر فی هذا المقال على العملیة الإبداعیة فی الأدب وما یعْتوِرُها من دعوات حداثویة لكی تسایر عصرها هذا، فإن العملیة الإبداعیة النظیفة، والصادقة فی الأدب هی عبارةٌ عن تشكیل جدید للعالم وللحیاة،وفق منظور المبدع، ونوازعه، ورؤاه الخاصة.

ومن العبث أن تتحول تلك العملیة إلى تصورات تحمل فی طیاتها بواعث الهدم،ونوازع الشر فی النفس البشریة، ویتحول العمل الإبداعی إلى مِعْول یهدم القیم الإنسانیة، والأخلاق الاجتماعیة، وتفكیك عُرى الروابط، والضوابط التی تحكم الحیاة؛ فالأدیب المبدع یُشْترَطُ فیه أن یكون خیّراً ذا عاطفة رقیقة،محبا للإنسانیة،مدركا لضعفها البشری، ذا نفس تفیض حبا وحنانا، متذوقة للجمال، وقادرة على إشعاعه لدى الآخرین؛ ومنْ فقد هذه الممیزات، لا یستحق أن یكون فی صف المبدعین. وانطلاقا من هذه الخصائص، یمكن القول بأن العملیة الإبداعیة،هی تلك الحالة المركبة من إحساس،ومشاعر وانفعالات، وعملیات عقلیة ونفسیة معقدة،یعیشها المبدع ویعاینها،فتفرض علیه اختیارات معینة تظهر فی أثَرٍ إبداعی معین.
الفنان المبدع

وقد یقترب هذا الرأی من قول المرحوم المفكّر اللبنانی الدكتور "حسین مروة " فی وجوب توفیر خصائص معینة فی الفنان المبدع:

« الفنان المبدع لا بد أن نلاحظ فی إبداعه النزعةَ الجمالیةَ، الأداة الجمالیة، التعبیر والصیاغة، ثم الأداة المعرفیة التی تطور أداة التعبیر والصیاغة، ثم النبع العاطفی والوجدانی الذی یصدر عنه الأدب الإبداعی،هذا شیء أساسی فی الفن.. فی الفن المكتوب، والمسموع، أو المقروء، أو المرسوم.
الإبداع من خصائصه الإدْهاش

وعلى هذا فالإبداع فی الأدب لابدّ أن یتضمن التجدید، فالإبداع من خصائصه الإدهاش، والمفاجأة.. أن یحمل الغیرَ المتوقعَ.. الشیء الجدید الذی یفتح العین، ویدع المتلقی یعید النظر فیما یقرأ.. الإبداع یفتح عین المتلقی.. یدهشه.. یذهله..یحلق به إلى عوالم أخرى..عوالم فسیحة..

التجدید فی الأدب معناه ابتكار ما هو غیر مألوف.. إدهاش الغیر بالتجدید البنّاء الذی یهزّ النفس، ویغذی الروح. ومن أجل ذلك فإن ظاهرة التجدید، والتحدیث فی المجال الفنی والإبداعی دائما تتجلى أولا فی أعمال الأدباء، وتطال ظاهرة التجدید كل الفنون التی یبدعها الإنسان،إلا أنها تبرز أكثر فی الشعر – لكونه فنا یأتی فی مقدمة هذه الفنون، ولیس فی الفن تقلیدٌ، فالفن جدید ومتجددٌ دوما،لأن الفن لیس علما بالدرجة الأولى، ولكونه موهبة یستمد منها العلمُ نظریاته.

فالأشكال الفنیة،والأسالیب المتبعة تعبیریا،لا یمكن أن تخضع للقواعد والمناهج النظریة، وإنما تنبع من ذات الفنان فتعبر عن شخصیته، فكم من أعمال فنیة رائعة عاشت آلاف الأعوام،فی حین ماتت أعمال أخرى یوم رأت النور مباشرة. والعمل الفنی لا یعیش إذا لم تكن له شخصیة تمیزه عن الأشكال الفنیة الأخرى، وإنْ تقارب معها فی النسق واللون..
عندما یكون الشعر موقفا..!!

إن الشعر حالةٌ وجدانیةٌ فكریةٌ، یتركز فیها الذهن على نقطة معینة من صورة.. من فكرة..من قضیة والشعر تعبیر عن العاطفة، وما یثیر فی النفس من دقائق الشعور وما یؤثر فیها من صور الجمال، وحقائق الحیاة؛ وهو من أجل ذلك یتأثر بالعصر، وبالبیئة، وبظروف الحیاة التی تتطور باستمرار. فالضرورة تستلزم أن یرافق تطورَ الحیاة تطورٌ مماثلٌ فی الفنون، وخصوصا فی الفن الشعری لكونه یأتی فی مقدمة هذه الفنون كما سبق. والتجدید فی الشعر، والافتتان فی إبداعه شكلا ومضمونا یقتضی التحدث عن إشكالیة " الحداثة " التی تُُعتبر هاجسا طبیعیا فی الأدب والفن. معْنى الحداثة فی الإبداع الأدبی

مصطلح الحداثة وافدٌ علینا فی العالم العربی كأغلب الاتجاهات الفنیة المعروفة، ویعنی المصطلح لدى البعض من المبدعین الأدباء،الدخول فی تجاربَ تتعلق بالبناء الشكلی للقصیدة وخصوصا،اللغة وهذا بالطبع على حساب المضمون الكیانی للقصیدة،لكوْن القصیدة فی رأی هذا البعض،تنتمی إلى تجربة، ولا تنتمی إلى شرح أو تحلیل.

المرحوم الدكتور إحسان عباس لا یوافق على هذا الرأی، إذْ یرى بأن عالم الفن والإبداع أكبرُ وأسمى من أن یتحول إلى مختبر للتجارب، فعالم الفن غایته الوصول إلى نَتاجٍ فنی إنسانی راقٍ،إذ هو أشبه ببناء لشیء جدید من أشیاء أخرى،إنما انطلاقا من یقین مسبق بأن هذا البناء سیُفْضی بالتأكید فی النهایة إلى تحفة فنیة رائعة،عكس العالم فی مختبره،بین یدیه مواد مختلفة یجعلها مادة لتجاربه المتكررة دون یقین مسبق بالوصول إلى نتیجة معروفة،أو شیء جدید معلوم بالتأكید منذ البدایة.

والأدیبة المعروفة " غادة السمان " تؤكد على أن لكل فنان كل الحقوق بما فیها حق التجربة، وحق المعاصرة،وصولا إلى حق الرداءة.لكنها تقنِّـن هذا الحق، وتضع له قیودا حتى لا یتحول إلى تعسف، والتعسف كما هو معروف فی استعمال الحق المضر بالغیر،یعتبر جُـرْما.

ولطالما أن الأدباء.. یختلفون فی أحقیة التمتع بهذا الحق التجریبی، وهم یبدعون فلنبق مع مصطلح الحداثة فی مضمونه الشعری، حیث هو مغامرة عفویة تفیض بالحدس والكشف عن إدراك خاص للعالم إدراكا یهدم نظام التصورات المألوفة لیعید توزیعها، وبناءها من جدید.. فالحداثة تنزِع الأشیاء المألوفة من كیانها المعتاد، وتعمل على بنائها من جدید فی سیاق آخر مدهش وغیر متوقع، قد یدهش المتلقی ویثیره من خلال تفجیر أقصى طاقة إیحائیة وانفعالیة لدیه، بحیث یدرك معنى إعادة ترتیب التجربة الإنسانیة، وإعادة تكوینها وتفسیرها من جدید.

فلا ضیْر ألا یرى البعض من النقاد والأدباء فرقا بین العملیة الإبداعیة وممارسة الحداثة فی العمل الفنی والأدبی لكونهما مغامرة عفویة تفیض بالحدس، والكشف عن عوامل أخرى. یعید الفنان المبدع إعادة صیاغتها فی تجربة إنسانیة مدهشة تفجر طاقات إیحائیة وانفعالیة لدى المتلقی،فالحداثة تعنی حضور التوهج الشعری، ونحن نتكلم عن الشعر
ضرورة التجــدید

إن الوزن والقافیة فی القصیدة العربیة العمودیة عملٌ تنظیریٌ تَوصّل إلیه الخلیل بن أحمد،لأن الشعر العربی كان سباقا على هذا التنظیر بمئات السنین، فالأوزان، والقوافی المعروفة لدینا الیوم لا تعدم توصّل العرب قبل الخلیل بن أحمد إلى أوزان أخرى.. هذه الأوزان لدینا الیوم، لا تستنفد إمكانات الإیقاع، وإمكانات التشكیل الموسیقی الذی قد یظهر لاحقا فی اللغة العربیة، وإنما ما هو معرف لدینا یُمثل ما استخدم، واستقر فی التراث الأدبی، وما عُـرف فی الثقافة العربیة المعاصرة.

ویؤكد هذا الرأی وإن كان فی سیاق آخر الشاعر العراقی شفیق الكمالی الذی یرى:

« أن الشعر العربی الذی وصلنا إلى أیام الخلیل بن أحمد لیس كل الشعر العربی الذی قیل، فالكثیر من هذا الشعر ضاع،ویجوز أن یكون بین هذا الذی ضاع أعداد كبیرة من هذه القصائد التی تُعتبر ُغیر موزونة.وهذه امتداداتها موجودة الآن فی شعر البادیة. وإذا كان الشعر هو الانتماء للعفویة والبراءة المطلقة والطیران فی فضاءات الحریة وولوج الزمن، وإعادة تشكیل الحیاة المألوفة فی عالم آخر سحری،ألیس من حق الشاعر أن یرفض اتجاها یقال: إنه صالح لكل زمان ومكان؟ »
بناء القصیدة الجدیدة

وعلیه فإن تحریر الشكل الشعری من كل شرط سابق، أو قالب مسبق، یفترض دائما شكلا معینا لكل قصیدة، وأن الشكل لا یعنی الوزن والقافیة أو انعدامهما بالضرورة. إن الحداثة فی الشعر الحدیث تقتضی أكثر من وزن وقافیة، فالشكل الحدیث هو حركة القصیدة، وطریقة تكونها، ومراحل نموها،وعلاقة أجزائها ببعضها البعض، والأصوات الداخلیة فیها، والإیقاع الموسیقی فیها.

ولئن كانت الحداثة الشعریة تجدیدا فی الشكل والمضمون للقصیدة العربیة الحدیثة، فإنها لا یمكن أن تُـبنى فی فراغ تراثی، أو حضاری إنما تجمع بینهما، والفنان المبدع من استطاع حقا التوفیق بین العصر والتراث، وهی إشكالیة تباینت فیها مواقف الشعراء والنقاد، إذ یرى البعض من هؤلاء أن الحداثة ذات بعد شكلی ( شكلی لغوی ) وحسبْ، وقد لا یربط البعض بین موقف المبدع من اللغة، وبین موقفه من الحیاة، والبعض الآخر یعتبر الحداثة (موقفا) و(رؤیا) شمولیتین من الحیاة والزمن بأبعاده الثلاثة.

غیر أننا نعتقد أن الحداثة كلٌّ متكاملٌ..رؤیة شمولیة بُنیویة لقصیدة تشمل فی الأساس موقف الشاعر، ورؤیته الفلسفیة الفكریة من الوجود والمجتمع؛ ولذا فإن أی موقف لغوی شكلی،لا یعنی إطلاقا أن الشاعر أصبح حدیثا،ما لم یكن له موقف ورؤیا تتسمان بالحداثة، وبقدر ما تنطبق الحداثة فی الإبداع من حقائق اللغة، وحیویة الفكر، و تجاوز المبدع لأطر الزمان والمكان، والبیئات، والأفكار السائدة والمستقرة لكون الحداثة الإبداعیة متغیرةٌ باستمرار و إلا ما اعتبرت حداثة.
الحداثة لا تعنی الفوضى..

والحداثة الإیجابیة بالطبع تنْحو نحْو الخیر، وتُقاوم الشر فی كل صوره،ولا تعنی الحداثة أبدا الدخول فی فوضى التجریب والعمى عن رؤیة الواقع، أو الإعراض عن القیم والثوابت للأمة،إذ لابد من تحقیق الأصالة، والمسؤولیة التاریخیة، والاستفادة من التراث؛ لأن الرغبة الجامحة والعمیاء فی تحطیم القیم النبیلة تعسفٌ فی استعمال حقٍّ خاصٍ قد یؤدی بالغیر إلى الضرر.

والحداثة لا تعنی التجردَ من الغائیة، فكل إبداع یتم ویتشكل بمعزل عن الحیاة ذاتها مآله العدم،لأنه إبداع دون غایة، أو هدف إنسانی. ولن ینمو فی الآخرین أیضا بل یظل حبیس المغامرة الفردیة،لأن الإبداع لا یكون بهذه الصفة ما لم یعبر عن حالات، وأوضاع إنسانیة راصدا ومبرزا المتغیرات النوعیة التی تطرأ على الحضارة،بما یخدم التطور البشری، ویفتح آفاقا جدیدة یرتادها الآخرون من أجل حیاة أفضل.
الشاعر الفنّان الأصیل

إن التطلع إلى الحداثة فی شتى مجالات الأدب والفن أمرٌ مشروعٌ،إنما یقتضی انتقاء موضوعیا مرتبطا بقیم الأمة وتطلعاتها ومكانتها.والمرحوم الشاعر العراقی " عبد الوهاب البیاتی " یشترط فی الشاعر الأصیل عدة شروط یحددها كما یلی:

« الشاعر الأصیل یُولد من خلال المعاناة وینمو وینضج ببطء،معانقا الواقع والتحولات فی تاریخ أمته وشعبه،لا أن یستعیر أزیاءه وأدواته من تراث الأمم الأخرى ».

حقا إن الشاعر الأصیل هو الذی قلبه وعقله لتاریخه وثقافته وتراث أمته،حریصٌ دائما على تجاوز الذات،ساعٍ إلى الإضافة لهذا التراث وهو الذی یعتبر نفسه استمرارا لمجد الشعر العربی لا مهدما له،والشاعر الأصیل الذی یعتبر نفسه حداثویا لابد من أن یعترف بأن السابقین له مثّلوا هذه الحداثة بدورهم فی زمانهم،وسیصبح هو یوما كالسابقین،مما یتحتم علیه قراءة آثارهم وتمثّلها والتشبع بما تركوه من كنوز فكریة وأدبیة،ومعرفة الحد الذی وصلوا إلیه فی محاولاتهم الأدبیة،وإبداعاتهم الحداثویة،حتى لا یعتبر نفسه الرائد الأول فی التجدید،إو یبذل طاقات هدرا، غیر مستفید مما قام به غیره.

وكما یقول الناقد الأدبی جهاد فاضل:<< فالشعر ولید حمّى روحیة وحریق مشتعل فی النفس،فإذا لم یكن الشعر من وحی هذا الجحیم فعبثا یكتب صاحبها (النفس) نثرا وغیر نثر>>؛

والشاعر العظیم كالقدیس،كالبطل،كالعاشق،كالقمر لا یخفى وهو شاعر بعنایة الغیر أو بدون عنایتهم،بل إن زهده بالعلاقات العامة وإهماله لها یزیده شعرا ویزیده قدْرا والكلام بالطبع للناقد الأدبی السالف الذكر.

على أن الدكتور خلیل حاوی یلخص تلك الحمى الروحیة،وذلك الحریق المشتعل فی نفس الشاعر فیما یسمى بـ:الرؤیا الشعریة << الرؤیا الشعریة هی نوعٌ من المعرفة التی تتخطى نطاق العلم المحدود بالظاهر المحسوس،وتنافس الرؤیا الشعریةُ الفلسفةَ وتتغلب علیها فی مجال الكشف والخلق والبناء ,وهی سمة الشاعر الأصیل الذی لا تلمح وراء نتاجه شبحا من أشباح أسلافه أو معاصریه،وهی القدرة على صهرها بما یستمده من نتاج الآخرین وطبعه بنظرته الخاصة إلى الوجود وطریقته فی التعبیر >>.

هذه خصائص الشاعر الأصیل،الشاعر المجدد،المدرك لمفهوم الحداثة الحقة،وكل المبدعین والنقاد مُجْمِعون على أهمیة التجدید فی الفنون الأدبیة وعدم الوقوف فی وجه تیار الحداثة، فالدكتور"طه حسین" یرى أن النزعة نحو التجدید فی الأوزان والقوافی دعوةٌ غیر منكرة،بل إنها لیست دعوة جدیدة،فقد سبق إلى التجدید شعراء من العرب وشعراء من غیر العرب،وإنما الجدیر بالبحث فی الشعر الجدید هو البحث عن توافر الأسس التی یجب مراعاتها فی الفن الشعری،والخصائص التی ینبغی أن تتحقق فیه،ولا یمكن أن نعد هذا الجدید شعرا إلا إذا قام على تلك الأسس،وتوافرت فیه تلك الخصائص واستطاع أن یمتعنا وأن یؤثر فی نفوسنا الأثر الذی نعرفه لهذا الفن ونتوقعه منه ویحدد للشعر شروطا هذه بعض منها:

« فالشعر یجب أن یُبهِر النفوس والأذواق بما ینشئ فیه الخیال من الصور ویجب أن یُسحِر الآذان والنفوس معا بالألفاظ الجمیلة التی تمتاز أحیانا بالرصانة وتمتاز أحیانا أخرى بالرقة واللین وتمتاز كل حال بالامتزاج مع ما تؤدیه من الصور لتنشئ هذه الموسیقى الساحرة التی لا تنشأ من انسجام الألفاظ فحسب،ولا من التئام الصور نفسها، أو بینها وبین الألفاظ التی تجْلوها،بحیث لا یستطیع السمعُ أن ینبوَ عنها،ولا تستطیع النفس أن تمتنع علیها،ولا یستطیع الذوق إلا أن یذعن لها ویطمئن إلیها ویجد فیها من الراحة والبهجة ما یرضیه ».

لكن الخوف على الشعر العربی كله قدیمه وحدیثه من هؤلاء المبدعین للحداثة والعصرنة، الحداثة الرافضة لكل الأصول،حداثة بدون تاریخ،حداثة بدون خصوصیة،حداثة ترفض التراث، حداثة تتعالى عن الاعتراف بالشعراء السابقین قدیما وحدیثا،وهی ظاهرة سلبیة برزت فی كل البلاد العربیة وأصبحت تطلع علینا الصفحات الثقافیة كل یوم ببعض من هذا الشعر الذی یخلو من كل مواصفات الشعر الأصیل،حتى سارت ظاهرة ما لیس شعرا هو الشعر.

واستولت الطفیلیات على الجوهر،لتغطی الظاهرةُ الشعریةُ الحدیثةُ ما أسْموْه بتفجیر اللغة وكذا الركاكة والغموض وشعر اللاقول..

شعرٌ كهذا هو الذی أطفأ التوهج الشعری وأوقف تلك الجاذبیة السحریة لدى المبدع والمتلقی معا.یقول المرحوم الدكتور " زكی نجیب محمود" فی مجال رثائه لهذا الشعر الذی یفتقد كل تواصل بین الناس والخالی من الموقف الإنسانی،وعظمة الشعر القدیم::<< إنك تقرأ الشعر الجاهلی فتتابع أصحابه بالفهم والتقدیر،أما ما هو مصیر هذا الشعر الملغّز الرامز بعد أن تكون مرت علیه القرون والقرون، فلا أحد یدری منذ الآن، هل ستظل له قوته وعمق أثره حین لا یكون حول الناس ما یضیء لهم هذا اللغز وذلك الرمز؟…هذا هو السر الكبیر. »

ثم كیف یكون الشاعر من لا ینحنی متواضعا أمام الأسماء الكبیرة،ومن لا یشعر بالضآلة أمام العبقریات الشعریة الخالدة.. ویعترى الخوف الشاعر الكبیر" محمود درویش" وهو یرى هذا السیل الجارف من قصائد ادّعت وتدّعی الحداثة فی حین تحمل فی خبایاها مَعاول الهدم لأسس الشعر العربی،فیصرخ درویش بأعلى صوته:

« ما جرى للشعر العربی؟ إن سیلا جارفا من الصبیانیة یجتاح حیاتنا،ولا أحد یجرؤ على التساؤل:هل هذا شعر؟ نحن فی حاجة للدفاع لیس فقط عن قیمنا الشعریة بل عن سمعة الشعر الحدیث الذی انبثق من تلك القیم لیطورها لا لیكسرها،حتى شمل التكسیرُ بدافع الإدراك أو لجهل اللغة ذاتها،فكیف تطور الحداثةُ الشعرَ بلا لغة وهی حقل عمل الشاعر وأدواته،هل شرح لنا الذین لا یعرفون لغتهم ماذا یعنون بالمصطلح الدارج:تفجیر اللغة؟ »

ویعزو " محمود درویش " عزوف الناس عن الشعر ومقتهم للشعر الحدیث إلى هذا النوع من الإدعاء الشعری،ولأنه شاعرٌ أصیلٌ وعربیٌ یعنیه تاریخه وتراثه،ولا یعتبر التجدید والحداثة مرادفین للعدمیة وللثورة المضادة،فإنه یصرخ:

« قد نهدئ من روع الناس بالإشارة إلى أن تاریخ الشعر حافل بالتطاول والادعاء،لولا أن تراكم الركاكة واللاشیء وضیاع المفاهیم الخاصة بالشعر الحدیث قد أضاعت من الناس مفاتیح القراءة والتمییز،وبخاصة أن الشعر العربی الحدیث لم یحقق بعد شرعیته الشعبیة ».

وتؤید هذا الرأی فی سیاق آخر الشاعرة العراقیة " نازك الملائكة " فتقول:

« یعانی شعرنا المعاصر من مجموعة إشكالات منها التعمیة والتقلید وأخطاء الوزن وضعف اللغة واستعمال اللغة العامیة »

..وهی عیوب تشین القصیدة وتطفئ فیها توهجها الشعری الجذاب.فالشعر الأصیل تعبیر عن العاطفة وما تزخر به النفس البشریة من زخم الشعور،وما یؤثر فیها من صور الجمال وحقائق الحیاة،وهو من أجل ذلك متـأثر بالبیئة والعصر وبظروف الحیاة المتغیرة دوما فكم من قصیدة اكتسبت صفة الحداثة والتجدید فی كل عصر وقد مرَّ على قولها مئات السنین بل آلافها…كهذه الأبیات الخالدة لأبی الطیب المتنبئ… الزمن یمر وهی دائما متجددة فی بنائها ورؤاها وموقفها من الحیاة والناس:

إلى كـمْ ذا التخلـفُ والتـوانـی * وكـم هذا التمادی فی التمادی

وشغـل النفـس عن طلب المعالی * بیـع الشعـر فی سوق الكساد

فالموت أعذر لی والصبر أجمل بی * والبَـرُّ أوسع والدنیا لمَنْ غَـلَبَا

إنها رجفة الثورة وروح الكبریاء والعزیمة القویة لدحر الذل والهوان والدنیا لمن غلب،ألیس هذا هو منطق العصر الحاضر؟ ألیست هذه قاعدة العلاقات الدولیة حالیا؟ ألیست هی المعادلة المختلة التی تحكم علاقات الأقویاء بالضعفاء فی عالمنا الیوم؟

وهو صاحب الآمال العظام التی ما أحوجنا الیوم للعمل جمیعا قصد تحقیقها:

فـلا تحسبن المجد زقا وقـنینـة * فما المجد إلا السیف والفتكة البكر

وهو القائل:

فـلا مجد فی الدنیا لمن قل ماله * ولا مال فی الدنیا لمن قل مجـده

وهذا الشاعر السعودی "حمزة شحاته" یتغنى بالربیع الدائم الذی ألفه مجسدا فی فتاته الحسناء:

لا تقولی مضى الربیـع وولّـى * إنـه فیـك دائمــا یـتـجـدد

لم یـزل عطـره یفتح خدیْـك * ویُلقی عـلى الطبیعـة ظـلـلا

ورؤاه تبـدو بـعینیـك سحـرا * یستفـز الهوى خیـالا مـطـلا

وجمـالا شـاب الزمـانُ هیـاما * بهـواه ولـم یـزل فیـك طفلا

وهذا الشابی أبو القاسم یصیح فی الشباب صیحته المدویة التی یستنهض بها الهمم ویشد بها العزائم…صیحة قیلت منذ عشرات السنین وكأنها قیلت الیوم:

أُبـارك النـاس أهـل الطموح * ومَـنْ یستـلذ ركـوب الخطـر

وألـعـن من لا یمـاشی الزمان * ویقـنع بالعـیش عیـش الحجـر

هـو الكـون یحیـا بحب الحیاة * ویحـتقـر المیـت المنـدثــر

وهذا الشاعر المصری مرسی جمیل فی قصید عنوانه "إیقاعات" غنته المطربة فیروز:

لم لا أحـیا… وظـل الورد یحیا فی الشفـاه

ونـشـید البلبـل الشـادی حیـاة لـهـوای

لـم لا أحیـا وفـی قلـبی وفی عینی الحیاة

یا رفیقـی نحـن من نـور إلى نـور مضینا

ومع النجـم سـرینا ومـع الشمـس أتـینـا

أین ما یُـدعى ظـلامـا یا رفیق اللیل أینـا؟

إن نـور اللـه فی القـلــب وهـذا ما أراه

الشعر الأصیل شعرٌ یستوقفك فورا بنوع من الضراوة،بنوع من التحدی فلا تجد نفسك إلا مجیبا للتحدی ولكنه تحدٍ جمیل..وهذا الدكتور الشاعر أحمد الشرقاوی یرفع التحدی فی أبیات من قصید عنوانه، وهكذا نحن افترقنا:

لـم نكن نحفل بالجـرح وأسـوار الحصـار

ولـذا كـنـا نـقـاوم

وحـلـفـنـا أن نبیع الحزن فی توق اللقاءات الرحیبة

ونـغـنـی للأمـانـی

ورفـعـنـا بیْـرقا للـشمـس من وعْـد التـحـدی

ونـثـرنــا الحـلـم فـی الأرض الـخـصـبـة

وحـصـدنـا الـفـجـر فـی رجْـع الأغــانـی

الشاعر أحمد عبد المعطی حجازی عبر عن حزنه منذ عشرات السنین یبكی ما آلت إلیه علاقاتنا ببعضنا البعض، أفرادا وجماعات وشعوبا،حالنا یشهد على ذلك:

أحلم یا مدیـنتی فیك بـحب هـادئ

یـمـنحـنی الراحة والإیـمــان

أحلم یا مدینتی فیـك بـأن نبكی معا

إذا بـكـت عـیـنـان

بــأن أسـیـر ذات یـوم قـادم

تحـت نهـار یـسعـد الإنسـان

ألیست هذه المعادلة التی افتقدناها نحن فی بلادنا فی وضعنا الجدید المتسم بحریة التعبیر والسلوك الفردی والجماعی المتعارض مع النُظم الاجتماعیة والمُخِل بقیم الحضارة والتمدن،فالدیمقراطیة المطلقة ألقت بنا فی وحل: كل یغنی على لیلاه؟

إن التجدید الرائع الذی قام به الشعراء الرواد ومَنْ أتى بعدهم وبمقدرة فائقة خلّدهم، إنما لمْ یرافقه دائما تجدیدٌ لمضمون القصیدة العربیة عند غیرهم.فالشاعر العراقی بدر شاكر السیاب وهو من الرواد یقول:<< لقد ثرنا على القافیة والوزن التقلیدیین لأسباب مِن أهمها تحقیقُ وحدة القصیدة ومنحها وحدة عضویة >>.غیر أن هذا قد لا یتحقق دائما حتى للشعراء الكبار.لنقرأ هذه الأبیات من قصیدة " سوق القریة " للشاعر عبد الوهاب البیاتی:

الشـمـس، والحُمُـر الهـزیلـةُ والـذبـابُ

وحــذاء جـنـدی قـدیـم

وصیـاح دیـك فـرَّ من قفص،وقدیس صغیر

والعائدون من المدینة: یالها من وحش ضریر

وخوار أبقار، وبائعة الأساور والعطور

فأیة وحدة فی القصیدة، وحدة یُضحّى من أجلها بالوزن التقلیدی والقافیة وجزالة الأسلوب؟ أیة متعة هذا الهُراء اللفظی؟ وأی إیقاع شعری فی هذه الصور المتشرذمة؟

إن الحداثة بهذا الشكل وأْدٌ بشعٌ للفن واغتیالٌ مقزّز للشعر العربی، لكن عظمة الشاعر عبد الوهاب البیاتی وریادته فی حركة الشعر العربی المعاصر تُعفیه من هذه الكبوة.

أبیات أخرى لشاعر من تونس الشقیقة یلهث وراء الحداثة ولكن أیة حداثة؟

حدس أخضر..

یقتفی نصْب عینی

ولا ینتفی أبدا

كالدم المترقرق طوعا

برافد عمری

كوعد عنود

وهذه أبیات أخرى فی نفس السیاق لشاعر من وطننا الجزائر، من قصیدة له عنوانها:المدینة

حـجــرٌ فــوق الـمـدیـنـة

فـوقـــه نـأی .. وطـفـــل

یـتــدلّى بیـن نجمـات حزینـة.

كــل ما فی جـبـة الأرض قـتـیـل

رجل الشارع.. أبواب البیوت المستكینة.

وإذ نخلص من النماذج الشعریة التی استعرضناها،إلى أن الشاعر الأصیل بإمكانه أن یبدع،وأن یقدم للإنسانیة أروع القصائد الشعریة كیفما كان الشكل الذی یختاره،وأن یسمو بفنه إلى أعلى مراتب الخلود،وأن یرتفع بمتلقّی فنه إلى أعلى آفاق المتعة والتذوق الجمالی. وإذا كانت الحداثة فی الأدب وخصوصا فی الشعر لا تتوقف عند الظاهرة الإیقاعیة ومضمون القصیدة لكونه یرمز إلى غائیتها كموقف حیاتی ورؤیا للواقع،فإن المحور الأساسی للتعبیر عن ذلك هی اللغة.هذه الوسیلة السحریة لولوج العوالم المغلقة،لأنها الظاهرة الأولى فی كل عمل فنی یستخدم الكلمة أداة للتعبیر؛ فاللغة هی أول شیء یصادفنا،وهی النافذة التی من خلالها نطل على حدیقة الفن الشعری ومن خلالها تتفتح حواسنا على هذه الحدیقة.والشعر هو استكشاف دائم لعالم الكلمة،واكتشاف مستمر للوجود عن طریق الكلمة،ومن أجل ذلك كان الشعر فی رأی الدكتور عز الدین إسماعیل:<<هو الوسیلة الوحیدة لغنى اللغة العربیة وغنى الحیاة على السواء.والشعر الذی لا یحقق هذه الغایة الحیویة لا یمكن أن یسمى شعراً>>.

الحدیث عن ظاهرة العصرنة،وإشكالیة الحداثة فی الأدب و الفن وخصوصا فی الشعر العربی ممتعٌ وشیقٌ وذو شجون..موضوعٌ خصبٌ یبقى دائما مادة ثریة لجلْب اهتمام المفكرین والمبدعین،ومن لهم شغف بعالم الإبداع وسرّ الكلمة،

والخلاصة أن الشعر شعرٌ أیا كان شكله، ولا یمكن أن یكون الشعر جیدا لأنه جدید حر، أو شعرا سیئا لأنه قدیم…إن الشعر هو الشعر الجید بغض النظر عن الشكل الذی یقدم به، والأمر المهم هو إدراك الشاعر لوظیفة الشعر ومعرفته للإیقاع الشعری فی أی شكل والذی هو نبض التصور الإبداعی عند الشاعر.ومدى الحرارة،ومدى الصدق الفنی، ومدى الفیض الوجدانی الذی یعبر به كتابة،ومستوى الأداة التعبیریة القادرة على أن تُخرج هذا الفیض الوجدانی بصورة فنیة جمیلة عالیة المستوى سواء كان موزونا أم غیر موزون، أم غیر مقفى.

الكلمة إن توفرت لها شروط الخلود،وكتب لها القدر أن تعیش تصبح أبدیة، وتصیر ملكا للتاریخ ومكسبا للإنسانیة،وبقدر ما نستوعب مفهوم الإخلاص لهذه الإنسانیة، نقترب بالفعل بهذا الكنز الثمین منها،وهو ما تدعونا إلیه روح الإبداع لكی نستلهم منه مزیدا من التحرر والتفتح والكشف لخبایا الحیاة.. والشعر فن إنسانی رائد.
ملاحظة

الإحالات

ـ الدكتور عز الدین اسماعیل. الشعر العربی المعاصر.ط2 /1972 دار العودة ودار الثقافة.بیروت.

ـ أ.جهاد فاضل. قضایا الشعر الحدیث.دار الشروق /بیروت.

ـ الدكتور بدوی طبانة. التیارات المعاصرة فی النقد الأدبی. دار الثقافة /بیروت 1985

ـ مجلة الفكر التونسیة – العدد العاشر – جویلیة 1984.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:57|
محمود درویش وأبو فراس: تشابه التجربة



كتب محمود درویش قصیدة عنوانها (من رومیات أبی فراس) ظهرت فی دیوان (لماذا تركت الحصات وحیدا) (1995). لیست هذه هی المرة الأولى التی یستلهم فیها درویش تجربة شاعر عربی قدیم، لیعارضها، كما فعل مع شخصیة امرئ القیس، وهی أول شخصیة تراثیة خصص لها قصیدة، هی قصیدة (امرؤ القیس)، وقد ظهرت فی دیوانه (یومیات جرح فلسطینی) (1969)، وتخلى عنها إذ لم یدرجها فی أعماله الشعریة الكاملة، أو لیتماثل معها، كما فعل مع شخصیة المتنبی فی قصیدته (رحلة المتنبی إلى مص) التی كتبها فی العام 1980، وظهرت فی مجموعته (حصار لمدائح البحر) (1984) وثبتها فی أعماله الكاملة، ولم یتنصل منها. وما بین قصیدة (امرؤ القیس) وقصیدة (رحلة المتنبی إلى مصر) أفاد درویش من قراءته للشعر العربی القدیم، كما أفاد منها فی مرحلة متأخرة أیضاً بشكل لافت، حتى یمكن القول إن استحضار الشاعر للشعراء العرب القدامى والجدد أیضاً، مثل السیاب ودنقل، أخذ یبرز بروزاً لافتاً فی أشعاره الأخیرة التی كتبها بعد العام 1992، تاریخ صدور دیوانه (أحد عشر كوكبا على آخر المشهد الأندلسی). ففی دیوانه (لماذا تركت الحصان وحیدا؟) استحضر شخصیة أبی فراس، وشخصیة امرئ القیس ثانیة، وخصص لكل واحد منهما قصیدة، وفی دیوانه (سریر الغریبة) (1999) استحضر شخصیة جمیل بثینة وقیس بن الملوح، وفی (جداریة) (2000) استحضر المعری، وفی (لا تعتذر عما فعلت) (2003) استحضر أبا تمام والمتنبی والمعری، وفی (كزهر اللوز أو أبعد ) (2005) استحضر الأعشى وآخرین. وفی (أثر الفراشة) استحضر سطر تمیم بن مقبل الذی كان استحضره من قبل فی (حصار لمدائح البحر) وفی (أحبك أو لا أحبك) (1971).

زمن الاستحضار:

ربما یثیر المرء، وهو یدرس قصیدة (من رومیات أبی فراس) أسئلة عدیدة أبرزها: لماذا استحضر درویش شخصیة الحمدانی؟ هل استحضرها لیعارضها، كما فعل مع امرئ القیس، أم استحضرها لیعبر من خلالها عن تجربته هو، لأنه یتماثل معها، كما فعل مع المتنبی ومع أبی تمام أیضاً، وإن كان استحضارها للأخیر لا یعود إلى تشابه التجربة، بل تشابه درویش، فی فترة من حیاته، مع بیتی شعر أبی تمام، بخاصة مع الثانی:

    نقل فؤادك حیث شئت من الهوى
    كم منزل فی الأرض یألفه الفتى
    ما الحب إلا للحبیب الأول
    وحنینه، أبداً، لأول منزل

وإذا كانت تجربة درویش تتماثل، فی فترة ما، جزئیاً، مع تجربة الحمدانی، فهل كان استحضاره لها فی العام 1995 موفقاً؟ أم كان یجدر به أن یستحضرها فی زمن آخر، فتجربة درویش والحمدانی تتشابه حین كان درویش یقیم فی حیفا، لا بعد أن غادرها فی العام 1970، ولا یوم كتب القصیدة فی العام 1995. قبل الاستطراد فی إثارة الأسئلة والإجابة عنها وإضاءة ما لم یُضأ یجدر تبیان مواطن التشابه بین الشاعرین فی تجربتهما.

أسر أبو فراس فی فترة من حیاته وأنفق سنوات من شبابه فی زنازین الروم الذین حاربهم، وهناك كتب قصائد عدیدة وجهها إلى سیف الدولة یخاطبه فیها أن یفتدیه وأن یخلصه من الأسر، ولم یسرع سیف الدولة فی تلبیة الطلب، بل تباطأ، ما أثر على أبی فراس وجعله یعبر عن حزنه وآلامه وأشجانه فی قصائد جمیلة خاطب فیها أمه وغیرها، وأتى فیها على حیاته فی الزنزانة وبعده عن الأهل وشوقه إلى بلده.

وسجن محمود درویش فی أثناء إقامته فی حیفا، وكتب وهو فی السجن قصائد عن تجربته، أبرزها قصیدته التی وجهها إلى أمه، فذاعت وانتشرت. ولم تختلف رؤى درویش وتطلعاته، وهو تحت الاحتلال، إلى الخلاص، آملاً أن یساعد العرب فی الخارج عرب فلسطین تحت الحكم الإسرائیلی بهذا – أی الخلاص.

ثمة تشابه إذن بین التجربتین، تجربة السجن من عدو أجنبی، والأمل بالتحرر وطلب المساعدة من أبناء جلدتهما – أی العرب، وثمة شعور بالخیبة. ولعل خطاب الأم وكتابة القصائد لها، وهما فی السجن، من أبرز الأشیاء المشتركة.

كما ذكرت استحضر درویش شخصیة امرئ القیس لیعارضها، فقد كان درویش ابن اسرة فقیرة، خلافاً لامرئ القیس ابن الملك، وكان درویش لا یبحث عن ملك، كما فعل امرؤ القیس، وكان فهمه للشاعر ودوره مختلفاً عن فهم امرئ القیس. ثمة تعارض مواقف لاختلاف المواقع، وثمة زمنان أیضاً مختلفان.

وكما ذكرت أیضاً فقد استحضر درویش شخصیة المتنبی لیعبر من خلالها عن تجربته، فقد تشابهت التجربتان فی مرحلة من مراحل حیاة درویش، وكان المتنبی قناعاً له. وكتب درویش قصیدته فی اللحظة التی مر بها بالتجربة المشابهة لتجربة المتنبی، ولم یكن هناك هوة تفصل الزمن الكتابی عن الزمن الشعری الواقعی المعیش. وهذا ما لم یتم حین كتب درویش قصیدته (من رومیات أبی فراس)، فزمنها الشعری مسترجع، وثمة فترة سبعة وعشرین عاماً ما بین الأسر / الزمن الشعری وزمن الكتابة – الزمن الكتابی. وإذا ما ذهبنا إلى أن درویش فی (لماذا تركت الحصان وحیدا؟) یكتب سیرته شعراً، وقد ذهب هذا المذهب نقاد عدیدون، أدركنا أن كل مجموعة من القصائد التی أدرجت تحت عنوان تعود إلى فترة زمنیة من حیاة درویش. فالدیوان یتألف من ستة عناوین رئیسة، كل عنوان یمثل مرحلة من مراحل حیاة الشاعر: مرحلة الطفولة والهجرة، فمرحلة المراهقة، فمرحلة الشباب، فمرحلة النضج الشعری والعیش فی العالم العربی، فمرحلة مدرید وأوسلو. وسیعود محمود درویش فی كتابه (فی حضرة الغیاب)(2006) لیكتب نثراً، بالأسلوب نفسه الذی اتبعه فی الدیوان، سیرة حیاته، فكل فصل من (فی حضرة الغیاب) استرجاع لمرحلة زمنیة معینة من حیاته، وقد أبرزت هذا فی مقال عنوانه: سؤال الزمن.

فی العام 1995 إذن، عام كتابة (من رومیات أبی فراس) یستحضر درویش واقعة سجنه وهو فی حیفا قبل العام 1970. ولا یكتب هذا بأسلوب مباشر، بل إنه یعبر عن تلك التجربة من خلال قناع. وإذا كانت أنا المتكلم فی (رحلة المتنبی إلى مصر) هی أنا أنا المتنبی، وأنا درویش معاً، فهی كذلك فی (من رومیات أبی فراس)، ولكنها لیست واحدة – أی أنا متطابقة – فی قصیدة (امرؤ القیس).

استلهام، شخصیة أبی فراس من قبل:

ثمة دراسات عدیدة أنجزت تناول اصحابها فیها، بشكل عام، استدعاء الشخصیات التراثیة فی الشعر العربی المعاصر، أبرزها كتاب علی عشری زاید (استدعاء الشخصیات التراثیة فی الشعر العربی المعاصر) ( 1977 ط1، 1997 ط2 ) وكتاب خالد الكركی(الرموز التراثیة العربیة فی الشعر العربی الحدیث) (1989 ط1) وكتاب إبراهیم نمر موسى (آفاق الرؤیة الشعریة). (دراسات فی أنواع التناص فی الشعر الفلسطینی المعاصر) (2005) وكتاب (التناص فی الشعر العربی الحدیث: السیاب ودنقل ودرویش نموذجاً) (2006) لعبد الباسط مراشدة، ولم یقف أصحابها، فیما یلحظ، أمام شعراء استلهموا شخصیة أبی فراس، ما یعنی أنه إذا ما قورن بشاعر معاصر له، هو أبو الطیب المتنبی، بدا غیر تأثیر على الشعراء الذین لحقوه، وحین یعرف أن الدكتور الكركی خصص كتاباً كاملاً لدراسة حضور أبی الطیب المتنبی فی الشعر العربی المعاصر، هو كتاب (الصائح المحكی: صورة المتنبی فی الشعر العربی الحدیث) (1999)، أدركنا أن أبا فراس لم یلفت نظر شعرائنا المعاصرین كما لفت نظرهم معاصره أبو الطیب المتنبی. هل محمود درویش، إذن، هو أول شاعر عربی فی ق20 یستلهم شخصیة أبی فراس؟ لا. فقد استلهمه، من قبل، الشاعر العراقی عبد الوهاب البیاتی فی دیوانه " الموت فی الحیاة "(1968)، فی قصیدة عنوانها (رومیات أبی فراس)، وتوقف أمامها سامح الرواشدة فی كتابه شعر عبد الوهاب البیاتی والتراث (1996).

تجربة الحب لدى الشاعرین:

شاعت قصیدة أبی فراس (أراك عصی الدمع) شیوعاً لافتاً فی ق 20، وما ساعد على ذلك، غیر إدراجها فی المناهج المدرسیة فی بعض البلدان العربیة، ومنها الأردن، حین درسناها فی المدارس، ما ساعد على شیوعها قیام سیدة الغناء العربی أم كلثوم بغنائها بصوتها، ما جعل أبا فراس معروفاً للدارسین ولغیر الدارسین. فإذا كان الدارسون، بخاصة دارسو الأدب العربی، درسوا أشعاره حین درسوا العصر العباسی، أو الحیاة الأدبیة فی حلب فی عصر سیف الدولة، أو الرومیات، فی مساق الرومیات، فإن غیر الدارسین ممن یستمعون إلى الغناء استمعوا إلى أراك عصی الدمع وطربوا لمعانیها، وربما حفظوا بعض أبیاتها،.

طبعاً نحن نعرف أن درویش، قبل أن یكون مستمعاً إلى أم كلثوم، كان قارئاً فاحصاً ومدققاً للشعر العربی القدیم. ولا نحتاج إلى دلیل یخبرنا عن سماعه أم كلثوم، فقد خصص لها فی كتابه (أثر الفراشة)(2008) قصیدة.

فی (أراك عصی الدمع) یعبر أبو فراس عن تجربة حب مرّ بها، ویبدو أنه لم یكن موفقاً فیها، فالمحبوبة كان لها غیر عشیق: (أیهم فهم كث)". لیس هذا هو المهم هنا، فالمهم هو ما یكمن فی السؤال التالی: هل كان لأبی فراس تجربة حب مع امرأة رومیة، حین كان أسیراً فی بلاد الروم؟

فی مسلسل عن أبی فراس عرضته القنوات العربیة فی السنوات الأخیرة، ما یشیر إلى أنه كان على صلة مع امرأة رومیة، وما یدعم هذا قوله:

    وشادن من بنی كسری شغفت به
    لو كان أنصفنی فی الحب ما جـارا
    إن زار قصّر لیلی فی زیارتــه
    وإن جفانـی أطـال اللیل أعـمارا
    كأنما الشمس به فی القوس نازلة
    إن لم یزرنی وفی الجوزاء إن زارا

والشادن هو ولد الظبیة، فهل كان أنثى أم ذكرا؟

أحب محمود درویش أیضاً عربیات ویهودیات، وقد عبّر، فی غیر مقابلة أجریت معه، عن علاقته بالفتیات الیهودیات، وقد أتیت على هذا، فی دراسة عنوانها " بین ریتا وعیونی بندقیة "، وهی دراسة مفصلة، وذكرت فیها دراسات سابقة عالجت الموضوع. وفی أشعار درویش غیر قصیدة یتغزل فیها بریتا وشولمیت.

ما الذی أرمی إلیه مما سبق؟

فی قصیدة (من رومیات أبی فراس) یبوح أنا المتكلم بحبه، ویفصح عن علاقته بالفتاة التی أحبها، تماماً كما أفصح أبو فراس عن حبه لشادن من بنی كسرى. یقول أنا المتكلم فی قصیدة درویش:

    وزنزانتی اتسعت، فی الصدى، شرفة
    كثوب الفتاة التی رافقتنی سدى
    إلى شرفات القطار، وقالت: أبی
    لا یحبك. أمی تحبك. فاحذر سدوم غدا
    ولا تنتظرنی، صباح الخمیس، أنا لا
    أحب الكثافة حین تخبّئ فی سجنها
    حركات المعانی، وتتركنی جسدا
    یتذكر غاباته وحده ..

وفی المقابلات التی أجریت مع درویش ما یوضح الأسطر السابقة. فی المقابلة التی أجراها معه عباس بیضون ونشرت فی مجلة " مشارف : الحیفاویة، ( عدد3، تشرین الأول 1995 ) یرد ما یلی:

(أحببت مرة فتاة لأب بولندی وأم روسیة. قبلتنی الأم ورفضنی الأب. لم یكن الرفض لمجرد كونی عربیاً. ذلك الحین لم أشعر كثیراً بالعنصریة والكره الغریزی. لكن حرب 1967 غیرت الأمور. دخلت الحرب بین الجسدین بالمعنى المجازی وأیقظت حساسیة بین الطرفین لم تكن واعیة من قبل).

ما سبق یعزز أن أوجه التشابه بین تجربة الشاعرین فی فترة من حیاتهما كانت متشابهة لدرجة التطابق، وقارئ القصیدة، لولا شكلها الشعری الذی ینتمی إلى عصرنا، بالإضافة إلى استخدام مفردات لم تكن موجودة زمن أبی فراس، مثل القطار، یمكن أن یوحد بین درویش وأبی فراس، وقد یذهب، إذا قرأ القصیدة دون وضع اسم درویش علیها، إلى أنها بالفعل من رومیات أبی فراس.

ذكر الحمامة:

من قصائد أبی فراس المشهورة التی رددها قراؤه وتناولها دارسو الأدب العربی بالشرح والتحلیل قصیدة (أقول وقد ناحت بقربی حمامة)، وهی قصیدة یقول ظاهرها إن الشاعر، وهو فی الأسر، خاطب حمامة كانت تنوح. وبدت المفارقة لأبی فراس فی أنه هو الأسیر یضحك، فیم هی الطلیقة تبكی، ولیس فی هذا إنصاف من الدهر، إذ ماذا كانت الحمامة ستفعل لو كانت أسیرة مثل الشاعر وتعانی مما منه یعانی: الأسر والبعد عن الأهل والغربة؟ هل یجوز لنا أن نقول إن ثمة بُعداً رمزیاً فی القصیدة؟ هل الحمامة الطلیقة حمامة بالفعل أم أنها دال ذو مدلول رمزی، وبالتالی فإن المقصود بها – أی مدلولها – هو المرأة؟ هل یجوز أن نربط بین هذه القصیدة وقصیدة الشاعر آنفة الذكر: وشادن من بنی كسرى، وبالتالی بین أبی فراس والمرأة الرومیة التی أظهر مسلسله أنه كان على علاقة بها؟ هذه تساؤلات لیست أكثر. الشادن إن زار الشاعر قصیر لیله، وإن لم یزره طال لیل الشاعر، مثله مثل لیل عمر بن أبی ربیعة ولیل المتنبی الذی یطول لفراقه الأحبة.

سواء أكانت الحمامة حقیقیة أم رمزاً، فإن ما یهمنا هنا أنها كانت ذات حضور فی قصیدة درویش: (من رومیات أبی فراس)، وفی قصائد أخرى. یرد فی (من رومیات أبی فراس):

    وثمة ملح یهب من البحر،
    ثمة بحر یهب من الملح. زنزانتی
    اتسعت سنتمتراً لصوت الحمامة: طیری
    إلى حلب، یا حمامة، طیری برومیتی
    واحملی لابن عمّی سلامی!

كأننا هنا نُصغی إلى أبی فراس حقا. كأن المتكلم حقاً هو أبو فراس. لیس التشابه فقط فی مكان الزنزانة ووقوعها على الساحل – كلا الزنزانتین كانتا تقعان على ساحل البحر، وثمة ما هو مشترك هنا - هناك تشابه آخر: كلا الشاعرین ینتظر الخلاص من ابن لغته وأقربائه خارج حدود الزنزانة (السجن). وكثیرة هی قصائد أبی فراس التی یخاطب فیها ابن عمه حتى یفك أسره، بل إنه یعتب علیه لتلكئه فی ذلك. من ذلك قصیدة (أسیف الهدى) التی یقول فیها:

    ألست وإیاك من أسـرة
    وبینی وبینك فـوق النســب
     
    فـلا تعدلـنّ، فـداك ابن عـمـك،
    لا بل غلامك، عـما یجـب
    
    وأنصف فتاك، فإنصافه
    من الفضل والشرف المكتسب

الأم:

یكتب درویش، وهو یستحضر أبا فراس، یكتب على لسان الأخیر:

    ثمة أهل یزوروننا
    غدا فی خمیس الزیارات. ثمة ظل
    لنا فی الممر. وشمس لنا فی سلال
    الفواكه. ثمة أم تعاتب سجاننا:
    لماذا أرقْت على العشب قهوتنا یا
    شقی ؟

ولا أدری إن كانت أم أبی فراس زارته، وهو فی السجن فی بلاد الروم. غیر أن مما لا شك فیه أن أهل محمود درویش، وأمه منهم، قد زاروه فی السجن، وحملوا له معهم فی أثناءء الزیارة البرتقال (شمس فی سلال الفواكه). ومعروف أن درویش كتب قصائد إلى أمه أبرزها قصیدته (أحن إلى خبز أمی..) وقصائد محمود درویش لأمه تذكرنا بقصائد أبی فراس لأمه، وهی من عیون شعره، ومن أجمل قصائد الأبناء للأمهات فی الشعر العربی، فما من دارس لأبی فراس أو قارئ لقصائده إلا ترنم یقصیدته (یا أم الأسیر) التی منها:

    أیا أم الأسیر، سقاك غیث
    أیا أم الأسیر، لمن تُربّى
    إذا ابنك سار فی بر وبحر
    بكره منك ما لقی الأسیر
    ، وقد مت، الذوائب والشعور
    فمن یدعو لـه أو یســتجیر

وكما یعثر المرء فی دیوان أبی فراس على قصائد أخرى توجه فیها بالخطاب إلى أمه، فإن درویش فی (لماذا تركت الحصان وحیدا؟) یكتب قصیدة ثانیة لأمه هی (تعالیم حوریة) أتى فیها على علاقته بها ونصائحها له. هل كان دیوان أبی فراس، فی أثناء كتابة درویش دیوانه المذكور، واحداً من الكتب التی قرأها؟ أكاد أجزم بهذا.

المصیر الذی لا مفر منه:

فی قصیدته یكتب درویش:

    فلأكن ما ترید لی الخیل فی الغزوات:
    فإما أمیرا
    وإما أسیرا
    وإما الردى

نحن هنا نصغی إلى الشاعر المحارب، إلى أبی فراس. كأنه هو الذی ینطق. ألم یقل فی (أراك عصی الدمع):

    أسرت وما صحبی بعزل لدى الوغى
    ولكن إذا حُمّ القضاء على امرئ
    وقال أصیحابی: الفرار أو الردى
    ولكننی أمضی لما لا یعیبنی
    یقولون لی: بعت السلامة بالردى
    وهل یتجافى عنی الموت ســـاعةً
    ولا فرسی مهر، ولا ربّه غمر
    فلیس له بر یقیه ولا بحر
    فقلت: هما أمران أحلاهما مر
    وحسبك من أمرین خیرهما الأسر
    فقلت: أما والله، ما نالنی خسر
    إذا ما تجافى عنی الأسـر والضر؟
    …
    ونحن أناس لا توسط عندنا
    لنا الصدر دون العالمین أو القبـر

وإذا كان أبو فراس فارساً شجاعاً حارب وأسر، فإن وجود درویش فی بیروت فی العام 1982، وفی رام الله فی العام 2002، ما یقول لنا إنه كان شجاعاً، حتى لو لم یحمل السلاح ویقاتل. إن من یصمد فی أرض المعركة، فی بیروت أو فی رام الله، یملك من الشجاعة أیضاً الكثیر. إنه أسیر حتى لو لم یؤسر، فقد یموت فی أیة لحظة.

عزة أبی فراس فی قوله فی البیت الأخیر یصوغها درویش فی قصیدته فی الأسطر التالیة:

    وزنزانتی اتسعت شارعاً شارعین. وهذا الصدى
    صدى، بارحا سائحا، سوف أخرج من حائطی
    كما یخرج الشبح الحر من نفسه سیدا
    وأمشی إلى حلب. یا حمامة طیری
    برومیتی، واحملی لابن عمّی
    سلام الندى

وهل الرومیة غیر الرسالة (القصیدة لابن عمه)؟

(من رومیات أبی فراس) مثل (رحلة المتنبی إلى مصر) قصیدة یكتب فیها درویش عن تجربة مر بها تشابهت مع تجربة شاعر عربی، وهی مثل شعر أبی فراس قصیدة وجدانیة یبث فیها الشاعر أشواقه وأحزانه وآماله وآلامه، ویفصح عن ثقة بالمستقبل یتحلى بها.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:28|
ان الادارة المنهجیة للكشف عن نقطة الانطلاق المهمة فی تأسیس المفاهیم المركزیة والضرورة لفهم وتوضیح المنطق الیقینی فی حدود الوعی وانتقاله فی حدود الشعور .. وهو النداء الخفی الذی یتهدج بألق داخلی حدوده الحرارة ، والبراءة ، والالم وبواعث للایمان والرؤیا الدقیقة لحركة الواقع الدفینة ، والنضوج فی حدود الاضاءة لمساحات واسعة من الحیاة .. وهدوء العاصفة فیها ، وهی الاستثناء فی شخصیة الشاعر .. حیث الوتیرة المتصاعدة فی اشكالیة التحولات والحوافز فی العمل فی سیرة من التعبیر المعرفی وقد افضى هذا التوتر العلائقی الى نتائج من المستوات المهمة انتهت بالتجسید الحی – والتاریخی لفعل التعبیر – والسیرة فی رحلة التفجیر الشامخة ، وهی تشبه فی میسمها .. تفجر الثورة الابدیة فی العراق .. فكانت الولادة فی البیت الشعری بشكله العمودی المتجدد .. صاحب الفعل المنجز ودلالته وضوء الذی شع فأنار الطریق الذی تكامل بفعل الصدق فی التعبیر عن بدء من الداخل وهو (( الهدف والمعنى )) والمسلمة الراجحة داخل مرآة صافیة بعمق صفاء شاعرنا المبدع .
والاسطورة عند الجواهری تنطوی عند معنى لا یتحدد بعناصر مصنوعة او معرفة .. بل هی الرؤیة والطریقة التی تقوم بعملیة التنسیق بعدد من العناصر.
والاسطورة عند الجواهری دائماً تتعلق بعناصر الجمال من اللغة والبلاغة وهی مفاهیم تشكل الخلاصة لنتائج دقیقة فی الصیاغات الاسطوریة فی البحث عن خصائص عدیدة تتجاوز فی محركاتها .. خصائص اللغة والبلاغة .
والاسطورة عند الجواهری كائن حی ومتحرك یتكون من عدة تشكیلات فی الوحدات الاجتماعیة والصوتیة والنحویة والصرفیة والبلاغیة والدلالیة حیث یكون ( المفهوم اللغوی ) مفهوم اولی لعدة عینات وكیانات لمنطق السنی ، وهو المقوم الجدلی للكلیات ، لكنه خارج اطار عملیة الوعی الارادی .

یقول الجواهری :
فرّ لیلی من ید الظلم
فتخطانی ولم انم
كلما اوغلت فی حلمی
خلتنی اهوى على صنم
یستمد الوحی من المی
وینث الروح فی قلمی
آه یا احبولة الفكر
كم هفا طیر ولم یطر
فالبناء اللغوی ینمو وینهض فی حركات حیة ومحكومة بحركة ( زمكانیة ) للاسطورة یعزف لحناً حزیناً وبفاعلیة روحیة تحلق عالیاً متسامیة لتضیء المكان بفاعلیة التراكیب والتغییر الذی یحدث فی الدلالة بفعل الهواجس والمعنی فی مدارات من الفكر .
واللغة عن الجواهری تقوم على اشكالیة عقلیة وحیثیات منطقیة قائمة على النفس البلاغی والثروة اللغویة جاءت عبر الدراسة الدقیقة لمكونات النص الشعری وتعالیقه المتجددة نلاحظ ان هنالك مراحل فی طریقة البناء الفكری تعتمد على :
المنطق الروحی + عملیة التفكیر ومضامینها وما یتعلق بهذا التفكیر من حس اجتماعی وسیاسی دفین وعبر مضامین منطقیة تحددها التشكیلات الاسطوریة.
یقول الجواهری :
مرحباً یا أیها الأرق
فرشت أنا لك الحدق
لك من عینی منطلق
اذا عیون الناس تنطبق
لك زاد عندی القلق
والیراع النضوو والورق
ورؤى فی خالة القدر
عتقت خمرا لمعتصر ..
ان الفضاء الاسطوری عند الجواهری .. هو فرضیة محكمة تنتقل من الحس فی الزمان الى المكان المتداخل بصیغة الوعی المعرفی ومن الوعی فی الاستقلالیة فی التفكیر ینمو الموضوع فی الصورة دخل النص الشعری ، فیخرج ایقاعاً متوازناً ومتوازیاً مع خصائص الحیاة المركبة والمعقدة .. فالاسطورة عند الجواهری هی شحنات من انسجة ایقاعیة تغطی العمود الشعری وتبرز لفخامته البلاغیة والحسیة بصیغة وتراكیب وخصائص وقوانین فی سیاقات ابتداء النص الشعری عبر محمولها المنطقی وما تحمله البنیة للاسطورة لهذا العمود من احتكام الى تنظیم فی الوحدات الصوتیة والعلاقة بینهما .
ان اعتماد الجواهری على امتلاكه للحس التراثی والتشكیل الحداثی راح یعتمد فی نسجه الشعری على منطق الخلق البارع للاسطورة فی صورة حسیة اعتمدت المنطق فی قیاسها وفی علاقة وصیغ ( فینومینولوجیا ) فالجواهری اعتمد الفحص المستمر حتى للأسس التی تنحو المنحنى العلمی والمعرفی لقیمة المنطق فی نظرته الى الواقع الاجتماعی المعاش .
یقول الجواهری :
أنا عندی من الأسى جبل
یتمشى معی وینتقل
أنا عندی وان خبا أمل
جذوة فی الفؤاد تشتعل
انما الفكر عارما یظل
ابد الآبدین یقتتل
قائد ملهم بلا نفر
حسرت عنه رایة الظفر
فاذا دققنا فی قصائد الجواهری نجد هذا الزخم الهائل والمتحول من الفكرة الاسطوریة الى صور تأخذ قوانینها من قوانین الاسطورة الى الشد الذهنی والجو المشحون بالفكرة الطریة التی یخلقها الشاعر عبر هذه المكونات الذهنیة والتی تفصح عن وحدات تركیبیة ( الاسى والجبل یتمشى وینتقل ) ان الاستقلال اللغوی والبلاغی والذهنی الذی شكله النص الشعری اعطانا تنظیم من العلاقة العضویة فی القول والحركة والصورة والاسطورة ، ومن العلاقات الالسنیة فی تداخلها التولیدی الذی یحكم الترابط فی الوحدات داخل القصیدة .
فاللغة عند الجواهری هی تحلیل ( انثربولوجی ) كما هو عند ( شتراوس ) لانه نمو ینهض بكیان اسطوری عبر شتى التكوینات الطبیعیة والاجتماعیة .
یقول الجواهری :
یا أم بغداد من عدوى تأنقها
مشى التبغدد حتى فی الدهاقین
یا دجلة الخیر ما یغلیك من حنق
یغلی فؤادی وما یشجیك یشجینی
وتتولد الصورة بهذا التعبیر وهذا التغیر الذهنی فی الایقاع الاسطوری والبیت الواحد من القصیدة یعطیك الصورة المتداخلة من خلال شعاع اسطوری (لخیال وهتاف) یشد السامع الى وحدة فكریة وهی تحمل عدة تعابیر فنیة دقیقة وهی التی یتضمنها التعبیر عبر عدة معاییر بتحصیل الصیغ المعرفیة بأطر موسیقیة متدافعة ومتدفقة داخل البیت الشعری الواحد وهو یتقابل بلقطات مركزة من الموسیقى الداخلیة تطرز البیت بالحان ونغمات تؤطر التركیبة الحسیة للبیت لتنظیف جمالاً اسطوریاً غریباً .
یقول الجواهری :
یا دجلة الخیر ادری بالذی طفحت
به مجاریك من فوق الى دون
ادری على أی قیثار قد انفجرت
انفاسك السمر عن أَنات محزون
أَدری بأنك من الف مضت دهراً
للآن تهزین من حكم السلاطین
یا دجلة الخیر كم من كنز موهبة
لدیك فی القمم المسحور مخزون
لعل تلك العفاریت التی احتجرت
محملات على اكتاف دولفین
والملفت للنظر ان الجواهری ینشد عملیة التكرار وهذا یأتی تأكیداً للصیاغات الصوریة والایقاعیة ، فهو منطق من العفویة الحسیة الناضجة فی شبكة القصیدة ، وهذا الموضوع قد ساعد فی عملیة التوتر والشد العاطفی الذی یأخذ شكله المتصاعد لیعطی اللغة الشعریة معیاراً من النمو المتزاید والذی أَشره ( دی سوسیر ) عبر الدراسات المتعاقبة للصیغ اللغویة وعبر الكشف الدقیق لقوانین البنیة الشعریة ومداخلاتها الاسطوریة داخل الانظمة الالسنیة والصوتیة وداخل نظم من المفردات الشعریة التی تجمعها مخیلة الشاعر لعدة من الصیاغات والاطر الجدیدة فی القصیدة .
من جانب اخر فان التناظر والتحول لم یكن غائباً عن المفاهیم المقومة للشعر وان بؤر الاهتمام فی العلاقة بین التراكب اللغویة والاسطوریة هی فی علاقة هذه التراكیب الحیة وعلاقة الشاعر بالنص وهذا الرأی حدده (ورد زورث) و ( كولردج ) واتفاق مسبق مع ارسطو فی ان موضوع الشعر هو موضوع الحقیقة حیث حدد كولردج فی الصیاغة الجدیدة لهذه الحقیقة قائلاً ( ان الشعر یمثل واسطة عادیة بین اطراف العالم والمألوف من جهة والمفردة الجدیدة من جهة اخرى ) ویؤكد فی جانب اخر وبمنطق اخر ویسمیه ( الالتحام والتسویة فی الاشیاء المختلفة ) . والخلاصة فی هذا الموضوع هو خضوع الكون لقضیة الفرد الاجتماعی وهذا كما یعتقد ( هوسرل ) ان المنحى الفكری یتضمن معاییر معرفیة تتمیز به وتمیز الحق عن الباطل وهی نتائج لتفكیر منطقی یقوم على أسس نفسیة وهو الجانب الذی اكده هوسرل كذلك ، وهو لیس الجانب السایكولوجی الساذج بل القصدی منه والذی یعتمد على الدراسة الالسنیة التعادلیة وتداخلها فی النیة القصدیة والشعر هو المنظم الاول اللاصوت فی الطبیعة وهو المقوم مع التنظیمات المستمرة فی عملیات التخیل وهو الاستعداد والاستجابة للعمل السلوكی ، واللغة كانت عند الجواهری عبارة عن تراكیب منطقیة وحسیة بلاغیة وروماتیكیة وفی هذا المجال یقول ( ریتشاردز ) ان اللغة هی لیست مجرد نظام لتنظیم الاشارات بل هی مقدّم حقیقی للأشیاء .
یقول الجواهری :
اطلت الشوط من عمری
اطال الله من عمرك
وما بلغت بالسر
ولا بالسوء من خبرك
حسوت الخمر من نهرك
وذقت الحلو من ثمرك
وغنتنی صوادحك النشاوى
من ندى سحرك
ولم یبرح على الظل
بعد الظل من شجرك
اذنبی ان مختبری
هدانی عیر مختبرك
هلمی خالطی بشری
تنفری أنت من بشرك
والحلم الرومانتیكی عند الجواهری … هو منهج ذاتی – موضوعی تحكمه صلات جدلیة تحقق التفاعل المتوازن فی تأكیده على المنهج الادراكی فی دراسة البنیة … ووحدة المستویات او الكلیات فی الادب والشعر بشكل خاص … وفی اطار الموازنة والمقارنة فی اول مسرحیة " الفرس " ( لاسخیلوس ) هناك حوار حول حلم شاهدته " اتوسا" ارمل " داریوس " ویذكر " لاسخیلوس " " العقل ذو عیون حین ینام صاحبه وهو اعمى حین یستیقظ ومسرحیة " بولیوكت " تأتی خلاصة التأكید على الجانب السیكولوجی حین تحلم " بولین " (( حلماً مزعجاً ترى زوجها یموت بالحرب )) ..
ان صیغة التنظیم فی الاشارات المبینة … هو التأكید المنطقی الذی أشره الجواهری … ودلل علیه " ریشاردز " فی انتقالیة حیة عند " موریس " انه یتحدث عن غیاب الاحاسیس : والاحاسیس والاستجابات عند السید " موریس " هو الاحساس والاشارات الایقونیة للاكتمال الذی حققته اللغة عبر الحس الاسطوری بعد ان یكون الاحساس اخذ یضرب بالماوراء الالهام الموضوعی …
فالمعرفة الحسیة عند الجواهری … هی عقل مدرك مكتمل بالمفردة الحسیة الانسانیة ، وفی هذه الفقرة یقتبس " ریتشاردز " عن " كولردج نص قوله " .
" الیست الكلمات اجزاء – وبذوراً ؟ وما هو قانون نموها ؟ بشیء فی مثل … هذا سوف احطم التناقض القدیم القائم بین الكلمات والاشیاء "؟
" وارتفع بالكلمة - كما هو الامكر الى مستوى الاشیاء الحیة منها ! "
وقد اضفى الجواهری على لغته الشعریة عبر قدرة على الاحاطة بالمتناقضات المتشابكة داخل المجتمع وبین ما هو موضوعی ومرتبط بقوانین الصراع التاریخی .
" وریتشاردز " عالج هذا الموضوع .. بوصفه حد فاصل بینم " كولردج " و " الكلاسیكیة الجدیدة " وكان فصل ( قیثارة الریح ) وهو الدلیل على خصوصیة ها التناقض :
یقول الجواهری :-
مشى وخط المشیب بمفرقیه
وراحت من زهاها امس حباً
تبدل غیر رونقه ولاحت
رماداً خلته لولا البقایا
اهذا من به فتنت كعاب
اهذا تائهاً من نقلته
ومن اوصبى " فلانة" ! وهی خدر
ومنزوفاً كأن ید اللیالی
ویا سیفاً نجر حمالیتة
وطار غراب سعد من یدیه
تقول الیوم : واسفی علیه
تضاریس السنین بأخدع یه
توقد جمرتین بمقلتیه
ومن سحر الندى باصغریه
على الاحداق احلى خطویتیه
دم العشاق یصبغ وجنتیه
بمبضعها تفصد اكحلیه
ونركب حین نجمح شفرتیه

وقد اقضى هذا الشد فی الفهم الدقیق إسطورة فی اساسها التعبیری والصوری وهو یفضی الى عدة مناهج : ونتائج الزمن عند الشاعر ، وتأكیده واحتكامه الى الحكمة الفنیة والانجاز الفكری الذی یشع بتجسیداته لعملیة الابداع التی تكونت بالحافز المتفجر وهو یشبه الولادة فی جملته التعبیریة فی اطار التجلی الابداعی والرفض لكل التراكیب والدلالات ( الفیزیقیة ) داخل العملیة الجدلیة – وداخل عملیة التشكیل الفكری والاجتماعی الذی یضع الابداع فی المقدمة منه من خلال الدلالات الاجتماعیة والفرز للتصورات – الاتجاهات التجریبیة ، وهی متوحدة فی النص الشعری . كما وضحه ( ماثیوارنولد ) باعتباره معارضاً ( للدیالكتیك ) باعتباره الاطار الموضوعی للقانون الذی هو خارج العملیة اللغویة وباعتباره ایضاً موروث عن الكلاسیكیة .
فالعملیة الشعریة هی التی تنسج موضوع الاسطورة فی الطبیعة والحیاة الاجتماعیة … وهو الحقل الوضعی لخیال الشاعر الخصب وبالتالی هو الكشف عن الخصائص البلاغیة والفكریة الغامضة فی النص الشعری – عبر التفجر للایحاءات داخل النص وتكوین الاسطورة بایقاع المعنى المكون للنص الشعری ونظام التراكیب اللغویة – والبلاغیة والتفجیر الفكری للنص بنواظم ودینامیة مختلفة للانساق الجمالیة … فهی تحقیق وتقلیل لمختلف البیانات العمیقة … والدقیقة والافصاح عن النواة والرؤیا للعوالم الشعریة . والجواهری بوصفه شاعراً یمتلك التوافق والشعور والعلاقة المنطقیة بین الذات والموضوع .
والنظریة الشعریة عند الجواهری … هی عملیة رفد وتغییر للمنطق الشعری فی العمود المتجدد بموضوعاته الصوریة والاسطوریة وهذا خلاف النظریة التی تقول : ( بمعزل عما یتأثر به ) واعتبار الاعمال الشعریة اشیاء مجردة عن تفاعلاتها وعلاقاتها ( بالزمكان ) واعتبارها كائنات لا تربطها ایة صلة وبای شیء واصحاب هذه النظریة هم ( بلاكمور ، والن تیب ، وكلینش ، بروكس ) .
نقول ان الحافز الفكری والاجتماعی عند الجواهری عبر التكوین الرئیسی فی المنظور الشعری … وهو عنصر من العناصر المهمة فی بناء الحكایة والصیاغة الاساسیة للحدث الشعری وكذلك بالروابط السببیة التی تنظم الحدث والمتن الشعریین .
یقول الجواهری

حسناء : رجلك فی الركاب وبداك تعبث بالكتاب
وانا الضمیئ الى شرابك كان من ریقی شرابی
حسناء زاد من اضطرابی بغی التقنص فی اضطرابی
حسناء ساعتك التی دورت كانت من طلابی
حاولت اجعلها الذریعة لاحتكاكی واقترابی
عبثاً فقد ادركت ما یلتقی القشور من اللباب
كنت العلیمة بابن أوى اذا تحلق بالغراب
ذل السؤال جرعته فبخلت حتى بجواب
ان الرؤیة والتجربة الشعریة المصاغة عند الجواهری … فهی تعتمد على مستویات التلاحم والارتباط البنوی والرؤیوی وما تنطوی علیه هذه الابداعات بقدر الملاحظة لحقیقة الالهام والحدس عبر الكشف الدقیق للمستویات العالیة من الوعی والادراك الكامل للعلاقة بعالم اكبر ومتلاحم .
والجواهری كان الصورة والتعبیر عن الجانب الیقض والمتیقن لهذه الحیاة ووحداتها الداخلیة وبنیتها الشعریة والجمالیة الدقیقة فی وصف البطل الاسطوری عند الجواهری وهو یأتی عبر المسلمات الابداعیة والشخصیة ومن وصف وشدة فی الانتباه فی صیاغة النص الشعری وهو الصورة الشعریة فی مقدمة الاعترافات التی یتحدث عنها النص وحواره مع بطله الاسطوری .
هكذا اذن تحدد الملاحم الرئیسیة لانساق الاسطورة فی العمود الشعری عند الجواهری .



المراجع :
- الاعمال الكاملة للجواهری .
- الرومانتیكیة / محمد غنیمی هلال ص60 .
- دراسات فی النقد / الن تیت .
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:27|
خطابه تدفین


غافلان
همسازند
تنها توفان
کودکان نا همگون می زاید.
همساز
سایه سانانند،
محتاط
در مرز های آفتاب.
در هیات زندگان
مردگانند .
وینان
دل به دریا افگنانند،
به پای دارنده آتش ها
زندگانی
دوشادوش مرگ
پیشاپیش مرگ
هماره زنده از آن سپس که با مرگ
و همواره بدان نام
که زیسته بودند،
که تباهی
از درگاه بلند خاطره شان
شرمسار و سرافکنده می گذرد .


کاشفان چشمه
کاشفان فروتن شوکران
جویندگان شادی
در مجری آتشفشان ها
شعبده بازان لبخند
در شبکلاه درد
با جاپایی ژرف تر از شادی
در گذرگاه پرندگان .



***
در برابر تندر می ایستند
خانه را روشن می کنند
و می میرند

ترجمة :حمید كشكولی

المغفلون متشابهون،
وإن العاصفة وحدها تلد أولادا مختلفین.
مثلهم مثل الظلال ،
حذرون
فی حدود الشمس،
إنهم موتى على هیئة أحیاء.
لكنهم،
یسیرون بصدور عاریة یخوضون مخاطرالبحر،
یولعون النیران أحیاءَ،
جنبا إلى جنب مع الموت
یتقدمون على الموت بخطوة،
ودوما یبقون أحیاء بعد الموت
و یحملون دوما ذات الإسماء التی عاشوا معها،
لأن الفناء
والعار ،
یتركان أماكن ذكراهم السامیة،
مطاطأی الرؤوس.
إنهم مكتشفو النبع
مكتشفو جذور السم الخجلون،
یبحثون عن السعادة
فی مجرى البراكین
إنهم سحرة البسمات
فی قلنسوة الألم
آثار أقدامهم فی ممر الطیور اعمق من المسرات .
إنهم یقفون قدام البرق،
ینیرون البیت،
ویموتون.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:26|
وقت لطیف شن


باران
اضلاع فراغت می شست
من با شنهای
مرطوب عزیمت بازی می کردم
و خواب سفرهای منقش می دیدم
من قاتی آزادی شن ها بودم
من دلتنگ بودم
در باغ یک سفره مانوس پهن بود
چیزی وسط سفره شبیه ادراک منور
یک خوشه انگور
روی همه شایبه را پوشید
تعمیر سکوت گیجم کرد
دیدم که درخت هست
وقتی که درخت هست پیداست که باید بود
باید بود
و رد روایت را تا متن سپید دنبال کرد
اما ای یاس ملون
 

ترجمة : حمید كشكولی

كان المطر یغسل أضلاع السكینة،
و ألعب أنا مع رمال الرحیل الودیعة،
كنت أحلم بالرحلات الزاهیة،
أتماهى فی حریة الرمال،
كنت ُ ضجرا،
و سُفرة بهیجة انبسطت ْ فی البستان،
شیء ما یشبه البصیرة المضاءة،
كان یتوسط السُفرة،
عنقود عنب
أسدل ستاره على كل الشطحات،
لقد دوخنی ترمیم الصمت،
فعلمت أن الشجر موجود،
وحین یوجد الشجر فمن الجلی أنه لا بد من أن یوجد،
لا بد من أن یوجد،
لكی یتبع أثر السرد حتى النص الأبیض،
ولكن ماذا عنك أیها الإحباط اللعین؟!!!

من مجموعته الشعریة
Ma hich Ma nigah
( لسنا شیئا، بل الرؤیة)
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:26|
موقف أبی العلاء المعری من الدهر

الموجز

یفكر الإنسان دائما فی حاله كما أنه یفكر فی الكون وألغازه وأسراره؛ وعنده أسئلة كثیرة یعقبها عدم الراحة والقلق والخوف وهی: من أین أتى؟ ولماذا؟ وإلى أین یذهب؟ ولیس هذا الخوف إلاّ خوفا من المجهول الغامض الذی یخافه الإنسان مدى الدهر. ویعرف أنه یعیش حیاة قصیرة متغیرة، فیها الشیخوخة والمرض والنهایة المحتومة إلى الفناء، كما أنه یعلم أن البقاء مستحیل وكل حی مصیره الفناء فیصیب بالقلق الوجودی. فی هذا المنطلق، یؤمن بعضهم بأن الدهر هوسبب الهلاك؛ كما أنه سبب اضطرابه الفكری وقلقه الروحی. والدهر غالب وناظر على الأمور كلها، ویضیفون إلیه كل حادثة فیحیلون علیه باللوم والعتاب؛ كأنه مسؤول عن أعمالهم، إذن هم متشائمون. وقلیل منهم الذین یصلون إلى الكمال والنضج العقلی فاستطاعوا أن یعتقدوا بالقضاء والقدر ویؤمنوا أن الدهر لایهلكهم؛ بل الأمور كلها بید الله سبحانه وتعالى، إذن موقفهم إیجابی وهم متفائلون.

هذا اللون الشعری المطوی على ذم الدهر سمی شكوى الدهر أوالدهریات، حیث أصبحت فنا مستقلا فی العصر العباسی الثالث وانصرف كثیر من الشعراء إلی نظمها والإكثار منها. هنا نرید أن نناقش موقف أبی العلاء المعری من الدهر.

الكلمات الرئیسة: الدهریات، شكوى الدهر، ذم الدهر، العصر العباسی الثالث، القلق الوجودی.


المقدمة

إنّ الإنسان فی حیاته خاضع لتقلب الزمن وحدثان الدهر، وهذا صحیح أنّ المرء یستطیع أن یعیش بالشكل الذی یریده ویرضاه. ولكن فی الحیاة، أحوالاً لاتخضع لإرادة الإنسان فهی تارة حلوة وتارة أخرى مرة. وقلیل من الناس یصلون إلى الكمال والنضج العقلی وینظرون الحیاة بمنظار التفاؤل، ولكن أكثرهم یدفعون نحوالتشاؤم فی الحیاة وهم أولئك الذین لایرون فی الحیاة غیر الشقاء والفساد ویشعرون بالخیبة وفلسفتهم فی الحیاة مبنیة على التشاؤم.

بعد أن فسدت الأحوال السیاسیة فی العصر العباسی ولاسیما فی العصر العباسی الثالث لانحلال الدولة العباسیة وأدى ذلك إلى الاضطراب وإلى سوء الحالة الاجتماعیة والحالة الاقتصادیة، انتشرت الفتن فازدادت الأفكار التشاؤمیة. فمن جراء ذلك لجأ كثیر من الناس إلى التشكی فنظموا أبیاتا مستقلة فی شكوى الدهر وذمه واعتادوا ذلك حتى غلب على كلامهم فاستقل هذا الفن الشعری وسمی بالدهریات.

شعر الدهریات شعر وجدانی مرتبط بمكنون النفس وآلامها ومعاناتها وقد رسم لمخاطب صورا جلیّة مثّلَت شرائح المجتمع الإسلامی فی العصر العباسی. وهوشعر صادق لم ینظمه أصحابه رغبة فی منصب أوتزلّفا لحاكم؛ إنما كان نبض فؤاد واضطراب جوانح كشف كثیرا من الدلالات النفسیة والاجتماعیة والسیاسیة وألقى الضوء على الواقع الذی عاشته أمة الإسلام حینا من الدهر.

سار الشعراء فی العصر العباسی على نهج سابقیهم الذین أكثروا الشكایة من الدهر وحوادثه التی أوهنت قواهم ونسبوا للدهر كلّ بلاء وسوء متناسین حكم الشرع فی النهی عن سبِّ الدهر وحسبوه عدوالأحرار وكرام النفوس كما نرى الحال عند المتنبی حیث بلغ من حنقه علیه أن اعتبره غریما حیا یطارده ویعاكسه. كما على رأیه أن الدهر هوالذی یقسم الحظوظ والمواهب على الناس ولكنه مطبوع على الجور.

وأما الأفكار الإیجابیة فقلیلة جداً فی العصر العباسی وقلما تجد شاعراً متفائلاً بالنسبة إلى مسألة الدهر ویمكن أن نعد أباتمام شاعراً مع نظرة إیجابیة للدهر. مع أن حیاته كانت ملئیة بالآلام والمشا كل وأحس قسوة الدهر وشقائه، ولكنه تصبر واعتقد أن الإنسان مادام یرى الأمل فی نفسه علیه أن یجاهد وألا ییأس حتى یصل إلى هدفه.

یمكن أن نقسم تشاؤم الشاعر العباسی بالنسبة لمسألة الدهر والموت إلى قسمین: التشاؤم النفسی والتشاؤم الاجتماعی.

وأما التشاؤم النفسی عند الشعراء العباسیین، فیجعلهم مشغولین بأنفسهم ویعكفون على آلامهم وهذا اللون من شعر المعاناة والألم الذی یهتم الشاعر العباسی ببیان آلامه النفسیة ینبع جمیعاً من أصل واحد وهوالشعور بالفناء وعبثیة الدهر ویتخذ الموقف السلبی ویبدأ بالشكوى عن الدهر ویتبرم به.

ویمكن أن نرجع شكوى بعض الشعراء العباسیین إلى إدراكهم أوشعورهم بنقص فی أجسامهم وضعفهم ویعانون من العقد النفسیة مثل عقدة الشعور بالنقص وعقدة أدیب. مثل مایشعر أبوالعلاء المعری وإبن الرومی بضعفهما الجسمی حیث یجعلان أدبیاتهما مبنیة على التشاؤم لأن الدهر یحرمهما من لذة الحیاة والدنیا.

أما التشاؤم الاجتماعی عند الشاعر العباسی، فینبع من مجتمعه ولا من نفسه وحده. لأن الشاعر العباسی عاش فی عصرشدید الاضطراب سیاسیاً، اجتماعیاً، اقتصادیاً وعقائدیاً. إنّ المصائب أحاطت به، وكان لابد لهذا الاضطراب أن ینعكس فی أشعاره ویترك آثاره فیها. وقد تأثر الشعراء بما أصاب الناس من خراب، تعذیب، إذلال ودمار. ینتشر الترف فی بیوت الخلفاء والأمراء حینما ینتشر الفقر فی عامة الشعب، فیلجأون إلى العزلة ویدق نفسیتهم فی إدرك الواقع.

على سبیل المثال أبوالعلاء، المتنبی، الشریف الرضی وغیرهم من الشعراء لم یكن شعورهم وفقا على خلجات أنفسهم فقط؛ فهم قد شاركوا الشعب فی مصائبهم وسمعوا شكاوى المظلومین والفقراء وعالجوا مشاكل مجتمعهم مع أنهم عانوا بذاتهم، لكنهم لن یغفلوا عن المجتمع الذی عاشوا فیه.

من الشکاوى السائدة فی العصر العباسی هی: الشكوى من السجن والاغتراب، والشكوى من المرض والآفات والشکوی من أمراض الكِبَر وفقد البصر والشكوى من الآفات: آفة الشباب الشیب وآفة الحیاة الموت…وإلخ.
المعری، حیاته وشعره:

أحمد بن عبدالله بن سلیمان بن محمد التنوخی المعروف بالمعری ولد فی المعرة سنة 3٦3 ه. توفی سنة ٤٤٩ ه.

أصابه الجدری وله أربع سنین، فكف بصره وهوطفل، وكان یقول: "لاأعرف من الألوان إلا الأحمر لأنی ألبست فی الجدری ثوباً مصبوغاً بالعصفر".

وجد المعری فی محبسه بالمعرة مالم یجده فی بغداد من الشهرة فراسله العلماء والأدباء والأمراء وقصده طلاب العلم من كل مكان یغترفون من علومه وفنونه.

وشهد هذا العصر صراعات بین تلك الدویلات الصغیرة التی نشأت فی قلب الأمة وتطاحنا شدیداً جعل الأمة من الداخل كما یغلی المرجل بالماء.

عاصر أبوالعلاء المعری من تلك الدویلات البویهین والحمدانیة والمرداسیین والفاطمیین وشاهد التطاول الدامی بینها.

وفی ظل تلك الأوضاع السیاسیة القائمة انعدم العدل والإنصاف وساد الطغیان والظلم، وزالت رحمة الراعی على الرعیة، وحلت محلها الغلظة والخشونة.

أما الحیاة الاقتصادیة فلم تكن بأفضل من الحیاة السیاسیة فإن الضرائب زادت واضطربت تبعا لكثرة الولاة الفاطمیین، وعمل كل منهم على كل مایستطیع من الأموال لنفسه، فكانت تدخل على الضرائب والجنایات زیادات ترهق الشعب إرهاقاً شدیداً وما أحسن ما صور به أبوالعلاء ذلك الظلم الذی یقع على الناس إذ یقول مصوراً حال عصره:
وأرى ملوكاً لا تحوط رعیة     
    فعلام تؤخذ جزیة ومكرس

والحیاة الاجتماعیة هی الأخرى أصابها الوهن فضعفت الثقة بین الأفراد فانتشر الفساد وعمت الفوضى أرجاء البلاد.

وقد أدت الأوضاع القائمة إلى تحرر فی الدین والفرائض، فأصبح الدین أضعف من أن یسیطر على النفس والضمائر وأصبح الإنسان فی عصر لایفكر إلا فی مصلحته ولوعلى حساب الآخرین.

عاش المعری حیاة طویلة مضطربة فیها قلق وتشاؤم ومرارة وشكوى، وكان لعناصر شخصیته أثر فی توجیه تفكیره، وصبغ آرائه بصبغة خاصة میزت المعری عن غیر من الشعراء والأدباء وخاصة أن قرر المعری لزوم بیته وانصرافه عن كل شیء فی الحیاة إلى النقد والتهكم دون أن یحاول الإصلاح الذی یقترح له سبیلاً بل یرى أن الإصلاح أمر مستحیل، ومن یحاول ذلك فإن مصیره الفشل.

والمعری شدید التشاؤم، شدید الكراهیة للحیاة وملذاتها، وكان لذلك التشاؤم داوفع متعدة أهمها: عماه الباكر، فقده لأبیه، نكباته فی بغداد، فقده لأمه، مزاجه السودای وفساد الحالة السیاسیة فی عصره. وإن كان المعری یتظاهر بالصبر والتجلد، ولكن یخونه تجلده أحیاناً فتراه یصرح بالشكوى من العمى.
وكم اشتكت أشفار عین سهدها     
    وشفاؤها مما ألم شفار
ولطالما صابرت لیلا عاتما     
    فمتى یكون الصبح والإسفار

ویقول:
عمی العین یتلده عمى الدین والهوى     
    فلیتنی القُصرى ثلاث لیال

وكل هذه العوامل المجتمعة أثرت فی نفسیة أبی العلاء فجعلته ینظر إلى الحیاة نظرة قلق والتشاؤم، ودفعته إلى العزلة وحبس نفسه فی بیته، وإلى تنبیه تلك الأفكار التی ضمنها كتبه وأشعاره ومنها لزومیاته التی مملوءة من أفكاره الناضجة، فیه یتساءل عن حقیقة الحیاة وأسرار الوجود ویبحث عن مشكلات الخیر والشر وعناء الحیاة وراحة الموت، والتی صور فیه بصدق حالة العصر الذی عاش فیه، صورة صادقة نابعة عن تجربة مؤلمة فی مجتمع تحكمه المادة، والتعالی على الآخرین، ولذلك اتجه المعری إلی أمر أخر یحقق به ذاته، وهوالتفرغ للعلم والعمل، وتحقق له بذلك ما أراد، ففاق فیه أهل زمانه، فكان حقا موسوعة علمیة غزیرة.

یری المعری أن المصائب سببها الناس وأخلاقهم وأفعالهم السیئة والتی یصرون علیها وقد أطال التفكیر، فلم ینتج له ذلك إلا أن الإنسان شریر بطبعه، وأن الفساد غریزة فیه. وجمیع البشر فی نظره سواء فی الفساد وقبح الطباع لأنهم ثمرة فساد، وهكذا، فكل حی علی الأرض شریر كاذب. فالطبیعة البشریة عند المعری فاسدة من أصل الخلقة، فالفساد غریزة فیه والشر قاسم مشترك بین الناس، إنهم یتفاوتون غنىً وفقراً وجمالاً وقبحاً ولكنهم یتساون عند طبعهم الشریر.
إن مازت الناس أخلاق یعاش بها     
    فإنهم عند سوء الطبع أسواء
أوكان كل بنی حواء یشبهنی     
    فبئس ما ولدت فی الدهر حواء

ویرى أن تلك الطبیعة الفاسدة إنما هوقضاء، قضاه الله على بنی آدم وماالناس فی هذه الدنیا إلا كلاباً یتصارعون علیها رغم أنها لاتتعدى أن تكون جیفة نتنة.
رأیت قضاء الله أوجب خلقه     
    وعاد علیهم فی تعرفه سلباً
وقد غلب الأحیاء فی كل وجهة     
    هواهم وإن كانوا غطارفة غلباً
كلاب تغاوت أوتعاوت لجیفة     
    وأحسبنی أصبحت الأمها كلباً
أبینا سوى غش الصدور وإنما     
    ینال ثواب الله أسلمنا صدراً
وأی بنی الأیام یحمد قائل     
    ومن جرب الأقوام أوسعهم ثلباً

ومهما حاول الإنسان أن یظهر النفع لأخیه؛ فإنه فی ذلك ماكر ومهما امتدح نفسه فهوكذاب یغتاب الأصل ویدعی التقوى والصوم والوفاء.
إذا أقبل الإنسان فی الدهرصدقت     
    أ توهمنی بالمكر أنك نافعی
وتأكل لحم الخل مستعذبا له     
    أحادیثه عن نفسه وهوكاذب
وما أنت إلا فی حبك جاذب     
    وتزعم للأقوام أنك عاذب

والإنسان فی هذه الحیاة بئس المعاشر لما یتصف به من الغدر وحب السب للآخرین:
بنی آدم بئس المعاشر أنتم     
ئ     وجدتكم لاتقربون إلى العلى كما
فما فیكم واف لمقت ولاحب     
    أنكم لاتبعدون عن السب

وما فی هذه الدنیا من صغیر وكبیر إلا أثوم غشوم میال إلى الشر فخور بفعل الخیرات یتبع المن والأذى حیث یقول:
لعمرك ما فی الارض كهل مجرب     
    ولا ناشىء إلا لإثم مراهق
إذ بض بالشیء القلیل فإنه     
    سوء السجایا بالتبجّج فاهق

وهذه طبیعة البشر حب الفساد والشر فیا لیتهم لم یولد وكانت ولادتهم شرا وبلاء، یقول:
یا لیت آدم كان طلق أمهم     
    أوكان حرمها علیه ظهار
ولدتهم فی غیر طهر عاركا     
    فلذاك تفقد فیهم الأطهار

هكذا ینظر المعری إلى الطبیعة البشریة. إن الإنسان شریر بطبعه والفساد غریزة فیه، ولذلك لم ینتفع إصلاحاً ولم یرج لآلامه شفاء. ولا شك أن ما لاقاه المعری من آلام فی حیاته وشرور فی عصره هی التی قوت فی نفسه هذا الرأی، مما دفعه إلى اعتبار الناس جمیعهم أشرارا وأنّ الخیر معدوم فیهم، ولا فائدة فی إصلاحهم ولا حلّ إلاّ فی اعتزالهم وهجرهم.

لم یكن رأی أبی العلاء المعری فی الدنیا بأ‏فضل من رأیه فی الإنسان، فهوعلیها ناقم ومن خستها اشتق لؤم الإنسان، فلم یزل یذمها ویصفها بصفات القبح حتى إنّه لیعد أكثر الشعراء ذماً للدنیا وبغضا لها وكان یرى الدنیا من خلال الظلام المسیطر على قلبه، فیرى فی كل شیء فسادا وهكذا تلمس فی تشاؤمه ألما مكبوتا وعنفوانا مضغوتا.

وقد ملأ أبوالعلاء كتابه اللزومیات بهذا التشاؤم الواسع من الدنیا ووصف لها بأنّها دار آلام وعذاب یستعرض الحیاة فیها من جمیع جوانبها وینقدها نقدا ساخرا فی جرأة وصراحة.

والدنیا خسیسة أف لها ولأبنائها لیس بها إلا المصائب والبلایا، حیث یقول:
خسئت یا أمنا لها     
    لنا بنوالخسیسة أوباش أخساء
وقد نطقت بأصناف العظات لنا
    وأنت فیما یظن القوم خرساء

یقول طه حسین عن لزومیاته: " إنها إلى أن تكون كتاباً فلسفیاً أقرب منها إلى أن تكون دیواناً شعریاً، وعمد بشعره إلى إثبات النظریات الفلسفیة فی الطبیعة والریاضة والألوهیة والأخلاق".

یقول أبوالعلاء فی ذمّ زمانه وأهل زمانه:
أتروم عن زمن وفاءً مُرضیاً     
    إن الزمان كأهله غدار

یرى المعری الزمان نعم غدار، ویصرح بأنه لا أمل فی إصلاح الحیاة بل إنّ المحاولة لإصلاحها مستحیل:
فلا تأمل من الدنیا صلاحاً     
    فذاك هوالذی لایستطاع

ویرى المعری أن الزمن قدیم كالمادة ولاشك أنه كان یرتبط الصلة الوثیقة بالفلسفة الیونانیة فی مبدأ قدم العناصر، وقدم الزمان والمكان، یقول:
قالوا لنا خالق قدیم     
    قلنا صدقتم كذا نقول
زعمتموه بلا زمان     
    ولا مكان ألا فقولوا

اعتقد الشاعر بالجبریة، یرى أن الإنسان مجبر یولد مكرها ویهرم مكرها كما یعیش مكرها ویسیر كذلك مكرها؛ یعنی أن الإنسان لا یملك اختیاراً ولاحریة ولا رأیاً وهوأسیر مغلول مقود إلى الشر بأعنة القدر:
ما باختیاری میلادی ولاهرمی     
    ولا حیاتی، فهل لی بعد تخییر
ولا إقامة إلا عن یدی قدر     
    ولا مسیر إذا لم یقض تیسییر

كما یرى فی القضاء والقدر:
نبكی ونضحك والقضاء مسلّط     
    ما الدهر أضحكنا ولا أبكانا
نشكوالزمان وما أتى بجنایة     
    ولواستطاع تكلماً لشكانا
والدهر لایدری بمن هوكائن     
    فیه، فكیف یلام فیما كانا

إن النظریة الفلسفیة عند أبی العلاء تقوم على قائدة الشك فی كل شیء إلا فی حقیقتین هما: الله والعقل، فهوحائر فی سبب الموت والوجود والخلق، ففی لزومیاته صیحات ألم وصرخات حزن، كان القارئ یلمس یأسه وقنوطه من خلال أسئلة الدالة على شكه وارتیابه.

یضع المعری بجانب الله سلطة أخرى، هی القدر وهذه السلطة تبدوغاشمة ظالمة متحكمة بشوؤن البشر، قوتها لاتدفع ولاتغلب ولا ترد. یبدوأن المعری مضطرب فی هذه الناحیة أشد الاضطراب. فهوفی بعض الأحیان ینسب الظلم إلى القدر والزمان، كما فی قوله:
وهوالزمان قضى بغیر تناصف     
    بین الأنام وضاع جهد الجاهد

وإیمان المعری بالقدرناجم عن فلسفته الجبریة، كم من مرة صرح بأنه على هذا المذهب فالإنسان فی رأیه مجبر تحركه الأقدار كالریشة فی مهب الریح لایستطیع إفلاتاً منها، وكل محاولة للنجاة مكتوب لها الإخفاق.
یغدوعلى درعه الزراد یحكمها     
    وهل یُنجّیه، مما قُدّر الزّردُ

یعترف المعری بأنه یجهل من خلق البشر، ولكنه على ثقة بأن هنالك إلهاً قدیراً وهوالمنعم المفضل على عباده سواء أكانوا أهلاً للفضل أم لم یكونوا، سواء آمنوا به أم كفروا:
تورعوا یا بنی حواء عن كذب     
    فما لكم عند رب صاغكم خطر
لم تجدبوا لقبیح من فعالكم     
    ولم یجئكم لحسن التوبة المطر

وكل ما یحرزه المرء فی الحیاة من نجاح وفوز فإنما هوبفضله ومنّه، لا بسعی الإنسان وجهده:
لم تبلغ الآراب شدة ساعد     
    ما لم یعنها الله بالإسعاد

ویلاحظ أن المعری یقر بوجوده، ویعترف بعظمته، ویشیر إلى فضله.

كما یعترف أبوالعلاء بحریة الوجود، والعقل هوالدلیل؛ لأنّ وجود العقل یقتضی أن الإنسان قادر على البحث والاختیار، ولوكانت الحیاة جبراً تاماً لكان وجوده ضرباً من العبث، ولكان البشر بلاعقول أفضل منهم مزودین بها، بید أن دور العقل أمام دور القدر:
الصمت أولى، وما رجل ممنعة     
    إلا لها بصروف الدهر تعثیر
والعقل زین، ولكن فوقه قدر     
    فماله فی ابتغاء الرزق تأثیر

فی هذه المرحلة شعر أن العقل شیء عظیم، ولكن القدر المطبق یلغی دوره، ویعطل تأثیره، ما قیمة عقل لاینفع أولایؤثر؟

وهكذا فیرى أبا العلاء المعری قد بالغ فی ذم الدنیا، والتحقیر من شأنها حتى إنه امتنع من أیة لذة فیها وحذر من الجری وراءها، أوالیسر فی طریقها حتى لصغار السن. یقول:
فلا تطلب الدنیا وإن كنت ناشئاً     
    فإنی عنها بالأخلاء أرباً
وهی لیست دار قرار إقامة     
    والرحیل منها أولى من البقاء

ویقول:
لعمرك ما الدنیا بدار إقامة     
    ولا الحیّ فی حال السلامة آمن
وإنّ ولیداً حلّها لمعذب     
    جرت لسواه بالسعود الأیامن

فالمعری لا یرى فی الدنیا شیئا من الخیر، وإنّما ملؤها الشرور والآثام لا سبیل إلی دفعها والدنیا فی رأیه أفرغت الشر علی كل ما فیها سواء أكان إنسانا أوحیوانا، فهوساخط علی الدنیا متبرم بها، فطبیعی أن یرحب بالموت یریحه من المتاعب.
حیاتی تعذیب وموتی راحة     
    وكل إبن أنثى فی التراب سجین

ومن شدة كراهیة للحیاة فإنه یعتبره الموت عیداً، وأی تشاؤم بعد هذا التشاؤم أن یرى الرجل یوم موته عیداً یسعد به وینتظره بفارغ الصبر، خلاف الفطرة البشریة التی جبلت على حب الدنیا وكراهیة الموت، كما یرى أن الإنسان یصنع الشر طبعا والخیر تكلفا. یقول:
أنا صائم طول الحیاة وإنما     
    فِطری الحمامُ ویوم ذاك أعید

والعاقل المتدبر فی نظر المعری لیست له راحة فی الحیاة التی عدمت منها مكارم الأخلاق إلاّ الموت. یقول:
تعالى رازق الأحیاء جمعاً لقد     
    وهت المروءة والحیاء
فمالی لاأكون وصی نفسی     
    ولاتعصی أموری الأوصیاء

والموت أفضل من طول العمر والغنى فی هذه الدنیا؛ لأنه راحة من مصائب الدنیا وشقائها:
موت یَسیرٌ معه رحمةٌ     
    خیر من الیسر وطول البقاء
وقد بلونا العَیش أطوارهَ     
    فما وجدنا فیه غیر الشقاء

والمعری لایكره الموت كما یكرهه الناس بل هویتمناه؛ لأن فیه راحة أبدیة مما لاقاه فی هذه الحیاة المصائب والمحن. یقول:
إن یقرب الموت منی     
    فلست أكره قربه
وذاك أمنع حصن     
    یصیر القبر دربه
من یلقه لا یراقب     
    خطباً ولایخشى كربه

وهكذا یری أبوالعلاء تفضیل الموت على الحیاة لنقمته علیها، ولما لاقاه فیها من الإهانة والكوارث، فهویلوذ به وینتظره، خلاصه من كل شر، وشفاؤه من كل داء.

لم یكتف أبوالعلاء المعری بتمنی الموت نفسه، وجعله منقذا له من حبسه فی هذه الدنیا، بل یعتقد بأنّ الإثم كل الإثم؛ إنّما هوإنجاب الأبناء وتعریضهم لجمیع ألوان الشقاء وبالغ حتى تمنى العدم لهذا الوجود وتمنى للولید ألایولد وللحی أن یفنى. یقول:
فلیت ولیداً مات ساعة وضعه     
    ولم یرتضع من أمه النّفساء

وفی امتناعه عن الزواج والنسل ما یجعل المخاطب یرى جانباً من تشاؤمه الأسود الذی ضرب ظلماته على جمیع أفكاره، ولعل ذلك ماجعله یوصی بأن یكتب على قبره:
هذا جناه أبی علیَّ     
    وما جنیت على أحد

ویصل أبوالعلاء المعری ذروة التشاؤم فی هذه الدنیا التی أذاقتها أفاویق العذاب أصنافا، فیحرم نفسه من لذة بها عندما تمنى الموت فلم یجده وطال به البقاء حتى مل الحیاة وما فیها، ولذلك بادر إلى حبس نفسه فی بیته واعتزال الناس، وفضل أن یكون نباتیا؛ لأن الاعتداء على الحیوان ظلم وتعسف. لم یكتف فیها الإنسان بظلم أخیه الإنسان بل تعداه إلى ظلم الحیوان والجور علیه، ومن هذا المنطلق فإن المعری یرى ترك هذا الظلم بالعزم على ألا یأكل من إنتاج حیوانی وهویعض أصابع الندم على عمره الفائت الذی كان یشارك فیه الناس ظلمهم للحیوان.

ولما لم یر المعری فی هذه الدنیا سبیلاً لإصلاح ولاطریقا لشفاء مما یعانی منه المجتمع ومما یراه المعری ظلما وعدوانا على هذه الحیاة، ولم ینفع معها الحبس واعتزال الناس ولاترك الشهوات والملذات والاكتفاء بالقلیل من الزاد، بدأ یتبرم بها فإذا هویرى كل ما حوله یبكی وأن الحزن یلتف حول رقبته یكاد أن یقطع علیه، حتى تغارید الطیور یراها نواح وبكاء:
لعمرك ما بی نجعة فأرومها     
    وإنی على طول الزمان لمجدب
حملت على الأولى الحمام فلم أقل     
    یغنی ولكن قلت: یبكی ویندب
وذلك أن الحادثات كثیرة     
    وغالبُهُن الفطّ لا المتجدب

كان للعوامل النفسیة والاجتماعیة أثر كبیر على أدب المعری وأفكاره التشاؤمیة وكان أبوالعلاء المعری قلقاً متشائماً شاكاً فی كل ما حوله، لایثق بأحد، ولا یعتمد على أحد، عزیز النفس كریما، رغم ما لاقاه فی حیاته من نكبات.

قصده من نظم اللزومیات الوعظ والإرشاد، وتضمنت اللزومیات آراء ‌المعری حول عصره والحیاة فیه فكان لها ناقدا صریح النقد، كما قیل. بالغ المعری فی آرائه حول المرأة فلم یجد فیها شیئاً حسناً بل اعتبرها صغیرة أوكبیرة سبیلاً للشرور. توصل أبوالعلاء إلى أنّ الراحة من شرور الدنیا ونكباتها العدم وقطع النسل. والأمل الوحید الذی كان ینتظره المعری هوالموت یریحه من الحیاة.

لذا لم یعد الموت لعنة، بل أصبح قدراً محتوماً لا یمكن أن یفلت منه الغنی ولا الفقیر، لا القوی ولا الضعیف، لا الحاكم ولا المحكوم، لا الطیب ولا الشریر، لا المریض ولا الصحیح. بل لعله حقیقة الوجود الوحیدة، فالحیاة سریعة الانطفاء بحیث لا یمكن الاطمئنان إلیها البتة. لم یعد الموت مخیفاً‌ والتحرر من هذا الخوف جعل إرادته أقوى وسخریته من الدهر أكثر قسوة ومرارة وانصرافه عن حیاته وما أحاط بها ملذاته اختیاراً صائباً وحكیماً، وقدرته على تحمل المشاق أشدّ‌ صلابة ومتانة.

إنّ الشعراء الآخرین یبحثون عن المجد والثروة ناسین أن الحیاة قصیدة وأن الموت لهم بالمرصاد. وللحصول على ما یبتغون لا یترددون فی بیع الضمیر وماء الوجه والتمسح بأعتاب الملوك، أما هوفلا یعنیه شیء من كل هذا؛ لأنه أدرك مبكراً أن الحیاة لا تستحق أن تعاش، وأن التعلق بها لایؤدی بصاحبه فی النهایة إلاّ إلى الضرر وإلى ندامة لیست بالنافعة.

یرى الشاعر بالنسبة لدینه، بأنه لیس هناك دین أفضل من دین آخر وأنّ كل الأدیان لها سماتها الخاصة، فإنه لجأ إلى العقل تماماً. لذا حكم أبوالعلاء المعری عقله فی أغلب الأحداث السیاسیة والدینیة التی عرفها عصره المضطرب.

كثیر من الدراسین یعتقدون أن أبا العلاء تأثّر بالفلسفة الهندیة لاجتنابه عن أكل اللحوم والبیض واللبن وتحریم إیلام الحیوان، كما فی قوله:
فلا تأ كلنْ ما أخرج البحر طالما     
    ولاتبغ قوتاً من غریض الذبائح
ولابیض أماتٍ أرادت صریحه     
    لأطفالها دون الغوانی الصرائح
ولاتفجعن الطیر وهی غوافل     
    بما وضعت فالظلم شرالقبائح

ولكن طه حسین یعتقد بأنه تأثر بفلسفة الیونانیة.

تبدوأن حیاة أبی العلاء أثرت فی اتجاهاته المختلفة وفلسفته فی الحیاة ویمكن أن یقال بأنه كان ینشد عند العوامل النفسیة والاجتماعیة التی كان لها أثر كبیر على أدبه وأفكاره التشاؤمیة. فقد ذكرت آراء كثیرة حول بواعث النفسیة بنسبة تشاؤمه للدهر وأهله ویرجع تشاؤمه إلى فقده البصر، الأم، الأب، الفقر، إساءة الناس إلیه، تحول جسده، قبح منظره ومزاجه السوداوی كان من أهم الأسباب التی جعلته متشائماً من الحیاة فترة طویلة من حیاته.

ومن العوامل الهامة الأخرى فی تشاؤمه، ردود الفعل الناجمة عن رفض أهل العصر لأفكاره الفلسفیة الیونانیة الهندیة وغیرها، وما فیه من ثورة على الأوضاع السائدة وكان هذا الرفض فی إتهام البعض له بالفكر والزندقة وتغیر نفسیات أتباعه وتلامیذه، وهما كان یشعر بالمرارة وعدم الثقة بالناس، وبقسوة والجحود والظلم.

لذا یمكن القول بأنه كان یعانی من عقدة النفس ویشعر بها حین یدرك أن لدیه نقصاً عن الآخرین، فیعتزل عن الناس ویبتعد عن أكل اللحم والزواج. یحتمل أن یقال بأنه یحب الحیاة والدنیا كثیرا ولكن وجود نقائصه هوسبب اعتزاله وتشاؤمه، كما قال طه حسین بأنه تأثر بالفیلسوف الیونانی أبیقور الذی یذكر أن رأی أبیقور الذی انتهى إلى رفض اللذة عملاً؛ لأنه لم یستطع أن یحصلها دون الألم وهذا ما تدل علیه اللزومیات فی مواضع كثیرة منها، قول أبی العلاء:
وقال الفارسون حیفُ زهدٍ     
    وأخطاءتِ الظُنون بما فَرَسْنه
ولم أعرِض عن اللذات ألاّ     
    لأن خیارها عنّی خَنَسْنَه

وعندما اشتدت الشعور بهذه النقائص مال إلى عدم الإعتراف بما لدیه من عیوب، غیر أن كل ما یذكر بالنقص یحمله بتلقائیة على الدفاع عن نفسه. ومن سمات الشخص المصاب بعقده النقص: العدوان. كما یكره أبوالعلاء الدهر وأهله. فیحتمل كان یتظاهر المعری بالصبر والتجلد، ولكن أحیانا یرى، یصرح بالشكوى من العمى. من قوله:
وكم اشتكت أسفار عین سهدها     
    وشفاؤها مما ألم شِفار
ولطالما صابرت لیلا عاتما     
    فمتى یكون الصبح والإسفار

ویقول أیضاً:
عمى العین یتلوه عمى الدین والهوى     
    فلیتنى القصرى ثلاث لیال

على هذا، أشعل هذه النقائص ونظریته الفلسفیة التی تقوم على الشك فی كل شیء إلا فی حقیتین: هما الله والعقل، فی نفسه جذوة الیأس والألم، فمُقت الحیاة واعتزل الناس. فإنه یسجن نفسه وروحه فی ثلاثة سجون وهی العجز، العمى وشرور النفس الإنسانیة. یقول:
أرانی فی الثلاثة من سجونی     
    فلاتسأل عن الخبر النبیث
لفقدی ناظری ولزوم بیتی     
    وكون النفس فی الجسد الخبیث

بصورة عامة ترى أن الموارد المذكورة سببت إلى حدما أنه یعد الموت طریقا وحیدا للخلاص من هذه الآلام. من ناحیة سایكولوجیة، كان الشاعر قد یعانی عن مرض وفی النهایة نظرته إلى الدهر متشائمة شدیدة التشاؤم وأدبیاته مبنیة علی التشاؤم؛ لأن الدهر فی رأیه غاشم یعبث بالناس ولا یتیح لهم التمتع والانتفاع كما یشتهون فاشتدت علیه ضغینته ونقمته.

وقصارى القول أن أبا العلاء ابتدأ جبریاً وانتهى جبریاً، وعندما حاول أن یفتح باب الحریة وأعمل العقل، وجد أن العقل لایغیر من طبیعة الناس شیئاً ورأى أن الشر شامل بین الناس مشترك أما الخیر فطارئ غیر مشترك وأن اللؤم موثق بالطبع البشری فأسرف الشاعر فی التطیر وامتلأ شعره بأنغام التشاؤم، كما رأى فی الحیاة سلسلة من النوائب والحرمان تصل بین مهده ولحده، لذلك أثر العزلة وعاش ینتظر الموت.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:25|
مع بدایة الخمسینات من القرن الماضی بدأتْ حركة التحرر العربیة تـشق طریقها بخطواتٍ متسارعة محققةً الانتصار تلوى الآخر ، ترافق ذلك مع تغیرات كبیرة فی مجمل الوعی العام العربی و الإیدیولوجیات السائدة تمثلتْ فی الدرجة الأولى بوعی ضرورة التغییر ، ... و هنا برزتْ عدة إشكالیات على الساحة السیاسیة العربیة تمحورتْ حولها مشاریع التغییر الاجتماعی كإشكالیة فك الارتباط من التبعیة الاستعماریة – تحقیق الوحدة العربیة – إشكالیة النهضة – العدالة الاجتماعیة و غیرها ...
و فی خِضم هذه المشاریع المتـنوعة احتلّتْ قضیة المرأة موقعاً مهماً ، من حیث إعادة النظر فی دورها فی المجتمع و المساحة المتاحة لها للتعبیر عن نفسها و علاقتها بالرجل ، فأخذتْ مختلف أطراف الطیف السیاسی و الفكری تدلو بدلوها فیما یتعلق بتصورها لحل قضیة المرأة .
و فی ظل كل هذه الإرهاصات التی شهدها الوطن العربی انطلـقتْ الإنتلجنسیا العربیة لتكون بمثابة الناطق الرسمی بمجمل المشاریع النهضویة على اختلاف تلاوینها و مشاربها ، و لتتصدّر الحِراك المجتمعی ، .... و الفن بما هو لون من ألوان التعبیر عن الواقع الاجتماعی بكل تغیراته بدأت تظهر فیه طروحات التغییر و النهضة خاصةً أن المذاهب الفنیة و الأدبیة ارتبطتْ بالاتجاهات السیاسیة إلى حدٍّ بعید ، ... و على اعتبار أن الشعر هو من أعرق الفنون عند العرب فقد شكّل ساحةً لصراع الأفكار و الاحتمالات التی برزتْ على المسرح السیاسی العربی ، و بدأتْ المرأة فی هذه المرحلة الشعریة تدخل بحلّة جدیدة مختلفة عن الصورة التقلیدیة التی أخذتها فی الشعر العربی ، كان العنوان العریض لهذه الصورة : (( حریة المرأة )) ، فهل كان المضمون مماثلاً للعنوان ؟! .
لعلّ الشاعر نزار قبانی یمثِّـل أول من كسر الطوق المفروض على المرأة و حالة الحصار المجتمعی على رغبات الإنسان العربی و مشاعره من خلال دیوانه قالت لی السمراء ، هذا الدیوان كان الخطوة الأولى فی مشوار قبانی الطویل فی دروب المرأة ، قدّم الشاعر فی قصائده إدانة لذكوریة المجتمع العربی و دفاعاً عن حق المرأة فی التعبیر عن مشاعرها و حاجاتها ، لكنّ الإشكالیة تكمن فی أن نزاراً كان یدعو لهدم الحواجز بین المرأة و الرجل من الناحیة الجنسیة بالدرجة الأولى ، أما التأسیس لعلاقة متكافئة بین الرجل و المرأة فقد كان غائباً عن شعره ، فمعظم صوره التی قدمها عن المرأة كانتْ مقتصرة على المرأة اللعوب ، أو المراهقة العذراء مقابل الرجل المجرِّب ، فإذا خرج عن هذه الأُطر نجده یغیب فی لوثة جنسیة تستغرق منه قصائد كاملة أما العلاقة الصحیة بین الرجل و المرأة بكل أبعادها الجسدیة و النفسیة و العاطفیة فهی مفتقدة فی مجمل طرح نزار الشعری ، حتّى لأنه یمكن لنا أن نقول مع عبد الله الغذامی أن نزاراً كان یعید إنتاج خطاب عمر بن أبی ربیعة ، و فیما یلی نورِد مقطعاً شعریاً لتلمیذة نزار قبانی سعاد الصباح یقدم صورة المرأة المراهقة البریئة مقابل صورة الرجل المجرِّب ، هذه الصورة تـتفق إلى حد بعید مع خطاب نزار الشعری إلى حدٍّ بعید :
(( لا تـنتقد خجلی الشدیدْ
فإننی بسیطةٌ جداً .. و أنت خبیرُ
خذنی بكل بساطتی و طفولتی
أنا لم أزلْ أخطو و أنت قدیرُ
من أین تأتی بالفصاحة كُلّها
و أنا یتوهُ على فمی التعبیرُ
أنا فی الهوى لا حَوْل لی أو قوةً
إن المحبَّ بطبعه مكسورُ
یا هادئ الأعصابِ إنك ثابتٌ
و أنا على ذاتی أدورُ
فرقٌ كبیرُ بیننا یا سیدی
فأنا محافظةٌ و أنت جسورُ
و أنا مجهولةٌ جداً و أنتَ شهیرُ
و أنا مقیدةٌ و أنت تطیرُ
یا سید الكلمات هَبْنی فرصةً
حتى یُذاكِرَ درسه العصفورُ ))
شاعر آخر مصنّف فی خانة الیسار القومی نتـناوله هنا كمثال على التعاطی مع المرأة شعریاً هو الشاعر الكبیر أمل دنقل الذی انخرط فی مسیرة الحداثة الشعریة العربیة فی ظل تلازم واضح بین الهم السیاسی و الهم الإبداعی لتغدو الكثیر من قصائده علامات فارقة فی الحداثة الشعریة ، و على الرغم من الوعی الحاد الذی تمیّزتْ به قصائده فی تـناول مجمل ما یحیط به من صراعات اجتماعیة و سیاسیة و فهمه الواعی لطبیعة الصراع مع العدو الصهیونی فهو لم یتمكن من الارتقاء فی تعامله شعریاً مع المرأة إلى ذات المستوى من الوعی ، فهو لم یتمكن من التحرر من موروثه الریفی الذی ینظر إلى المرأة كمصدر للغوایة مقابل صورة أخرى طُهرانیة للحبیبة المقدسة ، هذه الثـنائیة التی تمثـل عقدة الرجل الشرقی كما تذكر الدكتورة نوال السعداوی لازمتْ معظم أشعار أمل دنقل :
(( یهتز قرطها الطویل
یراقص ارتعاش ظله
على تلفتات العنق الجمیل
و عندما تلفظ بذر الفاكهة
و تطفئ التبغة فی المنفضة العتیقة الطراز
تقول عیناها : استرحْ
و الشفتان شوكتان ))
و لا یغیب عن بالنا أن نقف قلیلاً مع شعر الأرض المحتلة الذی بدأ یحتل موقعاً مهماً فی الخارطة الشعریة العربیة من حیث تجدیده شكلاً و مضموناً للشعر العربی و لعل ذلك یعود إلى موقع المقاومة كرافعة للوضع السیاسی العربی المتردّی .
تقتصر صورة المرأة فی قصائد شعراء المقاومة على صورة أم الشهید أو أخت الشهید أو فی الصورة المثالیة التی استخدمها شعراء المقاومة كثیراً و هی صورة المرأة / الوطن ، و على الرغم مما حفِلتْ به هذه الاستخدامات من جمالیات لا متـناهیة لكن ذلك لا یمنعنا من انتقاد شعراء المقاومة فی عزوفهم عن تـناول المرأة كمرأة بصرف النظر عن أی اعتبار آخر ككائن له مقوماته الإنسانیة و خصوصیته الأنثویة ، و كأن ردّ الاعتبار إلى المرأة و منحها موقعها الصحیح یتطلّب الانتظار ریثما تُحرَّر الأرض المحتلة :
(( شاءها الله شهیة !
شاءها الله .. فكانتْ .. كبلادی العربیه !
شعرها لیلة صیفٍ بین كثبان تُهامهْ
مقلتاها ... من مُهاةٍ یمنیه
فمها ... من رطب الواحة فی البید العصیّه
عنقها زوبعة بین رمالی االذهبیه
صدرها نجد السلامه
یحمل البشرى إلى نوحٍ ،
فعودی یا حمامه !
و لدى خاصرتیها بعض شطآنی القصیه
شاءها الله كبلادی العربیة !
نكهة الغوطة و الموصل فیها .
و من الأوراس .. عنف و وسامهْ
و أبوها شاءها أحلى صبیهْ
شاءها اسماً و شكلا
فدعاها الوالد المُعجَبُ لیلى
و إلیكم أیها الإخوان ... لیلى العدنیه ! ))
((سمیح القاسم : قصیدة لیلى العدنیة))
و على الرغم مما ذكرناه آنفاً فلا یفوتـنا أن نشیر إلى شاعرنا الكبیر محمود درویش الذی استطاع أن یفلت – ربما لعوامل ذاتیة تعود لطبیعة الأحداث التی تعرض لها و مشاهداته الكثیرة و زخم تجربته الحیاتیة – من إسار الهدف النضالی بمعناه المفروض فرضاً على القصیدة و بمعناه الإیدیولوجی لتصبح قصیدته قصیدة الإنسان بالدرجة الأولى ، و لنجد أن صورة المرأة تطورتْ تدریجیاً لدى درویش منذ بدایاته التی كان تناوله فیها للمرأة لا یختلف كثیراً مع النمط السائد ، ثم بدأ هذا التناول یظهر بشكل متمیز تدریجیاً لا سیما من خلال ریتا التی كانتْ أشبه بلعنة ملازمة للشاعر ، صحیح أن هناك تداخلات سیاسیة عدیدة فی رسمه لریتا لكنها تأتی فی سیاق العلاقة المنطقی و محیطها الاجتماعی و شروطها ، حتى وصل الشاعر أخیراً إلى تقدیم دیوان كامل عن علاقته بالجنس الآخر من خلال عمله الشعری (( سریر الغریبة )) الذی هو محاولة لاكتـشاف عوالم المرأة و أسرارها كمرآة لذاته كرجل ، و محاولة لاختراق المساحة الفاصلة بینه و بین نصفه الآخر :
(( ریتا تحتسی شای الصباحٍ
و تقشّر التفاحة الأولى بعشر زنابقٍ،
و تقول لی :
لا تقرأ الآن الجریدة ، فالطبول هی الطبولُ
و الحرب لیستْ مهنتی . و أنا أنا . هل أنتَ أنتَ ؟
أنا هوَ،
هو من رآك غزالةً ترمی لآلئها علیه
هو من رأى شهواته تجری وراءك كالغدیر
هو من رآنا تائهین توحّدا فی السریر
و تباعدا كتحیة الغرباء فی المیناء ، یأخذنا الرحیلُ
فی ریحه ورقاً و یرمینا أمام فنادق الغرباءِ
مثل رسائلٍ قُرِئتْ على عجلٍ ،
أتأخذنی معكْ ؟
فأكون خاتم قلبك الحافی ، أتأخذنی معكْ
فأكون ثوبك فی بلادٍ أنجبتكَ ... لتصرعكْ
و أكون تابوتاً من النعناع یحملُ مصرعكْ
و تكون لی حیاً و میتاً ،
ضاع یا ریتا الدلیلُ
و الحبُّ مثل الموت وعْدٌ لا یُردُّ ... و لا یزولُ ))
(( محمود درویش : قصیدة شتاء ریتا ))
ونظراً لغیاب الشروط الصحیة لقیام علاقة إنسانیة بین الرجل و المرأة أساسها الوجدان النقی و التواصل الخلّاق بعیداً عن الابتذال و الذكوریة ، فقد تحوّلت الحبیبة فی معظم الأحیان إلى حلم من خلال الأسْطَرَة التی تعكس محاولة الشاعر رسم تصور معین لأنثاه مفتقد فی الواقع ، فالشعراء فی معظم الأحیان كانوا یتـنفسون من خلال قراءاتهم فی تصویر علاقتهم بالمرأة بسبب افتقادهم إلى علاقات حقیقیة مع الأنثى كونهم جزءً من مجتمع شرقی بائس ، و أیّاً كانتْ جمالیات الأسْطَرَة فإن ذلك لا یمنعنا من القول من وجهة نظر خاصة أن هذا التقدیم الأسطوری للمرأة یعبر عن عدم قدرة الشاعر على تصوّر المرأة ككائن واقعی مكافئ له ، له حق مماثل فی الحیاة و التعبیر عن كوامن روحه و طاقاته :
(( عیناك غابتا نخیلٍ ساعة السَحَرْ
أو شرفتان راح ینأى عنهما القمرْ
عیناكِ حین تبسِمانِ تورقُ كالأقمار فی نَهَرْ
و ترقص الأضواء وهناً ساعة السَّحرْ
كأنما تنبض فی غوریهما النجومْ ))
(( بدر شاكر السیّاب : أنشودة المطر ))
و تحوّلتْ المرأة لدى الكثیر من المثـقفین إلى شیء من أشیائهم یحملونه من مكان إلى آخر كما یحملون أمتعتهم ، فالمرأة ترد لدى مظفر النواب فی الغالب كلحظة شبقیة تـنسیه متاعب طریق النضال الوعر أو إلى جانب الكأس، والسیكارة، والأرض، والوطن، والرحیل ... ، إنها عدّة الشغل كما یقول یحیى الجباعی .
و كثیراً ما كان مظفر یقدم من خلال صورة المرأة المومس صورة مصغرة للمجتمع ( مثل قصیدة فی الحانة القدیمة ) ، أو یبدأ قصائده بوصف جنسی شبقی قبل الدخول إلى غرض القصیدة الأساسی تماماً كما كان یبدأ شعراء الجاهلیة بالوقوف على الأطلال .
و أخیراً نورد مقطعاً شعریاً لسعاد الصباح وُفِّقتْ فیه إلى حدٍّ كبیر فی تقدیم صورة أخرى لعلاقة المرأة و الرجل بعیدة عن التـناول النمطی و الثـنائیة التقلیدیة ( المرأة الحبیبة / المرأة الأخت – الأم ) ، و على الرغم من الخلل الذی تعانیه اللغة الشعریة و هبوطها إلى مصاف اللغة النمطیة النثریة لكن ذلك لا یمنعنا من الإشادة بالمضمون كمثال یمكن أن یحتذیه الشعراء :
(( كم جمیلٌ لو بقینا أصدقاء
كم جمیلٌ .. أن كل امرأةٍ تحتاج إلى كف صدیق
كُنْ صدیقی .. كُنْ صدیقی
لماذا تهتمُّ بشكلی و لا تدركُ عقلی
كُنْ صدیقی .. كُنْ صدیقی
أنا محتاجةٌ لمیناء سلامْ
و أنا متعبةٌ من قصص العشق و أخبار الغرامْ
فتكلّمْ .. تكلّمْ
لماذا تـنسى حین تلقانی نصف الكلامْ
كُنْ صدیقی .. كُنْ صدیقی
لیس فی الأمر انتقاصٌ للرجولة
غیر أن الشرقیَّ لا یرضى بدورٍ غیر أدوار البطولة ))
و على كلٍّ یبدو أن الحداثة الشعریة التی عمّتْ الشكل الشعری فی تقدیمها للمرأة لم تستطع سوى تلمیع صورة المرأة و إعادة تقدیمها بصیغ جدیدة و لكنها لم تحقق قَطْعاً مع الصورة التقلیدیة ، فالحداثة ظلتْ نتوءاتٍ نافرة فی وعی النخبة المثـقفة و عموم الوعی الاجتماعی العام ، لتبقى بذلك حریة المرأة فی الشعر كما فی معظم میادین الحیاة السیاسیة و الاجتماعیة العربیة عنواناً لم یجد سبیله إلى الواقع .

عمار عكاش – طالب فی قسم علم الاجتماع – جامعة حلب – marsel81@maktoob.com
المراجع :
• یحیى الجباعی : المثـقفون والموقف من المرأة وحقوقها. مقال مأخوذ عن شبكة الإنترنت .
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:24|
ربــــاعیـــات الـخیــــام

روعة الانتشاء ولوعة الفناء




    غدونا لذی الأفلاك لعبة لاعــب
    أقول مقالا لست فیه بكـــــــاذب
    على نطع هذا الكون قد لعبت بنا
    وعدنا لصندوق الفنا بالتعاقــــب
     
    عمربن إبراهیم الخیام

إذا كان المعری فی الشعر العربی هو " شاعر الفلاسفة وفیلسوف الشعراء" ذلك أنه ضمن شعره آراءه الفلسفیة فی الحیاة وخلاصة تأملاته وقراءاته فی الفكر الفلسفی وقد جمع ذلك كله فی "اللزومیات"، فحق لشاعر نیسابور وعالمها عمر الخیام أن یدعى شاعر العلماء وعالم الشعراء فقد جمع بین العلم الدقیق والفن الأصیل وزاوج بین التأمل فی العدد والتأمل فی الوجود، فجاء فی شعره كما جاء فی علمه فرادة إبداع وأصالة فكر وصدق فراسة وحرارة وجدان، وحق لزبدة إبداعه الشعری المعروفة بـ "الرباعیات" أن تنال مرتبة الخلود ومرتبة العالمیة ، ذلك أنها خیر ماأبدعته فارس من الشعر الجامع بین عمق الفكرة وجمال العبارة وصدق الشعور وحق لعمر الخیام أن یستوی بین شعراء فارس شاعرا فذا من كبار شعراء الانسانیة وأن تكون رباعیاته زادا فكریا وجمالیا وإنسانیا خیر ماتهدیه فارس إلى العالم .

وحیاة الخیام غامضة لانعرف عنها الكثیر وأول شك ینتاب الباحث هو تحدید تاریخ میلاده وقد تضاربت الروایات فی ذلك ومن المرجح أنه ولد فی النصف الثانی من القرن الخامس الهجری وقد عاش فی زمن السلاجقة وهو عصر تمیز بالإحن والدسائس والاغتیالات وأما لقب الخیام الذی اشتهر به فقیل أن والده كان صانع خیام، ولقد عرف الخیام منذ حداثة عهده بالألمعیة والذكاء، فحفظ القرآن الكریم وأتقن علوم اللغة والدین وآنس من نفسه المیل إلى الریاضیات والفلك فأبدع فیهما و بهما طار ذكره فی البلاد الاسلامیة وقربه الملوك والرؤساء وكان السلطان ملكشاه السلجوقی ینزله منزلة الندماء والخاقان شمس الملوك ببخارى یعظمه ویجلسه معه على سریره، وأما أصدقاؤه فی شبابه فهما "نظام الملك" و "حسن الصباح" الداعیة الفاطمی الذی فر إلى "ألموت" وهی قلعة أسس فیها حكم" الإسماعیلیین" الذین قضى علیهم "هولاكو" عام 1256 م ولما استوزر " نظام الملك " جعل لصدیقه عمر عشرة آلاف دینارا من دخل نیسابور إجلالا لمقامه وتقدیرا لعلمه، ووفاء لمیثاق الصداقة بینهما ثم اغتیل نظام الملك وانقطع دخل الخیام وقدحت العامة فی دینه ورمته بالزندقة فلزم التقیة، واختلف مؤرخو زمانه فی عقیدته وسیرته قال فیه البیهقی: " أنه تلو ابن سینا فی أجزاء علوم الحكمة وعرفه بالإمام وحجة الحق غیر أنه أضاف أنه كان سئ الخلق ضیق العطن وكان یتخلل بخلال من ذهب، أما ابن الأثیر فی الكامل فذكر أنه أحد المنجمین عملوا الرصد للسلطان ملكشاه السلجوقی سنة 467 هـ وقال عنه القفطی فی تاریخ حكماء الإسلام" إمام خراسان وعلامة الزمان یعلم علم یونان، ویحث على طلب الواحد الدیان، بتطهیر الحركات البدنیة لتنزیه النفس الانسانیة، وأما وفاة الخیام فمنهم من یجعلها سنة 515 هـ الموافق لـ1121 م ومنهم من یجعلها سنة 526هـ الموافق لـ 1132 م ومن مآثر الخیام العلمیة " شرح مایشكل من هندسة إقلیدس" و "مقالة فی الجبر والمقابلة" ، إضافة إلى أرصاده وأزیاجه الفلكیة، وقد قامت شهرة الخیام على الرباعیات وهی تلك المقطوعات الشعریة المقسمة إلى أربعة أبیات ضمنها فلسفته فی الوجود والملاحظ فی الرباعیات هو اتفاق البیت الأول والثانی والرابع فی الروی واستقلال البیت الثالث برویه وهو مایشبه كثیرا الدوبیت الرباعی الفارسی الأصل.

ولئن اختلف نقاد الأدب ودارسو حیاة الخیام فی صحة نسبة الرباعیات إلیه أو بعضها، فمن قائل أنها لیست لعمر الخیام الریاضی، وإنما لشاعر آخر بهذا الاسم، إلى ناقد آخر یزعم أن بعضها تصح نسبتها إلیه، وبعضها الآخر مدسوس علیه خصوصا ما تعلق بالإشارة إلى الغیب والقدر والإیمان والبعث، وقد تعمد كثیرون تشویه صورة الخیام غیرة وحسدا فنظموا شعرا ونسبوه إلیه حتى تثور علیه العامة وینتهی أمره إلى الحاكم الذی سیأمر بقتله رمیا بالزندقة، وفی أدبنا نظیر لذلك، فالمعری دس علیه الكثیرون شعرا لم یقله یثور فیه على الأدیان بل یسفهها وینتقد الرسل ویشكك فی عالم الغیب غیر أن المعری برئ من ذلك ومن قائل أن كثیرا من محبی الخیام والمتحمسین له كلما وجدوا شعرا على شاكلة الرباعیات وخفی علیهم قائله نسبوه إلیه عن حسن نیة.

ولاشك أن استقصاء الأمر صعب وتتبع مسارب التاریخ المظلمة فی ظل غیاب الوثائق التاریخیة التی تنیر حلكاته یجعل من الأمر شبه مستحیل !

ولقد رأى نقاد الأدب عندنا وشعراؤنا المحدثون الرأی الأول أی صحة نسبة بعض الرباعیات إلى الخیام وإنكار البعض الآخر وتحمسوا لها تحمسا منقطع النظیر، والحق أن الرباعیات تحفة فنیة وكنز أدبی حقیق بالخلود وحقیق بالعالمیة لأن مضمونها إنسانی، على الرغم من تأخر اكتشاف ذلك ولسكوت فیتزجرالد الإنجلیزی دالة على الخیام فهو الذی اكتشفها ودرسها وتحمس لها وترجمها إلى الانجلیزیة فأحدثت دویا كبیرا تجاوز إنجلترا إلى أروبا و أمریكا ، بل أسس فیتزجرالد نادیا فی لندن سماه " نادی الخیام " ضم كل محبی الخیام وشعره ، ولم یكتف بذلك بل سافر إلى مسقط رأس الخیام وزار قبره و أحضر معه زهرة من الزهور الحافة من حول القبر وغرسها فی نادیه بلندن حتى تنفحهم بأریج الشاعر و أریج رباعیاته ، ودعك من الأسطورة التی روج لها الكثیرون من محبی الخیام والتی تزعم أن الخیام تنبأ فی حیاته بنمو نوع معین من الزهور حول قبره ، وهذا اللون من القصص نعرف المغزى منه، فالشخصیة التاریخیة یخلق محبوها أساطیر حولها حتى یستلوا مشاعر الإعجاب من الناس ویخلقوا هالة من القداسة لأن النفس المحبة تنزع إلى أن تشاركها الأنفس مشاعرها ، غیر أن الناقد الحصیف لا یفوته ذلك ،وباكتشاف فیتزجرالد للخیام وترجمته لرباعیاته تنبه أدباؤنا ونقادنا إلى قیمة الرباعیات ومضمونها الانسانی وغناها الشعوری وقیمها الفنیة والجمالیة وتحمسوا لنقلها إلى لغة الضاد ومنهم من عربها عن الإنجلیزیة كمحمد السباعی ومنهم من عربها عن الفارسیة كالشاعر المصری أحمد رامی الذی سافر إلى باریس لدراسة اللغة الفارسیة عامین منقبا وباحثا فی الأدب الفارسی ورباعیات الخیام تحدیدا ،وعقب عودته توظف أمینا بدار الكتب المصریة وكان قد تهیأ له زاد أدبی فأسقط كثیرا من الرباعیات وعرب ما وثق أنه تصح نسبته إلى الخیام وقد شاعت هذه الترجمة بعد أن غنت أم كلثوم بعضا منها .

وربما كان فی ترجمة رامی بعض التصرف غیر أنه سعى جهده حتى لا یتقول على الخیام ما لم یقله أوأن یخرج عن روح الرباعیات ساعیا جهده فی ذات الوقت أن تكون الرباعیات فی العربیة تحفة بیانیة و إنسانیة وغیر السباعی ورامی من الذین ترجموا الرباعیات الشاعر العراقی جمیل صدقی الزهاوی و أحمد الصافی النجفی وقد عرباها عن الفارسیة، وودیع البستانی و الشاعر البحرینی إبراهیم العریض الذی توفی حدیثا وقد عرباها عن الإنجلیزیة ، ولیست هذه هی كل الترجمات إنما المشهور منها وستبقى بسحرها ومضمونها الإنسانی وحیرتها الوجودیة مصدر إغراء للأدباء العرب على مر الأجیال وكر الدهور بنقلها كرة أخرى إلى العربیة إمعانا فی الدقة والقرب من روحها وروح مبتكرها .

فرباعیات الخیام إذا ترنیمة حزینة تنعى إلینا زوال الانسان وهیمنة الزمن وقهره للموجودات وانقلاب لحظات المتعة شقوة وانقلاب أیام الانسان مجرد ذكرى شأن الجذوة تشع نارا ونورا ثم تخبو رمادا و الانسان لا حول له و لا قوة أمام هذا القهر الكونی المتجلی فی الموت الذی یطال بسیفه الانسان ثمرة الوجود ومكمن العبقریة وسر الحیاة ومستودع المشاعر فیغدو ذلك الكائن رهین اللحد والدود والظلام الأبدی كأن لم یكن بالأمس ذلك الشاعر أو العالم أو الحاكم أو الفقیه أو الثری الذی ملأ الأسماع و الأبصار ، وتغدو لحظات صفوه و أنسه مجرد ذكرى ، فما الذی ینقذ الإنسان من هذا المأزق الوجودی ؟ لا شیء غیر طلب النشوة التی تهیؤها الخمرة والبهجة التی ینشرها مجلس أنس وذلك عزاؤه وذریعته إلى تناسی فجیعة الموت مادام لیس فی الإمكان تفادی قبضته . قال الخیام ( من ترجمة إبراهیم العریض من المتقارب )

    أفق یا ندیم استهل الصبـــاح
    وباكرصبوحك نخب الملاح
    فمكثك بین الندامى قــــــــلیل
    و لا رجعة لك بعد الـــرواح
    فهات حبیبی لی الكأس هات
    سأنسى لها كل ماضی وآت
    غدا ویح نفسی غدا قد أعود
    وأعرقهم فی البلى من لداتی

ولیست فجیعة الزوال مشاعر حوم حولها الخیام لوحده فطرفة بن العبد الشاعر الجاهلی الذی قتل فی سن السادسة والعشرین تناول ذلك فی شعره

    ألا أیهذا الزاجری أن أحضر الوغى
    و أن أشهد اللذات هل أنت مخلدی ؟
    فإن كــنت لا تستــطیع دفــع منیتـی
    فـــدعنی أبــادرها بما مـــلكت یدی
    
    ویقول كذلك :
    
    لعمرك إن الموت ما أخـــطأ الفتى
    لكـــالطول المرخى وثنیاه بالیــــــد
    متى مــــا یشــأ یومـــا یقده لحتفه
    ومـــــــن یــك فی حبل المنیة ینقد

غیر أن الخیام یمتاز عن طرفة وغیره ممن تناولوا فجیعة الرحیل بإ بداع معمار فنی ضمنه فلسفته الوجودیة من المقطع الأول إلى المقطع الأخیر دون أن ینصرف إلى أشیاء أخرى أو یتناقض مع نفسه وذلك هو امتیازه الكبیر .

و للخمرة حضور قوی فی الرباعیات بل هی محورها الأساسی ألیست مهوى القلوب ومطلب الأنفس الشاعرة وملجأ المعذبین یتوسلون بها عرائس الشعر علها تجود علیهم بآیات العبقریة بل حتى المتصوفة وهم رهط من الناس انقطع إلى العبادة والتأمل والمجاهدة طلبا للعرفان وقد عرف هذا الرهط بالتقوى وقیام اللیل وماذاقوا خمرة فی حیاتهم قط، لم یجدوا غیر الكرمة والخمرة والكأس یكنون بها عن الحب الإلهی والانتشاء به، متناسین دنیاهم منقطعین عن العالم متوحدین فی الأباطح والقلل،ألم یقل ابن الفارض مكنیا بالخمرة عن الحب الإلهی:

    شربنا على ذكر الحبیب مدامــــــة
    سكرنا بها من قبل أن تخلـق الكرم
    صفاء ولامــاء ولطف ولاهـــــــوا
    ونـور ولا نــــار وروح ولا جسم !
    وقــالوا شربت الإثم كلا وإنمـــــا
    شربت التی فی تركها عندی الإثم !

أما خمرة الخیام فهی بنت الكروم وقعیدة الدنان هی خمرة حقیقیة ولیست مجازیة هی سلوى الراحل وعزاؤه وذریعته إلى النسیان بها تقر عینه وتنتشی نفسه، ویسكن رأسه فلا جرم أن یطلبها ملحا فی طلبها قبل ساعة الرحیل:

    سیحیا لحبك قلبی المــــــعنى
    لطرفك یسقی مع الخمرخمرا
    لجورك مـــــادام وعدك منـا
    فیبدع فنا وأبدع فنـــــــــــــا
    
    فجدد مع الكأس عهد غرامك
    وحل مـــــــرارتها بابتسامك
    وعــــجل فجوقة هذی الطیور
    قد لا تطیل الطواف بجامك

وأما المقاطع التی تغنت بها سیدة الغناء العربی وكوكب الشرق الراحلة السیدة أم كلثوم ومن ترجمة صدیق عمرها الشاعر الكبیر أحمد رامی فمن البیت الأول یبتدأ حدیث الخمرة والزوال غیر أن أم كلثوم وصاحبة العصمة كما كانت تدعى ، والتی كانت تتمنع عن الغناء فی مكان تدور فیه الصهباء وهی المعروفة بعفافها وتقواها وحرصها على أداء الصلاة، وقد تمیزت عن جل المغنیین فی زمنها بثقافة أدبیة عریقة، وذوق فنی عالی غذته بقراءة دواوین فحول الشعراء وأمهات كتب الأدب كالأغانی والعقد الفرید وخزانة الأدب وغیرها من كتب الأدب، ولم تشأ أن تذكر الخمرة فیما تغنت به من شعر الخیام فغیرت كلمة" الحان" إلى كلمة " الغیب" وعدلت عن كلمة " الطلى" إلى " المنى" فغنته وفقا لسلوكها وشخصیتها .

قال الخیام من ترجمة رامی من بحر السریع كما تغنت به أم كلثوم:

    سمعت صوتا هاتفا فی الســــــحر
    نادى من الغیب غفاة البشـــــــــر
    هبوا املأوا كــأس ا لمنى قبل أن
    تفعم كأس العمر كف القــــــــــدر

وأما ترجمة العریض عن النص الإنجلیزی لهذا المقطع بالذات فجاءت هكذا ( من المتقارب ) :

    لقد صاح بی هاتف فی السبات
    أفیقوا لرشف الطلى یاغفــــــاة
    فما حقق العمر مثل الحبــــاب
    ولاجدد العمر مثل الســـــــــقاة

وبین المقطعین اختلاف فی إصابة المعنى الذی أراده الخیام والراجح أن رامی الأقرب إلى إصابة المعنى باعتباره عربه عن الفارسیة رأسا، غیر أن هذا یخلق إشكالیة فی الأدب تذهب حد اتهام الترجمة بالخیانة أی خیانة النص الأصلی والخروج عن معانیه الدقیقة وذلك راجع لاختلاف روح اللغة المترجم عنها والمترجم إلیها، وقد كان الجاحظ یرى أن الشعر لا یترجم بهذا المعنى !

لقد كان الخیام إذا عقلا باحثا فی علة الوجود ونفسا لا تركن إلى یقین، وأراد أن یتجاوز فی فهمه للوجود النصوص الدینیة معتمدا على تفكیره الحر وثقافته الفلسفیة التی استمدها من الفكر الیونانی وربما الهندی وهو من الذین یحق علیهم قول أبی الطیب :

    ذو العقل یشقى فی النعیم بعقله
    وأخو الجهالة فی الشقاوة ینعم

وفی الرباعیات إشارة إلى مكابدة المعرفة وجحیم الشك والمجاهدة فی سبیل الیقین لولا أن العمر لا یفی بذلك (من السریع):

    أحس فی النفس دبیب الفــــــناء
    ولـــــم أجن من العیش إلا الشقاء
    یاحسرتا إن حان حینی ولم یتح
    لعقلی حل لغز الــــــــــــــقضاء

وهو فی شعره یسمح لعقله بأن یوغل فی التفكیر فی مسائل الغیب وتقلیب الأمر على وجوهه كمجىء الانسان إلى الدنیا اضطرارا والغایة منه، لكن التفكیر لا ینتهی بالشاعر إلى یقین قال الخیام( من ترجمة رامی من السریع):

    لبست ثوب العیش لم أســــــــتشر
    وحرت فیه بین شتى الـــــــــــــفكر
    وسوف أنضو الثوب عنی یوما ولم
    أدرك لماذا جئت، أین المـــــــــــــفر

فلیطلب الشاعر شیئا من العزاء فی حضرة الكأس ألا إن لحظات النشوة بدل من خلود فما أغلاها من بدل والخمرة تثیر فی النفس قابلیات صوفیة، فقد نص ولیم جیمس على أن قوة الكحول راجعة بلا شك إلى قدرته على إثارة القابلیات الصوفیة وهی ذلك المد من الطوفان الذی ینبثق من الدفء الداخلی والنشاط الحی وهی مستعصیة فی أوقات الصحو لارتباطها بالمتطلبات والشكوك والإنطباعات الذاتیة وقوة الكحول تأتی من قدرته على شل هذه الدیدان الماصة للحیویة، تاركة الحرارة الحیویة لتتجمع وتشكل نوعا من الخزان الداخلی الذی هو فی مضمونه تركیز للطاقات للوصول إلى لحظة "الذاتیة الداخلیة" .

والخیام الشاعر كما یحتفی بالخمرة یحتفی بالجمال ذلك أن قدرة الخمرة فی إحداث التركیز تتیح للشاعر طرح كل همومه وأحزانه ووساوسه والتأمل فی الجمال والإحساس به وتذوقه فی الطبیعة والانسان، وقد عشق الخیام الفتاة" نسرین" والتی اقتبست من الزهر اسمه وشذاه وجماله لولا أن عصفت بها ریح المنون فی مقتبل العمر فأورثت الشاعر حسرة وعمقت فیه الإحساس بجبروت القدر وقهره وعدم استجابته لرغائب النفس وأحلامها، وفی أحضان الجمال یسهو الشاعر قلیلا عن لوعة الفناء ومن ترجمة العریض من (المتقارب) یقول الشاعر :

    ویالیت شعری أتلك الزهور
    عرائس نعمى جلتها الستور
    فمن قبلة الشمس هذا الحیاء
    ومن لؤلؤ الطل ذاك السرور؟

وجوهر الجمال هو النزوع إلیه وتعشقه تعشق الفراش للنور والهیام به لأن فی الحب سلوى عن زوال الموجود:

قال الخیام من ترجمة رامی( من السریع):

    أولى بهذا القلب أن یخــــــفقا
    وفی ضرام العشق أن یحرقا
    ماأضیع الیوم الذی مربـــــی
    من غیر أن أهوى وأن أعشقا !

وفی الرباعیات ظاهرة لایمكن إغفالها تتعلق بنقد الناس والتندید بالنفاق وتعلق الناس بالمظاهر مهملین الجوهر، ویبدو أن الشاعر عانى من ألسنة الناس وخاصة عوامهم كما عانى من مطاردة الفقهاء له الذین ربما رموه بالمروق عن الدین والفسق والعربدة، ولذا صب الخیام جام غضبه على هؤلاء الناس متهما إیاهم بالنفاق، واقرأ ذلك كله فی هذین البیتین من ترجمة جمیل صدقی الزهاوی( من الخفیف):

    قال شیخ لــمومس أنت سكرى
    كل آن بصاحب لك وجــــــــــد
    قال إنی حـــــــقا كما قلت لكن
    أنت حقا كمــــــــــا للناس تبدو؟

ومع تصریح الشاعر بطلب المتعة والنشوة تناسیا لأوصاب الوجود وجحیم الشك وعذاب الفكر وسلاطة ألسنة الناس ظل فی عقله الباطن یحمل تبعة الإحساس بالذنب وهو المسلم الذی یتلو من القرآن آیات تنص على حرمة الخمر واعتبارها من الموبقات، وعن العذاب الذی أعده الله لمتعاطیها إن لم یكفوا عنها،غیر أن الشاعر سیجازف بطلبها إلى آخر رمق من حیاته معتمدا على إیمانه بالله وبوحدانیته وعلى فعله المعروف وإحسانه إلى الفقراء لیسلم من النقمة وفوق ذلك كله ملتمسا عفو الله الذی أوصى عباده أن لا یسرفوا على أنفسهم لأن الله یغفر الذنوب جمیعا. قال الخیام من ترجمة مصطفى وهبی التل( من الطویل):

    
    إلهی قل لی من خلا من خطــــــیئة
    وكیف ترى عاش البرئ مــــن الذنب ؟
    إذا كنــــــــــت تــــجزی الذنب بمثله
    فـمـــا الــفـرق بـیـنـك وبـیـنی یاربی؟

فلیسع الشاعر إلى الحان طالبا لحظات الصفو مع ندمائه، ملتمسا السعادة من دنان بنت الحان ولیشفع له إیمانه بالله ووحدانیته، كما قال: من ترجمة العریض(من المتقارب):

    لئن قمت فی البعث صفر الیدین
    وعـــــــــطل سفری من كل زین
    فیشـــــــــــفع لـــی أنـــنی لم أكن
    لأشرك بالله طرفة عیــــــــــــــن

وذلك ما حدا بالشاعر إلى اختتام رباعیاته بتلك الأبیات التی تنم عن حرارة إیمانیة وتسلیم بوحدانیة الله وأمل فی عفوه متوسمة عطفه ورحمته، ومن ترجمة رامی( من السریع):

    یـــــاعالم الأسرار علم الیقین
    یاكاشف الضر عن البائسین
    فئنا إلى ظلك فــــــــاقبل عن
    عـــبــــادك تــــوبة التـــائبین

وهی عودة إلى شاطئ الإیمان بعد التیه فی أقیانوس التفكیر وفیافی التأمل والبحران وما یلقى صاحبه من مكابدة ومجاهدة وعذاب نفسی كبیر ولربما استعان الشاعر بیقین الریاضیات على شكوك الانسانیات ولربما أعطته نتائج الریاضیات بعض الراحة والعزاء فأوغل فی هذا العلم إیغالا منقطع النظیر فتوصل إلى نتائج قیدت باسمه كحل معادلة من الدرجة الثالثة بواسطة قطع المخروط، وطبق الریاضة على الفلك ذلك العلم الذی یعنی فی لاوعیه المطلق والسامی والعالم الحر بلا حدود وهی مفاهیم یتعشقها الخیام، وله فی الفلك بحوث جدیرة بالإعجاب والتقدیر، ولربما استعان الشاعر بالخمرة كما یرى ولیم جیمس حتى یصل إلى مرتبة الذاتیة الداخلیة ویشل فی نفسه وعقله كل الدیدان الماصة للحیویة فیندغم بنشوة الخمرة فی الوجود فتصبح الذات والموضوع واحدا، خاصة إذا رأى الإنسان أن المعرفة لا تنتهی بالانسان إلى معرفة كل ما یجهله لأن العمر ذاته قصیر ألم یقل المتنبی ذات مرة:

    ومن تفكر فی الدنیا ومهجتــــه
    أقامه الفكر بین العجز والتعب !

ومن ثمة یغدو الإحساس بالوجود وبمحاولة الإندغام فیه ومعالجته بالذوق خیر ما یسعف المتأمل إذا استعصى علیه تحویل الوجود إلى موضوع یشبعه بحثا ودرسا واستقصاء كذلك كان الخیام فی علمه وفی شعره وفی سیرة حیاته عقلا جبارا لاینی یفكر ویدرس ویستقصی، وقلبا إنسانیا رقیقا انطوى على أنبل المشاعر، ونفسا إنسانیة كذلك رهیفة نأت عن النفاق والأنانیة والكذب والحسد والشره وهی من أرذل الصفات التی ندد الخیام بها، وقد أهدى إلینا فتى نیسابور " الرباعیات " وهی فی رأینا أجود آثاره وأجل أعماله،ذلك أن العلم الریاضی والفلكی اللذین مارسهما الشاعر تجاوزهما العلم الحدیث ولم تعد لهما من قیمة- اللهم إلا تتبع تاریخیهما وآلیة تطوریهما – ولقد أهدى إلینا شعراؤنا وأدباؤنا رباعیات الخیام فی حلة عربیة قشیبة فكانت فی العربیة كما كانت فی الفارسیة آیة من آیات البیان والفكر والشعور .
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:24|

قد یبدو العنوان جد مترف , إذا ما القینا نظرة على حجم الموضوع والمساحة التی یمكن ان یاخدها . فهو ابعد من إن نحصره فی مقال صغیر , وحدیثنا عن الواقعیة و الشكلانیة سیقودنا ابعد من ذلك . محاولة رصد الجدل الثقافی والفكری الذی یحف هدا المجال , أی المجال الأدبی والفنی .و سنحاول متعمدین «طبعا» ان نستشرف افاقا اخرى فی مجالات شتى . لاعتبار ما یمیز المدرسة الواقعیة بالخصوص من تاثیر فیها وتاتر بها .
سنة 1924 كتب تروتسكی یقول « اذا ماتركنا جانبا الاصداء الضعیفة التی خلفتها انظمة ایدیولجیة سابقة على الثورة ...نجد ان النظریة الوحیدة التی اعترضت الماركسیة فی روسیا هی النظریة الشكلانیة فی الفن » هذه الفقرة المقتطفة من كتاب الادب والثورة تبین لنا بوضوح شیئین اساسین :
اولا . ان النظریة الشكلانیة اعترضت النظریة الماركسیة وبرز منظروها كخصوم جریئین للایدیولجیة الماركسیة .
تانیا . عندما یتحدت تروتسكی عن اعتراض طریق الماركسیة فانه یتكلم ضمنا عن اعتراض طریق المدرسة الواقعیة التی أترت فی العدید من انماط الكتابة والادب والتعبیر فی متقفی دول حركة التحرر فی العالم باسره .
بدایة سنحاول ان نعطی تعریفا موجزا عن كلا المدرستین , رافضین مسبقا الاحكام المنتجة حولهما ..
وسنبدا بالمدرسة الشكلانیة . فالشكلانیون هو الاسم الذی اطلقه خصوم الابویاز على هاته الجماعة , وتعنی كلمة )الابویاز ( جمعیة دراسة اللغة الشعریة ) وقد تأسست سنة 1914 وكانت تتركب من اعضاء اهمهم opoiaz)
شلوفسكی . بریك . بولیفانوف . تیتیانوف . ایخبناوم . جیرمونسكی . یاكوبسون . وقد توقفت اعمال هذه المدرسة فی النصف التانی من العشرینات .
وصف لونا شاركسی الشكلانیة الروسیة سنة 1930 بانها :تخریب اجرامی ذو طبیعة ایدیولوجیة .
وسنة 1930 ایضا كانت بدایة نهایة الشكلانیین , حین قام احد السوسیولجیین (ارفاتوف) بمحاولة لتطعیم المنهج الشكلی , بالتحلیل الاجتماعی الماركسی .
اما عن المدرسة الواقعیة فسنقول بمزید من الحزم انها المدرسة التی تبتدا من شیرنیشفسكی وتمتد الى حدود الان . هو المنهج الدی ینهل من الواقع وخصوصیته دون الخضوع للوهم والعزلة والتقوقع والذاتیة .و هده تعریفات الواقعیین انفسهم .
وسوف نعرض للواقعیة ومن ثم الواقعیة الاشتراكیة , انطلاقا من شیرنشیفسكی , مرورا بماركس وانجلز و بلیخانوف وصولا الى لینین . دون ان ننسى ان موضوعنا هدا هو مقاربة تستدعی فتح أفق للرؤیا من جهة . وتنشد نقاشا بین اصدقاء تشدنا الیهم وشائج الصلة الفكریة من جهة اخرى . متمسكین ما امكن بالموضوعیة التاریخیة دون مشایعة مدرسة على اخرى او منهجا على اخر ..دون ان نسقط فی التفاؤل او الثوریة ادا امكننا قول ذلك . ونحن نعرض لنظرة المدرستین فی الادب و الفن سوف لن نغفل موضوعا اخر شدید الصلة بهما , بل یؤثر فی سیرهما وقد یحدده وهو علم الجمال .
یقول یاكوبسون :ان موضوع علم الادب , لیس الادب , وانما الادبیة .
كان هذا اول مبدا استرشد به الشكلانیون متجاوزین الرمزیین الذین توقفوا عند حدود مفهوم اللغة الشعریة كصورة . لیحصروا (الشكلانیون) اهتمامهم فقط فی نطاق النص . ویحسب الشكلانیون للرمزیین تخلصهم من النیر الایدیولوجی الذی كان سائدا فی روسیا والذی یحث على العلاقة السببیة بین الادب والحیاة . والذی استحال فی نظرهم الى عقیدة جامدة . ولم یاكد الرمزیون فقط على العلاقة بین الادب والمیتافیزیقا , بل حاولوا ان یلموا باسرار اللغة الشعریة . نظرا لعلاقتهم بآراء فقیه اللغة بوتبنیا .
اما المبدا الثانی الدی استرشد به الشكلانیون فهو یتعلق بمفهوم الشكل . فقد رفضوا رفضا باتا بان لكل أثر ادبی تنائیة الشكل والمضمون . واكدوا على ان الخطاب الادبی یتمیز عن غیره ببروز شكله . یقول ایبخنباوم ان” ما یسمى بالمنهج الشكلی لم ینتج عن نضام منهجی خاص ولكن عن جهود لخلق علم مستقل ملموس “

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:23|
منذ رحل هذا الشاعر الجنوبى الأسمر عن عالمنا والاف الأ ضواء تتسلط على ساحة حروفه القویة الرصینة الصادقة المعبرة العمیقة وكأنها تتعرف لأول مرة على الثراء الفنى الذى رحــــل صاحبه بعد رحلة حیاتیة قصیرة انهكه فیها المرض اللعین والحروف التى لم تعرف الانحناء ، عـــــاش فیها مطاردا من الجلاد والمحقن یصارع السوط ومشرط الطبیب وألام المرض الخبیث حتى ودع دنیانا
هذا الشاعرالذى قالوا فى مقدمة دیوانه الذى جـــــــمع اعماله الكاملة بعد وفاته واصدرته دار روزالیوسف القاهریة
,, لیس أمل شاعرا یتغنى بالقصائد انه یمسك السكین ویكتب به الكلمات،،
هذا الشاعر الذى اتسم بالصلابة والذى كان یقول :
لقد قتلت عبر سنوات العذاب كل أمل ینمو بداخلى قتلت حتى الرغبات الصغیرة والضحــك الطیب 0
وعندما نعته الكاتب كمال الملاخ بالشاعر العاطفى ثارت ثائرة النقاد وقال أحدهم انه لم یقـــرأ شعر أمل دنقل ولم یعرفه لأن أمل لایكتب بالقلم ولكن یكتب بالسكین0
وقال الشاعرأحمد عبدالمعطى حجـــازى :أن أمل فى حدیثة صریح قاطع عنیف لایعبأ باللیاقة ولا یلقى بالا للاستدراك انما یواجه هدفه بغیر تحوط أو مداراه 0
وكان أمل یقول أرید أن یكون عقلى هو السید الوحید لا الحب ولا الجنس ولا الأمانى الصغیرة اننى لا أقبل كلمة رقیقة من أمرأة لأن هذا سیضطــــرنى الى الترفق معها وهذا یعنى التودد الیها وهذا یمثل الضعف الذى لایغتفر 0
كان أمل یخجل من مجرد وصفه بالشاعرلأن وصف الشاعر یقترن فى أذهــــــــــان الناس بالرقة والمشاعر الفیاضة والنعومة 000 وهو القائل :
اه لو أملك سیفا للصراع
اه لو أملك خمسین ذراع
لتسلمت بایمانى الهرقــلى
مفاتیح المدینة00
كان یبدو مزهوا بالقوة والعنفوان والقلب الذى لایعرف العــــــــواطف
ویخاطب الناس:

ایها الناس كونوا اناسا00
هى النار وهى اللسان الذى یتكلم بالحق 00
لاتدخلوا معمدانیة النار 00
كونوا لها الحطب المشتهى00
والقلوب الحجارة 00
وقد كان یعزى هذا الى نشأته الصلبة الخشنة الجافة وتزمت والده الازهرى وطبیعتة الصعیدیة
یقول فى قصیدته الكعكة الحجریة :
ایها الواقفون على حافة المذبحة00
اشهروا الأسلحة 00
سقط الموت وانفرط القلب كالمسبحه 00
والدم انساب فوق الوشاح 00
المنازل أضرحة 00 والمدى أضرحة 00والزنازن أضرحة00
فاشهروا الأسلحة00
رایتى عظمتان وجمجمه 000
وشعارى الصیاح00
ثم یقول فى دفتر الاستقبال :
لاتسألى النیل أن یعطى وأن یلدا
لاتسألى ابدا 00
انى لأفتح عینى حین افتحها 00
على كثیر ولكنى لا أرى أحدا00
ویقول فى فقرات من كتاب الموت :
كل صباح0أفتح الصنبور فى ارهاق00
مغتسلا فى مائه الرقراق00
فیسقط الماء على یدى دمى 00
وعندما أجلس للطعام مرغما00
ابصر فى دوائر الأطباق 00
جماجما00 جماجما 00
مفغورة الأفواه والأحداق00
هكذا یبدو أمل دنقل شاعر متحجر المشاعر صخرى المزاج لایعرف العاطفة حتى أن الكاتبة عبله الروینى أرملة الشاعر قالت عنه فى كتابها الجنوبى انه كان شدید الصــلابة كالجرانیت الصخرى فهو قادر دائما على كتمان انفعالاته بل وأحیانا على اظهار عكسها0
ولعلنى أرى ان أمل دنقل استطاع ان یخدع الجمیع فوضع على وجهه قناعا زائفا أخفى به وجهه الحقیقى الذى یتدفق عاطفة ویتفجر حبا وهو الذى یملك وجدانا جیاشا بالمشاعر الرقبقة مهـــــما حاول ان یوهم الناس ان العاطفة لدیه لحظة ضعف حاول أن یطردها من حیاته0
هل افتقد العاطفة هذا الشاعر الذى قال :
ووقفنا فى العیون الخرس00
قول لایذاع 00 یخنق اللحن 00
فتدمیه اعاصیر المستباح0بین اطراق 00
وحزن القلب 00 اضناه الوداع00
وهل صخرى ذلك الذى قال :
ونظرت فى عینیك من عبر الدموع00
عینان خضروان كالخلد الرطیب00
فرأیت احزانا توسوس فى الربیع00
وحنان وجـــد صادق لم تبصریه 00
أن أمل قلب یبشر بالحب یقول فى قصیدته الملحد:
لكم جئت للحب أزجى القرابین 00 والحب عبد له سؤدد
أتیتك یوما صغـــــــــــیرا غریرا 00یجاذبنى نورك المـــوقد
وحفت الیك بحــــــــار الدموع 00 یلوح خلفـــــها المعبد
وهو القائل أیضا :
وأنا المسىء الیك یاحبى المنتظر00
فأنا تراب مندثر 00ولأنت طاهرة كحبات المطر 00
وهل بعد ذلك شك فى ان امل دنقل كان شاعرا عاطفیا بنفس الدرجة التى تمیز فیها كشاعر سیاسى ولعله كان صادقا عندما قال الشاعر بلاحب كالشعر بلا معنى
یقول فى قصیدة من دیوانه مقتل القمر
احدق فى خطوط الصیف فى شفتیك00
یعوى داخلى الحرمان00
لهیب أدمى الشوق00 مصباحان یرتعشان
واهرب نحو عینیك 00
یطالعنى الهوى والله والغفران
او قصیدته التى یقول فیها:
شاء الهوى أن نلتقى سهوا00
كم كنت افتقدك 00یاوجهها الحلوى00
والعجیب أن أمل كان حریصا على عدم نشر قصائده العاطفیة مثل قصائده (حب/راحلــــة /اذكرینى/الملحد/ نانا/ الوداع/ ستأتین لى / الموزة السمراء ) رغم ماتحمله من عاطفة متدفقة وصفاء كنور الفجر 0
ربما أراد ألا یراه أحد فى لحظة ضعف ولعل رفیقة رحلته السیدة عبلة الروینى كانت صادقة عندما قالت :
كتب أمل عن صدیق له هذه الكلمات فخلته یكتب عن نفسه
( كنت دائم الخـوف من أن یكتشف الناس كم أنت رقیق فیدهسوك بسنابكهم )0
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:22|
عائشة عبدالرحمن
( بنت الشاطیء) رحمها الله
مولدها و نشأتها
هی عائشة محمـد عبد الرحمن المكناة ببنت الشاطئ، الكاتبة المصریة والباحثة والمفكرة والأستاذة الجامعیة فی الأدب العربی، ولدت فی السادس من نوفمبر عام 1913 وذلك فی مدینة دمیاط بشمال دلتا مصر، و هی من بیت علم وعلماء، فقد كان والدها عالماً من علمــاء الأزهر، وقد تربت على یدیه تربیة إسلامیة صحیحة، فنهلت من جلسات الفقه والأدب التی كان یقیمها والدها كما حفظت القرآن الكریم فی مدارس القرآن المسماة بالكتاتیب والتی كانت منتشرة فی القرى آن ذاك. تعلیمها لم یكن تعلیم الفتاة متاحاُ فی ذلك الوقت، وقلیلات هن الفتیات اللواتی استطعن اللحاق بركب التعلیم وكانت عائشة واحدة من المحظوظات، على الرغم من أن والدها لم یتقبل الفكرة فی البدایة إلا أن عائشة استطاعت الالتحاق بمدرسة اللوزی الأمیریة للبنات و ذلك بمساعدة جدها لأمها الشیخ إبراهیم الدمهوجی ، ومن هنا بدأت مرحله أخرى من مراحل حیاة الكاتبة عائشة بنت الشاطئ حیث أخذت بتخطی مراحل التعلیم مرحله تلو الأخرى تنهل من عباب هذا البحر الكبیر. حتى حصلت على شهادة الكفاءة للمعلمات عام 1929 وذلك بترتیب الأولى على القطر المصری. و من ثم حصلت على الشهادة الثانویة عام 1931م. و لم تتوقف مسیرتها التعلیمیة عند هذا الحد بل التحقت بجامعة عین شمس وتخرجت من كلیة الأدب قسم اللغة العربیة، تلا ذلك حصولها علی شهادة الماجستیر بمرتبة الشرف الأولى عام 1941 . زواجها وأبنائها : وفی خلال فترة دراستها الجامعیة تزوجت عائشة من أحد فحول الفكر و الثقافة فی مصر آن ذاك آلا وهو الأستاذ الجامعی أمین الخولی، وقد أنجبت منة ثلاثة أبناء ، ولم تشغلها مسؤولیاتها الجدیدة كزوجة و أم عن طلب العلم ، ففی عام 1950م حصلت على شهادة الدكتوراه فی النصوص بتقدیر ممتاز، وقد نوقشت الرسالة من قبل عمید الأدب العربی الدكتور طه حسین. حیاتها العملیة وعملت عائشة فی عدة وظائف وتبوأت عدة مناصب مهمة، فعملت أستاذة للتفسیر والدراسات العلیا فی كلیة الشریعة بجامعة القرویین فی المغرب، وبعد ذلك أستاذ كرسی اللغة العربیة وآدابها فی جامعة عین شمس من ( 1962-1972 ) بجمهوریة مصر العربیة،كما عملت أستاذة زائرة لجامعة أم درمان عام 1967 و لجامعة الخرطوم وجامعة الجزائر عام 1968 ولجامعة بیروت عام 1972 ولجامعة الإمارات عام 1981 وكلیة التربیة للبنات فی الریاض( 1975-1983). ودرست ما یقارب العشرین عاماً بكلیة الشریعة فی جامعة القرویین بالمغرب فی وظیفة أستاذة للتفسیر والدراسات العلیا. كما شغلت عائشة عضویة مجموعة من الهیأة الدولیة المتخصصة ومجالس علمیة كبیرة مثل المجلس الأعلى للشؤون الإسلامیة بمصر ، و المجالس القومیة المتخصصة ، و المجلس الأعلى للثقافة، كما كانت أیضاً أحد أعضاء هیئة الترشیح لجوائز الدولة التقدیریة بمصر. إنتاجها الأدبی إلى جانب كل هذا كانت الدكتورة عائشة أدیبة و ناقدة وهی صاحبة إنتاج أدبی غزیر ومتنوع فی الدراسات القرآنیة مثل ( التفسیر البیانی للقرآن الكریم) و( الإعجاز البیانی للقرآن) و تراجم سیدات آل البیت النبوی ومنها بنات النبی ، نساء النبی ، أم النبی ، السیدة زینب ، عقلیة بتی هاشم ، السیدة سكینة بنت الحسین. كما تطرقت لدراسة الغزو الفكری من خلال (الإسرائیلیات فی الغزو الفكری) و هی إحدى مؤلفاتها ، كما قامت بتحقیق الكثیر من النصوص والوثائق و المخطوطات ، ولها أیضاً دراسات شتى فی المجالات اللغویة و الأدبیة مثل : نص رسالة الغفران للمعری، والخنساء الشاعرة العربیة الأولى، ومقدمة فی المنهج، وقیم جدیدة للأدب العربی ،وقد نشر لها العدید من البحوث المنشورة ومنها المرأة المسلمة ، و رابعة العدویة، والقرآن وقضیة الحریة الشخصیة الإسلامیة، و من الأدبیات و القصص لها ذخیرة كبیرة مثل: على الجسر، الریف المصری، سر الشاطئ، وسیرة ذاتیة وقد سجلت فیه طرفًا من سیرتها الذاتیة فتحدثت فیه عن طفولتها على شاطئ النیل ونشأتها و أیضا جاءت على ذكر زوجها الراحل ونعته فی هذه السیرة الذاتیة بكلمات رقیقة. ولم یتوقف الإنتاج الأدبی للدكتورة عائشة عند هذا الحد بل كانت أیضاً تكتب للصحف والمجلات، فبدأت الكتابة، وهی فی سن الثامنة عشر فی مجلة النهضة النسائیة وقد كانت تكتب تحت اسم (بنت الشاطئ)، وهو اسم مستعار مستمد من ذكریاتها و لهوها علی شاطئ النیل وقد فضلت كاتبتنا آن تستتر ورائه نظراً لشدة محافظة عائلتها آنذاك، وبعد ذلك بعامین فقط بدأت الكتابة فی جریدة الأهرام المصریة، وهی تعتبر من أعرق الصحف الیومیة العربیة، فكانت بنت الشاطئ ثانی امرأة تكتب بها بعد الأدیبة می زیادة، وكانت لها مقالة طویلة أسبوعیة حیث بقیت تكتب للأهرام حتى وفاتها فكانت آخر مقالة نشرت لها فی تاریخ 26 نوفمبر 1998 وكانت بعنوان (علی بن أبی طالب كرم الله وجه).وقد تبنت الدكتورة عائشة عدة قضایا فی حیاتها خاضت بسببها العدید من المعارك الفكریة، فأخذة على عاتقها الدفاع عن الإسلام بقلمها فوقفت ضد التفسیر العصری للقرآن الكریم ذوداً عن التراث، كما دعمت تعلیم المرأة بمنطق إسلامی. التفسیر البیانی للقرأن الكریم هو أحد مؤلفات عائشة بنت الشاطئ، ویتكون هذا الكتاب من جزأین ظهرت الطبعة الأولى منه سنة 1962م وكان من المؤهلات التی نالت بها أستاذ كرسی اللغة العربیة وأدبها بجامعة عین شمس، وقد أهدت بنت الشاطئ هذا الكتاب إلى أستاذها وزوجها الإمام أمین الخولی. تناولت بنت الشاطئ فی هذا الكتاب تفسیر السور القصار من القرآن الكریم وذلك من وجهة نظر خاصة، حیث فسرت ألفاظ القرآن الكریم من الناحیة اللغویة فقد قدرت أن العربیة فی لغة القرآن فعملت على تلمس الدلالات اللغویة الأصلیة التی تعطینا حس العربیة لمادة القرآن الكریم فی مختلف استعمالاتها الحسیة والمجازیة، ثم انتهت بتلخیص ملامح الدلالات القرآنیة باستقراء كل ما فی القرآن من صیغ الألفاظ وتدبیر سیاقها الخاص فی الآیات والصور. وقد تمیز أسلوبها فی هذا الكتاب بوضوح اللغة وسهولتها، وعملت على الاستشهاد بالكثیر من الأحادیث النبویة الشریفة، وقد قامت بالربط بینها وبین السور القرآنیة المذكورة فی الكتاب ، كما أوردت آراء بعض علماء اللغة والدین من أمثال الشیخ محمد عبده والحسن البصری والزمخشری. جوائزها حصلت الدكتورة عائشة على الكثیر من الجوائز منها جائزة الدولة التقدیریة للأدب فی مصر والتی حازت علیها عام 1978م، كما حصلت أیضا على جائزة الحكومة المصریة فی الدراسات الاجتماعیة، و الریف المصری عام 1956 م، ووسام الكفاءة الفكریة من المملكة المغربیة، وجائزة الأدب من الكویت عام 1988م، وفازت أیضا بجائزة الملك فیصل للأدب العربی مناصفة مع الدكتورة وداد القاضی عام 1994م. كما منحتها العدید من المؤسسات الإسلامیة عضویة لم تمنحها لغیرها من النساء مثل مجمع البحوث الإسلامیة بالقاهرة، والمجالس القومیة المتخصصة، وأیضاً أَطلق اسمها علی الكثیر من المدارس و قاعات المحاضرات فی العدید من الدول العربیة. وفاتها رحمها الله وفی الأول من شهر دیسمبر عام 1998 رحلت عنا الدكتورة بنت الشاطئ بعد إصابتها بأزمة قلبیة أدت إلى حدوث جلطة فی القلب و المخ وهبوط حاد بالدورة الدمویة، وقد خلفت خلفها ثروة هائلة من الكتب و المؤلفات ألا دبیه التی و إن عبرت عن شئ فستعبر عن جهاد هذه المرأة المسلمة والتی بذلت فی سبیل علمها وقلمها الذی كان كالسیف البتار.لذلك ستبقى كتاباتها وذاكرتها قدوة لمن بعدها وعلماً یشیر إلى المكانة السامیة التی وصلت إلیها المرأة المسلمة. وستبقى ذكراها خالدة فی أذهان طلابها المنتشرین فی كل بقعة من بقاع عالمنا العربی و الذین صاروا أعلاماً فی الفكر و الأدب. كما سیهیم طیفها حول كل طالب علم تصفح كتبها أو تبنى أفكارها

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:21|

أثر العربية‌ في‌  الشعر الفارسي‌

        اللغة‌ كسائر مظاهر الحياة‌ تعمل‌ فيها الحوادث‌ و الطواري‌ء فتعطيها شيئا" و تأخذ منها شيئاً، فقد تتغير مبانيها و صورها علي‌ مرور الزمان‌ و كثرة‌ العوامل‌ فإذا بها لغة‌ أخري‌ قد لا تشبه‌ أصلها في‌ شي‌ء و لا يجمعها معها لفظ‌ ،و ذلك‌ إذا ما تهيأت‌ لها أسباب‌ التغيير و التبديل‌ و التجديد، و هذا ما طرأ علي‌ جميع‌ اللغات‌ البشرية‌ عند مرورها بعوارض‌ زمنية‌ عملت‌ فيها عملها ، و من‌ هذه‌ اللغات‌ كانت‌ اللغة‌ الاءيرانية‌ .

            لقد مرت‌ اللغة‌ الاءيرانية‌ بثلاثة‌ أدوار: دور اللهجات‌ القديمة‌، و دور اللهجات‌ الوسطي‌، و دور اللهجات‌ الحديثة‌ و الحاضرة‌، و بالطبع‌ كانت‌ هذه‌ الادوار الثلاثة‌ بمثابة‌ حلقات‌ ربط‌ الزمن‌ بعضها ببعض‌، و أبعدتها الحوادث‌ و الطواري‌ء و التفاعل‌ في‌ سلسلة‌ طويلة‌ لم‌ يعد لا´خرها خبر عن‌ أولها إلا الشي‌ء اليسير و النزر القليل‌ .

            و حين‌ دخل‌ الاءسلام‌ بلاد إيران‌ كانت‌ اللغة‌ الاءيرانية‌ الشائعة‌ هي‌ اللغة‌ " البهلوية‌ " و هي‌ من‌ أهم‌ اللهجات‌ الاءيرانية‌ الوسطي‌ التي‌ كان‌ قد تم‌ بها تسجيل‌ الكثير من‌ الا´ثار الزرادشتية‌ و تعاليمها، كما تم‌ بها تسجيل‌ الكثير من‌ الا´ثار الزرادشتية‌ و تعاليمها، كما تم‌ نقل‌ كتاب‌ " الافستا" إلي‌ لغتها، و يدل‌ تاريخ‌ اللهجات‌ الاءيرانية‌ علي‌ أن‌ اللغة‌ الدريّة‌ و هي‌ اللغة‌ الفارسية‌ الحديثة‌ للدور الثالث‌ كانت‌ معروفة‌ في‌ " المدائن‌ " عند دخول‌ الاءسلام‌ إليها، و هي‌ امتداد للغة‌ البهلوية‌ و أحد مظاهر التفاعل‌ بين‌ اللهجات‌ المتقدمة‌، و اعتبر الجنرال‌ "سايكس‌ " في‌ كتابه‌ " تاريخ‌ إيران‌ " أن‌ دخول‌ اللغة‌ العربية‌ في‌ اللغة‌ الفارسية‌ نهاية‌ لدور اللغة‌ البهلوية‌ ،و زاد علي‌ ذلك‌ أن‌ اعتبرها من‌ اللغات‌ المهجورة‌ .

           و امتدت‌ الفتوحات‌ الاءسلامية‌ إلي‌ بلاد إيران‌، و ظهر الاءسلام‌ في‌ صورته‌ العربية‌ لغة‌ و طبيعة‌ و حكما"، و عرض‌ الاءسلام‌ علي‌ السكان‌ الاءيرانيين‌ الدخول‌ إليه‌، فكان‌ ذلك‌ عاملا" في‌ دخول‌ اللغة‌ العربية‌ في‌ صلب‌ اللغة‌ الفارسية‌ الحديثة‌ و تغلغلها فيها .

           و في‌ تلك‌ الادوار كان‌ الاءيرانيون‌ يسعون‌ للاءحاطة‌ باللغة‌ العربية‌ لدواع‌ مختلفة‌، و كان‌ لطول‌ مدة‌ السيطرة‌ العربية‌ و انقطاع‌ الفرس‌ عن‌ الاتصال‌ بماضيهم‌، و ما أصاب‌ كتبهم‌ القديمة‌ من‌ إحراق‌ و تلف‌ أن‌ أدي‌ كله‌ إلي‌ تعزيز مدي‌ عمل‌ اللغة‌ العربية‌ في‌ اللغة‌ الفارسية‌، حتي‌ خرجت‌ بها مخرجا" آخر، ولكنه‌ مخرج‌ لم‌يتجاوز حدود اللفظ‌، لان‌ دخول‌ الكلمات‌ العربية‌ إلي‌ الفارسية‌ لم‌ يجر علي‌ أساس‌ الحاجة‌ إلي‌ المعاني‌ كما كان‌ قد حصل‌ من‌ طلب‌ العربية‌ للفارسية‌ و دخول‌ الكلمات‌ الفارسية‌ في‌ العربية‌ ،فحين‌ تستعمل‌ الفارسية‌ كلمة‌ " محبة‌ " و " جفا " و " عفو" و " عطا" و غير ذلك‌ من‌ الكلمات‌ التوددية‌ أو المعاكسة‌ للتودد من‌ اللغة‌ العربية‌ مثلا"، فلا تستعملها افتقارا" للمعني‌ كما استعملت‌ العربية‌ كلمات‌: " السندس‌ " و " الياقوت‌ " و "النجرس‌ " و "الزئبق‌ " و "الاءستبرق‌ "، و إنما قد جري‌ استعمالها لدواع‌ حضارية‌ و رغبة‌ بالاقتداء بذلك‌ النحو الذي‌ أضاع‌ عليها كيانها، فحملها علي‌ تقبل‌ هذا الجيش‌ الجرار من‌ الكلمات‌ العربية‌ .

           علي‌ أن‌ العامل‌ الاساسي‌ لنزوع‌ الاءيرانيين‌ إلي‌ العربية‌ هو دخولهم‌ دين‌ الاءسلام‌ و هذا ما سنعرضه‌...

            جاء الاءسلام‌ إلي‌ إيران‌ و جميع‌ طقوسه‌ و تعاليمه‌ و نصوصه‌ بالعربية‌، و كان‌ التبشير بالاءسلام‌ و باللغة‌ العربية‌ هو الغاية‌ الاولي‌ و الاخيرة‌ من‌ الفتوحات‌ الاءسلامية‌ .

            يقول‌ البروفيسور " إدوارد براون‌ " :إن‌ الا´ثار الاءيرانية‌ و حضارتها التاريخية‌ تعرضت‌ مرتين‌ لحملتين‌ أحدثتا فيها فجوتين‌ عميقتين‌ ،أولاهما: الحملة‌ التي‌ قام‌ بها الاءسكندر علي‌ إيران‌ و التي‌ انتهت‌ بزوال‌ "البارتيين‌ " و قيام‌ الساسانيين‌ في‌ عهد بلغ‌ مداه‌ خمسمائة‌ و خمسين‌ عاما"، أما ثانيتهما: فهي‌ الحملة‌ التي‌ قام‌ بها الاءسلام‌ علي‌ إيران‌ ،و التي‌ لم‌ ينته‌ بها عهد الساسانيين‌ فحسب‌، و إنما أطاحت‌ بالديانة‌ الزرادشتية‌، و علي‌ أن‌ مدة‌ هذه‌ الفجوة‌ كانت‌ أقصر من‌ الفجوة‌ الاولي‌، ولكن‌ تأثير الاءسلام‌ كان‌ عميقا" في‌ نفوس‌ الاءيرانيين‌ و  في‌ أفكارهم‌ و لغتهم‌ ،لان‌ الحضارة‌ اليونانية‌ و طابعها علي‌ ما رأي‌ "نولدكه‌ "( Neldke )لم‌ تستطع‌ أن‌ تتجاوز المظاهر و الشكل‌ و القشور من‌ حياة‌ الاءيرانيين‌، أما الشريعة‌ الاءسلامية‌ فقد تغلغلت‌  في‌ ذلك‌ الحين‌ بشكل‌ ملحوظ‌ في‌ أيران‌ .

            و يقول‌ " شبلي‌ نعماني‌ " في‌ "شعر العجم‌ ": إن‌ الحقيقة‌ هي‌ أن‌ الاءسلام‌ يشيع‌ و ينتشر في‌ أية‌  أمة‌، يشغل‌ الدين‌ منها كل‌ فراغها، و يحتل‌ جميع‌ نفوسها، بحيث‌  لا يبقي‌ مجال‌  للتفكير في‌ شي‌ء آخر من‌ الشؤون‌ المدنية‌ و الاجتماعية‌ غير الدين‌ .

           و يقول‌ " ابن‌ خلدون‌ ": إن‌ استعمال‌ اللسان‌ العربي‌ صار من‌ شعائر الاءسلام‌، وصار هذا اللسان‌ لسان‌ الشعوب‌ و الاقوام‌ في‌ جميع‌ المدن‌ و الامصار، و هذا ما دعا المدركين‌ من‌ المسلمين‌ الاءيرانيين‌ أن‌ يمنحوا الديانة‌ الاءسلامية‌ كل‌ ما يملكون‌ من‌ جهود للتفقه‌ بها، و دراسة‌ فلسفتها و أهدافها ،و الحدب‌ علي‌ القرآن‌ الكريم‌ و تتبع‌ تفاسيره‌، و ما تفيض‌ به‌ كتب‌ السيرة‌، و كتب‌ الحديث‌ و الاخبار و الرواية‌، و لما كانت‌ مثل‌ هذه‌

 العناية‌ بالدين‌ لا تتم‌ علي‌ وجوهها الكاملة‌ من‌ غير الاءحاطة‌ باللغة‌ العربية‌ و قواعدها، فقد أقبل‌ الكثير من‌ الاءيرانيين‌ و أولادهم‌ و أحفادهم‌ من‌ الداخلين‌ في‌ الاءسلام‌  مباشرة‌ أو من‌ الموالي‌ علي‌ دراسة‌ اللغة‌ العربية‌ و النصوص‌ الدينية‌ و متطلبات‌ البلاغة‌، حتي‌ لقد نبغ‌ فيهم‌ أئمة‌ و علماء: كأبي‌ حنيفة‌ النعمان‌ بن‌ ثابت‌ في‌ الفقه‌، و كالبخاري‌ في‌ الحديث‌ ،و الكسائي‌  و سيبويه‌ والفراء و الاخفش‌ في‌ النحو، و كأبي‌ عبيدة‌ معمر بن‌ المثني‌ في‌ اللغة‌ و الادب‌ و غيرهم‌ ممن‌ تصدوا لدراسة‌ الدين‌ و الادب‌ في‌ القرنين‌ الاول‌ و الثاني‌: أما الذين‌ نبغوا بعد ذلك‌ من‌ الموالي‌ أصلا" أو الداخلين‌ في‌ الاءسلام‌ مباشرة‌ أو انتقالا" عن‌ آبائهم‌، فقد كانوا كثيرين‌ جدا"، و عن‌ طريق‌ هؤلاء و أمثالهم‌ انتقلت‌ نصوص‌ الديانة‌ و شروحها و تفاسيرها و إعرابها و قواعد اللغة‌ و عروض‌ الشعر إلي‌ اللغة‌ و الفارسية‌، فكان‌ لها شأنها في‌ تطوير اللغة‌ الدريّة‌ الفارسية‌، و نسيان‌ أو تناسي‌ عدد غير قليل‌ من‌ الكلمات‌ الفارسية‌، بل‌ اختفائها نهائيا" من‌ القواميس‌ الفارسية‌ و حلول‌ الكلمات‌ العربية‌ محلها، و كان‌ الاهتمام‌ باللغة‌ العربية‌ من‌ الاءيرانيين‌ قد بلغ‌ القمة‌ منذ القرن‌ الثاني‌ الهجري‌، فما بعد حتي‌ ألفت‌ عدة‌ قواميس‌ للغة‌ العربية‌ باللغة‌ الفارسية‌ .لقد وقع‌ اختلاف‌ كبير عند مؤرخي‌ الادب‌ عن‌ الشعر الاءيراني‌ ،و عما إذا كان‌ للشعر وجود في‌ اللغة‌ البهلوية‌ قبل‌ دخول‌ الاءسلام‌ إلي‌ إيران‌ .و علي‌ الرغم‌ من‌ هذا الاختلاف‌، فإن‌ الرأي‌ يكاد أن‌ يكون‌ واحدأ في‌ أن‌ حضارة‌ كحضارة‌ إيران‌ و فنونا" كهذه‌ الفنون‌ المشهورة‌، منذ أول‌ تاريخ‌ إيران‌ حتي‌ اليوم‌ لتفرض‌ علي‌ الباحثين‌ الاءقرار بوجود الشعر، و الشعر الجذاب‌ الباهر، ولكن‌ أين‌ هو هذا الشعر ؟

            تناولت‌ الدراسة‌ قسم‌ الاناشيد من‌ " الافستا " باعتبارها أقرب‌ إلي‌ مفاهيم‌ الشعر، وقد لقيت‌ هذه‌ الدراسة‌ صعوبة‌ كبري‌ بالنظر لاختلاف‌ هذه‌ الاناشيد من‌ حيث‌ الصيغة‌ و التهجئة‌، و بالنظر لما دخل‌ علي‌ هذه‌ الاناشيد من‌ عبارات‌ و كلمات‌ يظن‌ أنها أضيفت‌ بعد زمن‌ طويل‌ إلي‌ هذه‌ الاناشيد ،كشروح‌ و توضيحات‌، ولكنها ما لبثت‌ أن‌ صارت‌ أصلا" ،و قد أحدث‌ تفريقها و فصلها فيما بعد عن‌ الاصل‌ الصحيح‌ مشاكل‌ عويصة‌، و كيفما كان‌ الامر فقد تصدي‌ عدد كبير من‌ علماء الاستشراق‌ إلي‌ دراسة‌ الشعر الفارسي‌ القديم‌ من‌ " الافستا" .

            علي‌ أنه‌ يمكن‌ اعتبار بداية‌ القرن‌ الثالث‌ الهجري‌ كنقطة‌ بداية‌ لتاريخ‌ الشعر الفارسي‌ كما نعرفه‌، و يقال‌ إن‌ أول‌ قصيدة‌ نظمت‌ في‌ الفارسية‌ الحديثة‌ كانت‌ قصيدة‌ "عباس‌ المروزي‌ " التي‌ ألقاها أمام‌ المأمون‌ ،و مع‌ هذا فإن‌ " أبا حفص‌ الحكيم‌ السندي‌ " كان‌ أول‌ من‌ نظم‌ بالفارسية‌ في‌ القرن‌ الاول‌ الهجري‌، و يبدو أن‌ تخطي‌ التاريخ‌ " لابي‌ حفص‌ " و اعتبار ابتداء تاريخ‌ الشعر من‌ " العباس‌ المروزي‌ " لم‌ يكن‌ إلا لان‌ العروض‌ العربي‌ الذي‌ لازمته‌ الفارسية‌ في‌ قول‌ الشعر الفارسي‌ لم‌ يظهر للوجود إلا في‌ القرن‌ الثالث‌ الهجري‌، و بعد أن‌ عمت‌ فيه‌ اللغة‌ الفارسية‌ الحديثة‌ جميع‌ إيران‌ ،بعد أن‌ كانت‌ مقتصرة‌ علي‌ الجهات‌ الشرقية‌ منها وحدها، و للشعر الفارسي‌ الحديث‌ ثلاثة‌ أدوار هي‌ :

           الدور الاول‌:  يبتدي‌ء من‌ " حنظلة‌ البادغيسي‌ " و ينتهي‌ بـ " نظامي‌ " .

           الدور الثاني‌:  و هو الدور المتوسط‌ ،و يبتدي‌ء من‌ "كمال‌ إسماعيل‌ "، و ينتهي‌ بـ " جامي‌ " .

           الدور الثالث‌:  و هو الاخير ،و يبتدي‌ء بـ " فغاني‌ "، و ينتهي‌ بـ " أبي‌ طالب‌ حكيم‌ " .

            و قد تغلب‌ علي‌ هذه‌ الادوار التي‌ تكامل‌ امتزاج‌ العربية‌ فيها بالفارسية‌ طبيعة‌ الشعر العربي‌ من‌ حيث‌ الموسيقي‌ أو الوزن‌، و من‌ حيث‌ البديع‌، أما من‌ حيث‌ الوزن‌ فكل‌ البحور في‌ الشعر الفارسي‌، باستثناء البعض‌ القليل‌ منها كبحر الرباعيات‌ مثلا"، عربية‌ اتخذها الشعر الفارسي‌ طريقة‌ للاداء، و كان‌ عمود الشعر العربي‌ من‌ حيث‌ الطريقة‌ واحدا" لا يكاد يحيد عن‌ نمط‌ القصيدة‌، قبل‌ أن‌ يظهر الموشح‌، فجاري‌ الشعر الفارسي‌ الشعر العربي‌ في‌ ذلك‌ أول‌ الامر، ثم‌ كسر عموده‌ و احدث‌ نظم‌ المقاطع‌ و الرباعيات‌ و المثنوي‌ و غيره‌، كما أحدث‌ الشعر الفارسي‌ في‌ طريقة‌ القافية‌ العربية‌ تغييرات‌ كثيرة‌ من‌ حيث‌ تعدد القوافي‌ في‌ المصاريع‌ أو القصيدة‌ أو سجعة‌ ما قبل‌ القافية‌ و غير ذلك‌ من‌ التصرفات‌ الفنية‌، و مع‌ ذلك‌ كله‌ فإن‌ المبني‌ العام‌ من‌ حيث‌ الموسيقي‌ و الوزن‌ في‌ الشعر الفارسي‌ لاينبغي‌ أن‌ يعتبر غير عربي‌ .

           و لم‌ تكن‌ البحور وحدها التي‌ أخذها الشعر الفارسي‌ من‌ العربية‌ نتيجة‌ للعوامل‌ التي‌ سردناها بخصوص‌ دخول‌ اللغة‌ العربية‌ في‌ صلب‌ اللغة‌ الفارسية‌، و إنما كان‌ للبديع‌ الذي‌ اتصف‌ به‌ الشعر العربي‌ أكثر من‌ أي‌ شعر آخر شأناً في‌ الشعر الفارسي‌ الحديث‌، و هذا لا يعني‌ أن‌ اللغة‌ الفارسية‌ بطبيعتها خلو من‌ البديع‌، ذلك‌ لانه‌ ليس‌ ثمة‌ لغة‌ تخلو من‌ ألوان‌ البديع‌ المعنوي‌ أو اللفظي‌ الطبيعي‌ علي‌ قدر قابلية‌ تلك‌ اللغة‌ و قدرة‌ تعبيرها، وعلي‌ الاخص‌ الفارسية‌، فإنها غنية‌ بالبديع‌ المعنوي‌ الطبيعي‌ البعيد عن‌ الصناعة‌ ،و تملك‌ الفارسية‌ الشي‌ء الكثير من‌ البديع‌ الذاتي‌ الذي‌ قد يظنه‌ البعض‌ ضربا" من‌ الصياغة‌ و البديع‌ اللفظي‌ الذي‌ تأتي‌ به‌ الصناعة‌، بينما هو بديع‌ ذاتي‌ تختص‌ به‌ الفارسية‌ كما تختص‌ به‌ العربية‌، و المقصود بالشأن‌ الذي‌ أحدثته‌ اللغة‌ العربية‌ من‌ بديعها في‌ الفارسية‌ هو التفنن‌ اللفظي‌ و الصياغة‌ الفنية‌ التي‌ تعتبر العربية‌ فيه‌ من‌ أغني‌ اللغات‌ الحية‌، و قد تأثرت‌ الفارسية‌ بهذا البديع‌ إلي‌ حد كبير، حتي‌ طفح‌ الشعر الفارسي‌ بألوان‌ كثيرة‌ من‌ الاستعارة‌ و الجناس‌ و التورية‌ و سائر ضروب‌ البديع‌ اللفظي‌ و فن‌ الصياغة‌ .

           و للحقائق‌ المذكورة‌ و غيرها فإننا نستطيع‌ القول‌ بأن‌ كلا" من‌ الشعر العربي‌ و الشعر الفارسي‌ قد أعطي‌ و أخذ، فقد أعطت‌ الفارسية‌ الشعر العربي‌ عمق‌ المعني‌ و جمال‌ التصوير و عمق‌ الحكمة‌ و اتساع‌ الافق‌. و أعطت‌ العربية‌ الشعر الفارسي‌ العروض‌ و البديع‌ و الدين‌ بمنازعه‌ و أفكاره‌ .

            ولكن‌ هناك‌ حقيقة‌ واضحة‌ يستطيع‌ كل‌ متأدب‌، فضلا" عن‌ الاديب‌ ،أن‌ يلمسها و هي‌ أننا إذا ألقينا علي‌ الشعر العربي‌ و الشعر الفارسي‌ نظرة‌ عامة‌ وجدنا أنفسنا أمام‌ أدب‌ يكاد يكون‌ واحدا" من‌ حيث‌ التصوير و التشبيه‌ و الكناية‌ و البديع‌، بحيث‌ إذا قمنا بترجمة‌ الادبين‌ إلي‌ لغة‌ أخري‌ صعب‌ علي‌ من‌ يتولي‌ درسهما أن‌ يفرق‌ بينهما و يعيد كل‌ أدب‌ إلي‌ أصله‌، و ذلك‌ لان‌ الاتصال‌ بين‌ هذين‌ الادبين‌ قد بلغ‌ حدا" لم‌ يبلغه‌ أي‌ اتصال‌ بين‌ أدبين‌ آخرين‌ ،بسبب‌ تلك‌ العوامل‌ التي‌ استعرضناها في‌ هذا المجال‌ .

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:20|
               «اگر مجموعه شعرخوانان دنیای عرب را در نظر بگیریم -و نه فقط روشنفکران و گروه اهل شعر و نقد را- بی هیچ تردیدی نزار قبانی پرنفوذترین شاعر زبان عرب در عصر جدید است. هیچ شاعر سنتی یا نوپردازی به اندازه نزار قبانی در میان عموم مردم و دوستداران شعر نفوذ نداشته و ندارد. وسعت دایره نشر مجموعه های شعری او با هیچ یک از شاعران تراز اول زبان عرب قابل مقایسه نیست.»

نزار قبانی، شاعر شهیر سوری و از مشهورترین عاشقانه سرایان جهان در سال 1923 به دنیا آمد. قبانی پس از فراغت از رشته حقوق به استخدام وزارت خارجه سوریه درآمد و در سفارتخانه های سوریه در کشورهای متعدد خدمت کرد، که در وسعت بخشیدن به نگاه وی به زندگی بی تاثیر نبوده است. او به زبانهای فرانسه، انگلیسی و اسپانیولی نیز مسلط بود. وی نخستین دفتر خود را با نام «زن سبزه رو به من گفت» منتشر ساخت. این کتاب در حالی«اگر مجموعه شعرخوانان دنیای عرب را در نظر بگیریم -و نه فقط روشنفکران و گروه اهل شعر و نقد را- بی هیچ تردیدی نزار قبانی پرنفوذترین شاعر زبان عرب در عصر جدید است. هیچ شاعر سنتی یا نوپردازی به اندازه نزار قبانی در میان عموم مردم و دوستداران شعر نفوذ نداشته و ندارد. وسعت دایره نشر مجموعه های شعری او با هیچ یک از شاعران تراز اول زبان عرب قابل مقایسه نیست.»

نزار قبانی، شاعر شهیر سوری و از مشهورترین عاشقانه سرایان جهان در سال 1923 به دنیا آمد. قبانی پس از فراغت از رشته حقوق به استخدام وزارت خارجه سوریه درآمد و در سفارتخانه های سوریه در کشورهای متعدد خدمت کرد، که در وسعت بخشیدن به نگاه وی به زندگی بی تاثیر نبوده است. او به زبانهای فرانسه، انگلیسی و اسپانیولی نیز مسلط بود. وی نخستین دفتر خود را با نام «زن سبزه رو به من گفت» منتشر ساخت. این کتاب در حالی منتشر شد که جو حاکم بر ادبیات سوریه هیچ نوع کارکرد جدیدی را در عرصه شعر نمی پسندید. خودش می گوید با نوشتن این کتاب در یک لحظه تاریخ ادب علیه من برخاست. اما شعر قبانی با بهره جستن از عنصر جسارت و وجه بارز برانگیزانندگی حس و عاطفه در مخاطب که بن مایه اصلی شعرش به شمار می رود توانست موافقان بسیاری را به خود جلب کند. بیشترین دغدغه شاعر پرداختن به عشق و در وهله دوم به چالش کشیدن فضای سیاسی اجتماعی حاکم بر سوریه آن زمان بود. از این رو منتقدان عرب در مواجهه با آثار او القابی چون شاعر عشق، شاعر زن، شاعر رسوایی، شاعر ملعون، شاعر شکست و ناامیدی و ... به او دادند.

شاید یکی از مهمترین اتفاقاتی که در زندگی شاعر تاثیر بسیار نهاد درگذشت همسر عراقی تبارش به نام «بلقیس » بود که در انفجار سفارت عراق در بیروت کشته شد. این اتفاق در شاعر به حدی تاثیر نهاد که در سال های بعد قبانی را بر آن داشت تا در شعرهای خود حکومت های عربی را ناسزای بیشتری گوید.

قبانی چون بسیاری از شاعران این کره خاکی معتقد است شعر در یک لحظه خاص بر شاعر الهام می شود و شاعر در خلق این فرآیند هیچ دخل و تصرفی ندارد. از این رو می گوید: «شعر هر طور که دوست دارد با ما بازی می کند. ما در دفتر کار منتظرش می شویم ، اما در اتاق خواب به سراغ ما می آید. در پذیرایی چشم به راهش می مانیم اما می بینیم که در حمام دوش می گیرد و...»

بخش‌هایی از اشعار نزار قبانی تاکنون به فارسی ترجمه و منتشر شده ‌است. محمدرضا شفیعی کدکنی، غلامحسین یوسفی، عبدالحسین فرزاد، مهدی سرحدی، موسی بیدج، و احمد پوری از مترجمانی هستند که تاکنون نسبت به ترجمهٔ بخشی از آثار نزار به فارسی اقدام کرده‌اند. از میان اشعار ترجمه شده وی به فارسی، دو شعر قارئه الفنجان (فالگیر)، و مع الجریره (با روزنامه) است که بن مایه نمایشنامه ای با عنوان «در جمعیت گم شد» ساخته شده در ایران هستند.

خوانندگان سرشناس عرب از جمله عبدالحلیم حافظ اشعاری از قبانی را اجرا کرده اند که اجرای فوق العاده زیبای شعر اول (قارئه الفنجان) را از اینجا می توانید بگیرید.

 

قارئه الفنجان

جلست. نشست.

جلست و الخوف بعینیها. نشست زن و ترس در دیدگانش بود.

تتامل فنجانی المقلوب. به فنجان واژگونم به دقت نگریست.

قالت یا ولدی لا تحزن. گفت: پسرم اندوهگین مباش.

فالحب علیک هو المکتوب یا ولدی. پسرم عشق سرنوشت توست.

الحب علیک هو المکتوب یا ولدی. پسرم عشق سرنوشت توست.

یا ولدی قد مات شهیداً پسرم به یقین شهید می میرد

من مات فداءً للمحبوب. آن که در راه محبوب جان بسپارد.

یا ولی، یا ولدی پسرم، پسرم

بصرت، بصرت و نجمت کثیراً بسیار نگریسته ام و ستارگان بسیار را مرور کرده ام

لکنی لم اقرا ابداً، فنجاناً یشبه فنجانک. اما فنجانی شبیه به فنجان تو نخوانده ام.

بصرت، بصرت و نجمت کثیراً بسیار نگریسته ام و ستارگان بسیار را مرور کرده ام

لکنی لم اقرا ابداً، احزاناً تشبه احزانک. اما غمی که مانند غم تو باشد نشناخته ام.

مقدورک ان تمضی ابداً فی بحر الحب بغیر قلوع سرنوشتت، بی بادبان در دریای عشق راندن است

و تکون حیاتک طول العمر. طول العمر کتاب دموع و سراسر زندگی ات کتابی است از اشک

مقدورک ان تبقی مسجوناً بین الماء و بین النار. و تو گرفتار میان آب آتش.

فبر غم جمیع حرائقه با وجود تمامی سوزش ها

و بر غم جمیع سوابقه و با وجود تمامی پی آمدها

و بر غم الحزن الساکن فینا لیل نهار و با وجود اندوهی که ماندگار است در شب و روز

و بر غم الریح و بر غم الجو الماطر و الا عصار و با وجود باد و گرد باد و هوای بارانی

الحب سیبقی یا ولدی. پسرم عشق بر جای می ماند.

احلی الاقدار یا ولدی. عشق زیباترین سرگذشت هاست.

بحیاتک یا ولدی امراة عیناها سبحان المعبود. به زندگی سوگند، در زندگی ات زنی است با چشمانی شکوهمند.

فمها مرسوم کالعنقود لبانش چون خوشه ی انگور

ضحکتها انغام و ورود، و خنده اش نغمه ی مهربانی،

و الشعر الغجری المجنون یسافر فی کل الدنیا. موی پریشان او چونان مجنون به اکناف دنیا سفرمی کند

قد تغدو امراة یا ولدی یهواها القلب هی الدنیا. پسرم زنی را اختیار کرده ای که قلب دنیا دوستدار اوست

لکن سماءک ممطرة و طریقک مسدود مسدود اما آسمان تو بارانی ست و راه تو بسته ی بسته

فحبیبة قلبک یا ولدی نائمه فی قصر مرصود. و محبوبه ی قلب تو در کاخی که نگهبانی دارد در خواب است.

من یدخل حجرتها من یطلب یدها، هر آن که بخواهد به منزلگاهش وارد شود و هر آن که به خواستگاری اش برود،

من یدنو من سور حدیقتها از پرچین باغش بگذرد

من حاول فک ضفائرها، و گره ی گیسوانش را بگشاید،

یا ولدی مفقود مفقود مفقود. پسرم ، ناپدید می شود ناپدید.

یا ولدی پسرم

ستفتش عنها یا ولدی، یا ولدی فی کل مکان. پسرم به زودی در همه جا به جستجو ی او خواهی پرداخت.

و ستسال عنها موج البحر و تسال فیروز الشیطان. از موج دریا و مرواریدهای کرانه ها سراغش را می گیری

و تجوب بحاراً بحاراً و در می نوردی و می پیمایی دریاها و دریاها را

و تفیض دموعک انهاراً و اشک ها ی تو رودها را لبریز خواهد کرد

و سیکبر حزنک حتی یصبح اشجاراً اشجاراً. و غمت چون فزونی می یابد درختان سر برمی کشند.

و سترجع یو ماً یا ولدی مهزوماً مکسورا الوجدان پسرم اما روزی باز خواهی گشت، نومید و تن خسته

و ستعرف بعد رحیل العمر و آن زمان از پس گذار عمر خواهی دانست

بانک کنت تطارد خیط دخان. که در تمامی زندگی به دنبال رشته ای از دود بوده ای.

فحبیبة قلبک یا ولدی لیس لها ارض او وطن او عنوان. پسرم معشوقه ی دلت نه وطنی دارد، نه زمینی و نشانی.

ما اصعب ان تهوی امراة یا ولدی لیس لها عنوان. وه چه دشوار است پسرم عشق تو به زنی که او را نام و نشانی نیست.

یا ولدی، یا ولدی. پسرم، پسرم.

 

 

 

مع الجریده

اخرج من معطفه الجریده از بارانی‌اش روزنامه‌ای درآورد

و علیه الثقاب و جعبه کبریتی

و دون ‌أن بلاحظ اضطرابی بی دیدن اضطراب من

و دونما اهتمامی بی اعتنا

تناول السکر من امامی قندان را برداشت از روبرویم

ذوب فی الفنجان قطعتین در فنجان دو حبه آب کرد

و فی دمی ذوب ذوب وردتین در خونم انگار گل سرخی آب کرد

ذوبتی...لملمنی... بعثرنی آبم کرد... به هم رساند... و پراکند

شربت من فنجانه از فنجانش نوشیدم

سافرت فی دخانه و ما عرفت این در دود سیگارش سفر کردم...به ناکجا

کان هناک جالسا و لم یکن هناک نشسته بود، اما آنجا نبود

یطالع الاخبار دنبال اخبار بود

و کنت فی جوارحی تأکلنی الافکار من کنار او... در بر اندیشه‌ها

تضربنی الامطار زیر شلاق باران

یا لیت هذا الرجل المسکون بالاسرار کاش این مرد در بند اسرار

فکر ان یقرأنی ففی عیونی اجمل الاخبار به ذهنش خطور می‌کرد که مرا بخواند که در چشمان من زیباترین خبرهاست

و بعد لحظتین و دون این یرانی دو لحظه‌ای گذشت، بی آنکه ببیندم

و یعرف الشوق الذی اعترانی بی آنکه شورم را دریابد

تناول المعطف من امامی از جلوی رویم بارانی را برداشت

و غاب فی الزحام و در جمعیت ناپدید شد

مخلفا وراء الجریده روزنامه تنها از او به جا ماند

وحیده مثلی انا وحیده تنها بود، مثل من، تنها، من تنها...

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:19|

الصورة الشعریة عند شعراء مدرسة الدیوان 

 

    

 

  بدأت حركة النقد عند مدرسة الدیوان وعلى رأسها عبد الرحمن شكری وزمیلیه العقاد والمازنی ، فبعد أن أصدر شكری دیوانه الأول عام 1901 م ، وقد تبلورت رؤیتهم النقدیة فی الربع الأول من القرن العشرین ، وقد قامت هذه الرؤیة النقدیة ولا سیما عند شكری على اعتبار أن وظیفة الشعر الأساسیة هی التعبیر عن وجدان الشاعر ، لأن الشعر فی جوهره عاطفة وقد هاجم شعراء مدرسة الدیوان الذین تبنوا مذهب التجدید فی الشعر شعر المناسبات الذی كان سائداً حینئذ فی المدرسة الكلاسیكیة أو التقلیدیة بقول :" وبعض القراء یهذی بذكر الشعر الاجتماعی ، ویعنی شعر الحوادث الیومیة مثل افتتاح خزان أو بناء مدرسة ... فإذا ترفع الشاعر عن هذه الحوادث الیومیة قالوا ، ماله ؟ هل نضب ذهنه ؟ أوجفت عاطفة ".              وقد یبنی أحد رواد هذه المدرسة وهو عبد الرحمن شكری مذهب .............. أحزانی ، وهو مذهب یجمع بین .......... الفكری والإحساس العاطفی ......... ، وكان لزمیلیه أثر بأخذ كل منها بأحد المذهبین الذین یناسبانه .              وقد تمیز المذهب النقدی الجدید الذی دعا إلیة شكری وزمیلیه العقاد والمازنی بالأتی :

 

           1 - أن الشاعر العبقری هو الذی یفكر كل فكر وأن یحس كل إحساس .    

 

       2 - الخیال هو كل ما یتخیله الشاعر من وصف جوانب الحیاة وشرح عواطف النفس وحالاتها.  

 

         3- .............. لا یراد لذاته ، و إنما یراد لشرح عاطفة أمر توضیح حالة أمر بیان حقیقیة . 

 

          4 – أجل العواطف الشعریة ما قیل فی التحلیل عواطف النفس ووصف حركتها ، كما یشرح الطبیب ..................          

 

 5 ـ الشعر هو ما أشعرك وجعلك تحسن عواطف النفس إحساسا شدیدا لا ما كان لغزا منطقیا أو خیالا مجنحا ، فالمعانی الشعریة هی خواطر المرء وآراؤه وتجاربه وأحوال نفسه وعبارات عواطفه .     

 

      6 ـ مراعاة وحدة القصیدة سواء أكانت وحدة فنیة أو وحدة عضویة ، فینبغی على الشاعر أن یمیز بین جوانب موضوع القصیدة وما یستلزمه كل جانب من الخیال والتفكیر .       

 

      الخیال والوهم عند عبد الرحمن شكری :    

 

       لقد حرص شكری على أن یمیز بین الخیال والوهم وهو تمیز یعترف به العقاد بأن شكری كان رائدة ، بل یضعه فی ذلك فی مستوى كبار الأدباء والمفكرین العالمیین ، فالخیال والوهم عند شكری یفترقان كثیرا ولا یتلبسان كما هو الحال فی أراء بعض النقاد ومختلطان فی إبداعات مخول الشعراء :   

 

        فالخیال عند الأدباء والشعراء المرموقین كان دائما وسیلة لإدراك الحقائق التی یعجز عن إدراكها الحسن المباشر أو المنطق بینما الوهم هروب من الواقع ومن الحقائق یقول شكری :

 

    " إن التخیل هو أن یظهر الشاعر الصلات التی بین الأشیاء والحقائق ، ویشترط فی هذا النوع أن یعبر عن الحق ، والتوهم هو أن یتوهم الشاعر بین شیئین صلة لیس لها وجود وهذا النوع الثانی یغری به الشعراء الصغار . ولم یسلم منه الشعراء الكبار" .         

 

  وقد بنی العقاد فی مذهبة النقدی ما عرف عنه بالأصالة الفردیة وهی المبدأ العام الذی تجده خلف دعوة التجدید فی الشعر التی قادها فی الصف الأول من القرن العشرین هو وصاحبه شكری والمازنی ، وهی الدعوة التی طابت بأن یكون الشعر تعبیرا عن الوجدان ، الفردی للشاعر ، وقد تطور هذا الوجدان الفردی فیما بعد الوجدان اجتماعی مع المحافظة على الطابع الوجدانی .       

 

    الأسس التی قام علیها مذهب العقاد النقدی هو الحریة التی لقتل معنى الجمال فی الحیاة والفن ، حیث على أساس الحریة ینبنی وحدة الفكرة فی الحیاة والفن یقول العقاد : 

 

                  " وقد أحببت أن أبنین هنا ما أرونه بوحدة الفكر والحیاة فی الفن فأقول أولا ، أن التجربة فی رأسی هی العنصر الذی لا یخلو منه جمال فی عالم الحیاة أو فی عالم الفنون " . 

 

          غیر أن العقاد تنبه إلى تفید الحریة إن صح التعبیر ومزن بینها وبین الغموض فیقول:"( وخلاصة الرأی أننا أحب الحریة حین نحب الجمال وأننا أحرار حین یعشق من قلوب سلیمة صافیة فلا سلطان علینا لغیر الحریة التی نهیم بها ولا قیود فی أیدینا غیر قیودها ولا عجب فحتى الحریة لها قیود " .  

 

         وقد طالب العقاد من خلال منهجه النقدی ولا سیما الموجه إلى أحمد شوقی بمجموعة من الأسس والقواعد النقدیة فیها الفردیة والمنهج النفسی الذی تبناه العقاد فی مذهبه النقدی والوحدة العضویة للقصیدة ، وما یتعلق بمقاییس المعانی مما تحدث فیه النقاد العرب القدماء كالإجابة والتی تعنی المبالغة فی المعانی مبالغة مسرفة . فیقول العقاد عنها:" أما الإجالة فهی حساد فی المعنى وهی ضروب : فمنها الاعتساف والشطط ، وفیها المبالغة ومخالفة الحقائق ، ومنها الخروج بالفكر عن المفعول ، أو قلة جذواه وخلو معزاه" .   

 

        ومن تلك المقاییس النقدیة القدیمة التی عرفها النقاد العرب وأسرفوا فی نقدها حتى جعلوها نوعا من السرقة الأبویة ، أما أخر تلك المقاییس التی اتبعها العقاد فی نقده شعر شوقی ومدرسة التقلید هو نظرتهم إلى التشبه ووظیفته الشعریة ، وهی كما یقول مندور:" هی تلك النظرة التی ثقلت التشبیه من مجال الحواس الخارجیة إلى داخل النفس البشریة إذا رأیناهم یعنی العقاد وزمیلیه ـ یطالبون بأن یكون الهدف من التشبیه هو نقل الأثر النفسی للمشبه من وجدان الشاعر إلى وجدان القارئ ، وبذلك فتحوا الباب أمام التعبیر الرمزی " .   

 

                                          الصورة الشعریة ووحدة القصیدة :    

 

       لم تكن الصورة الشعریة بدعما فی عالم الشعر والمذاهب النقدیة المعاصرة سواء عند مدرسة الدیوان أو المدارس الأخرى المحدودة كالمدرسة الرومانسیة والواقعیة والرمزیة ، فهی موجدة منذ عرف الشعر بل أن الشعر قائم علیها ، ولكن استخدامها یختلف من شاعر لأخر كما أنها فی الشعر القدیم تختلف عنه الشعر الحدیث ، وهی أكبر عون على نقدیهما كوحدة الشعریة أو على كشف المعانی القیمة التی ترمز إلیها القصیدة . ومع رجوع الصورة فی الشعر القدیم كما هی موجودة فی الشعر الحدیث إلا أنها فی الشعر الحدیث أكثر تطابقا ، ولكن الشاعر ینفر من استخدامها فی البرهان الإثبات ، ولعمل دائما على أن تكون صورة جدیدة وناقلة لتأشیر ومترابطة فی مجموعها بحیث تكون فیها صورا كبرى ، على أن صعوبة ما یحاوله الشاعر الحدیث توقعه فی الاضطراب فنجی وصورة محشودة أو مجتلبة فیخل بالترابط الذی یریده ، وتفجر قصیدته عن تحقیق ما یرید بها من غایة لأنها أغرقت فی التوجه نحو تلك الكفایة .  

 

         وقد عمد نقاد مدرسة الدیوان إلى استخدام الصورة غیر التكلفة والمنسجمة مع بعضها البعض وأن تكون صور جدیدة مبتكرة ، ولا یعنی حدة التصور التقاؤها فی أهم الشاعر بما یلتقی به مما حوله من مظاهر الحضارة لجدیدة وإنما تعنی ما تعكسه الصورة من تعبیر عن نفسیة الشاعر وكأنها تشبه الصور التی تتراءى فی الأحلام ، هذا من حیاتنا ومن جانب أخر أن یكون غرض الصورة مجتمعة قد تعین على كشف معنى أعمق من المعنى الظاهری للقصیدة ، ذلك لأن الصورة وهی جمیع الأشكال المجازیة إنما تكون من عمل القوة المخالفة التی هی منبع روح الشعر .    

 

       ومن الرؤیة السابقة للصورة فی الشعر الحدیث نجد أنها تحمل فلسفة جمالیة مختلفة عنه فی الشعر القدیم ، فأبرز ما فیها (( الحیویة )) ، وذلك لأنها تتكون تكونا عضویا ، ولیست مجرد حشد مرصوص من العناصر الجامدة ، ثم إن الصورة حدیثا تتخذ أداة تعبیریة ولا یلتفت ألیها فی ذاتها ، فالقارئ لا یقف عند مجرد معناها ، بل إن هذا المعنى یثیر فیه معنى أخر هو ما یسمى (( معنى المعنى )) أی أن الشاعر أصبح یعبر بالصورة الكاملة عن المعنى كما كان تعبیریا لفظیا ، وكما كانت اللفظة أداة تعبیریة فقد أصبحت الصورة ذاتها هی الأداة ، إلى جانب ما تقوم به الصورة من نقل المشاهد الحیة ، وتلخیص الخبرة والتجربة الإنشائیة .        

 

                                                أهمیة الصورة الشعریة :      

 

     یشیر الشاعر الإنجلیزی س . داى . یویس إلى أهمیة أن بمفرده دراسة الصورة الشعریة أن تلقی من الضوء على الشعر ما لا تلقیه دراسة أی جانب أخر من عناصره ، وأن هدفه الرئیس وأعظم خاصیة لفتته فه الصورة الجدیدة المؤثرة .            ویؤكد على أهمیة الصورة وظهرها فیقول :" إن الغرابة والجرأة والخصب فی الصورة هی نقطة القوة والشیطان المسیطر فی الشعر المعاصر ، وقیل كل الشیاطین فإنها عرضة للإفلات من سیطرتنا ... ولها قوة غامضة وتأثیر خفی " .      

 

      وقد اهتم الشعراء والنقاد على حد سواء بالصورة الشعریة ، وكانت دائما موضع الاعتبار فی الحكم على الشاعر حتى ولم ینص علیها فی الدراسات النقدیة العربیة ، وأن المفاضلة بین الشعراء لا تقوم إلا على أساس منها إلى الصورة والبناء الشعری .       

 

    ورغم أهمیة الصورة الشعریة فإن أی قصیدة لیس مجرد صور ، إنها على أحسن الفروض صور فی سیاجه ، صور ذات علاقة ، لیس ببعضها وحسب ، وإنما علاقة بسائر مكونات القصیدة ، وهذا یعنی أن دراسة الصورة بمعزل عن دراسة البناء الشعری تعتبر تعبیرا عن رؤیة جزیئیة ، فمهما كانت عمیقة أو مخیطة فإنها ستظل ناقصة من جهة ما ، فالصورة تكن لها شخصیتها وكیانها الخاص الذی یحدده المصطلح البلاغی ، فإنها تبقى صورة من تكوین شامل . 

 

                                             مدرسة الدیوان :     

 

      تكونت مدرسة الدیوان أثر صلات شخصیة وفكریة قامت بین أفراد هذه المدرسة وهم : عباس محمود العقاد ، وعبد الرحمن شكری ، وإبراهیم المازی ، وقد تفارق شكری والمازی فی مطلع عام 1906 م عندما كان تدرسان فی طیلة دار المعلمین العلیا واستثمرت هذه الصلاة بعد رحیل شكری إلى انجلترا ، ثم فقر المازی على العقاد من خلال العمل الصحفی للمازی ونشر العقاد لمقالاته الأدبیة ، أما علاقة العقاد شكری فیرجع الفضل فیها إلى المازی نفسه الذی تحدث لصدیقه شكری عن العقاد ومكانته الأدبیة ونشاطاته الفكریة مما دفع شكری إلى ترجمة هذا الإعجاب برسالة خطیة للعقاد أرسلها من انجلترا دون سابق فوقه ، وثم اللقاء الشخصی بینهما فی صیف عام 1913 م .  

 

         وهكذا تمت اللقاءات وثم لتوحد الفكری بین الأدباء الثلاثة وتمكنت هذه الجماعة من الإسهام الواضح فی دفع عجلة الأدب الحدیث نحو التطور والتجدید.        

 

   وقد تأثر أدباء مدرسة الدیوان بالرومانیة الغربیة لإجادتهم اللغة الإنجلیزیة التی أفادتهم كثیرا فی دراسة الشعر الإنجلیزی وخاصة شعر كل من بایرید وشیلی وسیتیوات ما ، ووردزوترت وغیرهم من انرس استجابتهم للاتجاهات الشعریة والنقدیة الغربیة وأثر هذه الاتجاه علیهم الأمر الذی فتح أمامهم المعنى الجدید للشعر ، غیر أن العقاد بنفس أن یكون تأثرهم بهؤلاء نابعا من التقلید الأعمى لهم وإنما كان فقط لتشابه فی المزاج واتجاه العصر كله ، ولم یكن تشابه التقلید والغناء.            ومن مظاهر تأثر مدرسة الدیوان بالرومانسیة الإنجلیزیة تلمس التالی : 

 

          1 ـ مهاجمتهم الشعراء عصرهم كشوقی وحافظ وغیرهما باعتبار أن أشعارهم ضربا من التقید والتقید بإغلال الماضی فی الفكر والأسلوب والموضوعات .  

 

         2 ـ المظهر الأخر من تأثرهم بالرومانسیة الإنجلیزیة یتمثل فی حدته جوهر الشعر والذی هو انعكاس لما فی النفس من مشاعر وأحاسیس وأنه یصدر عن الطبع إلى أذی لا تكلف فیه .  

 

         3 ـ تأثرهم بالرومانسیة الإنجلیزیة من حیث تحدید وظیفة الشعر وأهدافه ، إذ إن للشعر غایات وأهداف كثیرة مواء عند الرومانسیة أو غیرهم من المدارس الأخرى ، فالرابط بین المدرسة الرومانسیة والمدرسة الكلاسیكیة یكمن فی هذا الإطار ، فالرومانسیون یرون أن من أهداف الشعر الكشف عن مظاهر الجمال فی الوجود الإنسانی ، بل من أهدافه الكشف عن الحقیقة فی أعمق صورها وأمثلها )) .    

 

       وإلى الجانب اكشف عن مظاهر الجمال ینبغی مراعاة المتعة للقارئ التی یلمسها من معانی الشعر وصوره .

 

                                              الخیال والصورة :         

 

  عرف كولوج الخیال مفرقا بینه وبین الوهم بأنه إما أولى أو ثانوی ، فالخیال الأول هو القوة الحیویة أو الأولویة التی تجعل الإدراك الإنسانی ممكنا ، وهو تكرار فی العقل المتناهی لعملیة الخلق الخالدة فی الأنا المطلق . أما الخیال الثانوی فهو صدى للخیال الأولى ، غیر أنه یوجد مع الإرادة الواعیة ، وهو یشبه الخیال الأولى فی نوع الوظیفة التی یؤدیها ، ولكنه یختلف عنه فی الدرجة ، وفی طریقة نشاطه ، إنه یذیب ویتلاشى ویحطم لكی یخلق من جدید ، وحینما لا تتسنى له هذه العملیة فإنه على الأقل یسعى إلى إیجاد الوحدة ، وإلى تحویل الواقع مثالی إنه فی جوهرة حیوی ، بینما الموضوعات التی یعمل بها ( باعتبارها موضوعات ) فی جوهرها ثابتة لا حیاة فیها) .     

 

      (( والوهم نقیض ذلك لأن میدانه محدود وثابت ، وهو لیس إلا ضربا من الذاكرة تحرر من قیود الزمان والمكان ، وامتزج وتشكل بالظاهرة التجریبیة للإرادة التی نعبر عنها بلفظ ( الاختیار ) ، ونسبة الوهم الذاكرة فی أنه تعین علیه أن یحصل على مادته كلها جاهزة وفق قانون تداعی المعانی )).        

 

     یقسم كولدوج الخیال إلى نوعین : أولی ، وثانوی    

 

       الخیال الأولی: هو القوة الحیویة الأولیة التی تجعل الإدراك الإنسانی ممكنا ، وهو إدراك یقتصر فیه الشاعر على الصفات التی تهمه فقط من الشیء المدرك .        

 

   غیر أن الصورة فی الخیال الثانوی أو الشعری تستحوذ على اهتمامنا ـ كما یذكر محمد البرازی ـ أكثر من مجرد الإدراك ، لأنها لا تتعلم ، والصورة فی الخیال الشعری تستلزم أن یكون موضوعها غائبا على عكس الإدراك الذی یفترض وجود موضوعه حاجزا .        

 

   ریدرك المتتبع لتعریف كولدوج لمفهوم الخیال ویقسمه إلى أولی وثانوی ومدى الفرق بینهما أن الصورة فی الخیال الثانوی تفترض عدم وجود الشیء ، وإذا كان الفت یتخذ موضوعه أو مادته من الطبیعة ، فإنه یعطینا هذه الطبیعة بعد أن یفترض أنها غیر موجودة ، أو موجودة خارج نطاق إدراكه الخشی ، وهذه إحدى الفروق الأساسیة بین الخیال الأولی والخیال الثانوی .          

 

 وقد فرق كولدوج بین الخیال والوهم ، فینما یجمع التوهم بینا جزیئات باردة جامدة منفصلة الواحدة فیها عن الأخرى جمعا تعفیا ، ویصبح عمل التوهم عندئذ ضربا من النشاط الذی یعتمد على العقل مجردا عن حالة الفنان العاطفیة ، نجد الخیال یعمل على تحقیق علامة جوهریة بین الإنسان والطبیعة ، بأن یقوم بعملیة اتحاد تام بین الشاعر والطبیعة أو بین الشاعر والحیاة من حوله ، ولن یتم هذا الاتحاد وعلاقته إلا تتوافر العاطفة التی تهز الشاعر هزا .      

 

     وهكذا انطلقت مدرسة الدیوان من خلال المنظور السابق لنظریة الخیال وعلاقته بالصورة الشعریة ، وبدأت بشن هجومها على المدرسة التعلیمیة التی أساسها البارودی وتربع على عزتها أحمد شوقی وحافظ إبراهیم ، فانتقد نقاد هذه المدرسة منهج المدرسة التقلیدیة نقد تفضیلیا عنیفا حتى إذا تمت عملیة الهدم هذه أخذوا فی بسط أرائهم البناءة فی الأدب والشعر.      

 

     وقد تمحورت حملات النقد التی تبنى العقاد والمازی على أنصار .          

 

   التقلیدیة حول الأتی :          

 

 1 ـ البناء التقلیدی للقصیدة العربیة الذی كان عن موضوعات الحیاة إلى الأغراق الشعرة القدیمة كالغزل والمدح والوصف الهجاء والعتاب .        

 

   2 ـ شعر المناسبات الذی لم یكن یصدر فیه الشاعر عن تجربة حیة ولم یكن یستجب لما یجیش فی الصدر من خواطر بقدر ما كان ینشغل بالصنعة والزخرف والخلیة الخطابیة .  

 

         3 ـ على أن أبر ما اهتمت به جماعة مدرسة الدیوان فی نقدها للمدرسة التقلیدیة هو قضیة الوحدة العضویة أو الفنیة فی القصیدة ، لأن من یدعو إلى الوحدة العضویة للقصیدة لابد أن یدعو بالضرورة إلى نبذ البناء التقلیدی للقصیدة القدیمة ، وإلى ضرورة توافر التجربة الشعوریة التی تستجیب فیها الشاعر لموقف عاطفی واحد .

 

                                           تعریف الصورة :       

 

    عرف النقاد الغربیون الصورة الشعریة بتعریفات كثیرة أهمها أن الصورة تعنی ترادف أشكال البیان من تشبیه واستعارة وكنایة ورمز ، وهی مرتبطة ارتباطا وثیقا بالجانب الحسی ، غیر أن كولروج جمع مفهوم الصورة فقال : (( قد تكون منظرا أو نسخة من المحسوس ، وقد تكون فكرة أو أی حدث وهی یشمل شیئا ما ، وقد یكون شكلا من أشكال البیان ، أو وحدة ثنائیة تتضمن موازنة )).        

 

     الخطوط العامة فی نقد الصورة عند النقاد التشكلین :    

 

       لقد تعدد نقد الصورة عند النقاد التشكلیین فی الغرب ، ولكن یمكننا حصر تلك الخطوط فی ثلاثة فقط على النحو التالی :         

 

  1 ـ نقد الصورة من حیث هی صورة لا علاقة لها بغیرها ، وفیه یجب أن یكون الصورة : نضرة موجزة موجبة .            والمقصود بالنضرة جدة الصورة ، أما الإیجاز فهو أن تحمل الصورة أكبر قدر من الدلالات فی ألفاظ قلیلة ، والإحساء أن تكون الصورة مؤثرة ، وعندما تكون الصورة مؤثرة یجد القارئ أنه یكتشف لنفسه أشیئا فینطلق خیاله )) .            2 ـ خط الصیغة : وهو الخط الذی تشیر علیه الصور كی تصل إلى الغایة من القصیدة . ولكن لابد أن ندرك أنه على الرغم من حق الشاعر أن یستعیر لأفكاره ما یشاء من الصور إلا أنه لیس من حقه أن ینقل كل الصفات فی جوارنه رئیسیة عن الشیء .       

 

    3 ـ خط التفاعل : وهذا الحظ لا یجعل الصورة قائمة بذاتها ، لتعمل منفردة فی عزلة عن القصیدة ، بل تتداخل مع الفكرة والعاطفة وعناصر القصیدة الأخرى )).

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:18|

هیچ زبانی در دنیا نیست که از دیگر زبان ها واژگانی وام نگرفته باشد، همه ی زبان ها از هم دیگر تاثیر و تاثر پذیرفته اند. زبانی که از زبان های دیگر وام نگرفته باشد، زبانی مرده است. هر اندازه زبان ها تاثیر بیش تری گرفته باشند زنده تر شده اند و این عیب و نقصی برای آن ها به شمار نمی رود. مهم ترین زبان کنونی جهان (انگلیسی ) تقریبن 75 درصد کلمه های خود را از دیگر زبان ها به ویژه انگلو، جرمن و لاتین گرفته است. اسپانیولی و پرتغالی 95 درصد زبان و ادبیاتشان یکی است، با این حال خود را دو زبان گوناگون می نامند .

زبان عربی و فارسی نیز از یکدیگر واژگان زیادی وام گرفته اند. در زبان فارسی بیش تر اصطلاحات فقهی ، مذهبی و حقوقی از زبان عربی گرفته شده است.  اما زبان عربی نیز به نوبه خود واژگانی به صورت دست نخورده و واژگان زیادی به صورت برهم زده شده (به شکل قالب های معرب) از فارسی وام گرفته استجوالیقی 838 کلمه و در کتاب المنجد 321  کلمه و ادی شیر در کتاب خود با نام «واژه های فارسی عربی شده» 1074 واژه را که زبان عربی از زبان فارسی وام گرفته است را توضیح داده اند. برای نمونه از کلمه ی پادشاه در زبان عربی ده ها کلمه ساخته شده است. واژه های  اشتها، شهوت، شهی، شهیوات، شاهین، شیخ، بدشا، پاشا و باشا همگی از کلمه ی فارسی «پادشاه» گرفته شده است. استیناف از کلمه ی «نو»  و کلماتی مانند: جناه، جنایی، جنحه و جنایت، از واژه ی «گناه» آمده است و کسی که با قاعده ها و قالب های زبان عربی آشنا باشد به آسانی می پذیرد که هامش و حاشیه از «گوشه» و شکایه از«گلایه» گرفته شده است

شعر حماسی‌ و پهلوان‌ نامه‌های‌ ملّی‌ در ایران‌ پیش‌ از اسلام‌ همواره‌ از محبوبیتی‌ گسترده‌ برخوردار بوده‌ است‌. ادبیات‌ فارسی‌ در این‌ زمینه‌ نیز همچون‌ بسیاری‌ از زمینه‌های‌ دیگر بسیار غنی‌ و بر ادبیات عرب و بر تمام فرهنگ های منطقه و جهان تاثیر گذار بوده است. دست کم 15نویسنده ی بزرگ ایرانی در شکل دهی ادبیات عرب نقش داشته اند که سیبویه از جمله ی آنان است.  معمولن این دانشمندان ایرانی را كه در ادبیات ، پزشکی، كیمیا، تفسیر و معارف دینی، در نجوم، موسیقی، جغرافیا و در زبان شناسی و تاریخ، خدمات بی نظیری نه تنها به جامعه ی عرب و اسلامی، بلكه به جامعه ی بشریت نمودند را در کشورهای عربی به عنوان عرب می شناسند و همین دانشمندان بوده اند كه از مصدرهای فارسی با استفاده از باب ها و قالب های دستور زبان عربی صدها كلمه ی جدید ابداع کرده و به غنای ادبیات عرب افزودند. آنان همچنین در ادبیات فارسی با استفاده از مصدر ها و قالب های عربی کلماتی ساخته اند  که بعدها بسیاری از آن ها به ادبیات عرب وارد شده اند، مانند: سوء تفاهم، منتظر و. . . ولی در ادبیات فارسی از واژگان پارسی با کمک قالب های عربی نیز واژگانی ساخته شده است که تعدادی از آن ها به زبان عربی نیز راه یافته اند مانند: استیناف (از واژه ی «نو» به معنی درخواست نو و تجدید نظر)، تهویه (از «هوا» به معنی عوض کردن هوا) و ...

 زبانزبان های گروه سامی و عربی بخش بزرگی از واژگان خود را از فارسی گرفته اند که در مورد عربی به دلیل ماهیت صرفی و قالب های متعدد آن، واژگان فارسی بیش تر در شکل مفرد و ساده ی آن قابل رد یابی است و  به دلیل ذوب شدن مفردات در قالب ها و صیغه ها رد یابی آن ها مشکل می شود. اما خود زبان فارسی از معدود زبان های دنیا است که تقریبن عموم واژگان وام گرفته را بدون دستکاری و بدون حذف آوا و حروف می پذیرد و به این دلیل هم مثلا کلمه های قرآنی مانند: صالح، کاذب، مشرک، کافر و غیره را بدون هیچ تغییری در خود پذیرفته است. از این رو  هدف از بیگانه زدایی از زبان فارسی، باید نه حب و بغض نسبت به بیگانه، بلکه تلاش برای آسان کردن زبان فارسی و پویا و زنده نگه داشتن آن باشد. به عنوان نمونه کاربرد جمع مکسر عربی فهم فارسی را برای غیر فارسی زبانان مشکل می سازد. مانند: اساتید، بساتین، اساتیر، خوانین، دهاقین، میادین، اکراد، افاغنه، به جای : استادان، بستان ها، استوره ها، خان ها، دهقانان، میدان ها، کرد ها و افغانیان.

از این رو  هدف از بیگانه زدایی از زبان فارسی، باید نه حب و بغض نسبت به بیگانه، بلکه تلاش برای آسان کردن زبان فارسی و پویا و زنده نگه داشتن آن باشد.

با این حال به نظر نمی رسد که خارج کردن آن واژگان عربی که در اصل ریشه ی فارسی دارند کمکی به پویایی زبان فارسی کند و بسیاری کسان ما را از به کار بردن برخی کلمات مشترک از این دست که در فارسی و عربی از قدیم وجود داشته و دارند برحذر می دارند.  مثلا می گویند نگویید:  جنایی، استیناف، فن، صبح، نظر، بلکه بگویید:  کیفری، تجدید نظر، پیشه، بامداد، دید و یا نگویید خیمه، بلکه بگویید چادر و  از این قبیل. حال آن که بیش تر این گونه کلمات ریشه ی فارسی دارند. مثلا کلمه های جنایی، جنایت، جناح، جنحه و ...  همگی از ریشه ی «جناه» که معرب شده ی «گناه» فارسی است ساخته شده است. استیناف از بردن واژه ی نو به باب استفعال به دست آمده  و استانف، یستانف و ... از آن به دست آمده  است. فن از واژه ی پَن و پَند ساخته شده و در صیغه های گوناگون عربی فن، یفن، فنان، تفنن، متفنین و ... از آن ساخته شده است. صبح از صباح و صباح از پگاه فارسی ساخته شده و مصباح و ... از آن ساخته شده است. نظر عربی شده ی « نگر»  است و  انظر، ینظر، منظر و  .... از آن ساخته شده است .خیمه از واژه پهلوی گومه و کیمه ( به معنی کلبه) گرفته شده و خیام، مخیم، خیم و یخیم از آن صرف شده است. در مورد واژه های لاتین نیز گاهی همین طور است. مثلا کلمه های بالکن، بنانا (موز) و بانک هر سه ریشه ی فارسی دارند. بنابراین چه نیازی هست مثلا به جای عبارت « دار آخرت » که در اصل فارسی است، عبارت «سرای دیگر » را به کار بریم  و یا به جای بالکن که لاتین شده ی بالاخانه است و از طریق ترکی به فرانسه راه یافته و یا به جای واژه های بین المللی پارتیزان (پارتی، پارسی) بنانا (بندانه) که از طریق عربی به لاتین راه یافته اند کلمه های دیگری به کار ببریم. حذف و یا جای گزینی واژه های بین المللی مانند رادیو، تلویزیون، کامپیوتر و ... که در همه ی زبان های مردم دنیا جا افتاده است نیز نباید اولویت داشته باشد.

 زبان  بدین ترتیب بسیاری از کلمات مشترک فارسی و عربی اگر مورد کنکاش قرار گیرند ریشه ی فارسی آن ها معلوم می شود. به طور نمونه تقریبن به ندرت کسی در عربی بودن کلمه های کم (چن، چند)، جص (گچ )، رباط، بیان، نور، دار الاخره، تکدی، رجس، نجس و یا باکره (پاکیزه) تردید کرده است. اما در حقیقت همه ی این کلمات یا به طور کامل فارسی هستند و یا معرب هستند. به طور نمونه برای کلمات بالا در زبان عربی ریشه و مصدر حقیقی وجود ندارد و وزن برخی از آن ها نیز عربی نیست. کلمه ی نور بر وزن کور و دور و خور است. اگر نور با همین شکل فارسی نباشد حتمن معرب شده ی خور ( به معنی روشنایی و خورشید) است، رباط در فارسی به معنی استبل است. «رباط الخیل» به معنی خانه یا پرورشگاه اسب است و  ریشه ی آن به رهپات و یا ره باد برمی گردد. نجس و رجس هر دو از واژه ی زشت و جش گرفته شده اند. دار در زبان فارسی  به معنی های دارنده، پایه، ستون و تنه درخت به کار می رود، مانند دیندار، داربست، دار درخت. اما در عربی آن را در معنی خانه به کار گرفته اند مانند دار الحکمه و  ...

قرآن شناس، زبان شناس و پژوهشگر نامی انگلیسی، آرتور جفری را عقیده بر آن است که بیست و هفت کلمه ی قران ریشه ی فارسی دارد از آن جمله :سجیل: معرب سنگ و گل، اباریق: جمع ابریق، معرب آبریز، تنور، مرجان، مِسک: معرب مِشک، کورت: کور شدن، تاریک شدن، تقالید: جمع تقلید، بیع: خرید و فروش، بیعانه (بیانه) قسمتی از پیش پرداخت. جهنم ، دینار پول رایج ایران قدیم (یک صدم ریال) زنجبیل: معرب زنجفیل، ، سُرادِق: سراپرده، سقر: جهنم، دوزخ، سجین: نام جایی در دوزخ، زندانی ، سلسبیل: سلیس، نرم، روان، گوارا، می خوشگوار و نام چشمه ای در بهشت، ورده: گل سرخ، سندس: دیبای زربفت لطیف و گران بها، قرطاس: کرباس، کاغذ، جمع آن قراطیس، اقفال: جمع قفل، کافور، یاقوت. برخی پژوهشگران نیز شمار واژگان فارسی قران را تا یک صد برآورد کرده اند مانند: سراج = چراغ، دار، غلمان = گلمان  جوان گل رو، زمهریر، کاس یا کاسه، جُناح = گناه، رجس = زشت، خُنک = سرد، زُور = قوه، نیرو، عقل، شُواظ = زبانه ی آتش، شعله، حرارت، درحال ذوب شدن، اُسوَه =  الگو، فیل = پیل، توره = شغال، حیوان وحشی، عبقری = آبکری (آبکاری)، کنز = گنج، زبانیه = نگهبانان دوزخ، زبانه کشیدن شعله های آتش، ابد = جمع آن آباد، جاودان،  قمطریر = شدید، سخت، دشوار، نجس = ناپاک، پلید،  بررُخ = مانع و حایل بین دو چیز،  تَبَت = نابودشده، قطع شده، تب و تاب یافته، سخط = خشم گرفتن برکسی، غضب،  سُهی = (به گونه ی سُها) ستاره ی کوچک و کم نور در دب اصغر. اریکه = اورنگه = ارائک به معنی بالش و متکا، چندبار در قران تکرار شده است. برهان = دلیل، در قرآن برهان و براهین آمده است، برج = تبرج، زینت، الجزیه = گزیت، الجُند = گُند، جند و جنود. (برای آشنایی بیش تر با واژه های فارسی قرآن به مقاله ای با همین نام در موضوع شماره ی 15در این تارنما نگاه کنید. آریا ادیب).

 مشتق های این کلمه ها که ریشه و بنیاد فارسی داشته و وارد زبان عربی شده اند با دلایل کامل از سوی پژوهشگران توضیح شده است. نفوذ واژگان پارسی به سایر زبان ها نشانه ی اصالت، کهن بودن، گستردگی و اهمیت آن در همه ی دوران ها است.

 

واژگان فارسی به صورت های زیر به زبان عربی داخل شده است:

  1.  زبان

1- بدون تغییر یا با کم ترین تغییر مانند: بادام، استاد، خبر، درویش، دیوان، سکر = شکر، شیرین، آشوب = اوباش، ابریشم= ابریسم، شادان = شاذان و ...

  1. 2 -  با تغییر، حذف یا تبدیل حرف های پ، ژ، چ، گ که در زبان عربی وجود ندارد به صداهای دیگر. مانند:  چغندر= شمندر، چنده = شنوه،  پگاه = صباح، پند، پن = فن، گاومیش = جاموس، گلنار = جلنار، چلیپ = صلیب،  چین = صین، چارسو = شارسو، دیباچه = دیباجه، گدا = كدا = تكدی، لگام = لجام، چمران = تشمران، گرنادا = قرناطه، خانه گاه = خانقاه، گزیه = جزیه، کاک = کعک = کیک، گنجینه = خزینه، پرده = برقه و  ...
  2. 3 -  تغییر حروف ک به ق  و  خمانند: کاسپین = قزوین، کله = قله، کوروش = قوروش، کسرا = خسرو
  3. تغییر کلی: گاهی در تبدیل واژه ی فارسی به زبان عربی  هیچ اثری به جز در وزن واژه ی فارسی باقی نمانده است مانند:  چند، چن  = کم، گچ = جص، مجصص، زشت = رجس، پسک = برص، گنج = کنز  و  ...
  4. 4 -  کاربرد کلمات در معنی متضاد با معنی فارسی و یا در غیر معنی اصلی  مانند: خوبه = خیبه، زرابی (قالی)
  5. 5 -   به هم ریخته شدن تمام صدا و حروف مانند: باغ = غابه، باغات = غابات.
  6. 6 -   یک کلمه از فارسی چند بار به شکل ها و به معنی های گوناگون وارد عربی شده مانند: از کلمه ی باغ = باقه به معنی دسته گل و کلمه غابه به معنی جنگل، ساروج به معنی نوعی ملاط سیمان و آب انبار و سهریج (صهریج) به معنی تانکر آب .
  7. 7 -  حذف سایر آواها  مانند : نارگیل = ارکیل،  آبریز = ابریق
  8. 8 -   گاهی در تبدیل واژه ی فارسی به عربی برخی از حرف ها از  واژه ی فارسی تغییر کرده است، مانند: گوشه = حاشیه، هامش = حامش، جشن = دشن = تدشین، سنگ = سنج = صنج، چار راه = شارا = شارع، شاد شید =  شادی اناشید، ببر = بایبر = تایگر و ...
  9. 9 -   گاهی از مفردهای فارسی  یا عربی کلمه هایی ساخته شده و سپس به ادبیات عرب نیز راه یافته است، مانند: سوء تفاهم ار «فهم»، تهویه از «هوا»
  10. 10 -  حذف و یا تغییر و تبدیل حروف عله «و . ا. ی» به یکدیگر . مانند: جوراب = جورب، خوب = خید = خیر، 
  11. 11 -  تبدیل  ا  به هـ  و تبدیل ز به س  مانند : اندازه = هندسه، اندام = هندام.
  12. 12 -  گاهی در  تبدیل واژه ی فارسی به عربی دو حرف از واژه ی فارسی باقی مانده است ، مانند: آیین = دین
  13. 13 - گاهی در تبدیل واژه ی فارسی به عربی آواهایی به آن افزوده شده است. مانند: ستون = استوانه = اسطوانه، سروج = ساروج = سهریج = صهریج
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:16|
تطور الفن القصصي وخصائصه .
القصة لون من ألوان التعبير الأدبي تمتاز بالطابع الإنساني والحلة الجمالية الأنيقة تعتمد على الوصف والسرد والحوار.
يعرفها محمود تيمور بقوله: ( هي عرض لفكرة مرت بخاطر الكاتب أو تسجيل لصورة تأثرت بها مخيلته أو بسط لعاطفة اختلجت في صدره. فأراد أن يعبر عنها بالكلام ليصل بها إلى أذهان القراء محاولا أن يكون أثرها في نفوسهم مثل أثرها في نفسه. )
ويقسم الفن القصصي من حيث القالب أو المظهر إلى أربعة أقسام: الأقصوصة القصة الرواية والحكاية.
هل عرف أجدادنا الأوائل القصة ؟
وهل توفرت لها الشروط الفنية ؟
لم يخل أدبنا القديم من القصة بمفهومها البسيط ففي الأدب الجاهلي قصص تدور حول أيام العرب وحروبهم يرونها في الحل والترحال وتحت الخيام في ليالي السمر. وفي القران الكريم قصص الأنبياء وأقوامهم. وفي العصر العباسي نقل إلى العربية بعض القصص من الأمم الأجنبية مثل كليلة ودمنة لابن المقفع وألف الجاحظ كتاب البخلاء. وظهر فن المقامات. وكتب المعري رسالة الغفران وابن طفيل حي بن يقظان.
إلا أن ما كتب في هذه الفترة لم تتوفر فيه الشروط الفنية. بسبب الإغراق في الطول والاستطراد. الاهتمام بغريب الألفاظ. والاحتفاء بالصناعة اللفظية. وعدم التعمق في تحليل نفسيات الشخصيات.
في العصر الحديث.
اتصل الأدباء العرب بالغرب فاطلعوا على إنتاجهم القصصي الرفيع فأعجبوا به وانكبوا ينهلون منه انكباب يتيم جائع على مائدة غني كريم. وراحوا يترجمون بعضا ويقلدون بعضا ويقتبسون من بعضها الآخر.
حاول بعض الكتاب العرب إحياء فن المقامة من جديد أمثال اليازجي والمويلحي والشدياق وكتبوا محاولات قصصية جادة عالجت الواقع بنظرات لماحة نافذة. إلا أنها لم تلب حاجات العصر ولم تستوف التعبير عن وجدان الأمة. وهذا يعني أننا أمام نمطين من الفنون القصصية العربية: نمط ابتدعه الأدباء العرب بعيدا عن أي تأثر بغيرهم. ونمط آخر أنتجوه بعد تأثرهم بالفنون القصصية التي ازدهرت في اروبا.
وقد مرت القصة في العصر الحديث بالأطوار التالية:
-1- مرحلةالترجمة:
نتيجة اتصال العرب بالغرب وإطلاعهم على تراثهم الأدبي المتنوع اتجه بعض الكتاب إلى القصة لأنها الأكثر استيعابا لتطلعات واهتمامات الجماهير. وقدرتها على متابعة وتسجيل التغيرات الاجتماعية والسياسية التي كانت تزدحم بها البلاد العربية آنئذ. وكان رائد هؤلاء هو رفاعة رافع الطهطاوي الذي ترجم مغامرات تلماك للكاتب الفرنسي فنلون.
2 مرحلة المحاكاة والاقتباس:
تتجلى أول محاولة في هذا الطور في قصة عيسى بن هشام للمويلحي الذي حاول إدخال مقومات القصة الغربية والمحافظة على أسلوب المقامات وهو نفس النهج الذي انتهجه حافظ إبراهيم في ليالي سطيح.أما المنفلوطي فقد ترجم بتصرف وتغيير حتى يرضي القراء كما في الشاعر. مجدولين.
-3- مرحلة الإبداع:
وفيها أنتج الأدباء قصصا فنيا اعتمادا على إبداعهم وتبدأ بقصة زينب للدكتور محمد حسين هيكل. برغم غلو هذه القصة في الرومانسية وحلولها المفتعلة إلا أنها تعد البداية الفنية الحقيقية للرواية الاجتماعية. ثم ظهر لفيف من الأدباء بقصص جديدة توفر فيها البناء الفني فكتب طه حسين الأيام ودعاء الكروانوتوفيق الحكيم عصفور من الشرق. ويوميات نائب في الأرياف. ونجيب محفوظ في الثلاثية وجرجي زيدان بقصصه التاريخي في سلسلة روايات تاريخ الإسلام.
أما في الجزائر فقد كتب رضا حوحو غادة أم القرى وكتب محمد ديب ثلاثيته البيت الكبير. الحريق. النول. وكتب مولود معمري العصا والأفيون.
وهكذا تطورت القصة العربية ونضجت واكتملت فنيا وما نيل نجيب محفوظ لجائزة نوبل للآداب إلا دليل على دلك. وقد تنوعت موضوعات القصة العربية الحديثة وتعددت اتجاهاتها فمنها ما هو اجتماعي أو نفسي وآخر تحليلي ومنها ماهو وطني وقومي وقد تجمع القصة الواحدة عدة ألوان وطنية اجتماعية نفسية.
خصائص الفن القصصي. :
1- التمهيد: ( الزمان والمكان ) الزمن قد يمتد لأجيال وأجيال أو يقصر ليشمل فترة وجيزة ففي قصة قرية ظالمة لمحمد كامل حسين الزمن يوم وليلة وهو نفس الزمن في ذهاب وإياب لصبري موسى.
2 - الأحداث: الكاتب الناجح يصنع من الحدث البسيط فنا عميقا راقيا حيث يتعمق في دراسة الأحداث فيرتبها وينسقها في شكل منطقي.
-3- العقدة: وتنجم عن ترتيب الحوادث وهي النقطة التي تتجمع عندها الخيوط فيتعقد الموقف ويتلهف القارىء لمعرفة الحل.
-4- الحل: ويشترط فيه أن يكون منسقا مع الأحداث وقد يكون سعيدا أو حزينا.
-5- الشخصيات: جاهزة ونامية نجاح القصة يعتمد على نجاح الكاتب في تصوير الشخصيات فلابد أن تتطابق مع الأحداث ومع الواقع.
-6- الأسلوب: هو التعبير ووسائله اللغوية فلكل كاتب زاده اللغوي وأسلوبه الذي يميزه عن غيره فأسلوب العقاد يختلف عن أسلوب طه حسين أو احمد أمين.
الفن القصصي محبب إلى القلوب يتلذذ به الكبير قبل الصغير يجعلنا نحس بالراحة والتغيير حيث ندخل المعامع والمغامرات مع القصص البوليسي ونتجول في حدائق غناء مع القصص الرومانسي نتألم مع البؤساء ونبتسم مع السعداء مع القصص الواقعي وقد ساهمت القصة في نشر الوعي ومعالجة بعض المشاكل الاجتماعية وبعث الثقافة والأخلاق
لقد تأثر الفن القصصي العربي بالآداب الغربية فعلا ولا ضير في ذلك فالآداب التي تريد لنفسها الاستمرار ينبغي أن لا تضيع فرصة الازدهار والانبعاث.


المسرحية
نص أدبي يأتي على هيئة حوار يصور به الكاتب قصة مأساوية أو هزلية ويقوم الممثلون بتمثيل النص المسرحي بقاعة المسرح ضمن إطار فني.
وهي من أقدم الفنون الأدبية التي عرفتها الحضارة الإنسانية. فمنذ زمان بعيد أقام الإغريق مسارحهم في مناسبات دينية ووطنية. فعرفوا المأساة والملهاة. وتناولوا موضوعات دينية واجتماعية وأدى مسرحهم دوره في تعليم مجتمعهم. واعدوا شروط المسرح واستفاد منها حتى كتاب العصر الحديث.
وعن هؤلاء اخذ الرومان ثم الفرنسيون والإنجليز والألمان وعن هم اخذ العرب.
لكن إقبال العرب على المسرح لم يتم إلا في العصر الحديث على الرغم أنهم اطلعوا عليه عند ترجمة بعض المؤلفات اليونانية في البلاغة والفلسفة والرياضيات في بداية العهد العباسي. ولعل ذلك يرجع إلى ارتباط المسرح بالأفكار الوثنية التي لا يقرها الإسلام والى طبيعة الشعر العربي الغنائي الذي لا يصلح للتمثيل.
المسرح العربي حديث النشأة ظهر على يد مارون النقاش 1847م بعد عودته من الغرب وقدم لأول مرة مسرحية البخيل لموليار وهكذا نشا المسرح قبل المسرحية.
تطورها:
1- مرحلة الاقتباس:
شجع إنشاء دار الأبرا في مصر بعض اللبنانيين المهتمين بالمسرح على اقتباس الأفكار من الأدب الاروبية وصبغتها بصبغة محلية.
2- المسرحية الاجتماعية:
تطورت المسرحية على يد من درس فن المسرح في اروبا فقد أنشا جورج الأبيض مسرحا عربيا في مصر اثر عودته من فرنسا 1910م وقدم مسرحية وليدة البيئة العربية مصر الجديدة.لفرج أنطوان. غلبت عليها الفصحى واصالة الفكر العربي.
3-المسرحية الواقعية: اتجهت المسرحية إلى التعبير عن الواقع فظهرت عدة مسرحيات تعالج الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والنفسي وتعتبر مسرحيات توفيق الحكيم مثلا واضحا لهذا الطور عالج مشكلات اجتماعية كما فعل ازيس وبراسكا وأضفى على شخصياته فكرا فلسفيا وتتجلى نزعته الفلسفية في مسرحية شهرزاد - و سليمان الحكيم -.
المسرحية الجزائرية: يعد رضا حوحو من رواد المسرحية المكتوبة بالعربية فقد اشرف على فرقة تمثيلية وكتب لها مسرحية عنبسة- وبائعة الوردوالعقابالنائب المحترموسي عاشور -. أما المسرحية المكتوبة بالفرنسية يمثلها كاتب ياسين في الجثة المطوقةوالرجل ذو النعل المطاطي.
أما المسرحية الشعرية فقد ظهرت على يد احمد شوقي الذي كتب -مصرع كلييو باترةمجنون ليلى – قمبيز... وعزيز أباظة الذي ألف ست مسرحيات- قيس ولبنىالعباسة- شجرة الدر – الناصر – غروب الأندلس – شهريار – وقد استطاع أن يتجنب ما وقع فيه شوقي من مآخذ واستفاد مما وجه إليه من نقد.
وللمسرح ثلاثة أشكال هم:
1- المأساة وهي مسرحية درامية تنتهي دائما بالموت.
2-الملهاة مسرحية هزلية ذات نهاية سعيدة. 3-الأبرا المغناة وهي ذات موضوع مأساوي.
عناصر المسرحية: 1-التمهيد *وهو الجزء الأول من المسرحية يمهد فيه الكاتب للمسرحية ويعرف بالشخصيات وأعمالهم. أما البيئة فيصورها عن طريق الحوار.
2- العقدة وهي العنصر الأساسي في بناء الحبكة الفنية وتنشا عن المعوقات أو الصراع الذي ينشا بين قدوتين متعارضتين تثير عند الجمهور الرغبة في انتظار الحل.
3- الحل * وهو النتيجة التي تصل إليها أحداث المسرحية.
4- الزمان والمكان * وهما البيئة التي يدور فيها أحداث المسرحية زمان المسرحية قصير ومكانها محدود.
5- الشخصيات * وهم الممثلون الدين يقومون بالحركة المسرحية. ويشترط فيها الثبات وعدم التناقض مع الواقع.
6- اللغة وسائل التعبير المسرحي متعددة – الحوار – الملابس* الأضواء *الأثاث* الحركة* ولكل فرد لغته الخاصة وهذا ما أطلق عليه النقاد الواقعية في المسرح من الكتاب من اختار العامية ومنهم من فضل الفصحى واثر البعض الآخر المزج بين العامية والفصحى.
المسرحية كما هو معلوم تشترك مع القصة في اشتمالها على الحادثة والشخصية والفكرة ولا تتميز عنها إلا في اعتمادها على الحوار كوسيلة وحيدة للوصف وعرض الأحداث. وبقدر ما يكون الحوار مطابقا للشخصيات سهلا واضحا يتوفر على إيقاع موسيقي مناسب. لا تطغى عليه روح المؤلف طغيانا يفسده.بقدر ما يكون ناجحا. إذا كان الحوار هو مظهر المسرحية الخارجي فان مظهرها الداخلي يتمثل في الصراع الذي يجب أن يكن محبوكا بشكل طبيعي لا تصنع فيه.
يحتل المسرح لدى مختلف الشعوب مكانة مرموقة نظرا للدور الذي يلعبه في تثقيف الفئات الشعبية وتنمية ذوقها الجمالي فضلا عن تسليتها والترفيه عنها والمسرح دليل على الرقي الاجتماعي فهو أداة لنقل قيم شتى ووسيلة لترقية الفكر خاصة إذا كان يحمل فكرة راقية بلغة سامية. فالمسرح قبل أن يكون تمثيلية فهو نص أي انه شكل ومضمون فالفكرة السامية يجب أن يعبر عنها باللغة الراقية غير مبتذلة أو هزيلة. أما إذا كان المسرح بلغة العوام فهو تهريج لا طائل منه. وإذا لم يصور مجتمعه في ماضيه وحاضره ومستقبله ويعكس آماله وتطلعاته معتزا بالقيم ومقومات الشخصية. كان دخيلا يهدم بدلا من أن يبني يفسد عوض أن يصلح.
ومادام المسرح يلعب هذا الدور الهام فهو يحتاج إلى تخطيط وأموال وتشجيع دائم. غير أن المسرح فن وليس تهريجا فكتابته من مهام الأدباء وتمثيل الأدوار فن لا يناط إلا بأصحاب المواهب من خريجي المعاهد المختصة

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:15|

متنبی و احمد شوقی دو شاعر پرآوازه قدیم و جدیدند که عنوان امیرالشعرایی، آن را با یکدیگر قرین ساخته و هماره ژرف‏نگران نقاد را مفتونانه یا منفورانه به این تلاقی مشغول داشته است. این دو شاعر در هر وادی از ادب که گام نهاده‏اند همانند یک روح در دو پیکره عمل کرده‏اند، با این تفاوت که سرشاخه‏های درخت تنومند اندیشه متنبی، روی به زمین و میل به خودنمایی بر فراز تپه‏های «صلصال من حماء مسنون» را دارند اما شاخساران برافراشته حکمت احمد شوقی، روی به آسمان و آرزومند طیران با روح الهی‏اند.

این تحقیق بر آن بوده است که به نقل و تحلیل مقایسه‏ای اشعار حکمی این دو بزرگ‏حکیم بپردازد، تا از این رهیافت، علاوه بر تبیین دیدگاه‏های هردو؛ این نتیجه به دست آید که اندیشه احمد شوقی تا چه میزان متأثر از افکار و اندیشه‏های متنبی بوده است.

سپاس و ستایش مر خدای را که نوع بشر را از دو نشئه بیافرید؛ نشئه‏ای از روح قدسی ملکوتی که نمادی از بی‏نهایت شکوه و جمال و جلال است!! و نشئه دگر از لجن بدبوی متعفن که نشانی از بی‏نهایت زشتی و پستی است!!

حمدو ثناء خاص حکیم خدایی است که در میانه این دو بی‏نهایت راه، از سر حکمت و رحمت، شاه‏چراغ خود را فراپیش آدمی بنهاد تا ره ز چه باز شناسد و عقال عقل را بر توسن گریزپای خشم و شهوت زده(امیال زمینی) را سر به طاعت (اراده سماوی) درآورد و حکیمانه در راه وصول به سر منشأ همه خردها و خوبی‏ها، پای به ره نهد.

هر از گاهی که بستری مناسب برای به بارنشستن نهان استعدادهای آدمی مهیا شود؛ به نکو جلوه‏ای، شکوفه‏های عاطفه و خیال و خرد به بار نشسته و شعف و شعور و شهود بنی‏آدم شادخواره را بر سر سفره وهم و دل و عقل نشاند و طعم جاودانه خویش را بر مذاق آنان می‏چشاند.

از این رهیافت، متنبی و احمد شوقی هر یک بزرگ نمادی ازجلوه‏نمایی استعدادهای به بار نشسته زمینه و زمانه خویشتند. بارز قرابت این دو ابر ادیب، در این است که در هر وادی از ادب که گام نهاده‏اند، بر گستره آن نکونهالی از حکمت بنشانده‏اند و پاک آب زلال خرد را به بن شکوفه‏های عاطفه و خیال روانه ساخته‏اند، آبی که سراچشمه‏اش یافته‏های زمینی شاعر، یا آموخته‏هایی از گزاره‏ها و آموزه‏های سماوی است.

مقاله حاضر تحت‏عنوان «کنکاشی در اندیشه متنبی و احمد شوقی پیرامون حیات» این شاعران حکیمی است که هر یک در عصر خویش پیشوای شعر عربند و محمل نزاع ناقدان ادبند.

بشر هماره از منظرهای مختلفی بر حیات نظر افکنده و این اختلاف منظرها با خود، همیشه اختلاف‏نظرهایی در پی داشته است. برخی از منظری حیوانی به تماشای هستی نشسته و هرچه می‏بینند مادیتی است که کانون تزاحم و تنازع است و برخی دیگر از منظری انسانی بر گستره هستی می‏نگرند به نحوی که، ریگستان‏های مادیت را در کنار قله‏های رفیع معنویت با هم می‏بینند. یکی منبع الهام او در شناخت هستی، تجربیات شخصی اوست و دیگری، یافته‏هایی از گزاره‏ها و آموزه‏های وحیانی است.

متنبی و احمد شوقی، هر یک از منظری متفاوت به حیات‏نظر افکنده‏اند متنبی بر روی تپه‏های پهن دشت مادیت به ملک هستی می‏نگرد و احمد شوقی در بلندای ربذه، نگاه خویش را از ملک خاکی می‏گذراند و به ا فق‏های آبی ملکوت می‏افکند.

حال به تبیین اندیشه‏های هر دو شاعر پیرامون

حیات، می‏پردازیم:

حیات از منظر متنبی

در اندیشه متنبی «زندگی» صحنه تنازع بقا و عرصه جنگ و نزاع است؛ زندگی‏ای که مردمانش چونان درندگانی بی‏رحمانه به جان هم افتاده‏اند و یکدیگر را می‏درند، در منطق او شعار چنین زندگی‏ها این است که (بکش وگرنه کشته بمان) بر همین مبناست که سراید:

«انما انفس الا نیس سباع

یتفارسن جهرة و اغتیالا» (1)

در چنین عرصه‏ای، او «خواهش و تمنا» را برای زنده‏ماندن و کام گرفتن توصیه نمی‏کند بلکه معتقد است که، باید در چنین زمانه‏ای با رقیب از موضع قدرت هم‏سخن شد، از اینرو می‏گوید:

«من اطاق التماس شی‏ء غلابا

و اغتصاباً لم یلتمسه سوءالا» (2)

با توجه به نوع زندگی‏ای که متنبی به تصویر می‏کشاند «ضعف و قدرت» نقش تعیین‏کننده‏ای در بقا و فنای آدمی بازی می‏کنند. در چنین شرایطی، لازمه ماندن و بهره‏بردن و حکم راندن، تنها در ظل و ذیل «قدرت» میسر است و برترین آرزوی هرگام نهنده بر این حیات این است که چون شیرقوی پنجه باشد:

«کل غاد لحاجة یتمنی

أن یکون الغضنفر الرئبالا» (3)

پس به همین خاطر است، که «ضعف و ناتوانی» در چنین سرایی دل‏آزار و نفس‏گیر است و آدمی را ذلیلانه بر مخروبه‏های ذلت و حقارت می‏نشاند.

و اذا الشیخ قال اف فمام

ـل حیاة و انما العضف ملا (4)

در این نوع زندگانی که انسان لحظه‏ای از ستیز باز نمی‏ایستد و مرگ سایه سهمگین خویش را بر گستره حیات بی‏رحمانه افکنده، با این وجود، چنین زندگی از دید شاعر تهی از لذایذ نیست لیکن بهره‏مندی از آن کار ناتوانان نیست بل این قوی پنجه‏گانند که با گذر از دره‏های هولناکی که بوی مرگ‏در سراسر آن پیچیده، بدان دست می‏یابند.

لذیذ الحیاة انفس فی النف

س و أشهی من أن یمل و أحلی (5)

و در جای دیگر گوید:

دون الحلاوة فی الزمان مرارة

لا تختطی الا علی أهواله (6)

در دیدگاه فلسفی متنبی برای رسیدن به این لذایذ به ناچار باید از روی اجساد ضعفا و بینوایان گذر کرد و بساط عیش را بر استخوان‏های شکسته آنان گسترانید و به شادخوارگی کام گرفت.

«بذا قضت الایام ما بین أهلها

مصائب قوم عند قوم فوائد» (7)

ولی شاعر، ایام عیش قوی پنجه‏گان را نیز چند صباحی بیش نمی‏داند زیرا روزگار غدار در کمین نشسته، تا بی‏خبر نیزه خویش را از جان آنانی که تازه به نوایی رسیده‏اند، سیراب ساخته و آنان را ناباورانه به کام مرگ سپارد.

«أفاضل الناس اغراض لذالزمن

یخلو من الهم أخلاهم من الفطن»(8)

«اظمتنی الذنیا فلما جئتها

مستسقیاً مطرت علی مصائب» (9)

سپس او می‏گوید، که انسان بعد از دیدن این همه مصائب و لذایذ تازه به خود می‏آید که چنین زندگی چیزی جز فریب نبوده و درمی‏یابد که این دنیا مأمنی آرام‏بخش برای او نیست. چگونه باشد درحالی که هر روزش، آبستن حادثه‏ای است و هرلحظه‏اش نمایانگر چهره‏ای است.

«انی لأعلم واللبیب خبیر

أن الحیاة و ان حرصت غرو»(10)

و سراید:

«قبحاً لوجهک یا زمان فانه

وجه له من کل لوءم برقع» (11)

آنچه متنبی را وا می‏دارد که زندگی دنیوی را فریبی بیش نداند و نفرین خویش را به پای آن ریزد، این است که در این معرکه، مردمان همچون درندگان جان‏های یکدیگر را کشان‏کشان به مسلخ الهه فریب می‏برند و در پای آن ذبح می‏کنند از برای این که به حاجتی رسند اما در انتها، همگی مغبونانه بی‏هیچ نصیبی جان خویش را در این راه می‏بازند.

تفانی الرجال علی حبها

و ما یحصلون علی طائل (12)

پس اگر انسان اندیشمندی بر آن شود تا حوادث این جهان را به تحلیل نشیند و برای آینده بشر، برنامه‏ای جهت زیستن ارائه دهد در این امر، راه به جایی نمی‏برد زیرا تفکر و تحلیل پیرامون حوادث جهان و ریشه‏یابی سلسله عوامل آن، امری محال و نفس‏گیر است.

«و من تفکر فی‏الدنیا و مهجته

أقامه الفکر بین العجز و التعب» (13)

متنبی بعد از تبیین دیدگاه‏های خود در مورد حیات، به اظهارنظر پیرامون هدف از زندگی می‏پردازد. او هدف نهایی زندگی را، رسیدن به مجد و سیادت می‏داند. بنا به اعتقاد او، ظرف حیات تا زمانی ارزشمند است که بستری مناسب جهت رسیدن به مجد و سیادت باشد وگرنه، چنین ظرفی فی‏نفسه بی‏ارزش است. در منطق او، اصل و مبنا رسیدن به «هدف» است و وسیله و ابزار هرچه که باشد در ظل و ذیل هدف توجیه‏پذیر است.

«یرید من حب العلا عیشه

ولایرید العیش من حبه» (14)

«و لست أبالی بعد ادراکی العلا

أکان تراثاً ما تناولت أم کسبا» (15)

البته، ناگفته نماند مجدی را که متنبی به دنبال آن است، مجد و سیادت منحصر به فردی است که نه تنها کسی را یارای رسیدن بدان نباشد بلکه جهانی را به حیرت افکند و طنین هولناکش همه جا را درنوردد. او خود، چنین به تبیین این نوع مجد می‏پردازد:

«ذرینی جنل مالاینال من العلا

فصعب العلا فی‏الصعب و السهل فی‏السهل» (16)

در تفسیر بیت قبل گوید:

«و ترکک فی‏الدنیا دویاً کأنما

تداول سمع المرء أنمله العشر» (17)

شاعر، سپس دیدگاه‏های خود را به طور موجز در بیتی به نکویی به جمع‏بندی می‏نشیند:

«علی ذامضی الناس: اجتماع و فرقه

و میت و مولود، و قال و وامق» (18)

البته، باید توجه داشت که تفسیر اندیشه متنبی و تبیین تفکر ایشان در درجه نخست، نیازمند شناخت محکمات فکری و قطعیاتی است که در اثر شعری او وجود دارد. قطعاً متنبی در آنچه که گفته و سروده، یک دسته مبانی و اصول پایه‏ای و بنیادین دارد که بر همه اندیشه‏ها و تفکرات ایشان حاکمند و تفسیر جزییات اندیشه او (همانگونه که گذشت) جز در سایه آن تفکرات اساسی و اصول مبنایی میسر نیست.

به نظر نگارنده، مبنای تمامی تفکرات متنبی و جهان‏بینی او، همین عبارت موجز وی است که «الدنیا لمن غلباً » (19) به عبارتی تمامی تفکرات جزیی متنبی، در ذیل و ظل این اندیشه قابل تفسیر و تحلیل‏اند و همگی آنها در ظرف وجودی چنین نگرشی به حیات جای می‏گیرند.

ب- حیات از منظر احمد شوقی

در اندیشه شوقی، زندگی چیزی جز عقیده و جهاد نیست و انسان عقیده‏مند، باید در راه حفظ و نشر افکار و اندیشه‏های انسانی خود مجاهدت ورزد. در واقع، روح زندگی و درونمایه آن، از نظر شوقی دو عنصر (عقیده) و (جهاد) هستند که مهمترین مشخصه‏هایی‏اند که نوع نگرش احمد شوقی را به زندگی، از نوع نگاه متنبی تمیز می‏دهند و بر مبنای این دو عنصر است، که احمد شوقی از آن نگاه کوته‏بینانه زندگی حیوانی، خارج گشته و وارد گستره حیات انسانی شده است:

«قف دون رأیک فی‏الحیاة مجاهداً

ان الحیاة عقیدة و جهاد» (20)

در دیدگاه او، حوادث روزگار در گستره حیات چنان معرکه‏ای برپا می‏کنند که از شدت و حدت آن، قومی دلان به لانه صبر پناه برند و بزدلان در دم جان سپارند:

«لا أری الایام الا معرکاً

و أری الصندید فیه من صبر»

رب واهی الجاش فیه قصف

مات بالجبن، اودی بالحذر» (21)

در چنین معرکه‏ای، که در عرصه حیات رخ نموده «انسان» و «زمانه» پنجه در پنجه هم افکنده‏اند و زمانه مکاره در هر رهگذری دامی تنیده و میان آن دانه‏های مرگ بنشانده است.

«کأنی و الزمان علی قتال

مساجلة بمیدان الحیاة

تأمل هل تری الا شباکاً

من الایام حولک ملقیات» (22)

بنابر باور شوقی، روزگار بی‏شک هماره پیروز این میدان است، چگونه نباشد حال آن که سرپنجه پولادینش آهن سرسخت را چون موم نرم می‏کند و سنگ خارا را درهم می‏شکند و هر گردنکش جبار را، برجایش می‏نشاند.

فان‏الحیاة تقل الحدی

د اذا لبسته، و تبلی الحجر

فدع کل طاغیه للزما

ن فأن الزمان یقیم الصعر» (23)

زمانه مقتدر، گاه انسان رابر سر سفره رنگین لذایذ خویش می‏نشاند و از لذتها، بهره‏مندش می‏گرداند و گاه در به روی او می‏بندد و او را در کوچه پس کوچه‏های فقر و حرمان و شوربختی، بی‏کس و تنها رها می‏سازد.

«تقضی علی المرء اللیالی، اوله

فالحمد من سلطانها، لذام» (24)

شاعر معتقد است که، اگر آدمی در احوال روزگار نیک بیندیشد، درمی‏یابد که نعمات و نقمات این سرای درهم تنیده‏اند، شیرینی ز تلخی زاید، سختی با راحتی آید و پاکی با ناپاکی بباید:

«و من یخبر الدنیا و یشرب بکأسها

یجد مرها فی‏الحلو، و الحلو فی‏المر» (25)

«یا طیر کدر العیش لوتدری

فی صفوه، و الصفو فی‏الکدر» (26)

سپس شاعر، آدمی را دعوت به تفکر پیرامون حوادث حیات می‏کند و می‏گوید که اگر این حوادث را، یک به یک به تحلیل‏نشینی، زندگی را بازیچه‏ای و حیات را فریبی بیش نمی‏یابی.

«أیهال النفس تجدین سدی

هل رأیت العیش الا لعبا» (27)

«و العیش آمال تجد و تنقضی

والموت أصدق، والحیاء غرور» (28)

و نتیجه می‏گیرد که هر چند (حوادث) روزگاران را به بازی گرفته‏ایم و در مرتع غفلت شادخواره می‏چریم اما روزگار هماره در کار خود جدی است.

«فیاویحم! هل أحسوالحیا

ة، لقد لعبوا و هی لم تلعب» (29)

بیان شد که متنبی، هدف نهایی زندگی را در همین جهان جست‏وجو می‏کرد و حیات دنیوی را بستری جهت رسیدن به آن هدف می‏دانست، که تحقق آن به واسطه یک سلسله عوامل در شکلی نمادین به نام «مجد» میسر می‏شد. ولی احمد شوقی، هدف نهایی را در گستره حیات دنیوی نمی‏جوید. زندگی از منظر شوقی، حکم (راهی) را دارد جهت رسیدن به هدفی که تحقق آن در ماوراء این حیات صورت می‏پذیرد. بنابراین، نوع تفکر است که او چنین می‏سراید:

«وجدت الحیاة طریق الزمر

الی بعثة و شئون أخر

و ما باطلا ینزل النازلون

ولا عبثاً یزمعون السفر» (30)

حال که این سرای، همچون راهی است، که فرصتها چونان ابر درگذرند و عمر گرانمایه در این سرای چون آب در بستر جویبار به سرعت روان است به توصیه شوقی آدمی باید قدر لحظه‏لحظه عمر را غنیمت شمارد:

«دقات قلب المرء قائله له

ان الحیاة دقائق و ثوانی» (31)

مسافری که در این ره گام می‏نهد، راهی که مقصدش در ماورای این جهان واقع شده است لاجرم باید زاد و توشه‏ای بردارد تا به سلامت به مقصد رسد. شوقی زاد چنین راهی را سیرت نیکو و توشه‏اش را عمل صالح می‏داند.

«و خذ لک زادین: من سیرة

و من عمل صالح یدخر» (32)

سپس او برای اینکه آدمی بتواند به سلامت از این «راه» بگذرد توصیه‏هایی می‏نماید؛ او سفارش می‏کند که رونده این راه پرمخاطره باید بهنگام گذر مواظب باشد که پایش نلغزد تا به درهای هولناکی که گرداگرد راه را فراگرفته‏اند سقوط نکند؛ گوش به هر وسوسه خناسی نسپارد؛ چشم زهر جلوه شیطانی برگیرد؛ از بندگی هوای نفس و بردگی هر سرکش دوری گزیند.

«و کن فی‏الطریق عفیف الخطی

شریف السماع، کریم‏النظر

ولاتخل من عمل فوقه

تعش غیر عبد، ولا محتقر» (33)

در حین عبور از این راه، انسان چه به هنگامه شادکامی‏ها و چه در حرمان و شوربختی‏ها، باید صبر پیشه سازد زیرا هر یک به وجهی انسان را به گمراهی می‏کشانند و از ادامه سیر بازمی‏دارند. شادکامی‏ها و شادخواری‏ها، انسان بی‏صبر را در لجنزار غرور غرقه می‏سازند و حرمان و تلخ‏کامی‏ها، آدمی را در ظلمات یأس رها می‏کنند. پس باید ابرهای تیره یأس را از آسمان دل به کناری زد، تا پرتوهای خورشید امید بر گستره دل به نورافشانی پردازند.

«فاصبر علی نعمی الحیاة و بوسها

نعمی الحیاة و بوسها سیان» (34)

«لا تحفلن ببوسها و نعیمها

نعمی الحیاة و بوسها تضلیل» (35)

«فهلم فارق یأس نفسک ساعة

واطلع علی الوادی شعاع رجاء» (36)

خلاصه بحث:

دیدیم که نوع نگرش احمد شوقی به حیات، با نوع نگاه متنبی، کاملا متفاوت است. دنیای متنبی «دنیایی حیوانی» است که در بستر این حیات، مردمان همچون درندگان، ددصفتانه به جان هم افتاده‏اند و پیروز این میدان، قوی پنجه‏گانند و ضعفا، محکوم به فنایند، شاید رساترین و جامع‏ترین تعبیری که نوع نگرش متنبی را به زندگی بیان می‏دارد همین عبارت «موجز الدنیا لمن غلبا» باشد. همچنین هدفی را که متنبی جست‏وجو می‏کند از گستره حیات دنیوی خارج نیست. او هدف نهایی را در این سرای می‏جوید. به عبارتی، بیشترین توجه متنبی به «عالم و آدم» است تا به «مبدأ و معاد» اما دنیای احمد شوقی دنیای عقیده و جهاد است و این دو، ارکان شکل‏دهنده حیات از دیدگاه شوقی‏اند که (ان‏الحیا! عقیدة و جهاد). در واقع حیاتی را که احمد شوقی به تصویر می‏نشیند یک «حیات هدفمند انسانی» است. او هدف نهایی را همچون متنبی، در این سرای نمی‏جوید بلکه آن را در افق ماورای حیات دنیوی می‏جوید. او به دنیا به مثابه یک «راه» می‏نگرد، نه یک «منزل» و این خود، طبیعی می‏نماید که «مقصد» این «راه» در سرای دیگر است.

منابع:

1- البعلبکی، روحی، موسوعه روائع الحکمه والا قوال الخالده، الطبعه الاولی، بیروت، دارالعلم للملایین، 1997م.

2- العکبری، ابی البقاء، شرح دیوان ابی‏الطیب المتنبی، بیروت، لبنان، دارالمعرفه، بی‏تا.

3- شوقی، احمد، دیوان (الشوقیات)، الطبعه الاولی، بیروت، موءسسه الاعلمی للمطبوعات 1418هـق. 1998 م.

پی‏نوشت‏ها:

1- ابی‏البقاء، العکبری، شرح دیوان ابی‏لطیب المتنبی، ج 3، بیروت، دارالمعرفه، بی‏تا، ص 147.

2- همان

3- همان، ج 3، ص 147.

4- همان، ص 130.

5- همان، ص 129.

6- همان، ص 65.

7- همان، ج 1، ص 276.

8- همان، ج 4، ص 209.

9- همان، ج 1، ص 124.

10- همان، ج 2، ص 105.

11- همان، ج 2، ص 275.

12- همان، ج 3، ص 34.

13- همان، ج 1، ص 214.

14- همان، ص60.

15- همان، ص

16- همان، ج 3، ص 290.

17- همان، ج 2، ص 149.

18- همان، ص 342.

19- همان، ج1، ص 121.

20- روحی، البعلبکی، موسوعه روائع الحکمه و الا قوال الخالده، الطبعه الاولی، بیروت، دارالعلم الملابین، 1997م، ص 262.

21- احمد، شوقی، دیوان (الشوقیات)، ج 1، الطبعه الاولی، بیروت، موءسسه الاعلمی لمطبوعات، 1998م، ص 112.

22- همان، ج 2، ص 37.

23- همان، ج 1، ص 117، 119.

24- همان، ص 196.

25- همان، ص 370.

26- همان، ص371

27- همان، ص 358.

28- همان، ج 2، ص 65.

29- همان، ج1، ص 393.

30- همان، ج 2، ص 236.

31- همان، ص 138.

32- همان، ص 136.

33- همان.

34- همان، ص 139.

35- همان، ص 102.

36- همان، ص 24.

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:14|

بين المقابلة والطباق في الآيات القرآنية

                                              

                                       أولا ـ الطـبـاق

    هو إحدى فنون البديع المعنوية  التي كثر ورودها في القرآن الكريم ، والسنة النبوية ، وكلام البلغاء .فهو من أعظم المحسنات  أثرا في تجميل  الأسلوب ؛ وإبراز المعاني ،  لأنه يتجاوز ظواهر الألفاظ إلى بواطنها  ، ولا يقف عند الألفاظ ، يل يتجاوزها إلى المعاني ، وهو بذلك وسيلة إيضاح جيدة  تعرض بها الأشياء  أو الصفات ، ثم يعرض ما يقابلها في المعاني. فلا شك أن الجمع بين الأشياء المتطابقة  يضفي على الكلام حسنا وجمالا ، ويزيده رونقا وبيانا فالضد يظهر حسنه الضد كما يقولون  .

    إذ أن المطابقة تنشط الفاعلية الإدراكية  ، وتأدي إلى تداعي المعاني المعاكسة ، وتوسع ملكة التخيل والوهم ، وتوقظ الإحساس ، وتأجج العطفة ، وتستفز الشعور من خلال تسليط الضوء على المفارقات .

    ويقال للمطابقة : التطبيق ، والطباق ، ومنهم من عد المقابلة فيها ، وهذا خلط واضح ، إذ لم يبق للفرق بينهما محل .

    المفهوم اللغوي للمطابقة : هو الجمع بين الشيئين ، يقولون : طابق فلان بين ثوبين ، ثم استعمل في غير ذلك فقيل طابق البعير في سيره ، إذا وضع رجله موضع يده ، وهو راجع إلى الجمع بين الشيئين ، قال الجعدي :

     وخيل تطابق بالذراعين طبــا          ق  الكلاب يطأن الهراسا (1)

     وقال الأصمعي  : " المطابقة أصلها وضع الرِّجل في موضع اليد في مشي ذوات الأربع .(2) .  ونقل عن الخليل بن أحمد ( رحمه الله ) : " يقال طابقت بين الشيئين إذا جمعت بينهما على حذوٍ واحدٍ ، وألصقتهما  . (3)

     ويرى ابن حجة الحموي أنه " ليس بين التسمية اللغوية والتسمية الاصطلاحية مناسبة، لأن المطابقة في الاصطلاح  : الجمع بين  الضدين ،  في كلم ، أو بيت شعر ، كالإيراد والإصدار ، والليل والنهار ، والبياض والسواد (4)

    وقال ابن الأثير " " أجمع جماعة علماء من أرباب هذه الصناعة على أن المطابقة في الكلام هي الجمع بين الشيء وضده : كالبياض والسواد ، والليل والنهار ، وخالفهم في ذلك أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب ، فقال : المطابقة : إيراد لفظتين متساويتين في البناء والصفة ، مختلفتين في المعنى ". وهذا الذي ذكره قدامة  هو: التجنيس بعينه ، غير أن الأسماء لا مشاحة فيها  إلا إذا كانت مشتقة ، ولننظر نحن فيما حمله على ذلك . والذي حمل قدامة على ذلك ما اقتضاه اشتقاق لفظ الطباق " (5) .

     وقال الرماني : " المطابقة مساواة المقدار من غير زيادة ولا نقصان "  واستحسن هذا التعريف ابن رشيق القيرواني فقال : " هذا أحسن قول سمعته في المطابقة من غيره ، وأجمعه لفائدة " (6) .

     وخلاصة القول في تعريف الطباق : هو الجمع بين الشيء وضده في الكلام من خلال لفظتين متضادتين ، يتنافى وجودهما معًا في شيء واحد ، في وقت واحد . وقد يكونا بلفظين متحدين في الاسمية ، أو الفعلية ، أو الحرفية ، أو خلاف ذلك . على نحو ما سيأتي توضيحه ، وتطبيقه على القرآن الكريم .

    ولقد أشار الباحثون القدامى والمحدثون إلى أن هناك ألفاظا قرآنية لا تكاد  تفترق في القرآن الكريم هي من عادات القرآن واضطراداته ، مثل الجنة والنار ، والرغبة والرهبة ، والنعيم والعذاب ، والطيب والخبيث ، والنفع والضر ، والجائز والمقتصد ، وانه ما جاء بوعيد إلاَّ أعقبه بوعد ، وما جاء بنذارة إلا أعقبها إشارة . (7)

    وقد أشرنا إلى أن الطباق قد يكون بين اسمين أو فعلين أو حرفين ، ونذكر  من ذلك ما وقع في الأسلوب القرآني  ، ما كان بين اسمين ؛ قوله تعالى :

(( وما يستوي الأعمى والبصيرُ ، ولا الظلماتُ ولا النُّورُ ، ولا الظِّـِّلُّ ولا الحرورُ  وما يستوي الأحياءُ ولا الأمواتُ )) (8) .ُ

    _ فقد جمع بين " الأعمى ( ويقصد به الكافر، ويعني في إبعاده الجهل والضلالة وعدم الرؤية)  وبين البصير ( ويقصد به "المؤمن" ويعني بع العلم والهدى ووضوح الرؤية ) .  وجمع أيضا بين الظلمات : ويقصد بها الضلال . وبين النور : ويقصد بها الهداية  . وبين الظل والمراد به نعيم الجنة ، وبين الحرور ، والمراد به عذاب النار . وبين الأحياء والأموات ، وهما المؤمنين والكافرون .  وأن لكل ضد من هذه الأضداد  التي تتطابق مع بعضها البعض معاني عميقة ، ودقيقة ومتشعبة .

     و نذكر من الطباق بين فعلين ، قوله  تعالى : (( وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات  وأحيا  )) (9) .فقد وقع الطباق بين " أضحك وأبكى " وبين أمات وأحيى " . وفي هذين الطباقين معنى دقيق ، وعميق ، يتمثل في  أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أضحك : أي أدخل السرور والبهجة والمرح والسعادة على النفس البشرية . وهو أيضا الذي أبكى : أي أدخل الحسرة والألم والتعاسة والشقاء على النفس الأخرى . بشكل كامل ومتطابق ، ولذلك لم يقل " أحزن وأرضى " بل جاء بدليل الفرح والسرور بكلمة أضحك ، وبدليل الحزن بكلمة "أبكى" .  ويبدو ذلك أيضا واضحا في المطابقة ين " أمات " , "أحيا " ، فالإماتة : لفظ يدل على زوال الحياة وانتهائها زوالا كاملا ، بينما الفعل " أحيا " يرمز للنقيض تماما إذ يبعث الحياة ، ويبثها في كل ما هو جماد ، فيجعله حياً ،يتحرك ، وينطق ، ويحس ، ويصبح صورة متناقضة تماما لصورة الموت والفناء والزوال .

     ومثال التضاد بين حرفين : قوله تعالى :  (( لها  ما كسبت وعليها ما اكتسبت )) (10) .فالجمع بين حرفي : "اللام " في كلمة " لها" ، و"على" في كلمة " عليها" مطابقة . فاللام في "لها " تفيد الملكية المشعرة بالانتفاع . و"على " في عليها ؛ تشعر بالثقل المفيد للتضرر والأذى.

     وقد يكون التضاد بين لفظين مختلفين : ومن أمثلة ذلك ؛ قوله تعالى : (( أو من كان ميتا فأحييناه )) (11) . فالتضاد هنا وقع بين لفظي " ميتا " : وهو اسم . وبين " أحيينا " : وهو فعل . والمراد بالميت في الآية الكريمة " الضال " . وبـ "أحييناه "  أي: هديناه.

 

 

" الفرق بين المطابقة والتكافؤ "

    

      يرى زكي الدين بن أبي الإصبع : أن المطابقة ضربان :

                     ضرب يأتي بألفاظ الحقيقة ، وضرب يأتي  بألفاظ المجاز .

    واستحسن ابن حجة الحموي هذا التقسيم فقال :  " ولقد شفى ذكي بن أبي الإصبع القلوب ، في ما قرره "(12) .  فإنه قال : المطابقة ضربان :

1-      فالضرب الذي  يأتي بألفاظ الحقيقة ،هو ما يسمي بالمطابقة الحقيقية ، وأعظم الشواهد عليه ؛ قوله تعالى : ((وأنه هو أضحك  وأبكى ،وأنه هو أمات وأحيا )) (13)

-وقول النبي ( ص) للأنصار ( رضي الله عنهم ) : (( إنكم لتكثرون عند الفزع ، وتقلون عند الطمع )) . فانظر إلى هذه البلاغة النبوية والمناسبة التامة ضمن المطابقة .

  - والمعجز الذي لا تصل إليه قدرة مخلوق ، قوله تعالى : (( وما يستوى الأعمى والبصير ، ولا الظلمات ولا النور ، ولا الظل ولا الحرور ، وما يستوي الأحياء ولا الأموات )) (14) . فانظر إلى عظيم هذه المطابقة ، وما فيها من الوجازة  (15) .

2-      والضرب الذي يأتي بألفاظ المجاز : يسميه قدامة بن جعفر بـ "التكافؤ " ( بشرط أن تكون الأضداد لموصوف واحد )  ومنه قول الشاعر :

                                                 حلو الشمائل  وهو مر باسل      يحمي الذمار صبيحة الإرهاق

فقوله : حلو ، ومر ، يجري مجرى الاستعارة ، إذ ليس في الإنسان ، ولا في شمائله ، ما يذاق بحاسة الذوق .

    - ومن أمثلة التكافؤ ، قول ابن رشيق ، وهو حسن :

                                              وقد أطفؤا شمس النهار وأوقدوا        نجوم العوالي في سماء عجاج

     - وما أحلى قول القائل  في هذا الباب :

                                               إذا نحن سرنا بين شؤق ومغرب     تحرك يقظان التراب ونائمه

    فالمطابقة بين اليقظان  ، والنائم ، ونسبتهما إلى التراب على سبيل المجاز . وهذا هو التكافؤ عند ابن أبي الإصبع (16) .

 

 

 

أنواع المطابقة

 

      قسم البلاغيون المطابقة إلى ثلاثة أنواع :

                                         1- مطابقة الإيجاب  .

                                         2- مطابقة السلب  .

                                         3-إيهام الطباق     .

أولاً- مطابقة الإيجاب :وهي التي لا يختلف الضدان فيها إيجابا وسلبا . ومن أمثلتها في الأسلوب القرآني ، قوله تعالى : (( ولا تقولوا لمن يُقتلُ في سبيل الله أمواتا بل أحياءٌ  ولكن لا تشعرون )) (17) . فالله سبحانه وتعالى يخبرنا أن الشهداء في برزخهم أحياء يرزقون . وقد  خص الله الشهداء بالذكر هنا تشريفا لهم وتكريما أيضا .

-فالمطابقة وقعت في الآية الكريمة بين " أموات : و "أحياء " . وهي مطابقة إيجاب ، وبألفاظ الحقيقة .

    ومن ذلك ـأيضا - قوله تعالى: (( الذين ينفقون أموالهم  بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )) 0(18)

     يبين الله سبحانه وتعالى أن الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ، وابتغاء مرضاته ، في جميع الأوقات بالليل والنهار  ، في السر والعلانية ، بأن أجرهم على الله ، وأنهم في الدرجات العالية في جنات الخلد ، ولا خوف عليهم فيها ، ولا يصيبهم فيها حزن أبدا .

-                                فالطباق هنا وقع بين " الليل والنهار " وبين " السر والعلانية " وبين "لهم " و " عليهم .

      *ومن ذلك أيضا قوله تعالى : (( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم )) (19).  أي: لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الله (الإسلام) فهو دين واضح ، فمن يكفر بالله أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره ، ومن خلع الأنداد والأوثان ، وما يدعوا إليه الشيطان فإن الله ثبت أمره ، واستقام على الطريقة المثلى ، والصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم .

-           فالمطابقة فل الآية وقعت بين " الرشد :الذي هو الهداية ، وبين الغي : الذي هو الضلال. وكذلك أيضا بين " يكفر ، ويؤمن " .

*ومنه – أيضا- قوله تعالى:

                               (( باطنـه فيـه الرحمة ، وظاهـره من قبلِهِ العذابُ )) (20) .

ومن ذلك –أيضا- قوله تعالى :

                                  (( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات )) (21) .

ونذكر من ذلك في الأسلوب النبوي ، قول رسول الله (ًص) : (( أفضل الأعمال أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتصفح عمن ظلمك )). والمتأمل لهذه المطابقة بين الوصل والقطيعة ، وبين العطاء والحرمان ، يدرك جمال الطباق ، لما يحتويه الفعل " قطعك " من قطع مادى ومعنوي واجتماعي ونفسي . ومثل ذلك قوله (ص) : " وتعطي من حرمك " وهكذا فإن الطباق يجمع بين الضدين أو الشيء وضده بكل ما فيهما من معان ، وصور وأحاسيس. (22)

  • ·       وقوله (ص) : (( اليد العليا خير من اليد السفلى )) . فقد أراد الحبيب محمد (ص) باليد العليا ك يد المعطي ، وأراد باليد السفلى : يد المستعطي . وفي الحقيقة أنه  ليس ثمة يد عليا ويد سافلة ، وإنما المراد أن المعطي أعلى رتبة من الآخذ في مجال الرفد . فالطباق بين العليا والسقلى من ألى الطباق ، وقد احتوى أيضا على مجاز بديع .

 

ثانيا – طباق السلب : وهو ما اختلف فيه الضدان إيجابا وسلبا. حيث يجمع بين فعلين من مصدر واحد . نحو قوله تعالى : (( يخادعون الله والذين لآمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم  وما يشعرون )) (23) . يبين الله سبحانه وتعالى للمنافقين أنهم يخادعون أنفسهم بإظهارهم إيمانهم بالرغم من أنهم يسترون كفرهم ، وجحودهم ، بوله " يخادعون الله " ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله " وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون " لأن المنافق يظن أنه يحسن لنفسه ، وهو بذلك يوقعها قي غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به ، فذلك خداع المنافق نفسه . فالطباق بين " يخدعون " و "ما يخدعون "وهي طباق سلب  بإيجاب الخداع ، ونفيه لأنهما ضدان .

   *ومن ذلك قوله تعالى : (( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون )) (24)    .             

   *    وقوله :  (( تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك علام الغيوب )) (25) .

    -وقد يكون أحد المصدرين في صيغة الأمر والآخر في صيغة النهي :كما في قوله تعالى : (( اتبعوا ما انزل إليكم من ربكم  ، ولا تتبعوا  دونه أولياء )) . فطباق السلب وقع بين " اتبعوا " و"لا تتبعوا "  . وهذا النوع من الطباق  يقع كثيرا في القرآن الكريم .

 

ثالثا - إيهام التضاد : وهو " أن يجمع بين معنيين ليسا متقابلين ، ولكن عُبّرَ عنهما بلفظين متقابلين " . أو بعبارة أخرى : " هو أن يوهم لفظ الضد أنه ضد  مع أنه ليس بضد " . ومن أمثلة  ذلك  قول الشاعر دعبل الخزاعي :

                                            لا تعجبي يا سلمُ من رجل      ضحك المشيب برأسه فبكى

    فضحك المشيب من جهة المعنى ليس بضدٍ للبكاء ، لأنه كناية عن كثرة الشيب ، وظهوره في الرأس ، ولكنه من جهة اللفظ يوهم  التطابق أو أكثر .

ومنه أيضا قول الشاعر :

                                            يبدي وشاحا أبيضا من سيبه     والجو قد لبس الوشاح الأغبرا

  فإن الأغبرا ، ليس بضد " الأبيض " وإنما يوهم بلفظه أنه ضد .

 

ظهور التضاد وخفاؤه

 

    قد يكون التضاد بين المعاني ظاهرا جليا كما في الأمثلة السابقة ، ومنها أيضا قوله تعالى ((قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ، وتعز من تشاء   وتذل من  تشاء )) (26)

وقد يكون خفيا : ومن أمثلته في الأسلوب القرآني قوله تعالى : (( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار  رحماء بينهم )) (27) .

فالمطابقة هنا بين " أشداء " و" رحماء " . والرحمة ليست ضدا في المعنى ل"أشداء " . ولكن الرحمة تستلزم "اللين " الذي يتقابل ويتضاد مع " الشدة " ، لأن من رحم لان قلبه ورق . فالتضاد كما رأيت ليس واضحا ، بل فيه خفاء .

  • ·       ومنه أيضا قوله تعالى : (( مما خطيئاتهم أغرقوا  فأدخلوا نارا )) . فالمطابقة بين " الغرق " و" دخول النار " ، فإن من دخل النار احترق  ( والاحتراق ضد الغرق ) ، والإغراق ليس ضد النار في المعنى ، ولكن الإغراق يستلزم " الماء " و "الماء " ضد النار .
  • ·       ومن الأمثلة التي ترد فيه المفردات على غير ما هو معهود من التقابل ، فالمعلوم أن ضد العلم الجهل ، وضد العمى الإبصار  ، ولكن التعبير القرآني يجيء على هذه الشاكلة (( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ؟ )) (28) . حيث يقابل بين "يعلم " ، وأعمى " أي : بين العلم والعمى ، وما هما بمتضادتين  لفظا ، ولكن الجهل الذي هو ضد العلم يشبَّه  صاحبه بالأعمى ، لأنه لا يقوى  على التمييز بين الخقائق ، ولا شك أن العمى هنا منظور إليه بمعناه غير الحسي إذ المراد به الجهل أو الضلال ، وهما ضدان لعلم والهدى.

                 

بلاغة الطباق

 

       رأى علماء البلاغة  أن بلاغة الطباق لا تكمن في الإتيان  بلفظين متقابلين في المعنى فحسب ، فإن هذا الصنيع لا طائل من ورائه ، وهو أسهل شيء ، بل قد يؤدي ذلك إلى التكلف والتصنع ، وفساد المعنى ، وإنما جمال الطباق وبلاغته يتجلى في بعده من التكلف ، وانسجامه في المعنى ، ولا يأتي مجرد  ، وإنما يجب أن يترشح بنوع من أنواع البديع الأخرى ، يشاركها في البهجة والرونق كقوله تعالى : (( تولج الليل في النهار  ، وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت ، وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب )) (29) . ففي العطف بقوله تعالى : " وترزق من تشاء بغير حساب " دلالة على أن من قدر على تلك الأفعال العظيمة قدر على أن يرزق بغير حساب من يشاء من عباده ، وهذه مبالغة في التكميل المشحونة بقدرة الله سبحانه وتعالى ، فانظر إلى عظم كلام الخالق هنا ، فقد اجتمع فيه المطابقة الحقيقية ، والعكس الذي لا يدرك ، لو جازته ، وبلاغته ومبالغة التكميل التى لا تليق بغير قدرة الله سبحانه وتعالى . (30).

     "وأن سر بلاغة كل من الطباق والمقابلة  إنما هي تداعي المعاني ، فالضد أو المقابل يجلب إلىالذهن ضده ، أو مقابله .. فإذا كتب الأديب أو نطق ، أحد المتساندين وقع مقابلة في ذهن متلقي قي   الأدب ، قبل أن يقرأه أو يسمعه ، وبهذا يتحول متلقي الأدب إلى مرسل له " (31).

   

 

     

     الهوامش والحواشي

(1)

(2) 

(3) .

           

ثانيا ـ المـقـابـلة

    تعد المقابلة من المحسنات البديعية المعنوية التي ترجع إلى تحسين المعنى . وقد جعلها بعض علماء البلاغة  مستقلة بذاتها ، بعدما كانت عند بعضهم مختلطة مع الطباق . وكان قدامة ابن جعفر أول  من تكلم عنها ، وعدها فن مستقل بذاته ، وذكرها في معرض حديثه عن بعض الخصائص الأسلوبية التي تعلي من قيمة العمل الأدبي ، وخاصة الشعر . وقد عرفها بقولة :" وصحة المقابلة أن يضع الشاعر معاني يريد التوفيق ، أو المخالفة بين بعضها وبعض ، فيأتي في الموافق بما يوافق ، وفي المخالف علي الصحة ، أو يشرط شروطا أو يعدد أحوالا في أحد المعنيين ، فيجب أن يأتي فيما  يوافقه بمثل الذي شرطه وعدده ، وفيما يخالف بضد ذلك " (1)

    وعرفها أبو هلال العسكري ، بقوله: " هي إيراد الكلام ثم مقابلته بمثله في المعنى ، واللفظ على وجه الموافقة ،أو المخالفة ، نحو قوله تعالى : ((فمكروا مكرا ومكرنا مكرا )) فالمكر من الله تعالى : العذاب . جعله  الله عز وجل مقابلة لمكرهم بأنبيائه ، وأهل طاعته ))(2) .

    كما عرفها ابن رشيق القيرواني ، فقال : المقابلة " أصلها ترتيب الكلام على ما يجب ، فيعطى أول الكلام ما يليق به أولا ، وآخره ما يليق به آخرًا   ، ويؤتى في الموافق بما يوافقه ، وفي المخالف بما يخالفه ، وأكثر ما تجيء المقابلة في الأضداد ، فإذا جاوز الطباق ضدين كان مقابلة " (3) .

     وعرفها السكاكي  ،  فقال  : المقابلة أن تجمع بين شيئين فأكثر ، وتقابل بالأضداد ، ثم إذا شرط هنا شرطت هناك ضده "(4) .

     وعرفها الخطيب القزويني ،  فقال : " هي أن يؤتى بمعنيين متوافقين ،أو أكثر ،ثم بما يقابل ذلك على الترتيب " (5).

      ويعرفها بدر الدين الزركشى يقول : " هو ذكر الشيء مع ما يوازنه في بعض صفاته ، ويخالفه في بعضها " (6) .

    وخلاصة القول من  التعريفات السابقة لها أن المقابلة : هي أن يأتي المتكلم  في كلامه  بمعنيين  متوافقين أو أكثر ليس بينهما تضاد ، ثم يأتي  بما يقابل ذلك على الترتيب . على شاكلة قوله تعالى : (( فليضحكوا قليلا  ، وليبكوا كثيرا جزاءا بما كانوا يكسبون )) (7) . فقد أتى الله سبحانه وتعالى في هذه الآية بمعنيين " يضحكوا " و""قليلا " وهما معنيان متوافقان أي ليس بينهما تضاد ، ثم أتى بعد ذلك بما يقابلهما على الترتيب بقوله " وليبكوا " و " كثيرا " .

  • ·                    من ذلك أيضا قوله تعالى : (( فأما من أعطى واتقى ، وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى ، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى )) (8) . فقد قابل  بأربعة معان، بأربعة أخرى ، الأربعة الأولى هي : " أعطى " " ,اتقى" , "صدق " و "اليسرى " .

    والأربعة الثانية هي: " بخل " و "استغنى " و" كذب " و "العسرى " .

 

الفرق بين المطابقة والمقابلة

 

          يكمن الفرق بين المطابقة والمقابلة في وجهين :

     الأول – أن الطباق لا يكون إلا بين الضدين غالبا . والمقابلة  تكون لأكثر من ذلك ، كأن تكون مثلا بين أربعة أضداد : ضدين في صدر الكلام  ، وضدين في عجزه . وقد تصل المقابلة إلى الجمع بين عشرة أضداد : خمسة في الصدر ، وخمسة في العجز .

     وقال علماء  البديع : كلما كثر عددها كانت أبلغ . فمن مقابلة خمسة ألفاظ بخمسة أخرى ، قول أمير المؤمنين علي ( كرم الله وجهه) لعثمان بن عفان ( رضي الله عنهما ) : إن الحق ثقيل مري (يسهل بلعه ) ، والباطل خفيف وبيّ (من الوباء وهو: المرض ) ، وأنت رجل إذا صدقت سخطت ، وإن كذبت رضيت " (9) .

     الثاني – أن الطباق لا يكون إلا بالأضداد ، أما المقابلة بالأضداد وغير الأضداد ، ولهذا جعل ابن الأثير ،الطباق أحد أنواع المقابلة ، ولكنها بالأضداد تكون أعلى رتبة ، وأعظم موقفا . ويضرب ابن حجة مثلا لذلك  فيقول : " ومن معجزات هذا الباب قوله تعالى :

(( ومن رحمته  جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ))(10). فانظر إلى مجيء الليل  والنهار في صدر الكلام ، وهما ضـدان ،  ثم قابلهما في عجز الكلام بضدين ، وهما السكون والحركة ، على الترتيب ، ثم عبر عن الحركة بلفظ مرادف ، فاكتسب الكلام بذلك ضربا من المحاسن زائدا على المقابلة ، فإنه عدل عن لفظ الحركة إلى لفظ ابتغاء الفضل ، لكون  الحركة تكون لمصلحة  ، ومفسدة ، وابتغاء الفضل حركة المصلحة دون المفسدة ، وهي تشير إلى الإعانة بالقوة ، وحسن الاختيار الدال على رجاحة العقل ، وسلامة الحس ، وإضافة الطرف إلى تلك الحركة المخصوصة واقعة فيه، ليهتدي المتحرك إلى بلوغ المآرب ، ويتقي أسباب المهالك .  والآية الكريمة سيقت للاعتداد بالنعم ، فوجب العدول عن لفظ الحركة إلى لفظ هو ردفه ، ليتم حسن البيان ، فتضمنت هذه الكلمات التي هي بعض آية عدة من المنافع والمصالح، التي لو عددت بألفاظها الموضوعة لها لاحتاجت في العبارة عنا إلى ألفاظ كثيرة ، فحصل في هذا الكلام ، بهذا السبب ، عدة ضروب من المحاسن .  ألا ترى الله سبحانه وتعالى كيف جعل العلة في وجود الليل والنهار ،  حصول منافع الإنسان ، حيث قال :" لتسكنوا ،  ولتبتغوا " (بلام التعليل !)  فجمعت هذه الكلمات من أنواع البديع : المقابلة ، والتعليل ، والإشارة ، والإرداف ، وائتلاف اللفظ مع المعنى ، وحسن البيان ، وحسن النسق ، فلذلك جاء الكلام متلائما ، آخذا بعضه بأعناق بعض ، ثم أخبرنا بالخبر الصادق : إن جميع ما عدده من النعم  باللفظ الخاص ، وما تضمنته العبارة من النعم التي تلزم من لفظ الإرداف ، بعض رحمته ، حيث قال بحرف التبعيض : " ومن رحمته " . وهذا كله في بعض آية عدتها عشر كلمات ، فالحظ هذه البلاغة الباهرة والفصاحة الظاهرة (11) .

                                     

 

.أنواع المقابلة

 

       تأتي المقابلة على أربعة أنواع هي :

 1-مقابلة اثنين باثنين : ومن ذلك في الأسلوب القرآني قوله تعالى :

                                                          (( فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا )) (12)

  • ·       وقوله تعالى :

                                                          (( تؤتي الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء )) (13).

  • ·       وقوله تعالى  :

                                                       (( تخرج الحي من الميت ، وتخرج الميت من الحي )) (14) .

     *وقوله أيضا :

                                                            (( وجعلنا الليل لباسا ، وجعلنا النهار معاشا )) (15).

     *وقوله : (( ألم يروا  أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه ، والنهار  مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون )) .(16)

 

      فقد جاء في صدر هذه الآيات السابقة  بضدين ،  ثم قابل الضدين بضدين لهما في عجزها ، على الترتيب . فجاءت خذه المقابلات في غاية البلاغة والروعة . وقد ورد هذا النوع من المقابلة كثيرا في القرآن الكريم ونكتفي بهذا القدر منه  ، حتى لا يطول بنا حبل الكلام .

     *ومنه أيضا قول الحبيب محمد (ص) : (( ما كان الرفق في شيء إلا زانه ، ولا كان الحزق ( الحمق والتسرع ) في شيء إلا شانه )) . فانظر كيف قابل الحبيب محمد (ص) الرفق بالحزق ، والزين بالشين ، بأحسن ترتيب ، وأتم مناسبة .

     *وقوله أيضا لأم المؤمنين : (( عليك بالرفق يا عائشة ،  فإنه ما كان في شيء إلا زانه ، ولا نزع من شيء إلا شانه )) .

    *وقوله أيضا :

                                (( إن لله عبادا جعلهم  مفاتيح الخير ، مغاليق الشر )) .

    *وقوله أيضا للأنصار : (( إنكم لتكثرون عند الفزع ، وتقلون عند الطمع )) أي يكثرون عند الملمات والحرب ، ويقلون عند المغانم ، ويعفون عنها .

 

2-مقابلة ثلاثة بثلاثة : ومن أمثلة ذلك في الأسلوب القرآني ، قوله تعالى :

                                              (( ويحل لهم الطيبات ، ويحرم عليهم الخبائث )) (17) .

-                                فالمقابلة بين " يحل ، و"يحرم " ، و " الطيبات والخبائث " .

    *ومنه أيضا قول الرسول (ص) ، من خطبـة له : (( ألا وإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة ، وإن الآخرة  قد ارتجلت مقبلة )(18) . إن أطراف المقابلة هي : الدنيا وارتحالها مدبرة ، يقابلها الآخرة ومجيئها مرتجلة مقبلة .

    *وقوله (ص) أيضا : (( المؤمن غرّ كريم ، والفاجر خبٌّ لئيم )) (19) .

    *وقال علي (كرم الله وجهه) لعثمان بن عفان (رضي الله عنه ) : (( إن الحق ثقيل وبي ، والباطل خفيف مري (يسهل بلعه  )) .

   

*ومنه في القريض ، قول أبي دلامة ، وهو أشعر بيت في المقابلة :

                                        ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا     وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل

-           فالشاعر قابل بين أحسن وأقبح " ، , وبين " الدين والكفر " وبين " الدنيا والإفلاس ". قال ابن أبي الإصبع : إنه لم يقل قبله مثله . (20) .

 3-مقابلة أربعة  بأربعة :ومثاله  في الأسلوب القرآني ، قوله تعالى  : (( فأما من أعطى واتقى  وصدق بالحسنى  فسنيسره لليسرى ، وأما من بخل واستغنى ، وكذب بالحسنى ، فسنيسره لليسرى ))(21) .

-           فالمقابلة بين قوله تعالى " استغنى " و قوله " اتقى " لأن المعنى زهد فيما عنده ، واستغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة ، وذلك يتضمن عدم التقوى. 

   *ومن مقابلة أربعة بأربعة أيضا قول أبي بكر الصديق ( رضي الله عنه )  في وصيته عند الموت : هذا ما أوصى به أبو بكر عند آخر عهده بالدنيا خارجا منها ، وأول عهده بالآخرة داخلا فيها )) . فقابل أول بآخر ، والدنيا بالآخرة ، وخارجا بداخل ، ومنها بفيها . فانظر إلى ضيق هذا المقام كيف صدر عنه مثل هذا الكلام ))(22).

    *ومثله في القريض  ،  قول أبي تمام :

                                         يا أمة كان قبح الجود يسخطها    دهرا فأصبح حسن العدل يرضيها

    *وقول ابن حجة الحموي :

                                       قابلتهم بالرضا والسلم منشرحا    ولوا غضابا فوا حربي لغيظهم (23)

4- مقابلة خمسة بخمسة : قال علماء البلاغة كلما كثر عدد المقابلة كانت أبلغ ، فمن مقابلة خمسة بخمسة ،وقد وقع ذلك في الشعر كثيرا ، ومن أمثلته قول أبي الطيب المتنبي :                .          أزورهم وسواد الليل يشفع لي     وأنثني وبياض الصبح يغري بي

قال صاحب الإيضاح : ضد الليل المحض هو النهار لا الصبح ، والمقابلة الخامسة بين " بي " و "لي " ، فيها نظر لأن الباء ، واللام ،  صلتا الفعلين (24) .

     *ومنه أيضا قول صفي الدين الحلي :

                                          كان الرضا بدنوي من خواطرهم        فصار سخطي لبعدي عن جوارهمُ

-فالمقابلة بين الشطر الأول كله ، والشطر الثاني كله .

    وقد رأى علماء البلاغة أنه كلما كثر عدد المقابلة كانت أبلغ ، شريطة أن لا تؤدي هذه الكثرة إلى التكلف والتصنع  . فوجدنا مقابلة ستة بستة ، كما في قول ،شرف الدين الأربلي :

                                           على رأس عبد تاج عز يزينه     وفي رجل حر قيد ذل يشينه

    - فالمقابلة هنا بين ألفاظ صدر البيت كله وبين عجزه كله .

وإن كنت أري أن المقابلة إذا ذادت على أربعة ، بأربعة ، قد تسلّم إلى التكلف والتصنع ، وقد نفسد المعنى ، وتؤدي إلى اضطراب الأسلوب وتعقيده . ولذا ندر أن نجد  أكثر من مقابلة أربعة بأربعة في الأسلوب القرآني المثل الأعلى في البلاغة والفصاحة، وكذا الأسلوب النبوي . وكما أن المقابلة  لا ضير في أن تكون بالأضداد ، أو بغيرها (شبيهها )، لأن المعنى يستدعي بعضه بعضا ، سواء بالمقابلة أو بالشبه ، وإن كان الضد أكثر ورودا على البال من الشبه ، وأوضح في الدلالة علة المعنى منه ، فإن الشبه يثير  الفكر ، وينشطه ، ويؤدي  إلى تداعي المعاني ، ويجعله يبحث عن أي الوجوه يكون ( الشبه ) المقابلة . فالمقابلة تجلو الأفكار ، وتوضح المعاني ، وتبرزها في صورة جلية ،  وتؤكدها وتقويها، وتؤدي  إلى تلاحم الأجزاء وأتلاف الألفاظ وزيادتها جمالا ، سواء كان ذلك من خلال عرض الأضداد أو الأشباه ، وهذا سر جمالها .   

الهوامش والحواشي

(1)                95 .

(2)              .

(3)                 .

(4)            
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:13|
شعر الطبیعة فی الأدب الأندلسی
توطئة:

ما لبث العرب إن استقروا فی الأندلس، ورحل إلیها شعراؤهم، حتى بدأ الشعر الأندلسی یشق طریقه إلى الوجود، ویقوى، وتتنوع فنونه، و لم ینقض وقت طویل، حتى نظم الأندلسیون أشعارهم...
ومما یلفت النظر شیوع الشعر فی المجتمع الأندلسی، إذ لم یكن الشعر وقفًا على الشعراء المحترفین وإنما شاركهم فی ذلك الأمراء والوزراء والكتاب والفقهاء والفلاسفة والأطباء وأهل النحو واللغة وغیرهم. فالمجتمع الأندلسی بسبب تكوینه الثقافی القائم على علوم العربیة وآدابها، ثم طبیعة الأندلس التی تستثیر العواطف وتحرك الخیال، كل ذلك جعل المجتمع یتنفس الشعر طبعًا وسلیقة وكأنما تحول معظم أهله إلى شعراء.)
الشعر فی الأندلس:

والشعر فی الأندلس امتداد للشعر العربی فی المشرق؛ فقد كإن الأندلسیون متعلقین بالمشرق، ومتأثرین بكل جدید فیه عن طریق الكتب التی تصل إلیهم منه، أو العلماء الذین یرحلون من الشرق أو الأندلسیین الذین یفدون إلى الشرق للحج أو لطلب العمل؛ وكانوا فی غالب أمرهم مقلدین للمشارقة، ویبدو ذلك واضحاً فی ألقاب الشعراء وفی معارضاتهم لشعراء المشرق. ولكن هذا التقلید لم یمنعهم من الإِبداع والابتكار، والتمیز بمیزات تخصهم نتیجة لعوامل كثیرة،. ویمثل الشعر خاصة أحد جوانب الحضارة العربیة الأندلسیة، حیث عبر عن قوالب تلك الحضارة وعن مضمونها
من الموضوعات التی شاعت فی الأندلس وازدهرت كثیراً شعرالطبیعة
فقد وهب الله الأندلس طبیعة ساحرة ووافرة جمالاً.. جبالها الخضراء وسهولها الجمیلة، وتغرید طیورها على أفنان أشجارها... كل ذلك له أثره فی جمال الأندلس التی تنعم بیئتها بالجمال , وتصطبغ بظلال, وارفة, و ألوان ساحرة, تتنفس بجو عبق عطر یضاعف من روعته وبهائه ما یتخلل جنباتها من مواطن السحر,ومظاهر الفتنة التی تبعث الانبهار والدهشة فی النفوس. وقد أنعكس ذلك فی شعر الأندلسیین بشكل عام, حیث ازدحم بصور متنوعة ملونة تمثل البیئة الطبیعیة فی هذه الرقعة المسماة بالأندلس. ومن هنا تشكلت صورة الأندلس فی الأذهان متقاربة فی أوصافها وألوانها وقسماتها...
هذه الصورة على العموم تأخذ عطرها وعبقها وملامحها وألوانها من الطبیعة, فهی أقرب إلى لوحة فنیة ناطقة, إنها بستان زاهٍ أو حدیقة غناء أو واحة خضراء.
وهذا ولا شك ما جعل وصف الطبیعة من ابرز أغراض الشعر عند شعراء الأندلس،حیث تهیائت لهم أسباب الشعر ودواعیه فشغفت بها القلوب وهامت بها النفوس.
ومن هنا نجد تَعَلُّق الأندلسیین بها، یسرحون النظر فی خمائلها، وأخذ الشعراء والكتاب ینظمون درراً فی وصف ریاضها ومباهج جنانها.
یقول ابن خفاجة:
یا أهل الأندلس لله دركم ماء وظل وأنهار وأشجار
ماجنة الخلد إلا فی دیاركم ولو تخیرت هذا كنت اختار
و قال آخر:
حـبذا أنـدلسٍ من بـلدٍ لم تـزل تنتج لـی كل سـرورْ
طـائرٌ شادٍ وظـلٌ وارفٌ ومـیاهٌ سائحـاتٌ وقـصــور


ولم یكن جمال الطبیعة فی الأندلس هو وحده الذی ساعد على ازدهار شعر الطبیعة هذا، بل أن حیاة المجتمع الأندلسی أثرت أیضاً فی هذا الشعر، الذی یمثل تعلق الشعراء الأندلسیین ببیئتهم وتفضیلها على غیرها من البیئات، ولكون الشعر عندهم یصف طبیعة الأندلس سواء الطبیعیة أو الصناعیة، فهم یصورونها عن طریق الطبیعة كما أبدعها الله فی الحقول والریاض والأنهار والجبال والسماء والنجوم، ویصفونها كما صورها الفن لدیهم فی القصور والمساجد والبرك والأحواض وغیرها
و قد كان وصف الطبیعة فی الشعر العربی منذ العصر الجاهلی إذ وصف الشعراء صحراءهم وتفننوا فی وصفها لكن هذا الوصف لم یتعد الجانب المادی وفی العصر الأموی والعباسی عندما انتقل العرب المسلمون إلى البلدان المفتوحة وارتقت حیاتهم الاجتماعیة أضافت على وصف الطبیعة وصف المظاهر المدنیَّة والحضارة وتفننوا , فمن ذلك فقد وصف الطبیعة عند الشعراء العباسیین أمثال النجدی والصنوبری وأبی تمام وأبی بكر النجدی الذی عاش فی بیئة حلب ولكن ما الجدید الذی جاء به الأندلسیون بحیث أن هذا الموضوع أصبح من الأغراض والموضوعات التی عرف بها أصل الأندلس.
عوامل ازدهار شعر الطبیعة فی الشعر الأندلسی:

• ازدهار الحضارة العربیة فی الأندلس ازدهارا كبیرا وهذا الازدهار الذی شمل جمیع جوانب الحیاة الأندلسیة .
• جمال الطبیعة الأندلسیة التی افتتن بها شعراء الأندلس وتعلقوا بها وفصَّلوا فی وصفها والتغنی بمفاتنها .
• ازدهار مجالس الأنس والبهجة واللهو حیث كانت هذه المجالس تُعقدُ فی أحضان الطبیعة .
خصائص شعر الطبیعة
• أفرد شعراء الطبیعة فی الأندلس قصائد مستقلة ومقطوعات شعریة خاصة فی هذا الغرض بحیث تستطیع هذه القصائد باستیعاب طاقة الشاعر التصویریة وخیاله التصوری , غیر الالتزام الذی تسیر علیه القصیدة العربیة فلم یترك الشاعر زاویة من زوایا الطبیعة إلا وطرقها .
• یعتبر شعر الطبیعة فی الأندلس صورة دقیقة لبیئة الأندلس ومرآة صادقة لطبیعتها وسحرها وجمالها فقد وصفوا طبیعة الأندلس الطبیعیة والصناعیة مُمَثَّلة فی الحقول والریاض والأنهار والجبال وفی القصور والبرك والأحواض .
• تُعد قصائد الطبیعة فی الأندلس لوحات بارعة الرسم أنیقة الألوان محكمة الظلال تشد انتباه القارئ وتثیر اهتمامه .
• أصبح شعراء الطبیعة نظراً للاهتمام به یحل محل أبیات النسیب فی قصائد المدیح , بل إن قصیدة الرثاء لا تخلو من جانب من وصف الطبیعة .
• أصبحت الطبیعة بالنسبة لشعراء الأندلس ملاذاً وملجأ لهم یبثونها همومهم وأحزانهم وأفراحهم وأتراحهم إلا أن جانب الفرح والطرب غلب على وصف الطبیعة فتفرح كما یفرحون وتحزن كما یحزنون .
• وصف الطبیعة عند شعراء الأندلس مرتبطاً ومتصلاً بالغزل والخمر ارتباطاً وثیقاً فوصف الطبیعة هو الطریق إلیها فكانت مجالس الغزل والخمر لا تعقد إلا فی أحضان الطبیعة .
• المرأة فی الأندلس صورة من محاسن الطبیعة , والطبیعة ترى فی المرأة ظلها وجمالها فقد وصفوا المرأة بالجنة والشمس , بل إنهم إذا تغزلوا صاغوا من الورد خدوداً ومن النرجس عیوناً ومن السفرجل نهوداً ومن قصب السكر قدوداً ومن ابنة العنب ( الخمر ) رضابا
.
أصناف من الوصف فی شعر الطبیعة:
هنا سنعرض بض الاصناف التی امتاز الشعراء فی وصفها وتصویرها حتى ان قارئ القصیدة یسلتهم جمالها وكانه یراها امامه, وقد استقراء الشعراء مجال البئة وتضاریسها ومعطیات الحیات الكونیة فیها.
وسنستهل تلك الاصناف بمایلى:-

ــ الروضیات:
وهو الشعر المختص فی الریاض وما یتصل بها.
سنستهل الكلام عن الروّضِیات بهذه الأبیات الرائعة للقاضی أبو الحسن بن زنباع التی یصف قصة الطبیعة وفعل السحاب والأمطار فی الأرض التی تتسربل بعدهما بحلتها الجمیلة فتتفتح أزهارها وتنضج ثمارها حیث قال(2)

أبدت لنا الأیامُ زهرة طیبها وتسربلت بنضیرها وقشیبها
واهتزعِطف الأرض بعد خشوعها وبدت بها النعماء بعد شحوبها
وتطلعت فی عنفوان شبابها من بعد ما بلغت عتیَّ مشیبها
وقفت علیها السحبُ وقفة راحم فبكت لها بعیونها وقلوبها
فعجبتُ للأزهار كیف تضاحكت ببكائها وتبشرت بقطوبها
وتسربلت حللاً تجر ذیولها من لدمها فیها وشق جیوبها
فلقد أجاد المزن فی إنجادها وأجاد حرُّ الشمس فی تربیبها
وهذه أبیات جمیلة للشاعر الوزیر عبدا لله بن سماك والذی یقول فیها:
الروض مخضرٌ الربى متجملٌ للناظرین بأجمل الألوانِ
وكأنما بسطت هناك شوارها خودٌ زهت بقلائد العقیانِ
والطیر تسجع فی الغصون كأنما نقرُالقِیان حنت على العیدانِ
والماء مطَّردٌ یسیل لعابه كسلاسلٍ من فضةٍ وجمانِ
بهجات حسنٍ أُكملت فكأنها حسن الیقین وبهجة الإیمانِ

ــ الزهریات : الشعر المختص بالأزاهیر .

وقد وصف الأندلسیون الأزهار وأكثروا فی هذا النوع من الوصف فوصفوا الورد والنرجس والشقائق والنیلوفر والیاسمین والقرنفل واللوز وغیر ذلك مما وقعت علیه عیونهم فی تلك الطبیعة الخلابة من زهریات وسنستعرض بعض
الأمثلة الجمیلة التی قیلت فی بعض منها,فهذا ابن حمدیس یرثی باقة ورد أصابها الذبول فتحرق حزناً وأسى علیها فقال هذین البیتین
یا باقة فی یمینی بالردى ذبلت أذاب قلبی علیها الحزن والأسفُ
ألم تكونی لتاج الحسن جوهرةً لما غرقتِ،فهلاَّ صانك الصدفُ
وهذه أبیات فی زهرة الیاسمین للمعتضد بالله عباد بن محمد بن عباد یصفها مشبهاً إیاها بكواكب مبیضة فی السماء ویشبه الشعیرات الحمراء التی تنسرح فی صفحتها بخد حسناء بدا ما بدا فیه من آثار فیقول:
أنما یاسـمیننا الغضُّ كواكبٌ فی السماء تبیضُّ
والطرق الحمر فی جوانبه كخد حسناء مسه عضُّ
ویقول ابن حمدیس فی وصف النیلوفر:
ونیلوفرٍ أوراقه مستدیرةٌ تفتَّح فیما بینهن له زهرُ
كما اعترضت خُضر التراس وبینها عواملُ أرماحٍ أسنَّتُها حُمرُ
هو ابن بلادی كاغترابی اغترابه كلانا عن الأوطان أزعجه الدهرُ
وهذه أبیات رقیقة جداً ومن أروع ما قیل فی وصف الشقائق لابن الزقاق:
وریاض من الشقائق أضحى یتهادى بها نسیم الریاحِ
زرتها والغمام یجلد منها زهرات تروق لون الراح
قلت ما ذنبها ؟ فقال مجیباً سرقت حُمرةَ الخدودِ الملاح
وهذا أیضاً وصف بدیع لشجرة لوز قاله أبو بكر بن بقی:
سطرٌ من اللوز فی البستان قابل نیما زاد شیءٌ على شیءٍ ولا نقصا
كأنما كل غصنٍ كُمُّ جاریةٍ إذا النسیم ثنى أعطافه رقصا
وهذا وصف جذاب لزهرة ألأقاح للأسعد ابن إبراهیم بن بلیطة ویقول:
أحبب بنور الأقاح نوَّاراعسجـــده فی لجینــه حارا
أی عیون صُوِّرْنَ من ذهبرُكِّبَ فیها اللجینُ أشفارا
إذا رأى الناظرون بهجتها قالوا نجومٌ تحـــفُّ أقمارا
كأن ما اصفرَّ من مُوسِّطه علیلُ قومٍ أتوه زوارا

ــ الثمریات:-
الشعر المختص بالأثمار,والبقول,وما یتصل بها.
وصف الأندلسیین للثمرة نفسها فقد وصفوا التفاحة والسفرجل والرمانة والعنب وحتى الباذنجان !! وأبدعوا فی ذلك كثیرا فقال أبو عثمان ألمصحفی وقد تأمل ثمرة السفرجل الأبیات التالیة الرائعة المحبوكة فی نسیج رائع, ولفظ رقیق ومعنى أنیق موشى بلوعة حب وشكوى صب رغم إنه شطح فی آخرها قلیلاً ( وزودها ) حتى نسی إن ما بین یدیه ما هو إلا حبة من السفرجل!!ویقول:

ومصفرَّةٍ تختال فی ثوب نرجس وتــعبق عن مسك زكیِّ التنفس
لها ریح محبوبٍ وقسوة قلــــــبه ولونُ محبٍ حُلَّةَ السُــقم مـكتسی
فصفرتها من صفرتی مستعارةٌ وأنفاسها فی الطیب أنفاسُ مؤنسی
فلما استتمت فی القضیب شبابها وحاكت لها الأنواء أبراد سندس
مددت یدی باللطف أبغی قطافها لأجعلها ریحانتی وسـط مجلسی
وكان لها ثوبٌ من الزغب أغبرٌ یرف على جسم من التـبر أملسِ
فلما تعرَّت فی یدی من لباسها ولـــم تبق إلا فی غلالة نرجسِ
ذكرتُ بها من لا أبوح بذكره فأذبلـــها فی الكف حرّ تنفس

وهذا أحمد بن محمد بن فرح یقدم صورة بهیة لثمرة الرمان فیقول:

ولابسة صدفاً أحمرا أتتك وقد ملئت جوهرا .
كأنك فاتح حُقٍّ لطیفٍت ضمَّن مرجانَه الأحمرا

وكذلك كأن للعنب نصیب عند شعراء الأندلس فقال فیه الشاعر أحمد بن الشقاق ما یلی:
عنب تطلَّع من حشى ورق لنا صُبغت غلائل جلده بالإثْمدِ
فكأنه من بینهن كواكبٌ كُسفت فلاحت فی سماء زبرجدِ

ــ المائیات:
الشعر المختص بوصف الأنهار,والبرك, والسواقی.
كانت الأنهار الكثیرة الوفیرة المیاه،وما یتشعب عنها من برك،وخلجان,وغدران،وما ینبت على شواطئها,من حدائق،وریاض،وما یصاحبها من ظواهر طبیعیة كمد,وجزر,وفجر,ونهار,ولیل,وشمس,وأصیل من مظاهر الطبیعة الخلابة فی بلاد الأندلس؛وكانت أكبر المدن مثل قرطبة وأشبیلیة وغرناطة تقع على تلك الأنهار,التی كانت ترفد الأرض بالخصب,والعطاء فاتخذ الأندلسیون من ضفافها مراتع للمتعة,واللهو,ومن صفحاتها ساحات تمرح علیها زوارقهم,وأشرعتهم,وهم فی هذه وتلك یعزفون أعذب الألحان,ویتغنون باعذب الشعر وأرقه....
وهذه الأبیات الرائعة لابن حمدیس فی وصف بركة من الماء فی أحد القصور وقد احتوت على تماثیل لأسود تقذف الماء من أفواهها...
ولعل لفن النقش والنحت والزخرفة الذی كأن سائداً آنذاك أثر كبیر فی جمال هذه الصورة التی رسمها الشاعر بكل براعة:
وضراغمٍ سكنت عرین ریاسة ٍتركت خریر الماء فیه زئیرا
فكأنما غشَّى النُّضارُ جسومَها وأذاب فی أفواهها البلورا
أُسْدٌ كأن سكونها متحركٌ فی النفس،لووجدت هناك مثیرا
وتذكَّرت فتكاتِها فكأنما أقْعت على أدبارها لتثورا
وتخالها والشمس تجلولونها ناراً ،وألسنَها اللواحسَ نورا
فكأنما سَلَّت سیوفَ جداولٍ ذابت بلا نارٍ فعدُنَ خریرا
وكأنما نسج النسیمُ لمائهِ درعاً، فقدَّر سردَها تقدیرا
وبدیعة الثمرات تعبر نحوها عینای بحرَ عجائبٍ مسجورا
شجریةٍ ذهبیةٍ نزعت إلى سحرٍ یؤثر فی النُّهى تأثیرا
قد سَرَّحت أغصانَها فكأنما قبضت بهن من الفضاء طیورا

الأمثلة على وصف المائیات كثیرة جداً .
وتبقى الطبیعة وحدة متكاملة من الصعب تجزیئها والدارس لشعر الطبیعة عند الأندلسیین لا بد وإن یستغرب من هذا الكم الهائل من الأشعار التی قیلت فی هذا المجال ولا أظن إن أمة من الأمم قد برعت فی تصویر الطبیعة بمظاهرها وظواهرها المختلفة كما برع الأندلسیون.
الثلجیات:-
الشعر المختص فی الثلج والبرد...
ننتقل الآن إلى الثلج الجمیل الذی یكسو الأرض والسطوح والسفوح والأغصان العاریة,بغلالة بیضاء نظیفة ناصعة وطاهرة,وكإنه قطن مندوف فیبعث فی النفس بهجة ما لها مثیل, وعلى كل حال یبقى ما قیل فی الثلجیات أقل مما قیل فی الروضیات والمائیات حیث بدأ هذا النوع من الوصف متأخراً فی بلاد الأندلس كمثیله فی الشرق ومن الأبیات الرائعة التی قیلت فی الثلج تلك التی قالها أبو جعفر بن سلام المعا فری المتوفى عام 550م وقال فیها:
ولم أر مثل الثلج فی حسن منظر تقر به عینٌ وتشْنَؤه نفسُ
فنارٌ بلا نور یضیء له سناً وقطرٌ بلا ماءٍ یقلِّبه اللمسُ
وأصبح ثغر الأرض یفترُّ ضاحكا فقد ذاب خوفاً أن تقبِّله الشمس
وهذه أبیات للشاعر الرقیق ابن زمرك یمدح فیها السلطان ویصف الثلج فی نفس الوقت فیقول:
یا من به رتب الإمارة تُعتلى ومعالمُ الفخر المشیدةُ تَبتنِی
ازجر بهذا الثلج حالاً إنه ثلج الیقین بنصر مولانا الغنی
بسط البیاض كرامة لقدومه وافترَّ ثغراً عن كرامة مُعتنی
فالأرض جوهرةٌ تلوح لمعتلٍ والدوح مُزهِرةٌ تفوح لمجتنی
سبحان من أعطى الوجود وجوده لیدل منه على الجواد المحسن
وبدائع الأكوان فی إتقانها أثرٌ یشیر إلى البدیع المتقن

وهذه أبیات جمیلة لابن خفاجة فی وصف الثلج یقول فیها:
ألا فَضَلتْ ذیلَها لیلةٌ تجرُّ الربابَ بها هیدبا
وقد برقع الثلجُ وجهَ الثرى وألحف غصنَ النقا فاختبى
فشابت وراء قناع الظلام نواصی الغصون وهامُ الربى
وما دمنا نتحدث عن الثلج فلا بد من الإشارة إلى البَرَد أیضاً والذی كأن له نصیب فی شعر الأندلسیین ومنهم عبد الجبار بن حمدیس الصقلی الذی كتب قصیدة تزید عن العشرین بیتاً وصف فیها السیول والغدران والبرق والروض وخصص بعض أبیاتها للبرد فشبهه بدرر على نحور فتیات حسان أو بلؤلؤ أصدافه سحاب أو بدموع تتساقط من السحاب وغیر ذلك من الصور المألوفة وغیر المألوفة ویقول فیها:
نثر الجوُّ على الأرض بَرَدْ أی درٍ لنحورٍ لو جمدْ
لؤلؤٌ أصدافه السحْب التی أنجز البارق منها ما وعدْ
ذوَّبتْهُ من سماء أدمعٌ فوق أرض تتلقَّاه نَجَدْ

وهذان بیتان جمیلان فی وصف البرد وهو یتساقط من السماء والریح تعبث به فتبعثره قالها أبو بكر عبد المعطی بن محمد بن المعین:
كأن الهواء غدیرٌ جَــمَد بحیث البرود تذیب البَرَدْ
خیوطٌ وقد عُقدت فی الهوا وراحةُ ریحٍ تحل العُقد
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
وهذه الأصناف التی صنفها علما الأدب ,لتمثیل ولیست للحصر وإنما لوضع منهج لشعر الطبیعة وتقسیمات یمكن من خلالها تسهیل دراسة الشعر
رواد شعر الطبیعة فی الأندلس:

إن "شعر الطبیعة" كمصطلح تعبیر جدید فی أدبنا، لكن "شعر الطبیعة" كظاهرة وغرض وفن، موجود فی الشعر العربی من قدیم، لكن الجدید الذی أدخله الغربیون هو المصطلح فقط؛ فـ"شعر الطبیعة" تعبیر جدید فی أدبنا، أطلقه الغربیون على الشعر الذی كان من أهم مظاهر الحركة الإبداعیة الرومانسیة فی أواخر القرن الثامن عشر، وقد وجد الشعراء فی الطبیعة تربةً خصبةً لنمو العواطف الإنسانیة، وواحة للنفوس المتعبة القلقة، وشعر الطبیعة فی فجره عند العرب كان صورةً لما تراه العین، أكثر من كونه مشاركةً للعواطف التی توحی بها الطبیعة، وانفعالًا ذاتیًّا للشعور.

وفی ظلال العباسیین استطاع بعض فحول الشعر أن یضیفوا إلى الأوصاف المادیة للطبیعة حسًّا وذوقًا؛ فائتلفوا معها -أی: مع الطبیعة- واستغرقوا فی نشوة جمالها، وبادلوها عاطفةً بعاطفة وحبًّا بحب، ومن هؤلاء الشعراء العباسیین، الذین أضافوا إلى الأوصاف المادیة حسًّا وذوقًا: "أبو تمام" و"البحتری" و"ابن الرومی" و"ابن المعتز" و"الصنوبری
و من رواد شعر الطبیعة فی الأندلس الشاعر (ابن خفاجة), و قد قال فی الجبل حین راح یتأمله و یفضی الیه:


وأرعن طماح الذؤابة بازخ یطاول أعنان السماء بغارب
وقور على ظهر الفلاة كأنه طوال اللیالی مفكر فی العواقب
أصغت إلیه وهو أخرس صامتٌ فحدثنی لیل الثرى بالعجائب
وقال: ألا كم كنت ملجأ قاتلٍ وموطن أواهٍ تبتل تائب
وقال بظلی..... وكم مر بی من مدلج ومأوب

"قال" هنا من القیلولة ولیست من القول. "قال بظلی": أی من القیلولة، وقت الظهیرة، النوم وقت الظهیرة، أو الاستراحة وقت الظهیرة.
وكم مر بی من مدلج ومأوب وقال بظلی من مطی وراكب
فأسمعنی من وعظه كل عبرةٍ یتجرمها عنه لسان التجارب
فسلى بما أبكى وسر بما شجى وكان على لیل الثرى خیر صاحب
قد كان "ابن خفاجة" بارعًا فی تصویر هذا الجبل الأخرس، ومزج مشاعره به، مما جعل الصور التی عرضها له نابضةً حیة، تثیر فینا شتى الخواطر والتأولات، بید أن مجنون لیلى "قیسًا العامری" قد سبق "ابن خفاجة" بالحدیث إلى جبل التوباد، یقول:
وأجهشت للتوباد حین رأیته وكبر للرحمن حین رآنی
فقلت له أین الذین عهدتهم حوالیك فی خصب وطیب زمان
فقال مضوا واستودعونی بلادهم ومن ذا الذی یبقى على الحدثان

ولو قارنا بین ما قال "قیس العامری" وما قال "ابن خفاجة الأندلسی" لوجدنا "ابن خفاجة" فی هذه القصیدة قد استكمل جوانب الصورة العامة للجبل، وافتن فی تشخیصه، وجعله ینفعل بمختلف الأحاسیس والخواطر والأفكار، إلى جانب ما فی تصویر "ابن خفاجة" من تحلیل واستقصاء، وإكثارٍ من الصور الخیالیة، هذا ما تعهده حین تتأمل قول "ابن خفاجة" تجد الصورة العامة للجبل مستكملة الجوانب؛ لقد افتن الرجل فی تشخیص الجبل وتصویره، وجعله كذلك ولذلك ینفعل بمختلف الأحاسیس والخواطر والأفكار، ووجدنا ما فی تصویر "ابن خفاجة" من التحلیل والاستقصاء، وإكثار الرجل من الصور الخیالیة، بینما وجدنا قول "العامری" مجرد خطرة عابرة، لو وقف عندها "ابن خفاجة" ما بلغ هذا النفاذ، وما جاءت قصیدة الجبل عند "ابن خفاجة" نسقًا شعریًّا متكاملًا ذا شعابٍ وأفانین، لقد تألق الأندلسیون فی هذا الروض الإبداعی -وهذا شیء یذكر لهم- حین رأیناهم یمزجون فی شعر الطبیعة بین الطبیعة والحب، ورأوا فی مظاهر الطبیعة صفات من یحبون، واتخذوا من مباهج الطبیعة أداة للتذكر، على غرار ما جاء فی قول "المالقی" فی جاریة تدعى "حسن الورد":
تذكرت بالورد حسن الورد منبته حسنً وطیبًا وعهدًا غیر مضمون
هیفاء لو بعت أیامی لرؤیتها بساعة لم أكن فیها بمغبون
كالبدر ركبه فی الغصن خالقه فما ترى حین تبدو غیر مفتون

"ابن هزی الأندلسی" یقول مصورًا مشاعره الإنسانیة فی حضن الطبیعة، التی حركتها فی نفسه الولهة، فی نغمة موحیة بالانفعال والتفاعل والحیویة:
هبت لنا ریح الصبا فتعانقت فذكرت جیدك فی العناق وجید
وإذا تألف فی أعالیها الندى مالت بأعناق ولطف قدود
وإذا التقت بالریح لم تبصر بها إلا خدودًا تلتقی بخدود
فكأن عذرة بینها تحكی لنا صفة الخلود وحالة المعمود
تیجانها طلٌّ وفی أعناقها منه نظام قلائدٍ وعقود
أما ابن زیدون فهو أهم شاعر وجدانی فی الأندلس
وهو أول من اعتصر فؤاده شعرًا فیه جوًى وحرقة وهوى ولوعة، وتلوح لأولی البصر عبقریته الفذة ونضجه الشعری بعد أن صهرته محنة السجن، وعذاب الصدود والهجر، فكانت تجربته الشعریة عصارة نفس متألمة أو صرخة إنسانیة لهیفة ارتفعت بتجربة الشعر على جناح الطبیعة إلى مستوًى فنیًّ رفیع، وقد عرفنا إن مجال إبداع الأندلسیین فی هذا المجال أنهم مزجوا بین الطبیعة والحب، هذه الصرخة الإنسانیة اللهیفة عند "ابن زیدون" ارتفعت بتجربة الحب على جناح الطبیعة إلى مستوًى فنی رفیع، لم نعهده فی أدب المشرق وقتذاك، فتجربة ابن زیدون تجربة نفسیة وجدانیة متكاملة، تكاد ترى نفس "ابن زیدون" ذائبة فی حواشیها حسرة وشوقًا، على أنه من أروع ما وفق إلیه شاعر الأندلس الملهم براعته الفائقة فی تشخیص مظاهر الطبیعة، وتحولها على یدیه إلى أحیاء ینفعلون ویتحركون على مسرح الفن الشعری، فهی -أی الطبیعة- فی خیاله وحضوره العاطفی المتوهج تنبض بالحیاة، وتفیض بالمشاعر، بل وتشاركه آلامه وآماله فی مشاركة وجدانیة رائعة، وتلاحم عاطفی أكثر روعة ندر فی شعر المشارقة وقلّ فی شعر الأندلسیین، وقصیدته القافیة تؤكد هذا الجانب الإبداعی عند "ابن زیدون" والتی منها:
إنی ذكرتك بالزهراء مشتاق والأُفق طلقٌ ووجه الأرض قد راق
وللنسیم اعتلال فی أصائله كأنه رقّ لی فاعتل إشفاق
والروض عن مائه الفضی مبتسم كما شققت عن اللبات أطواق

إنها رسالة أو صرخة إنسانیة لهیفة، بعث بها على جناح الطبیعة إلى "ولادة بنت المستكفی":
والروض عن مائه الفضی مبتسم كما شققت عن اللبات أطواق
یوم كأیام لذات لنا انصرمت بتنا لها حین نام الدهر سُراق
نلهو بما یستمیل العین من زهر جال الندى فیه حتى مال أعناق
كأن أعینه إذ عاینت أرقی بكت لما بی فجال الدمع رقراق
ورد تألق فی ضاحی منابته فازداد منه الضحى فی العین إشراق
سرى ینافحه نیلوفر عبق وسنان نبه منه الصبح أحداق
كل یهیج لنا ذكرى تشوقنا إلیك لم یعد عنه الصبر أن ضاق
لا سكن الله قلبًا عنّ ذكركم فلم یطر بجناح الشوق خفاق
لو شاء حملی نسیم الصبح حین سرى وافاكم بفتى أضناه ما لاق

لقد كان "ابن زیدون" بهذه الخاصیة الإبداعیة رائدًا إلى الشعر الرومانسی فی القرن الخامس الهجری الحادی عشر المیلادی، والذی عرفته الآداب الأوربیة فی أواخر القرن الثامن عشر المیلادی، فابن زیدون بوصف الطبیعة من خلال نوازعه العاطفیة وأشجان حبه الذاتیة یمثل خطوة رائدة فی أدب الطبیعة عند العرب، ویعد مظهرًا من أبرز مظاهر التجدید فی شعر الطبیعة الأندلسی، بل یمكننا أن نعتبر ابن زیدون مصدرًا عربیًّا عریقًا للأدب العالمی فی الاتجاه نحو الطبیعة، وتوظیفها فی الفن الشعری بعامة والنسیب منه بخاصة، ولا نقول ذلك رجمًا بالغیب، أو تعصبًا لأبناء جلدتنا من العرب، أو حمیةً لأبناء عقیدتنا من المسلمین، بل هو استنتاج ورأی نشفعه بالدلیل، ألیس تمثل الطبیعة والاندماج فیها وتقمصها تقمصًا وجدانیًّا فی الشعر الغنائی، الذی رأینا أنموذجه عند "ابن زیدون" فی القرن الحادی عشر المیلادی هو ما أراده النقد الأدبی الرومانسی فی أوربا بعد ذلك فی القرن التاسع عشر عند حدیثه عن أثر الطبیعة ودورها الفاعل فی الأدب والإبداع الفنی؟
المصادر:
- الطبیعة فی شعر ابن خفاجة
-الطبیعة فی شعر الأندلس(جودت الركابی)
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:11|
الطبیعة فی شعر ابن خفاجة

بسم الله الرحمن الرحیم

المقدمة :

وهب الله الأندلس طبیعة ساحرة ووافرة جمالاً.. جبالها الخضراء وسهولها الجمیلة، وتغرید طیورها على أفنان أشجارها... كل ذلك له أثره فی جمال الأندلس التی شغفت بها القلوب وهامت بها النفوس.
ومن هنا نجد تَعَلُّق الأندلسیین بها، یسرحون النظر فی خمائلها، وأخذ الشعراء والكتاب ینظمون درراً فی وصف ریاضها ومباهج جنانها.
یقول ابن خفاجة :
یا أهل الأندلس لله دركم ماء وظل وأنهار وأشجار
ماجنة الخلد إلا فی دیاركم ولو تخیرت هذا كنت اختار

ولم یكن جمال الطبیعة فی الأندلس هو وحده الذی ساعد على ازدهار شعر الطبیعة هذا، بل أن حیاة المجتمع الأندلسی أثرت أیضاً فی هذا الشعر، الذی یمثل تعلق الشعراء الأندلسیین ببیئتهم وتفضیلها على غیرها من البیئات، ولكون الشعر عندهم یصف طبیعة الأندلس سواء الطبیعیة أو الصناعیة، فهم یصورونها عن طریق الطبیعة كما أبدعها الله فی الحقول والریاض والأنهار والجبال والسماء والنجوم، ویصفونها كما صورها الفن لدیهم فی القصور والمساجد والبرك والأحواض وغیرها .

فابن خفاجة شاعر الطبیعة ومصوّرها، وقد امتلأت نفسه وعینه من جمال الحیاة وجال الطبیعة، فراح یبرز هذا الجمال المعنوی فی صور مختلفة من الجمال اللفظی، فانتقى الأسالیب الصافیة والألوان الزاهیة، ودّبجها بزخرف البدیع، ووشّاها بكثیر من المجاز والتشبیه ... .

فأُطلق علیه لقب شاعر الطبیعة، وذلك لكثرة ما كُتب ضمن قصائده عن الطبیعة وجمالها فی الأندلس، فوُصف ابن خفاجة المدّاح أقل وزناً وشأناً من ابن خفاجة الوصاف والغزّال، ووصفه متعدد الألوان والإیقاعات وغزله رقیق، صادق المشاعر، وخاصة عندما یصف الطبیعة فی ضوء مفاتن المرأة .

ومن هنا فجاء بحثی على فصلین، الفصل الأول قسمتهُ إلى مبحثین، فالمبحث الأول خصصته للحدیث عن وصف الطبیعة فی شعرهِ، أما المبحث الثانی فخصصته للحدیث عن الطبیعة فی شعر ابن خفاجة المدحیّ، أما الفص الثانی والذی قسمته كذلك الأمر إلى مبحثین، الأول خصصته للحدیث عن مظاهر الطبیعة فی شعره، أما المبحث الثانی والأخیر فتناولتُ فیه خصائص شعره عامةً وبالطبیعة خاصةً .

تمهید

تنعم البیئة الأندلسیة بجمال ثر وروعة آسرة، وتصطبغ بظلال وارفة وألوان ساحرة، تتنفس بجو عبق عطر یضاعف من روعته وبهائه ما یتخلل جنباتها من مواطن السحر ومظاهر الفتنة التی تبعث الانبهار والدهشة فی النفوس([1])، وقد انعكس ذلك فی شعر الأندلسیین بشكل عام، حیث ازدحم بصور متنوعة ملونة تمثل البیئة الطبیعیة فی هذه الرقعة المسماة بالأندلس.

ومن هنا تشكلت صورة الأندلس فی الأذهان متقاربة فی أوصافها وألوانها وقسماتها... هذه الصورة على العموم تأخذ عطرها وعبقها وملامحها وألوانها من الطبیعة، فهی أقرب إلى لوحة فنیة ناطقة، إنها بستان زاهٍ أو حدیقة غناء أو واحة خضراء.

وقد شاع هذا الفن لدى الأندلسیین وتوسعوا فیه فأصبح العامل الكیمیائی المساعد كما یقول د. إحسان عباس - یدخل فی تركیب جمیع فنونهم الشعریة الأخرى وفی شتى الأغراض حتى تلك المجالات التی لا تسمح طبیعتها لمثل هذه الصور والألوان الشعریة مثل الرثاء وغیر ذلك.

وقد بلغ ولعهم بالطبیعة والاستعانة بها فی أغراضهم الشعریة حداً یصعب معه على القارئ أن یدری إذا كان الشعراء یتحدثون عن الطبیعة أم كانت الطبیعة تتحدث عنهم لفرط ما تغلغلت فی نفوسهم ولكثرة ما وصفوا من مناظرها([2])".

ودفعهم ولعهم هذا إلى تألیف كتب ورسائل خاصة فی هذا الباب من ذلك مثلاً كتاب "الحدائق" لابن فرج الجیانی (ت366هـ) وكتاب "البدیع فی وصف الربیع" لأبی الولید اسماعیل الحمیری (ت440هـ) وحدیقة الارتیاح فی صفة حقیقة الراح لأبی عامر بن مسلمة وزمان الربیع لأبی بكر الخشنی الجیانی وغیرها.

ولسنا نرید أن نتوسع فی الحدیث عن شعر الطبیعة... ولكن ینبغی أن نحدد مفهوم شعر الطبیعة وحدّه وتعریفه، ثم بعد ذلك نقف عند شعر ابن خفاجة لمعرفة مدى تحقق ذلك المفهوم فی شعرهِ .

یقول الدكتور جودت الركابی إن شعر الطبیعة هو الشعر الذی یمثل الطبیعة وبعض ما اشتملت علیه فی جو طبیعی یزیده جمالاً خیال الشاعر، وتتمثل فیه نفسه المرهفة وحبه لها واستغراقه بمفاتنها([3]).

ویقرر الركابی أن (شعر الطبیعة) تعبیر جدید فی أدبنا جاءنا من الآداب الغربیة... وكان من أهم مظاهر الحركة الإبداعیة الرومانسیة فی أواخر القرن الثامن عشر.. والطبیعة كما یفهمها الرومانسیون صدیقة وفیّة یحبونها لما تمنحه من جمال لحسّهم وهدوء لنفوسهم، فیستسلمون إلیها ویشاطرونها المناجاة ویبوحون إلیها بعواطفهم وآلامهم([4]).

الفصل الأول : الطبیعة فی شعرهِ

ولنعرف إن كان حقاً شاعر طبیعة أم أنه یستعین بالطبیعة فی زیادة الزهو والجمالیة فی نتاجه إن ابن خفاجة بحكم النقاد ومؤرخی الأدب العربی ُیعتبر من شعراء الطبیعة .

فكان یتفاعل مع الطبیعة الأندلسیة ویتأثر بها فیشاطرها همومه وأشجانه ویقاسمها مشاعره التی تفیض حباً وحناناً، فاستعان بصورها وقاموسها وألفاظها فی شتئ أغراضه الشعریة .

إنّ ذلك التفاعل الحاصل بین الشاعر وبین المشهد الطبیعی یزید من حیویة الفن وقدرته على التأثیر؛ لأنه یكون أكثر صدقاً فی الإثارة وفی البناء والصیاغة، فلم یتخذ ابن خفاجة الطبیعة لذاتها مكتفیاً بوصفها ونقل محسوساتها الخارجیة، ولیس ذلك بمعجز له أو صعب علیه، وهو الشاعر القدیر على النظم والصیاغة، ولكنه اتخذ من الطبیعة بجزیئاتها ومظاهرها ومفاتنها عنصراً مكملاً ومتداخلاً مع أشیاء أخرى... فلم یتخذها مسرحاً أو مكاناً للحدث وإنما جعلها جزءاً منه... فأنطقها وطبع علیها صفات إنسانیة ومنحها حواساً بشریة فهی ترى وتسمع وتشم.! وهی تضحك وتبكی وتفرح وتتألم .

إنّ اسقاط الحواس على الطبیعة وبالصیغة التی عرفتها بعض قصائد ابن خفاجة وبالطریقة التی تعامل معها شاعرنا لم تكن معروفة لدى شعراء أندلسیین آخرین... كانوا یتباهون ویتبارون بمقدار نجاحهم فی إیجاد صورة جمیلة لزهرة أو بستان أو نهر أو تشبیه أو استعارة أو غیر ذلك لمظهر من مظاهر الطبیعة التی تحیط بهم وتضم لیالی أنسهم أو مجالس سمرهم .

ولكن ابن خفاجة كان یشترك مع شعراء عصره فی الاستعانة بألفاظ الطبیعة ودیباجتها وجمالها فی أغراضهم الشعریة المختلفة... تتسلل إلى قصائدهم لغة أو صورة أو تشبیها أو كنایة أو استعارة، فكان معجم الطبیعة طاغیاً على الشعر الأندلسی عموماً بُعید القرن الرابع الهجری، فكان الإغراق فی استخدام عناصر الطبیعة ومفرداتها سبباً فی اتصاف الشعر الأندلسی وأهل الأندلس بعشق الطبیعة والهیام بمفاتنها والتعلق بها... ولا نرید أن نسترسل فی هذا الموضوع فنتحدث عن ولع الأندلسیین بالبیئة وألوانها ومناظرها وصورها ولكننا نرید أن نقف عند حالة فریدة وجدیدة كان لها أثر كبیر فی الدراسات اللاحقة، لأنها تشكل تحولاً كبیراً فی الشعر العربی، ألا وهی شعر ابن خفاجة فی الطبیعة .

المبحث الأول : وصف الطبیعة فی شعرهِ

یعد ابن خفاجة أشهر شُعراء الأندلس فی موضوع وصف الطبیعة، ولعل شعره یفیض بالمزایا التی تجعله فی مقدمة شعراء العرب القُدامى فی هذا الفرض فقد أكثر من وصف الطبیعة الأندلسیة، ووصل بین الطبیعة وبین معظم أغراض الشعر الأُخرى، وجعل مفردات الطبیعة على اختلاف أنواعها معجماً لُغویاً وفنیاً یرجع إلیه فی صناعته الشعریة؛ وربط بین الطبیعة وبین رؤیته الخاصة للحیاة بما فیها من عظاتٍ وعِبر([5]) .

فالطبیعة هی المعنى التی تتفجر منه شاعریته وفی أرجائه یطوّف خیاله، إنها كائن حیّ یحبّها وتحبّه، یناجیها وتناجیه، بصحبتها تطیب الساعات، وبأفیائها تخلو رقائق العیش، وربما كانت صرخة ابن خفاجة أصدق تعبیر عن هیام الأندلسیین ببقعة لا یعدلون بها جنّة الخلد كما ذكرنا سابقاً .

ومهما تعددت أغراض الشاعر فی شعرهِ، فإن الطبیعة تظلّ بارزة، فإذا فرح شاركته حبورها، فهو مفرم بأسالیب البیان یستقومها من الطبیعة كموضوع وحی لا ینضب : فالطیور قیان، وشدوها غناء، ورجعها موسیقى، والندى درر، والنور عقد والورق عطاء .

وتأكیداً على ذلك، یقول ابن خفاجة فی وصف الحدیقة([6]) :

وصقـیلة الأنوارِ تلـوی عِطـفَها ریحٌ تلفّ فروعـها معـطار([7])

عاطـى بها الصهباءَ أحوى أحورٌ سَحّابُ أذیال السّـُرى سحّار([8])

والنَّورُ عِقدٌ والغصـونُ سـوالفٌ والجذعُ زَندٌ والخـلیج سوار

بحدیـقة مثـل اللَّمـى ظِلـاَّ بـها وتطـلعت شَنَبا بها الأنـوار([9])

رقص القضیبُ بها وقد شرِبَ الثرى وشـدا الحمامُ وصَفَّق التیار([10])

غَنّاء ألحَـفَ عِطفَـها الوَرَقُ النّدی والتـفّ فی جَنباتها النـوّارُ

فَتطـلّعت فی كل مَـوِقع لحـظةٍ من كل غُصـنٍ صَفحةٌ وعِذارُ

نلاحظ فی الأبیات السابقة بأن فنّ النوریات قد أزدهر بشكل واسع فی بیئة الأندلس ومن أهم العّوامل التی ساعدت على انتشاره : وفرة الأزهار، الرخاء الاجتماعی، شغف الملوك بالنواویر وشروح حیاة اللهو، وقد سحر الشعراء بمفاتن الأنوار فتباهوا فی وصغ ألوانها وأشكالها ولعهم بمباهج الزهر، فإن بقیت صوره مطبوعة على صفحات خیالیه، یتمثل ذلك فی وصف ابن خفاجة حدیقة اللمى .

فی البیت الأول : تبدو النوار فی القصیدة وكأنها امرأة فلها من صفاتها، تحنو هذه الأخیرة بعطفها على الرجل لترویه عطفها وحنانها، وهنا تلوی النوار عطفها على الأرض لتحضنها بین أحضانها فتصبح بذلك كرجل یتنعم بعاطفة محبوبة، لقد شخّص الشاعر النوار بامرأة ؛ لأنها تتمیز بعطرها الأخّاذ فتبدو وكأنها سرقت عطرها من الزهرة البیضاء .

فی البیت الثانی : كما یحاول الشاعر دمج الطبیعة بالإنسان عامّة، بالمرأة خاصةً فی جو عابق بالسعادة والراحة، فرآها تتعاطى الخمر بین أزهار النّوار، وتبدو تلك الجاریة الأخّاذة ذات العینین السوداویین، ترتدی ثوباً طویلاً ملامساً الأرض .

إذاً، فی البیت الثانی یظهر المثلث الذی لا یتفرّق عند شاعرنا والذی یتأسس على موضوع الطبیعة والمرأة والكأس .

فی البیت الثالث : ثم توحّدت نفس الشاعر مع نفس الطبیعة توحّداً ثابتاً، وجعلت من صورها أشخاصاً حیّة، تتمتع بمیزات إنسانیة، وهذا الاندماج الموحّد یظهر بصورة واضحة عندما یربط بین الطبیعة والمرأة، فقد جعل النور عقداً كی تزیّن المرأة عنقها لإبراز جمالها، كما رأى فی الغصون المتفرعة شعر المرأة المتدلی، واستخدم الجزع للزند كمصدر قوّة وأمان، كما أن التفاف الزهر فی الحدیقة یبدو وكأنه سوار، إذاً نستنتج أنّ السوار والزند والسوالف كلها عناصر أساسیة خاصة بالمرأة .

فی البیت الرابع : ویمثل بین المرأة والحدیقة أصدق تمثیل فلو حذفنا كلمة حدیقة لكان البیت یتحدث عن المرأة باللمى والأسنان البیضاء والأنوار والعیون، فالحدیقة لیست زهوراًُ وأنواراً تعصف بها الریاح فبقى على أوراق الأشجار، وتعزف فی جناتها العصافیر، إنما هی امرأة مشتاه یلمّتها وفمها وقدّها وعطفها وزندها فبتنا تشوبنا الحیرة، أنحن فی حضرة امرأة الشاعر أم فی حدیقته .

فی البیت الخامس : كما تبدو الطبیعة وكأنها فی حفل، فنرى القضیب فی حالة سكر وقد بدأ بالرقص بعد شربه الخمر، الذی یرمی فی النفس الفرح والمتعة وفی الفكر نسیان الواقع المزعج، وهنا نسی القضیب واقع الجماد بعد شربه الثرى، ثم یضیف الحمام جوّ الفرح إلى الطبیعة بغنائه الجمیل، وكل حفل ینتهی بالتصفیق، وقد صفقت أوراق الأشجار عربون تهنئة، وفی هذا الحقل أو العرس تتسابق المرأة والطبیعة على إبراز نشوتها، یلاحظ هنا، أن الشاعر قد صوّر لنا واقع حفلاته فی ذلك العصر فكان للاستعارات دلالات حضاریة وكأن الشاعر ضرب عصفورین بحجر واحد، قد أهدى صفات تتعلّق بالروح لمن لا روح له وذلك لإحیاء جمال الطبیعة فی عیوننا وللتأثیر من جهة لیصف لیالی أنسه فی ذلك العصر من خلال الطبیعة، وكأن الحنین یعود بالذكرى إلى أیّام شبابه ومجونه .

فی البیت السادس والسابع : والسكون عاد إلى الطبیعة بعد الحفل، فقد حان وقت الاستراحة أو النوم، لذا استعارت الحدیقة الورق الندی غطاءً لها والتحفت به، والتفّت فی كل جنباتها الأزهار البیضاء، التی تحضر عند انتهاء كل حفل لتكوّن عربون فرح وتكریم، وأصبحت الطبیعة وكأنها جنّة فی كل موقع منها ذكریات لا تنسى ورؤیا مبدعة، إذاً نلاحظ فی البیتین الأخریین الوصف لما تبقّى من عدّة الطبیعة ( الورق، الندى، النوار، وكیف التفّ فی جنباتها ) حتى بتنا نشهد كأنها ذكرت فی القرآن الكریم، حین تحدّث عن جنّة عدن .

ونخلص مما سبق بأن معظم الصور مستمدّة من واقع البیئة، وبخاصّة صورة القضیب الذی یرقص بعد شربه الثرى أو صورة الجاریة التی تحمل الخمر، مما شاع فی ذلك العصر تأثیر شرب الخمر فی لیالی الأنس .

ونلاحظ أنّ الشاعر مزج حالته النفسیة بالمظاهر الطبیعیة، أی عكس نفسه على الطبیعة كما زیّنها بالتشخیص الممیّز، لقد تخیّل الحیاة فی ما لا حیاة فیه ومزج الجماد أو المظاهر الطبیعیة صفات إنسانیة من خلال التشبیه ( النور عقد، والغصون سوالف، الجزع زند، والخلیج سوار ) والاستعارات ( رقص القضیب، شرب الندى، صفق التیار ) والكنایة ( سحّاب أذیال الصبی ) والجناس العرفی ( أحوى، أحور ) .

هذه القصیدة وإن كانت بظاهرها موضوعاً بسیطاً، غیر أنها بباطنّیتها قصیدة تتحدّث عن جمال الطبیعة الأندلسیّة، ورقتها، وانعكاسها على المشاعر، وكأن الشاعر ألبسها حلّته النفسیّة فأتت مشخّة هادفة .

ویقول ابن خفاجة :

یا بانـة، تهتز فینـانةً وروضة، تنفخ، معـطاراً

لله أعطافك من خـوطةٍ وحبّــذا نـورك نـوّار

نلاحظ فی هذین البیتین، أن شغف ابن خفاجة بذكر الجنان والریاض جعله یحمل لقب الجنّان، فإذا وصف المرأة نابت نضارة الطبیعة عنها رامزة إلیها، فشبّه أعطاف المرأة بالغصن وسرق نورها من النوار، وعطرها من عطر الأزهار البیضاء .

ویعد معظم شعراء الأندلس من شعراء الطبیعة، فكل منهم أدلى بدلوه فی هذا المجال إما متغنیاً بجمال طبیعة الأندلس أو واصفاً لمجالس الأنس والطرب المنعقدة فیها، أو واصفاً القصور والحدائق التی شُیدت بین أحضان الطبیعة، ولذلك كان كل شعراء الأندلس ممن وصفوا الطبیعة، ویُعدُّ الشاعر ابن خفاجة الأندلسی المقدَّم بین هؤلاء الشعراء إذ وقف نفسه وشعره على التغنی بالطبیعة لا یتجاوزها وجعل أغراض شعره الأخرى تدور حولها .

وفی شعر الطبیعة عند ابن خفاجة اتّصالٌ بین تلك الموصوفات وبین نفس الشاعر، وعاطفته، وتمازجٌ بین كثیر منها وبین رؤیته فی الكون، وموقفه من الحیاة .

فالشاعر یتعاطف مع ما یصف، وكثیراً ما ینقل إلى القارئ أحاسیسه بجزئیاتها ووقائعها، ویجعل بعض معطیات الطبیعة سبیلاً إلى مشاركة وجدانه، وتصوّر ذاته ومن ذلك قصیدته التی اشتهرت بعنوان وصف الجبل، وقصیدته فی صفة القمر([11])، فقد قال فی قصیدته الأولى :

أَصَختُ إلیه وهو أخرسُ صامتٌ فحدّثنی لیلَ السّـُرى بالعجائبِ

وقال ألا كم كنـتُ ملجأ فاتـكِ ومـوطنَ أواهٍ تبـتّل تائــب

وكم مرّ بی من مولـجٍ ومُؤَدِّبٍ وقالَ بظلّی من مطیٍّ وراكبِ ...

ویقول فی الثانیة :

لقد أصختُ إلى نجواك من قمرِ وبتّ أُدلُج بـین الوعـی والنّظرِ

لا أَجتلی لُمحَاً حتى أعی مُلحاً عدلاً من الحكم بین السمع والبّصرِ

فقد وَجد الشاعر فی الجبل إنساناً ذا تجارب یتحدّث بما جرى له، وكان معه من أَحداث الزمان، فهذه القصیدة تمنحنا نفحة جدیدة للشعر الأندلسی هی هذه المشاركة فی العواطف التی یشعر بها المتأمل لسحر الطبیعة وما یعتریه من رهبة أو طرب وإعجاب .
ففی هذه القصیدة قد استطاع ابن خفاجة أن یناجی الطبیعة على نسق جدید لم یعهده الشعر العربی القدیم، فأشرك النفس الإنسانیة بسر الطبیعة ودرك ما یسمى عن الفرنجة بحس الطبیعة([12]) .

ووَجد فی القمر عِبَراً كثیرةً إن لم ینطق بها بلسان المقال فقد عرضها على الواعین من الناس بلسان الحال .

إذاً فقد وصف الشاعر الطبیعة بجمیع مظاهرها ومباهجها فوصف الطبیعة الصامتة بریاضها وأشجارها وأزهارها وأنهارها وجبالها ومفاوزها وسمائها ونجومها وما یتصل بذلك كله من نسیم وریاح وأمطار، وكان الشعور الغالب على هذا الوصف المرح والبشر إلا ما كان من أمر وصفه للجبل إذ ساده التأمل والنظرة الحزینة([13]).

كما أنه وصف الطبیعة أیضاً الحیة كالفرس والذئب وبعض الطیور، وهكذا فقد كانت الطبیعة عند ابن خفاجة مستولیة على حواسه، ولم یستطع أن ینساها حتى فی أغراضه الأخرى .

فتوثقت الصلة بینه وبینها فأخذ یشعر بالبشر یحیط به عندما یحل فی مغانیها وإذا بها ذات جمال ودلال وبهاء، فلنسمعه یصفها وقد اختالت زینة وبهجة وبدت تشارك الغادة الفاتنة فی جمالها .

ویقول فی ذلك([14]) :

وكِمـامةِ حَـدَر الصـباحُ قناعَها عن صفحةٍ تَندَى من الأزهارِ

فی أبطحٍ رَضعَت ثـغورُ أقـاحه أخـلافَ كلِّ غمـامة مِدرار

نَثَرت بحِجر الأرض قیه یدُ الصَّبا دُرَرَ النَّدى ودراهـمَ النّـوَّار

وقد ارتدى غصـنُ النقا وتقـلَّدَت حَلی الحَبـاب سوالفُ الأنهار

فالشاعر ینظر إلى الطبیعة نظرة محب والأبیات السابقة تمثل نفسیته المحبة التی یتوزعها جمال الطبیعة وجمال الإنسان .

المبحث الثانی : الطبیعة فی شعر ابن خفاجة المدحیّ

یُعتبر ابن خفاجة شاعرُ الطبیعة بامتیاز حتى فی شعرهِ المدحی، فهو استعان بعناصر الطبیعة لمدح ممدوحه وذلك خلافاً للتقلید المعروف، فجاءت أبیات قصائده مزیجاً من البناء على الممدوح والثناء، ففی قصیدة ( فصل الربیع ورنّة المُكاء ) التی مدح فیها قاضی القضاة، شبهه بالطبیعة الضاحكة فجعله كالنسیم([15]) :

یا نَشرَ عَرفِ الرَّوضةِ الغنّاءِ ونسـیمِ ظِلِّ السّـَرحَةِ العیـناءِ([16])

ثم ذهب تعظیمه إلى جعله نبع المجد بحیث إن المجد یأخذ مجده منه وواصل على تمجیده وتعظیمه حتى أوصله إلى أقصى درجات الرفعة فلامس السماء والنجوم والكواكب :

فی حَیثُ جرّ المجدُ فَصلَ إذادِهِ ومشى الهُوینا مِشیةَ الخُیلاءِ

لو شِئتُ طُلتُ بهِ الثُـریّا قاعداً ونَثَرتُ عِقدَ كواكِبِ الجَوزاءِِ

وله قصیدة بعنوان ( سیف الملك ) یقارن فیها الشاعر بین الطبیعة الضاحكة ومخلوقاتها وبین الممدوح :

ولا الرّوض غِبَّ القطَر فضّضه النّدى ورجّـَعَ فیه طائـرٌ فتـكلَّما

بأطیـبَ أفیـاءً وأنضـرَ صفــحةً وأعطرَ أخلاقاً وأحلى ترنُّما([17])

وله قصیدة أخرى بعنوان ( الملك الحسیب ) التی مدح فیه أبا إسحاق ابن أمیر المسلمین فجعل فیها الصباح یضحك عند رؤیته وكذلك یلحمه كالضـوء الذی یقوده :

لقد ضَحـِكَ الصّباحُ بمُجتلاهُ وراءَ اللیلِ عن ثَـغرٍ شنیبِ

إذاً، نرى أن ابن خفاجة لم یتخیلَّ فی أیّة قصیدة من قصائده عن ذكر الطبیعة وعناصرها، فهو یستمد ألفاظه منها ویعطیها للممدوح كالشمس والقمر والنجوم والكواكب والریاح والمطر والغیم والنسیم والمراعی ..... والشواهد الشعریة كثیرة على ذلك، فهو لم یذكر صفة مدحیة إلا وكانت متعلقة أو مشبهة بالطبیعة كأنه یدور فی حلقة مغلقة .

فصبغ ابن خفاجة قصائده بلونه الخاص النابع من الطبیعة الأندلسیة، فهو متصل بالطبیعة وهی التی كانت تنظم القصیدة فی خیال الشاعر صوراً فینقلها كتابة الألفاظ والتعابیر والكلمات بشرط الحفاظ على المستوى نفسه بین الصور والتعبیر، فمن هنا یخلق الإبداع عند ابن خفاجة .

أتت الألفاظ فی قصائده المدحیة بلیغة التأثیر، شدیدة التصویر، وتمیّزت اللغة بالرقة محاطة بالاستعارات والصور لتعزیز فإذا بابن خفاجة یلقّب ( بصنوبریّ الأندلس ) .

الفصل الثانی : الغزل والطبیعة

المبحث الأول : مظاهر الطبیعة فی شعرهِ

تشغل الطبیعة شعر ابن خفاجة بجمیع ما تعرض له من تهاویل حسنها ونضارتها، وزینتها وحلاها، وأصباغها وألوانها([18]) .

أ ـ الماء :

أبرز ما أخذ من عناصر الطبیعة فی غزله كان الماء، فشعر ابن خفاجة على الإجمال كثیر الماویة رطب، فیصف الحبیبة، متغزلاً بها وبجمالها فیقول :

فكرعتُ مـن ماءِ الصباحِ غلالةً تندى ومن شـفق السماء نقابُ

فی حدیث للـریح الرخاء تنفسٌ أرجٌ وللمـاء الفـرات عبـابُ

ولربّ غضّ الجسم مدّ بخوضهِ شبحاً كما شـقّ السماءَ شهابُ

وإذا وصف لوعته وشوقه للحبیب كان للماء دوراً مهماً فی إیضاح الصورة وتجسیدها، فیقول فی قصیدة یصف فیها نفسه، قبل قدوم الحبیب إلیه وقد انهمرت دموعه شوقاً :

إزددتُ من لوعتـی حبالاً فحـثّ من غلّتی شرابا

وبیـن جفنی بحـرُ شوقٍ یعـبّ فی وجنتی عبابا

ویقول :

فكاد یشــرب نفـسی وكـدتُ أشـرب خـدّه([19])

فالماء هنا هی الذات الغایة والشرب كنایة عن امتلاك هذه الغایة بإشباع اللّذة والتمتع بالحبّ، فالماء هنا تطفئ النار المتأججة فی القلوب لتصبح هی ماء الحیاة هی الحبیب بذاته :

ألـم یسقّیـنی سـلافة ریـقه وطـوراً یُحیّینی بآسِ عِذارِ

فنلت مـرتد النفس من اقحوانةٍ شـممتُ علیها نغمةً لعـرارِ

والطبیعة تشارك ابن خفاجة فی حزنه وفرحه، فتؤخذ الطبیعة بكافة عناصرها مع الموصوف لتصبح الحبیبة هی الطبیعة جمالاً وحسناً وأنوثةً، فیقول :

وسال قطر الدمع فی خدِّهِ فرف روض السنِ ممطورا

ویقول :

حیث الحبابـة ودمــعةٌ تجری بوجنةِ كاس خمرك([20])

وتهزُّ منـكِ فَتَنَتـــنی بقضـیب قدِّك ریحُ سكرِك

وتعبّ من رجراجِ ردِفك موجـةٌ فی شـطّ خصرِك

ب ـ الخضرة والأزاهیر :

ومن یتصفّح دیوان ابن خفاجة تفوح منه رائحة الأزاهیر ویغرق فی غمرة الألوان ویطیر فی فضاء من الخضرة والأشجار والروض والغدیر، فالنرجس، والأقحوان، والطیب وغیرها عطّرت جوّ الغزل والوصف أیضاً، فیقول :

غازلنا جفنٌ هناك كنرجسٍ ومبتـسمٌ للأقحوان شــنیبُ

وإذا وصف المرأة كأنه یصف الطبیعة :

فتـق الشـبابُ بوجنـتیها وردةً فی فـرعِ أسلحةٍ تمید شبابا

وضحت سوالف جیدها سوسانةً وتـورّدت أطـرافها عنّـابا

وأفضل ما قاله فی الطبیعة :

وجنیتُ روضاً فی قناعك أزهرا وقضیب بانٍ فی وشاحك أثمرا

ثم انثنیتُ وقد لبستُ مصــندلاً وطویتُ من خلع الظلام معنبرا

والصبح محطوط النقاب قد احتبى فـی شـملةٍ ورسـیةٍ فتـأزّرا([21])

ج ـ الریح :

یقول فی قصیدةٍ یكاد المزج أن یكون تاماً بین وصف الطبیعة ووصف الحبیب، وتتداخل هنا المحسوس مع المعنوی فی خدمة الوصف والتعبیر الوجدانی، فیقول فی ذلك :

ولهـوتُ فیـه بــدُرَّةٍ مكنـونةٍ فی حُقّ خِدرك

تنـدى شقـائقُ وجنتیكِ به وتـنفحُ ریحُ نـشرك

وقـد استـدار بصفحتی سوسانِ جیـدكِ طلُّ دُرّك

حیـثُ الحَـبابةُ دمـعةٌ تجری بوجنةِ كأس خمرك

وتهـزّ منـكَ فتنــثنی بقضیبِ قدِّك ریحُ سُكـرك

هذه الریح غالباً ما تحملُ عاطفة صادقة ممزوجة بالدموع واللوم والأسى والعتاب ومحفوفة بألوان الطبیعة وأزاهیرها، ومهما فصلت المسافات بین الأحباء، فإن الهواء لدیه قدرة یتفرّد بها .

یجمع شمل أنفاس الأحبة فلم تعد البحور عائقاً ولا الجبال سدّاً ولا الیابسة حاجزاً على النسیم العشقی الذی یصل من حیث لا ندری محملاً رائحة الحبیب، یدخل خلسة عن الآخرین لعبق فی أنفاس تنتظر وترقب مجیئه([22]) .

د ـ اللیل والصبح :

بعیداً عن عیون المبغضین والحاسدین والكاشحین والأعداء فالغزل الخفاجی مسرحه اللیل حیث اللهو والخمر المجون، وإن كان هذا لیس موضوع بحثنا ولكن نطرقه من باب ذكره للطبیعة فی كل غرض([23]) .

وكما ذكرنا سابقاً بأن ابن خفاجة له مثلثه الخاص وهو : الطبیعة ، الخمرة ، المرأة، فیقول فی ذلك :

نادمـتها لیلاً وقد طلـعت به شمساً وقد رقّ الشراب سرابا

وترنّمت حتى سمـعت حمامةً حتى إذا خـسرت زجرت غرابا

والحبیب من ظلمة اللیل كنور الشمس ساطع :

یقـرأ واللـــیل مدلـهمّ لنـور إجـلائه كتــابا([24])

وربّ لیـلةٍ سهـرتُ فیـه أزجـرُ من جنحهِ نِـكابا

حتـى إذا اللیل مال سـكراً وشـقّ سـرباله وجـابا

وحام من سُـدفه عــرابُ طالـت بهِ سنّه فشــابا

واللیل زینته عینا الحبیبة وخدّاها فهو كالثغر فی وجه اللیل، ویصف ابن خفاجة غلاماً قام یقدم له الخمر فی الدجى وقد بهر بجماله :

واللـیلُ ستـرٌ دوننا مرسلٌ قد طـرّزنهُ أنجمٌ حمرُ[25]

أبكی ویشجینی ففی وجنـتی مـاءٌ وجـنته جــمرُ

وبات یسقیـنی تحت الدجى مشـمولةً یمزُجُها القطرُ

واتسـمت عن وجـهة لیلةٌ كأنـه فی وجـهها ثـغرُ

فصورة اللیل تتكرر فی معظم قصائده الغزلیة ونكاد جمیعها تتشابه وتقترن بصورة الصباح فلا نفرّق بین الأسود والأبیض إلا حسیاً والنور والظلمة وذلك ن ابن خفاجة كان فی غزله وصفیاً بعیداً عن الخیال الجامح قریباً من الفطره مّیالاً إلى المحسوس المعاش والمألوف .

هـ ـ القمر :

قال، وقد طلع علیه القمر فی بعض لیالی أسفاره، فجَعَل یُطرِقُ فی معنى كُسوفِهِ وإقمارهِ، وعِلَّةِ إهلالِهِ تارّةً وسِرارهِ، ولزومه لمركزه مع انتقامه فی مَدارِهِ، مُعتَبِراً بحَسبِ فَهمِهِ واستطاعته، ومُعتقداً أنَّ ذلكَ معدودٌ فی عبادة الله وطاعته، لقـوله تعالى : ﴿ إنَّ فی خَلقِ السَّمواتِ والأرضِ وَاختلافِ اللّیلِ والنَّهارِ لآیاتٍ لأُولی الألبابِ ﴾ [ آل عمران 3/190 ] .

فیقول([26]) :

لَقَد أصَـختُ إلى نجواكَ مِن قَـمَرِ وَبتُّ أُدلجُ بَینَ الوَعـیِ والنَّـظَرِ([27])

لا أجتَلِی لُمَـحاً حَتَّى أعِی مُلـَحاً عَدلاً مِنَ الحُكمِ بَینَ السَّمعِ والبَصَرِ([28])

وَقد مَلأتَ سَوادَ العینِ مِن وَضحٍ فَقَرِّطِ السَّمعَ قُرطَ الأُنسِ مِن سَمَرِ([29])

فَلَو جَمَعتَ إلى حُسنِ مُــحاوَرَةً حُزتَ الجَمالینِ مِن خُبرٍ وَمِن خَبَرِ

وإن صَمَتَّ فَفی مَرآك لی عِـظةٌ قَد أفصَحت لِیَ عَنها ألسُـنُ العِبَرِ

تَمُـرُّ مِن ناقِصٍ حَوراً ومُكـتملِ كَوراً وَمِن مُرتقٍ طَـوراً ومُنحَدِرِ([30])

والنَّاسُ مِن مُعرضٍ یَلهَى ومُلتِفتٍ یَرعَـى ومِن ذاهِلِ یَنسـَى وَمُدَّكِرِ

تَلهُو بسـاحاتِ أقـوامٍ تُـحدِّثُنا وَقد مَضَوا فَقَضـَوا أنَّا عَلى الأثـرِ

فَإن بَكَیتُ وَقَد یَبكی الجَلیدُ فَـعَن شَـجوٍ یُفَجِّرُ عَینَ الماءِ فی الحَجـَرِ([31])

فعناصر الطبیعة لا تنتهی فی شعر ابن خفاجة، فهناك الطیور والبرق والجو والشمس والبدر وغیرها، وقد كثرت فی الأندلس الریاض والبساتین وصدحت فی جنباتها الطیور وتوزعت فی أنحائها الجداول، وباتت حواضر الأندلس تؤلف عقداً من الحدائق وهذا ما أوجد لدى شعراء الوصف میلاً إلى وصف الأزهار فتركوا قصائد تدخل فی باب شعر النوریات وبلغ ولعهم بمباهج الزهر إن بقیت صوره مطبوعة على صفحات خیالهم([32]) .

و ـ السماء :

نلاحظ فی هذا المظهر الطبیعی الوصف الوجدانی كما تظهر النزعة النفسیة نتیجةً لذلك، إذ یفیض الشاعر على الأشیاء، حتى تطالعنا بأحداق وملامح إنسانیة تضحك وتبكی تطرب وتشقى، تعانی وطأة الوجود وتغتبط به، فكأنها إنسان متكامل سویَ، أو كأن الشاعر یصف ذاته من خلال الأشیاء .

ومن هنا قول ابن خفاجة واصفاً حسد السماء([33]) :

ألا یا حـبذا ضحك الحمیّا بحانـتها وقد عبس المـساء([34])

وأدهم من جیـاد الماء مهر تنـازع جـلّه ریـح رخـاء([35])

إذا بدت الكواكب فیه غرقى رأیت الأرض تحسدها السماء

نظر الشاعر إلى السماء فتأثر برؤیتها وانثنى لوصفها، فهو لم یعبّر خلاله عما رآه وحسب بل عبّر مما رآه إلى ما شعر به، ولعلّ الوجدانیة، خلال تلك الأبیات، تظهر منذ البیت الأول حیث تراءت الخمرة كأنّها تضحك أمام عبس السماء، فالضحك والعبس هما من ذات الشاعر، والحسد اندمج فی نفس السماء التی تحسد الأرض .

وتشغل ید الطبیعة شعر ابن خفاجة بجمیع ما تعرض له من حسن نضارة وزینة وحلی وأصباغ وألوان وعاطفة حتى بدت لغته تمتاز بالنعومة والانسجام، یحلّی معانیه استعاجات وتشابیه وضروب جمیلة أحیاناً غموض الرمز وغلالة الإیحاء، فیبدو علیها اجتلاب التكلف .

المبحث الثانی : خصائص شعره فی وصف الطبیعة .

1 ـ جعل وصف الطبیعة، حركة أدبیة شاملة، لا غرضاً مستقلاً وحسب .

2 ـ تفنن فی الموضوعات وتنوّع : البیئة المترفة، القصور والبرك، الفن والبحر .

3 ـ مزج قوی بین جمال المرأة وجمال الطبیعة « إنه إذا تغزل فصاغ من الورود خدوداً ومن النرجس عیوناً » .

4 ـ انصراف إلى تصویر الجانب الضاحك من الطبیعة .

5 ـ اهتمام بالأوصاف الحسیّة والمظاهر الخارجیّة، على العنایة بالجزئیات كالزهرة والنسمة .

6 ـ تجاوب نفسی ومشاركة عند الكثیرین وتشخیص .

7 ـ لقلة الغوص على الفكرة، واعتناء بلطف الإخراج على غزارة فی الصور والألوان .

8 ـ تعلّق الشاعر الأندلسی ببیئته الطبیعیة وهیامه بها هیاماً مبالغاً بلغ حدّ الحلولیّة، إذ إن الطبیعة شكّلت حضوراً فی معظم إبداعاته الفنیّة حتى تشظّى معجمها فی مختلف الأغراض من غزل ومدح ورثاء ووصف، وبلغ هذا التمازح بین الشاعر والطبیعة مرتبة التشخیص والأنسنة .

9 ـ كانت المرأة صورة من محاسن الطبیعة، والطبیعة تجد فی المرأة ظلها وجمالها، ولذا كانت الحبیبة عند ابن خفاجة روضاً وجنةً وشمساً، وهكذا كانت العلاقة شدیدة بین جمال المرأة وبین الطبیعة فلا تُذكر المرأة إلا وتُذكر الطبیعة .

10 ـ شعره كما ذكرنا سابقاً أنه كان یُعنى بتشخیص الطبیعة وتصویرها على نحوٍ إِنسانی تملؤه الحركة والنشاط .

11 ـ الطبیعة عن ابن خفاجة ضاحكة طروب، هی مسرح للهو ومقصف للشراب، ولذا فقد هتف ابن خفاجة بالخمر فی جو الطبیعة كما بینا ذلك فی متن البحث .

12 ـ یمثل ابن خفاجة نهضة شعر الطبیعة فی الأندلس، وقد استطاع أن یصور طبیعتها الجمیلة والحیاة اللاهیة فی أحضانها، وكان فی وصفهِ مصوِّراً بارعاً یعتمد على دقة ملاحظته إلى جانب قوة خیاله .

13 ـ الامتزاج الكلی بها، وهذا ظهر فی بعض قصائده ولا سیما قصیدته فی وصف الجبل، والتی أشرتُ إلیها فی ثنایا البحث .

المصادر والمراجع

الخاتمة

خاتمةً لا بد لنا من التذكیر أن الأندلس، فی إطار ما عرفت من ضروب شعریة وغنائیة فنیة وأدبیّة، كانت مقتبسة أو مستوحاة بمجملها عن الواقع الذی عاشه العربی فی الشرق قبل فتح الأندلس، الأرض الخضراء، التی طّورت فی شعره كل ما وجدت قابلاً للحیاة، بتأثیر نضرة أراضیها، وخصوبة ریاضها، وفسیح جناتها، وأنطبع غناها فی نفس العربی حباً للعیش، والعبث، واللهو، والمجون، والتبذیر، ومجالس اللهو والغناء .

إن العربی الذی لم یكن یعرف من الصحراء سوى النیاق والقیظ، والذی وجد فی طبیعة الأندلس الساحرة ملاذاً یهرب إلیه من وهج حیاته القدیمة، وهكذا شاعرنا ابن خفاجة الذی جعل الطبیعة معلماً من معالم الشعر .

وأنا ، فی بحثی هذا ، أَشهدُ أنّنی لم أَدّخر وُسعًا فی إعطاء المعلومة الصحیحة ، وبذل الجهودِ المضینه للوصول إلى الحقیقة ، غیر حاسبٍ لصحَّتی ووقتی حسابًا ومُردّدًا قول ابن الأثیر فی المثَل السّائر " لیس الفاضِلُ مَن لا یَغلطُ ، بل الفاضِلُ من یُعَدُّ غَلَطه " .

وبهذا ....

أتمنى أن أكون قد وفقت فی تقدیم بحثی هذا ، وإن كنت قصّرت عن ذلك، فلأن النقص من طبائع البشر .





1 ـ الطبیعة فی الشعر الأندلسی ، د.جودت الركابی ، مطبعة الشرقی بدمشق ، ط2 1970م .

2 ـ الإنسان والطبیعة فی شعریة ابن خفاجة والرومانسیین الفرنسیین ، د. زهر العنانی ، دار المتنبی للنشر والتوزیع ، الأردن ، ط1 2002م .

3 ـ دفاتر أندلسیة فی الشعر والنثر والنقد والحضارة والأعلام ، د. یوسف عید ، المؤسسة الحدیثة للكتاب ، طرابلس ، ط1 2006م .

4 ـ ابن خفاجة ، د. محمد رضوان الدایة ، دار قتیبة ، ط1 1972 .

5 ـ دیوان ابن خفاجة ، شرح وتحقیق : یوسف شكری فرحات ، دار الجیل ، بیروت .

6 ـ موسوعة الحضارة العربیة العصر الأندلس ، د. یوسف عید ، ط1، ج6 .

7 ـ معجم الحضارة الأندلسیة ، د. یوسف عید و د. یوسف فرحات ، دار الفكر العربی ، بیروت .

8 ـ الشعر الأندلسی فی عصر الموحدین ، د. فوزی سعد عیسى ، دار المعرفة الجامعیة ، الاسكندریة ، 1996م .

9 ـ ملامح الشعر الأندلسی ، د. عمر الدقاق ، دار الشرق العربی ، بیروت .

10 ـ فی الأدب الأندلسی ، د. محمد رضوان الدایة ، دار الفكر ، بیروت ، 2000م

(1) :ـ د. محمد مجید السعید، الشعر فی عهد المرابطین والموحدین، ط2، بیروت الدار العربیة للموسوعات، 1985 ص 116.

(2) :ـ د. سعد إسماعیل شلبی، البیئة الأندلسیة وأثرها فی الشعر، عصر ملوك الطوائف، دار نهضة مصر، القاهرة، 1978 ص100.

(1) :ـ د.جودت الركابی، فی الأدب الأندلسی ، ط2 دار المعارف بمصر 1960، ص126.

(2) :ـ المصدر السابق ، ص124.

(1) :ـ د. محمد رضوان الدایة ، فی الأدب الأندلسی، ط1 دار الفكر المعاصر بلبنان 2000م ، ص121 .

(1) :ـ د. یوسف عید ، دفاتر أندلسیة فی الشعر والنثر والنقد والحضارة والأعلام ، المؤسسة الحدیثة للكتاب بالبنان 2006 ، ص844 ـ 846.

(2) :ـ عطفها : العمود الفقری .

(3) :ـ عاطى بها : یشرب ، أحوى : البیاض فی العین .

(4) :ـ اللمى : قلب الشفة ، شنب : الأسنان البیضاء .

(5) :ـ التیار : الهواء .

(1) :ـ انظر القصیدتین فی ترجمة ابن خفاجة فی كتاب فی الأدب الأندلس ، د. محمد الدایة ، ص 337 _ 339 .

(2) :ـ د. جودت الركابی ، الطبیعة فی الشعر الأندلسی ، ط2 مكتبة أطلس بدمشق 1970م ، ص 53 .

(2) :ـ د . جودت الركابی ، الطبیعة فی الشعر الأندلسی ، ط2 مكتبة أطلس بدمشق 1970م ، ص 50 _ 52 ، وأنظر أیضاً :

د. زهر العنانی ، الإنسان والطبیعة فی شعریة ابن خفاجة والرومانسیین الفرنسیین ، دار الكتاب للنشر والتوزیع ، 2002م .

(1) :ـ المصدر السابق ، ص 51 .

( 2) :ـ دیوان ابن خفاجة ، تحقیق د. یوسف شكری فرحات، دار الجیل، بیروت، وتحقیق د. سید غازی، ط2، منشأة المعارف، الاسكندریة، مطبعة دار صادر بیروت ، ص 158 ، وأنظر أیضاً : د. یوسف عید ، دفاتر أندلسیة فی الشعر والنثر ..... .

(3) :ـ العیناء : الخضراء .

(1) :ـ المصدر السابق ، ص 283 .

(1) :ـ د. یوسف عید ، دفاتر أندلسیة فی الشعر والنثر والنقد والحضارة والأعلام ، ص 671 .

(2) :ـ ابن خفاجة ، الدیوان ، تحقیق : یوسف فرحات ، ص 348 .

(1) :ـ المصدر السابق ، ص 360 .

(2) :ـ المصدر السابق ، ص 362 .

(1) :ـ المصدر السابق ، ص 358 .

(2) :ـ د. یوسف عید ، دفاتر أندلسیة ، ص 676 .

(1) :ـ المصدر السابق ، ص 341 .

(2) :ـ المصدر السابق ، ص 353 .

(1) :ـ ابن خفاجة ، الدیوان ، ص 281 .

(2) :ـ أصختُ : استمعتُ ، أُدلِجُ : أُسیرُ مِن أوَّل اللیل .

(3) :ـ أجتلی : أنظر .

(4) :ـ الوَضَحُ : بَیاضُ الضَّوءِ .

(5) :ـ الحورُ : النَّقص ، الكور : الزِّیادة .

(6) :ـ الجلید : الصَّبور على المكروه، والقویّ : الشّجوُ : الهَمُّ والحَزَنُ .

(7) :ـ د. یوسف عید، موسوعة الحضارة العربیة، العصر الأندلسی، ج6 ، ص 1028 .

(1) :ـ د. یوسف عید ، دفاتر أندلسیة ..... ، ص 837 .

(2) :ـ الحمیّا : الخمرة ؛ ضحك الحمیَا : كنایة عن لمعانها .

(3) :ـ أدهم : لیل شدید الظلمة ، مهر : ناشط بالمطر ، ریح رخاء : ریح لینة غیر عاصفة .

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:10|

 اهتم العرب بلغتهم كثيراً وتحدثوا عن لغة الكتاب والشعراء، فقال ابن رشيق:(وللشعراء الفاظ معروفة وامثلة مألوفة لا ينبغي للشاعر ان يعدوها ولا ان يستعمل غيرها، كما ان الكتاب اصطلحوا على الفاظ بأعيانها سمّوها الكتابية لا يتجاوزونها الى سواها الا ان يريد شاعر ان يتظرف باستعمال لفظ اعجمي فيستعمله في الندرة وعلى سبيل الخطرة) ونبهوا الى ما يكرر الاديب او المتحدث من الفاظ، فقال الجاحظ: (ولكل قوم الفاظ حظيت عندهم وكذلك كل بليغ في الارض وصاحب كلام منثور،

 وكل شاعر في الارض وصاحب كلام موزون فلابد من ان يكون قد لهج وألّف الفاظاً بعينها ليديرها في كلامه وان كان واسع العلم، غزير المعاني، كثير اللفظ)، وعقدوا فصولاً للالفاظ وكان مقدراً لتلك البحوث ان تبقى مزدهرة لولا ما أصاب اللغة العربية من جمود في العهود المتأخرة فانحصر البحث اللغوي في المعاجم او في المقدمات التي كانت تعرض للفصاحة في كتب البلاغة المتأخرة. واولى العلماء في مطلع القرن العشرين النقد اللغوي اهمية كبيرة ولكن النقد حينما تأثر بالفكر الغربي واخذت التيارت الاجنبية تصطرع اصبح ذلك النقد في الظل وصار النقاد لا يعرضون لأحكامه الا في بعض الاحيان ولا يلتمسونه الا حينما يتحدثون عن الفصاحة وشروط اللفظة المفردة، وهو ما وقف عليه البلاغيون جهودهم في القديم، وليس ذلك بصحيح، لأن النقد اللغوي من اهم ما ينبغي الالتفات اليه، واثار ذلك العزوف الباحثين وتحدثوا عنه وذكروا اهمال المعاصرين له، وكانت الشاعرة نازك الملائكة من اكثرهم حماسة للعناية باللغة، وكتبت بحثاً عن (الناقد العربي والمسؤولية اللغوية) قالت في مطلعه (تتجلى لمن يراقب النقد العربي المعاصر ظاهرة خطيرة شائعة فيه، ملخصها ان النقاد يتغاضون تغاضياً تاماً عن الاخطاء اللغوية والنحوية والاملائية، فلا يشيرون اليها ولا يحتجون عليها وكأنهم بذلك يفترضون ان من حق اي انسان ان يمزق القواعد الراسخة وان يصوغ الكلمات على غير القياس الوارد وان يبتدع انماطاً من التعابير الركيكة التي تخدش السمع المرهف، وكأن من واجب الناقد ان يوافق على ذلك كله موافقة تامة فلا يشير الى الاخطاء ولا يحاول حتى ان يعطي تلك الاخطاء تخريجاً او مسامحة، ولقد اصبح هذا التغافل هو القانون النافذ في كل نقد تنشره الصحف الادبية حتى لقد يتصدى الناقد الى نقد ديوان شعر مشحون بالاغلاط المخجلة، فلا يزيد على ان يكيل كلمات الاعجاب للشاعر على تجديده وابداعه مهملاً التعليق ولو بكلمة زجر عابرة على فوضى التعابير والاخطاء.
أفلا ينطوي هذا الموقف من النقاد على تشجيع واضح للجيل كله على الاستهانة باللغة العربية والاستخفاف بقواعدها الرصينة؟ والى أي مدى ينبغي ان يعد الناقد نفسه مسؤولاً عن لغة الشعر المعاصر) وترى ان ازدراء الناقد للجانب اللغوي ليس الا صورة من ازدراء الشاعر نفسه للغته وقواعدها، فقد استقر في اذهان الشباب ان الاهتمام باللغة والحرص على قواعدها يدلان على جمود فكري، ولذلك اخذ بعضهم يزدري اللغة ويهمل المقاييس بقواعد اللغة لذاتها ولا تحب ان تنصب مشانق ادبية لكل من يستعمل لفظته استعمالاً يهبها حياة جديدة او يدعو الى الاستغناء عن بعض شكليات النحو البالية، بل تؤمن ايماناً عميقاً بالتجديد المبدع وتعتقد ان هذا التجديد لا يتم الا على ايدي الشعراء والكتاب والنقاد المثقفين الموهوبين. تقول: (ان الشاعر بإحساسه المرهف وسمعه اللغوي الدقيق يمد للالفاظ معاني جديدة لم تكن لها، وقد يخرق قاعدة مدفوعاً بحسه الفني فلا يسيء الى اللغة وانما يشدها الى الامام، الشاعر او الاديب اذن هو الذين تتطور على يديه اللغة، اما النحوي واللغوي فلا شأن لهما به، النحوي واللغوي عليهما واجب واحد هام، واجب الملاحظة واستخلاص قواعد عامة من كلام المرهفين من الكتاب والشعراء، على ان الاديب الذي سنتفق على تسميته مرهفاً.. لابد ان يملك ثقافة عميقة تمتد جذورها في صميم الادب المحلي قديمه وحديثه من اطلاع واسع على ادب امة اجنبية واحدة على الاقل، بحيث يتهيأ له حس لغوي قوي لا يستطيع معه ان هو خلق الا ان يكون ما خلق جمالاً وسمواً، فاذا خرق قاعدة او اضاف لوناً الى لفظة او صنع تعبيراً جديداً احسسنا انه ا حسن صنعاً وامكن لنا ان نعد ما أبدع وخرق قاعدة ذهبية.
ان الشاعرة نازك الملائكة ناقدة لغوية، وهي لا تريد ان تنحدر لغة الادب المعاصر، ولذلك وجهة عنايتها الى هذا الجانب منذ عهد مبكر وفي مقدمة ديوانها (شظايا ورماد) شيء من ذلك، ثم برزت عنايتها في كتاب (قضايا الشعر المعاصر) وكتاب (الصومعة والشرفة الحمراء) ومن آرائها ان (اللغة ان لم تركض مع الحياة ماتت) وان (اللغة العربية لم تكتسب بعد قوة الايحاء التي تستطيع بها مواجهة اعاصير القلق والتحرق التي تملأ انفسنا اليوم. انها قد كانت يوماً لغة موحية تتحرك وتضحك وتبكي وتعصف ثم ابتليت بأجيال من الذين يجيدون التحنيط وصنع التماثيبل فصنعوا من الفاظها نسخاً جاهزة ووزعوها على كتابهم وشعرائهم دون ان يدركوا ان ان شاعراً واحداً قد يصنع للغة ما لا يصنعه الف نحوي ولغوي مجتمعين).
ودعت الى ان يدخل الاديب المرهف (تغييراً جوهرياً على القاموس اللفظي المستعمل في ادب عصره فيترك استعمال طائفة من الالفاظ التي كانت مستعملة في القرن المنصرم ويدخل مكانها الفاظاً جديدة لم تكن مستعملة، وذلك لأن الالفاظ تخلق كما يخلق كل شيء يمر عليه اصبع الاستعمال في هذه الحياة المتغيرة، وهي تكتسب بمرور السنين جموداً يسبغه عليها التكرار فتفقد معانيها الفرعية شيئاً فشيئاً ويصبح لها معنى واحد محدد يشكل عاطفة الاديب ويحول دون حرية التعبير، ثم ان الاذن البشرية تمل الصور المألوفة والاصوات التي تتكرر وتستطيع ان تجردها من كثير من معانيها وحياتها.

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:9|

جبران خليل جبران

١٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦

جبران خليل جبران شاعر لبناني امريكي، ولد في 6 يناير 1883 م في بلدة بشري شمال لبنان وتوفي في نيويورك 10 ابريل 1931 م بداء السل، سافر مع أمه وإخوته إلى أمريكا عام 1895، فدرس فن التصوير وعاد إلى لبنان، وبعد أربع سنوات قصد باريس حيث تعمق في فن التصوير، عاد إلى الولايات الامريكية المتحدة، واسس مع رفاقه "الرابطة القلمية" وكان رئيسها.



من (بشرِّي) لبنان (1883 - 1895), حيث ولد وحيث تفتح وجدانه وخياله, انتقل إلى (بوسطن) (1895 - 1898) التي كانت تشهد -آنذاك- نهضة فكرية, وعاد إلى (بيروت) (1898 - 1902) ليعيش نكبات شرقه وتخلّفه, بينما كان يستزيد من تعلم العربية في بلاده. ثم إلى (بوسطن) ثانية (1902 - 1908), ليعيش تجربة الموت الذي حصد أسرته (1902 - 1904), ثم إلى (باريس) (1908 - 1910) ليسبر عمق التحول الثقافي والفني الذي كانت تشهده, وبعدها (نيويورك) (1911 - 1913), حيث يدرك معنى المدينة الحديثة في أوسع مفاهيمها.

ووسط (العالم الجديد), يناديه التاريخ في الحواضر العريقة فيسيح في مصر وفلسطين وسورية (1903), وتجذبه روما ولندن; فيقرأ فيهما نموّ الوعي الخلاّق في رحم التاريخ.

وتقدم الحرب العالمية الأولى لجبران أغزر وأغنى مادة للتأمل الجذري في طبيعة القوة وماهية الضعف في النفس البشرية. وينتهي إلى اكتشاف مكنون إنساني أعمق وأبعد من ظواهر القوة والضعف, هو قدرة الإنسان الروحية اللامتناهية, التي رأى التوصل إليها ممكنًا عبر الحوار الباطني مع النفس ومع الإنسانية.

كان ذلك الحوار هو طريق جبران إلى التجربة الصوفية, وكان -أيضًا- مصدر تحوّله من الرومنسي إلى رافض الحَرْفية والأنظمة الفكرية والفلسفية, ليركن إلى شاعرية الحكمة.

منذ أوّل مقال نشره بعنوان (رؤيا), وأول معرض للوحاته (1904) حتى اليوم, تتشاسع مدارات انتشار نتاج جبران; فيزداد -باضطراد- عدد ترجمات مؤلفه (النبي) ليتجاوز الثماني والعشرين لغة. وتقف العواصم الحضارية بإجلال أمام أعماله التشكيلية التي يقتنيها عدد من أهم متاحف العالم.

ويتكثف حضور جبران: الشاعر, والحكيم و(خلاّق الصور) كما كان يسمي نفسه. ويتفرّد نتاجه بمخيلة نادرة, وبإحساس خلاق مرهف, وبتركيب بسيط. وبهذه الخصائص, تبلور في لغته العربية -كما في الإنكليزية- فجر ما سيُدعى - فيما بعد- (القصيدة النثرية) أو (الشعر الحديث).

ويمكن تبيّن أربع مراحل في إنتاج جبران:

الرومنسية: كما تنعكس في كتيب (نبذة في الموسيقى) (1906), وأقصوصات (عرائس المروج) (1906), و(الأرواح المتمردة) (1908), و(الأجنحة المتكسرة) (1912), ومقالات (دمعة وابتسامة) (1914), والمطوّلة الشعرية (المواكب) (1919).

الثورية الرافضة: تتصعّد الرومنسية لتنتهي إلى اكتشاف أن القوة الإنسانية تكمن في الروح الخاص والعام, كما في مقالات وأقصوصات وقصائد (العواصف) (1920), و(البدائع والطرائف) (1923), وفي كتابه بالإنكليزية (آلهة الأرض) (1931).

الحِكَمية: تعتمد المثل أسلوبًا, كما في ثلاثيته إنكليزية اللغة: (المجنون) (1918), (السابق) (1920), و(التائه) (1923).

التعليمية: وفيها يختصر جبران خلاصات تجاربه وتأمله الحياة, والإنسان, والكون والعلاقات المتسامية. وهي المرحلة التي تُعَدّ ذروة نضجه الذي يتبدّى في ثلاثية أخرى باللغة الإنكليزية: (النبي) (1923), (يسوع ابن الإنسان) (1928), و(حديقة النبي) (1933).

ويكاد هذا النتاج / الموقف أن يكون علامة فارقة في تراث تباينت حوله الآراء, لكن كان هناك دائمًا إجماع على شموليته الإنسانية التي تروحن الغرب بحكمتها الصوفية, وتُخرج الشرق من المطلقات المسبقة إلى التجربة الشخصية الحية باتجاه المطلق.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:8|

الغموض في الشعر الحر

الغموض يلف الشعر الحديث وقسماته، ويخفي جوهره وعلاقاته بأشقائه في دوحة الأدب، وزاد الفجوة التي تفصل بين كثير من النصوص الشعرية المعاصرة، وجمهور واسع من القراء. ظاهرة الغموض جاءت من أمور، منها: الغموض الدلالي، استحالة الصورة الفنية، غموض الرمز.اللغة الشعرية
لغة الشعر هي لغة الإشارة في حين أن لغة النثر هي لغة الإيضاح ولابد للكلمة في الشعر أن تعلو على ذاتها، أن تزخر بأكثر مما تعنيه، أن تشير إلى أكثر مما تقول، عبر إدراك الشاعر لقدرات المجاز في منح اللغة مساحة أوسع من دلالتها المعجمية، يزيدها قوة تبدو في أنه يمكن للكلمات أن تعني أكثر مما تشير إليه. الكلمات لدى الشاعر تختلف عن الكلمات المستخدمة في الحياة اليومية؛ فالشاعر يستنفذ في الكلمات كل طاقاتها التصويرية والإيحائية والموسيقية، اللغة الشعرية تنظم وتشد مصادر اللغة العادية وأحياناً تنتهكها. وميّز الرمزيون اللغة الشعرية «ودعوا إلى أن تستعمل الكلمات بمعان جديدة بعد أن تآكلت واستهلكت من فرط الاستعمال، وحاولوا إيجاد حل لمشكلاتها، فاهتم «بودلير» ب«جمالية القبح» وشغل «رامبو» بلون الكلمة وإيقاعاتها الداخلية وروائح الإحساسات المنبعثة من الألفاظ ألواناً وروائح مختلفة، وأجهد «مالارميه» نفسه وحاول أن يحمّل اللغة ما لم تستطع القيام به من قبل، وجهد أن يبتدع لغة ينبثق منها شعر جديد، شعر لا يدور على وصف الشيء بل على تأثيره وهذا ما أوصله إلى نظرته الشهيرة في طبيعة الشعر التي انبثقت منها الدراسات الحداثية وهي أن «الشعر كلمات» يروي لنا «دانيال لوير DANIAL LEUWERS» حادثة الرسام «إدغارديغا» الذي اشتكى حين كان يجلس مع «مالارميه» من ضياع النهار وهو يحاول أن يكتب قصيدة قائلاً: «ومع ذلك، ليست الأفكار هي ما ينقصني، فإنني مفعم بها»، فتيسّر ل«مالارميه» أن يجيبه: «ليس بالأفكار تصنع القصائد ياديغا، وإنما بالكلمات»(1). النص الشعري يمثل تشكلاً دلالياً جديداً وانزياحاً للغة، والانزياح «الانحراف» هو خرق للقواعد وخروج على المألوف أو هو احتيال من المبدع على اللغة النثرية لتكون تعبيراً غير عادي عن عالم عادي، أو هو اللغة التي يبدعها الشاعر ليقول شيئاً لا يمكننا قوله بشكل آخر(2). والسبب في هذا الانزياح أن «للغة الشعرية قوانينها المختلفة عن قوانين الحديث اليومي أو النثر، فالشعر يهدم اللغة ليعيد بناءها وفق عالم محتمل الوقوع، ومن هنا ذهب «جان كوهين» إلى أن الانزياح شرط أساسي وضروري في النص الشعري.. ولكن الانزياح ليس هدفاً في ذاته وإلا تحوّل النص إلى عبث لغوي وفوضى في الرسالة الشعرية ذاتها، وإنما هي وسيلة الشاعر إلى خلق لغة شعرية داخل لغة النثر، ووظيفته خلق الإيحاء، وقديماً قال البحتري:والشعر لمحٌ تكفي إشارته
وليس بالهذر طوِّلت خُطبهُ(3)الصورة الشعرية
التصوير الفني عنصر أساسي وأصيل من عناصر الشعر، وهي الحد الفاصل الذي يميز بينه وبين العلم، قال أرسطو: «إن أعظم شيء أن تكون سيّد الاستعارات، فالاستعارة علامة العبقرية» ويقول المنفلوطي: «إن التصوير نفسه أجمل المعاني وأبدعها، بل هو رأس المعاني وسيدها(4) ويقول راي Ray: إن الصورة وحدها تكسب العمل جمالاً(5) إلا أن استحالة الصورة في الشعر أدت إلى الغموض في فهمه حيث تعبر بمهارة عن تمازج الرؤى والأفكار والأحاسيس تجمع بين الخيال والقدرة الفنية، فالخيال هو الروح والقدرة الفنية هي الجسم. الطاقة الفنية تستجيب لها إمكانات اللغة العربية في تناغم موسيقي وتصويري، وهنا شاهد للشاعر أحمد العدواني تطل منه فكرة الكتابة الحاملة رؤية مستحيلة حيث تمرد الكلمة وتغادر السطور حدود الأوراق: «كتبت أسطراً على الورق
ومرت الريح بها
فأصبحت دخاناً
وحينما أشعلت قلبي فاحترق
وجدت أسطري
تفجرت نيراناً»غموض الرمز
«
توظيف الرمز في القصيدة توظيفاً فنياً ناجحاً هدف سعى إليه الشاعر العربي المعاصر، ومطمح لا يزال يلح في الوصول إليه.يقول عبدالوهاب البياتي في هذا الخصوص: «أمَّا ديواني «الموت في الحياة» فهو قصيدة واحدة مقسمة إلى أجزاء، وأنا أعتبره من أخطر أعمالي الشعرية، لأنني أعتقد أنني حققت فيه بعض ما كنت أطمح أن أحققه من خلال الرمز الذاتي والجماعي ومن خلال الأسطورة والشخصيات التاريخية القديمة والمعاصرة.. عبَّرت عن سنوات الرّعب والنفي والانتظار التي عاشتها الإنسانية عامة، والأمة العربية خاصة»(6).الرمز أنواع منه: الرمز الأسطوري، الرمز الديني، الرمز التاريخي، الرمز الشعبي، وسنقف هنا عند الرمز الأسطوري. الأسطورة «الخرافة»: «هي القصص الخيالية التي نسجتها مخيلات الشعوب في العصر الأسطوري، وتبرز فيها قوى الطبيعة في صور كائنات حيّة، مبتدعة الحكايات الدينية والقومية وغيرها، وقد جسدها الأدباء في الملاحم والمآسي، ومن ذلك ملحمة جلجامش والإلياذة والأوديسية، ومأساة «أوديب ملكاً وسواها(7) و «الأساطير» قصص رمزية تروي حقائق أساسية ضمن مجتمعات لها تقاليد راسخة غير مكتوبة، وتعنى الأساطير عادة بالكائنات والأحداث غير الاعتيادية، لذا كانت من أغنى مصادر الإلهام للأدب والدراما والفن في مختلف أنحاء العالم (8).و«الأسطورة تتوافق مع مرحلة الطفولة للحضارة البشرية، مثلما تتوافق الفلسفات العقلية والتقنيات المتقدمة مع مرحلة البلوغ الحضاري»(9). أما عن نشأة الأسطورة «فقد اختلف الباحثون في تحديد نشأتها وطبيعتها وميدانها ومدلولاتها، ولكنهم اتفقوا في أنها تمثل طفولة العقل البشري وتقوم بتفسير الظواهر الطبيعية.. برؤى خيالية توارثتها الأجيال.. ولا تقتصر الأسطورة على زمن ما، فكما أن هناك أساطير قديمة كذلك يمكننا خلق أساطير معاصرة(10). اعتمد الشاعر الحديث على الأسطورة في تصويره الحالة الشعرية عنده، وربما القارئ لم يفهم ماذا يعني الشاعر لعدم فهمه لوظيفة الأسطورة في الشعر الحديث، ومما يزيد حدة الغموض أن بعض الشعراء يقتبسون الأساطير الإغريقية اليونانية القديمة، مثل أساطير أدونيس، وتموز وسيزيف.. هذه الأساطير لغرابتها بمثابة تحدٍّ لمشاعر القارئ و «الهدف من استخدام الأسطورة في أداء وظيفتها أن تكون مفهومة لدى المتلقي، وأن يكون مدلولها العام متجاوباً مع حقيقة مشاعره(11). وهناك من يرى أن «صلة الشعر بالأسطورة قديمة، وثمة من يقول: إن الشعر وليد الأسطورة، وقد نشأ في أحضانها وترعرع بين مرابعها، ولما ابتعد عنها جف وذوى، ولذلك فإن الشاعر في العصر الحديث عاد ليستعين بالأسطورة في التعبير عن تجاربه تعبيراً غير مباشر، فتندغم الأسطورة في بنية القصيدة لتصبح إحدى لبناتها العضوية، وهذا ما يمنحها كثيراً من السمات الفاعلة في بقائها، ومنها إنقاذها من المباشرة والتقرير والخطابية والغنائية، كما يخلق فيها فضاء متخيلاً واسع الأبعاد زمانياً ومكانياً (12).. الأسطورة تخفي معنى آخر تحت المعنى الظاهر «وقد يلجأ الشعراء إلى الأسطورة للتعبير عن قيم إنسانية محددة، أو لأسباب سياسية، بأن يتخذ الأسطورة «أو الشخصية الأسطورية» قناعاً يعبر من خلاله عمّا يريد من أفكار ومعتقدات(13). و«توظيف الرموز الأسطورية في بنية القصيدة واستلهامها يثري العمل الفني، وبخاصة إذا تضمن موقفاً معاصراً وعبّر عن تجربة جديدة»(14).ومن أسباب غموض الشعر الحديث تباهي الشاعر بالثقافة وسعة الاطلاع من خلال الإكثار أو الإلحاح على استخدام الأسطورة في الثقافة الغربية إذ «يتراوح استخدام الأسطورة في شعرنا المعاصر بين الاستخدام الخارجي الآلي منفصلة عن التجربة المعاصرة، وهي زخرفية أو تقدم دليلاً على ثقافة الشاعر أكثر من كونها دليلاً على شاعريته.. وتكون الأسطورة شاهداً لا يندغم في حالة التجربة أو في السياق، وهي مقحمة على العمل الفني.. وقد استدعاها الشاعر لتكون استعراضاً لثقافة.. أكثر مما استدعاها السياق للتعبير الوظيفي(15). ومن الأفضل استخدام الأساطير والرموز العربية المفهومة للقارئ حسب سياقها الفني في تجربة الشاعر المعاصرة.الشاعر جاسم الصحيّح استطاع استخدام الرمز بفنية فائقة في قصيدة له «عنترة في الأسر»:سيفٌ طريحٌ.. شاحبُ اللمعان.. منكسرُ الصليل
ومطهمٌ ذبلت على شدقيه رائحة الصهيل
وقصيدةٌ مطعونةٌ
بقيت على الرمضاء، ينزف من جراحتها العويل
والفارس «العبسيُّ» مغلول الملامحِ
في انهيار المستحيل
وأنا هنا أتوجس التاريخ
وهو مفخخ الأحداث بالزيف الدّخيل»الشاعر يرى في هذا العصر الضعف العربي، فينادي البطل العربي الأسطوري:أبا «الفوارس».. من صميم الوهم جئتك
حاملاً مجد البداوة والمضارب والقفار
متأبِّطاً أسطورتين
رضعت من ثدييهما زهوي
وعادة أمَّتي في الانتصار

فؤاد أحمد البراهيم

fuadah@ayna.com

(1) الحداثة في حركة الشعر العربي المعاصر» د. خليل الموسى، دمشق، مطبعة الجمهورية، ط1، 1991. ص98.
(2)
المصدر نفسه ص99.
(3)
المصدر نفسه ص 99ـ100.
(4) «
النظرات» للمنفلوطي ص132.
(5) «
الأسس الجمالية في النقد العربي»، عز الدين إسماعيل ص388.
(6) «
أنماط من الغموض في الشعر العربي الحر»، د. خالد سليمان، منشورات جامعة اليرموك 1987، ص33.
(7) «
الحداثة» د. خليل الموسى ص108.
(8) «
معجم النقد الأدبي المعاصر» تأليف د. إبراهيم كايد محمود ود. خليل الموسى، دمشق 1421هـ ص15 ـ 15.
(9) «
مجلة الفيصل» العدد 265 رجب 1419 ص100 مقال «علم الأساطير» ترجمة مجيد الماشطة.
(10)
المصدر نفسه ص103.
(11)
مجلة الكويت العدد «200» 28 صفر 1421هـ مقال «كيف نتذوق الشعر الحديث؟» لفاضل خلف.
(12) «
قراءات في الشعر العربي الحديث والمعاصر» د. خليل الموسى من منشورات، اتحاد الكتاب العرب2000 ص88 ـ89.
(13) «
في نقد الشعر العربي المعاصر دراسة جمالية»، د. رمضان الصباغ، دار الوفاء 1998 ط1 ص396.
(14) «
الحداثة»، د. خليل الموسى ص109.

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:7|
- الید الواحده لا تصفّق (یك دست صدا ندارد)

4- وهب الأمیر ما لا یملك (از كیسة خلیفه می‌بخشد)

5- و للناس فیما یعشقون مذاهب (سلیقه‌ها یكنواخت نیست)

6- هل یصلح العطّار ما أفسد الدّهر (آب رفته به جوی باز نیاید)

7- من یمدح العروس إلّا أهلها (هیچ كس نمی‌گوید ماست من ترش است)

8- من كثر كلامه كثر ملامه (پرگو خطاگوست)

9- من قرع باباً و لجّ و لج (عاقبت جوینده یابنده است)

10- من طلب العلی سهر اللیالی (گنج خواهی در طلب رنجی ببر)

11- من طلب شیئاً وجدّ وجد (عاقبت جوینده یابنده بود)

12- من طلب أخاً بلا عیب بقی بلا أخ. (گل بی‌خار خداست یا كجاست)

13- من حفر بئراً لأخیه وقع فیها (چاه مكن بهر كسی اول خودت دوم كسی)

14- من جدّ وجد (عاقبت جوینده یابنده بود)

15- من صارع الحقّ صرعه (با آل علی هر كه در افتاد بر افتاد)

16- المعیدی تسمع به خیر من أن تراه (آواز دهل شنیدن از دور خوش است)

17- المحنه إذا شاعت سهلت (مرگ به انبوه، جشن باشد)

18- لكلّ فرعون موسی (دست بالای دست بسیار است)

19- لكلّ مقام مقال (هر سخنی جایی و هر نكته مكانی دارد)

20- ماحكّ جلدك مثل ظفرك (كسی نخارد پشت من جز ناخن انگشت من)

21- ماهكذا تورد یا سعد الإبل (راهش این نیست) (این ره كه تو می‌روی به تركستان است)

2- الكلام یجرّ الكلام (حرف حرف می‌آورد)

23- كلم اللسان أنكی من كلم السنان (زخم زبان از زخم شمشیر بدتر است)

24- كالمستجیر من الرّمضاء بالنّار (از چاله به چاه افتادن) (از بیم مار در دهان اژدها رفتن)

25- كلّ رأس به صداع (هر سری دردی دارد)

26- كلّ شاه تناط برجلیها (هر كس را در قبر خود می‌گذارند)

27- لا تؤخر عمل الیوم إلی غدٍ (كار امروز را به فردا میفكن)

28- لا یؤخذ المرء بذنب أخیه (گناه دیگری را بر تو نخواهند نوشت)

29- لكلّ جدید لذّه (نو كه آمد به بازار كهنه شود دل آزار)

30- لكلّ صارم نبوه (انسان جایزالخطا است)

31- لا یلدغ المرء من جحر مرّتین (آدم یك بار پایش در چاله می‌رود)

32- علی نفسها جنت براقش (خودم كردم كه لعنت بر خودم باد)

33- عند الشدائد تعرف الإخوان (دوست آن باشد كه گیرد دست دوست در پریشان حالی و درماندگی)

34- غاب القطّ إلعب یا فار (حال میدان برایت خالی شده هر چه می‌خواهی بكن)

35- فعل المرء یدلّ علی أصله (از كوزه همان برود تراود كه در اوست)

36- فوق كلّ ذی علم علیم (دست بالای دست بسیار است)

37- كالشمس فی رابعه النهار (مثل روز روشن)

38- كلام اللیل یمحوه النهار (كنایه بر كسی كه به قول خود عمل نمی‌كند)

39- قاب قوسین أو أدنی (كنایه از بسیار نزدیك بودن)

40- الصبر مفتاح الفرج (گر صبر كنی زغوره حلوا سازی)

41- الطیور علی أشكالها تقع (كبوتر با كبوتر باز با باز كند همجنس با همجنس پرواز)

42- عاد بخفّی حنین ـ عاد صفر الیدین (دست خالی بازگشت ـ دست از پا درازتر برگشت)

43- عصفور فی الید خیر من عشره علی الشجره (سركه نقد به زحلوای نسیه)

44- ربّ سكوت أبلغ من كلام (چه بسا سكوتی كه از سخن گفتن شیواتر است)

45- السكوت أخو الرّضا (سكوت علامت رضاست)

46- سبق السیف العذل (دیگر كار از كار گذشت)

47- زاد الطّین بلّه (خواست ابرویش را درست كند زد چشمش را كور كرد)

48- رحم الله إمری‌ء عمل عملاً صالحاً فأتقنه (كار نیكو كردن از پر كردن است)

49- حبه حبه تصبح قبه (قطره قطره جمع گردد وانگهی دریا شود)

50- الحسود لا یسود (حسود هرگز نیاسود)

51- الحقّ مرّ (حرف حق تلخ است)

52- خیر الأمور أوسطها (اندازه نگهدار كه اندازه نكوست)

53- خیر البرّ عاجله (در كار خیر حاجت هیچ استخاره نیست)

54- خیر الناس من ینفع الناس (بهترین مردم كسی است كه به مردم نفعی برساند)

55- خیر الكلام ما قلّ و دلّ (كم گوی و گزیده گوی چون درّ تا جهان زاندك شود پر)

56- خالف تعرف (مخالفت كن و مشهور شو)

57- أین الثری و أین الثریّا (این كجا و آن كجا) (تفاوت از زمین تا آسمان است)

58- بات یشوی القراح (آه ندارد كه با ناله سودا كند)

59- بلغ السّكین العظم (كارد به استخوان رسید) (كاسة صبرش لبریز شد)

60- بیضه الیوم خیر من دجاجه الغد (سركه نقد به زحلوای نسیه است)


+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:5|

تحلیل قصیدة احمد شوقی

"الأندلس الجدیدة

1.     تمهيد:

تنتمي قصيدة احمد شوقي ،"الأندلس الجديدة"، إلى تيار البعث والإحياء الذي يتجسد في الاستلهام بتقاليد القصيدة الكلاسيكية أي الالتزام بعمود الشعر من حيث البناء و اللغة و التصوير الفني. و إلى جانب ذلك إحياء القيم و الثقافة العربية عبر استحضار ما يتخصص به الشعر الكلاسيكي من قيم و تمثلات عن الجمال و الطبيعة و الإنسان و الحياة.

كما أننا نلاحظ أنّ خطاب الإحياء يجمع بين التقاليد الفنية و الاستجابة لضرورة العصر و من تمّ الانخراط في القضايا الوطنية و القومية و الخوض في المسألة الاجتماعية.

و على ضوء مقومات البعث و الإحياء نرى مساهمة أحمد شوقي في هذا الخطاب، حيث أنّه يكتب على منوال الشّعر الكلاسيكي يتشبع باللّغة العربية الإسلامية و يجمع بين اللّغة السّليمة و المواضيع الآنية.

نظم أحمد شوقي قصيدته التي قالها اثر سقوط أدرنة بيد البلغار و تشكل رثاء مميزا فتكشف عن عاطفة صادقة يكنّها الشاعر للعثمانيين باعتبارهم سيف الإسلام.  

 

2.     تلخيص:

كغيره من شعراء البعث و الإحياء، يضع الشاعر عنوانا للقصيدة و هو يختار عنوان "الأندلس الجديدة" ليضرب عصفورين بحجر واحد، فمن جهة هو يذكر مدينة يفتخر بها تاريخ الإسلام و لها صددها في العالم الإسلامي، و من جهة أخرى ينبأ الشّاعر قارئه أنّه سيكلّمه عن مدينة، "أخت الأندلس"، شكلت كالأندلس أوج الحضارة العربية الإسلامية. فسيخدم ذلك هدف أحمد شوقي: "رثاء أخت الأندلس، أدرنة".

 فبهذا  يحمل عنوان هذه القصيدة شيئا من الحزن والأسى. كما أنّ أحمد شوقي يحضر الماضي بقوة "أخت أندلس" "مقدونيا" مما ينتج عنه احساس بالحزن والاسى 

تذكرنا المقطوعة الأولي للقصيدة النسيب أي الافتتاحية الطلليّة التي نجدها في القصيدة الكلاسيكية، و بعد البيت الأوّل يباشر الشّاعر في وصف الحالة التي وصل إليها العالم بعد فقد الأندلس و أختها.

ففي هذا الوصف الدقيق يأتي على ذكر الأسباب و العواقب، و نجد في طريقته هذه تجديدا في توظيف النّسيب، فهو يصل بينه و بقية القصيدة و يستعمله بمثابة مقدّمة لما سيسرده.

يربط الشاعر مدينة تركية فقدت على الحدود بمدينة لها صددها في العالم العربي الإسلامي: الأندلس. فهو يذكر أوجه الشّبه بين حال أدرنة و الأندلس "هوت الخلافة عنك و الإسلام"، "بكما أصيب المسلمون و فيكما دفن اليراع و غيّب الصمصام" يستعين إذا الشاعر بكناية تدلّ عن الألم و الحزن لما فقد و المأتم الدّائم. و الإقرار بهذا الفقدان أدّى حقا إلى انهيار أيام العّز و تاريخ العرب.

فكلمة "أيام" (البيت 7) ترمز إلى التاريخ و تحمل الإشارة إلى تاريخ العرب الممتلئ بالنصر و العزّة و الكرامة. غير أنّ هذا الوقت قد اختفي و يعود ذلك إلى الـ"قدر" و الممالك (السلطة) التي لم تأخذ بعين الإعتبار الدّهر "و الدّهر لا يألو الممالك منذرا فإذا غفلن فما عليه ملام".

ثمّ يجمع بين حالة أدرنة و حالة مقدونيا التي احتلّها الغرب، و يؤكّد في ندائه لها عن انتماءها للأمة الإسلامية، فيدافع عنها أمام المستنكرين من المسلمين لها.

 

3.     التحليل: 

في سيّاق فكري حول الأصالة و المعاصرة ظهرت في الساحة الأدبيّة نخبة من الشّعراء تبنّت موقفا شعريا يدعو إلى إحياء الشعر العربي الكلاسيكي و اتخاذ تقاليده الفنيّة. و كان خطابهم الشعري " خطاب البعث و الإحياء" .

"الأندلس الجديدة "، قصيدة أحمد شوقي، تنتمي إلى هذا التيّار. و قد يتناول من خلالها إشكالية تراجع الحكم الإسلامي العثماني في قوّته و سيطرته؛ مستعينا مثال مدينة "أدرنة" التي فُقدت.

فسنرى كيف يتحدّث أحمد شوقي عن قضية وطنية مستعملا أسلوب كلاسيكيا مضيفا إليه سمات تيار البعث و الإحياء.

تدخل قصيدة أحمد شوقي في إطار الرثاء، فكما شرحناه سابقا تبدأ القصيدة بافتتاحية طلليّة يذكر فيها الشاعر ما فقده مستعملا الحقل الدّلالي للألم و الحزن "جرحان" " يسيل و لا يلتام" "مأتم"، كما يستعمل الشّاعر ألفاظ تعبّر عن شعوره "ليت" "أترينهم هانوا"، "صبرًا أدرنة!".

عرف أسلوب أحمد شوقي في خصوصية لجوئه إلى الصّور القديمة، و في مثال قصيدتنا، لرثاء أدرنة و ذكر الصّفات المشتركة بين حاضهر و الماضي الذي يذكره. فيصف الماضي المجيد و المزدهر، فهو يفتخر بالدولة العثمانية التي عرفت انتصارات عديدة "كان بعزّهم و علوّهم يتخايل الإسلام".أمّا اليوم، فهو يستعيد تقهقر العهد الإسلامي عبر التاريخ و المناطق فأصبحت المدن تفقد واحدة تلوى الأخرى (مقدونيا، أدرنة). 

و يقول الشّاعر:" من فتح هاشم أو أميّة  لم يضع أساسها تتر و لا أعجام"، " و اليوم حكم الله في مقدونيا لا نقض فيه لنا و لا إبرام" لتذكير مجد و قوّة الحضارة العربيّة الإسلامية التي فقدت مع مرور الزّمن.

تمزج قصيدة "الأندلس الجديدة" بين الأغراض الشعريّة الكلاسيكيّة و بين قضايا الشّاعر و همومه. و نلاحظ ذلك من خلال الأدوات الفنيّة التي استعملها أحمد شوقي.

فإذا درسنا شكل القصيدة لوجدنا شكلها عمودي  بحرها طويل و وزنها واحد، كما أنّها تتبع قواعد العروض الخليلية. بالإضافة إلى ذلك  نلاحظ أن الصّور عند أحمد شوقي تعتمد على أساليب الشعر العربي القديم.آمّا فيما يخص البناء الصّوتي فنلاحظ تكرار بعض الحروف (السين و الميم) مما يجعل للقصيدة موسيقى داخلية هادئة رغم الذي أصاب المسلمين و هذا ما يفيد التّعبير عن مشاعر الشّاعر المتمثّلة في الألم. إذا، إنّ حضور هذه المعطيات الموسيقية تؤكد انتماء النص إلى تيار البعث و الإحياء.

 

يتّبع الشاعر تقاليد القصيدة العربية الكلاسيكيّة في التّصوير الفنّي و لكنّه يضفي عليها سمات من طابعه الجمالي الخاص.

و نرى ذلك في الأساليب البلاغيّة التي يستعملها الشاعر. ففي الآبيات الأولى:

-         يؤنّس في ندائه الأندلس: " يا أخت الأندلس"، طريقة تبيّن أهمية أندلس

-         استعارة: "نزل الهلال عن السّماء..."، تبيّن فقدان رمز الإسلام و بذلك زواله من تلك المنطقة

        "قدر يحط البدر و هو تمام"، يبيّن قدر أدرنة و الأندلس        

-         يشبّه الإسلام بالنّور الذي ينير العالم،  وغيابه يأتي بالظلام "وعمّ العالمين ظلام".

فنلاحظ أنّ أحمد شوقي يعمّ قصيدته بالأساليب البلاغية التي تزيد الإيقاع الدّاخلي للنصّ حزن و ألم، كما أنه يستعين بكلّ ما هو يرمز للإسلام "الهلال" "القدر" "مساجد كنّ نورا" لإبراز علاقته و فخره بالإسلام.

و إلى جانب ذلك يستعمل أيضًا المجاز و الاستعارة في إنشاء صور فنيّة تربط بين الأشياء المحسوسة و المجرّدة. مثلا:

-         "الهلال" رمز الإسلام (مجرّد)، نور الأمة الإسلامية، و "الظلام"(محسوس)، فإذا اختفى الإسلام عمّ الظلام.

-         "خبت مساجد كنّ نورًا جامعًا تمشي إليه الأسد و الآرام". العنصر المجرّد هي "المساجد" و العنصر المحسوس هو "النور". فنرى أنّ المساجد كانت ما يزيّن و ينير المدينة.

كما أنّنا نلاحظ أن الصّفات الحسيّة الملصقة بالعناصر المجرّدة مستقاة من أفعال أو حالات خاصة بالإنسان، مثلا:

-         الإسلام نجد فيه كلمة سلام و نرى بذلك عناية أحمد شوقي بالصياغة اللّغويّة.

 

عرف أحمد شوقي باهتمامه بالقضايا الاجتماعية، مما يجعل للمخاطب موقع متميّز داخل القصيدة. فنرى في المقطوعة الأولى رغبة الشاعر في إيصال و مشاركة حزنه و مأساته مع القارئ، فيجعل مصيبة أدرنة مصيبة المسلمين ككل كما كان الأمر للأندلس.

و يتابع ذلك في المقطوعة الثانية، حيث أنّه يؤكّد على وحدة الأمّة الإسلاميّة  "المسلمون عشيرة"، و يزيد على ذلك نداء إلى مقدونيا التي فقدها المسلمون و يؤكّد في ندائه لها عن انتماءها للأمة الإسلامية، فيدافع عنها أمام المستنكرين من المسلمين لها.

كما أنّه تجلّى في هذا الخطاب أسى الشاعر و حسرته و تجسّد ذلك في هيمنة الأسلوب الإنشائيّة:

-         "يا أخت أندلس عليك سلام"، نداء يبتدئ به الشاعر و يدّل على شوقه لهذه المدينة.

-         "كيف الخؤولة فيك و الأعمام"، "هل الممالك راحة ومنام؟"، استفهام يدلّ على حسرة الشاعر فهو يتساءل عن حال (أهله).

-         "صبرا أدرنة!" يستعمل الشاعر علامة التعجّب و كأنّه يقول لأدرنة أنّه يتألّم معها.

رأينا من خلال دراستنا إلمام الشاعر باللّغة العربيّة حيث أنّه يبيّن مهارته في استعمال أساليب الشعر القديم حيث أنّه يستعمل بدقة البناء الصّوتي لخلق جوّ الرثاء و الحزن، و يعتني بصياغته اللّغوية، فلا يضع كلمة إلاّ و هي في محلّها، هذا ما يعطي للقصيدة شيئا من الرّوحانية و كأنّها شخص يحكي و يبكي عماّ فقده، فيصل بذلك إحساس الشاعر عند قارئه و ينتج عن ذلك علاقة وطيدة بينهما.

و قد لاحظنا كذلك أنّ القصيدة مهما استلهامها بالشعر الكلاسيكي فهي تحضر تجديدا له مما يدخلها حيّز البعث و الإحياء، أوّل شيء نرى فيه هو الالتزام بالشكل العمودي للقصيدة الكلاسيكية و استعمال البحور الخليلية. ثمّ إنّ وجود عنوان يجعل القصيدة تنفرد عن بقية القصائد الكلاسيكية و تتجلّى بوحدة موضوعية، كما أنّ استعمال النّسيب رمز الشعر القديم كمقدّمة لقصيدته يوضّح للقارئ إلمام الشاعر باللّغة، غير أنّه الشاعر يصل بين النّسيب و بين القصيدة مما يشكل تجديدا. و أخيرا يتناول الشاعر موضوعا اجتماعيا و وطنيا مهم في عصره (تراجع الحضارة العربية الإسلامية بعد فقدان مدن عديدة).

فبذلك نجد في القصيدة المقوّمات الثلاث مقوّمات لتيّار "البعث و الإحياء": الشكل؛ التشبّع بالثقافة العربيّة الإسلاميّة؛ و الجمع بين اللّغة السّليمة و المواضيع الآنية.

و نرى في ما قاله غالي شكري تعريف الإحياء، فذلك ينطبق على معارضة الشاعرين اللّذان يستعملان  نفس الأسلوب الذي استعمله ابن زيدون و عنترة، فهما يظهران حسن استعمالهما للغة مما يعطيهما الحق في معارضة الآخرين "تقديس الماضي" (استعمال نفس الأسلوب) "وتوظيفه للحديث" (توظيفه لمبتغاهم و هنا المعارضة).

4.     الرّأي:

عاش أحمد شوقي في عصر يجبره على الكتابة بأسلوب كلاسيكي، فعلى كلّ شاعر أن يبيّن إلمامه باللّغة و أكثر لشوقي بكونه أمير الشّعراء، غير أنني لا أرى فائدة في التّعبير بأسلوب كلاسيكي في موضوع اجتماعي، فكلّ المجتمع لن يستوعب صور و مضمون النصّ، خاصّة إذا كان الموضوع من القضايا و الهموم المعاصرة، فعل كلّ الشعب أن يفهم نضال الشاعر ليسانده أم لا و للوصول إلى ذلك لا بدّ من استعمال لغة سليمة و سهلة، و ترك البلاغة لكلّ ما يحتاجها من مواضيع أخرى (الغزل، المدح...الخ).
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:4|
«شعر در عصر اسلام»
نویسنده: محمد مددپور 
 شعر روح و باطن همه هنرهاست و هنرمندان همه در مرتبه سیر و سلوك باطنى خودشاعرند. اگر هیچ هنرى را در میان هنرهاى اسلامى به محك كلام نبى(ص)و ائمه(ع) سنجیده ندانیم،شعر چنین نخواهد بود زیرا شواهد بسیار در میان است تا بر این نظرحجت آید كه شعر حقیقى كلامى است كه روح القدس بر زبان شاعر جارى كند (1) .شاعردر ساحت‏خیال سكنى مى‏گزیند و دل مى‏گشاید به سوى عالم و آدم و مبدا عالم و آدم تادر افق چشم دل او حقیقتشان آشكار گردد.این نمود جز به انكشاف حقیقت و از آنجاالهام حقیقت‏به واسطه حجاب و یا بى‏واسطه نیست. در مرتبه بیواسطگى است كه شاعركلامش كلام روح القدس مى‏شود و گرنه مقام او همان است كه على(ع) فرمود: «نفث الشیطان على اللسان (2) . یعنى شیطان درایشى بر زبان شاعر جارى سازد.این بیان همان‏بیان سحرى است كه در كلام حضرت نبى(ص)آمده است(ان من البیان سحرا).امادر مقام بیواسطگى و آینگى نسبت‏به حق بر زبان شاعر حكمت جارى مى‏گردد چنانكه‏فرمود:«ان من الشعر لحكمة‏» گفت پیغمبر كه ان فى البیان سحرا و حق گفت آن خوش پهلوان لیك سحرى دفع سحر ساحران مایه تریاك باشد در میان آن بیان اولیاء و اصفیاست كر همه اغراض نفسانى جداست شاعران حقیقى همواره تمناى سیر به مقام روح القدس (3) داشته‏اند.زیرا با پایمردى‏قوه قدسى روح القدس مى‏توان به گنجهاى تحت العرش راه برد چنانكه حكیمان انسى‏گفته‏اند«تحت العرش كنوزا مفتاحه لسان الشعرا»یعنى زیر عرش گنجهایى است و زبان‏شاعران گشاینده آنند.اما شاعر عصر جاهلى كه درونش را هواى نفس پر كرده حتى زمین‏و آسمان حسى نزدیكش را نمى‏بیند و صورت ممسوخى از آن را كه همان صورت سافل‏و اسفل حیات حیوانى آدمى است ادراك مى‏كند.با این اوصاف شعر شیطانى جاهلى‏دیگر نمى‏توانست در برابر شعر رحمانى اسلام باقى بماند،همچنانكه بتهاى 360 گانه مكه‏به قوت عصاى پیامبر و تایید روح القدس شكستند مى‏بایست‏شعر و صورت خیالى كاو وگوژ نفس اماره جاهل فرو پاشد و از میان برود.حال با این مقدمه،نظرى به اوضاع آغازین‏ظهور شعر اسلام و بسط آن بیفكنیم. از آنجا كه شعر تنها هنر یا هنر غالب قوم عرب قبل از اسلام و به یك اعتبار تنها طریق‏تفكر عصر جاهلى بود،ظهور وحى در صورت قرآن و كلام الهى همه شاعران را تا مدتى‏مرعوب خویش كرد و بسیارى از اشعار را باطل ساخت و روح بسیارى از شاعران رامتحول گردانید.این تحول در مواجهه‏اى كه شاعران با كلام خدا(قرآن مجید)داشتندحاصل شد قرآن هیچ مشابهتى به كلام بشرى و شعر شاعران جاهلى نداشت.قرآن طى‏بیست و سه سال به حضرت نبى وحى شده بود. در آغاز سخن از هنرمندى حضرت نبى ختمى مرتبت(ص)گفتیم.این هنرمندى‏عبارت است از نسبت‏بى‏واسطه با ذات احدیت و نیوشایى اسرارى كه قدسیان با اودر میان گذاشته‏اند و بدینسان عالم اسلامى ابتدا در وحى اقامه شده است.قابلیت وجودپیامبر(ص)منشا اتصال روح القدس(جبرئیل امین)فرشته كلام الهى به او بوده است. عالم اسلامى همان ظهور و تجلى اسم اعظم الله اكبر و كل و حقیقت محمدى است كه‏بى‏حجاب در افق چشم دل پیامبر اسلام(ص)و اهل بیت عصمت و طهارت(ع)گشوده‏شده است.این مرتبه یعنى ظهور كلى عالم اسلامى اختصاص به انسان كامل دارد،اما درمراتب نزولى چنانكه ابن عربى در فتوحات مكیه بدان اشاره كرده وجود شاعران وهنرمندان را نیز فرا مى‏گیرد و پرتو الهام رحمانى و ربانى روحشان را در حال سكر آمیزادراك وحدت حقیقى روشن مى‏گرداند. سوره‏هاى آغازین كه در مكه وحى شدند دوران پر آشوبى را چون داهیه بزرگ براى‏شاعران پدید آورد.شاعران مجنون(جن زده)جاهلى ساحتى وراى ساحت‏شعر شیطانى(جنى)نمى‏شناختند. كلمات مهیج و تشبیهات خلاف آمد عادت با آهنگى بى‏سابقه چون‏صاعقه بر دل محجوب كافران و مشركان فرود مى‏آمد و آنها را از عاقبت تاریكشان دردركات جهنم هراسان مى‏ساخت.قرآن در آیات تشبیهى كه با صورتهاى خیالى به ظهورآمده بود، زبان پر راز و رمز را تفكر حضورى تشبیهى را به شاعران آموخت.آیاتى‏چون‏«الم تر كیف ضرب الله مثلا كلمة طیبة كشجرة طیبة اصلها ثابت و فرعها فى السماء... »(ابراهیم:24 و 25) و آیات نور نظیر «الله نور السموات و الارض مثل نوره كمشكوة فیها مصباح.المصباح فى زجاجه. الزجاجة كانها كوكب درى یوقد من شجرة مباركة زیتونة لا شرقیة و لا غربیة یكاد زیتها یضیى‏ء و لو لم تمسسه نار نور على نور یهدى الله لنوره من یشاء و یضرب الله الامثال للناس و الله بكل شى‏ء علیم(نور:35) لحنى بلند دارد،جمال وحسن الهى بالتمام در آنها ظاهر است و معنایشان عمیق است، احساس شاعرانه رابر مى‏انگیزد و صورتى از تخیل را ابداع مى‏كند كه در آن اشیاء در حجمهاى نا معهودى‏جلوه‏گر مى‏شوند.بدین ترتیب عالمى در قرآن و هنر قرآنى اقامه مى‏شود كه هنر شرك راطرد و نفى مى‏كند از اینجاست كه قرآن در سوره شعرا در آیاتى شاعرانى را كه به آنها شیاطین نازل مى‏شوند محكوم مى‏كند (4) .اینان شاعران بت پرست مكه بودند و هنر خود راصرف هجو مقدسات اسلام و تحقیر پیروان پیامبر مى‏كردند و از این لحاظ در زمره اولیاءشیطان و ضد اسلام به شمار مى‏رفتند. بنابراین آیات شاعران دو دسته‏اند یك دسته كه تابع‏ضلالت‏شیطانى‏اند و دیگرانى كه اهل ذكر كثیر و عمل صالح‏اند و همین دو دسته‏اند كه درسرتاسر تاریخ اسلام مظهر دوگانگى هنر دینى و دنیوى بوده‏اند.میراث ادب و فرهنگ‏ملل و نحل مشرك،و بهره‏مندى از ماثورات انبیاء و اولیاء اساس كار این دو گروه بوده‏است و در بالاترین مرتبه شاعران از حقیقت‏شیطانى گذشته و در زمره حكماى انسى‏كلمات الله را تلقى كرده‏اند. با ظهور حقیقت اسلام شعر شعراى باطل نسخ گردید و تا وقتى كه درهاى آسمان بازبود و عالم محل نزول وحى الهى بود شاعران باطل مرعوب شده بودند.بالتبع شعر باطل‏قدیم بالكل تعطیل شد و دیگر كسى مطابق ذوق شاعران كهن به ستایش شراب و عشق‏نمى‏پرداخت و اگر ستایش بود از اسلام و پیامبر اسلام و وصف مبانى اسلام بود.در این‏زمان خطبه به جهت فایده آن در تشحیذ حس دینى بسط یافته بود.در عصر خلفاى‏راشدین نیز این وضع ادامه یافت اما با به قدرت رسیدن امویان وضع برگشت و رجوعى‏دیگر به سوى شعر شیطانى جاهلى به سراغ و سروقت مسلمین آمد. از بزرگترین شاعران عصر پیامبر باید از حسان بن ثابت نام برد.او شاعر مخضرمى (5) بود كه‏«داهیه كبرى‏»(بلاى بزرگ)قریش خوانده شد،زیرا به تشویق پیامبر آنان را هجومى‏نمود.به فرمان پیامبر براى او در مسجد مدینه منبرى نصب كرده بودند و او از آن‏موضع در حضور حضرت نبى مشركان را هجو مى‏نمود.و پیامبر به او مى‏فرمود«اللهم‏ایده بروح القدس‏»(بارالها او را به واسطه روح القدس مؤید بدار). پیامبر همواره او راتایید مى‏كرد و مى‏فرمود كه تا وقتى كه به زبان خویش ما را یارى كنى به واسطه جبرئیل‏مؤید باشى (6) . كعب بن زهیر كه از شرك به اسلام روى آورده بود با قصیده‏اى به نام البرده(رداى‏افتخار)محبت رسول را طلبید (7) و پیامبر اجابت كرد.دیگر شاعران معروف مؤید به‏روح القدس كعب بن مالك و عبد الله بن رواحه‏اند كه پیامبر آنها را مامور به پاسخگویى به‏شاعران مشرك كرد.این شاعران در پرتو قرآن و سنت اغلب در قلمرو سیاست و اخلاق(حكمت عملى)منشا اثر بودند.اما هنوز بنیاد حكمى استوارى نیافته بودند و حكمت‏اشعار آنان اغلب به حضور عملى محدود مى‏شد و برخى از آنها به بیان تجربیات معنوى‏شخصى مى‏پرداختند.علاوه بر این هنوز شقاقى میان ظاهر و باطن پیدا نشده بود تاشاعرانى به وصف ظاهر(و ملازمه‏اش جهاد اصغر)و شاعرانى به وصف باطن(وملازمه‏اش جهاد اكبر)و عوالم روحانى بپردازند.در عصر پیامبر شاعران دینى همواره بنابه روایات اسلامى از ناحیه جبرئیل و عنایات ویژه روح القدس مطمئن بودند.چنانكه‏اشاره رفت‏حسان به اعتقاد برخى گرچه بنیانگذار شعر دینى نیست،اما رسالت الهى پیامبررا مدح مى‏گفت و خداوند تعالى را ستایش مى‏كرد و از آیات قرآنى بهره مى‏برد. در حقیقت‏شعر اسلامى در پرتو قرآن به ظهور آمد و شاعر و ادیب و خطیب اسلامى‏كم و بیش از فیض حقیقت قرآنى و وحى روح القدس(وحى دل و الهام عارفانه)برخوردارشده بودند.و گر نه تباینى ذاتى میان ماده و صورت شعرى صدر اسلام و عصر جاهلى‏پدیدار نمى‏شد. به هر تقدیر هنر اسلامى به مثابه هنرى مقدس همواره مبادى خود را در الهام ربانى‏اولیاء الله مى‏جسته است.بدین معنى در شعر نیز شاعران در جستجوى بنیادهاى متعالى آن‏بوده‏اند.و قصصى را به مثابه مبدا شعرى ابداع كرده‏اند.مى‏گویند اول كس كه در عالم‏شعر گفت آدم بود.و سبب آن بود كه هابیل مظلوم را قابیل مشئوم بكشت و آدم را داغ‏غربت و ندامت تازه شد،در مذمت دنیا و در مرثیه فرزند شعر گفت.همین حال رجوع به‏اصل موجب شده در پیدایى شعر دینى در عالم اسلامى،على(ع)مظهر و نمونه كمال‏انسانى حضورى كامل داشته باشد.دیوانى منسوب به او كه تقریبا شامل است‏بر 1500بیت در باب معانى دینى(ترغیب بر ترك دنیا،عبارات نیایشى،جملات اندرز آمیز درزمینه زهد و خرد)و ربانى،چنین تفكرى را باز مى‏گوید.در این دیوان روح شاعرانه‏جاهلى رنگ باخته و عالمى نو در عرصه حضور تخیلى و تخیل ابداعى اقامه گردیده‏است.از این نظر قرینه آن نهج البلاغه به مثابه اثر نثرى امیر مؤمنان تلقى مى‏گردد كه اساس‏تكوین ادب دنیا و دین اسلامى است. مدح و هجا نخستین صور شعر عصر اسلامى است (8) .در این شعر ملاحظات دینى‏كاملا داخل گردیده است،پس از صدر اسلام نیز همه فرق دینى جهت تایید تفكرات وآیینهاى خود و محكومیت تفكرات رقیبان از شعر فرقه‏اى بهره مى‏گرفتند.كه بر آن‏مى‏توان نام شعر كلام یا كلامى نهاد. در دوره امویان شعر سیاسى به تبع فرق مختلف از شیعه،سنى،خارجى،مرجئه،جبریه، قدریه-كه گاه تحت تاثیر عرف قومى و قبیله‏اى بود-و نفسانیات باطل به وجودآمد،و هر گروه سعى داشتند شاعرانى را به طرفدارى براى خود مهیا كنند.در كنار این‏شعر سیاسى-كلامى،شاعرانى از جمله بعضى از خلفاى اموى نیز وجود داشتند كه سنن‏شعر غنائى باطل را احیاء و از شراب و عشق و لذایذ این جهانى ستایش كردند.غفلت وبعد از حقیقت اسلام و سیره نبوى و ولوى،رواج زندگى شهوانى كه حتى به مكه و مدینه‏نیز سرایت كرده بود و وجود خلفاى بى‏دین و فاسد اموى كه تنها دل مشغولیشان شراب وعشق و لذایذ این جهانى بود همراه با دورى ائمه از اریكه حكومت اسلامى مقتضى‏پیدایى مجدد این شعر بوده است. امویان براى مبارزه با مخالفان و رقیبان یعنى شیعیان اهل بیت عصمت و طهارت(ع) از شعر و جاذبه آن سوء استفاده كردند و بیشترین بهره را گرفتند.معاویه مى‏گفت:«شعر رابالاترین وظیفه اخلاقى و ادبى خود قرار دهید».علاقه امویان به شعر در هر حال‏نمى‏توانست‏بدون سوء غرض سیاسى،براى تضعیف دشمنان خویش نباشد اما بااین وجود بسیارى از شاعران حتى با وجود زندگانى در فسق و فجور نمى‏توانستندحق‏گویى را بالكل فراموش كنند،بدین معنى كه بر اثر تجلى حقیقت مهدى و تاثیرات‏باطنى روح ائمه اطهار در باطن و دل شاعران چه بسا كه به مدح ائمه اهل بیت مى‏پرداختندو كمتر جرات تعرض به ایشان در جامعه وجود داشت.یكى از ایشان‏«فرزدق‏»است كه‏با وجود مطالب راست و دروغ درباره وى،مصیبت وارده نسبت‏به خانواده حضرت على(ع)را وصف و دشمنان ایشان را نفى مى‏كرد.وى مانند بسیارى از شاعران از بنى امیه‏پول مى‏گرفت و در باطن طرفدار بنى‏هاشم بود و بنى امیه این را مى‏دانستند ولى‏نمى‏توانستند دست‏به اقدامى جدى بر علیه وى بزنند،فى المثل،موقعى همین فرزدق‏مطالبى،بر ضد بنى امیه گفت و«مروان بن حكم‏»والى معاویه در مدینه در صدد مجازات وتنبیه فرزدق برآمد.فرزدق كه آن را دانست از مدینه به بصره گریخت، مردم به مروان‏گفتند بد كردى كه چنین كردى زیرا ناموس و شرافت‏خود را به ست‏شاعر مصرى‏سپردى.مروان گفته مردم را پسندید،توشه راه و صد دینار براى فرزدق فرستاد تا از هجواو رهایى یابد.با این همه مهربانى،موقعى كه‏«هشام بن عبد الملك‏»خلیفه اموى مناسك‏حج‏به جا مى‏آورد حضرت على بن الحسین امام سجاد(ع)را در طواف دید و او راناشناس گرفته هویتش را جویا شد.«فرزدق‏»كه آنجا حضور داشت فورا قصیده‏اى درمدح اهل بیت‏سرود (9) .همچنین بود كمیت‏بن زید اسدى كه همواره از سوى ائمه تاییدمى‏شد.ائمه اطهار(ع)او را مؤید به روح القدس دانستند. اشراف اموى به زندگانى بى‏بندو بار انس گرفته بودند.اینان جامه‏هاى ابریشمین به تن‏مى‏كردند،باده مى‏نوشیدند،با كنیزكان آوازخوان رفت و آمد مى‏كردند و به اكراه واعتراضهاى شدید پارسایان اعتنایى نمى‏نمودند.آنها نه تنها از نعمات دنیوى بهره‏مى‏گرفتند،بلكه به ارضاى ممنوع‏ترین و زشت‏ترین شهوات نیز دست مى‏زدند. در میان‏خلفاى اموى كه همه در شرابخوارگى و لا ابالیگرى مستغرق بوده‏اند،بعضى نظیر«ولید بن یزید»خود اشعارى در ستایش خمر ساخته است و شعرایى نظیر«اخطل‏»در عهدایشان وصف شیشه شراب مى‏كرده‏اند.تنها«عمر بن عبد العزیز»از رویه پیشینیان خودعدول كرد و چون مردى پرهیزكار و پاكدامن بود و مى‏خواست مانند خلفاى راشدین‏رفتار كند از شعر و شاعرى فسق آمیز چشم پوشید و اعلام داشت كه نه شاعر مى‏پذیرد و نه‏شعر گوش مى‏دهد. مطالب فوق به وضوح نشان مى‏دهد كه با ظهور اسلام تا حدودى به ماده شعر قدیم‏صورت دینى زده مى‏شود،و گاهى نیز به جهت فقدان قابلیت،ماده شعرى به همان وضع‏مى‏ماند.و در آن نحو شعرى كه صورت اسلام را پذیرفته،در آغاز به جهت قرب به‏فرهنگ جاهلى،قالب شعر حفظ شده بود،بدین ترتیب كه شاعر پس از مقدمه‏اى درباره‏معشوق و هجران و بى‏وفایى او(نام مقدمه‏«نسیب‏»بود)،به وصف اشتر خود مى‏پردازد وقدرت و نرم بدنى و توان او را در تحمل خستگى و گرما مى‏ستاید،سپس به موضوع‏اصلى مى‏رسد كه همانا مدح حضرت رسول اكرم(ص)است ولى به تدریج این گونه‏مقدمه‏ها(یعنى نسیب و وصف اشتر)جاى خویش را به مقدمه‏اى در وصف خدا و اسماء وصفات او مى‏دهد و همین طور در مدح انبیاء و اولیاء و صدیقین،و سپس به موضوع‏قصیده مى‏پردازد.در صورتى كه شعر كوتاه باشد وصف خدا و اولیاى خدا و قدسیان درابیات مختلف بیان مى‏شود. به هر حال با امویان بى‏دینى رواج پیدا مى‏كند و شعر نیز نمى‏تواند از این وضع مبراباشد.گرچه در حوزه علوم و معارف هنوز یونانیت و كل مطلق یونانى سراغ مسلمین‏نیامده بود،اما گرایش به لذایذ این جهانى و فراموشى معاد و گاه چون شیطان انكار احكام‏الهى كردن،به جهت غلبه حضور و حیات انضمامى در هنر،به نمایش در مى‏آید.نخستین‏شاعران نیست انگار تمدن اسلامى از جمله‏«الحطیئة‏»كه به زشتى ظاهر و باطن مشهوربودند در این دوره قدرت گرفتند.حطیئة شاعرى نیست انگار بود كه زن و فرزند و حتى‏مادر و شخص خویش را آماج هجویات خود قرار داده بود.او از این طریق به گذران‏زندگى مى‏پرداخت.در حالى كه در حوزه علمى شیعه بر كنار از جامعه سیاسى-و برخى‏از جماعت پارسایان اهل سنت-طى قرن اول و اوایل قرن دوم هنوز قرآن حاكم مطلق است و حتى مذاهب فقهى رسمى چهارگانه اهل سنت و مباحث علوم شرعى شكل منظم‏و مدونى نیافته بود. جارى شدن سیل ثروتها به دمشق و انتقال بخشى از آن به مكه و مدینه،همراه با ضعف‏ایمان موجب مى‏شد موسیقى و شراب و آواز و شهوترانى در عصر اموى روز به روزافزایش یابد.در این زمان زندگى شهوانى شهرى نوعى‏«غزل‏»را پدید آورد كه در واقع‏صورت مبتذلى از عشق تراژیك بدوى نظیر عشق لیلى و مجنون بود (10) .در اینجا دیگرغزل شعر عاشقانه عمیق كه بعدها سر مشق صوفیه قرار گرفته و صورت عشق حقیقى نه‏عشق مجازى پیدا كرد،نبود-با این خصوصیات كه عشق مجازى پلى براى عشق حقیقى‏است: المجاز قنطره الحقیقه.چنانچه در غزلها و اشعار حكیمانه و عرفانى به ظهورپیوست، بلكه شاعر اموى دیگر از هیچ سخنى زبان در نمى‏كشید،دقایق ناگفتنى عشق‏شهوانى، ظرافتهاى زنانه و سخنان گستاخانه شرم انگیز همه را به زبان مى‏آورد و در این‏وضع حتى در باب زنان خلفا و امیران نیز«نسیب‏»سروده مى‏شد (11) .خطبه و خطیبان‏به جهت‏خاص تا این حد آلوده نشده و تا حدودى سلامت‏خویش را حفظ كرده بودند، كه‏علت اصلى آن عبارت بود از بار دینى فعالیتهاى رسمى اجتماعى و دعوت به اسلام كه درمضامین خطب وجود داشت.احتجاجات و تعرضات سیاسى در رسالات (12) این عصرحضورى جدى داشت.قصاص یا قصه گویان نیز در عصر اموى در عرصه هنر اسلامى‏ظاهر شدند.آنان تمایل مردم را به عجایب و غرایب بر مى‏انگیختند و اوصاف و اعمالى ازبراى خداوند متعال نقل مى‏كردند.این دوران را باید رونق اسرائیلیات و اساطیر و امانى‏نیز نامید كه بعدا در تفسیر قرآن تاثیر نهاد. پس از طى دوره اموى با آمدن عباسیان وجوه ذوقى تجربیات اسلامى ایرانیان در هنراسلامى غلبه كرد.در حقیقت این وجوه بالذات و بالعرض منحل در كلیت اسلام شده بود. گرچه خلفاى اولیه عباسى ظاهرا در امور دینى سخت‏گیر بودند،اما پس از هارون، سیاست‏باز اباحیت را پیش گرفته،امور دینى را تا حدودى آزاد گذاشتند.اینان اهل‏تسامح و تساهل درامر دین بودند.هر دین و عقیدتى(ملل و نحل مشرك)را آزاد گذاشته‏بودند.اما این آزادى مستلزم استبداد علیه پارسایان اهل سنت و شیعه علوى(یعنى اهل‏اسلام حقیقى)و بعضى ملل و نحل بود.شخصى چون مامون از یك طرف دار الحكمه(اغلب حكمت و عقل آزاد از وحى-یعنى حكمت فلسفى)را تاسیس و از طرف دیگرمنشا پیدایى دوره محنت(شكنجه تفتیش عقاید)در اسلام گردید،تا بازور و شكنجه‏عقیده معتزلیان را مبتنى بر مخلوق بودن قرآن بر همه تحمیل كند. به هر تقدیر عباسیان تا دوران متوكل،سیاست تسامح و تساهل را نسبت‏به اصحاب‏عقاید و ادیان جز شیعه علوى و پارسایان اتخاذ كرده بودند و این گروه تا آنجا كه اهل هنرو صنایع و ثروت بودند،مورد تعرض قرار نمى‏گرفتند و هم اینان بودند كه تخم زندقه‏دوره مامون به بعد را پاشیدند-مراد از زندیقان همان آزادندیشان از دین، غیر ملتزم به‏وحى آسمانى با اخلاق اباحیت و فساد عقیده یعنى مانویان و دهرى مذهبان بودند. در چنین شرایط و اوضاعى گروهى از شاعران زندقه زده و زندیق ظهور كردند كه‏علاوه بر طرح مسائل فلسفى دنباله‏رو سنن شعرى امویان بودند.اینان دامنه اشعارى را كه‏در باب شراب و لاابالى‏گرى بود وسعت دادند و مضامینى جدید از قبیل باغ و بستان ودیگر مضامین را در شعر وارد كردند و متاثر از حكمت‏یونانى بدان عمق ملحدانه‏بخشیدند.در قرن اول از خلافت‏بنى‏عباس معاشقه با غلامان و استعمال مسكر شیوع پیداكرده و به دیگر اقوام از جمله ایرانیان نفوذ كرده بود.به طورى كه شاعرانى نظیر«رودكى‏»و«ابو شعیب صالح بن محمد هروى‏»از شعراى زمان سامانیان در همین موضوعات‏اشعارى ساخته‏اند (13) .رودكى مى‏گوید: مى، آرد شرف مردمى پدید آزاده‏تر از درم خرید مى‏آزاد پدید آرد از بد اصل فراوان هنر است اندرین نبیذ در پایان دوره اموى شاعران مقدمه عاشقانه قصاید( نسیب)را كه به طور اجبار برهمه اشعار غالب بود گسترش دادند و آن را مستقل كردند و به صورت غزل در آوردند كه‏مذكور افتاد.گروهى از شاعران در دوره عباسى نسیب را به باد مسخره گرفتند و درمضامین شعرى،نیز تحولاتى پدید آوردند و فلسفه شكاكیت و ملامتیه(كلبى مذهبان) وزهد و حكمت اشراقى و تمایلات عمیق دینى باطنى در كنار موضوعات قدیم عاشقانه وتغزلى را هرچه بیشتر وارد شعر كردند.سركردگان هنر و شعر نیست انگارانه این عصر دوتن بودند:«ابونواس‏»در شعر طرب و«ابو العتاهیه‏»در شعر حكمى و یكى دیگر كه درمراتب بعد قرار مى‏گیرد«بشار بن برد»است كه از شاعران مشهور زندیق عصر بود و بارهااز سوى اهل دیانت طرد و تبعید شد،كه بدان اشاره داشتیم،«ابو نواس‏»شاعرى از شاعران‏لا ابالى بود.وى كه بارها به زندقه متهم شد،اشعارى در خمریات و زهدیات(دو نوع شعراز لحاظ مضمون)دارد.«ابو العتاهیه‏»شاعر حكمى در اثر كثرت سخن درباره مرگ،رستاخیز و قضاوت روز آخرت را انكار كرد،از این رو اهل دیانت او را نیز به زندقه متهم‏كردند.او با سرودن زهدیات تحولى جدید از حیث مضامین در شعر عرب ایجاد كرد.دراین اشعار«ابو العتاهیه‏»به سست پایگى و پوچى مال دنیا اشاره مى‏كند و از مرگ وگورستان و كالبدها و استخوانهایى كه در آن نهفته است و یا از تلخى تعلق آدمیزاد به‏خاك سخن مى‏راند.از شاعران دیگرى كه مشهور به شاعران حكمى(محدثین)اندمى‏توان‏«ابو العلا معرى‏»و«شریف رضى‏»را در دو جریان مخالف نام برد كه نكات‏فلسفى یا حكمى را در زمان انتقال فلسفه و كلام و علوم یونانى در اشعارشان واردكرده‏اند (14) . رعبى كه اهل ظاهر سنت و حدیث پس از دوران متوكل و بعد تركان در مقابله با علوم‏و فرهنگ یونانى و ترویج علوم شرعى ایجاد كردند به همراه شكست‏شرك و زندقه جلى‏در شعر و نثر نیز مؤثر بود تا آنجا كه اشعار هر چه بیشتر صبغه دینى یافتند.با رواج فلسفه،كلام و تصوف به تدریج‏بسیارى از مضامین و مواد اشعار خمریات و زهدیات كه‏در حقیقت هر دو صورتى دنیوى داشتند در مقام حقیقى گذشت از عالم طبیعت و كثرات وحكمت‏یونانى اخذ مى‏شود،و صورت دینى و عرفانى پیدا مى‏كند.بى‏تردید ورود فلسفه‏یونانى توانست‏به نحوى محرك متفكران اسلامى در بسط هنر دینى باشد.فلسفه یونانى‏به مثابه ماده براى صورت نوعى اسلام قرار گرفت.عرفان و پیدایى غزل عرفانى شعردینى را مستقر ساخت و تجربه دینى در عرصه هنر را به سنت محكمى تبدیل و مستقرنمود. پى‏نوشت‏ها: 1) ابو الفتح رازى بعد از ذكر بعضى مؤیدات دال بر حسن شعرى كه درباره امور دینى باشد،گفته:«درخبر است كه چون دعبل على خزاعى قصیده‏اى بر حضرت رضا علیه السلام خواند كه در مدح اوگفته بود،امام فرمود: مدارس آیات خلت من تلاوة و منزل وحى مقفر العرصات چون به ذكر صاحب الزمان عجل الله فرجه رسید،آنجا گفت: خروج امام لا محالة خارج یقوم على اسم الله و البركات امام فرمود«نفث‏بها روح القدس على لسانك‏»یعنى روح القدس این بیت را بر زبان تو جارى كرد. رجوع شود به تفسیر ابو الفتوح،جلد 4،ص 144 و تفسیر گازر،ابو المحاسن جرجانى، ج‏7،ص‏107. 2) نهج البلاغه،خطبه 191. 3) مقام روح القدس هم مقام جبرئیل امین است هم مقام كمال ارتقاء روح انسانى به نحوى كه اتحادنورى میان روح آدمى و روح فرشته وحى حاصل شود. 4) هل انبئكم على من تنزل الشیاطین تنزیل على كل افاك اثیم،یلقون السمع و اكثرهم كاذبون،والشعراء یتبهم الغاوون الم تر انهم فى كل واد یهمون،و انهم یقولون ما لا یفعلون،الا الذین آمنوا وعملوا الصالحات و ذكر الله كثیر(سوره شعرا آیات‏226-224). 5) نام شاعرانى است كه چندى در عصر جاهلى و سپس در اسلام زیسته‏اند و به زبانى مى‏توان این‏شاعران را«دو ساحتى‏»خواند. 6) سر انجام حسان بن ثابت از ولایت و ولایت على روى برگرداند و پشت‏به حق و حقیقت نمود. 7) بیتى از این قصیده چنین است: ان الرسول لسیف یستضاء به مهند من سیف الله مسلول «پیامبر شمشیرى است هندى و آخته از شمشیرهاى خدا كه بر آن روشنایى طلبند». 8) غلبه حالت جهاد اصغر در صدر اسلام و اهمیت آن جهت فروپاشى نظام شرك جاهلى كهن اقتضاءمى‏كرد كه پیامبر(ص)نیز بر این گونه شعر تاكید ورزد.سایر صور شعرى از جمله اشعار حماسى وتراژیك یا اشعار عاشقانه و تغزلى چندان مورد توجه نبود. زمانى كه شعر«حسان‏»مورد ستایش‏قرار مى‏گرفت همواره از وارد شدن بلاى عظیم بر سر مشركین سخن به میان مى‏آمده است كه خودبیانگر روح جهادى(جهاد اصغر)شعر است. 9) تاریخ تمدن اسلام،جرجى زیدان،ترجمه جواهر كلام،صفحه 55. 10) ممیزه غزل بدوى،پاكى شدید احساسات و آراستگى زیباى بیان است.شاعران این نحله را شاعران‏عذرى مى‏نامند.این نام از نام قبیله بنى عذره كه در حجاز مى‏زیستند اقتباس شده است.گویندشهرت بنى عذره از صداقت و خلوشان در عشق برخاسته.نیز گویند:چون عاشق شوند از عشق‏بمیرند،یعنى سبب مرگ ایشان خود عشق است،نه دست‏یافتن به معشوق.این معنى،بعدا گسترش‏یافت،عامل گسترش آن نیز بیشتر صوفیه بودند كه هر یك، دقایق مورد بحثى بر آن افزودند ونظریه وحدت عشق در كنار نظریات‏«وحدت وجود»و«وحدت شهود»حضورى جدى داشت. عذرى نامى بود كه بر هر عشق پاك و صادقانه‏اى اطلاق مى‏شد.قیس بن ملوح اساطیرى(مجنون‏عاشق لیلى)از همین قبیله عشاق بوده است كه نمونه ازلى شاعران عاشق است.كثیر عاشق عزه وشیعه على(ع)از جمله عشاق شاعر بوده است.تاسف بار اینكه در برابر غزل شكوهمند و ساده‏روستایى،شهرنشینان مدینة الرسول و مكه مكرمه على رغم علو مقام این اماكن مقدس و حرمین‏شریفین در پرستش عیش و عشرت و هوى و هوس گوى سبقت از همه ربوده بودند.موسیقى وشراب و آواز و شهوات در این دو شهر رواج یافته بود. عمر بن ابى ربیعه از نمونه‏هاى اصلى این‏جماعت(دون ژوانهاى اموى)حسانى اشرافى بود درباره او رجوع شود به آذرنوش،«نگاهى به‏اجتماع اشرافى حجاز»، مجله مقالات و بررسیها،شماره 5-6،1350،ص 141،شماره‏6-7،سال‏1350،ص 121. 11) تاریخ ادبیان عرب،ص 80. 12) «رسائل‏»نوشته‏هاى خطیبانى بوده كه به صورت خطبه یا موعظه‏اى مكتوب تالیف یافته است. حاوى تفكرات اخلاقى و كلمات دینى مهیج،یا اندرزهاى خردمندانه كه بزرگان جهان خطاب به‏دوستان خود مى‏گفته‏اند. 13) تاریخ ادبیات ایران،جلال الدین همائى،فروغى،بى‏تاریخ،ص ص 272-273. 14) ابو تمام شاعر قرن سومى نیز در این زمان با تاثیر پذیرى از عقل و تفكرات فلسفى و علم النفس‏یونانى ابداعاتى در شعر حكمى داشته است.


+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:3|
الأورفیة والشعر العربی المعاصر.. التفاتة العاشق
اورفیوس مطمئن بعودته الی عالم الأموات

حسب الله یحیی
تشكل الاساطیر مرجعا اساسیا فی الكثیر من الاعمال الابداعیة العربیة منها والاجنبیة، كما اصبحت هذه المرجعیة دالة واضحة علی خصب وعمق وابعاد ورموز النصوص الابداعیة.
وقد توجه علی الشرع نحو دراسة: (الاورفیة والشعر العربی المعاصر)(1) بهدف الوصول الی العلاقة الحمیمة بین الاسطورة بوصفها مرجعا والتجربة الابداعیة المعاصرة.
وتوقف د.الشرع عند اسطورة (اورفیوس) الاغریقیة التی تتحدث عن: اورفیوس بطل تراقیا المختلف عن غیره من ابطال الاغریق، اذ لم یشتهر لمآثره الحربیة، بل اشتهر قبل كل شیء بموهبته الموسیقیة المدهشة..
بحیث ان الوحوش الكاسرة كانت تأتی لتستمع الیه، وحتی ان الاشجار كانت تتبعه.. (2) وقد احب اورفیس الحوریة یوریدیسی وتزوجها..
وقد لاحقها اریستایوس، وعند هروبها منه، لدغتها حیة كانت بین الحشائش ماتت یوریدیسی ونزلت الی العالم السفلی، فلحق بها اورفیوس، وتمكن من اقناع هیریدیس وبیرسفونی باعادة الحیاة الی زوجته، بشرط واحد یقضی بان لایلتفت الیها فی طریق رحلته. وعند ابواب هیدیس، اراد اورفیوس الاطمئنان علی وجود یوریدیسی خلفه.. فوجئ بعودتها الی عالم الموت..
وتذكر الاسطورة ان اورفیوس لم یحتمل فراق یوریدیسی فانتحر، وهناك من یشیر الی اسطورة تتعلق بنهایته وهی انتقام نساء تراقیا منه وتمزیقه بسبب حبه. ورمی قیثارته ورأسه فی نهر هیبروس.. وان رأسه حشر عند صخرة واصبح مصدر وحی وبقیت قیثارته فی معبد بلیبوس ویعد لمسه تدنیا.. وقد حاول نینتوس بن لوسیان/ طاغیة لیبسبوس لمس القیثارة، فالتهمته الكلاب التی كانت تطرب لموسیقی اورفیوس، وقیل ان رأس اورفیوس قد دفن ووضع فی ضریح بمقدونیا..
هذه هی جذور الاسطورة ومحورها.. وهی علی وفق هذه الصورة یمكن ان تعد نبعا وارضا خصبة لعدد كبیر من النصوص الابداعیة.
وفی الوقت الذی یحدد فیه د. الشرع نظرته الی ظاهرة الاورفیة من خلال الشعر العربی المعاصر، نجده یدرس وبشیء من التفصیل مسرحیة (هبوط اورفیوس) لتنیسی ولیامز، مثلما یشیر الی قصائد ریكله وسواه عن اورفیوس.
وكان من الممكن الاشارة الی ذلك، والانتقال الی تفاصیل قصائد: السیاب، ادونیس، البیاتی وكیف تناولت اسطورة اورفیوس..
ومنذ الصفحات الاولی للكاتب یشیر المؤلف الی ان الشاعر الرومانی فرجیل (70ق.م ــ 19ق.م) كان اول من توقف عند هذه الاسطورة، وكذلك الشاعر الرومانی اوفد (43ق.م ــ 17ق.م).
ومن الادباء العرب وظف الاسطورة كل من: العقاد، احمد زكی ابو شادی.. بعدئذ ینتقل الشرع للتعریف بالاسطورة، وكان یفترض ان یسبق هذا التعریف.. التمهید السابق لیتسنی للمتلقی معرفة محور الاسطورة اولا.
ولایختلف التعریف الذی اوردناه والمأخوذ عن (معجم الاساطیر) عن التفاصیل التی اوردها د.الشرع الا فی توضیح الجوانب الاخری من هذه الاسطورة.. حیث اشار الی ان (معاناة یوریدیسی للموت للمرة الثانیة، هی التی هزت وجدان اورفیوس وجعلته یتحجر هلعا مثل الرجل الذی هالته رؤیة كلب الموت سوبروس).
وهذا التشبیه یبدو متواضعا، لان المشبه به اضعف من المشبه (الانسان) الاصل، بینما المشبه به كلب! كذلك لیس بوسع المرء التفكیر بمعاناة من فقد الحیاة بل معاناة من یواجه الحیاة وبوصفه حیا یعانی، ولیس میتا یمكننا الاحساس بمعاناته.. ذلك ان الموت سكون ازلی من الاحاسیس.
اما احجام اورفیوس (عن المساهمة فی خلق الحیاة. وذلك بامتناعه عن معاشرة النساء مجددا لیتجنب حتمیة التناسل والتوالد) فانه رد فعل لحیاة فیاضة بالمشاعر العمیقة جسدها حب اورفیوس لیوریدیسی، ولیس الهدف هو الانجاب منها حیث لم یكن هناك ما یشیر فی الاسطورة الی ذلك.. ذلك ان علاقة الحب النبیل والصمیمی اكثر عمقا وادل معنی واكثر خصبا من عملیة التناسل التی یمكن ان تقوم مع ایة امرأة...
ان عزوفه عن النساء مجددا، وانشغال كلی بحب عمیق، لایوفر له الرغبة فی الانصراف للانجاب من ایة امرأة اخری، ولاحتی التفكیر بوجودها فی ذهنه.. وهذا هو السبب الذی جعل نساء تراقیا منه.. فهن لم یقصدنه بهدف التناسل فهذا ممكن مع أی رجل، وانما اردن قتل الوفاء عنده وقد فشلن.
ویتوجه. الشرع الی تنیسی ولیامز، مشیرا الی ان الاصل فی مسرحیته (هبوط اورفیوس) قصیدة بكر له ولیس لمسرحیة جاءت متأخرة.
كما یری ان ولیامز واجه سؤالا وجودیا وازلیا یقول: (ما جدوی الحیاة ازاء خطر الموت الدائم؟ ولعله احس منذ وقت مبكر ان المثل الانسانیة وقیمها، وما یتجسد عنها من مؤسسات تنطوی علی خلل جوهری من بعض جوانبه اهمال شأن الفرد واحتقار همومه الخاصة، الامر الذی یدفعه لیعیش متحصنا داخل ذاته اذا اراد ان یعیش بحدود براءته وعفویته الطبیعیة).
غیر اننا ندرك جیدا ان فلسفة الموت، تجعلنا ننصرف كلیا عن شؤون الحیاة ونزهد بكل مغریاتها.. اما الانصراف الی الذات فهو شأن مرضی او سلوك عرضی او التوحید كلیا مع دلالة الموت وحتمیته..
ومثل هذا.. عام شامل، وعلاقته باسطورة اورفیوس جانبی وجزئی..
وفی انتقال الباحث لدراسة الاورفیة فی شعر السیاب، یؤكد د.الشرع ان السیاب: (تنبه فی وقت مبكر الی قیمة الاسطورة، باعتبارها (بوصفها) اداة مهمة من ادوات التعبیر عن التجربة الشعریة الحدیثة، وربما كان بحق المروض الاول لها فی شعرنا العربی المعاصر).
الا ان ورود كلمة (ربما) تجعلنا نشك بالجزم اللاحق الذی اورده الباحث.. والكثیر من النصوص التی جاء بها لاتشیر الی علاقتها بالاسطورة مثل:
(
اعصر لنا من مقلتیك الضیاء/ فأننا مظلمون!).
او:(صرخت فی الشتاء/ اقض یا مطر/ مضاجع العظام والثلوج والهباء/ مضاجع الحجر..).
كذلك لاتوجد علاقة بین اسطورة (تنتالوس) الذی عوقب بحرمانه من الماء والطعام مع وجودهما الی جانبه بسبب افشائه اسرار الالهة، واسطورة (اورفیوس) الفنان العاشق الذی دمره عشقه.
وبالتالی لم تكن هناك ضرورة لتقدیم مقطع من قصیدة السیاب تستجیب للاسطورة الاولی.. فی حین نجد ثمة توافقا للموت بین یوریدیسی ووفیقة فی قصیدة السیاب (اطلی فشباكك الازرق/ سماء تجوع/ تبینته من خلال الدموع/ كأنی بی ارتجف الزورق).
ویری الباحث ان ثمة توافقا فی الصورة عند اورفیوس ادونیس، اورفیوس افید: (عاشق فقد عشیقته فراح یبحث عنها فی عالم الموت لیسترجعها) (عاشق اتدحرج فی عتمات الطرق/ حجرا غیر انی اضیء/ ان لی موعدا مع الكاهنات/ فی سریر الاله القدیم/ كلماتی تهز الریاح/ وغنائی شرار/ اننی لغة لاله یجیء/ اننی ساحر الغبار).
وهذا النموذج الادونیسی، كان بحاجة الی نموذج یماثله لاوفید لیتسنی لنا المقارنة ومعرفة اوجه الشبه بین الصورتین كما كان الباحث قد اعلن من قبل.. لا ان یقدم لنا صورة لاوفید لاتمت بصلة لما قدمه ادونیس مثل:
(
هكذا غنی اورفیوس/ تتبعه الوحوش الضاریة/ والصخور والاشجار تتبعه مسحورة وحالا صوبت نحو فم اورفیوس رمحا/ لكن الرمح لم یخلف اثرا/ وصوبت اخری حجراً لكن الحجر اخذ بموسیقی/ اورفیوس فحط عند قدمیه وكانه یسأله العفو).
ان اوفید هنا یقص یسرد، اكثر منه مصورا فی حین نجد ادونیس یجیء بالصور وان استخدم بعض مفردات اوفید.. الا ان هذا الامر لایجعلهما فی حالة تشابه.
وفی الفصل نفسه والذی یتحدث فیه عن ادونیس یجیء بسوناتة ریلكه.
(
لاتقم نصبا تذكاریا له/ دع الوردة تزهو كل عام من اجله/ ذلك لانه اورفیوس فی تحولاته فی هذا وهذا) دون مقارنته بشعر ادونیس!
ینتقل الباحث فی فصل اخیر عن البیاتی وظاهرة الاورفیة فی شعره.
یقول البیاتی:
(
من هنا انزلها الحفار/ للقبر وهی ثیاب العرس../ اجر خلفی سنوات حبها كذیل ثوب/ فاقع طویل/ طرقت باب العالم السفلی مرتین/ فمد لی حارسها یدین/ وقال لی: من این؟/ قلت: انر لی هذه السهوب/ فاللیل فی الدروب/ قال: وكانت یده تعبث المكتوب/ لیقرأ المحجوب/ عائشة لیست هنا، لیس هنا احد ویورد الباحث تفسیر الناقد العراقی الراحل د.محسن اطیمش الذی یقرن القصب باسطورة هبوط عشتار.. بینما یری د.الشرع ان الصوت الشعری فی قصیدة البیاتی (لاوفیوس الذكر ولیس صوت عشتار الانثی) وقد نجد فی هذا الرأی قدرا من الصواب، الا اننا فی الشعر والابداع عموما، نجرد الواقع من التزام المنطقیة وصوره التقلیدیة واصواته العادیة، ونسعی لتقدیم الصوت المجرد الذی نرتئیه الصورة الشعریة التی قد لا تكون منطقیة وغیر مألوفة ویعزز الباحث رأیه بالاشارة الی ان الناقد طراد الكبیسی كان: من اول الدراسین الذین ذكروا اسطورة اورفیوس فی معرص الحدیث عن الجو الاسطوری فی شعر البیاتی، وذلك فی كتابه: مقالة فی الاساطیر فی شعر عبد الوهاب البیاتی وهذا یعنی ان هناك من سبق الباحث فی دراسة الاورفیة عند البیاتی.. فما جدوی اعادة دراستها من جدید!؟
بل نجد د.الشرع یورد قصیدة للبیاتی مشیرا الی انها (اول توظیف لاسطورة اورفیوس فی شعر البیاتی) ونحن لانعتقد بوجود علاقة للقصیدة بالاورفیة.
یقول البیاتی:
الملایین التی تكدح، لا تحلم فی موت فراشة/ وباحزان البنفسج/ او شراع یتوهج/ تحت ضوء القمر الاخضر فی لیل صیف/ او غرامیات مجنون بطیف/ الملایین التی تكدح/تعری /تتمزق/الملایین التی تصنع للحالم زورقاً /الملایین التی تصنع مندیلاً لمغرم/تتغنی/تتألم / فی زوایا الارض، فی مصنع صلب او منجم/ انها تمضع قرص الشمس من موت محتم. فهل نعد مثل هذه القصیدة البیاتیة اورفیة، وهل كل ما یشیر الی الموت او العزاء او العشق .. اورفی بالضرورة..؟
وهل یعنی نداء البیاتی: (فالحب یاملیكتی مغامرة/ یخسر فیها رأسه المهزوم).
انه یمثل: تخاذل اورفیوس المهزوم الذی لم یقو علی دفع غرامة الحب كما یقول د. الشرع؟
نعم .. هنا حضور واضح لاورفیة البیاتی:
فی سنوات الغربة والترحال/ كبرت یاخیام/ وكبرت من حولك الغابة شعرك شاب والتجاعید علی وجهك والاحلام/ ماتت علی سور اللیالی مات (اورفیوس).
ونحن لا نؤكد هذا الحضور لأن البیاتی اشار الی اورفیوس تحدیدا، ولكن انفاس وصور القصیدة كانت دالة علی حضور اورفیوس فی قلب القصیدة.
كما ان اشارة الباحث كون: (عائشة تمثل فی آن واحد كلاً من یوردیسی (عشیقة اورفیوس) وعشتار (زوجة تموز) ولكن معظم الوصف المسند الی عائشة یمثل شخصیة یوریدیسی، وخاصة اذا تذكرنا ان عشتار الاسطورة كانت الباحثة عن زوجها تموز فی العالم السفلی. ولم تكن هی المطلوبة كما هو حال یوریدیسی..
واذا كنا قد اتفقنا مع الباحث فی الجانب من طبیعة التفاعل بین عشتار ویوریدیسی وانهما یمكن ان یتشكلا معا فی صورة عائشة، فاننا نختلف فی استقبال مسألة البحث عن الحبیب سواء كان الامر یتعلق بالرجل ام بالمرأة، وذلك انهما كل مشترك فی حب اثیر.. الی جانب ان الشعر یستلهم الواقع ولكن لیس بالضرورة ان یتولی نقله كما هو.. فتلك مهمة توثیقیة فوتوغرافیة ولیست شعریة.
وكان بودنا ان یفید الباحث من المعلومة التی اوردها فی كتابه هذا ص34 والمتعلقة برغبة تنیسی ولیامز فی العودة الی مسرحیته (هبوط اورفیوس): (بسبب رغبته فی تنقیح اعماله قبل ان تصل الی نقاد المسرح.. مع انه من الممكن تفسیر هذا الالحاح بسبب رغبة ولیامز فی بلورة افكاره ازاء هذه الموضوعات الشائكة..).
وفی المنطلقین یمكن للاستاذ الدكتور علی الشرع ان یقدم كتابه الرصین (الاورفیة والشعر العربی المعاصر) والذی یمكن لنا ان نعده مشروعا بكرا ویخرج منه بنتائج محمودة جدیرة بالبقاء والمرجعیة التی نحتاج الیها دائما، فی دراسة معمقة كالتی قدمها لنا د.الشرع وهو یقدم لنا اثر اسطورة حیة فی شعرنا العربی المعاصر.

الهوامش:
1.
الاورفیة والشعر العربی المعاصر/ تألیف:أ.د.علی الشرع/ منشورات وزارة الثقافة/ عمان.
2.
معجم الاساطیر/ لطفی الخوری/ج1/ ص 80 ــ 81/ منشورات دار الشؤون الثقافیة العامة/ بغداد
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:2|

برخی از نکات حائز اهمیت در ترجمه از فارسی به عربی و با لعکس 

 

ترجمه : « ترجَمَة » در لغت بر وزن « فَعلَلَة » مصدر رباعى مجرد از ماده ى تَرجَمَ/یُترجِم/ترجَمة و به معناى برگرداندن کلام از زبانى به زبانى دپگر می باشد. ترجمه دراصطلاح عبارت است از یافتن نزدیکترین و دقیق ترین معادل براى واژگان زبان مبدأ به گونه اى که روش وسبک و سیاق گوینده حفظ گردد. 

انواع ترجمه: 



- ترجمه واژه به واژه یا تحت اللفظی:که اغلب از نظر ساختار دستوری متأثّر از زبان مبدأ می باشد و در پاره ای از موارد گنگ و رمز ناگشوده است . 

فواید ترجمه تحت اللفظی :1- اهداف آموزشی (تدریس برای مبتدیان) 

2- ترجمه اسناد رسمی ،مدارک تحصیلی وغیره 

3- ترجمه متون دینی که مراعات امانت درآن اهمیّت دارد. 

4- ترجمه نامه های اداری و متون خبری .


2- ترجمه دقیق و روان : مترجم علاوه بر ترجمه الفاظ به عبارات معنی و مفهوم می بخشد . بدین معنا که اگر در جمله 

 

کنایه ، ضرب المثل ، استعاره و ... بکار رفته باشد وآنرا به زبانی قابل فهم برمی گرداند و مراعات امانت نیز می کند . 

 

آنچه مترجم باید بداند : 

1-آشنایی با موضوع مورد ترجمه  

2- آشنایی با اصطلاحات زبان مبدأ و مقصد 

3-مراعات نگارش دستوری زبان مقصد  

  4 - مراعات امانت وپرهیز از هرگونه دخل وتصرف 

5-استفاده از لغت نامه مناسب وپرهیزازاعتماد برحافظه  

6-استفاده از واژگان مأنوس در ترجمه 

   

اسمهای مشترک درفارسی وعربی : 

   

زبان عربی علاوه برخط ونگارش ارتباط بسیار نزدیکی با فارسی دارد از این رو بسیار اتفاق می افتد که واژگان فارسی وعربی با یک لفظ نوشته می شوند اما این بدان معنا نیست که هر دو واژه ازنظر معنایی مشابه یکدیگر باشند. در چنین حالتی مترجم باید نهایت دقت خود را مبذول دارد تا در انتقال معنا دچار مشکل نشود.به عنوان مثال کلمات «مخابرات،زبون،حوصله،صورت،میمون،رسوم، مجتمع، ملت، برق و...»در عربی وفارسی دارای معنایی متفاوتی می باشند. 

 

زمانها : 

1- ماضی ساده یا مطلق :الف: مثبت: فعل ماضی ساده در زبان عربی مانند :ذَهَبَ(رفت) ،کَتَبَ (نوشت) 

ب) منفی : ما + فعل ماضی/ لم +فعل مضارع (کاربرد بیشتری دارد)مانند:ما ذهب علیٌ/لم یذهب علیٌ (علی نرفت) 

2-ماضی نقلی :الف) مثبت: قد+فعل ماضی ، /قلّما/طالما/کَثُرَما+فعل ماضی. 

قد ذهبَ ( رفته است ) قلّما دخلَ فی الغَپبوبةِ (کمتر بیهوش بوده است) کَثُرما عُدتُ إلی نفسی (فراوان به خودم آمده ام) 

ب)منفی:ماضی منفی +بَعدُ/ لماّ+فعل مضارع/ لم +فعل مضارع +بَعدُ 

قد ذهبَ.(رفته است) ما ذَهبَ بعدُ /لّما یذهَبْ/لم یذهَبْ بعدُ ( هنوز نرفته است) 

3-ماضی استمراری : الف مثبت: کان + فعل مضارع / عاد + فعل مضارع / کان + اسم و خبرش که اسم فاعل باشد. مانند: کان یذهبُ/ عاد یذهبُ /کان ذاهباً ( می رفت ) 

ب) منفی: کان منفی + فعل مضارع / کان + فعل مضارع منفی / کان منفی + اسم و خبرش که اسم فاعل باشد. مانند: ما کانَ یذهبُ/ کانَ لا یذهبُ /ما کان ذاهباً ( نمی رفت ) 

4-ماضی بعید : الف مثبت: کان [+ قد] + فعل ماضی مانند: کنتُ قد ذهبتُ ( رفته بودم) 

ب) منفی : کان منفی + فعل ماضی / کان + فعل ماضی منفی. لم یکن ذهبَ / کان لم یذهبْ (نرفته بود) 

5-ماضی التزامی : الف مثبت:یکون +قد + فعل ماضى مانند : ربّما یکون قد ذهبَ ( شاید رفته باشد) 

ب) منفى) لا یکون + قد + فعل ماضى مانند: لیته لا یکون قد ذهبَ ( اى کاش نرفته باشد) 

6-مضارع اخباری : الف مثبت: 1- فعل مضارع عربى بدون ادوات ناصبه یا جازمه 2- استفاده از اسم فاعل به عنوان خبر در جمله اسمیه. مانند: یذهب علیٌ / علی ذاهبٌ ( على مى رود ) 

ب) منفى) لا / ما / لیس + فعل مضارع.مانند: لا یذهبُ علیٌ / ما یذهب علیٌ / لیس علیٌ یذهبُ.(علی نمی رود) 

7- مضارع التزامی: ربّما + فعل مضارع / لیتَ + اسم + فعل مضاع/ادوات ناصبه (أن/کی/لکی/حتّی) + فعل مضارع/ ادات جازمه به جز لم و لمّا + فعل مضارع: مانند: ربّما یذهبُ (شاید برود)لیته یذهبُ(ای کاش برود)أن یذهبَ(که برود) 

8-مستقبل (خواهد + فعل ): الف مثبت: س / سوف + فعل مضارع مانند: سأذهبُ / سوف أذهبُ(خواهم رفت) 

ب) منفی: لن + فعل مضارع . مانند : لن یذهبَ علیٌ إلی بیتِ صدیقه( علی هرگز به خانه دوستش نخواهد رفت) 

برخی از اسلوبهای کاربردی : 

   

1- به محض اینکه ... (هنوز نه ... که ...) 

الف ) ماضی : 

1):لم یکد ( ما کاد )+ فعل مضارع+ ... + حتى / إذ + فعل ماضى 

2): ما + إنْ + فعل ماضى + ...+ حتى / إذ + فعل ماضى 

3): فعل ماضى منفى ( ما + فعل ماضى / لم + فعل مضارع ) + ... + حتى / إذ + فعل ماضى 

لم أکدْ أدخلُ الصفَ حتّى (إذ) رأیتُ الأستاذَ هناک / ما إنْ دخلتُ الصفَ حتّى (إذ) رأیتُ الأستاذَ هناک / لم أدخل الصفَ حتّى (إذ) رأیتُ الأستاذَ هناک ( به محض اینکه وارد کلاس شدم استاد را آنجا دیدم / هنوز وارد کلاس نشده بودم که استاد را آنجا دیدم ) 

ب) مضارع و آینده : 

1) لا یکاد + فعل مضارع + ... + حتی + فعل مضارع 

2) لا یوشک + فعل مضارع + ...+ حتى + فعل مضارع 

مانند : لا یکاد علی یذهب إلى ذلک المکان حتى یشاهد صدیقه هناک ./ لا یوشک علی یذهب إلى ذلک المکان حتى یشاهد صدیقه هناک .( به محض اینکه على به آن مکان برود دوستش را در آنجا خواهد دید .) 

2- دیگر نه ... 

الف : عاد منفی ( ما عاد / لم یَعُد) + اسم و خبرش( اسم یا فعل) 

ب): عاد + اسم آن + فعل منفى 

ج: أصبح منفی ( ما أصبح / لم یُصبِح ) + اسم و خبرش( اسم یا فعل) 

د: أصبح + اسم آن + فعل منفى 

لم یعُد الشعرُ وسیلةً للتکسّب ( شعر دیگر وسیله ای برای کسب درآمد نبود) لم تُصبحْ هناک دولة رومانیة تُسَیْطر على الشرق کما کانت الحال من قبلُ (دیگر حکومتی رومانی مانند گذشته بر شرق تسلط نداشت) 

3- نزدیک بود که ... 

کاد + اسم و خبر آن ( فعل مضارع ) 

برای اینکه عبارت بر گذشته دلالت کند از کاد( ماضی) و برای اینکه بر مضارع دلالت کند از یکاد (مضارع) استفاده می کنیم. مانند: ﴿کادَ یزیغُ قلوبُ فریقٍ مِنهُم ﴾(توبه/17) (نزدیک بود که دلهاى گروهی از آنها بلغزد) ﴿تکادُ السَّمواتُ یَتفَطَّرن منه﴾(مریم/ 90 )(نزدیک است که آسمان از این گفته زشت از هم فرو ریزد) 

4- گاهی ... 

الف: قد + فعل مضارع مانند : قد یخرج هذا الموظَّف من الکلیة فی ساعات الدَّوام ( گاهی این کارمند در ساعات کاری از دانشکده خارج می شود) 

ب: استفاده از قیدهای من حینٍ إلی حین / أحیاناً / فی بعض الأحیان / بعض الأوقات و... مانند: علیٌ یذهبُ إلی الحدیقة العامة من حینٍ إلی حین ( علی گاهی به پارک می رود ) 

5- تقریباً نه ... 

الف : زمان مضارع : لا یکاد + اسم آن + فعل مضارع 

لا یکاد علیٌ یذهبُ إلی تلک المنطقة ( على تقریباً به آن منطقه نمى رود) 

ب: زمان ماضى : لم یکد + اسم آن + فعل مضارع 

لم یکد ذلک الرجل یعلم شیئاً عن هذا الموضوع ( آن مرد تقریباً چیزى از این موضوع نمى دانست) 

6- دیرى نپائید که ...(فوراً) 

ما لبثَ ( لم یلبثْ) + أنْ + فعل ماضى 

لم یلبث أن شنّ جیش العدو هجوماً شرساً (دیرى نپائید که(فوراً) ارتش دشمن دست به حمله ی وحشیانه ای زد) 

7-ترکیب هاى وصفى اضافى : 

در زبان فارسی گاهی مضاف علاوه بر مضاف الیه (متمّم) دارای صفت نیز می باشد که این صفت میان مضاف و مضاف الیه قرار می گیرد0اما در زبان عربی هیچ چیز بین مضاف و مضاف الیه فاصله نمی اندازد. مانند : گُلِ زیبایِ علی در زبان فارسی که در عربی به صورتِ « گُلِ علیْ زیبا »( وردةُ علیٍ الجمیلةُ ) بیان می شود.

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:1|
لماذا یكتفی الادباء العرب بمعرفة الشیرازی من الادب الایرانی (1-2) - بذور العداء للعرب صاحبت ولادة الادب الفارسی الحدیث - یوسف عزیزی
كانت الفكرة ومنذ سنوات تراودنی كی اكتب عن الادب الفارسی الحدیث، حیث كانت مضمرة فی اللاوعی تبرز حینا الی السطح عندما اقابل ادیبا أوشاعرا عریبا وأساله عن مدی اطلاعه علی هذا الادب واغلبهم ـ للاسف ـ لم یعرفوا عنه شیئا بتاتا.
وقد التقیت فی جولاتی العدیدة فی العواصم العربیة ـ من مسقط الی القاهرة ومن بغداد الی طرابلس ـ بكثیر من المفكرین والادباء العرب، وحین كنت اطرح علیهم سؤالی (ماذا تعرفون عن الادب الایرانی الحدیث) كان رد معظمهم: كل ما نعرفه عن الادب الفارسی هو سعدی الشیرازی وحافظ الشیرازی والخیام.
ولما كنت اشاهد فی هذه الرحلات، الشاهنامه تطبع فی الكویت ودیوان
)حدائق الزهور(لسعدی الشیرازی یتلألأ فی واجهة احدی فنادق لیبیا اوروایة
(كلیدر) لصدیقی الروائی البارز محمود دولت آبادی علی رفوف مكتبات القاهرة كنت أیقن ان الحدود السیاسیة الحاقدة والمصطنعة لم تستطع ان تمنع ـ وبرغم اسیاجها الشائكة والمكهربة ـ انتقال الفكر والفن والادب لانها من جنس النور ولایمكن لأیة حدود وثغور ان تغلق الطریق فی وجه النور الی الابد. وساتطرق الی سبب الانحسار فی التبادل الفكری والادبی بین الشعبین الجارین ـ العرب والایرانیین ـ فی القرن المنصرم ، مع اننی اری الترجمة للكتب الادبیة والفكریة من العربیة الی الفارسیة اكثر من العكس ولوانها أیضا لیست فی المستوی المطلوب.
حضور الابجدیة العربیة
ازدهرت اللغة الفارسیة وترعرعت فی احضان الابجدیة العربیة بعد الفتح الاسلامی لایران وقدمت شعراء ومتصوفین ومفكرین عظاما، خلافا لما قبل الاسلام حیث لم تقدم اللغة البهلویة ـ وهی لغة البلاط عند الاكاسرة ـ أی اسم بارز فی مختلف مجالات المعروفة وخاصة الشعر والادب، وكل ما وصل الینا هواشعار فولكلوریة توصف بالفهلویات.ویبدوان اللغة البهلویة كانت لغة ركیكة وضعیفة لم تنتج ادبا أوثقافة رفیعة وهذا ما یعترف به العدید من المؤرخین الایرانیین. ویمكن ان نقارن تأثیر اللغة العربیة علی اللغة الفارسیة بتأثیر اللغة الرومانیة علی اللغة اللاتینیة. والدارس للادب الفارسی یعرف مدی تأثر شعراء فرس عظام كالرومی والخیام وسعدی وحافظ الشیرازیین وناصر خسرووالعطار والجامی والآخرین بالقرآن والشعر الجاهلی والاموی والعباسی. اذ یذكر المؤرخون الایرانیون ان بعض قصائد سعدی هی انتحال وترجمة حرفیة لبعض قصائد ابوالطیب المتنبی. حتی فردوسی ورغم عنصریته وتجنبه استخدام المفردات العربیة لم یتمكن من الاستغناء عن اللغة العربیة حیث شكلت مفرداتها نحو30 فی المائة من مفردات ملحمة الشاهنامة.
ومنذ القرن الثامن الهجری)14م(أی منذ عهد حافظ الشیرازی ولاسباب تاریخیة شهد الادب الفارسی انحدارا ـ بل وانحطاطا ـ لم ینج منه الا فی الآونة الاخیرة.

اولی ارهاصات الادب الحدیث
یعتبر مؤرخوالادب الفارسی كتاب) منشآت (قائم مقام الفراهانی فی النصف الثانی من القرن التاسع عشر، خطوة اولی لتحدیث النثر الفارسی والانتقال من فترة الانحطاط، حیث كانت لغة الشعر والنثر، مزخرفة مغلقة غامضة ومحشوة بشكل ممل بالكثیر من المفردات العربیة. وكان قائم مقام یحتل منصب مستشار البلاد فی عهد الشاه ناصر الدین القاجاری.
وقد منحت ثورة الدستور الشعبیة)1906-1908 (اندفاعا جدیدا لحركة التحدیث فی جمیع المجالات الفكریة والسیاسیة والادبیة فی ایران.
ولم یتعد التجدید فی شعر هذه الفترة، المضمون حیث ظهر شعراء یتمتعون بلغة سیاسیة صریحة ومثیرة تقرب اشعارهم من الشعار السیاسی بسبب المناخ الثوری السائد انذاك حیث تذكرنا بقصائد محمد مهدی الجواهری. ومن هولاء الشعراء میرزاده عشقی) الذی قتل علی ید ازلام الشاه رضا البهلوی عام 1925 ولاهوتی وعارف القزوینی وفرخی یزدی الذی تم تخییط فمه فی سجون الشاه رضا البهلوی بسبب قصائده المحرضة ضد الشاه ). كما دمج الشاعر والامیر القاجاری ایرج میرزا الغزل والحب المجازی بقدح ابناء زمانه من سیاسیین وغیرهم. وهناك الشاعرة بروین اعتصام وقصائدها العاطفیة ذات الصبغة الانسانیة والمشحونة بالنصائح والحكایات. ولا ننسی الشاعرة والداعیة قرة العین التی قتلت باغراق جسمها فی التیزاب بسبب دورها فی ترویج البهائیة فی عهد الشاه ناصر الدین القاجاری.

التجدید فی الشعر والروایة
بدأت حركة التجدید فی الشعر الفارسی بعد ان تعرف الایرانیون علی الشعر الاوروبی الحدیث حیث تأثر الشعراء الایرانیون بالشاعر البریطانی التحدیثی تی اس الیوت وخاصة رائعته (ارض الیباب) ومن ثم بالشعراء الفرنسیین امثال بودلیر ومالارمیه ورامبو.
ویعتر نیما یوشیج ـ وهومن شمال ایران ـ اول شاعر ایرانی قام بكسر اوزان العروض القدیمة للشعر الفارسی الكلاسیكی والقائم اساسا علی اوزان الخلیل بن احمد الفراهیدی. فقد نشر نیما) المتوفی عام 1959 (اول قصیدة له فی سیاق ما سمی فی ما بعد بالشعر الحدیث (شعر نو) معنونة بكلمة (افسانه) وهی ذات دلالة مزدوجة بالفارسیة تعنی (الاسطورة) وایضا اسم فتاة احبها الشاعر. ویمكن ان نقارن نیما یوشیج ومحاولاته الجادة للتجدید فی الشعر الفارسی والذی لقبه النقاد ب (ابی الشعر الفارسی الحدیث) بجهود بدر شاكر السیاب الذی یعتبره كثیر من النقاد العرب اول شاعر قام بتحدیث الشعر العربی. ولم یخرج أی من الشعراء الفرس من هیمنة نیما یوشیج التحدیثیة حیث اهتدوا علی خطاه مدة مدیدة ما عدا الشاعر احمد شاملو(المتوفی عام 2000 فی طهران) .وقد اختبر احمد شاملو الشعر الحر وایضا قصیدة النثر فی مسیرته الفنیة التی دامت خمسة عقود.
وقد صدر دیوان (افسانه) للشاعر الایرانی نیما یوشیج فی عام 1925 فیما صدرت باكورة اعمال الشاعر العراقی بدر شاكر السیاب فی الاربعینیات من القرن المنصرم، غیر ان العرب كانوا سباقین فی الروایة.
فقد نشر الكاتب المصری محمد حسنین هیكل روایة (زینب) كأول روایة عربیة بالمفهوم الفنی الحدیث فی عام 1913 فی القاهرة فیما صدرت روایة )البومة العمیاء) للكاتب صادق هدایت كاول روایة فارسیة فنیة حدیثة فی الهند عام 1933 بسبب منع الرقابعة التابعة لحكومة الشاه رضا البهلوی من نشرها فی ایران، غیر انها طبعت مرارا بعد سقوطه وهی لا تزال تطبع حیث تعتبر اهم روایة ـ فنیا ـ كتبت حتی الان باللغة الفارسیة وذلك بالرغم من صغر حجمها وصدور روایات عدة بعدها. لذا یری فیها العدید من النقاد حدثا ادبیا مهما فی تاریخ الادب الایرانی المعاصر. وقد ترجمت البومة العمیاء أی (بوف كور) بالفارسیة الی لغات حیة عدة فی العالم منها اللغة العربیة. ونشاهد اسمها مرارا علی قائمة منشورات دور النشر العربیة. ولا یعتبر بعض النقاد، البومة العمیاء ـ الذی أثرت علی الاجیال المتعاقبة من الكتاب الایرانیین ـ روایة بل یؤكدون بانها قصة طویلة اذ قورنت بروایات أخری لروائیین ایرانیین وعالمیین.
ونشر هدایت ـ الذی انتحر فی عام 1951 فی باریس ـ قصصا قصیرة عدة وثمة روایات أخری منها (حجی آغا) و(وفی القبر حیا) و(الكلب السائب) و(بروین بنت ساسان) و(مازیار) وبحوث حول الادب والفلكلور الفارسیین مثل (أغانی خیام) وترجمات من فرانز كافكا. وكان هدایت متشائما فی طبعه وقومیا فارسیا فی فكره وسریالیا فی أهم آثاره. فهذا الناشئ من اوساط طبقة النجباء الایرانیین، مزج تلك الخصال الثلاث فی رائعته الفنیة )البومة العمیاء)، غیر ان الروایة ـ وبرغم فنیتها ـ لاتتخلص نهائیا عن ایدیولوجیته ونظرته القومیة المتشددة. ونشاهد نظرته المعادیة للسامیة وخاصة العرب والاسلام بشكلها الجلی فی قصصه وبحوثه وتراجمه عن الكتاب الاوروبیین. وسوف اشح هذا الموضوع فی مقال آخر مستقبلا ان شاء الله وتحت عنوان (معاداة العرب فی الادب الایرانی المعاصر). وقد رسم هدایت فی قصصه وروایاته، الطبقة الوسطی الایرانیة ولاسیما فی العاصمة طهران ودقق فی سلوك الشریحة التقلیدیة من تجار البازار والبورجوازیة الصغیرة الحدیثة.
لایمكن ان نتطرق الی القصة الفارسیة الحدیثة من دون ان نذكر اسم الكاتب محمد علی جمال زاده) المتوفی عام 1998 (وهواول ایرانی جدد فی الكتابة القصة القصیرة الفارسیة وذلك فی مجال اللغة والنثر والشكل والمضمون حیث اخذت تتمیز عن الحكایة والمقامة التی كانت سائدة فی الادب الفارسی القدیم. وكانت مجموعته القصصیة (فارسی شكر است) أی (الفارسیة، سكر) الصادرة فی مستهل القرن الماضی اول مجموعة تكتب علی سیاق القصة القصیرة الاوروبیة وهوفی ذلك ـ ای فی كتابة القصة القصیرة ـ سبق صادق هدایت بسنوات.
كما نشیر هنا الی الروائی بزرك علوی الذی عاصر 3 عهود) الشاه وابیه رضا شاه والجمهوریة وتوفی عام 1996 (حیث دشن بروایته (53 سجینا) ادب السجون فی تاریخ ایران المعاصر.كان علوی عضوا فی اللجنة المركزیة لحزب تودة الشیوعی فی الفترة من 1941 ـ 1995 ، وقد سجن قبل ذلك، أی فی الثلاثینیات من القرن المنصرم ، هو وعدد من زعماء الحركة الشیوعیة الاوائل فی معتقلات رضا شاه البهلوی، حیث اصبحت فترة الاعتقال التی دامت 5 سنوات مادة خصبة لروایتیه (53 سجینا) و(عیونها). وتحتوی الروایة الاخیرة علی قصة حب بین كمال الملك احد الكبار الرسامین الایرانیین المعارضین لرضا شاه وامرأة ذات عیون سوداء واسعة.

الجیل الثانی من الروائیین والشعراء
انبثق هذا الجیل من وسط دخان الدبابات والمدرعات التابعة للانقلابیین الذین اطاحوا حكومة مصدق الوطنیة لصالح الشاه السابق وبدعم من القوی الاجنبیة. وقد اشتهر هذا الجیل باسم (جیل الهزیمة) والمقصود هزیمة القوی الوطنیة والدیمقراطیة امام بطش قوات الشاه محمد رضا بهلوی وحلفائه الاستعماریین. وقد مثل الشعراء احمد شاملو ومهدی اخوان ثالث) توفی عام 1990 (هذه الهزیمة خیر تمثیل فی قصائدهم حیث امتلأت دواوین اخوان ثالث بالدموع والیأس وخیبة الامل بالنسبة لأی تغییر سیاسی واجتماعی فی ایران. فیما حاول شاملو وخاصة فی اشعاره السیاسیة ان یبقی علی جذوة الامل مشتعلة فی قلوب المناضلین والمثقفین. اذ كان السجناء السیاسیون فی عهد الشاه یترنمون باشعاره فی الزنازین وفی ساحات الاعدام. وقد تطور شعر شاملو فنیا فی العقدین الاخیرین حدا یمكن مقارنته بشعر الشاعر العربی ادونیس. احمد شاملو شاعرا یساریا منفتحا ومتحررا من ایة اعتقادات قومیة شوفینیة وذلك علی عكس مهدی اخوان ثالث الذی كان یحقد علی العرب ویتباهی بعنتریات الماضی الایرانی السحیق.
وكانت فروغ فرخ زاد اول شاعرة ایرانیة تتمرد علی الهیمنة الذكوریة فی مجتمع شرقی تقلیدی كایران، حیث تحدثت فی قصائدها وشعرها الحدیث عن المحرمات بین الرجل والمرأة وهذا ما نراه فی دواوینها الاولی التی صدرت فی الخمسینیات. وقد تطور خطابها الشعری فی حقبة الستینیات واتجه اتجاها فلسفیا اجتماعیا غیر انها توفیت فی حادث سیارة عام 1968 وعمرها 37 عاما وهی فی عز عطائها الشعری. فالمدقق فی قصائد الشاعرة السوریة غادة السمان یری قواسم مشتركة كبیرة بینها وبین فروغ فرخ زاد، ویبدو ان هذا التشابه ادی بالقارئ الایرانی ان یستقبل بلهفة دواوین غادة سمان المترجمة الی الفارسیة والتی صدرت خلال السنوات العشر الماضیة.
لایمكن ان نتحدث عن هذا الجیل ولا نذكر اسماء اخری كالشاعر والناقد والروائی رضا براهنی وهو تركی ایرانی ناضل ضد التمییز القومی فی ادبه ونشاطه الثقافی وسجن فی عهد الشاه والجمهوریة الاسلامیة. ویشغل براهنی حالیا رئاسة اتحاد كتاب كندا بعد ان غادر ایران عام 1996 وفی ذروة قمع الكتاب والمثقفین من قبل الاجهزة الامنیة فی عهد الرئیس السابق هاشمی رفسنجانی.
كما وهناك الشاعر والناقد الخراسانی محمد رضا شفیعی كدكنی وقصائدها الثوریة والغزلیة، غیر ان آثار كدكنی الاخیرة اخذت تبتعد عن الثوریة حیث اصبحت شخصیته تشابه شخصیة الناقد العربی احسان عباس الذی یكن له كدكنی احتراما خاصا. وقد ترجم شفیعی كدكنی الذی یتقن اللغة العربیة وتربطه صداقات مع ادونیس وبلند الحیدری والبیاتی ـ قبل وفاتهما ـ ترجم من البیاتی الی الفارسیة وكتب عن الشعر العربی الحدیث كتابا ومقالات. فهو بطبعه وثقافته محب للعرب وادبهم. ویعتبر شفیعی كدكنی حالیا اهم شاعر فارسی علی الساحة الایرانیة بعد ان غیب الموت شعراء كبارا كاحمد شاملو وسهراب سبهری.
یذكر ان الخطاب الشعری ـ الثوری والسیاسی ـ لاحمد شاملو وشفیعی كدكنی وسعید سلطانبور احتل حیزا مهما من الخطاب الثوری الذی مهد للثورة فی عام 1979 ضد نظام الشاه السابق.

المدرسة الواقعیة فی الادب الفارسی
مهدت الظروف الكفاحیة ضد الشاه، الخلفیة لادب ثوری ملتزم ومتحدی للنظام ومتعاطف مع الجماهیر حیث كان یأخذ احیانا حالات شعبویة وشعاریة بعیدة عن طبیعة الادب. واحتل الشعر الثوری ـ وبعضه كان ذا قیمة ادبیة لأباس بها ـ والروایة الواقعیة النقدیة حیزا مهما من الادب الفارسی خلال الحرب الباردة.
وقد ترجمت الی الفارسیة روایات عدة من جنس الواقعیة الاشتراكیة خاصة من الكتاب الروس مثل مكسیم غوركی ومیخائیل شولوخوف وغیر الروس مثل جاك لندن ـ الامریكی ـ ورومان رولان الفرنساوی. لكن والی جانب ذلك كانت هناك ایضا ترجمات لدستوفسكی وتولستوی والروایة الغربیة الممثلة بلزاك وفلوبیر وموباسان ومارك توین وهمینجوی وسارتر وبكیت
ویونسكو واخرین. كما ترجم الشعر الفلسطینی فی هذه الفترة لاحتوائه علی المضامین النضایة والانسانیة.
وأبرز الروائیین الواقعیین هم احمد محمود وهواهوازی غیر عربی ادخل بعض الشخصیات العربیة الاهوازیة فی روایاته. وقد توفی احمد محمود فی العام 2002 بطهران. كما لعب جلال آل احمد وغلام حسین ساعدی وصمد بهرنجی فی الخمسینیات والستینیات دورا مهما فی الادب القصصی الفارسی.
فجلال آل احمد وعلاوة علی كتاباته السیاسیة والفكریة نشر روایات عدة یمكن ان نعتبرها روایات واقعیة نقدیة مثل (مدیر المدرسة) و(ضغینة الارض). وكان آل احمد مدافعا عن القضایا العربیة والاسلامیة، لذا لم یعره القومیون الفرس الاهتمام اللازم بالرغم من نثره الفنی الفاخر والرائع وتأثیره علی جیل الكتاب والباحثین من بعده. وكان ساعدی ـ وهوتركی من اذربیجان ـ یسبر النفس الانسانیة فی قصصه ومسرحیاته ویصور القرویین والبسطاء من ابناء المجتمع الایرانی. كما یصور الابتذال فی عهد الشاه واضطهاد اجهزته الامنیة للمثقفین. وقد انشأ صمد بهرنجی وهوكاتب للاطفال بالدرجة الاولی، مدرسة خاصة به سیما وانه كان یعتنی بلغة امه أی اللغة التركیة الاذریة ویطالب بتعلمیها للاطفال. وقد ترجمت رائعته (السمكة الصغیرة السوداء) الی لغات عدة. وقد كانت اثار صمد بهرنجی والكاتب العبادانی نسیم خاكسار المترجمة الی العربیة تدرس فی المخیمات الفلسطینیة لما تحویه من روح فنیة ونضالیة. وقد توفی صمد بهرنجی عام 1967 وآل احمد عام 1969 وساعدی عام 1985

الابتعاد عن الواقعیة
قد یبدو صعبا ان نصنف الروائیین احمد محمود وهوشانج غولشیری ومحمود دولت آبادی فی خانة الجیل الثانی تماما حیث من الافضل ان نقول انهم همزة وصل بین الجیل الثانی والثالث.
وقد كان للثورة الایرانیة ومن ثم انهیار الاتحاد السوفیتی ونهایة الحرب الباردة تأثیر ملحوظ علی الادب الفارسی ادی الی ابتعاده عن الواقعیة رویدا رویدا. وبانهیار المعسكر الاشتراكی انهارت المدرسة الواقعیة الاشتراكیة وانحسرت الواقعیة النقدیة فی ایران.
فقد ابتعد الروائی محمود دولت آبادی عن الواقعیة النقدیة وولج عوالم ومجالات اخری متأثرا بالمدارس الغربیة الحدیثة مثل تیار الوعی والواقعیة السحریة وما شابه ذلك. وقد ترجمت رائعته الروائیة المطولة (كلیدر) الی لغات عدة ومنها العربیة فی مصر وعلی ید المترجم الراحل دسوقی شتا. ویعتبر دولت آبادی اخر عمالقة الجیل الثانی واهم كاتب روائی فی ایران حالیا وهوعضومؤسس فی اتحاد الكتاب الایرانیین.
ویمكن مقارنة محمود دولت آبادی وتحوله فی مجال تقنیة العمل الروائی بتحولات نجیب محفوظ حیث انطلق امیل زولا العرب ـ كما یصفه ادوارد سعید ـ بثلاثیته الواقعیة المطولة حتی وصل الی انماط ادبیة اخری وتقنیات واسالیب جدیدة فی الروایة (ثرثرة فوق النیل) و(الحرافیش). لكن ومع وجود كل وجوه الشبه القائمة یبقی فن نجیب محفوظ الروائی اعلی من نظیره الایرانی محمود دولت آبادی. ویحلو للبعض هنا فی ایران ان یقارن بین صادق هدایت ونجیب محفوظ وهو عمل لیس فی مكانه لانه لا یمكن ان تقارن بین تفاحة ورمانة. فالتفاح یقارن مع جنسه والرمان ایضا مع جنسه. ولكن اذا نظرنا الی غزارة الانتاج والتجدید فی الشكل والمضمون وفقا للتراث واذا اخذنا الحكمیة الادبیة العالمیة بعین الاعتبار والتی تتمثل هنا بجائزة نوبل لا یمكن الا ان نری نجیب محفوظ فی ذروة الابداع الروائی فی الشرق الاوسط بل وفی العالم الثالث. وللاسف فان هناك ضیق افق قومی نشهده بین الفرس فی ایران حیث وبدل ان یفرح ادباؤهم بفوز روائی عربی ـ شرقی مثل نجیب محفوظ بجائزة نوبل أبدی البعض منهم استیاءه، حیث سمعت كلاما لا یلیق بهم وباعتباری مترجما لبعض اثاره. وجری مثل هذا الكلام علی لسان الشاعر الراحل احمد شاملو والروائی احمد محمود مقللین من شأن عمید الروایة العربیة. واللافت للنظر انهم لم یقرأوا شیئا كثیرا من نجیب محفوظ لانه لم تتم ترجمة معظم اثاره الروائیة الی الفارسیة واقتصر الامر علی ترجمة بعض قصصه وروایتی (اللص والكلاب) و(یوم قتل الزعیم).
ویختلف هوشانج غولشیری ـ الذی توفی عام 2001 ـ فی اسلوبه عن دولت آبادی واحمد محمود. وقد كان قاسیا فی نقده لكتابات هولاء الاثنین متهما ایاهما بالسردیین الواقعیین ولا یعتبر غیر نفسه روائیا بالمعنی الفنی للكلمة.
وبالعكس لا یری العدید من النقاد فی غولشیری روائیا بل كاتبا قصصیا له قصص جیدة فنیا وابرز اثاره، روایة (الامیرة احتجاب) وهی روایة قصیرة تعتمد اسلوب تیار الوعی وتتحدث عن حیاة البذخ فی بلاط القاجار والانحطاط التدریجی الهذه العائلة الذی حكمت ایران فی القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرین. كما ان لغولشیری تقنیات وتكتیكات سردیة خاصة به وهو یتقن لغة فارسیة رصینة تتطابق مع مضامین قصصه وروایاته. وتشوب افكار هوشانج غولشیری شوائب قومیة متعصبة خاصة بالنسبة للعرب وهذا ما نراه فی بعض مقالاته وقصصه، خاصة فی قصة (الفتح علی طریقة الموغ)، لكنه كافح فی كل لحظات حیاته الرقابة الادبیة فی ایران وسعی من اجل ارساء اسس اتحاد الكتاب الایرانیین.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:0|
لملخص:

تهدف هذه المقاله الی دراسه «الملحمه» فی الادب العربی و اسباب خلو الادب العربی منها، بدءاً بالمعنی اللغوی لهذه الكلمه ثم بیان معناها فی الادب و بیان انواعها و میزاتها فی الادب العالمی، و ذكر ما هو یعد من قبیل الملاحم فی الادب العربی القدیم و الحدیث و دراسه ظهورها فی الادب العربی أو خلو الادب العربی منها، و الا شاره إلی اسباب قلّه الملاحم فی الادب العربی، و منها الخیال البسیط و الفردیه و قلّه خطر الدین لشاعر الجاهلی و قلّه الاساطیر الخصبه و وجود القیود الوزن و القافیه فی الشعر العربی و ضعف فن القصه فیه و ضیق نطاق الاحداث الجاهلی و قصر النفس الشعری و التمسك بالمنهج التقلیدی و …

الكلمات الرئیسه: الاجناس الادبیه، الملحمه، الشعر القصصی، الشعر الحماسی

مقدمه::

الملحمه هی من اهم الاجناس الادبیه، و لدراستنا حول الملاحم أهمیه خاصه، لأنها ترجع تأریخیاً إلی العهود الفطریه للشعوب، العهود التی كان الناس یخلطون بین الخیال و الحقیقه و بین الحكایه و التأریخ، و هی التی تعرفنا القیمه الحقیقیه و الفنیه لحضارات القدیمه كالاغریق و الایران و بین النهرین و الهند و …

و هی التی تروی لنا قصه التأریخ و قصه السابقین الاولین من هذا الرکب البشری و نحن نكون من الذین یرون من خلالها الظروف الاجتماعیه و الاقتصادیه و السیاسیه التی سادت علی المجتمع الانسانی فی تلك العهود القدیمه الماضیه، و لولاها لبقی التأریخ الحضاری أوهاماً یحفر فی اذهان الاجیال اسئله یستعصی حلّها أو تتأخّر الاجابه علیها و هی التی حافله بالمعلومات الخطیره و الهامه و هی التی تحمل الماثرالبشریه التی تحاكی فی افعالها البطوله و النبل و الخوارق و نجد فیها ایضاً ماثر اخری و موضوعات فنیه أخری منها الشعر و منها النثر، منها الغناء و الموسیقی، و منها التصویر و الرسم، حتی النحت و الخط و ماشابه ذلك…

فضلاً عن اتخاذ الملاحم الیوم ماده للرموز فی الاداب من جانب الشعراء، و اتخاذ مضامینها فی القصص و المسریحات و الروایات و… و الذین یقرأون هذه القصص و الروایات یحسون بلذهٍ كثیرهٍ و یرون انفسهم فی بینه حافله بالهدوء و السذاجه و البساطه، «و لن تخلوا الدنیا من هؤلاء القراء الذین یسرون للانتقال من الحیاه الخاطره المعقده الشاقه الی العصور الماضیه البسیطه حیث یظفرون براحه النفس و مطالعه الطبیعه البشریه فی درجتها الفطریه الجمیله»

و نتناول خلال دراستنا الی الظروف الاجتماعیه و الاقتصادیه و النفسیه التی یعیشها الشاعر الجاهلی لأننا نعتقد بأن بعضاً من هذه الاسباب -اسباب الخلو الادب العربی من الملحمه- یرجع الی البیئه التی یعیش فیها الشاعر و بعضها یرجع إلی نفسیه الشاعر و بعضها یرجع الی العوامل السیاسیه التی ساعدت علی المجتمع العربی فی تلك العهود، و ركّزنا دائره بحثنا علی العصر الجاهلی اكثر من العصور المتأخره الأخری، لأننا نعتقد بأن الملاحم –خاصه الملاحم المجموعه أو الأصلیه- تنشأ فی العهود الفطریه للشعوب «و المدینه الحاضره و تقدم العقل البشری، و النظم الدیمقراطیه فی العصور المتأخره، لن تسمح بقیام الملاحم، حتی أن محاوله خلقها تعد بمثابه محاوله بعث الموتی، و وجود خصائص الملاحم فی عمل ادبی معاصر یعد مرضاً یجب استئصاله»

الملحمه لغه::

الملحمه فی اللغه بمعنی الحرب و إنما سمیت بذلك لأمرین: أحدهما تلاحم الناس، أل تداخلهم بعضهم فی بعض و الاخر أن القتلی كاللحم الملقی…

و بعباره اخری «الملحمه: الوقعه العظیمه القتل، و قیل موضع القتال و ألحمت القوم؛ اذا قتلتهم حتی صاروا لحماً.و الحم الرجل الحاماً و استحلم استلحاماً: إذا نشب فی الحرب فلم یجد مخلصاً…

و الجمع الملاحم، مأخوذ من اشتباك الناس و اختلاطهم فیها كاشتباك لحمه الثوب بالسدی، و قیل هو من اللحم لكثره لحوم القتلی فیها…

و الملحمه: الحرب ذات القتل الشدید… و الوقعه العظیمه فی الفتنه…»

و كلمه ملحمه یونانیه الاصل و تلفظ Epikos أو Epos و معناها «كلام» أو «حكایه» و فی الفرنسیه Epique و فی الانجیلزیه تلفظ Epic.

«و قد وردت الملحمه» و مشتقاتها فی الشعر كثیراً، من ذلك قول الأخطل:

حتی یكون لهم بالطف ملحمه و بالثویه، لم ینبض بهاوتر

و قول عجیر السلولی:

و مستلحم قد صکه القوم صکه بعید الموالی، نیل ما كان یجمع

و ایضا وردت الكلمه فی حدیث جعفر الطیار(رض)یوم مؤته: «أنه أخذ الرایه بعد قتل زید فقاتل بها حتی ألحمه القتال فنزل و عقر فرسه»

اما الملحمه فی المصطلح الادبی فهی::

جنس أو نوع خاص من الشعر القصصی البطولی، الذی لم تعرف العربیه شبیهاً له، من حیث البناء القصصی المتكامل، و من حیث الحجم العددی للأبیات الشعریه التی تبلغ الالاف، و من حیث الشخصیات التی تسمو فوق المستوی العادی للناس الأسویاء، و تتصف بما هو من سمات الابطال الأسطوریین، و من سمات الالهه، أو أنصاف الالهه، فی المعتقدات الوثنیه البدائیه، و من حیث الاحداث و الوقائع الخارقه ، و من حیث أن الوقائع الحربیه التی یخوض الابطال الملحمیون غمارها، و الماثر الخارقه التی یحققونها، تدخل فی صمیم الصراع الوطنی و القدمی، دفاعاً عن حق مغتصب، و فی سبیل أن تحیا الامه التی یمثلونها بحریه و كرامه و هناء.

و من هذا المنطلق، تدور الملاحم حول محور بطل وطنی أو حول شخصیه مصطفاه من العقیده الدینیه و هی أنا شید وطنیه یتغنی الشعب بها، لأنها الصوره المثلی التی یطمح الشعب إلیها… و هی تحتوی علی افعال عجیبه، و حوادث خارق العاده و العنصر الاساسی فیها هی الحكایه و الروایه و إزدهرت فی عهود الشعوب الفطریه، حین كان الناس یهتمون بالخیال اكثر مما یهتمون بالواقع.

و الشاعر فی هذا الضرب القصصی لایتطرق الی عواطفه و لا یتحدث عنها «فهو شاعر موضوعی یذكر نفسه، و یتحدث فی قصته عن بطل معتمداً علی خیاله، و مستمداً فی أثناء ذلك من تأریخ قومه، و كل ماله أنه یخلق القصه و یرتب لها الاشخاص و الأشیاء و یجمع لها المعلومات، و یكون من ذلك قصیدته، و عاده ینظمها من وزن واحد لا یخرج عنه»

و تختلف الملاحم البطولیه اختلافاً بیناً عن المدائح التقلیدیه التی تعج بها دواوین الشعراء، لأن الملاحم هی تسجیل فنی لبطوله شخص تأریخی أو أمه عریقه المجد، یملیها علی الناظم إیمان شدید بتلك البطوله و شغف عمیق بتصویرها و نصبها امام الحالمین، و هكذا تصبح البطوله الشخصیه أو القومیه موضوعاً عاماً یوحد أجزاء الملحمه و یوجهها نحو هدف خاص. و شتان ما بینها و بین قصیده المدح التی إنما یراد بها تبجیل الممدوح أو التذلف الیه فتأتی دون هدف فكری موحد.
میزات الملحمه

- البطل الاصلی فی الملحمه هو بطل أو صنف (شبه) إله، الذی یضع مصیره قومه علی الخیر و الصواب و یجب أن تكون فیه قوه بالغه فوق القدره البشریه كه «رستم» فی «شاهنامه» و «آشیل» فی «الیاذه».

- أحداث الملحمه وقعت فی ماض الحیوه البشریه، بحیث افضل الملاحم قیمه، أقدمها زمناً.

- البعد المكانی فی الملحمه و سیع جداً، بحیث ستشمل العالم برمته فی بعض الاحیان، مثلاً فی «اودیسه» ستشمل هذه الملحمه كل اقطاع المعهوده فی ذلك الزمن، أو فی «الجنه المفقوده» -بصفتها ملحمه دینیه- نحن نواجه كل العالم بصوره كامله و شامله.

- احداث الملحمه تدور حول الحروب العظیمه و ما فوق القدره البشریه

- تداخل الموجودات العجیبه أو أصناف الالهه فی الحوادث الموجوده فی الملحمه، ك «سیمرغ» (عنقاء) فی «شاهنامه» ورب «المب» فی الالیاذه و الاودیسه.

- اصل الملاحم یرجع الی الجذور التأریخیه، أو الدینیه، أو الخیالیه.

- الملاحم –فی بدایه امرها- وضعت لأن تقرأ بالصوت العالیه، لأجل ذلك نری فیها لغه ضخمه و غلیظه و هی تختلف عن اللغه التی یتکلم بها العوام.

- تنشر الملاحم فی اكثر الاحیان علی بحر واحد.

- تنشأ الملاحم بفواصل زمینه كثیره بالنسبه إلی الأحداث نفسها.

- لا تعبر الملاحم عن الحروب و القتل و الدم فقط… بل هی تمثل الصفات الخلقیه و الفتوه و البطوله و… ایضا، و الابطال هم الممثلون لعصرهم و ابناء عصرهم.[7]

و كلمه «ملحمه» قدیمه كلفظه فی اللغه العربیه و هی تعنی موقعه حربیه التحم فیها جیشان و تنائر فیها لحم المحاربین، و كلها لم تكن تعنی قبل عصرنا الحالی علی أنها نوع ادبی بذاته أو أنها جنس من أجناس الادبیه المعهوده عند العرب. «و قد تكون شعراً كالیاذه عند الاغریق، و الشاهنامه عند الفرس، و قد تكون نثراً كسیره عنتره»
[u]انواع الملاحم[/]

1- الملاحم الطبیعیه: هی التی تظهر فی المراحل البدائیه من حیاه الامم و تاریخ الشعوب، وتصاغ بصوره تلقائیه و عضویه، و یكون ناظموها و رواتها و الذین یتداولونها، مؤمنین بما تتضمنه من ذكر الخوارق، و تدخل الالهه فی حیاه البشر، ایماناً مطلقاً لا تشوبه شائبه من الریبه و الشك، و الشعب فی الحقیقه هو مؤلف هذه الملاحم علی مرّ العصور… و بعباره أخری: «الملاحم الطبیعیه أو المجموعه هی الاصیل و ترتقی إلی زمن من تأریخ القوم و بما سبق عهد التدوین عندهم، فاعتمد فی تناقلها علی الروایه، لكنها بداعی تواتر الروایه تعرضت لكثیر من الحذف و الاضافه و التغییر و التبدیل، إلی أن اضطلع بروایتها علم من اعلام الشعر و الانشاء، فاستقام محتواها و سیاقها علی الصوره التی بلغتنا فیها مدونه –مضافه إلی جامعها و راویها و غالب الظن أنها فی الاصل قصائد عامره، نظمها شعراء أفذاذ، فی عهود متعاقبه، و مناسبات مختلفه- عقدكبار روایتها بین فرائدها، فنسبت إلی أشهرهم و ابرزهم، كماجری ذلك فی ملحمه الیونان الشهیره المضافه إلی هو میروس، و المعروفه به «الیاذه»

2- الملاحم الاصطناعیه: هی التی یصفها الشعراء فی الأزمنه المتأخره، و ینظمونها علی نهج الملاحم الطبیعیه، و محاكاه لمضامینها و اسلوبها من غیرأن یكونوا بالضروره مؤمنین بما یصفون من حوادث، و ینسجون من خوارق، و یصورون من بطولات «و هذه الملاحم –الملاحم الاصطناعیه أو الموضوعه- قد نظمها شاعر معروف فی زمن محدد، و نسج أنا شیدها حول احداث معینه، و جری فی سرد وقائعها، و وصف مشاهدها، علی مثال الملاحم المجموعه، بمقدار ما سمح موضوعه، و ألهمته قریحته، فأحاطها بهاله من البطوله، و اغناها بالمشاعر القومیه، و التقالید الاجتماعیه، و الاساطیر الموروثه التی تمت إلی موضوعه بصله قریبه أو بعیده. و مثالها «الانیاذه» التی نظمها «فرچیل» فی قیام الامبراطوریه الرومانیه و اتساع امجادها»

و من النقاد من قسم الملحمه قسمین: ملحمه ادبیه و ملحمه شعبیه

ففی الاول –الادبیه- یعلن الشاعر فی مستهل ملحمته عن موضوعها، ثم یذكر القصه و احداثها الخارقه للعاده و تدخل اصناف الالهه فی شؤون البشر، مستخدماً التصویرات الفنیه و التشبیهات الطویله و البعیده، و أسماء الابطال و الحروب و الاماكن و الاشیاء الهامه لحیاه الابطال كالأسلحه و…

اما الثانیه –الشعبیه- فیتضح فیها النقل مشافهه و التكرار، و تجرؤالسرد، الامر الذی یدل علی أنهالم تكن نتاج زمن واحد أو قریحه واحده.

و هناك ایضاً تقسیمات أخری ك:

-الملاحم الشعریه -الملاحم النثریه

و ایضاً

-الملاحم الاسطوریه - الملاحم التأریخیه - الملاحم الدینیه

أشهر الملاحم المجموعه (الطبیعیه)

1- ملحمه البابلین «جلجامش» (Gilgames)

2- ملحمه الهنود «مهابهاراتا» (Mahabharata)

3- ملحمه الهنود «رامایانا» (Ramayana)

4- ملحمه الفرس «شاهنامه» (Shahnameh)

5- ملحمه الیونان «الیاذه» (Iliade)

6- ملحمه الیونان «اودیسه» (Odysse)

أشهر الملاحم الموضوعه (الاصطناعیه)

1- ملحمه الرومانیین «انیاذه» (Aeneise)
الملحمه فی الادب العربی القدیم:

بالرغم من انتشار ادب الملحمه بین مختلف الشعوب و الامم فاننالانجد لهذا الفن اثراً فی الشعر العربی سوی مقطوعات قصیره و قلیله و قصائد محدوده ذات نفس ملحمی. و لكن لانستطیع أن نضمها الی الملاحم العالمیه الشهیره كالتی عند الیونان و الفرس، و حقاً لقد عرف العرب الشعر الحماسی، ذلك الذی كان الشاعر یتغنی فیه بمفاخر قومه، و یهجو خصومهم، و یدخل الحروب شجاعاً و یخرج منها ناجحاً و واصفاً تلك البطولیه التی خاضنتها أو كانت تخوضها قبیلته. لكن القصیده العربیه لم تكن قصصیه. بل كانت ذات طابع غنائی، كما أنها لم تكن تمتد لأكثر من مائه و خمسین بیتاً اللهم إلا فی القلیل النادر، و لكن هذا لایعنی أن الشاعر العربی لم یتطرق الی تلك المعانی التی تطرق الیها اصحاب الملاحم و خاصه المعانی التی تتعلق بذكر البطوله و الشجاعه، و الفخر و الحماسه، و منها المعلقات السبع و دواوین الحماسه و اراجیز و اناشید الجهاد و بعض الملاحم التی تتصف بالشعبیه و البطولیه الخارقه ك «سیره الزیز السالم» و «قصه عنتره» و …

نعم، المعلقات التی ترجع الی العهود الفطریه للشعب العربی، فی حین كانوا یخلطون بین الحكایه و التأریخ، هی ملحمه متعدد الناظمین، وحماد الراویه، فهو بمقام راوی هذه الماحم، أو الشاعر الذی جمع هذه الملاحم، فأضیفت إلیه كما أضیفت الایاذه إلی هومیروس، و الشاهنامه الی فردوسی، و كما كانت الملاحم الیونانیه و الهندیه و... تعبر عن صفات شعبها الخلقیه و عاداتهم و سننهم و… هذه المعلقات ایضاً تعبر عن عادات العرب و سننهم فی تلك العهود، و الحروب الطویله التی جرت بینهم كحرب البسوس و حرب داحس و الغبراء تذكر الحروب التی جرت –علی سبیل المثال- بین ایران و توران، فعنتره مثلاً یشبه فی كثیر من الاحیان «رستم» فی بطولته و شاعته و هیبته، و عفته و حیائه، و شخصیته الشعبیه.

و ایضاً فی العصر الاسلامی، نحن نری فی اشعار هذا العصر النفس الملحمی و البطوله و الاقدام و الحروب العظیمه و الكثیره، التی نری شبهها فی الملاحم العالمیه الاخری، كقصائد فرزدق و احظل و طرماح و…

و فی العصور المتأخره ایضاً نری كثیراً من الاشعار و الدواوین التی نری فیها نفس الملحمی و الحماسی، كدواوین الحماسه لأبی تمام و بحتری و …

و یقول فی هذا المجال الدكتور كمال الیازجی: «إذا جاز لنا أن نحمل الشعر العربی شیئاً من قبیل الملاحم، فالذی یبدو لی أن هذه القصائد التالیه ربما كن اقرب الی الملاحم؛

- ارجوزه ابن المعتز فی مدح المعتضد (418 بیت) التی تصف قیام بیت العباسی و استقلاله بالخلافه، و ازدهار الخلافه العباسیه.

- ارجوزه ابن عبد ربه فی مدح عبدالرحمن الناصر (442 بیت) التی تصف تحول الاماره الامویه فی الاندلس الی الخلافه علی ید عبدالرحمن الناصر و بلوغها فی عهده اوج ازدهارها.

- تائیه ابن الفارض الكبری (761 بیت) التی نستطیع أن نحسبها ملحمه صوفیه، تروی حكایه جهاد النفس ضد اباطیل الدنیا، و تحررها من مغریات الحیاه، و تسامیها الی الله من اجل الاتصال به و الفناء فیه».

و یعتقد فی هذا المجال الدكتور محمد التونجی بأن: «سیفیات المتنبی، التی تصف بطوله الفارس العربی سیف الدوله، تجاه البیزنطیین بالامتداد داخل بلاد الشام، و رومیات ابی فراس، تلك التی و صفت قتال هذا الشاعر العربی ضد البیزنطیین، و وصفت حاله ایام اسره، و قصائد شعراء «ادب الجهاد» فی مرحله الهجمه الصلیبیه الغربیه علی ارض العرب، با سم الحرب المقدسه، كشعر شاعر اسامه بن منقذ، و شعر طلائع بن رزیك، و لا سیما تلك القصائد التی اشادت ببطوله صلاح الدین ربما كان اقرب الی الملاحم.»

فضلاً عن هذا كله، لدنیا ملاحم تتصف بالشعبیه و البطوله الخارقه، امثال «سیره الزیز السالم» و هی تحكی بطوله مهلهل بین ربیعه فی حرب البسوس، و ملحمه «الظاهر بیبرس» صاحب الفتوحات و الانتصارات علی المغول و الصلیبین، و ملحمه «بنی هلال» و بنو هلال قبیله عربیه من فروع معدو عن بطولاتهم وضعت سیره «بنی هلال» مع وقایع تأریخیه و أسطوریه، و هی سیرتان، السیره الشامیه و السیره الحجازیه، و قصه «عنتره بن شداد» ملحمه حماسیه و بطولیه و غرامیه، برزت احداثها فی الجاهلیه، و بطلها شخصیه عربیه واقعیه، وضعت لهدف سیاسی هو الهاء الشعب عن السیاسه فی العهد العثمانی.

علی أن المیزه الطاغیه علی هذه الملاحم الركاکه الاسلوبیه، و الهلهله الشعریه أو النثریه، و تكرار بعض الاحداث، و إذا لم یكن للاعراب ملاحم تنطبق تماماً علی ملاحم الاغریق فإن بوادر هذه الملحمه برزت فی الشعر الحماسی و الفروسی، و فی سیر الشعبیه التی لو قیض لها شاعر ینمیها لغدت من صمیم هذا الفن العریق.»[13]
الملاحم فی الادب العربی الحدیث

استمرت محاولات الشعراء فی طرق الشعر الملحمی حتی مستهل القرن العشرین حیث ظهرت الملحمه ظهوراً ملتفا للنظر و بثوب جدید و بمواضیع قومیه و عقائدیه و تأریخیه قلما تطرق إلیها الشعراء فی العصور السابقه. و قد ردّ بعض الادباء هذه الظاهره إلی یقظه العرب القومیه منذ بدء هذا القرن و التفاتهم إلی أمجادهم السالفه، و تطلعهم الی الاداب الاجنبیه، و حرصهم علی الغرف من منابعها العذبه الغزیره، و كان السابق الی الاهتمام بالملاحم اهتماماً فعلیاً سلیمان البستانی.

و من الملاحم الدینیه التی ظهرت فی هذا العصر هی ملحمه الشاعر الشیخ كاظم الارزی المعروفه بـ «الازریه» التی مدح الشاعر فیها الرسول (ص) و ذكر معجزاته و مناقبه و … و تبلغ عدد ابیاتها إلی ألف بیت و لكن مابقیت منها الا ابیات قلیله، و من الملاحم المهمه الاخری التی ظهرت فی مستهل القرن العشرین هی القصیده المباركه لعبد المسیح الانطاكی التی تعرف «بالملحمه» و قد بلغ عدد ابیات هذه القصیده 5595 بیتاً و من الملاحم الدینیه الاخری هی ملحمه «مجد الاسلام» أو «إلیاذه اسلامیه» لاحمد محرم، و اختار الشاعر موضوع دیوانه «مجد الاسلام» من التأریخ الاسلامی و عصر صدر الاسلام، حیث تناول غزوات الرسول (ص) و اصحابه(رض)، و قسم عمله الی فصول، و قدم لكل فصل لمقدمه نثریه یشرح فیها موضوعه، و اسم «دیوان الاسلام» اقرب إلی طبیعه هذا العمل من وصفه بالملحمه، لأن الشاعر لجأ إلی حقائق التأریخ و لم یلجأ الی عنصر الخیال و لم یذكر الحوادث الخارقه للعاده و … كما انه یمیل إلی الغنائیه، و شارك فی هذ، الاتجاه، احمد شوقی فی كتابیه «كبار الحوادث فی وادی النیل» و «دول العرب و عظماء الاسلام» و عمر ابو ریشه فی كتاب «الملاحم البطولیه فی التأریخ الاسلامی» و خالد الفرج فی كتاب «احسن القصص» و منها ایضاً بولس سلامه فی «عید الغدیر» و حافظ ابراهیم فی «عمریه» و عبدالحلیم المصری فی «بكریه» و عمر ابو ریشه فی «خالدیه» و … و ممن حاولوا أن یملأوا فراغ الشعر العربی من الملاحم –فضلاً عما سبق-

- شفیق معلوف فی «عبقر» - سعید عقل فی «قدموس» حلیم دموس فی «ملحمه العرب»

- محمد عبدالمطلب فی «علویه» - عبدالمنعم الفرطوسی من «ملحمه اهل البیت»

و الملاحم بهذا المعنی كثیره جداً، و هذا كله –بسبب خلوه من اكثر میزات الملحمه و عناصرها- من قبیل الملاحم و من قبیل شبه الملاحم، و لیست اكثر الملاحم البطولیه و الدینیه التی ظهرت حتی الان فی الادب العربی إلا محاولات لم تستكمل نضجها بالنسبه إلی ما عند الاغریق و الفرس و الهنود و …

اسباب خلو الادب العربی من الملاحم:

قد اشتغل الباحثون فی تعلیل هذا الامر و اوردوا اسباباً عده منها: قول من زعم «أن العرب نظموا فیه كثیراً و ضاع مانطموه» فلم یبق لعهد التدوین و الروایه إلا القلیل هما ذكرت فیه اخبار العرب، و هو قول ترده الشواهد و الدلائل التاریخیه. و منها «أن خیال الجاهلیین لم یتسع للملاحم و القصص الطویله لانحصاره فی بادیه متشابهه الصور، محدوده المناظر ثم لمادیتهم و كثافه روحانیتهم، ثم لفردیتهم و ضعف الروح القومیه و الاجتماعیه فیهم، ثم لقله خطر الدین فی قلوبهم و قصر نظرهم عما بعدالطبیعه، فلم یلتفتوا الی ابعد من ذاتهم، و لا الی عالم غیر العالم المنظور، و لاتولدت عندهم الاساطیر الخصبه، و لم یكن لأصنامهم من الفن و الجمال ما یبعث الوحی فی النفوس شأن اصنام الیونان و الرومان: فقل من ذكر منهم اوثانه و استوحاها فی شعره. و لم یساعدهم مجتمعهم علی التأمل الطویل و ربط الافكار و فسح آفاق الخیال، لاضطراب حیاتهم برحیل مستمر، فجاء نفسهم قصیراً كإقامتهم، و خیالهم متقطعاً كحیاتهم، صافیاً واضحاً كسمائهم، دانی التصور محدودا لألوان كطبیعتهم. و كانت ثقافتهم الادبیه فطریه خالصه یتغذی بعضهم من بعض، و لایقبلون لقاح الاداب الاجنبیه الراقیه لجهالتهم و اعتزال بادیتهم و تمردها و كذلك كانت علومهم ساذجه لا تفتح نوافذ النور للنظر، فیالنفس و ما بعد العالم الهیولی.»

و یقول فی هذا المجال الدكتور شفیق البقاعی: «اما السبب العائد لخو الادب العربی من بعض الاجناس الادبیه –و منها الملحمه- التی نحن نری مثالها عند الیونان و الرومان و السومریین، فهو عائد لظروف كونت طبائع اسلافنا و ركبت فیهم المیزاجیه التی صنعوا من خلالها ادبهم»

و یقول الدكتور عبدالمنهم الخفاجی: «1- أن مزاوله هذین اللونین –القصص و التمثیلی- من الشعر تقتضی الرویه و الفكره، و العرب اهل بدیهه و ارتجال. 2- و انهما یتطلبان الإلمام بطبائع الناس، و قد شغل العرب بأنفسهم عن دراسه النفوس و التفرغ لتحلیل طبائع الناس. 3- و انهما یفتقران إلی التحلیل و التطویل؛ و العرب اشد الناس اختصاراً للقول، و اقلهم استقصاداً فی البحث. 4- و انهما یحتاجان إلی كثره الاساطیر، و لم تتوفر هذه الكثره للعرب. 5- علی أن قیود الوزن و القافیه فی الشعر العربی لا تساعد علی الاطاله و الانشاء الملاحم الطویله. 6- و علی أن الشعر القصصی و التمثیلی یحتاجان إلی تدوین و كتابه لانهما لونان من الوان التدوین و الحضاره، و العربی فی الجاهلیه لم یكن یعرف هذه الوسائل، و كان بعد العصر الجاهلی محتذیاً للقدامی فی مناهجهم الادبیه و ألوان شعرهم الفنیه»[16]

و ثمه تعلیلات أخری فسرت انعدام الفن الملحمی فی الشعر العربی، منها أن القصه فی الشعر الجاهلی ضعیفه الفن لاقتصادها علی الخبر البسیط و السرد السریع… و لا جرم أن الا یجاز الذی درج علیه الجاهلی كان یحول بینه و بین الاسهاب فی اخباره… فلم یتوفر له عمل الملاحم و القصص الطویله.

و نحن نری بأن القصیده العربیه منذ نشأتها موحده القافیه، و الفتوحات الاسلامیه لم تتمخض عن ظهور شعر ملحمی، لأننا نری فی هذه الفتوحات طابعاً دینیاً و كان الهدف الاول منها هو نشر الاسلام و المضامین الدینیه.

و یقول الدكتور كمال الیازجی فی تحلیل هذه الظاهره –احجام العرب عن نظم الملاحم- عن لسان سلیمان البستانی، و یقول «1- ضیق نظاق الاحداث الجاهلیه 2- قصر النفس الشعری 3- التمسك بالمنهج التقلیدی و 4- ضعف تراث الاسطوری و … هی من الاسباب الرئیسیه لخلو الادب العربی من الملحمه.»

و ربما من الاسباب الرئیسیه الهامه فی هذا المجال هی عدم ترجمه الاعراب الادب الیونانی، لعدم رغبتهم أو أنهم لایعجبون بشعر غیر شعرهم، فیقولون أن الشعر هو شعر العرب فحسب.

و منها أن الوثنیه العربیه فی الجاهلیه لم تكن تلك الوثنیه المكتمله المعقده و المركبه: بل كانت و ثنیه فی ابسط اشكالها و كانت تتعایش مع مذاهب توحیدیه، كالیهودیه و النصرانیه و …

و منها أن التقلید الشعری الاصولی السائد، و المتمثل بسلطه القصیده الغنائیه ذات القافیه الواحده و الوزن الواحد لم یكن یسمح بنظم المطولات القصصیه الملحمیه…

و یقول الدكتور احمد الشایب: «إن ماده القصص توافرت للأقدمیین من عرب الجاهلیه لكثره ایامهم الداخلیه و الخارجیه، و توالی أسفارهم و شیوع الاساطیر و الخرافات بینهم، و لكن الشاعر او هو میر العرب لم یوجد، بدلیل أن هذه الماده الجاهلیه نفسها أو جدت القصص بعد الاسلام و كان خلیطاً من النظم و النثر»[18]

الخاتمه:

بالرغم من انتشار ادب الملحمه بین مختلف الشعوب و الامم فإننا لانجد لهذا الفن و هذا الجنس الادبی اثراً فی الشعر العربی سوی مقطوعات قصیره و قلیله و قصائد محدوده ذات نفس ملحمی، التی لانستطیع أن نضمها الی الملاحم العالیمه الشهیره كالتی عند الیونان و الفرس و الهنود، و لقدا تفق اكثرالباحثین تقریباً علی خلو الادب العربی من هذا الجنس الادبی و لكن تفرقت آراؤهم فی تفسیر هذه الظاهره، منهم من یردها الی خیال الجاهلین البسیط لانحصاره فی بادیه متشابهه الصور و الی فردیتهم و ضعف الروح القدسیه بینهم كبطرس البستانی، كما یردها البعض الاخر إلی قلّه الاساطیر و وجود قیود الوزن و القافیه كعبد المنعم الخفاجی، أو الی ضیق نظاق الاحداث الجاهلیه و قصر النفس الشعری، و التمسك بالمنهج التقلیدی كسلیمان البستانی.

و من الباحثین من یعتقد بأن هناك توجد قصائد ذات نفس ملحمی و حماسی، التی تستطیع أن تسمی شبه الملاحم و إن لم تصل إلی ما عند الیونان و الفرس و منهم الدكتور كمال الیازجی، الذی یعتقد بأن أرجوزه ابن معتز و ارجوزه ابن عبد ربه و تائیه ابن الفارض الكبری –بصفتها ملحمه صوفیه و دینیه- ربما كانت اقرب الی الملاحم، كما یعتقد الدكتور التونجی بأن سیفیات المتنبی و رومیات آبی فراس و قصائد شعراء «ادب الجهاد» ربما كانت أشبه بالملاحم.

و منها المعلقات السبعه التی نستطیع أن نحسبها ملحمه متعدد الناظمین فضلاً عن دواوین الحماسه و …

و فی الادب العربی الحدیث ایضاً، استمرت محاولات الشعراء فی هذا المجال و نری ظهور الآثار التی تشبه الملاحم فی بعض –الاحیان كـ «الیاذه الاسلامیه» لاحمد محرم و «الازریه» لشیخ الكاظم الازری و «عید الغدیر» لبولس سلامه و…

و لكن نری الشعراء فی هذه الاثار یلجؤون الی الحقائق التأریخی و یمیلون الی الغنائیه و لم یلجؤوا الی عناصر الملاحم كعنصر الخیال و الحوادث الخارقه للعاده
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:59|
مفهوم ادب الاطفال
 الكاتب :یوسف البرشوم 
 یحاول النقاد الآن، تمحیص أدب جدید على الأدب، هو أدب الأطفال، سواء فی طبیعته أو مصادره أو غایاته، مما یساهم فی وضع حدود لهذا الأدب الناهض، وتتنازع مسؤولیته المؤسسات والأفراد، ویتحمل أعباءه الأدباء والمربون ورجال الإعلام. وهو جزء من الأدب بشكل عام، وینطبق علیه ما ینطبق على الأدب من تعریفات، إلا أنه یتخصص فی مخاطبة فئة معینة من المجتمع، وهی فئة الأطفال، وقد یختلف أدب الأطفال عن أدب الكبار تبعاً لاختلاف العقول والإدراكات، ولاختلاف الخبرات نوعاً وكماَ. ولكن الذی لا خلاف فیه أن المادة الأدبیة لقصص الأطفال الفولكلوریة والتقلیدیة، والتی ظلت تحكى لأطفال شعب من الشعوب، على مر الأجیال من آلاف السنین فتستحوذ على عواطفهم وخیالاتهم، لم تكن منعزلة عن التیار العام للخیال والصور أو التفكیر فی هذا الشعب، بل كانت قصص الأطفال تعبیرات أدبیة خالصة صنعها الكبار. - مفهوم أدب الأطفال : لقد عرَّف بعضهم أدب الأطفال، بقوله: (إذا أردنا بأدب الأطفال كل ما یقال للأطفال بقصد توجیههم، فإنه قدیم قد التاریخ البشری، حیث یلتزم بضوابط نفسیة واجتماعیة وتربویة، ویستعین بوسائل الثقافة الحدیثة، فی الوصول إلى الأطفال، فإنه فی هذه الحالة ما یزال من أحدث الفنون الأدبیة) (1) ومع عمومیة هذا الرأی وانتشاره، ثمة تأكید على أن هذا الفن ابتدأ منظماً ومضبوطاً بقواعد وأصول، فی أوروبا عموماً، وفی فرنسا على الأخص، ومنها عمت بقیة دول العالم، حتى بات أدب الأطفال یشكل ظاهرة ثقافیة واجتماعیة واقتصادیة، من حیث تنوع موضوعاته وأحجامه وأصنافه، وعم تقریباً كل مكان فی العالم. (ولأدب الأطفال نوعان من الممارسة، الأول : منتوج أدب الأطفال، الذی یصنعه الكبار غالباً، وتقتصر مشاركة الأطفال فیه على التقلید، أو إبداء الإعجاب، والثانی: نشاط الطفل الأدبی والفنی، ویعتمد هذا المنتوج على إظهار الموهبة المبكرة، أو على ما یصنعه الأطفال خلال أداء المناشط الأدبیة)(1). وأدب الأطفال قدیم قدم قدرة الإنسان على التعبیر، وحدیث حداثة القصة أو الأغنیة التی تسمع الیوم فی برامج الأطفال بالإذاعة المسموعة والمرئیة، أو تخرج من أفواه المعلمین فی قاعات الدراسة، أو یحكیها الرواة فی النوادی، ینسجون أدباً یستمتع به الأطفال ویصلهم بالحیاة. وبذلك فإن أدب الأطفال لا یمكن أن یكون له تعریف مستقل، بل یندرج فی إطار الأدب العام، وهو مرتبط بالكتاب والقارئ، فالأدب یمكن أن یعرف بأنه تجربة القارئ حین یتفاعل مع النفس طبقاً لمعانیه الخاصة ومقاصده ودلالاته . أهمیة أدب الأطفال : إن الطفل بحاجة إلى أن یعرف ذاته ، ویعرف البیئة المادیة المحیطة به، والأدیب یساهم فی تهیئة الفرص اللازمة لتلك المعرفة، حیث یقدم مجموعة من الخبرات فیها حكمة الإنسان وآماله وطموحاته وآلامه وأخطاؤه ورغباته وشكوكه، والأطفال یمیلون بصدق إلى أن یتذوقوا هذا السجل الحافل، ولا أدل على ذلك من شغفهم بالقصص التی تروی علیهم أو یقرؤونها، ومحاولتهم الجاهدة لفهم الكلمات المكتوبة الزاخرة بهذا السجل. وكتب الأدب للأطفال تقدم لهم الكثیر، عن أشیاء من بیئتهم المادیة. بما فیها من حیوان ونبات وشجر، ویزداد شوقهم للأدب كلما وضح لهم جانباً جدیداً من عالمهم بعید المدى والاتساع. والأدب بذلك یشغفهم، ویعدهم إعداداً صحیحاً للحیاة العملیة، بما یقدم لهم من معلومات ومعارف، تمكنهم من السیطرة على عالمهم بعد أن اتضحت لهم جوانب مجهولة منه، وهم تواقون أبداً للسیطرة على هذا العالم، وتزداد حاجة الأطفال للأدب فی عصر مثل عصرنا، تتكاثر فیه المسؤولیات، وتغیّر أنماط الحیاة الیومیة بسرعة فائقة. وهو یساعد على تحسین أداء الأطفال، ویزودهم بقدر كبیر من المعلومات التاریخیة والجغرافیة والدینیة والحقائق العلمیة، ولا سیما القصة. ویوسع الأدب خیال الأطفال ومداركهم، من خلال متابعتهم للشخصیات القصصیة، أو من خلال قراءتهم الشعریة، أو من خلال رؤیتهم للممثلین والصور المعبرة. كما أن الأدب یهذب وجدان الأطفال لما یثیر فیهم من العواطف الإنسانیة النبیلة، ومن خلال مواقف شخصیات القصة أو المسرحیة التی یقرؤها الطفل أو یسمعها أو یراها ممثلة، فیندمج مع شخصیاتها ویتفاعل معها. وإضافة إلى ذلك فالأدب یعوِّدُ الأطفال حسن الإصغاء، وتركیز الانتباه لما تفرض علیه القصة المسموعة من متابعة لأحداثها، تغریه بمعرفة الجرأة فی القول، ویهذب أذواقهم الأدبیة، كما أنه یمتعهم ویسلیهم ویجدد نشاطهم، ویتیح فرصاً لاكتشاف الموهوبین منهم، ویعزز غرس الروح العلمیة وحب الاكتشافات، وكذلك الروح الوطنیة، كما أنه یوجه الأطفال إلى نوع معین من التعلیم الذی تحتاجه الأمة فی تخطیطها كالتعلیم الزراعی، والصناعی، بإظهار مزایا هذا النوع من خلال سلوك محب لأصحاب هذه المهن (1). ـ الخصائص الأساسیة لأدب الأطفال : یمتاز أدب الأطفال بالخصائص التالیة : 1- یشكل فعالیة الأطفال إبداعیة قائمة بذاتها. 2- یتطلب موهبة حقیقیة، شأن أی إبداع أصیل، فهو جنس جدید فی الساحة العربیة، إن صح التعبیر. 3- یتبع من صلب العمل التربوی، الذی یهدف إلى تنمیة معارف الأطفال، وتقویة محاكماتهم العقلیة، وإغناء حسهم الجمالی والوجدانی. 4- یعتمد على اللغة الخاصة بالأطفال، سواء أكانت كلاماً أم كتابة أم صورة أم موسیقا أم تمثیلاً. 5- یشمل جمیع الجوانب المتعلقة بالأطفال، من الأشیاء الملموسة والمحسوسة، إلى القیم والمفاهیم المجردة. وتشیر هذه الخصائص إلى الأهمیة البارزة لأدب الأطفال، التی جعلت منه موضوعاً شغل العدید من الكتّاب والأدباء فی العالم، وقد أخذ على عاتقه مسایرة الركب الحضاری والتطور الأدبی بأشكاله وألوانه المختلفة، فقد آمن عدد كبیر من الكتَّاب والأدباء والمفكرین بأدب الأطفال، وضرورة التركیز علیه، وإظهاره بشكله وممیزاته، حتى یقف إلى جانب أدب الكبار، وحتى یسهم فی خدمة الجیل الصاعد، الذین هم أطفال الیوم ورجال الغد المرتقب، فهم بناة المستقبل المأمول ورجاله. - أدب الأطفال والمجتمع : إن مرحلة الطفولة لیست منفصلة عن الحیاة التی تقتضی العیش مع الجماعة، فللحیاة الاجتماعیة خصائصها ومقتضیاتها، وللمجتمع مطالبه الآنیة والمستقبلیة، التی لا یمكن إهمالها عند تقدیم مادة أدبیة للطفل أو إنتاجها. وإن ما بین الأدب والحیاة من علاقات لا تنفصم عراها، هو ما یمیز الأدب القادر على الاستمرار ذلك الذی لا یعیش سوى زمن قصیر، فأی أدب لا یمكن النظر إلیه منفصلاً عن الحیاة، وإنما ینبغی أن یزخر بما تزخر یه الحیاة من عادات وتقالید ونظم وفن وفلسفة، والأدب إحدى الوسائل التی ابتكرها الإنسان لتیسر له فهم الحیاة، ورسم أهداف مستقبلیة لها، والنهوض بها إلى مستویات أفضل، تلبی له بعضاً من طموحاته وأمنیاته. ومما ینبغی أن یكون علیه أدب الأطفال، عدم إقراره بعیداً عن فهم طبیعة الطفل، وخصائص نموه، ومطالب الحیاة الاجتماعیة. ولعل فیما یلی من شروط للمادة الأدبیة، یمكن أن تسهم فی بناء شخصیة الطفل، وفی إدماجها فی الحیاة الاجتماعیة: 1 ـ مراعاة المادة الأدبیة لطبیعة الطفل وخصوصیتها، وخصوصیة المراحل الفرعیة التی تتكون منها. 2 ـ مراعاة متطلبات الحیاة وأهداف المجتمع، فلا قیمة لأدب من دون رسالة، وأن یحقق التوازن المناسب بین الفرد والبیئة. 3 ـ أن تمتلك المادة الأدبیة عناصر الإثارة المناسبة، التی تستدعی استجابات إیجابیة من التلقی، ومقومات تجعله قادراً على تحریك دوافع الطفل وتوجیهاً سلیماً إیجابیاً. 4 ـ الكائن البشری – طفلاً كان أم راشداً – قادر على الاتصال والتفاعل مع البیئة بوجهیها المادی والاجتماعی، وباستطاعته مواجهة تحدیاتها التی لا تراعی أصلاً خصوصیة المراحل النمائیة للإنسان، من خلال قدرة الكائن على التكیف والتلاؤم. 5 ـ مراعاة ما تنطوی علیه حاجة حب الاطلاع عند الطفل كونه باحثاً عالماً مسكوناً بهواجس التنقیب والاكتشاف والفضول، ولا یتعب من طرح الأسئلة التی یتوالد بعضها من بعض وكأنها تفیض عن نبع لا تنضب میاهه (1). - وسائل تنمیة أدب الأطفال : إن الوصول إلى التنمیة المطلوبة فی أدب الأطفال، یقتضی أن نعمل على إنجاز ما یلی : 1 ـ الاتجاه إلى الأطفال كجیل جدید، علیه أن یتسلح بقیم عربیة أصیلة. 2 ـ إیمان المؤسسات الثقافیة والتربویة، بأدب مستقل للأطفال. 3 ـ جعل الوسائط الثقافیة والتربویة، تراعی خصائص النمو عند الأطفال، وتستجیب لحاجاتهم فی التعبیر والاطلاع والإبداع، وتتوافق مع طبیعتهم. 4 ـ ربط الثقافة العربیة المعاصرة المكرسة للأطفال بمناهج التعلیم. 5 ـ الاهتمام بالثقافة العربیة، التی تتبع أسالیب تهز وجدان الطفل، وتؤكد على روح الجماعة والتعاون مع الآخرین، وتعنى بتربیة العقل والید معاً. 6 ـ إیقاف الأدب على وعی الفساد والتخلف فیما حولهم وإحلال القیم المتمثلة بالصدق، والأمانة، والإخلاص، والوفاء، والتضحیة، والروح الإنسانیة. 7 ـ مساعدة الأطفال على وعی الفساد والتخلف فیما حولهم وإحلال القیم المتمثلة بالصدق، والأمانة، والإخلاص، والوفاء، والتضحیة، والروح الإنسانیة. 8 ـ البحث عن أدوات إیصال ثقافیة جدیدة تغری الأطفال وتجذبهم. ـ إیجاد وسائل فعالیة لقیم أدب الأطفال الجید. 10 ـ الاعتماد على الأصیل من التراث، وتجسیده لربط الحاضر بالماضی، والانطلاق به إلى مستقبل أفضل. 11 ـ التأكید على تقدیم نوعیة متمیزة فی الشكل والمضمون، أی فی الكیف لا فی الكم (1). 12 ـ إنشاء حوافز معنویة ومادیة، تحث المعنیین من الأدباء والكتاب والرسامین والمثقفین على التفرغ لأدب الأطفال. إن وسائل تنمیة أدب الأطفال، التی ذكرتها، ما هی إلا صورة طموحة رسمتها من خلال الواقع، وعبر تطلعنا إلى أدب خاص بطفلنا، ویقوم بفعالیة مدروسة ومشتركة من خلال دعم الثقافة النظریة بالعمل والممارسة، لكثیر من الأنشطة العلمیة والعملیة وغیر ذلك من الأنشطة التی تتم داخل المدرسة وخارجها. وأخیراً، ینبغی أن نشیر إلى الأسس التی تدل على مكامن التجربة الإبداعیة فی أدب الأطفال : - التعریف بالقاموس المشترك للطفل فی هذه المرحلة العمریة أو تلك، وأن یستتبع ذلك إنجاز دلیل للإنسان اللغویة والتعبیریة فی مخاطبة الأطفال (المفردات، التراكیب، الصور، المجازات، الصفات، الأطفال، الألوان .. .. الخ). - التعریف بفنون أدب الأطفال، من منظور الاستراتیجیة التربویة العربیة طبیعة العلاقة بین الإبداع والجمهور، وتناغم العناصر الداخلیة للعمل مع المغزى، وتنشیط منطق العمل نحو عقلنة الخیال الشعبی وانتشاره واستخدامه، تشجیع الحوار حول سبل ترشید أدب الأطفال .. .. الخ. - التعریف بما یخالط أدب الأطفال، من مؤسسات تربویة أخرى، كالمدرسة، ووسائل الإعلام، وبحث مكانة أدب الأطفال، إزاء هذه المؤسسات جمیعها. - التعریف بمجموعة الأنماط الثقافیة، التی تكوِّن المناخ الثقافی والتربوی للطفل، فی الحكایات والأساطیر والمأثورات والتاریخ والتقالید الشفویة وسوى ذلك، وفرز ما یدخل فی مصادر أدب الأطفال، أو مؤشراته سلباً أو إیجاباً، وعلامة ذلك كله بالتغیر الاجتماعی والنهوض التربوی. - التعریف بوسائط الأطفال إلى أدبهم عبر الإجابة النوعیة على مشكلاتها بادیة للعیان فی هذا الوسیط أو ذاك، وبخاصة بعد تعدد هذه الوسائط، وانتشارها السریع إلى أوسع قواعد جماهیر الأطفال (1).

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:58|

تحلیل قصیدة " عاشقة اللیل " لنازک الملائکة


أولا تحلیل النص بناء على عناصر الأسلوب :


العاطفة:

العاطفة المسیطرة على الشاعرة عاطفة الحزن والشعور بالضیاع والتوهان.
الأفکار:

الفکرة التی تدور حولها القصیدة هی :ضیاع الشاعرة وسط الظلام .
الموسیقى الخارجیة:

الشاعرة فی مقاطعها الشعریة لم تخرج عن نطاق التفعیلات العروضیة المعروفة أما بالنسبة للقافیة فقد اختارت الشاعرة لکل مقطع القافیة التی تتناسب مع موضوعه فمثلا فی المقطع الثانی جاءت القافیة بالألف التی تقتضی انفتاح الفم وخروج الهاء وناسب ذلک الحدیث عن یقظة الفتاة وانفتاح عینیها بعد أن کانت منغلقة فی سبات نومها وما تبع ذلک من ألحان وعناء ومنى .. أما فی المقطع السادس فقد جاءت القافیة بحرف الضاد وهو حرف ثقیل وزاد ثقله حرکة الضمة وقد ناسب ذلک الحدیث عن مآسی الطیف من شحوب وغموض وهو مجرد خیال وما تبع ذلک من الحدیث عن عدم الرحمة .
الموسیقى الداخلیة:

تتمثل فی الألفاظ التی اختارتها الشاعرة حیث تنسجم هذه الألفاظ مع إیقاع القصیدة ومضمونها .

الخیال:

بما أن الشاعرة من رواد الشعر الحر ولما کان هذا الشعر یقوم على الرمز فنجد الشاعرة أکثرت من استخدام الرموز وتشخیصها مثل ( اللیل ) الذی یبدو فی سائر مقاطع القصیدة.
أیضا ( الوادی الکئیب ) فی المقطع الأول " شهد الوادی سراها, فمن العود نشیج ومن اللیل أنین, تضحک الدنیا, صراخ الرعد, لن تنطق هذه الکلمات....الخ

اللغة:

اللغة جزلة حیث انتقت الشاعرة ألفاظها بعنایة لتعبر عن العاطفة التی تختلج فی صدرها بوضوح وحتى یتسنى للقارئ الوصول إلى المغزى الذی تریده الشاعرة , فالکلمات إیحائیة توحی بالحزن الشفیف .



ثانیا : بناء على سمات شعر الشاعرة :

1- من حیث الوزن والقافیة ذکر أعلاه (سابقا).

2- الغموض:

من حیث استخدام الرموز مثل اللیل, الوادی الکئیب, النخیل, صراخ الرعد... وهذه الرموز لها تداعیات تختلف من قارئ إلى آخر ..
وهنا تکمن قیمة الغموض الفنی الموحی الذی استخدمته الشاعرة ... وکذلک هناک ألفاظ توحی بغموض مثل " شاعرة الحیرة, الشحوب والغموض والذهول.

3- التکرار الفنی عند الشاعرة :

کررت الشاعرة العدید من الکلمات أهمها: " اللیل، الظلمة، الظلام، الوادی.....الخ .
وهذا التکرار له أهمیة کبرى ذلک لأن محور القصیدة مبنی بین طرفین الطرف الأول: العاشقة وهی الشاعرة نفسها. والطرف الثانی: اللیل. وقد جلى ذلک التکرار تلک العلاقة الوطیدة بین المتحاورین ( اللیل والعاشقة ).




4- الحزن الشفیف :

لما کانت العاطفة المسیطرة على الشاعرة فی هذه القصیدة هی عاطفة الحزن فمما لا شک فیه أن تستخدم الشاعرة ألفاظا توحی بما یعتمل فی داخلها من الشعور بالحزن فاستخدمت ألفاظا توحی بالحزن العمیق الرقیق مثل ( أحزان القلوب. الوادی الکئیب. ألحان أساها. سرت طیفا حزینا فإذا الکون حزین . من العود نشیج ومن اللیل أنین . ما أنت سوى آهة الحزن . من یرحم القلب المهیض . صراخ الرعد )

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:56|

الصورة الرمزیة فی قصائد ادونیس

ادونیس هو شاعر حداثی یحاول ان یعطی صفة خاصة لقصائده ، وقد جعل من صورة المرأة عنصرا مهما من عناصر القصیدة فی الشکل والمضمون ، وقد تجاوز الشاعر لیعبر حدودها ویصل الى أوج الصورة الرمزیة أو الإیحائیة .
ومن خلال الصورة الرمزیة للمرأة یجسد الشاعر مفاهیما ورؤى جدیدة ینطلق منها بأخیلة واسعة عبر الواقع الذی یعیشه الى الخیال متجاوزا التقلید لیمثل الرمز والایحاء ، ولأن الشعر عند ادونیس :- (( الشعر هو الرحیل الدائم الى المجهول )) (1)
فهو یحاول ان یرحل الى افق جدیدة مجازفا فی بث المعانی والالفاظ الرمزی....


ادونیس هو شاعر حداثی یحاول ان یعطی صفة خاصة لقصائده ، وقد جعل من صورة المرأة عنصرا مهما من عناصر القصیدة فی الشکل والمضمون ، وقد تجاوز الشاعر لیعبر حدودها ویصل الى أوج الصورة الرمزیة أو الإیحائیة .
ومن خلال الصورة الرمزیة للمرأة یجسد الشاعر مفاهیما ورؤى جدیدة ینطلق منها بأخیلة واسعة عبر الواقع الذی یعیشه الى الخیال متجاوزا التقلید لیمثل الرمز والایحاء ، ولأن الشعر عند ادونیس :- (( الشعر هو الرحیل الدائم الى المجهول )) (1)
فهو یحاول ان یرحل الى افق جدیدة مجازفا فی بث المعانی والالفاظ الرمزیة التی یقتطف ثمارها من شجرة الحیاة لیصل بها الى بحر الخیال او الى حلم القصیدة التی یکتبها :- (( انا مع الحلم ، أرید ان تکون القصیدة حلما )) (2) هو یجعل من القصیدة حلما یسافر الیه عبر الفاظها ومعانیها ..
فهو یحاول ان یعبر حدود التقلید الى الرمز فی الشعر ، یقول :- (( ان التمرد على الاشکال والمناهج الشعریة القدیمة ورفض المواقف والاسالیب التی استنفدت اغراضها یدعوان الشعر الى ( تجاوز وتخط ) (3)
الشاعر یحاول ان یتمرد على الاشکال التقلیدیة وبذلک هو یصل الى مرحلة الخلق او الابداع التولیدی ، فیکتب الاشیاء بطبیعة ابداعیة جدیدة ، وتنحى شکلا تصویریا رمزیا ، فهو یجعل من صورة المرأة رمزا لأشیاء اخرى :-
أحلم ان فی یدی جمرة
آتیة على جناح طائر
من افق مغامر
أشم فیها لهبا هیاکلیا
ربما لصور فیها سمة لأمرأة
یقال صار شعرها سفینة ( 4)
الشاعر هنا یجعل من الجمرة صورة لأمرأة ویرمز لشعر المرأة بالسفینة ( شعرها سفینة ) وهذا الشکل هو شکل جدید بطبیعة الحال ، یتناوله الشاعر فی الفاظ قصیرة لکن المعنى یظل قویا فی تلک الصورة ، الشاعر یبحث عن مضامین جدیدة لصورة المرأة ، انه یجعل منها ذات تناقض ایحائی یصوره تصویرا ایحائیا ، مع انه فی قصائد اخرى یتحول الى وصف کامل للمرأة فهو یصف کل اعضائها بدءا من الکاحل انتهاءا بالثدیین :-
الکاحل : عروة فی حافة
درجة سلم نحو
عقدة نافرة فی ما یشبه الفراغ
کلمة تلمس لا تلفظ ( 5)
انه یصف کاحل المرأة التی یختارها فی قصائده وهی امرأة مجهولة لا یذکر من هی ، لکنه یرکز على وصفها فقط ، وهذا شکل بحد ذاته یعد حداثیا بالمرة ، الشاعر یرمز للکاحل بانه ( عروة فی حافة ) انه رمز ووصف دقیق وفی غایة الغرابة .
الشاعر یعطی تحولات للاشیاء ویستمر فی ذلک :-
الساق :- لذة انزلاق
یظن ایکار انها هی کذلک معراجه
تأریخ غرق بلا نوافذ ( 6)
انه یصور الساق وکأنها اشبه ما تکون صورة شفافة ذات لذة منزلقة بزاویة اللفظ والمعنى وهذا الامر فیه من الغرابة بعض الشیء ، اما الرکبة فانه یجعل منها خادمة وبنفس الوقت أمیرة :
خادمة امیرة
والجواب دائما : لا اتعب ( 7)
انه یجعل منها صورة مساعدة للذة .
الشاعر یتأرجح فی المعنى واللفظ من خلال جسد المرأة :-
الفخذ :-
الى المثلث بعد ثوان تصلین
ایتها الاصابع (8)
انه یستمر فی تأرجحه واصفا جمیع اجزاء الجسد وکل عضو من اعضاء الجسد یعطی له صفته الخاصة ، والشاعر یتصاعد فی وصفه للجسد :
السرة :
لا بُد من وسیلة لزرع الحیاة
کمثل السرة (9)
انه یستمر فی الصعود بوصف الجسد واعضاءه :-
الثدیان :
السقوط دائما من الثدیین الى ما تحت السرة
هذا هو النص الذی اعطیناه عهدنا
لکی نتخذه دلیلا ولکی نغطی به اماکن
العبادة ، ونصنع منه وفقا لأموالنا شرابا أو خبزا
الى یقول :
سقوط نتمسک فیه بقلادة او اکثر یمدها لنا عنق الشهوة
فاتحا لکل حرکة افقا وتکون اخطاؤنا بین اجمل اعمالنا
لانها تتیح لنا تکرارا یتیح لنا ان نکرر الذوق الضد
وذوق الغرابة ( 10)
الشاعر هنا یعطی لنا صورة أوسع وأکبر للثدیین من باقی أجزاء الجسد ، باعتبار هذا العضو من الجسد یمثل الأنوثة ..
لکنه فی قصیدة اخرى یختلف فی وصف هذین الثدیین ، اذ انه یجعل من لندن - ( ثدییان ضخمان ) :-
لندن - ثدیان ضخمان :
واحد یرصفه المال
وآخر فی ید الله ( 11)
هنا الشاعر یتناقض فی طرحه لکن التناقض ایجابی لانه یشکل صورة رمزیة ذات شعریة قویة ، اذ انه یجعل من الواحد اجزاءا فجعل ( لندن - ثدییان ضخمان ) واحد یرضعه المال وآخر فی ید الله ، انها صورة رمزیة لاجزاء امرأة یضعها فی وصف لمدینة .
الشاعر دائما یصنع من المرأة شکلا اساسیا یزخرف قصائده فیها ، سواء اکانت هذه الصورة تقلیدیة او رمزیة :-
تلک المرأة
لم تعد الا ذکرى
علقتها فی عنق الهواء
لا أمل من النظر الیها ( 12)
هنا الشاعر یستعمل صورة المرأة على شاکلة رمزیة ، اذ انه یضعها معلقة فی عنق الهواء وهذه الصورة هی صورة رمزیة بحد ذاتها ن وهذه المرأة هی امرأة مجهولة فی واقع الحال فی نظر الشاعر ولا نعرف ما هو السر من هذا الغموض فی اخفاء الشخصیةى الحقیقیة للمرأة عند ادونیس ن فنحن لا نجد اسماءا او اوصافا معینة لمرأة ما ، تدل علیها ، نحن نجده یتکلم عن المرأة بشکل ع8ام وهذا هو ألطاغ فی اکثر قصائده ، لکننا فی بعض الاحیان نجده یعبر عن المرأة ویکشف من هی هذه المرأة ، فهو یصف امرأة لا یبوح عنها ایضا لکنه یجمع بینها وبین امه فی احدى قصائده :-
هی وجه امی فی الظلام
وصوتها ، یتزلقان مع الرؤى حتى انام
وهی النخیل اخاف منه اذا ادلهم مع الغروب ( 13)
الشاعر یجعل من الصورة الرمزیة للمرأة شکلا وایقاعا ینسجم وحداثة اللغة التی یکرسها فی قصائده على الرغم من اختفاء المضمون فی بعض الاحیان .

***************
(1)سامی مهدی ، المصدر السابق ، ص 166
(2)المصدر نفسه ، ص 161
(3)غالی شکری ، المصدر السابق ، ص 110
(4)د. احلام خلوم ، النقد المعاصر وحرکة الشعر الحر ، ص 138
(5)دیوان الشاعر ( أول الجسد آخر البحر ) ، ص 221
(6)المصدر نفسه ، ص 207
(7)المصدر نفسه ، ص 207
(10)دیوان الشاعر ( أول الجسد آخر البحر ) ، ص 207
(11)المصدر نفسه ، ص 207
(12)المصدر نفسه ، ص 208
(13)دیوان الشاعر (اهدأ ، هاملت تنشق جنون اوفیلیا) ، ص

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:53|
بدر شاکر السیاب.. شاعر الرمز والبیئة

یعتبر بدر شاکر السیاب أحد أهم الشعراء الذین ساهموا فی حرکة تجدید الشعر العربی إلى جانب نازک الملائکة وعبد الوهاب البیاتی وبلند الحیدری ونزار قبانیویمتاز شعر السیاب بالرومانسیة نظرا لطبیعة الشاعر نفسه، کما کان شاعرا رمزیا یمزج بین الشعر والشخوص المحیطة ببیئته فی مزیج أسطوری مستوحى من طبیعة المکان، وهنا یقول عنه الشاعر العراقی جعفر العلاق: " کان السیاب، بما فی نفسه من جذر رومانسی غائم، أحد شعراء الحداثة العرب المهمین، الذین دخلوا مع الطبیعة فی حوارٍ حیّ، مترع بالنشوة والنبل والألم العظیم أیضاً،کان السیاب منتج رموز خصباً. وکانت رموزه الشخصیة ثریة لکنها متجاورة، أی أن مداها الرمزی لم یکن فسیحاً، ولم یکن متنوعاً بشکل کافٍ. إن رموزه على کثرتها تدور فی مناخ من الدلالات کثیف، لکنه فی أحیان کثیرة ضیق، حاد، مغلق.

ولم یکن افتتان السیاب بهذه الرموز ترفاً أو لهواً ؛ لقد کانت تلبی جمیعها حاجة نفسیة عاصفة، وهی حاجته إلى الأم، إن إحساس السیاب بالیتم إحساس فاجع، وهو مصدر لا یمکن إغفاله، لإضاءة الکثیر من محنته وعنائه الروحی و الجسدی أیضا.
إن تعلقه بهذه الرموز لا یرجع إلى کونها جزءاً من الطبیعة الثرة حوله فحسب، بل یعود أیضا لسبب أبعد من ذلک. فهذه الرموز تمثل، بالنسبة للشاعر، مأوىً، سواء أکان هذا المأوى فراشاً أم بیتاً، ضریحاً أم متکأً، مکانا للهو أم مغسلا للموتى".

ولد فی جنوب العراق فی قریة جیکور فی البصرة عام 1926م، وبعد ولادته بست سنوات توفیت والدته. تخرج عام 1948 من دار المعلمین فی بغداد، ومن مقهى الزهاوی بدأت حیاته الأدبیة ونشرت قصائده لأول مرة فی جریدة الاتحاد.
بدأ حیاته حزینا، وانتهى بائسا، تنقل بین بیروت وباریس ولندن من أجل العلاج من مرض السل، وعام 1961 لم یقو جسده النحیل على تحمل أعباء المرض فأصیب بالشلل الکامل، ولا ینفعه بعد ذلک أطباء بغداد والکویت وباریس ولندن وروما، ویتوفى فی "المستشفى الأمیری" بالکویت عام 1964، فتنقل جثته إلى البصرة لیدفن هناک.
من دواوینه "أزهار ذابلة" 1947، و "أساطیر" 1950، و "حفار القبور" 1952، و "المومس العمیاء" 1954، و "الأسلحة والأطفال" 1955، و"أنشودة المطر" 1962، و "المعبد الغریق" 1962، و "منزل الأقنان" 1963 و "شناشیل ابنة الجلبی" 1964. ثم نشر دیوان "إقبال" عام 1965.

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:53|
قصیدة جمعت كل سور القرآن

– بعضها بالاسم وبعضها ببدایة السورة

فی كلّ فاتحة للقول معتبرة ** حق الثناء على المبعوث بالبقرَه
فی آل عمران قِدماً شاع مبعثه ** رجالهم والنساء استوضحوا خبَرَه
قد مدّ للناس من نعماه مائدة ** عمّت فلیست على الأنعام مقتصرَه
أعراف نعماه ما حل الرجاء بها ** إلا وأنفال ذاك الجود مبتدرَه
به توسل إذ نادى بتوبته ** فی البحر یونس والظلماء معتكرَه
هود ویوسف كم خوفٍ به أمِنا ** ولن یروّع صوت الرعد من ذكَرَه
مضمون دعوة إبراهیم كان وفی ** بیت الإله وفی الحجر التمس أثرَهْ
ذو أمّة كدَوِیّ النحل ذكرهم ** فی كل قطر فسبحان الذی فطرَهْ
ب كهف رحماه قد لاذا الورى وبه ** بشرى بن مریم فی الإنجیل مشتهِرَهْ
سمّاه طه وحضّ الأنبیاء على ** حجّ المكان الذی من أجله عمرَهْ
قد أفلح الناس بالنور الذی شهدوا ** من نور فرقان ه لمّا جلا غرَرَهْ
أكابر الشعراء اللّسْنِ قد عجزوا ** كالنمل إذ سمعت آذانهم سورَهْ
وحسبه قصص لل عنكبوت أتى ** إذ حاك نسْجا بباب الغار قد سترَهْ
فی الروم قد شاع قدما أمره وبه ** لقمان وفى للدرّ الذی نثرَهْ
كم سجدةً فی طُلى الأحزاب قد سجدت ** سیوفه فأراهم ربّه عِبرَهْ
سباهم فاطر الشبع العلا كرما ** لمّا ب یاسین بین الرسل قد شهرَهْ
فی الحرب قد صفت الأملاك تنصره ** فصاد جمع الأعادی هازما زُمَرََ هْ
لغافر الذنب فی تفصیله سور ** قد فصّلت لمعان غیر منحصرَهْ
شوراهُ أن تهجر الدنیا فزُخرفُ ها ** مثل الدخان فیُغشی عین من نظرَهْ
عزّت شریعته البیضاء حین أتى ** أحقافَ بدرٍ وجند الله قد حضرَهْ
محمد جاءنا بالفتحُ متّصِلا ** وأصبحت حُجرات الدین منتصرهْ
بقاف والذاریات اللهُ أقسم فی ** أنّ الذی قاله حقٌّ كما ذكرهْ
فی الطور أبصر موسى نجم سؤدده ** والأفق قد شقّ إجلالا له قمرهْ
أسرى فنال من الرحمن واقعة ** فی القرب ثبّت فیه ربه بصرهْ
أراهُ أشیاء لا یقوى الحدید لها ** وفی مجادلة الكفار قد نصرهْ
فی الحشر یوم امتحان الخلق یُقبل فی ** صفٍّ من الرسل كلٌّ تابعٌ أثرهْ
كفٌّ یسبّح لله الطعام بها ** فاقبلْ إذا جاءك الحق الذی نشرهْ
قد أبصرت عنده الدنیا تغابنها ** نالت طلاق ا ولم یعرف لها نظرهْ
تحریم ه الحبّ للدنیا ورغبته ** عن زهرة الملك حقا عندما خبرهْ
فی نونَ قد حقت الأمداح فیه بما ** أثنى به الله إذ أبدى لنا سِیرَهْ
بجاهه ' سأل' نوح فی سفینته ** حسن النجاة وموج البحر قد غمرَهْ
وقالت الجن جاء الحق فاتبِعوا ** مزمّلا تابعا للحق لن یذرَهْ
مدثرا شافعا یوم القیامة هل ** أتى نبیٌّ له هذا العلا ذخرَهْ
فی المرسلات من الكتب انجلى نبأ ** عن بعثه سائر الأحبار قد سطرَهْ
ألطافه النازعات الضیم حسبك فی ** یوم به عبس العاصی لمن ذعرَهْ
إذ كورت الشمس ذاك الیوم وانفطرت ** سماؤه ودّعت ویلٌ به الفجر َهْ
وللسماء انشقاق والبروج خلت ** من طارق الشهب والأفلاك منتثرَهْ
فسبح اسم الذی فی الخلق شفّعه ** وهل أتاك حدیث الحوض إذ نهّرَهْ
كالفجر فی البلد المحروس عزته ** والشمس من نوره الوضاح مختصرَهْ
واللیل مثل الضحى إذ لاح فیه ألمْ ** نشرح لك القول من أخباره العطرَهْ
ولو دعا التین والزیتون لابتدروا ** إلیه فی الخیر ف اقرأ تستبن خبرَهْ
فی لیلة القدر كم قد حاز من شرف ** فی الفخر لم یكن الانسان قد قدرَهْ
كم زلزلت بالجیاد العادیات له ** أرض بقارعة التخویف منتشرَهْ
له تكاثر آیات قد اشتهرت ** فی كل عصر فویل للذی كفرَهْ
ألم تر الشمس تصدیقا له حبست ** على قریش وجاء الدّوح إذ أمرَهْ
أرأیت أن إله العرش كرمه ** ب كوثر مرسل فی حوضه نهرَهْ
والكافرون إذا جاء الورى طردوا ** عن حوضه فلقد تبّت ید الكفرَهْ
إخلاص أمداحه شغلی فكم فلِق ** للصبح أسمعت فیه الناس مفتخرَهْ

وصلى الله على نبینا محمدا وعلى اله وصحبه وسلم
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:51|
أنشودة المطر بالترجمة الانجلیزیة

عیناكِ غابتا نخیلٍ ساعةَ السحرْ

أو شرفتانِ راحَ ینأى عنهُما القمرْ
عیناكِ حین تبسمانِ تُورقُ الكرومْ
وترقصُ الأضواءُ .. كالأقمارِ فی نهرْ
یرجُّهُ المجدافُ وَهْناً ساعةَ السحرْ...
كأنّما تنبضُ فی غوریهِما النجومْ

وتغرقانِ فی ضبابٍ مِن أسىً شَـفیفْ
كالبحرِ سرَّحَ الیدینِ فوقَهُ المساءْ
دِفءُ الشـّتاءِ فیه وارتِعاشةُ الخریفْ
والموتُ والمیلادُ والظلامُ والضیاءْ
فتستفیقُ مِلءَ روحی رعشةُ البُكاءْ
ونشوةٌ وحشیةٌ تعانقُ السّماءْ
كنشوةِ الطفلِ إذا خافَ مِن القمرْ

كأنَّ أقواسَ السحابِ تشربُ الغیومْ...
وقطرةً فقطرةً تذوبُ فی المطرْ...
وكَركرَ الأطفالُ فی عرائش الكُرومْ
ودغدغتْ صمتُ العصافیرِ على الشجرْ
أنشودةُ المطرْ
مطرْ..
مطرْ..
مطرْ..

تثاءبَ المساءُ والغیومُ ما تزالْ
تسحُّ ما تسحُّ مِن دموعِها الثِقالْ
كأنّ طِفلاً باتَ یهذی قبلَ أنْ ینامْ
بأنّ أُمـّه (التی أفاقَ منذ عام)
فلم یجدْها..
ثم حین لجَّ فی السؤالْ
قالوا له: " بعد غدٍ تعود "
لابدّ أنْ تعودْ
وإنْ تهامسَ الرفاقُ أنّها هناك
فی جانبِ التلِ تنامُ نومةَ اللحودْ
تسفُّ مِن تُرابِها.. وتشربُ المطرْ

كأنّ صیّاداً حزیناً یجمعُ الشباكْ
ویلعنُ المیاهَ والقدرْ
وینثرُ الغناءَ حیث یأفلُ القمرْ
مطرْ..
مطرْ..
أتعلمینَ أیَّ حزنٍ یبعثُ المطرْ ؟
وكیف تنشجُ المزاریبُ إذا انهمرْ ؟
وكیف یشعرُ الوحیدُ فیه بالضیاعْ ؟
بلا انتهاءٍ.. كالدمِ المُراقِ.. كالجیاعْ
كالحبّ.. كالأطفالِ.. كالموتى
هو المطرْ

ومقلتاكِ بی تطیفان مع المطرْ
وعبرَ أمواجِ الخلیجِ تمسحُ البروقْ
سواحلَ العراقِ.. بالنجومِ و المحارْ
كأنها تهمُّ بالبروقْ
فیسحبُ اللیلُ علیها من دمٍ دثارْ

أصیحُ بالخلیج: " یا خلیج "
"یا واهبَ اللؤلؤ و المحارِ و الردى "
فیرجعُ الصدى
كأنـّهُ النشیج:
"یا خلیج.. یا واهبَ المحـّارِ والردى "

أكادُ أسمعُ العراقَ یذخرُ الرُعودْ
ویخزنُ البروقَ فی السهولِ والجبالْ
حتى إذا ما فضّ عنها ختمَها الرجالْ
لم تترك الریاحُ مِن ثمودْ
فی الوادِ مِن أثرْ

أكادُ أسمعُ النخیلَ یشربُ المطرْ
وأسمعُ القُرى تئنُّ.. والمهاجِرین
یُصارعونَ بالمجاذیفِ وبالقلوعْ
عواصفَ الخلیجِ والرعودِ.. مُنشدین
مطرْ..
مطرْ..
مطرْ..
وفی العراقِ جوعٌ
وینثرُ الغلالَ فیه موسمُ الحصادْ
لتشبعَ الغربانُ والجرادْ
وتطحنُ الشوان والحجرْ
رحىً تدورُ فی الحقولِ... حولها بشرْ
مطرْ..
مطرْ..
مطرْ..

وكم ذرفنا لیلةَ الرحیل مِن دُموع
ثم اعتـَللنا - خوفَ أن نُلامَ - بالمطرْ
مطرْ..
مطرْ..
ومنذُ أن كنّا صغاراً.. كانت السماءْ
تغیمُ فی الشتاءْ
ویهطلُ المطرْ
وكلّ عامٍ (حین یُعشبُ الثرى) نجوعْ
ما مرَّ عامٌ والعراقُ لیسَ فیه جُوعْ
مطرْ..
مطرْ..
مطرْ..

فی كلّ قطرةٍ مِن المطرْ
حمراءَ أو صفراءَ مِن أجنّةِ الزهرْ
وكلّ دمعةٍ مِن الجیاعِ والعُراة
وكلّ قطرةٍ تُراقُ مِن دمِ العبیدْ
فهی ابتسامٌ فی انتظارِ مَبسمٍ جدیدْ
أو حلمةٌ تورّدتْ على فمِ الولیدْ
فی عالمِ الغدِ الفتیّ واهبِ الحیاة
مطرْ..
مطرْ..
مطرْ..
سیعشبُ العراقُ بالمطر

أصیحُ بالخلیج: " یا خلیج "
"یا واهبَ اللؤلؤ و المحارِ و الرَدى "
فیرجعُ الصدى
كأنـّهُ النشیج:
"یا خلیج.. یا واهبَ المحـّارِ والرَدى "

وینثرُ الخلیجُ من هِباته الكِثارْ
على الرمالِ رغوهُ الأجاج.. والمحارْ
وما تبقّى مِن عِظام بائسٍ غریقْ
مِن المهاجِرین ظلّ یشربُ الردى
مِن لجُة الخلیجِ و القَرارْ
وفی العراقِ ألفُ أفعى تشربُ الرحیقْ
مِن زهرةٍ یربها الرفاتُ بالنـّدى
و أسمعُ الصدى
یرنّ فی الخلیج:
مطرْ..
مطرْ..
مطرْ..

فی كلّ قطرةٍ مِن المطرْ
حمراءَ أو صفراءَ مِن أجنّةِ الزهرْ
وكلّ دمعةٍ مِن الجیاعِ والعُراة
وكلّ قطرةٍ تُراقُ مِن دمِ العبیدْ
فهی ابتسامٌ فی انتظارِ مَبسمٍ جدیدْ
أو حلمةٌ تورّدتْ على فمِ الولیدْ
فی عالمِ الغدِ الفتیّ واهبِ الحیاة
ویهطلُ المطرُ




Rain Song.


Your eyes are two palm tree forests in early light,
Or two balconies from which the moonlight recedes
When they smile, your eyes, the vines put forth their eaves,
And lights dance .. like moons in a river
Rippled by the blade of an oar at break of day;
As if stars were throbbing in the depths of them . . .
And they drown in a mist of sorrow translucent
Like the sea stroked by the hand of nightfall;
The warmth of winter is in it, and the shudder of autumn,
And death and birth, darkness and light;
A sobbing flares up to tremble in my soul
And a savage elation embracing the sky,
Frenzy of a child frightened by the moon.
It is as if archways of mist drank the clouds
And drop by drop dissolved in the rain …
As if children snickered in the vineyard bowers,
The song of the rain rippled the silence of birds in the trees
Rain song
Drop,
Drop,
Drop,
Evening yawned, from low clouds
Heavy tears are streaming still.
It is as if a child before sleep were rambling on
About his mother (a year ago he went to wake her, did not find her; Then when he kept on asking, he was told:
"After tomorrow, she'll come back again"
That she must come back again,
Yet his playmates whisper that she is there
In the hillside, sleeping her death for ever,
Eating the earth around her, drinking the rain;
As if a forlorn fisherman gathering nets
Cursed the waters and fate
And scattered a song at moonset,
Drip, drop, the rain
Drip, drop, the rain

Do you know what sorrow the rain can inspire?
And how gutters weep when it pours down?
Do you know how lost a solitary person feels in the rain?
Endless,- like spilt blood, like hungry people, like love, like children, like the dead,-
Endless the rain.
Your two eyes take me wandering with the rain,
Lightning's from across the Gulf sweep
The shores of Iraq
With stars and shells,
As if a dawn were about to break from them
But night pulls over them a coverlet of blood.

I cry out to the Gulf: "O Gulf,
Giver of pearls, shells and death!"
And the echo replies, as if lamenting:
"O Gulf: Giver of shells and death".

I can almost hear Iraq husbanding the thunder,
Storing lightning in the mountains and plains,
So that if the seal were broken by men
The winds would leave in the valley not a trace of Thamud.

I can almost hear the palmtrees drinking the rain,
Hear the villages moaning and emigrants
With oar and sail fighting
The Gulf winds of storm and thunder, singing
Rain.. rain..rain (Drip, drop, the rain)
And there is hunger in Iraq,
The harvest time scatters the grain in-it,
That crows and locusts may gobble their fill,
Granaries and stones grind on and on,
Mills turn in the fields, with humans turning
Drip, drop, the rain
Drip, Drop, Drop

How many tears we shed when came the night for leaving
We made the rain an excuse, not wishing to be blamed
Drip, drop, the rain
Drip, drop, the rain
Since we had been children, the sky
Would be clouded in wintertime,
And down would pour the rain,
And every year when earth turned green the hunger struck us.
Not a year has passed without hunger in Iraq.
Rain
Drip, drop, the rain
Drip, drop

In every drop of rain
A red or yellow color buds from the seeds of flowers.
Every tear wept by the hungry and naked people
And every spilt drop of slaves' blood
Is a smile aimed at a new dawn,
A nipple turning rosy in an infant's lips
In the young world of tomorrow, bringer of life.
Drip.....
Drop.....
(the rain . . .In the rain)
Iraq will blossom one day
I cry out to the Gulf: "O Gulf:
Giver of pearls, shells and death!"
The echo replies as if lamenting:
'O Gulf: Giver of shells and death."

And across the sands from among its lavish gifts
The Gulf scatters fuming froth and shells
And the skeletons of miserable drowned emigrants
Who drank death forever
From the depths of the Gulf, from the ground of its silence,
And in Iraq a thousand serpents drink the nectar
From a flower the Euphrates has nourished with dew.

I hear the echo
Ringing in the Gulf:
Rain . . .
Drip, drop, the rain . . .
Drip, drop.
In every drop of rain
A red or yellow color buds from the seeds of flowers.
Every tear wept by the hungry and naked people
And every spilt drop of slaves' blood
Is a smile aimed at a new dawn,
A nipple turning rosy in an infant's lips
In the young world of tomorrow, bringer of life.
And still the rain pours down


+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:50|

أمل دنقل

(1940-1983م)

 

ولد أمل دنقل فی قریة القلعة فی محافظة قنا فی صعید مصر، وكان والده معلماً للغة العربیة، وبعد أن أنهى دراسته الثانویة فی قنا، التحق بكلیة الآداب، قسم اللغة العربیة فی جامعة القاهرة، لكنه اضطر إلى قطع دراسته لیعمل فی مصلحة الجمارك فی الإسكندریة، ثم استقال من عمله وعاد إلى القاهرة لیعمل فی منظمة تضامن الشعوب الآسیویة - الإفریقیة.

نشر دنقل «أغنیة الكعكة الحجریة» فی عام 1975، وهی قصیدة تحریضیة صاحبت إضرابات الطلبة فی مصر، فصودرت مجلة «السنبلة» التی نشرتها، وفی العام نفسه حجب المجلس الأعلى للفنون والآداب جائزة الشعر التی كان أمل دنقل المرشح الأول لها، فكتب الناقد لویس عوض احتجاجاً صارخاً على هذا الموقف، نشره فی جریدة الأهرام بتاریخ 7/7/1972.

وفی عام 1979 تزوج أمل دنقل الكاتبة والناقدة عبلة الروینی، وبعد تسعة شهور من الزواج ظهرت علیه أعراض مرض السرطان وأجریت له عدة عملیات جراحیة، وأقام مدداً متقطعة فی مشفى الأورام فی القاهرة، ولكنه لم ینقطع عن المشاركة فی المهرجانات الشعریة والثقافیة فی مصر وخارجها. وفی عام 1982 صورت المخرجة السینمائیة عطیات الأبنودی لقاء مطولاً معه فی شریط تسجیلی بعنوان «أحادیث غرفة».

ینتمی أمل دنقل إلى الجیل الثانی فی حركة الشعر الحدیث فی مصر، وتمتد تجربته الشعریة على مسافة زمنیة قصیرة نسبیاً، منذ أوائل الستینیات إلى أوائل الثمانینیات فی القرن العشرین، وتحمل هذه التجربة خصوصیة واضحة فی الأفكار والصور والأسلوب الذی یتمیز بغنائیة عالیة، بعیداً عن الغموض الذی رافق أكثر التجارب الأخرى من شعراء جیله. وانصبت اهتمامات أمل دنقل على الهموم الاجتماعیة والوطنیة والإنسانیة الساخنة التی عاشها، والتحولات الكبرى فی مصر والوطن العربی، وهو ینطلق عموماً من موقف فكری وسیاسی نقدی رافض لمجریات الأحداث والوقائع. وكان هذا التوجه واضحاً منذ أن نشر قصیدة «البكاء بین یدی زرقاء الیمامة» (1967)، إذ أراد من استخدام اسم زرقاء الیمامة التأكید على أهمیة الرؤیة البعیدة التی تتجاوز إحباطات الحاضر، وتتجه إلى استكشاف المستقبل، بعد تحلیل الواقع الراهن.

یرى دنقل أن الحداثة لیست الشكل، وإنما هی الرؤیة التی تنطوی علیها القصیدة، كما یرى أن الحداثة تقوم على جناحین هما المعاصرة والأصالة، وتمتد الأصالة عنده بجذورها إلى التراث العربی والشعبی بكل ما فیهما من الأساطیر والحكایات والملاحم والسیر الشعبیة التی ضاعت أسماء مؤلفیها مع الزمن. واستخدم دنقل رموزاً خاصة ومحددة فی شعره وفی عنوانات قصائده مثل «زرقاء الیمامة» و«سبارتاكوس» و«الخیول» و«القطارات» وهی تحمل معها دعوة واضحة إلى رؤیة المستقبل والتحرر والانطلاق.

فی الذكرى العشرین لرحیل دنقل نظم المجلس الأعلى للثقافة فی مصر «مؤتمر أمل دنقل: الإنجاز والقیمة» الذی انعقد فی القاهرة فی 18/5/2003 مدة أربعة أیام وشارك فیه عدد كبیر من الكتاب والنقاد والشعراء العرب، وصدرت فی هذه المناسبة دراسات وكتب جدیدة عن حیاته وأعماله، إضافة إلى الدراسات والكتب التی صدرت بعد وفاته، ومن أهمها كتاب «الجنوبی» للكاتبة عبلة الروینی التی استعارت عنوان الكتاب من إحدى قصائد الشاعر.

وكانت المجموعات الشعریة الكاملة للشاعر قد صدرت فی بیروت بعد وفاته، وأعید طبعها فی القاهرة بمناسبة «مؤتمر أمل دنقل». وهذه المجموعات هی: «البكاء بین یدی زرقاء الیمامة» (1969)، و«تعلیق على ما حدث» (1971)، و«مقتل القمر» (1974)، و«العهد الآتی» (1975)، و«أقوال جدیدة عن حرب البسوس» (1983)، و«أوراق الغرفة الثامنة» (1983).

والمجموعة الأخیرة صدرت بعد وفاته، وهی تضم القصائد التی كتبها فی المشفى، على مدى عامین
المراجع:

ـ سید البحراوی، البحث عن لؤلؤة المستحیل (القاهرة 1989).

ـ عبلة الروینی، أمل دنقل الجنوبی (القاهرة 1985).

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:48|

حافظ إبراهیم

(1871-1932م)

    محمد حافظ بن إبراهیم فهمی شاعر مصری، ولد فی دیروط إحدى بلدات الصعید فی أسرة متوسطة الحال، وكان أبوه مهندساً، اختار لسكناه سفینة «ذهبیة» ترسو على شاطئ النیل أمام بلدة دیروط، أقام فیها مع زوجته التركیة التی أنجبت الشاعر الكبیر حافظ إبراهیم.

    توفی والده وهو فی الرابعة من عمره، فانتقلت به والدته إلى القاهرة حیث كفله خاله، وهناك التحق ببعض المدارس ولكنه لم یبد تفوقاً، ثم انتقل مع خاله إلى طنطا، وهناك ساءت العلاقة بینهما، فقد بدا على حافظ تعلق بالأدب والشعر، فی حین كان خاله یرید له سبیلاً آخر، فهجر بیت خاله وعمل فی مكاتب بعض المحامین، وسرعان ما سئم هذه المهنة وفی سنة 1888م التحق بالمدرسة الحربیة، وتخرج سنة 1891م، فعین ملازماً فی وزارة الحربیة، ثم نقل إلى دائرة الشرطة فی وزارة الداخلیة. وفی سنة 1896 أرسل إلى السودان فی عداد الحملة المصریة الإنكلیزیة التی كانت بقیادة اللورد كتشنر، ولما نشبت ثورة 1899 فی السودان اتهم بالاشتراك فیها مع عدد من الضباط وحوكم وأحیل على الاستیداع، وفی سنة 1903 طلب إحالته على المعاش فأجیب إلى طلبه، ولم یبق له عمل یرتزق منه، وقد امتدت مرحلة البطالة من سنة 1900 إلى 1911. وكانت تلك الحقبة أشد مراحل حیاته بؤساً وأشقاها. وكانت فی الوقت ذاته أخصب المراحل فی نتاجه الأدبی وأجداها. وكان وهو فی السودان قد راسل الشیخ محمد عبده شعراً ونثراً، فلما عاد إلى القاهرة واعتزل العمل الحكومی التحق بدروس الشیخ ومجالسه، واتصل عن طریقه برجال مصر البارزین أمثال مصطفى كامل ومحمد فرید وسعد زغلول وقاسم أمین ومحمود سامی البارودی وتوفیق البكری والمنفلوطی والمویلحی، وكان هؤلاء یمثلون نخبة رجال مصر فی الوطنیة والاجتماع والإصلاح الخلقی والعلمی، وهی الفئة التی وضعت أسس نهضة مصر الحدیثة. وكان اختلاطه بهذه الجماعة سبباً فی تفتح عینیه على فاجعته فی نفسه، وفی الشعب المصری كله، وهو ابن الشعب الذی عرف الآلام نتیجة الضیق والیتم والحرمان، فالتأم فی نفسه شقاؤه بشقاء أمته، بعد أن رأى فقر شعبه وبؤسه، فانطلق ینظم من الشعر ما یفرج عنه وراح یدعو الشعب للنهوض ویشحذ منه العزائم لیعید إلى البلاد مجدها، وكان یشعر بمحنة أمته بالإنكلیز وما ینزلونه بالشعب من ضروب العسف والظلم والتنكیل، وما یستنزفونه من خیرات البلاد وینهبونه من أرزاقها، فیحاول أن یفتح العیون على سوء حال وطنه وأمته، وقد صادفت قصائده هوى فی نفوس تلك النخبة التی حملت لواء الإصلاح.

    وفی هذا الوقت ذاع صیت حافظ فی المحافل والأندیة الأدبیة، وتناولت الصحف قصائده، ومع ذلك ظل فی شعره دائم الشكوى من بؤسه وسوء حالته.

    وفی سنة 1911 عینه وزیر المعارف رئیساً للقسم الأدبی فی دار الكتب المصریة، فابتدأت مرحلة جدیدة فی حیاته، توارت فیها الخیبة والحرمان وحلّ محلهما الاطمئنان، وقد منح رتبة «البكویّة» من الدرجة الثانیة و «نیشان النیل» من الدرجة الرابعة، ونعم فی منصبه هذا بسعة العیش وحسن التقدیر، ولكن سعة العیش تركت أثراً سلبیاً فی شاعریته وفنه وإنتاجه، فقد نضبت قریحته أو كادت..

    وفی سنة 1932 أحیل على المعاش، وكان رئیس الوزراء فی مصر آنذاك إسماعیل صدقی الذی نكل بالزعماء الأحرار، فعادت لحافظ ثورته التی كانت تضطرم فی نفسه فی عنفوان شبابه فأخذ یهزأ بالإنكلیز وجیوشهم ویتحداهم، ولكن القدر لم یمهله حتى یكمل رسالته إذ مات فی السنة ذاتها.

    لم یتلق حافظ إبراهیم فی المدارس شیئاً قیماً من الثقافة، ولكنه كان یقرأ من الكتب ما یوافق هواه ویلائم مزاجه، ویتمثل ما یقرأ، فقرأ دواوین فحول الشعراء وحفظ كثیراً من الأشعار، وكانت تسعفه فی ذلك حافظة عجیبة، تأثر بالمعری من القدماء وبالباردوی من المحدثین، أما المدرسة الفكریة التی عملت على تطور شخصیته ودفعته إلى طریق الإصلاح الاجتماعی والسیاسی فهی مدرسة رجال الفكر الذین التقاهم فی مجلس محمد عبده والأشخاص الذی كان یختلط بهم فی المقاهی بباب الخلق والسیدة زینب وحی الأزهر وأكثرهم من الشعراء والأدباء، ولكن هذه الثقافة لم تكن عمیقة أو منهجیة، غیر أنه كان یسحر المجالس بحدیثه وما یرویه من شعر وما یورده من نوادر وطرف وأقاصیص، وكان فكهاً میالاً إلى الدعابة، یلقیها بخفة روح، وذلك على نقیض ما یرى فی شعره من میل إلى التشاؤم والیأس وكان من طبعه الوفاء لأصدقائه، یتقبل منهم نقدهم قصائده، فیقرؤها علیهم قبل نشرها لیعرف صداها فی نفوسهم ویقوم اعوجاجها إن وجد، ولكنه كان مهملاً، فلم یعن بجمع آثاره فی حیاته، بل كان یبقیها على أوراق غیر مبالٍ بها، ولما عزم على إصدار دیوانه اضطر إلى جمع الكثیر من قصائده من الصحف وأفواه الأصدقاء، وظل كثیر من شعره مفقوداً.

    عرف حافظ بالمروءة والأریحیة، وكان على بؤسه وضیق حاله متلافاً للمال، لایبخل بقلیله ولایرد سائلاً، ولم یكن یضن على نفسه بما یمتعها من مباهج الحیاة، فینفق إنفاق المترفین. وكانت صراحته الشدیدة من أسباب إخفاقه فی حیاته الرسمیة.

    لحافظ إبراهیم دیوان معروف أكثره فی المدائح والتهانی والمراثی، غیر أن أجمل أشعاره كانت فی الاجتماع والسیاسة. بلغت المدائح والتهانی فی دیوان حافظ زهاء الربع، وكان یقول المدیح أحیاناً فی أناس لا یستحقونه، وقد بقی یهنئ ویمدح حتى أیام جدبه الشعری. ولكنه كان یتلطف فی قوله ویبدی براعة فی معالجة هذا الغرض، فكانت أمادیحه على الرغم مما فیها من مبالغات زاخرة بالحكم والمعانی التی تعم الناس ولا تخص الممدوح فقط، وتدعو إلى العمل النافع، ویبدو ذلك فی مدحه لشوقی حین یقول:

وخذ بزمام القوم وانزع بأهله

       

 إلى المجد والعلیاء أكرم منزع

    وقد أخذ علیه رثاؤه للملكة فیكتوریا ومدیحه للملك إدوارد سنة 1902، ولكن كثیراً من ناقدیه یعزون ذلك إلى خوفه من الإنكلیز فی تلك الحقبة، فهو یداورهم ویجاملهم، حتى إذا أجیب إلى طلبه وأحیل على المعاش، أصبح خالصاً لشعبه.

    أما مراثی حافظ فهی أغزر أبواب دیوانه، وهو فی ذلك یقول:

إذ تصفحت دیوانی لتقرأه

       

وجدت شعر المراثی نصف دیوانی

    وكان یصور فی رثائه عاطفته الشخصیة بأسلوب المتفجع، وكان یلون رثاءه بألوان الشخصیات المختلفة التی یرثیها، ففی رثائه لأصدقائه تبرز روح الوفاء كما یبرز التفجع والأسى، أما رثاؤه للزعماء فكان ملحمة وطنیة یتمثل فیها الوطن مفجوعاً بأعز الناس إلیه. ومن خیر مراثیه قصیدته فی رثاء الإمام محمد عبده ومطلعها:

سلام على الإسلام بعد محمدٍ

 

  سلامُ على أیامه النضرات

  على الدین والدنیا، على العلم والحجى

  

 على البرّ والتقوى على الحسنات

    ولحافظ قصائد یرثی فیها الإنسانیة فی نكبتها ویشعر بالفجائع أنى كان موقعها، ویبدو ذلك فی رثائه لمدینة مسینة التی أصابها الزلزال فأغرقها.

    ویبدو حافظ فی كل ما نظم من رثاء عمیق الإحساس صادق المشاعر مما یجعل قارئه یعیش فی موكب من عواطف الشاعر، مما حدا بشوقی إلى أن یقول فی رثائه حافظاً:

قد كنت أوثر أن تقول رثائی   

 یا منصف الموتى من الأحیاء

    أما شعره الاجتماعی والسیاسی والوطنی فقد هز به القلوب، فلقب بشاعر الشعب وشاعر النیل. وكان من دعاة الإصلاح الاجتماعی، یحث الأغنیاء على رعایة الفقراء، وهو یشفق على الیتیم والمحروم فیدعو إلى إزاحة البؤس عمن ضاقت بهم سبل العیش ولفّهم الشقاء والحرمان، وهو فی الوقت نفسه یتألم من عسف الإنكلیز وظلمهم، وتراه یتحدث إلى الشعب بشعر قوی الأثر فی نفوس قارئیه وسامعیه نحو قوله:

أیشتكی الفقر غادینا ورائحنا

   

ونحن نمشی على أرضٍ من الذهب

والقوم فی مصر كالإسفنج قد ظفرت

 

 بالماء لم یتركوا ضرعاً لمحتلب

    وهو فی شعره السیاسی یدعو الشعب إلى النهوض من الغفلة والتسلح بالخلق القویم والعلم ـ وكان فی نظرته الاجتماعیة الإصلاحیة یلح على تحصین المال بالعلم النافع.

    أما موقفه من المرأة فكان وسطاً یدعو فیه إلى الاعتدال وحسن المعاملة، فیقول:

فتوسطوا فی الحالتین وأنصفوا   

 فالشر فی التقیید والإطلاق

    ومن أبرز الأحداث التی هزته حادثة «دنشوای» التی علق فیها الإنكلیز المشانق لإرهاب الشعب، ولكنه ینهج فی قصیدته عنها أسلوب التهكم والسخریة، كما هی حاله فی أكثر قصائده السیاسیة، ویبدو فیها كأنه یداری المحتل وإن كان فی حقیقته یداوره ویفضح أسالیب عسفه، وكأنه كان یحتاط لنفسه من سجنه، وهو القائل:

إذا نطقت فقاع السجن متكأ

  

وإن سكت فإن النفس لم تطب

    ولذلك نراه یصرخ متألماً عندما صدر قانون المطبوعات فی مصر فی عهد بطرس غالی، وفیه قضاء مبرم على الحریات:

إن البلیّة أن تباع وتشترى

  

 مصرٌ، وما فیها، وألاّ تنطق

    وهو فی ندائه لشباب مصر یتقلب بین دعوتهم إلى الثورة حیناً والمداورة والمحاورة حینا آخر، وأخذ الحقوق عن طریق الحیلة والدهاء.

    ومن أجمل قصائده الاجتماعیة القومیة تلك التی یدافع فیها عن اللغة العربیة دفاع المحبّ للغته المؤمن بعزتها ویتصدى لمن یعتقد أنها لغة میتة. وفی قصیدته العمریة التی یصف فیها عمر بن الخطاب الذی عدل فأمن، دعوة مبطنة إلى القائمین على الحكم أن یعدلوا وذلك إضافة إلى ما فیها من الاعتزاز بالعروبة وتاریخها. ولكنه، على حبه مصر ومجدها، غلب علیه الخوف عندما أصبح موظفاً فكتم مشاعره إلا قلیلاً، كأنما أقام على نفسه رقیباً، فلم ینظم أشعاراً وطنیة حذر ذوی البأس وأصحاب السلطان، ولكنه عندما قامت ثورة 1919 وخرجت مظاهرات النسوة وتصدى لها الإنكلیز، ثارت وطنیته ثانیة فنظم قصیدته الساخرة:

خرج الغوانی یحتججن

  

 ورحت أرقب جمعهنّه

    وقد ألهبت القصیدة الحماسة فی صدور الشباب.

    لم یحظ حافظ بخیال محلق فی عالم التصویر وابتكار المعانی ولهذا مال إلى بساطة التعبیر، واعتمد فی معانیه على الحیاة أكثر مما اعتمد على التعمق فی الدراسة، ومع ذلك فقد ساعده ما حفظ من تراث العرب على تلوین المعانی القدیمة بلون حدیث، وتتجلى فی شعره قوة العاطفة و إرهاف الحس اللذان عوضاه عن سعة الخیال، أما أسلوبه فقد كان واضحا كما بدت الموسیقى الشعریة جلیة فی ألفاظه وتراكیبه.

    ولحافظ إبراهیم دیوان شعر جمعه فی حیاته ولكنه لم یدرج فیه قصائده جمیعها. وقد جمع أصدقاؤه فی مصر القصائد التی خلا منها الدیوان ونشروها، ثم أشرف أحمد أمین على تلك القصائد فنسقها وضبطها وأخرجها دیوانا لحافظ إبراهیم فی جزأین.

    ولحافظ أیضا نثر أدبی قلیل لا یصل إلى مستوى شعره، ومن آثاره النثریة «لیالی سطیح» وهو مقالات نقدیة وخواطر فی الأدب والسیاسة والمجتمع، وقد ترجم روایة فیكتور هوغو المشهورة «البؤساء» ولكنه لم یتقید كثیرا بالنص الأصلی.

المراجع:
محمد كرد علی، المعاصرون (مطبوعات مجمع اللغة العربیة بدمشق 1980 )

ـ عباس محمود العقاد، شعراء مصر وبیئاتهم فی الجیل الماضی (القاهرة1937 )

ـ عبد اللطیف شرارة ، حافظ إبراهیم (القاهرة)


+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:48|

الحِمْیَریّ (السَّیِّد -)

(105-173هـ/723-789م)

 

أبو هاشم، وقِیْلَ: أبو عامر، إِسْماعِیْل بن محمّد بن یزیدَ بن ربیعةَ المُفَرِّغ الحِمْیَرِیّ، ورفع المَرْزُبانی نسبه إلى محمد بن یزید بن وداع الحمیری، وذهب إلى أنه لیس من أحفاد ابن المفَرِّغ الشاعر الأموی المشهور. شاعرٌ عبّاسیٌّ، مُتَقَدِّمٌ مَطْبوعٌ فَحْلٌ، ظریفٌ، حَسَنُ الألفاظ، جمیلُ الخِطاب، كثیرُ الشِّعر؛ وفی ذلك یُقال: إنّ أكثرَ النّاس شعراً فی الجاهلیّة والإسلام ثلاثةٌ: بشّار، وأبو العَتاهیة، والسَّیِّد؛ فإنّه لا یُعْلم أنّ أحداً قَدَر على تَحْصِیلِ شِعْرِ أحدٍ منهم أَجْمَع.

نشأ فی كَنَف أَبَوَینِ إِباضِیَّین (الإِباضِیّة: أتباع عبد الله بن إِباض المُقاعِسِیّ المُرِّی)، بالبصرة، فخالفهما واتّبع مذهب الكَیْسانیّة؛ القـائلـة بإمامة محمّد بـن الحَنَفِیّة[ر]، وذهب بعضهم إلى أنّه رجع عن الكیسانیّة، واتّبع الإمامیّة، وأنكر ذلك أبو الفرج فی أغانیه، فقال: وقد روى بعضُ مَنْ لم تَصِحّ روایتُه أنّه رجع عن مذهبه، وقال بمذهب الإمامیّة، وله فی ذلك :

تَجَعْفَرْتُ بِاسْمِ اللهِ، واللهُ أَكْبَرُ

وأَیْقَنْتُ أَنَّ اللهَ یَعْفُو ویَغْفِرُ

وما وجدنا ذلك فی روایة مُحِصِّل، ولا شعرُه أیضاً مِنْ هذا الجنس، ولا فی هذا المذهب، لأنّ هذا شعرٌ ضعیفٌ یتبیّن التّولید فیه، وشعرُه فی قصائده الكَیْسانیّة مُباینٌ لهذا، جَزالةً ومَتانَةً، وله رَونقٌ ومعنًى لَیْسا لِما یُذْكَر عنه فی غیره.

عَلِق قلبَ السَّیِّد حُبُّ آل البیت، ومَلَكَ علیه جَنانَه، فتشیَّع لهم أَیَّما تَشَیّع، وطلب مناقبَ علیّ بن أبی طالب، كرّم الله وجهه، أعزَّ طلب، ثم ساقها فی شعره، فلهجت بها الأَلْسُن، ووَعَتها الأَفْئدة، وحینما كان یُسأل عن طریق تَشَیّعه على إِباضیّة أبویه، كان یُجِیبُ بقوله: «غاصَتْ علیَّ الرّحمة غوصاً. هجر أبویه»، واعتزل مجلسهما؛ وفی ذلك تقول العبّاسة ابنتُه: «قال لی أبی: كنتُ وأنا صبیٌّ أسمع أبویّ یَثْلبان أمیرَ المؤمنین، فأخرج عنهما، وأبقى جائعاً وأُؤْثرُ ذلك على الرّجوع إلیهما، فأَبِیْتُ فی المساجد جائعاً لحُبِّی لفِراقهما وبُغْضی إیّاهما».

أَلَّبَ السَّیِّدُ النّاس على بنی أُمَیّةَ، وأَعْلَنَ فی النّاس أُفُولَ نجْمهم، وصُعُودَ نجم بنی العبّاس، وحین صَعِد هذا النّجم، لَهِج السَّیِّد بشرعیَّة دولتهم وأذاعها، فسُرَّ بذلك مَنْ سُرَّ منهم، من ذلك قولُهُ مُخاطباً أبا العبّاس السّفّاح، من كلمةٍ له :

دُوْنَكُمُوهَا یَا بَنِی هَاشِمٍ

فَجَدِّدُوا مِنْ عَهْدِهَا الدَّارِسَا

لَوْ خُیِّرَ المِنْبَرُ فُرْسانَهُ

ما اخْتارَ إِلاّ مِنْكُمُ فارِسَا

انقطع بشعره إلى مَدْح بنی هاشم وذِكْر مناقبهم، ونَشْرِ مثالب خصومهم، ولم یُشارك شعراء عصره فی موضوعات الشِّعر الأخرى إلا قلیلاً، وفی ذلك یقول بشّار: «لولا أنّ هذا الرّجل قد شُغِل عنّا بمَدْح بنی هاشم لَشَغَلَنا، ولو شاركنا فی مَذْهَبِنا لأَتْعَبنا». وممّا یُسْتَحْسَن له قصیدته المُذْهَبَة، الّتی أوّلها :

أَیْنَ التَّطَرُّفُ بِالوَلاءِ وبِالهَوَى

أَإِلَى الكَواذِبِ مِنْ بُرُوْقِ الخُلَّبِ؟

أمّا طِراز شعر السَّیِّد بین أشعار أَكْفائه، فطِرازٌ قلَّما یُلْحَق به أو یُدانِیه، وتَأَنُّقُ الرّجل فی قصائده - على كثرتها - مَشْغَلَةٌ للنّاظِرِ المُتأنّق، وفی ذلك یقول ابن المعتزّ فی طبقاته: «وقصائدُهُ الجِیادُ كثیرةٌ لَوِ اشْتَغلنا بذِكْرِها لطالَ شُغْلُنا». ومن أشعاره الّتی لا یُعادِلها فی العُذُوبَةِ شیءٌ، وتتَقَطَّعُ دُوْنَها الشّعراء، قوله من قصیدةٍ له :

أَمْسَى بِعَزَّةَ هذا القَلْبُ مَحْزُونَا

مُسْتَوْدِعاً سُقْماً فی اللُّبِّ مَكْنُونَا

یَا عَزَّ إِنْ تُعْرِضِی عَنَّا وتَنْتَصِحِی

قَوْلَ الوُشاةِ ومَنْ یَلْحاكُمُ فِیْنَا

وتَصْرِمِی الحَبْلَ مِنْ صَبٍّ بِكُمْ كَلِفٍ

والصَّرْمُ یَخْلِقُ أَهْواءَ المُحِبِّیْنَا

نَتْرُكْ زِیارَتَكُمْ مِنْ غَیْرِ مَقْلِیَةٍ

إِنْ كانَ فی تَرْكِهَا ما عَنْكِ یُسْلِیْنَا

وُسِمتْ قصائدُ السَّیِّد بالنّصاعة والوضوح، فی قوّة إحكام، وحُسْنِ نمط، ولم یَشِنْها امْتِلاؤها أحادیثَ وأخباراً ومَناقِبَ ومَثالِب، بل زانها؛ إِذْ كان السَّیِّدُ ذا بَصَر بسَوْقها، وحِذْقٍ بحَشْوِها فی تَضاعِیف قصائده، فی ألْفاظٍ نَقیَّةٍ، خالیةٍ من التّصنّع والإِغْراب، تَهْجُم على القلب بلا حِجاب، وحینما كان یُسأل عن ذُهُوله عن استعمال الغریب، كما یفعل الشّعراء، كان یقول: «لأَنْ أقول شعراً قریباً مِنَ القُلُوب، یَلَذُّهُ مَنْ سَمِعَه، خیرٌ مِنْ أَنْ أقولَ شیئاً مُتَعَقِّداً تَضِلُّ فیه الأَوْهام».

غازَلَ السَّیِّدُ السَّبْعِین من عمره وهو ما یزال قَؤولاً للشِّعر، من ذلك قوله من كلمة له:

یَا أَهْلَ كُوْفانَ إِنِّی وامِقٌ لَكُمُ

مُذْ كُنْتُ طِفْلاً إِلَى السَّبْعِیْنَ والكبَرِ

ثمّ قَعَدَتْ به عِلَّةٌ بمدینة واسِط، حیث وافاه أجله.

المراجع:

ـ أبو الفرج الأَصفهانیّ، الأغانی (دار الكتب المصریّة، القاهرة 1935).

ـ ابن المُعْتَزّ، طبقات الشّعراء، تحقیق عبد السّتّار أحمد فرّاج (دار المعارف، مصر 1976).

ـ شاكر هادی شكر، دیوان السَّیِّد الحِمْیَریّ (مكتبة الحیاة، بیروت 1966).


+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:47|
"ابن زیدون" بین الإبداع والطموح

(بمناسبة ذكرى وفاته: 1 من رجب 463هـ)

سمیر حلبی



فی بیئة غناء نشأ ابن زیدون

برع "ابن زیدون" فی الشعر كما برع فی فنون النثر، حتى صار من أبرز شعراء الأندلس المبدعین وأجملهم شعرًا وأدقهم وصفًا وأصفاهم خیالا، كما تمیزت كتاباته النثریة بالجودة والبلاغة، وتعد رسائله من عیون الأدب العربی.

المیلاد والنشأة

ولد الشاعر "أحمد بن عبد الله بن أحمد بن أحمد بن غالب بن زید المخزومی" سنة [394هـ= 1003م] بالرصافة من ضواحی قرطبة، وهی الضاحیة التی أنشأها "عبد الرحمن الداخل" بقرطبة، واتخذها متنزهًا له ومقرًا لحكمه، ونقل إلیها النباتات والأشجار النادرة، وشق فیها الجداول البدیعة حتى صارت مضرب الأمثال فی الروعة والجمال، وتغنّى بها الكثیر من الشعراء.

وفی هذا الجو الرائع والطبیعة البدیعة الخلابة نشأ ابن زیدون؛ فتفتحت عیناه على تلك المناظر الساحرة والطبیعة الجمیلة، وتشربت روحه بذلك الجمال الساحر، وتفتحت مشاعره، ونمت ملكاته الشاعریة والأدبیة فی هذا الجو الرائع البدیع.

وینتمی "ابن زیدون" إلى قبیلة "بنی مخزوم" العربیة، التی كانت لها مكانة عظیمة فی الجاهلیة والإسلام، وعرفت بالفروسیة والشجاعة.

وكان والده من فقهاء "قرطبة" وأعلامها المعدودین، كما كان ضلیعًا فی علوم اللغة العربیة، بصیرًا بفنون الأدب، على قدر وافر من الثقافة والعلم.

أما جده لأمة "محمد بن محمد بن إبراهیم بن سعید القیسی" فكان من العلماء البارزین فی عصره، وكان شدید العنایة بالعلوم، وقد تولى القضاء بمدینة "سالم"، ثم تولى أحكام الشرطة فی "قرطبة".

كفالة الجد

وما كاد "ابن زیدون" یبلغ الحادیة عشرة من عمره حتى فقد أباه، فتولى جده تربیته، وكان ذا حزم وصرامة، وقد انعكس ذلك على أسلوب تربیته لحفیده، وهو ما جنبه مزالق الانحراف والسقوط التی قد یتعرض لها الأیتام من ذوی الثراء.

واهتم الجد بتربیة حفیده وتنشئته تنشئة صحیحة وتعلیمه العربیة والقرآن والنحو والشعر والأدب، إلى غیر ذلك من العلوم التی یدرسها عادةً الناشئة، ویقبل علیها الدارسون.

وتهیأت لابن زیدون -منذ الصغر- عوامل التفوق والنبوغ، فقد كان ینتمی إلى أسرة واسعة الثراء، ویتمتع بالرعایة الواعیة من جده وأصدقاء أبیه، ویعیش فی مستوى اجتماعی وثقافی رفیع، فضلا عما حباه الله به من ذكاء ونبوغ، وما فطره علیه من حب للعلم والشعر وفنون الأدب.

ابن زیدون متعلمًا

ومما لا شك فیه أن "ابن زیدون" تلقى ثقافته الواسعة وحصیلته اللغویة والأدبیة على عدد كبیر من علماء عصره وأعلام الفكر والأدب فی الأندلس، فی مقدمتهم أبوه وجده، ومنهم كذلك "أبو بكر مسلم بن أحمد بن أفلح" النحوی المتوفى سنة [433هـ=1042م] وكان رجلاً متدینًا، وافر الحظ من العلم والعقیدة، سالكًا فیها طریق أهل السنة، له باع كبیر فی العربیة وروایة الشعر.

كما اتصل "ابن زیدون" بكثیر من أعلام عصره وأدبائه المشاهیر، فتوطدت علاقته -فی سن مبكرة- بأبی الولید بن جَهْور الذی كان قد ولی العهد ثم صار حاكمًا، وكان حافظًا للقرآن الكریم مجیدًا للتلاوة، یهتم بسماع العلم من الشیوخ والروایة عنهم، وقد امتدت هذه الصداقة بینهما حتى جاوز الخمسین، وتوثقت علاقته كذلك بأبی بكر بن ذَكْوان الذی ولی منصب الوزارة، وعرف بالعلم والعفة والفضل، ثم تولى القضاء بقربة فكان مثالا للحزم والعدل، فأظهر الحق ونصر المظلوم، وردع الظالم.

.. وزیرًا

كان "ابن زیدون" من الصفوة المرموقة من شباب قرطبة؛ ومن ثم فقد كان من الطبیعی أن یشارك فی سیر الأحداث التی تمر بها.

وقد ساهم "ابن زیدون" بدور رئیسی فی إلغاء الخلافة الأمویة بقرطبة، كما شارك فی تأسیس حكومة جَهْوَرِیّة بزعامة "ابن جهور"، وإن كان لم یشارك فی ذلك بالسیف والقتال، وإنما كان له دور رئیسی فی توجیه السیاسة وتحریك الجماهیر، وذلك باعتباره شاعرًا ذائع الصیت، وأحد أعلام "قرطبة" ومن أبرز أدبائها المعروفین، فسخر جاهه وثراءه وبیانه فی التأثیر فی الجماهیر، وتوجیه الرأی العام وتحریك الناس نحو الوجهة التی یریدها.

وحظی "ابن زیدون" بمنصب الوزارة فی دولة "ابن جهور"، واعتمد علیه الحاكم الجدید فی السفارة بینه وبین الملوك المجاورین، إلا أن "ابن زیدون" لم یقنع بأن یكون ظلا للحاكم، واستغل أعداء الشاعر ومنافسوه هذا الغرور منه ومیله إلى التحرر والتهور فأوغروا علیه صدر صدیقه القدیم، ونجحوا فی الوقیعة بینهما، حتى انتهت العلاقة بین الشاعر والأمیر إلى مصیرها المحتوم.

ابن زیدون وولادة

كان ابن زیدون شاعرًا مبدعًا مرهف الإحساس، وقد حركت هذه الشاعریة فیه زهرة من زهرات البیت الأموی، وابنة أحد الخلفاء الأمویین، وهی "ولادة بنت المستكفی"، وكانت شاعرة أدیبة، جمیلة الشكل، شریفة الأصل، عریقة الحسب، وقد وصفت بأنها "نادرة زمانها ظرفًا وحسنًا وأدبًا".

وأثنى علیها كثیر من معاصریها من الأدباء والشعراء، وأجمعوا على فصاحتها ونباهتها، وسرعة بدیهتها، وموهبتها الشعریة الفائقة، فقال عنها "الصنبی": "إنها أدیبة شاعرة جزلة القول، مطبوعة الشعر، تساجل الأدباء، وتفوق البرعاء".

وبعد سقوط الخلافة الأمویة فی "الأندلس" فتحت ولادة أبواب قصرها للأدباء والشعراء والعظماء، وجعلت منه منتدیًا أدبیًا، وصالونًا ثقافیًا، فتهافت على ندوتها الشعراء والوزراء مأخوذین ببیانها الساحر وعلمها الغزیر.

وكان "ابن زیدون" واحدًا من أبرز الأدباء والشعراء الذین ارتادوا ندوتها، وتنافسوا فی التودد إلیها، ومنهم "أبو عبد الله بن القلاس"، و"أبو عامر بن عبدوس" اللذان كانا من أشد منافسی ابن زیدون فی حبها، وقد هجاهما "ابن زیدون" بقصائد لاذعة، فانسحب "ابن القلاسی"، ولكن "ابن عبدوس" غالى فی التودد إلیها، وأرسل لها برسالة یستمیلها إلیه، فلما علم "ابن زیدون" كتب إلیه رسالة على لسان "ولادة" وهی المعروفة بالرسالة الهزلیة، التی سخر منه فیها، وجعله أضحوكة على كل لسان، وهو ما أثار حفیظته على "ابن زیدون"؛ فصرف جهده إلى تألیب الأمیر علیه حتى سجنه، وأصبح الطریق خالیًا أمام "ابن عبدوس" لیسترد مودة "ولادة".

الفرار من السجن

وفشلت توسلات "ابن زیدون" ورسائله فی استعطاف الأمیر حتى تمكن من الفرار من سجنه إلى "إشبیلیة"، وكتب إلى ولادة بقصیدته النونیة الشهیرة التی مطلعها:
أضحى التنائی بدیلا من تدانینا
وناب عن طیب لقیانا تجافینا


وما لبث الأمیر أن عفا عنه، فعاد إلى "قرطبة" وبالغ فی التودد إلى "ولادة"، ولكن العلاقة بینهما لم تعد أبدًا إلى سالف ما كانت علیه من قبل، وإن ظل ابن زیدون یذكرها فی أشعاره، ویردد اسمها طوال حیاته فی قصائده.

ولم تمض بضعة أشهر حتى توفی الأمیر، وتولى ابنه "أبو الولید بن جمهور" صدیق الشاعر الحمیم، فبدأت صفحة جدیدة من حیاة الشاعر، ینعم فیها بالحریة والحظوة والمكانة الرفعیة.

ولكن خصوم الشاعر ومنافسیه لم یكفوا عن ملاحقته بالوشایات والفتن والدسائس حتى اضطر الشاعر ـ فی النهایة ـ إلى مغادرة "قرطبة" إلى "إشبیلیة" وأحسن "المعتضد بن عباد" إلیه وقربه، وجعله من خواصه وجلسائه، وأكرمه وغمره بحفاوته وبره.

فی إشبیلیة

واستطاع "ابن زیدون" بما حباه الله من ذكاء ونبوغ أن یأخذ مكانة بارزة فی بلاط "المعتضد"، حتى أصبح المستشار الأول للأمیر، وعهد إلیه "المعتضد"، بالسفارة بینه وبین أمراء الطوائف فی الأمور الجلیلة والسفارات المهمة، ثم جعله كبیرًا لوزرائه، ولكن "ابن زیدون" كان یتطلع إلى أن یتقلد الكتابة وهی من أهم مناصب الدولة وأخطرها، وظل یسعى للفوز بهذا المنصب ولا یألو جهدًا فی إزاحة كل من یعترض طریقه إلیه حتى استطاع أن یظفر بهذا المنصب الجلیل، وأصبح بذلك یجمع فی یدیه أهم مناصب الدولة وأخطرها وأصبحت معظم مقالید الأمور فی یده.

وقضى "ابن زیدون" عشرین عامًا فی بلاط المعتضد، بلغ فیها أعلى مكانة، وجمع بین أهم المناصب وأخطرها.

فلما توفی "المعتضد" تولى الحكم من بعده ابنه "المعتمد بن عباد"، وكانت تربطه بابن زیدون أوثق صلات المودة والألفة والصداقة، وكان مفتونًا به متتلمذًا علیه طوال عشرین عامًا، وكان بینهما كثیر من المطارحات الشعریة العذبة التی تكشف عن ود غامر وصداقة وطیدة.

المؤامرة على الشاعر

وحاول أعداء الشاعر ومنافسیه أن یوقعوا بینه وبین الأمیر الجدید، وظنوا أن الفرصة قد سنحت لهم بعدما تولى "المعتمد" العرش خلفًا لأبیه، فدسوا إلیه قصائد یغرونه بالفتك بالشاعر، ویدعون أنه فرح بموت "المعتضد"، ولكن الأمیر أدرك المؤامرة، فزجرهم وعنفهم، ووقّع على الرقعة بأبیات جاء فیها:
كذبت مناكم، صرّحوا أو جمجموا
الدین أمتن، والمروءة أكرم

خنتم ورمتم أن أخون، وإنما
حاولتمو أن یستخف "یلملم"


وختمها بقوله محذرًا ومعتذرًا:
كفوا وإلا فارقبوا لی بطشةً
تلقی السفیه بمثلها فیحلم


وكان الشاعر عند ظن أمیره به، فبذل جهده فی خدمته، وأخلص له، فكان خیر عون له فی فتح "قرطبة"، ثم أرسله المعتمد إلى "إشبیلیة" على رأس جیشه لإخماد الفتنة التی ثارت بها، وكان "ابن زیدون" قد أصابه المرض وأوهنته الشیخوخة، فما لبث أن توفی بعد أن أتمّ مهمته فی [ أول رجب 463هـ= 4 من إبریل 1071م] عن عمر بلغ نحو ثمانیة وستین عامًا.

غزلیات ابن زیدون

یحتل شعر الغزل نحو ثلث دیوان "ابن زیدون"، وهو فی قصائد المدح یبدأ بمقدمات غزلیة دقیقة، ویتمیز غزله بالعذوبة والرقة والعاطفة الجیاشة القویة والمعانی المبتكرة والمشاعر الدافقة التی لا نكاد نجد لها مثیلا عند غیره من الشعراء إلا المنقطعین للغزل وحده من أمثال "عمر بن أبی ربیعة"، "وجمیل بن مَعْمَر"، و"العبّاس بن الأحنف".

ومن عیون شعره فی الغزل تلك القصیدة الرائعة الخالدة التی كتبها بعد فراره من سجنه بقرطبة إلى "إشبیلیة"، ولكن قلبه جذبه إلى محبوبته بقرطبة فأرسل إلیها بتلك الدرة الفریدة (النونیة) التی یقول فی مطلعها:
أضحى التنائی بدیلا من تدانینا
وناب عن طیب لقیانا تجافینا


الوصف عند ابن زیدون

انطبع شعر "ابن زیدون" بالجمال والدقة وانعكست آثار الطبیعة الخلابة فی شعره، فجاء وصفه للطبیعة ینضح بالخیال، ویفیض بالعاطفة المشبوبة والمشاعر الجیاشة، وامتزج سحر الطبیعة بلوعة الحب وذكریات الهوى، فكان وصفه مزیجًا عبقریًا من الصور الجمیلة والمشاعر الدافقة، ومن ذلك قوله:
إنی ذكرتك بالزهراء مشتاقًا
والأفق طلق، ومرأى الأرض قد راقا

وللنسیم اعتلال فی أصائله
كأنه رق لی فاعتل إشفاقًا

والروض عن مائة الفضی مبتسم
كما شققت عن اللبات أطواقًا

نلهو بما یستمیل العین من زهر
جال الندى فیه حتى مال أعناقًا

كأنه أعینه ـ إذ عاینت أرقی ـ
بكت لما بی، فجال الدمع رقراقا

ورد تألق فی ضاحی منابته
فازداد منه الضحى فی العین إشراقًا

سرى ینافحه نیلوفر عبق
وسنان نبه منه الصبح أحداقًا


الإخوانیات الشعریة عند ابن زیدون

كان "ابن زیدون" شاعرًا أصیلا متمكنا فی شتى ضروب الشعر ومختلف أغراضه، وكان شعره یتمیز بالصدق والحرارة والبعد عن التكلف، كما كان یمیل إلى التجدید فی المعانی، وابتكار الصور الجدیدة، والاعتماد على الخیال المجنح؛ ولذا فقد حظی فن الإخوانیات عنده بنصیب وافر من هذا التجدید وتلك العاطفة، ومن ذلك مناجاته الرقیقة لصدیقه الوفی "أبی القاسم":
یا أبا القاسم الذی كان ردائی
وظهیری من الزمان وذخری

هل لخالی زماننا من رجوع
أم لماضی زماننا من مكرِّ؟

أین أیامنا؟ وأین لیال
كریاض لبسن أفاق زهر؟


الفنون النثریة عند ابن زیدون

اتسم النثر عند "ابن زیدون" بجمال الصیاغة، وكثرة الصور والأخیلة، والاعتماد على الموسیقا، ودقة انتقاء الألفاظ حتى أشبه نثره شعره فی صیاغته وموسیقاه، وقد وصف "ابن بسام" رسائله بأنها "بالنظم الخطیر أشبه منها بالمنثور".

وبالرغم من جودة نثر "ابن زیدون" فإنه لم یصل إلینا من آثاره النثریة إلا بعض رسائله الأدبیة، ومنها:

· الرسالة الهزلیة: التی كتبها على لسان "ولادة بنت المستكفی" إلى "ابن عبدوس" وقد حمل علیه فیها، وأوجعه سخریة وتهكمًا، وتتسم هذه الرسالة بالنقد اللاذع والسخریة المریرة، وتعتمد على الأسلوب التهكمی المثیر للضحك، كما تحمل عاطفة قویة عنیفة من المشاعر المتبانیة: من الغیرة والبغض والحب، والحقد، وتدل على عمق ثقافة "ابن زیدون" وسعة اطلاعه.

وقد شرحها "جمال الدین بن نباتة المصری" فی كتابه: "سرح العیون"، كما شرحها "محمد بن البنا المصری" فی كتابه: "العیون".

الرسالة الجدیة: وقد كتبها الشاعر فی سجنه فی أخریات أیامه، یستعطف فیها الأمیر "أبا الحزم" ویستدر عفوه ورحمته، وهی أیضًا تشتمل على الكثیر من الاقتباسات والأحداث والأسماء.

ومع أن الغرض من رسالته كان استعطاف الأمیر إلا أن شخصیة "ابن زیدون" القویة المتعالیة تغلب علیه، فإذا به یدلّ على الأمیر بما یشبه المنّ علیه، ویأخذه العتب مبلغ الشطط فیهدد الأمیر باللجوء إلى خصومه.

ولكن الرسالة ـ مع ذلك ـ تنبض بالعاطفة القویة وتحرك المشاعر فی القلوب، وتثیر الأشجان فی النفوس.

وقد شرحها "صلاح الدین الصفدی" فی كتابه: "تمام المتون"، و"عبد القادر البغدادی" فی كتابه: "مختصر تمام المتون".

بالإضافة إلى هاتین الرسالتین فهناك رسالة الاستعطاف التی كتبها الشاعر بعد فراره من سجنه وعودته من "إشبیلیة" إلى "قرطبة" مستخفیًا ینشد الأمان، ویستشفع بأستاذه "أبی بكر مسلم بن أحمد" عند الأمیر.

وهذه الرسالة تعد أقوى رسائل "ابن زیدون" جمیعًا من الناحیة الفنیة، وتمثل نضجًا ملحوظًا وخبرة كبیرة ودرایة فائقة بأسالیب الكتابة، وبراعة وإتقان فی مجال الكتابة النثریة.

ولابن زیدون كتاب فی تاریخ بنی أمیة سماه "التبیین" وقد ضاع الكتاب، ولم تبق منه إلا مقطوعتان، حفظهما لنا "المقری" فی كتابه الكبیر: "نفح الطیب".

هوامش ومصادر:

ابن زیدون: علی عبد العظیم ـ دار الكتاب العربی للطباعة والنشر ـ القاهرة: [1387هـ=1967م] ـ ( أعلام العرب : 66).
دیوان ابن زیدون ورسائله: تحقیق / علی عبد العظیم ـ دار نهضة مصر للطبع والنشر ـ القاهرة: [ 1400 هـ= 1980م]
الذخیرة فی محاسن أهل الجزیرة: أبو الحسن علی بن بسام الشنترینی ـ تحقیق : د. إحسان عباس ـ دار الثقافة ـ بیروت [1399هـ=1979م].
سیر أعلام النبلاء: شمس الدین محمد بن أحمد بن عثمان الذهبی ـ (الجزء الثامن)ـ تحقیق: شعیب الأرنؤوط ـ مؤسسة الرسالةـ بیروت [1410هـ=1990م]كتاب جدید نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب: أحمد بن محمد المقری التلمسانی ـ تحقیق: یوسف الشیخ محمد البقاعی ـ دار الفكر للطباعة والنشر ـ بیروت [ 1406هـ= 1986م]
الوافی بالوفیات: صلاح الدین خلیل بن أیبك الصفدی ـ (الجزء السابع) ـ تحقیق: إحسان عباس ـ دار النشر فرنز شتانیر ـ شتوتغارت: [1411هـ=1991م].

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:46|

البوصیری (محمد بن سعید ـ)

(608 ـ 696هـ/1212 ـ 1296م)

 

محمد بن سعید الحبنونی الصنهاجی من شعراء مصر، وهو صاحب قصیدة «البردة»، ولد فی «بهشیم» من أعمال «البهنسا»، ونشأ فی «دلاص» من قرى بنی سویف، وكان أبوه من ناحیة «بوصیر»، فركّب له منهما نسبة، ونعت نفسه بـ «الدلاصیری»، ولم تشتهر هذه النسبة، وإنما عرف بـ «البوصیری».

تلقى علومه الأولى فی بلده، فحفظ القرآن، ثم انتقل إلى القاهرة، فأتم دراسته الدینیة، وتضلّع من علوم الحدیث النبوی، ویتضح ذلك فی قصیدته الدینیة المشهورة «المخرج والمردود على النصارى والیهود»، وهی مؤلفة من 125 قسماً و291 بیتاً، شفع كل قسم بشرح نثری لما ورد فی التوراة والإنجیل لیؤید شعره الدینی تعلیقاً وتوضیحاً.

كان البوصیری من أجود الناس خطاً، فكان یكتب الألواح التی توضع على شواهد القبور، یضاف إلى ذلك أنه أخذ التصوف عن أبی الحسن الشاذلی (ت656هـ)، فقد تتلمذ علیه زمناً، كما أنه صحب أبا العباس المرسی (ت686هـ). والمعروف عن البوصیری أنه عُیّن فی دیوان الإنشاء، ثم نقل إلى الشرقیة، واستقر بعد ذلك فی بلبیس.

یمكن أن یصنّف شعر البوصیری فی اتجاهین كبیرین: أولهما شعره الاجتماعی النقدی المتمثل فی بعض الأغراض كالمدح والهجاء والوصف، وثانیهما: شعره الدینی، ویبحث عادة فی ثلاث مراحل: المرحلة الأولى: شعره الذی نظمه قبل زیارة الحجاز، وهو مقصور على أربع قصائد. المرحلة الثانیة: شعره الذی نظمه فی أثناء الزیارة، وهو مقصور على ثلاث قصائد. المرحلة الثالثة: شعره الذی نظمه بعد الزیارة وهو مقصور على قصیدتین، هما الهمزیة والبردة، وهما أجمل مدائحه النبویة. وتعد البردة أشهر شعره النبوی على الإطلاق، وتدعى كذلك «البُرْأَة» وعرفت باسم «الكواكب الدریة فی مدح خیر البریة»، ونعتها ابن قنفذ بـ «البردة فی مدح من هو خیر عدّة»، وتتألف البردة من عشرة أقسام كبرى، وعدد أبیاتها 162 بیتاً، وقیل إن البوصیری قد أصیب بفالج أبطل نصفه فنظم قصیدته وكرّر إنشادها لیعافیه الله ممّا ابتلاه، ثم نام بعد إنشادها، ورأى فی نومه الرسولr فمسح على وجهه، وألقى علیه بردة بعد أن استمع إلیه وهو ینشدها، وحین انتبه من نومه وجد فی نفسه نهضة وشفی ممّا كان فیه.

وللبردة قیمة دینیة كبرى، وأهمیة عظمى لأنها تعدّ قمّة المدائح النبویة، وأصبحت المثل المحتذى لمن جاء بعده حتى العصر الحدیث، وأما قیمتها الأدبیة فتتجلى فی معانیها وأسلوبها ومنهجها وابتعادها عن التكلف والتصنّع، إلا ما جاء عفو الخاطر. أما أقسامها العشرة فهی النسیب النبوی والتحذیر من هوى النفس، ومدح الرسولr وذكر مولده ومعجزاته وأهمیة القرآن وذكر الإسراء والمعراج والتشفع والمناجاة والاستغفار.

كثرت شروح البردة، فذكر بروكلمان 79 شرحاً، وعدّ آلورتW.Ahlwardt  31 شرحاً، وبعض هذه الشروح بالفارسیة والتركیة.

وللبردة ترجمات عدیدة، فقد ترجمها إلى الفرنسیة كل من ر.باسه R.Basset، وسلفستر دو ساسی S.de Sacy،  كما ترجمت إلى الإنكلیزیة والألمانیة والهندیة والتتریة فی قازان، والألبانیة والبوسنویة، وغیرها. وللبردة طبعات كثیرة قدیماً وحدیثاً، فقد طبعت فی القاهرة وحدها أكثر من خمسین طبعة، كما طبعت فی غیرها.

اختلفت وجهات نظر النقّاد فی شعر البوصیری، فمنهم من رفع من شأنه ومنهم من أزرى به، إلا أن أكثرهم یذهب إلى الإشادة بشعره ذی الموضوع الدینی. ویمكن أن یمیّز مذهبان فی أسلوبه الفنی، الأول: الوضوح والسهولة الملتزمان فی شعره عامة. الثانی: الجزالة والأصالة فی شعره النبوی خاصة. أمّا ما یتصل بالمذهب الأول فقد كان الشاعر یحرص على اختیار الألفاظ الواضحة والأوزان السهلة، ذلك لأن الوصف وتصویر الحیاة الاجتماعیة یحتّمان علیه استخدام هذا الأسلوب الذی یجعل شعره مقبولاً لدى الناس عامة. وأمّا المذهب الثانی الجزل فقد قصره على شعره الدینی والنبوی، إذ كان یستخدم الألفاظ الجزلة المطبوعة بالطابع الدینی المستمدة من القصص النبوی والإسلامی، والمتعلقة بالمعجزات، إضافة إلى ما فی نبویاته من المناجاة والتضرّع والتوسل والتشفع بالرسول الكریمr. وقد راجت أشعار البوصیری بین الناس فحفظوها وتناقلوها وخمّسوها وشطّروها وعارضوها قدیماً وحدیثاً لرقّتها وتعبیرها عن مشاعرهم فی مثل هذه المناسبات.

ویمكن القول إن البوصیری یمثل حركة شعریة رائدة، استطاع أن یرتفع فیها بالمدائح النبویة من طابعها التقلیدی إلى آفاقها الإبداعیة، وبذلك تغدو النبویّات البوصیریة أهم الأغراض الشعریة فی عصر الشاعر.

المراجع:

زكی مبارك، المدائح النبویة فی الأدب العربی (المؤسسة المصریة العامة للتألیف والنشر، القاهرة 1967).

ـ  محمد رجب النجار، بردة البوصیری، قراءة أدبیة وفولكلوریة، الرسالة الثالثة والثلاثون (جامعـة الكویت، كلیة الآداب).


+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:46|

الصورة الشعریة عند شعراء مدرسة الدیوان 

  

 

  بدأت حركة النقد عند مدرسة الدیوان وعلى رأسها عبد الرحمن شكری وزمیلیه العقاد والمازنی ، فبعد أن أصدر شكری دیوانه الأول عام 1901 م ، وقد تبلورت رؤیتهم النقدیة فی الربع الأول من القرن العشرین ، وقد قامت هذه الرؤیة النقدیة ولا سیما عند شكری على اعتبار أن وظیفة الشعر الأساسیة هی التعبیر عن وجدان الشاعر ، لأن الشعر فی جوهره عاطفة وقد هاجم شعراء مدرسة الدیوان الذین تبنوا مذهب التجدید فی الشعر شعر المناسبات الذی كان سائداً حینئذ فی المدرسة الكلاسیكیة أو التقلیدیة بقول :" وبعض القراء یهذی بذكر الشعر الاجتماعی ، ویعنی شعر الحوادث الیومیة مثل افتتاح خزان أو بناء مدرسة ... فإذا ترفع الشاعر عن هذه الحوادث الیومیة قالوا ، ماله ؟ هل نضب ذهنه ؟ أوجفت عاطفة ".              وقد یبنی أحد رواد هذه المدرسة وهو عبد الرحمن شكری مذهب .............. أحزانی ، وهو مذهب یجمع بین .......... الفكری والإحساس العاطفی ......... ، وكان لزمیلیه أثر بأخذ كل منها بأحد المذهبین الذین یناسبانه .              وقد تمیز المذهب النقدی الجدید الذی دعا إلیة شكری وزمیلیه العقاد والمازنی بالأتی :

 

           1 - أن الشاعر العبقری هو الذی یفكر كل فكر وأن یحس كل إحساس .    

 

       2 - الخیال هو كل ما یتخیله الشاعر من وصف جوانب الحیاة وشرح عواطف النفس وحالاتها.  

 

         3- .............. لا یراد لذاته ، و إنما یراد لشرح عاطفة أمر توضیح حالة أمر بیان حقیقیة . 

 

          4 – أجل العواطف الشعریة ما قیل فی التحلیل عواطف النفس ووصف حركتها ، كما یشرح الطبیب ..................          

 

 5 ـ الشعر هو ما أشعرك وجعلك تحسن عواطف النفس إحساسا شدیدا لا ما كان لغزا منطقیا أو خیالا مجنحا ، فالمعانی الشعریة هی خواطر المرء وآراؤه وتجاربه وأحوال نفسه وعبارات عواطفه .     

 

      6 ـ مراعاة وحدة القصیدة سواء أكانت وحدة فنیة أو وحدة عضویة ، فینبغی على الشاعر أن یمیز بین جوانب موضوع القصیدة وما یستلزمه كل جانب من الخیال والتفكیر .       

 

      الخیال والوهم عند عبد الرحمن شكری :    

 

       لقد حرص شكری على أن یمیز بین الخیال والوهم وهو تمیز یعترف به العقاد بأن شكری كان رائدة ، بل یضعه فی ذلك فی مستوى كبار الأدباء والمفكرین العالمیین ، فالخیال والوهم عند شكری یفترقان كثیرا ولا یتلبسان كما هو الحال فی أراء بعض النقاد ومختلطان فی إبداعات مخول الشعراء :   

 

        فالخیال عند الأدباء والشعراء المرموقین كان دائما وسیلة لإدراك الحقائق التی یعجز عن إدراكها الحسن المباشر أو المنطق بینما الوهم هروب من الواقع ومن الحقائق یقول شكری :

 

    " إن التخیل هو أن یظهر الشاعر الصلات التی بین الأشیاء والحقائق ، ویشترط فی هذا النوع أن یعبر عن الحق ، والتوهم هو أن یتوهم الشاعر بین شیئین صلة لیس لها وجود وهذا النوع الثانی یغری به الشعراء الصغار . ولم یسلم منه الشعراء الكبار" .         

 

  وقد بنی العقاد فی مذهبة النقدی ما عرف عنه بالأصالة الفردیة وهی المبدأ العام الذی تجده خلف دعوة التجدید فی الشعر التی قادها فی الصف الأول من القرن العشرین هو وصاحبه شكری والمازنی ، وهی الدعوة التی طابت بأن یكون الشعر تعبیرا عن الوجدان ، الفردی للشاعر ، وقد تطور هذا الوجدان الفردی فیما بعد الوجدان اجتماعی مع المحافظة على الطابع الوجدانی .       

 

    الأسس التی قام علیها مذهب العقاد النقدی هو الحریة التی لقتل معنى الجمال فی الحیاة والفن ، حیث على أساس الحریة ینبنی وحدة الفكرة فی الحیاة والفن یقول العقاد : 

 

                  " وقد أحببت أن أبنین هنا ما أرونه بوحدة الفكر والحیاة فی الفن فأقول أولا ، أن التجربة فی رأسی هی العنصر الذی لا یخلو منه جمال فی عالم الحیاة أو فی عالم الفنون " . 

 

          غیر أن العقاد تنبه إلى تفید الحریة إن صح التعبیر ومزن بینها وبین الغموض فیقول:"( وخلاصة الرأی أننا أحب الحریة حین نحب الجمال وأننا أحرار حین یعشق من قلوب سلیمة صافیة فلا سلطان علینا لغیر الحریة التی نهیم بها ولا قیود فی أیدینا غیر قیودها ولا عجب فحتى الحریة لها قیود " .  

 

         وقد طالب العقاد من خلال منهجه النقدی ولا سیما الموجه إلى أحمد شوقی بمجموعة من الأسس والقواعد النقدیة فیها الفردیة والمنهج النفسی الذی تبناه العقاد فی مذهبه النقدی والوحدة العضویة للقصیدة ، وما یتعلق بمقاییس المعانی مما تحدث فیه النقاد العرب القدماء كالإجابة والتی تعنی المبالغة فی المعانی مبالغة مسرفة . فیقول العقاد عنها:" أما الإجالة فهی حساد فی المعنى وهی ضروب : فمنها الاعتساف والشطط ، وفیها المبالغة ومخالفة الحقائق ، ومنها الخروج بالفكر عن المفعول ، أو قلة جذواه وخلو معزاه" .   

 

        ومن تلك المقاییس النقدیة القدیمة التی عرفها النقاد العرب وأسرفوا فی نقدها حتى جعلوها نوعا من السرقة الأبویة ، أما أخر تلك المقاییس التی اتبعها العقاد فی نقده شعر شوقی ومدرسة التقلید هو نظرتهم إلى التشبه ووظیفته الشعریة ، وهی كما یقول مندور:" هی تلك النظرة التی ثقلت التشبیه من مجال الحواس الخارجیة إلى داخل النفس البشریة إذا رأیناهم یعنی العقاد وزمیلیه ـ یطالبون بأن یكون الهدف من التشبیه هو نقل الأثر النفسی للمشبه من وجدان الشاعر إلى وجدان القارئ ، وبذلك فتحوا الباب أمام التعبیر الرمزی " .   

 

                                          الصورة الشعریة ووحدة القصیدة :    

 

       لم تكن الصورة الشعریة بدعما فی عالم الشعر والمذاهب النقدیة المعاصرة سواء عند مدرسة الدیوان أو المدارس الأخرى المحدودة كالمدرسة الرومانسیة والواقعیة والرمزیة ، فهی موجدة منذ عرف الشعر بل أن الشعر قائم علیها ، ولكن استخدامها یختلف من شاعر لأخر كما أنها فی الشعر القدیم تختلف عنه الشعر الحدیث ، وهی أكبر عون على نقدیهما كوحدة الشعریة أو على كشف المعانی القیمة التی ترمز إلیها القصیدة . ومع رجوع الصورة فی الشعر القدیم كما هی موجودة فی الشعر الحدیث إلا أنها فی الشعر الحدیث أكثر تطابقا ، ولكن الشاعر ینفر من استخدامها فی البرهان الإثبات ، ولعمل دائما على أن تكون صورة جدیدة وناقلة لتأشیر ومترابطة فی مجموعها بحیث تكون فیها صورا كبرى ، على أن صعوبة ما یحاوله الشاعر الحدیث توقعه فی الاضطراب فنجی وصورة محشودة أو مجتلبة فیخل بالترابط الذی یریده ، وتفجر قصیدته عن تحقیق ما یرید بها من غایة لأنها أغرقت فی التوجه نحو تلك الكفایة .  

 

         وقد عمد نقاد مدرسة الدیوان إلى استخدام الصورة غیر التكلفة والمنسجمة مع بعضها البعض وأن تكون صور جدیدة مبتكرة ، ولا یعنی حدة التصور التقاؤها فی أهم الشاعر بما یلتقی به مما حوله من مظاهر الحضارة لجدیدة وإنما تعنی ما تعكسه الصورة من تعبیر عن نفسیة الشاعر وكأنها تشبه الصور التی تتراءى فی الأحلام ، هذا من حیاتنا ومن جانب أخر أن یكون غرض الصورة مجتمعة قد تعین على كشف معنى أعمق من المعنى الظاهری للقصیدة ، ذلك لأن الصورة وهی جمیع الأشكال المجازیة إنما تكون من عمل القوة المخالفة التی هی منبع روح الشعر .    

 

       ومن الرؤیة السابقة للصورة فی الشعر الحدیث نجد أنها تحمل فلسفة جمالیة مختلفة عنه فی الشعر القدیم ، فأبرز ما فیها (( الحیویة )) ، وذلك لأنها تتكون تكونا عضویا ، ولیست مجرد حشد مرصوص من العناصر الجامدة ، ثم إن الصورة حدیثا تتخذ أداة تعبیریة ولا یلتفت ألیها فی ذاتها ، فالقارئ لا یقف عند مجرد معناها ، بل إن هذا المعنى یثیر فیه معنى أخر هو ما یسمى (( معنى المعنى )) أی أن الشاعر أصبح یعبر بالصورة الكاملة عن المعنى كما كان تعبیریا لفظیا ، وكما كانت اللفظة أداة تعبیریة فقد أصبحت الصورة ذاتها هی الأداة ، إلى جانب ما تقوم به الصورة من نقل المشاهد الحیة ، وتلخیص الخبرة والتجربة الإنشائیة .        

 

                                                أهمیة الصورة الشعریة :      

 

     یشیر الشاعر الإنجلیزی س . داى . یویس إلى أهمیة أن بمفرده دراسة الصورة الشعریة أن تلقی من الضوء على الشعر ما لا تلقیه دراسة أی جانب أخر من عناصره ، وأن هدفه الرئیس وأعظم خاصیة لفتته فه الصورة الجدیدة المؤثرة .            ویؤكد على أهمیة الصورة وظهرها فیقول :" إن الغرابة والجرأة والخصب فی الصورة هی نقطة القوة والشیطان المسیطر فی الشعر المعاصر ، وقیل كل الشیاطین فإنها عرضة للإفلات من سیطرتنا ... ولها قوة غامضة وتأثیر خفی " .      

 

      وقد اهتم الشعراء والنقاد على حد سواء بالصورة الشعریة ، وكانت دائما موضع الاعتبار فی الحكم على الشاعر حتى ولم ینص علیها فی الدراسات النقدیة العربیة ، وأن المفاضلة بین الشعراء لا تقوم إلا على أساس منها إلى الصورة والبناء الشعری .       

 

    ورغم أهمیة الصورة الشعریة فإن أی قصیدة لیس مجرد صور ، إنها على أحسن الفروض صور فی سیاجه ، صور ذات علاقة ، لیس ببعضها وحسب ، وإنما علاقة بسائر مكونات القصیدة ، وهذا یعنی أن دراسة الصورة بمعزل عن دراسة البناء الشعری تعتبر تعبیرا عن رؤیة جزیئیة ، فمهما كانت عمیقة أو مخیطة فإنها ستظل ناقصة من جهة ما ، فالصورة تكن لها شخصیتها وكیانها الخاص الذی یحدده المصطلح البلاغی ، فإنها تبقى صورة من تكوین شامل . 

 

                                             مدرسة الدیوان :     

 

      تكونت مدرسة الدیوان أثر صلات شخصیة وفكریة قامت بین أفراد هذه المدرسة وهم : عباس محمود العقاد ، وعبد الرحمن شكری ، وإبراهیم المازی ، وقد تفارق شكری والمازی فی مطلع عام 1906 م عندما كان تدرسان فی طیلة دار المعلمین العلیا واستثمرت هذه الصلاة بعد رحیل شكری إلى انجلترا ، ثم فقر المازی على العقاد من خلال العمل الصحفی للمازی ونشر العقاد لمقالاته الأدبیة ، أما علاقة العقاد شكری فیرجع الفضل فیها إلى المازی نفسه الذی تحدث لصدیقه شكری عن العقاد ومكانته الأدبیة ونشاطاته الفكریة مما دفع شكری إلى ترجمة هذا الإعجاب برسالة خطیة للعقاد أرسلها من انجلترا دون سابق فوقه ، وثم اللقاء الشخصی بینهما فی صیف عام 1913 م .  

 

         وهكذا تمت اللقاءات وثم لتوحد الفكری بین الأدباء الثلاثة وتمكنت هذه الجماعة من الإسهام الواضح فی دفع عجلة الأدب الحدیث نحو التطور والتجدید.        

 

   وقد تأثر أدباء مدرسة الدیوان بالرومانیة الغربیة لإجادتهم اللغة الإنجلیزیة التی أفادتهم كثیرا فی دراسة الشعر الإنجلیزی وخاصة شعر كل من بایرید وشیلی وسیتیوات ما ، ووردزوترت وغیرهم من انرس استجابتهم للاتجاهات الشعریة والنقدیة الغربیة وأثر هذه الاتجاه علیهم الأمر الذی فتح أمامهم المعنى الجدید للشعر ، غیر أن العقاد بنفس أن یكون تأثرهم بهؤلاء نابعا من التقلید الأعمى لهم وإنما كان فقط لتشابه فی المزاج واتجاه العصر كله ، ولم یكن تشابه التقلید والغناء.            ومن مظاهر تأثر مدرسة الدیوان بالرومانسیة الإنجلیزیة تلمس التالی : 

 

          1 ـ مهاجمتهم الشعراء عصرهم كشوقی وحافظ وغیرهما باعتبار أن أشعارهم ضربا من التقید والتقید بإغلال الماضی فی الفكر والأسلوب والموضوعات .  

 

         2 ـ المظهر الأخر من تأثرهم بالرومانسیة الإنجلیزیة یتمثل فی حدته جوهر الشعر والذی هو انعكاس لما فی النفس من مشاعر وأحاسیس وأنه یصدر عن الطبع إلى أذی لا تكلف فیه .  

 

         3 ـ تأثرهم بالرومانسیة الإنجلیزیة من حیث تحدید وظیفة الشعر وأهدافه ، إذ إن للشعر غایات وأهداف كثیرة مواء عند الرومانسیة أو غیرهم من المدارس الأخرى ، فالرابط بین المدرسة الرومانسیة والمدرسة الكلاسیكیة یكمن فی هذا الإطار ، فالرومانسیون یرون أن من أهداف الشعر الكشف عن مظاهر الجمال فی الوجود الإنسانی ، بل من أهدافه الكشف عن الحقیقة فی أعمق صورها وأمثلها )) .    

 

       وإلى الجانب اكشف عن مظاهر الجمال ینبغی مراعاة المتعة للقارئ التی یلمسها من معانی الشعر وصوره .

 

                                              الخیال والصورة :         

 

  عرف كولوج الخیال مفرقا بینه وبین الوهم بأنه إما أولى أو ثانوی ، فالخیال الأول هو القوة الحیویة أو الأولویة التی تجعل الإدراك الإنسانی ممكنا ، وهو تكرار فی العقل المتناهی لعملیة الخلق الخالدة فی الأنا المطلق . أما الخیال الثانوی فهو صدى للخیال الأولى ، غیر أنه یوجد مع الإرادة الواعیة ، وهو یشبه الخیال الأولى فی نوع الوظیفة التی یؤدیها ، ولكنه یختلف عنه فی الدرجة ، وفی طریقة نشاطه ، إنه یذیب ویتلاشى ویحطم لكی یخلق من جدید ، وحینما لا تتسنى له هذه العملیة فإنه على الأقل یسعى إلى إیجاد الوحدة ، وإلى تحویل الواقع مثالی إنه فی جوهرة حیوی ، بینما الموضوعات التی یعمل بها ( باعتبارها موضوعات ) فی جوهرها ثابتة لا حیاة فیها) .     

 

      (( والوهم نقیض ذلك لأن میدانه محدود وثابت ، وهو لیس إلا ضربا من الذاكرة تحرر من قیود الزمان والمكان ، وامتزج وتشكل بالظاهرة التجریبیة للإرادة التی نعبر عنها بلفظ ( الاختیار ) ، ونسبة الوهم الذاكرة فی أنه تعین علیه أن یحصل على مادته كلها جاهزة وفق قانون تداعی المعانی )).        

 

     یقسم كولدوج الخیال إلى نوعین : أولی ، وثانوی    

 

       الخیال الأولی: هو القوة الحیویة الأولیة التی تجعل الإدراك الإنسانی ممكنا ، وهو إدراك یقتصر فیه الشاعر على الصفات التی تهمه فقط من الشیء المدرك .        

 

   غیر أن الصورة فی الخیال الثانوی أو الشعری تستحوذ على اهتمامنا ـ كما یذكر محمد البرازی ـ أكثر من مجرد الإدراك ، لأنها لا تتعلم ، والصورة فی الخیال الشعری تستلزم أن یكون موضوعها غائبا على عكس الإدراك الذی یفترض وجود موضوعه حاجزا .        

 

   ریدرك المتتبع لتعریف كولدوج لمفهوم الخیال ویقسمه إلى أولی وثانوی ومدى الفرق بینهما أن الصورة فی الخیال الثانوی تفترض عدم وجود الشیء ، وإذا كان الفت یتخذ موضوعه أو مادته من الطبیعة ، فإنه یعطینا هذه الطبیعة بعد أن یفترض أنها غیر موجودة ، أو موجودة خارج نطاق إدراكه الخشی ، وهذه إحدى الفروق الأساسیة بین الخیال الأولی والخیال الثانوی .          

 

 وقد فرق كولدوج بین الخیال والوهم ، فینما یجمع التوهم بینا جزیئات باردة جامدة منفصلة الواحدة فیها عن الأخرى جمعا تعفیا ، ویصبح عمل التوهم عندئذ ضربا من النشاط الذی یعتمد على العقل مجردا عن حالة الفنان العاطفیة ، نجد الخیال یعمل على تحقیق علامة جوهریة بین الإنسان والطبیعة ، بأن یقوم بعملیة اتحاد تام بین الشاعر والطبیعة أو بین الشاعر والحیاة من حوله ، ولن یتم هذا الاتحاد وعلاقته إلا تتوافر العاطفة التی تهز الشاعر هزا .      

 

     وهكذا انطلقت مدرسة الدیوان من خلال المنظور السابق لنظریة الخیال وعلاقته بالصورة الشعریة ، وبدأت بشن هجومها على المدرسة التعلیمیة التی أساسها البارودی وتربع على عزتها أحمد شوقی وحافظ إبراهیم ، فانتقد نقاد هذه المدرسة منهج المدرسة التقلیدیة نقد تفضیلیا عنیفا حتى إذا تمت عملیة الهدم هذه أخذوا فی بسط أرائهم البناءة فی الأدب والشعر.      

 

     وقد تمحورت حملات النقد التی تبنى العقاد والمازی على أنصار .          

 

   التقلیدیة حول الأتی :          

 

 1 ـ البناء التقلیدی للقصیدة العربیة الذی كان عن موضوعات الحیاة إلى الأغراق الشعرة القدیمة كالغزل والمدح والوصف الهجاء والعتاب .        

 

   2 ـ شعر المناسبات الذی لم یكن یصدر فیه الشاعر عن تجربة حیة ولم یكن یستجب لما یجیش فی الصدر من خواطر بقدر ما كان ینشغل بالصنعة والزخرف والخلیة الخطابیة .  

 

         3 ـ على أن أبر ما اهتمت به جماعة مدرسة الدیوان فی نقدها للمدرسة التقلیدیة هو قضیة الوحدة العضویة أو الفنیة فی القصیدة ، لأن من یدعو إلى الوحدة العضویة للقصیدة لابد أن یدعو بالضرورة إلى نبذ البناء التقلیدی للقصیدة القدیمة ، وإلى ضرورة توافر التجربة الشعوریة التی تستجیب فیها الشاعر لموقف عاطفی واحد .

 

                                           تعریف الصورة :       

 

    عرف النقاد الغربیون الصورة الشعریة بتعریفات كثیرة أهمها أن الصورة تعنی ترادف أشكال البیان من تشبیه واستعارة وكنایة ورمز ، وهی مرتبطة ارتباطا وثیقا بالجانب الحسی ، غیر أن كولروج جمع مفهوم الصورة فقال : (( قد تكون منظرا أو نسخة من المحسوس ، وقد تكون فكرة أو أی حدث وهی یشمل شیئا ما ، وقد یكون شكلا من أشكال البیان ، أو وحدة ثنائیة تتضمن موازنة )).        

 

     الخطوط العامة فی نقد الصورة عند النقاد التشكلین :    

 

       لقد تعدد نقد الصورة عند النقاد التشكلیین فی الغرب ، ولكن یمكننا حصر تلك الخطوط فی ثلاثة فقط على النحو التالی :         

 

  1 ـ نقد الصورة من حیث هی صورة لا علاقة لها بغیرها ، وفیه یجب أن یكون الصورة : نضرة موجزة موجبة .            والمقصود بالنضرة جدة الصورة ، أما الإیجاز فهو أن تحمل الصورة أكبر قدر من الدلالات فی ألفاظ قلیلة ، والإحساء أن تكون الصورة مؤثرة ، وعندما تكون الصورة مؤثرة یجد القارئ أنه یكتشف لنفسه أشیئا فینطلق خیاله )) .            2 ـ خط الصیغة : وهو الخط الذی تشیر علیه الصور كی تصل إلى الغایة من القصیدة . ولكن لابد أن ندرك أنه على الرغم من حق الشاعر أن یستعیر لأفكاره ما یشاء من الصور إلا أنه لیس من حقه أن ینقل كل الصفات فی جوارنه رئیسیة عن الشیء .       

 

    3 ـ خط التفاعل : وهذا الحظ لا یجعل الصورة قائمة بذاتها ، لتعمل منفردة فی عزلة عن القصیدة ، بل تتداخل مع الفكرة والعاطفة وعناصر القصیدة الأخرى )).

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:45|

الحبكة فی الأدب

 

الحبكة (plot بالإنكلیزیة و intrigue بالفرنسیة) مصطلح حدیث الاستخدام نسبیاً فی لغة النقد الأدبی، والحبكة فی الأدب التخییلی fiction هی بنیة structure مؤلفة من مجموعة أحداث (أفعال actions) مترابطة فیما بینها، قد تتشابك بسبب تعارض الرغبات وبسبب عوامل خارجیة لا سلطة للإنسان علیها، أی إن هناك صراعاً ومعوقات، وقد نظّم المؤلف تسلسل أو تداخل هذه الأحداث بوعی انتقائی. وبالتالی ترتبط الحبكة ارتباطاً وثیقاً بالجانب الدرامی فی فنون السرد (الملحمة، الروایة، القصة، الحكایة) وفی فنون المسرح المأساة، الملهاة، المشجاة، الهزلیة، الأوبرا، الأوبریت). ویرى الناقد فورستر  E.M.Forster  فی كتابه «سمات الروایة»  Aspects of the Novel عام 1927أن الحبكة تنطوی على مستوى عالٍ من التنظیم السردی فی الروایة، مقارنة بما یجری على صعید القصة والحكایة، فالقصة «هی سرد الأحداث وفق تتابعها الزمنی»، فی حین أن الحبكة فی الروایة تنظِّم الأحداث وفق «مبدأ السببیة».

تعرّض مفهوم الحبكة فی تاریخ النقد الأدبی إلى تفسـیرات متعددة. ففی كتاب «فن الشـعر» Peri poietices الذی ینتمی إلى المرحلة الأخیرة من مؤلفات أرسـطو[ر] منح المؤلف الحبكة mythos (تعنی الكلمة هنا حكایة العمل أیضاً) مكانة خاصة واعتبرها روح المأساة[ر]. وفی مرحلة لاحقة تعامل النقاد مع الحبكة باعتبارها تقوم فی العمل الأدبی التخییلی بوظیفة محض آلیة. وفی أثناء المرحلة الإبداعیة[ر] (الرومنسیة) تدنت مكانة مفهوم الحبكة فی نظریة الأدب  إلى ملخص لمضمون أحداث العمل، وانتشرت على الصعید الشعبی فكرة وجود  مثل هذه الملخصات بمعزل عن أی عمل إبداعی، وأن هذه الملخصات قابلة لإعادة الاستخدام والتبدیل بحسب مشیئة المؤلف القادر على ضخ الحیاة فی عروقها، بتطویره الشخصیات والحوار وعناصر فنیة أخرى من مكونات العمل الأدبی. كما أدى نشر كتب تحمل عنوانات  مثل «حبكات أساسیة» إلى انحدارمفهوم الحبكة إلى أدنى مستویاته.

وعلى صعید المسرح خاصة حدث فی بعض المراحل التاریخیة خلط بین مفهوم الحبكة ومفهومات أخرى مثل الحكایة والفعل والعقدة، ولاسیما عند منعطف القرن السادس عشر إلى السابع عشر مع ترجمات أرسطو وتأویلات أقواله من قبل علماء الجمال، مثل الفرنسی شارل بوالو[ر]، فی المرحلة الاتباعیة (الكلاسیكیة) الجدیدة Neo-classicism الذین تمسكوا بقانون الوحدات الثلاث (الزمان، المكان، الفعل) وجعلوه معیار صحة وجودة العمل المسرحی. لكن بعض مسرحیات شكسبیر[ر] وبیل[ر] وبیغا[ر] خرجت عن هذا القانون وأثبتت أن المسرحیات التی تتحرك أحداثها على مدى زمن طویل، وفی عدة أمكنة، ولها أكثر من خط فعل واحد، تخضع لحبكة عامة تنظم وقائعها بعلاقات سببیة.

أما الحكایة فهی النواة التی تُشاد علیها بنیة الحبكة، وإذا كانت العقدة تمثل مرحلة توتر وتشابك الأحداث حتى الذروة التی تتطلب التحول نحو الحل،  فإن الحبكة هی المسار العام من البدایة إلى الذروة فالنهایة.

جرت محاولات عدة فی القرن العشرین لإعادة تعریف مفهوم الحبكة فی الأدب التخییلی عامة، بحیث یعنی البنیة التی تنظم حركة أفعال الشخصیات فی الزمان والمكان، ومن هذه المحاولات أیضاً ما ذهب إلیه نقاد مدرسة شیكاغو (الأرسطویون الجدد) الذین عدوا الحبكة بمنزلة سیطرة المؤلف على استجابات القارئ العاطفیة وإثارة اهتمامه ولهفته على مدى محدد من الزمن.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:43|

الأمثال عند العرب

 

الأمثال جمع مَثَل ومِثْل ومثیل، وهذا الأصل فی اللغة العربیة یدل على المماثلة، أو على مناظرة الشیء للشیء، من قولك: هذا مِثْل الشیء ومثیله، كما تقول: شِبهه وشبیهه، مأخوذ من المثال والحذو، شبّهوه بالمثال الذی یُضرب علیه غیره.

ویقول الزمخشری (ت 538هـ) فی مقدمة كتابه «المستقصى من أمثال العرب»: «والمَثَل فی أصل كلامهم بمعنى المِثْل والنظیر». ومَثَل الشیء أیضاً صفته، كما رأى بعض المفسّرین فی قوله تعالى: )مَثَلُ الْجَنَّةِ التی وُعِدَ الْمُتَّقُوْن( (محمد15)، أی صفة الجنة. وفی قوله تعالى: )ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فی التَّوْرَاةِ ومَثَلُهُمْ فی الإِنْجِیْل( (الفتح29)، أی ذلك صفة محمدe وأصحابه فی التوراة والإنجیل.

وقد یكون المثَل بمعنى العِبْرة، ومنه قوله تعالى: )فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفَاً ومَثَلاً لِلآخَرِیْن( (الزخرف 56)، ویكون المثل بمعنى الآیة، من قوله تعالى: )وجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنیْ إِسْرَائِیل( (الزخرف59) أی آیة تدل على نبوّته.

والمثل هو القول السائر الذی یُشبَّه به حال الثانی بالأول، أو الذی یشبه مَضرِبه بمَورِدِه، والمراد بالمورد الحالة الأصلیة التی ورد فیها الكلام، وبالمضرب الحالة المشبهة التی أریدت بالكلام.

ویقولون: «الأمثال تُحكى، یعنون بذلك أنها تضرب على ما جاءت عن العرب، ولا تُغیر صیغتها». والمراد بضرب المثل هو اعتبار الشیء بغیره وتمثیله به.

وعن حقیقة المثل وشیوعه وسیرورته یقول المرزوقی (ت421هـ) فی «شرح الفصیح»: «المثل جملة من القول مقتضبة من أصلها، أو مرسلة بذاتها، فتتّسم بالقبول، وتشتهر بالتداول، فتُنقل عما وردت فیه إلى كل ما یصح قصده بها من غیر تغییر یلحقها فی لفظها، وعمّا یوجبه الظاهر إلى أشباهه من المعانی؛ فلذلك تضرب وإن جُهلت أسبابها التی خرجت علیها».

لمّا اتجه علماء العربیة بمدلول المثل نحو الاصطلاح اتّسعوا بتعریفه وصفاته العامة كما یستفاد من كلام أبی عبید القاسم بن سلاّم (ت224هـ) فی كتابه «الأمثال» إذ یقول: «هذا كتاب الأمثال، وهی حكمة العرب فی الجاهلیة والإسلام، وبها كانت تعارض كلامها، فتبلغ بها ما حاولت من حاجاتها فی المنطق، بكنایة غیر تصریح، فیجتمع لها بذلك ثلاث خلال: إیجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبیه».

وبهذه الرؤیة تبدو الأمثال حكمة مستخلصة من تجارب المجتمعات العربیة وخبراتها وأحوالها فی الجاهلیة والإسلام، وقرْنُها بالكنایة على إرادة الصیاغة الأسلوبیة الغالبة، لا الكنایة بمعناها الاصطلاحی عند علماء البلاغة.

ولعل أكثر التعریفات إحاطةً وشمولاً لمفهوم المثل قول أبی إبراهیم إسحاق الفارابی (ت350هـ): «المثل ما تراضاه العامة والخاصة، فی لفظه ومعناه، حتى ابتذلوه فیما بینهم، وفاهوا به فی السرّاء والضرّاء، واستدرّوا به الممتنع من الدّر، ووصلوا به إلى المطالب القصیة، وتفرّجوا به عن الكرْب والمكْرُبة، وهو من أبلغ الحكمة؛ لأن الناس لا یجتمعون على ناقص أو مقصِّر فی الجودة، أو غیر مبالغ فی بلوغ المدى فی النفاسة».

وفی الاصطلاح عرف العرب ثلاثة أنواع من الأمثال هی:

المثل السائر، وهو المراد عند التعمیم والإطلاق. والمثل القیاسی، وهو «سرد وصفی أو قصصی أو تصویری لتوضیح فكرة، عن طریق تشبیه شیء بشیء، لتقریب المعقول من المحسوس، لغرض التأدیب، أو التهذیب، أو الإیضاح، أو غیر ذلك. ویمتاز هذا النوع من النوع الأول بالإطناب، وعمق الفكرة، وجمال التصویر».

وهذا النوع من الأمثال لم تُعن به مصنفات الأمثال العربیة القدیمة، وهو مبثوث فی القرآن الكریم، والحدیث النبوی الشریف وغیرهما. منه فی القرآن الكریم قوله تعالى: )ومَثَلُ الَّذِیْن كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِی یَنْعِقُ بِمَا لا یَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً ونِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْیٌ فَهُمْ لاَ یَعْقِلُوْن( (البقرة 172).

ومنه قول الرسولe: «مَثَل عِلْم لا یُنتفع به كمثل مال لا یُنفق منه فی سبیل الله». وقوله e: «مَثَل هذه الدنیا كمثل ثوب شُقَّ أوَّله إلى آخره».

أما النوع الثالث فهو المثل الخرافی وهو قصة قصیرة بسیطة رمزیة غالباً، لها مغزى أخلاقی، وقد تكون على ألسنة الحیوانات، كقصص «كلیلة ودمنة» التی نقلها إلى العربیة ابن المقفع، ومثل قصة الأرنب والضب، وكقصص الشاعر الفرنسی لافونتین La Fontaine.

ویختلف المثل الخرافی عن القیاسی فی أن الأحاسیس الإنسانیة فیه تنسب إلى غیر الإنسان. أما المثل القیاسی فالحیوانات فیه، وإن استخدمت، فلا تعدو أن تكون مجرد أداة للفكرة، وفی الأول تستخدم الحیوانات على أنها رموز إلى ناس، أو إلى أمور، أو إلى أشیاء أخرى، أما فی الثانی فتقصد لذاتها، أو یؤتى بها لتوضیح الفكرة عن طریق التشبیه والتمثیل.

وتدل الأمثال على عقلیة الشعب الذی تصدر عنه، وتُصوِّر حیاته الاجتماعیة، وهی خیر دلیل على أخلاقه وطبیعة ثقافته، ومشاغله، وهمومه، وراصد لأحوال بیئته وموجوداتها، وترجمان لمستوى لغته ونهج تربیته، وفیها تسجیل دقیق لجانب من تاریخه العام، ذلك أن بعض الأمثال تكون ولیدة الأسطورة فی إطار التاریخ المحلّی، أو ولیدة حادثة تُروى على أنها حدث تاریخی كبیر كتلك المستمدة من أیام العرب، مثل حرب داحس والغبراء، ویوم الرحرحان الثانی، ویوم النفراوات (یوم حلیمة)، أو (عین أُباغ)، ویوم الكلاب (الأول والثانی)، ویوم حجر، وكالأمثلة المستمدَّة من قصة الزبَّاء. وقد ترتبط بشخصیات كانت ذات شأن فی مجتمعها، كلقمان الحكیم، وأبی لهب، ومسیلمة الكذّاب، والنعمان بن المنذر، و بیهس الأحمق.

وإذا كانت الأمثال قد ظهرت مع بدایة التجربة الإنسانیة وتكوّن المجتمعات واللغات، فمن الممكن ربط تلك الأحداث والأسماء العربیة بنشأة الأمثال عند العرب منذ الجاهلیة، كما یستخلص من المثلین «أشأم من البَسُوس» الذی قیل فی حرب البسوس، و«أشأم من داحس» الذی قیل فی حرب داحس والغبراء. أو كما یستفاد من المثل: «ما یوم حلیمة بسرّ»، أو من المثل المقول فی حدیث جذیمة الأبرش والزبَّاء: «خَطْب یسیرٌ فی خطب كبیر».

ویمكن فرز الأمثال الجاهلیة من غیرها بنسبتها إلى قائلیها أخذاً بما نصّ علیه العلماء والمؤرخون، كاتفاقهم على نسبة المثل: «ربّ أخ لك لم تلده أمك» إلى لقمان بن عاد، ونسبة المثل: «إنك لا تجنی من الشوك العنب» إلى أكثم ابن صیفی، وكذلك نظیره: «أول الحزم المشورة»، وكقول عامر بن الظرب: «رُبَّ أَكْلَةٍ تَمْنَعُ أَكَلاتٍ».

وقد تُغفل الإشارة إلى الحدث الذی قیل فیه المثل، أو تغفل نسبته إلى قائله، ولكن یبقى النص على جاهلیته، أو على نسبته إلى قبائل جاهلیة، من ذلك نسبتهم المثل: «ألحن من الجرادتین» إلى قبیلة عاد، والمثل: «شرّ یومیها وأغواه لها» إلى قبیلة طَسْم، والمثل: «من دخل ظفار حَمَّر» إلى حِمْیَر.

أما الأمثال الإسلامیة ففی صدارتها ما جاء فی محكم آی الذكر المجید مقروناً بلفظة «مثل» أو «أمثال»، كما فی قوله تعالى: )ویَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلْنَّاسِ لَعَلَّهُمْ یَتَذَكَّرُوْن( (إبراهیم25)، وقوله تعالى: )وضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْیَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّة( (النحل112)، وقوله عزَّ وجل: )إِنَّ اللهَ لا یَسْتَحْیِیْ أَنْ یَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوْضَةً فَمَا فَوْقَها( (البقرة26)، إلى غیر ذلك مما أشار به إلى منافع الأمثال فی متصرّفاتها وحسن مواقعها.

ومن الأمثال الإسلامیة ما سیق متأثراً بما جاء به القرآن الكریم من قصص الأنبیاء، ومن الحكمة والموعظة والتشریع والترغیب والترهیب، أو متأثراً بلغة التنزیل وجمال تصویره وإعجازه المحفوظ، كما یلحظ بوضوح فی المثل: «أتبُّ من أبی لهب» أو «أقرب من حبل الورید»، من الآیة الكریمة: )وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَیْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِیْد( (ق16)، أو «أفرغ من فؤاد أم موسى» من الآیة الكریمة: )وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوْسَى فَارِغاً( (القصص10).

وغیر خفی أن قسماً كبیراً من الأمثال والحِكَم الإسلامیة یرتبط بالحدیث النبوی الشریف، قولاً، أو أصلاً، أو نقلاً وتضمیناً، كما فی قوله صلى الله علیه وسلم: «حمی الوطیس» و«مات حتف أنفه»، و«إن من البیان لسحراً»، و«الید العلیا خیر من الید السفلى»، و«التائب من الذنب كمن لا ذنب له». وقسماً منها یعزى إلى الصحابة والتابعین، كما فی قول أبی بكر الصدیق: «لا طامّة إلا وفوقها طامة»، وقول عمر بن الخطّاب: «النساء لَحْم على وَضَم إلا ماذُبَّ عنه»، وقول علی بن أبی طالب: «رأی الشیخ خیر من مشهد الغلام»، وقول ابن عباس: «إذا جاء القدر عَشِی البصر»، وقول ابن مسعود: «النساء حبائل الشیطان»، وقول عمرو بن العاص: «استراح من لا عقل له».

فهذه الأمثال لا یداخل الشكّ نسبتها إلى قائلیها لأن التدوین بدأ معهم معزّزاً بتسلسل الروایات وصحة السند.

أما بقیة الأمثال العربیة فقد صنّفت فی نسبتها تحت مصطلح المولَّد، وأطلق بعضهم علیها اسم «الحدیثة» و«الجدیدة». وأول من اهتم بتمییز الأمثال المولّدة من غیرها حمزة  الأصفهانی (ت360هـ) فی كتابه «الدُّرَّة الفاخرة»، وسمی أیضاً «كتاب سوائر الأمثال على أفعل». وأبو هلال العسكری (ت395هـ) فی كتابه «جمهرة الأمثال»، فالمیدانی أبو الفضل أحمد بن محمد (ت518هـ) فی كتابه «مجمع الأمثال».

وإلى جانب الأحداث والشخصیات التاریخیة كانت مادة الأمثال تدور حول الحیوانات كالإبل (السائبة، البَحِیْرة، الوصیلة، الحامی)، والفرس، والكلب ونظائر ذلك من حیوانات البرِّیة. أو كانت تدور حول القبائل والموروثات الدینیة القدیمة، ومظاهر الطبیعة، والدهر، والمأكول والمشروب. على أنها كانت تولی الإنسان عنایة خاصة، یستوی فی ذلك الملوك والرؤساء والبؤساء والفُتَّاك وأصحاب الخرافات، مع ما یتصل بحیوات هؤلاء وأضرابهم من المشاعر والغرائز والصفات والأفعال والعادات.

وتجدر الإشارة إلى أن هناك من یخلط بین المثل والحكمة متأثراً باللغة المحكمة الموجَزة، أو بتشابه الأسلوب فی الحكمة والمثل، بید أن المثل یختلف عن الحكمة فی كونه أكثر إیجازاً فی الغالب، وأكثر شیوعاً واعتماداً على التشبیه، ومیلاً إلى الحسیّة، والاحتجاج، والترف اللغوی الظاهری، وقد یكون المثل «عبارة تقلیدیة»، تستخدم فی الدعاء واللعن والخطاب والتحیّة. أما الحكمة فتقوم على العظة والاعتبار، وتصدر عن طول تجربة وإعمال فكر، وتهدف إلى الإرشاد والتربیة وتحض على التأمّل وتحكیم العقل.

أسلوب الأمثال

من أبرز سمات أسلوب الأمثال الاعتماد على البلاغة فی الصیاغة، ذلك أن أساس المثل تشبیه حالة بحالة، أو استعارة حالة لحالة أخرى، كقولهم: «بیتی یبخل لا أنا». ویؤدَّى ذلك بألفاظ متخیَّرة موقّعة أو مسجوعة أو مزدوجة مصوغة فی إفصاح وإیجاز وإحكام. ومن الأقوال التی تلخّص وصف أسلوب الأمثال ما جاء فی مقدمة كتاب المیدانی، قال: «یجتمع فی المثل أربعة لا تجتمع فی غیره من الكلام: إیجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبیه، وجودة الكنایة، فهو نهایة البلاغة».

وكثُر الحدیث عن الإیجاز والاختصار فی الأمثال حتى صُوِّرت وكأنها رموز وإشارات یلوَّح بها إلى المعانی تلویحاً، كقولهم: «عشبٌ ولا بعیر». ویصف أبو هلال العسكری ملامح هذا الإیجاز فی قوله عنها: «فهی من أجلّ الكلام وأنبله، وأشرفه، وأفضله، لقلة ألفاظها، وكثرة معانیها، ویسیر إیجازها، تعمل عمل الإطناب». ومن الشواهد التی یسوقها على ذلك: «العَوْدُ أحمد» و«السِّرُّ أمانة» و«جزاء سِنِمَّار» و«الخلاء بلاء».

ومما تتصف به لغة الأمثال جودة الكنایة فی مثل قولهم: «بقضِّه وقضیضه» أو «بلغ السیل الزُّبَى». كما تتصف بالسجع أو توافق الفواصل، وبحسن التشبیه، والمبالغة والمغالاة فی مثل: «أبقى من الدهر» و«أثقل من طَوْد». وأحیاناً بالطباق من نحو: «ویل للشّجیّ من الخلیّ». ویُعزى طغیان صیغة أفعل التفضیل فی أسلوب الأمثال إلى المتأخرین أو المولَّدین، ولكنه أسلوب شائع عند القدماء مألوف فی مثل قولهم: «أحلم من الأحنف» أو «أشأم من طویس» أو «أعزُّ من كلیب وائل» أو «أكبر من لُبَد» و«أسْیَرُ من مثل». على أن المدقق فی أسلوب الأمثال یجد أنها تضمّنت مجمل صیغ الإنشاء الأدبی من الأمر والنهی والدعاء والتمنّی والتعجب والشرط والجمل الاسمیة والفعلیة.

وتلتزم الأمثال منطوق الكلام الذی قیلت به أول مرة من غیر تغییر یراعی القواعد أو الفصائل اللغویة. یقول الزمخشری فی هذا: الأمثال یُتكلَّم بها كما هی، فلیس لك أن تطرح شیئاً من علامات التأنیث فی «أطرِّی فإنّك ناعله»، وفی «رمتنی بدائها وانسلّت»، وإن كان المضروب له مذكَّراً، ولا یبدَّل اسم المخاطَب من (عقیل) و(عمرو) فی «أشئت عقیل إلى عقلك» و«هذه بتلك فهل جزیتك یاعمرو». وقل مثل ذلك فی المثل: «الصیف ضیّعتِ اللبن»، أو فی المثل المشهور: «مكره أخاك لا بطل».

وما من شك فی أن شیوع المثل الفصیح هو الغالب على مر العصور العربیة القدیمة لأنه قرین الفصحى التی استمرّت مواكبة الفكر العربی الذی كانت أداته ووسیلته، ومن هنا كانت الأمثال التی ترجمها العرب عن الفارسیة أو الیونانیة فصیحة اللغة تبعاً لزمن ترجمتها الذی كانت محتفظة بمكانتها فیه.

ولم تكن الأمثال مقصورة على النثر، أو على التعابیر المَثَلیة، نحو «سكت ألفاً ونطق خُلْفاً»، وإنما كان لها حظها من النظم، إذ جاء بعضها على أسلوب المثل فی أشطار، أو فی تعبیرات موزونة الأداء نحو:«إنّ البُغاث بأرضنا تَسْتنسِر»، أو: «تجری الریاح بما لا تشتهی السُّفُنُ».

وأقل من شطر نحو: «لا تُفسدِ القوس [أعطِ القوس باریها].

ومن طریف ما قیل فی ذلك بیت أبی تمّام:

ما أنتَ إلا مَثَلٌ سائرٌ   یعرفه الجاهل والخابر

وكان من شدة اهتمام العرب بالأمثال أن وَضَعت فیها ما یزید على ستة وستین كتاباً بدءاً من صَحَار العبدی (ت40هـ) ووصولاً إلى إبراهیم الأحدب الطرابلسی (ت1308هـ). وهذا كله حصیلة معرفتهم بأهمیة الأمثال فی مجال فتنة اللغة أو الإمتاع اللغوی وحسن الأداء، فضلاً عن رصد الأمثال لأحوال المجتمعات والتطور العقلی للعرب، مع إحساسهم بقیمة وظیفتها الأخلاقیة التربویة، وأثرها فی الترفیه وإعادة قصّ الماضی وربطه بالحاضر والمستقبل، ولهذا ما خصص لها سفر فی العهد القدیم من الكتاب المقدس، وحیّز واسع فی القرآن الكریم والحدیث النبوی الشریف.

المراجع:

ـ المیدانی (أبو الفضل أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهیم النیسابوری)، مجمع الأمثال، حققه وعلق حواشیه محمد محیی الدین عبد الحمید، ط3 (دار الفكر 1982).

ـ أبو هلال العسكری، جمهرة الأمثال، تحقیق محمد أبو الفضل إبراهیم، عبد المجید قطامش، ط3 (دار الجلیل، بیروت، لبنان 1988).

ـ رودلف زلهایم، الأمثال العربیة القدیمة، ترجمة رمضان عبد التواب (مؤسسة الرسالة، بیروت 1987).

ـ الزمخشری (جار الله أبو القاسم محمود بن عمر) المستقصى فی أمثال العرب، ط2 (دار الكتب العلمیة، بیروت، لبنان 1977).

ـ حمزة بن الحسن الأصفهانی، سوائر الأمثال على أفعل، تحقیق فهمی سعد، ط1 (عالم الكتب، بیروت، لبنان 1988).


+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:42|
الرمز والأسطورة فی شعر بدر شاکر السیاب

مات وهو فی السابعة والثلاثین من عمره " غریبا " عن قریته جیکور – کانت البصرة – یومئذ بأجوائهاالتی فیها الشجر والظل والزهر والخضرة تصافح العین اینما نظرت , تفجر لدى الأدیب طاقاته الکامنةوتستحیل الحیاة فی الطبیعة الى مادة شعریة ثرة .. وجیکور قریة الشاعر السیاب تقع فی قلب هذه الجنة الخضراء .. انها بکل معالمها الأنیسة البسیطة المتفتحة على الشط , هی النسغ والمادة الأولى لشعره .. وغنّاها بصدق .. بقوة .. ورسم جزیئاتها فی قصائده حتى موته ...


بین میلاده عام 1927 ووفاته على سریر أبیض فی احدى مستشفیات الکویت عام 1964 , ظلت حیاته مزیجا من الألم والتعاسة والحرمان .. مات السیاب وترک ثراء ً کبیرا من الشعر الخصیب الذی جعله فی مصاف الشعراء العظام بسبب تنوع انتاجه الشعری وغزارته وشموله لکثیر من القضایا الأنسانیة .. عاش فقیرا وقتله المرض فی قمة شبابه الذی انعکس فی رثائه لنفسه , ففی وصیة له یقول :

( أنا قد أموت غدا ً / فا ن الداء یقرض .. غیر ان حبلا ً / یشد ّ الى الحیاة حطام جسم / مثل دار تحزن جوانبها الریاح / وسقفّها سیل القطار / ) ..

ایها المسکین یا عاشق الشعر الذی کان لک غدا ً وعدلا .. انک الرائد الحقیقی فنیا ً وتأریخیا ً لحرکة الحداثة الشعریة ...

لقد استعمل السیاب رمزی المسیح والصلیب فی اغلب قصائده , ولربما تکرر ورودهما اکثر من مرة فی القصیدة الواحدة .. وهذا ما نلاحظه فی قصائد دیوان – أنشودة المطر – ان رمزی المسیح والصلیب یرتبطان ارتباطا عضویا بمفهوم التضحیة أو الفداء والتی تمتد الى طفولة الشاعر ..

یقول عبد الجبار عباس : " ان التضحیة عند السیاب لیست موقفا مسیحیا , فالمسیح لیس عنده جوهر المضمون وانما هو لون یصبغ به الصورة " .. ففی قصیدة – غریب على الخلیج – والتی تمثل غربة الشاعر , وهذه الغربة لم تکن غربة وطن فحسب , وانما هی فکریة ونفسیة .. ویقول مخاطبا وطنه بشوق وحرارة وحمله ثقیل ثقل صلیب المسیح : ( بین القرى المتهیبات خطای , والمدن الغریبة غنیت تربتک الحبیبة / وحملتها فأنا المسیح یجر فی المنفى صلیبه / ).. وفی قصیدة – قافلة الضیاع – یخاطب الشعوب واللاجئین التی تمثل مأساة الفلسطینین بشخص المسیح للتعبیر عن النضال , فرمز بالمسیح لیعبّر عن وجدان البشر بجهادهم من أجل القضیة .. ( / کان المسیح بجنبه الدامی / ومئزره العتیق یسد ّ ما حفرته السنة الکلاب/ فاجتاحه الطوفان -حتى لیس ینزف منه جنب أو جبین / الا دجى کالطین تبنی منه دور اللاجئین / )..

وفی قصیدة – المسیح بعد الصلب – التی هی قمة الرمزیة للمسیح لدى السیاب یتحدث وبلسان المسیح مصورا بها صورته هو وکأنه المصلوب الذی انزل من على الصلیب وروحه الألهیة غیر المقهورة تمنح الحیاة للطبیعة والناس ..

( / مت کی یؤکل الخبز بأسمی لکی یزرعونی , مع الموسم / کم حیاة سأحیا : ففی کل حفرة / صرت مستقبلا , صرت بذرة / صرت جیلا من الناس فی کل قلب دمى قطرة منه / وبعض قطرة / )..

استفاد السیاب من الأساطیر البابلیة والسومریة والیونانیة اذ مزج بینها وبین همومه الذاتیة التی کانت قلقة نتیجة قلق عصره واستنجا ده بالأسطورة کمد لول رمزی نتیجة عشقه المثالی الى عالم حالم یبتعد به عن التناقضات فاستخدمها مرة لأتقاء شر السلطة الغاضبة واخرى اتقاء شبح الموت الذی یداهمه واستحوذ على مشاعره نتیجة المرض الذی طال امده .. وتمثلت فی ( اساطیر ) و ( ازهار ذابلة ) .. عندما یخبو ضیاء الشموع , ویبقى النخیل یئن ویصرخ فی قبضة الریح .. وفی ظلمة الیأس ینشق عبر الضباب الکثیف .. وهذا الزمان الذی یستحیل الى لحظات خریف طویل ..

ففی قصیدة ( مدینة بلا مطر ) استخدم السیاب تموز البابلیة آلهة الخصب التی تخلت عن المدینة فجف فیها کل شئ , اذ لا مطر , ولا زرع , فأنتشر فی المدینة الجوع والجفاف فیبدأ أهل القریة التضرع الى الآلهة الخصب وتقدم الى – تموز وحبیبته عشتار – وسار صغار بابل یحملون سلال صبّار وفاکهة قربانا لعشتار ویشعل خاطف البرق بظل من خلال الماء والخضراء والنار ..

وفی قصیدته ( رؤیا فی عام 1956 ) یستغل الشاعر – غنیمید – راع یونانی شاب وقع فی حبه -زیوس کبیر الهة الأولمب – الأغریق فیرسل حقیرا یختطفه ویطیر الیه فیقول : ( / ایها الصقر الالهی الغریب / ایها المنقذ من اولمب فی صمت المساء / رافعا روحی لأطباق السماء / ایها الصقر الالهی ترفق ان روحی تتمزق / ) .. وهنا الشاعر یرمز الى – روحه – بصورة – غنیمید – الشاب انها صورة ( الحب المقترن بالعذاب ) انها مزج بین الرؤیة الواقعیة والرؤیا النفسیة معا ..

هذا هو بدر شاکر السیاب الذی غنى لبلده .. غنى لعراقه .. غنى لشمسه .. لمطره .. لأنهاره .. جداوله ونخیله .. لحلوه ومره .. یقف تمثاله شامخا على ضفاف شط العرب , ذلک الشط الذی نسج له بدر قلائد الورد تزینه .. یقول – ادونیس – عن بدر شاکر السیاب :

" الحیاة نفسها عند السیاب قصیدة , لقاء بین شکل یتهدم وشکل ینهض .. انها انبثاق اشکال لأنها انهدام اشکال وهی کالقصیدة , شکل , ولیس الشکل تمثیلا نقلیا أو وصفیا .. انه فضاء خارجی یحتوی فضاء ا ًداخلیا " ...

وفی نهار شتائی حزین فی 24 کانون الأول سنة 1964 خرج أربعة من الرجال یشیعون بدر شاکر السیاب الى مقره الأخیر فی مقبرة الحسن البصری فی الزبیر وکان خامسهم المطر الذی وهبه السیاب اجمل قصائده .. لقد کانت نهایة السیاب قصیدة لم یکتبها بدر .. بل کتبها المطر على تراب العراق الخصب .. وهکذا یموت العظماء من الأدباء والفنانین ...

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:41|

معروف الرصافی

(1294-1364هـ/1877-1945م)

 

معروف بن عبد الغنی البغدادی الرصافی، شاعر العراق فی عصره، ولد ونشأ فی بغداد فی أسرة فقیرة تتألف من أب كردی هو عبد الغنی محمود وأمٍّ عربیة تدعى فاطمة بنت جاسم من قبیلة شمر العربیة، وكان والده شرطیاً یتغیّب عن المنزل بحكم وظیفته، فتعلّق الطفل بأمّه وارتبط بها.

بدأ معروف دراسته فی أحد الكتاتیب، ثم انتقل إلى المدرسة الابتدائیة، فقضى فیها ثلاث سنوات التحق بعدها بالمدرسة الرشیدیة العسكریة، ولما رسب فی الصفّ الرابع منها غادرها واتجه نحو العلوم الدینیة والأدبیة، فالتحق بالعلاّمة محمود شكری الآلوسی، ولازمه اثنی عشر عاماً، وهو الذی أطلق علیه لقب «الرصافی» نسبة إلى الرصافة فی بغداد.

اضطر الرصافی للعمل فی سلك التعلیم، وكان یرتدی العمامة والجبّة ویرسل لحیته، وینشر قصائده، ولكنّه تغیّر دفعة واحدة حین أقام فی اصطنبول، ثم بدأ العمل فی الصحافة، وبإلقاء المحاضرات فی المدرسة الملكیة العلیا فی اللغة العربیة، واتسمت قصائده فی هذه المرحلة بجرأة واضحة، فذاع اسمه فی كلّ مكان، صدر أول دیوان له فی بیروت سنة 1910، فقوبل بالاستحسان والتقریظ، ثمّ اختیر نائباً عن مجلس المبعوثان العثمانی سنة 1912، ولما احتلّ الإنكلیز وطنه العراق بعد انتهاء الحرب العالمیة الأولى توجه إلى دمشق فالقدس، ودرّس فی مدرسة المعلمین فیها، ثم انتقل إلى بیروت سنة 1922، وعاد بعد ذلك إلى بغداد، فعیّنه الملك فیصل مفتّشاً للغة العربیة فی أواخر عام 1923، لكنّه ظل یهاجم الحكومات التی یصنعها الانتداب بجرأة نادرة فی قصائده، كـ«غادة الانتداب» و«حكومة الانتداب» و«كیف نحن فی العراق؟»، واتسمت هذه القصائد وأمثالها بالصدق والمباشرة والتوبیخ والأسلوب الساخر، فذاعت، وما تزال، على كلّ لسان، ومن شعره السیاسی:

أنا بالسیاسة والحكومة أعرف

أَأُلام فی تفنیــدها وأُعنـَّف

علـم ودستور ومجلس أمـة

كل عن المعنى الصحیح محرَّفُ

أسماء لیس لنا سوى ألفاظـها

أمـا معانیـها فلیست تُعـرف

نجح الرصافی فی انتخابات مجلس النواب فی عام 1928 وعام 1930، ثمّ حُلّ المجلس وخرج الرصافی بلا عمل ولا مورد رزق، فاستضافه أحد معارفه فی مدینة الفلوجة، وظلّ فیها إلى أن دخلها الإنكلیز بعد أن أخفقت ثورة العراق بقیادة رشید الكیلانی، فعاد إلى بغداد سنة 1941، وسكن ضاحیة الأعظمیة حتى وفاته بذات الرئة.

كان الرصافی ذا بنیة جسمیة متینة، قلیل الاهتمام بملبسه ومسكنه ومأكله، ولكنّه كان شدید الحرص على كرامته وحریة وطنه، بعیداً عن الكذب والرذیلة، وهو حامل لواء تجدید الشعر فی العراق من دون منازع، لكنه عاش أواخر أیامه فی فاقة كبیرة.

ترك الرصافی أعمالاً مطبوعة ومخطوطة كثیرة، ومنها:

ـ دواوینه الشعریة، وقد طبعت مرات، ولكنّها لا تضمّ كلّ ما نظمه، ولاسیما ما كان منها فی المجون والأدب الإباحی. «الرؤیا» روایة للأدیب التركی نامق كمال ترجمها إلى العربیة، ونشرت عام 1909 فی بغداد.

ـ الأناشید المدرسیة، مجموعة من الأناشید نظمها فی القدس، ونشرت هناك عام 1920.

ـ «رسائل التعلیقات»، وهی كتاب یحتوی على ثلاث رسائل طبع فی بغداد سنة 1944. «على باب سجن أبی العلاء»، وهو كتاب طبع فی بغداد سنة 1946، بعد وفاة الشاعر.

كان الرصافی شاعراً غزیر الإنتاج، رفیع الأسلوب، ولا تعرف المجاملة طریقها إلى شعره، وقد نادى منذ بدایاته بحریة الفكر، وسعى إلى النهضة العربیة الشاملة. وشعره بعید عن التنمیق والزخرفة، وهو یتمتع بالسلاسة والمتانة والترابط، وقد تغنّى بأعمال بعض الشخصیات التاریخیة، ولكنه أولى الموضوعات العصریة جُلَّ اهتمامه، فكانت قصائده الاجتماعیة صدى لأفكار الشیخ الإمام محمد عبده[ر] وقاسم أمین[ر] وشبلی شمیّل[ر] وسواهم من رجالات النهضة، فدعا إلى بناء المستقبل العربی لیكون ردیفاً للماضی فی قصیدته «نحن والماضی»، وحارب الجهل والعادات السیئة فی قصیدته «العادات». وكان دائم الدعوة إلى ضرورة العلم وافتتاح المدارس، وهو من أوائل الشعراء الذین دعوا إلى أن یكون التعلیم شاملاً جمیع الاختصاصات نظریّاً وتطبیقیّاً فی قصیدته «المدارس ونهجها»، أما قضایا المرأة فقد كان الرصافی الشاعر السبّاق والمجلی فیها، وقد اشتهرت قصائده فی هذا المجال، فدافع عن الإسلام فی قضیة تخلّف المرأة العربیة، ودعا إلى مساواتها بالرجل، وناقش فی قسم «النسائیات» فی دیوانه ضرورة تعلیم المرأة وحریتها فی اختیار الزوج، كما ناقش قضایا المهر والطلاق والحجاب والسفور والعمل، وخلاصة رأیه فی هذا الموضوع أن الشرق لا یتقدّم خطوة واحدة إلى الأمام والمرأة ما تزال فیه مكبّلة بالقیود، وهی نصف المجتمع بل هی النصف الأهمّ من وجهه نظره.

والتحرر موضوع آخر فی شعر الرصافی، فقد دعا إلى التحرّر الوطنی والقومی من العادات السیئة والجهل والاستعمار الخارجی، وكان حرباً على الوزارات التی یصنعها الإنكلیز فی العراق، وله قصائد ذات موضوعات قومیة ومشاركات فی هذه المناسبات، وفی دیوانه قسم للإنجازات العصریة، كوصف القطار والسیارة والكهرباء والساعة والتلغراف، وفی شعره عدد من القصائد القصصیة، ومنها «أبو دلامة والمستقبل» و«الیتیم فی العید» و«الفقر والسقام»، ویتمیز شعره بالسلاسة والسهولة والتجدید فی الأنظمة الإیقاعیة ووحدة الموضوع.

المراجع:

ـ قاسم الخطاط وزمیلاه، معروف الرصافی شاعر العرب الكبیر (القاهرة 1971).

ـ إیلیا الحاوی، معروف الرصافی (الثائر والشاعر)، (بیروت 1981 ).

ـ إبراهیم الكیلانی، معروف الرصافی (دمشق 1978).

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:39|

خلیل حاوی

(1377-1402هــ/1919-1982م)

 

 

 
 

خلیل حاوی شاعر وأدیب ومفكر لبنانی، ولد فی قریة « الهوَیّة» بجبل الدروز، ثم استقر والده فی قریة أمه «الشوَیر». تلقى تعلیماً دینیاً متزمتاً فی مدرسة الیسوعیین فی الشویر، إذ كانت الهفوات عندهم تستوجب الخلود فی النار، فعاش الشاعر عمره متفحصاً ضمیره محاسباً نفسه ساعیاً نحو الكمال الإنسانی. لكن الشاعر ثار على هذه المدرسة التی تقوم على التعصب الطائفی، وتحدى الراهب رافضاً تكفیر الطوائف المسیحیة الأخرى، لذلك عوقب عقاباً صارماً، فانتقل إلى مدرسة «الوطنیة العالیة» فی «عین القسیس» بین الشویر والضهور.

عُرف بتفوقه فی دروسه، كما عرف بحبه للطبیعة. وحین مرض والده وعجز عن العمل، انقطع عن المدرسة لیحمل أعباء الأسرة، فمارس أعمالاً شتى ، وانتقل من بیروت إلى القنیطرة ثم إلى الأردن، وفی أثناء ذلك لم ینقطع عن القراءة والتعلم، فأتقن الفرنسیة والإنكلیزیة بجهده الذاتی.

وبعد أن استطاع والده العودة إلى العمل، جمع خلیل حاوی مبلغاً من المال أتاح له متابعة تعلیمه فی مدرسة الشویفات العلیا، بعد أن اضطر إلى تصغیر عمره سبع سنوات (صار من موالید 1925) كی یقبل طالباً فی المدرسة، وحین أنهى دراسته بتفوق، انتقل إلى الجامعة الأمریكیة فی بیروت، فنال الإجازة فی الفلسفة، ثم عمل مساعد مدرس فی الجامعة نفسها، وأعد أطروحة الماجستیر التی كانت بعنوان «العقل والإیمان بین الغزالی وابن رشد» وبعد مناقشتها (1955) سافر إلى جامعة كمبردج حیث نال شهادة الدكتوراه (1959) على أطروحته التی كانت بعنوان «جبران خلیل جبران، إطاره الحضاری، شخصیته وآثاره»، ثم عاد إلى الجامعة الأمریكیة لیعمل فیها أستاذاً حتى وفاته منتحراً.

انتمى خلیل حاوی إلى الحزب القومی السوری وعمره خمس عشرة سنة، لكنه قبل سفره إلى بریطانیا اختلف مع رئیس الحزب جورج عبد المسیح فأعلن انفصاله عنه، وطغى علیه آنئذ شعور الوحشة والعدمیة، وقد اكتشف فی بریطانیة حین اختلط بطلاب عرب من أقطار مختلفة، رابطة العروبة وتبین أهمیة الوحدة فی حیاة الأمة العربیة، وأدرك ضرورة بعث الحضارة العربیة ثانیة، لذلك كانت الوحدة لدیه مرتبطة بنزعة تقدمیة انبعاثیة.

تعمق الشاعر فی قراءة الكتاب المقدس، فاستمد منه رموزه التوراتیة والمسیحیة (رمز سدوم، إهلاك القوم الفاسقین، المن والسلوى...). كذلك اطلع على التراث العربی(أدبه وفكره)، وبدا معجباً بروّاد الحداثة فی الأدب العربی  مثل جبران خلیل جبران وسعید عقل وإیلیا أبو ماضی. واطلع على التراث الغربی قبل سفره لكنه تعمق فی هذا التراث حین سافر إلى بریطانیة، وأعجب بالأدب الرومنسی Romanticism  (شلی، كیتس، وردزورث، كولردج، لامارتین). وقد أدى إتقانه للفرنسیة والإنكلیزیة إلى تنوع المؤثرات الغربیة فی شعره، لذلك یعد خلیل حاوی أعمق شعراء الحداثة ثقافة.

عاش الشاعر إحباطات كثیرة فی علاقاته مع المرأة، لعل أقساها انفصاله عن الأدیبة العراقیة دیزی الأمیر بعد خطبة طویلة، وقد جُمعت رسائله التی أرسلها من كمبردج إلیها فی كتاب عنوانه «رسائل الحب والحیاة» صدر إثر انتحاره. اتضحت بعض معالم هذه العلاقة فی قصیدة «النای والریح فی صومعة كمبردج» وأهداها كتابه عن جبران قائلاً: «إلى الید التی أمسكت بیدی فی لیالی الشك والخلق، وهی التی رافقتنی إلى كمبردج»، وقد عاش بقیة حیاته عزباً.

بدأ خلیل حاوی قول الشعر باللهجة العامیة، ثم انتقل إلى اللغة الفصیحة، وأفاد من ثقافته الفلسفیة فی تعمیق رؤیته الشعریة، دون أن یسقط شعره فی الخطابیة والتقریریة ، فقد اعتمد فی بناء قصیدته على الأسطورة والرمز والصور، لذا یُعد فی أوائل الشعراء الذین استخدموا الأسطورة بإبداع.

وقد عبر فی شعره عن هاجس الانبعاث الحضاری لأمته، فاستخدم أسطورة تموز وما ترمز إلیه من غلبة الحیاة والخصب على الموت والجفاف:

یاإله الخصب

یاتموز، یاشمس الحصید

بارك الأرض التی تعطی رجالاً

  وأسطورة العنقاء التی تموت ویلتهب رمادها فتحیا ثانیة، وبذلك تجلت نزعة الحنین لدیه إلى البعث والعودة بالإنسان إلى عالم نقی فطری بعید عن مدنیة مشوهة تسحق روح الإنسان، فالبعث عودة إلى ینابیع الحیویة فی الفطرة الأصیلة.

إن التأثر بالرومنسیة لم یجعله غارقاً فی عالمه الذاتی، وإنما امتزج لدیه الهم الخاص بالهم العام، ومنحته الأسطورة والرموز قدرة على تجاوز الذات وغنى فی عوالمه الشعریة.

جسدت لغته الشعریة اضطراب أعماقه بین رؤیا البعث بكل خصوبتها وبین فجیعة الموت بكل دماره، وبذلك كانت فی معظمها لغة التناقضات (أقمار السواد، العتمة والضوء، الموت، الخصب ...) حتى عنوانات دواوینه جسدت هذه اللغة (نهر الرماد، النای والریح، بیادر الجوع، من جحیم الكومیدیا ..).

وسیطرت لغة الموت على معجمه الشعری، حتى حینما تحدث عن حبیبته استخدم مفردات الموت:

ولربما ماتت غداً

تلك التی یبست على اسمی

ومص دماءها شبحی

وما احتفلت بلذات الدماء

ماتت مع النای الذی تهواه

یسحب حزنه عبر المساء

 كذلك بدا هاجس الزمن واضحاً فی شعره، فقد حمل الهزائم لأمة الشاعر، والتجاعید لوجهه.

عاش الشاعر حیاته مؤرقاً بهم أمته العربیة، یهجس ببعثها، ویؤلمه موتها وتمزقها وظهر ذلك جلیاً فی قصیدته إلعازر (1962) - التی تجسد قیامة المیت إلى الموت لاإلى الحیاة - وذلك إثر انفصال الوحدة بین سوریة ومصر (1961):

امسحی البرق، امسحی المیت

امسحی الخصب الذی ینبت فی السنبل

أضراس الجراد

نعش بارد یعرق

فی حمى السهاد

وصدى یفرش عینی

بأقمار السواد

وحین شبت الحرب الأهلیة اللبنانیة (1975) تفاقم إحساسه بالألم لتمزق وطنه الصغیر، بعد أن تبددت أحلامه بتوحد وطنه الكبیر، وقد عاش هذه المرحلة كئیباً منعزلاً تحاصره مأساة الإنسان الخائب كما تحاصره مأساة حلم ممزق.

بلغ إحساسه بالخیبة والعار ذروته حین اجتاح الصهاینة الأراضی اللبنانیة (1982) ووصلوا إلى العاصمة بیروت لیقابلهم صمت العرب، عندئذ لم یستطع تحمل ذل أمته، وبؤس أحلامه وقد تحولت إلى كوابیس فانتحر إذ لم یعد یتحمل الاستمرار فی حیاة یجللها العار والضعف.

 جمع الشاعر دواوینه الثلاثة التی ظهرت أواخر الخمسینات وبدایة الستینات فی مجلد واحد «نهر الرماد» (1957)، «النای والریح» (1961)، بیـادر الجـوع (1964)، ثم صدر له دیوان «الرعد الجریح» وأما آخر دیوان صدر له فكان بعنوان «من جحیم الكومیدیا». وصدرت رسالته للدكتوراه عام 1982 بعنوان «جبران خلیل جبران» ترجمة سعید فارس باز.

المراجع:

إیلیا حاوی، خلیل حاوی فی سطور من سیرته وشعره (دار الثقافة، بیروت 1984).

ـ إحسان عباس، «اتجاهات الشعر العربی المعاصر»، سلسلة عالم المعرفة الكویتیة (1978).

ـ ریتا عوض، أسطورة الموت والانبعاث فی الشعر العربی الحدیث (المؤسسة العربیة للدراسات والنشر 1978).

ـ یوسف حلاوی، الأسطورة فی الشعر العربی المعاصر(دار الآداب، بیروت 1994).

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:38|
أحمد تیمور

(1288ـ1348هـ/1871ـ1930م)

 

أحمد تیمور علامة بالتراث العرب، وباحث شامل فیه، ولاسیما فی فنون اللغة والأدب والتاریخ، وأحد رجال النهضة العربیة، ومنشئ أعظم مكتبة خاصة فی الشرق فی العصر الحدیث. كان لشمائله الشخصیة ولمكتبته أثر بالغ فی عصره، نوَّه به علماء العصر وأدباؤه ومفكروه. وهو والد الأدیبین المجددین الرائدین فی فنون القصة والمسرح والتمثیل: الأدیب الكبیر واللغوی محمود تیمور[ر]، ومحمد تیمور.

 

قدم جده تیمور بن محمد بن إسماعیل إلى مصر من الموصل فی عهد محمد علی باشا الكبیر (1804-1848)، واتصل به، وكان من قادة جنده وكبار ولاته. وقد تولى أبوه عدة مناصب فی زمن الخدیوی عباس وسعید وإسماعیل وصار رئیساً لدیوان الخدیوی.

توفی أبوه سنة 1289هـ وله من العمر مئة یوم، فقامت على تربیته أخته الأدیبة الشاعرة عائشة تیمور[ر]، وزوج أخته محمد توفیق الذی كانت مكتبته أول مكتبة غنیة تقع علیها عینا الطفل النابغ.

كان تلمیذاً فی مدرسة مارسیل الفرنسیة بضع سنوات، ثم انقطع عنها لیتلقى فی داره أنواع العلوم على أیدی أساتیذ وعلماء، وفیها تعلم التركیة وشیئاً من الفارسیة، لیستعین بهما فیما بعد فی مباحثه البالغة الاتساع.

اتصلت أسبابه بطائفة من أعیان علماء عصره كان لأربعة منهم خاصة أثر فی تكوینه الثقافی والعلمی فی صباه ویفاعته وشبابه وهم: الشیخ رضوان المخللاتی (ت 1311هـ)، وهو من ثقات العلماء بالقرآن الكریم والقراءات، سمع منه تیمور فی داره. والشیخ حسن الطویل (ت 1317هـ) فیلسوف الأزهر، و«شیخ الشیوخ وأستاذ الأستاذین، وأحد من تفرد فی مصر بالبراعة فی المعقول والمنقول» كما قال تیمور فیه. والعلامة اللغوی محمد محمود بن أحمد التُّركزی الشنقیطی (ت 1322هـ) وهو خاتمة علماء اللغة وحفاظها على طریقة المتقدمین. وكان أخذ تیمور عنه نقطة تحول متزاید فی اهتماماته العلمیة باتجاه اللغة ومباحثها. والشیخ محمد عبده (ت 1323هـ) بلغ من حب تیمور له وإعجابه به أنه اشترى داراً بجوار داره بعین شمس، ونقل إلیها مكتبته من القاهرة لیكون قریباً منه. وستشهد هذه الدار مجالس علمیة حافلة، تؤمها كوكبة لامعة من مفكری مصر وعلمائها وأدبائها، أو من الطارئین علیها، وسیكون معها أحیاناً الشیخ نفسه، قطبها الذی علیه تدور. ومن هؤلاء سعد زغلول، وفتحی زغلول، وقاسم أمین، وعبد العزیز جاویش، ومحمود سامی البارودی، وإسماعیل صبری، وحافظ إبراهیم، وأحمد الإسكندری، ومحمد كرد علی.

وكانت مجالس العلم التی تنعقد فی داره فی درب سعادة مصدراً آخر من مصادر تكوینه العلمی المتین.

ومن أكبر الشخصیات التی اتصل بها تیمور بعد الشنقیطی ومحمد عبده العلامة الشیخ طاهر الجزائری الدمشقی، وكان قد بقی فی مصر ثلاثة عشر عاماً، انتهت سنة 1919 وهی السنة التی أسس فیها المجمع العلمی العربی (مجمع اللغة العربیة الیوم) الذی سیكون أحد أعضائه المؤسسین. وكان تیمور شدید الحرص على لقاء الجزائری، یتجاذبان حدیث النوادر والنفائس فی المكتبة العربیة، وهی هوى الرجلین المشترك الكبیر.

أكبر آثار تیمور، على كثرتها وجلالة قدرها، مكتبته الفریدة التی شرع فی تكوینها وهو دون العشرین وكانت قد بلغت سنة 1330هـ/1911م نحو ثمانیة آلاف مجلد، قریب من نصفها مخطوط: أصلٌ، أو مصورٌ بالتصویر الشمسی، أو منسوخ؛ فضلاً عن المواد العلمیة المختلفة الأخرى، كالآلات الفلكیة والمصورات الجغرافیة والصور ذات القیمة التاریخیة، التی صور بعضها بنفسه بحس تاریخی مرهف.

انصرف تیمور عن الحیاة العامة، وأنفق عمره فی ترتیب مكتبته وفهرستها واستخراج الفوائد العلمیة منها، وبذلها وبذل عمله العظیم فیها لكل مستفید من الشرق والغرب،إلى الحد الذی أدهش معاصریه، وكانت مادتها العظیمة ذات أثر كبیر فی أعمال علمیة مشهورة، كان یزود أصحابها ابتداء بمواد ثمینة یتعذر الوصول إلیها على غیره بمجرد معرفته بأغراضهم فیها، ثم تمم على ذلك كله فوقف علیها الأوقاف الطائلة، وأهداها لدار الكتب المصریة، لتكون درة أقسامها الثمینة.

راسل تیمور العلماء من الشرق والغرب وراسلوه، فی مختلف مسائل العلم ومشكلاته، وأجاب على رسائلهم، ورفدهم بما احتاجوا إلیه. وربما بلغت رسائله الآلاف، فیها من نوادر العلم كل نفیس. رسائله الخاصة إلى محمد كرد علی فقط مئة وأربعون رسالة، سوى رسائله إلى المجمع الذی كان من أوائل أعضائه، إلى كونه عضواً فی المجمع العلمی المصری، وفی مجلس إدارة دار الآثار العربیة، ومجلس الشیوخ؛ وكانت وفاته بعلة القلب قبل إنشاء مجمع القاهرة بسنوات قلیلة.  

كتب تیمور فی صحف عصره ومجلاته مثل «المؤید» و«الأهرام»، و«مجلة مجمع دمشق» و«المقتطف» و«الضیاء» و«الهلال» و«المقتبس» و«الزهراء».

طبع بعض مصنفاته فی حیاته، وطبع أكثر منها بعد وفاته. منها: «التصویر عند العرب» و«ذیل طبقات الأطباء» و«حیاة المعری وعقیدته» و«تصحیح لسان العرب» و«تصحیح القاموس المحیط» و«معجم الأمثال العامیة»، و«معجمه الكبیر فی الألفاظ العامیة وبیان معانیها وأصولها اللغویة العربیة». وهذان المعجمان الأخیران خاصة من غرائب تیمور، لبعده فی الظاهر من مخالطة الناس، مع معرفته الواسعة والعمیقة بمخاطباتهم وأمثالهم كما یدل علیها هذان المعجمان.

المراجع:

حمد كرد علی، محاضرات المجمع، المجلد الثانی (دمشق 1931 ونشر عام 1954).

ـ مجلة المجمع العلمی العربی، العددان 8 ـ 11 (دمشق 1931).

ـ مجلة الزهراء، العدد 5 (القاهرة).

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:37|

الالتزام فی الأدب

 

من المعروف أن الوظیفة الاجتماعیة والأخلاقیة والجمالیة للأدب قدیمة قدم الأدب نفسه، وأن ثمة میلاً إنسانیاً قدیماً ومقیماً للاهتمام بوظیفة الأدب وتوجیهه لمصلحة الفرد والمجتمع والوطن والإنسانیة والمعتقد. ولكنَّ هناك فرقاً بین الإیمان النظری العام بوظیفة الأدب، وهو ما اصطلح على تسمیته بالنظریة الأخلاقیة، ومفهوم الالتزام الحدیث الذی ینبثق من النظریة الأخلاقیة ذاتها ولكنه یتجاوزها متجهاً نحو العمل على تنظیم وظیفة الأدب وتعمیق الوعی بها، وتحدید مسؤولیة الأدیب، وأحیاناً إلزامه بهذه المسؤولیة، انطلاقاً من موقف إیدیولوجی محدد متسم بالوعی النظری. فالالتزام: هو الشكل الواعی المنظم (المؤدلج) للنظریة الأخلاقیة، وهو ـ بهذا المعنى ـ ممارسة حدیثة العهد لا تعود بدایاتها الأولى إلى أكثر من قرن واحد من الزمن، وإن كانت فی التاریخ الأدبی القدیم أشكال من الالتزام غیر المبنیّ على الاتساق الفكری والاستمراریة المنظمة كالتزام الأدب الموقف الدینی فی العصور الوسطى عند الأوربیین، وربما كذلك عند العرب، ولاسیما فی مجالی الشعر الدینی والشعر السیاسی (الأحزاب).

وإذا كان مفهوم الالتزام یرجع إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرین، كما یُستخلص من تنظیرات ثورة (أكتوبر) الاشتراكیة وما سبقها من إرهاصات فی روسیة، فإن استخدام كلمة «الالتزام» بالمعنى الاصطلاحی الحدیث یرجع إلى أوائل أربعینات القرن العشرین، إذ كان المفكر الوجودی الفرنسی جان بول سارتر [ر] أول من بلور مصطلح «الالتزام» للدلالة على مسؤولیة الأدیب، ولتوكید أن الكلام الأدبی لیس مجرد ترویح عن النفس أو تعبیر جمالی، وإنما هو «موقف» یستتبع المسؤولیة.

ولكن ذیوع مصطلح «الالتزام» على ید سارتر یجب ألا ینسینا أبداً أن مفهوم «الالتزام» المنظم یعود إلى أدبیات المذهب الواقعی الاشتراكی الذی یقوم أصلاً على تأكید ارتباط النتاج الأدبی بالبنیة التحتیة (الاقتصادیة ـ الاجتماعیة)، ومن ثم على تأكید رسالة الأدب والفن للعمل فی سبیل التغییر من أجل الحیاة الكریمة والغد الأفضل. وقد اتخذ هذا المفهوم منذ البدء صیغة مذهب أدبی متماسك حمل اسم «الواقعیة الاشتراكیة». وهو حصیلة النظرة الماركسیة إلى الأدب والفن من الناحیة النظریة. كما أنه، من الناحیة العملیة، حصیلة التجربة الأدبیة المعاصرة للأدباء الاشتراكیین فی الاتحاد السوفییتی (سابقاً) والبلدان الاشتراكیة الأخرى وأقطار كثیرة فی العالم. ومفاد هذه النظرة أن الأدب ابن طبقته وعصره، وهو تعبیر عن التطورات الاقتصادیة والاجتماعیة فی العصر، وفی خضم معركة صراع الطبقات لا یستطیع الأدیب أن یقف موقف المتفرج أو أن ینقطع للتأمل المجرد فی برجه العاجی، وإنما هو مطالب بالتجاوب مع نضال الطبقة الكادحة (البرولیتاریة) وأهدافها، وعلیه أن یقف إلى جانب الحیاة ویلتزم مناصرة قوى التقدم والتحرر والثورة، وهكذا یكون الموقف المشترك بین كتاب «الواقعیة الاشتراكیة» هو التزام أهداف الطبقة العاملة والنضال فی سبیل تحقیق الاشتراكیة والعالم الأفضل.

على أن النصوص الأولى للواقعیة الاشتراكیة لا تستخدم كلمة «الالتزام» استخداماً اصطلاحیاً، بل تركز عادة على كلمة «هادف»، ومن هنا كانت أكثر الصفات تكرراً فی السلسلة الطویلة لتحدیدات الأدب الاشتراكی هی كلمة «هادف". ویلاحظ تكرار هذا الوصف لدى واحد من أقدم منظری الالتزام الأدبی الاشتراكی، وهو أناتولی لوناتشارسكی، ففی مقالته المبكرة «حول الواقعیة الاشتراكیة» (1932)، یؤكد أن الواقعیة الاشتراكیة تختلف عن الواقعیة البرجوازیة فی أنها فعالة بذاتها ومدركة لجدلیة الطبیعة والمجتمع، وكذلك ـ وهذا هو المهم ـ فی أنها هادفة، یقول: «ثم إنها هادفة. إنها تعرف ما هو خیر وما هو شر، وتلاحظ أی قوى تعیق الحركة وأی قوى تسهل سعیها المتوتر نحو الهدف الأعظم. وهذا كفیل بإضاءة كل صورة فنیة بطریقة جدیدة سواء من الداخل أم من الخارج. وهكذا یكون للواقعیة الاشتراكیة موضوعاتها لأنها تعطی الأهمیة بدقة لكل ما له قدر من التأثیر فی العملیة الأساسیة لحیاتنا، أی النضال من أجل تحویل كامل للحیاة وفق الخطوط الاشتراكیة». وقد قطع المذهب الواقعی الاشتراكی فی الممارسة والنظریة شوطاً كبیراً وأصبح الیوم یستند إلى تجربة تاریخیة طویلة، ومع هذا التطور یبرز سؤال نظری شدید الأهمیة حول مدى ورود معطیات هذا المذهب فیما یتصل بالثورات التحرریة وأقطار العالم الثالث والمجتمعات الناشئة التی ابتعدت، لظروف تاریخیة اجتماعیة سیاسیة ولتداخل العوامل التی تكوّن الیوم أدبها وثقافتها الوطنیة، عن مفهوم مجتمع الطبقة الواحدة وما یترتب على ذلك من بنى أدبیة وفنیة، وانتهجت منهجاً وطنیاً لا رأسمالیاً فی التنظیم الاقتصادی والاجتماعی، وكذلك انتهجت نهجاً ثقافیاً مبنیاً على الانفتاح والتفاعل سواء مع الموروث الثقافی والأدبی أم مع النتاج العالمی الجدید من العالم الاشتراكی بالدرجة الأولى ولكن من مناطق أخرى فی العالم أیضاً.

كذلك برزت منذ عام 1987 مسائل جدیدة  فی الالتزام الأدبی الاشتراكی نتیجة موجة إعادة البناء (بیریسترویكا)، التی دعت إلى الانفتاح والمرونة وبشرت بمرحلة جدیدة فی فهم الالتزام الأدبی یمكن أن ترجح فیها القیم الجمالیة على قیم المضمون.

وإلى جانب الواقعیة الاشتراكیة، برزت «الوجودیة» فی العصر الحدیث تنادی بالالتزام وتروّج له. وهی تختلف اختلافاً بیناً عن سابقتها الواقعیة الاشتراكیة فی أنها تنأى عن أی منحى أیدیولوجی وتجعل الالتزام نابعاً من وجدان الكاتب الفرد وقناعاته من دون أن یكون هناك معیار واضح لهذا الالتزام. ومن الصعب الكلام عن الوجودیین بالجملة لأن كل علم من أعلامهم له تجربته الخاصة، ومن بینهم جمیعاً یبرز جان بول سارتر أقوى مدافع عن نظریة الالتزام، وللأدب عنده خاصیتان أساسیتان مترابطتان: الالتزام واتخاذ المواقف. وهو یعفی الشاعر من الالتزام لأن الكلمة الشعریة لا تفید معناها الدقیق ومن ثم لا تتضمن موقفاً. وعنده أن حریة الكاتب ضروریة ومنها ینبع الالتزام، والالتزام لا یعنی سطحیة العمل الأدبی ووقوفه عند النصائح المباشرة أو المواعظ، بل یعنی حیویة العمل الأدبی فی ارتباطه بالعصر وملابساته وتوجیه الوعی فیه وجهة إنسانیة مسؤولة وغیر مشروطة.

ومن الواضح أن  هذه الملاحظات تتناول بنقد غیر مباشر ذلك المیل الذی ظهر فی كثیر من الكتابات الواقعیة الاشتراكیة نحو البساطة المتناهیة والمباشرة والتقریریة والمنبریة والبعد عن التساؤل، ولاسیما فی أوضاع سیاسیة معینة فی الاتحاد السوفییتی السابق كالمرحلة الستالینیة سیاسیاً والجدانوفیة ثقافیاً.

إن نظریة الالتزام عند سارتر لم تنبثق جاهزة، وإنما تبلورت بالتدریج عبر تجاربه الحیاتیة والكتابیة، وقد قادته هذه التجارب ابتداء من «طرق الحریة»  Les chemins de la liberté عام 1945، إلى مزید من ارتباط وجهة نظر الضمیر الفردی بالواقع الاجتماعی، وفی سنة 1946 عمل سارتر على تحدید مسؤولیة الأدیب بما یلی:

ـ إنتاج نظرة إیجابیة فی الحریة والتحریر.

ـ أن یتجه الكاتب فی كل حالة من الحالات إلى استنكار العنف من وجهة نظر أفراد الطبقات المضطهدة.

ـ تحدید علاقة صحیحة بین الغایات والوسائل، أی العلاقة بین الأخلاق والسیاسة. (ویركز سارتر على هذه النقطة تركیزاً خاصاً).

ـ أن یرفض الكاتب فوراً استعمال أی وسیلة من وسائل العنف فی تحقیق نظام من الأنظمة أو المحافظة علیه.

ویضیف سارتر: «إن المناداة بالحریة دون أن یكون  ذلك فی سبیل التغییر، المناداة بالحریة لمجرد أن تتمتع لحظة بذاتها إزاء أثر جمیل، ذلك ما یقال عنه: الفن للفن. هذه الطریقة فی المناداة بالحریة المبدعة ضد النفع، ضد تقدم الآلات، ضد الطبقة، إنما هی طریقة فی أن یكون المرء ضد البرجوازیة ومرتبطاً بالبرجوازیة فی آن واحد».

ومع أن هناك دائماً تعدیلات وتغییرات تطرأ على آراء سارتر وزملائه من أصحاب فلسفة الوجود فإن الآراء السابقة یمكن أن تعد أوضح ما قیل فی مجال الالتزام.

ومن المفید فی تقویم الالتزام الوجودی الإشارة إلى أنه لم یصمد كثیراً للتجربة وكان مقتله فی نقطة تمیزه  ذاتها. فقد حاول سارتر مثلاً أن یتجاوز الفلسفتین السائدتین فی عصره، اللیبرالیة البرجوازیة والماركسیة، وأن یشق طریق الالتزام بعیداً عن الإیدیولوجیة. وبالفعل قام بمناصرة الثورات فی كل مكان: فی الجزائر وكوبة وفنزویلة وفییتنام وتعرض من جراء ذلك لاعتداءات متكررة؛ ولكنه سقط فی الامتحان الصعب للقضیة الفلسطینیة، ولم تنفع علاقاته الحمیمة بالمثقفین العرب؛ ولا زیارته المباشرة لفلسطین والمنطقة العربیة فی تحركه ضد الظلم الصهیونی الذی عاناه الشعب الفلسطینی، وهكذا كانت التجارب تضعف أمام أسئلة لا جواب عنها. وحین كتب مذكراته «الكلمات» فی منتصف الستینات كان واضحاً أنه وصل إلى الطریق المسدود فیما یتعلق بالالتزام الأدبی، وتكررت مواقفه الدالة على اقترابه من حافة الیأس من مهمة الأدب والكتابة. وفی عید میلاده الستین مثلاً (15/7/1965) أعلن أن: «إرسال قمح إلى شعب جائع خیر من كتابة مقال فی الأدب، والعمل فی خدمة قضیة سیاسیة محلیة تتعلق بالانتخابات فی فرنسة قد تكون أكثر نفعاً من كتابة الجزء الثانی من نقد العقل الدیالیكتی».

وتنكشف الخیبة على نحو أقوى عند سیمون دو بوفوار[ر] رفیقة حیاة سارتر، وتتسع لتكون خیبة أدبیة عاطفیة سیاسیة شخصیة كما یتضح فی كتابها «قوة الأشیاء"، وهو سیرة ذاتیة، وكذلك كانت الخیبة نهایة الكاتب الوجودی ألبیر كامو[ر] الذی كان تأثیره عظیماً بعد الحرب وحاول أن یلقن الناس علماً أخلاقیاً جدیداً مفاده أن الحیاة البشریة من خلال صخب العالم المعاصر أصبحت ضرباً من المحال، ولم یبق من قیم سوى الصدق والرفض والثورة على الزیف «بعین النسر التی لا تراوغ».

وقد فضل الوجودیون باستمرار القصة والمسرحیة لطرح المشكلات الإنسانیة والمیتافیزیقیة، ومعظمهم تجنبوا البحث النظری الفلسفی المباشر.

والجدیر بالذكر أن موجة الالتزام الوجودیة طغت على الأدب العربی فی الخمسینات وأوائل الستینات من القرن العشرین، وحاول كثیر من الكتاب العرب صیاغة إنتاجهم القصصی على النمط الوجودی، وترجمت معظم المؤلفات الوجودیة، ونشرت فی الصحافة الأدبیة العربیة عشرات المقالات حول الوجودیة وفكرها وأدبها، وكان للأدب العربی فی سوریة نصیب من محاولة الاستفادة من التجربة الوجودیة، وتمثل ذلك بوجه خاص فی الإقدام على المزاوجة القومیة الوجودیة أی فی إضفاء الالتزام الوجودی على الالتزام القومی، وإنطاق الأبطال القومیین فی الأدب القصصی بالمقولات الوجودیة وذلك فی محاولة للتأكید أن الالتزام القومی یجب أن یكون نابعاً من صمیم القناعة الخاصة للفرد الواعی.

وأخیراً لا بد من الإشارة إلى أن الالتزام الأدبی بمفهومه الواسع تلقى رفداً عظیماً من نتاج الأدباء المناضلین ضد الظلم والاحتلال والاستبداد فی أنحاء مختلفة من العالم، ومن أدباء ثورات التحرر الوطنی والاجتماعی، وفی مقدمة هؤلاء: لوی أراغون[ر]، وبابلو نیرودا [ر]، وناظم حكمت [ر]، وفریدریكو غارثیا لوركا [ر].

كما أن الأدب العربی المعاصر رفد مفهوم الالتزام «الطوعی» بدفاق من تجارب الأدب القومی والوطنی والاجتماعی، وأدب المناسبات العامة، مع ما یشوب هذا الأدب من عاطفیة مسرفة وتعلق آنی بالمناسبة، ویمكن القول إن أفضل مثل قُدم فی هذا الباب هو أدب المقاومة الفلسطینیة الذی نجح جزء كبیر منه، فی توفیر الموقف الملتزم ذاتیاً، والإبداع الجمالی ولو نسبیاً، والأفق الإنسانی الرحب.

المراجع:

ـ لوناتشارسكی، «حول الواقعیة الاشتراكیة"، ترجمة حسام الخطیب، الآداب الأجنبیة، ع1، س6 (تموز 1979).

ـ جان بول سارتر، الأدب الملتزم، ترجمة جورج طرابیشی (دار الآداب، بیروت 1965).

ـ حسام الخطیب، سبل المؤثرات الأجنبیة وأشكالها فی القصة السوریة، ط3 (دمشق 1981).



+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:36|
الأدب العربي في العصر الأندلسي

 

    [الأندلس والمغرب وشمالي إفريقية وصقلية]

    الأندلس والمغرب جزءان مترابطان من عالم واحد كان يعرف في القديم عند المشارقة بالمغرب الإسلامي، وقد ظلا يتمثلان طوال العصور الوسطى حضارة واحدة مشتبكة العلاقات في السياسة والفكر والاجتماع. وفي العلاقات البشرية المستمرة من هجرة واختلاط وتزاوج.

    وقد كونت صقلية مع بلاد المغرب وشمالي إفريقية والأندلس وحدة ثقافية ذات طابع خاص جوهره التراث الثقافي العربي الإسلامي، وساعد في حفظه كثرة الانتقال والاتصال.

    وقد أدت الأندلس وصقلية دوراً بارزاً في النهضة الأوربية عن طريق نقل هذا التراث كما يشهد بذلك الباحثون، مما يجعل الحديث عن فضل الحضارة العربية الإسلامية من الوقائع التاريخية الثابتة.

    الأندلس

    الحياة السياسية والاجتماعية في الأندلس

    أطلق العرب لفظ الأندلس AL- Andalus على القسم الذي سيطروا عليه من شبه جزيرة إيبرية (إسبانية والبرتغال) واستقروا فيه زهاء ثمانية قرون (منذ فتحها عام 92هـ/ 711م بقيادة طارق بن زياد وموسى بن نصير، وآخرين، حتى سقوط غرناطة عام 897هـ/1492م) فجاؤوا بلغة حية تأثرت بها اللغتان الإسبانية والبرتغالية، وبمد حضاري حمل عبارة تتصدر معاهد العلم وهي: «العالم يقوم على أربعة أركان: معرفة الحكيم، وعدالة العظيم، وصلاة التقي، وبسالة الشجاع».

    حكم الأندلس مدة ستة وأربعين سنة (92-138هـ/711-755م) ولاة كان يعينهم الخليفة في دمشق، أو عامله على إفريقية، ولما قوض العباسيون صرح الدولة الأموية، فر عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن مروان من الشام في مغامرة طويلة حتى وصل إلى الأندلس سنة 137هـ/755م، واستطاع بحذقه السياسي أن يؤسس إمارة حاضرتها قرطبة Cordoba استمرت من عام 138 حتى عام 300هـ/756-912م، ولقب «بالداخل» و«بصقر قريش».

    وفي عهد عبد الرحمن الثالث الذي لقب «الناصر» وحكم من سنة 300 حتى 350هـ/ 912-961م، تحولت الإمارة إلى خلافة، وفي هذا الدور بلغت الأندلس أوج مجدها السياسي والأدبي ونافست قرطبة بغداد.

    ثم انتثر عقد البلاد، فاستبدّ رؤساء الطوائف بالولايات، وقامت دويلات بلغت العشرين عدّاً عرف حكامها بملوك الطوائف (403-536هـ/1012-1141م) منها الدولة العبادية في إشبيلية، ودولة بني الأفطس في بطليوس، والدولة الجهورية في قرطبة.

    ومع انشغال الحكام بشؤونهم عن تدبير الملك، وازدياد ضغط الإسبان الشماليين على هذه الولايات، فزع الأندلسيون إلى يوسف بن تاشفين (500هـ/1106م) أمير الملثمين (المرابطين) في المغرب، فأنجدهم سنة 479هـ بعد انتصاره في معركة الزلاقة، ثم استقل بحكم الأندلس التي تحولت إلى ولاية تابعة للمغرب في زمن المرابطين والموحدين.

    وبعد هزيمة الموحدين سنة 609هـ/1212م في موقعة العقاب Las Navas de Tolosa التي جرت مع الإسبان، استطاع الإفرنجة أن يستولوا على الحصون والمدائن ومنها قرطبة التي سقطت سنة 623هـ/1235م، بعد أن لبثت خمسمئة وعشرين سنة عاصمة الملك. وحصرت الدولة في مملكة غرناطة التي حكمها بنو نصر (بنو الأحمر)، وشيدوا فيها قصور الحمراء Al- Hambra، وحافظوا على السلطان العربي في الأندلس زهاء قرنين ونصف القرن (635-897هـ/1218-1492م). ثم اتحدت مملكتا قشتالة Castilla، وأرغون Aragon في مواجهة بني نصر، وسقطت غرناطة، وسلم أبو عبد الله الصغير مفاتيح الحمراء إلى المنتصرين.

    كان قوام المجتمع الأندلسي في بداية الأمر من الفاتحين العرب والبربر، وقد وحدت بينهم راية الحرب، والدعوة إلى الجهاد.

    ودخل قسم كبير من أهل البلاد في الإسلام، وتمتع باقي السكان من النصارى واليهود بحياة مطمئنة، ومارسوا شعائرهم الدينية بكل حرية.

    وكان للأندلسيين عناية خاصة باللغة وعلومها وآدابها، إضافة إلى الفقه وعلوم الشريعة، وقد استقدم الخلفاء العلماء من المشرق لينقلوا معهم كنوزهم الأدبية فيتأدب بها الكثيرون. وكان للفقهاء في الأندلس سلطان عظيم لدى الدولة، ولدى عامة الناس.

    واحتلت المرأة في الأندلس منزلة عظيمة، ونالت حظاً وافراً من التعليم، ونبغت في العلوم والآداب والفنون كثيرات: قيل إن مئة وسبعين امرأة بضاحية قرطبة الشرقية كن يعملن يومياً في نقل نسخ من القرآن الكريم بالخط الكوفي، وإن «إشراق العروضية» (القرن الخامس الهجري) كانت تحفظ «الكامل» للمبرد، و«النوادر» للقالي، وكان يعهد إلى النساء بتربية أبناء الأمراء والأغنياء وتأديبهم، فابن حزم تلقى ثقافته الأولى على يد نساء قصر أبيه، وهن علمنه القرآن، وروينه الأحاديث الشريفة، ودربنه على الخط.

    وكانت الشواعر ملمحاً بارزاً من ملامح الشعر الأندلسي لوفرتهن ونبوغهن، وقد ارتبط سحر شعر النساء باسم ولادة (ت484هـ) بنت الخليفة المستكفي (ت 416هـ) فقد غشي منتداها فرسان النظم والنثر، ومنهم ابن زيدون (ت463هـ) الذي نعم بوصلها، وشقي بهجرها، فقال فيها أجمل الغزل وأرقه.

    الأدب العربي في الأندلس  

    الشعر

    فنون الشعر الأندلسي: نظم الأندلسيون الشعر في الأغراض التقليدية كالغزل والمجون والزهد والتصوف والمدح والهجاء والرثاء، وقد طوروا موضوع الرثاء فأوجدوا «رثاء المدن والممالك الزائلة» وتأثروا بأحداث العصر السياسية فنظموا «شعر الاستغاثة»، وتوسعوا في وصف البيئة الأندلسية، واستحدثوا فن الموشحات والأزجال.

    وكان الغزل من أبرز الفنون التقليدية، يستهل به الشعراء قصائدهم، أو يأتون به مستقلاً،وبحكم الجوار أولاً، ولكثرة السبايا ثانياً، شاع التغزل بالنصرانيات، وكثر ذكر الصلبان والرهبان والنساك. كذلك شاع التشبيب بالشعر الأشقر بدلاً من الشعر الفاحم، وكما أن الشعراء جعلوا المرأة صورة من محاسن الطبيعة. قال المقَّري: «إنهم إذا تغزلوا صاغوا من الورد خدوداً، ومن النرجس عيوناً، ومن الآس أصداغاً، ومن السفرجل نهوداً، ومن قصب السكر قدوداً، ومن قلوب اللوز وسرر التفاح مباسم، ومن ابنة العنب رضاباً».

    ولم يظهر المجون الذي يخلط فيه الجد بالهزل في عهد الدولة الأموية في الأندلس لانشغال الناس بالفتوح، من جهة، ولأن الوازع الديني كان قوياً في النفوس، من جهة ثانية. لكن، منذ عصر ملوك الطوائف حتى نهاية حكم العرب في الأندلس، اتخذ بعضهم المجون مادة شعرهم، وأفرطوا فيه إلى حد الاستهتار بالفرائض، مع أنه ظهر في القرن الخامس الهجري في ظل دول الطوائف عدد غير قليل من الشعراء الذين نظموا في الزهد، كأبي إسحق الإلبيري (ت460هـ)، وعلي بن إسماعيل القرشي الملقب بالطليطل، والذي كان أهل زمانه (المئة السادسة) يشبهونه بأبي العتاهية.

    ولئن كان الزهد دعوة إلى الانصراف عن ترف الحياة، فإن التصوف شظف وخشونة وانعزال عن الخلق في الخلوة إلى العبادة. ويتخذ الشعر الصوفي الرمز أداة للتعبير عن مضمونه وحقائقه. ومن متصوفة الأندلس ابن عربي (ت638هـ) وقد لقب «بمحيي الدين» و«بالشيخ الأكبر» وابن سبعين (ت669هـ) وكان يلقب «بقطب الدين».

    وفي المدح حافظ الشعراء على الأسلوب القديم، فاعتنوا بالاستهلال وحسن التخلص، وربما بدؤوا قصائدهم بوصف الخمر أو الطبيعة، أو بلوم الزوجة زوجها لسفره للقاء الممدوح كما في شعر ابن درَّاج القسطلي (ت421هـ)، وهم لم يغرقوا في استعمال الغريب ما عدا ابن هانئ (ت362هـ) الذي حاول تقليد المتنبي.

    ولم يختلف رثاء الأندلسيين عن رثاء المشارقة، فكانوا يتفجعون على الميت، ويعظمون المصيبة، وكثيراً ما كانوا يبدؤون بالحكمة صنيع ابن عبد ربه (ت328م).

    فنون الشعر الأندلسي المتطورة

    الشعر التعليمي: ويراد به الأراجيز والمنظومات التاريخية والعلمية، وهو لا يلتقي مع الشعر الفني الذي يغلب عليه عنصرا الخيال والعاطفة إلا في صفة النظم، ويستقل في الرجز كل شطر بقافية. من الأراجيز التاريخية أرجوزة يحيى ابن حكم الغزال (ت250هـ) شاعر عبد الرحمن الثاني (الأوسط) وهي في فتح الأندلس، وأرجوزة تمام بن عامر بن علقمة (ت283هـ) في فتح الأندلس وتسمية ولاتها والخلفاء فيها ووصف حروبها، وأرجوزة ابن عبد ربه في مغازي عبد الرحمن الثالث، وأرجوزة أبي طالب عبد الجبّار (القرن الخامس الهجري) وكان مواطنوه يلقبونه بالمتنبي وقد قصر شعره على الوصف والحرب والتاريخ، وأرجوزة لسان الدين بن الخطيب (ت776هـ) «رقم الحلل في نظم الدول» وهو تاريخ شعري للدولة الإسلامية في المشرق والأندلس. ويلي كل قصيدة شرحها.

    ومن الأراجيز العلمية أرجوزة ابن عبد ربه في (العروض) وأرجوزة الشاطبي، القاسم بن فيّرة (ت590هـ) في القراءات وعنوانها «حرز الأماني». وألفية ابن مالك (ت بدمشق سنة 672هـ) في النحو، وأرجوزة لسان الدين بن الخطيب المسماة «المعتمدة» في الأغذية المفردة، وأرجوزة أبي بكر محمد بن عاصم (829 هـ) في القضاء وعنوانها «تحفة الحكام في نكت العقود والأحكام»، وتذكر في نطاق الشعر التعليمي منظومة حازم القرطاجني (ت684هـ) وهي منظومة ميمية في النحو عدد أبياتها سبعة عشر ومئتان، وبديعية ابن جابر الضرير (ت780هـ) التي نظمها في مدح الرسول الأعظم e، وضمنها نحو ستين فناً بديعياً، وسماها «الحلة السيرا في مدح خير الورى».

    وصف الطبيعة: ألهبت طبيعة الأندلس الجميلة قرائح الشعراء، فرسموا لوحات شعرية متنوعة أودعوها أخيلتهم وعواطفهم.

    رأى عبد الرحمن الداخل نخلة بالرصافة (شمالي قرطبة)، فلم يصفها في طولها ولا في التفافها ولا في ثمرها، وإنما عقد بينه وبينها شبهاً في النوى والبعد عن الأهل. ووصف ابن عبد ربه الطبيعة بمعناها العام المتمثل في الرياض وأزهارها فخلع على صياغته من نفسه ومهارته ما جعلها مصورة البيئة الأندلسية أدق تصوير وأحلاه. وقد ردد ابن حمديس (ت527هـ) أصوات القدماء في الطبيعة كما ردد أصوات المحدثين، ووصف الخيل والإبل والغيث والبرق، وأقحم عبارات امرئ القيس، ثم حاكى أبا نواس في الدعوة إلى نبذ الوقوف على الأطلال، ودعا إلى الشراب، وكثيراً ما وصف ترحاله وتغربه عن صقلية التي أبعد عنها وهو حدث (471هـ) لما غزاها النورمان.

    تغنى الشعراء الأندلسيون بجمال الطبيعة الأندلسية، فابن سفر المريني يتعلق بالأندلس فيراها روضة الدنيا وما سواها صحراء، وابن خفاجة الذي لقب «بالجنّان» و«بصنوبري الأندلس» يشبهها بالجنة فهو يقول:

يــا أهــل أندلـــس لله دركـــم
           

مــاء وظل وأنهار وأشــــجار

مـا جنة الخلد إلا في دياركـم
   
   

ولـــو تخيرت هذي كنت أختار

    ووصف شعراء الأندلس أقاليم الأندلس وربوعها وصفاً دقيقاً، فحمدة بنت زياد (من شواعر القرن الخامس الهجري) تصف وادي آش Guadix القريب من غرناطة فترسم أكثر من صورة متحركة.

    وبدافع من التطور الحضاري أدخل الأندلسيون إلى قصورهم المنيعة الماء ليملأ البرك في باحتها، ولينتشر من أفواه التماثيل كما في وصف ابن حمديس بركة في قصر المتوكل بن أعلى الناس بإفريقية.

    أما وصف مجالس الأنس فقد بدأ ظاهرة اجتماعية في أخريات الدولة الأموية في الأندلس،ثم أخذت المجالس بالانتشار والشيوع ويغلب على هذا الشعر الارتجال، وفيه وصف للساقي والخمر.

    كذلك رأى الشعراء الأندلسيون في المرأة صورة من محاسن الطبيعة، وقد ألح ابن زيدون في ديوانه على ثنائية ولادة والطبيعة.

    وفي بعض أشعارهم ميل إلى النزعة القصصية، ومن ذلك قول جعفر بن عثمان المصحفي (ت372هـ) في سفرجلة تتبع وصفها مذ كانت تختال على شجرتها إلى أن ذبلت في كف الشاعر.

    ويغلب على الوصف في الشعر الأندلسي التشبيهات والاستعارات ويمثل لها بشعر ابن سهل (ت649هـ)، فقد صور الشاعر الطبيعة فأحسن المزج بين الألوان، وجمع بين الحس المرهف، والملاحظة الدقيقة.

    رثاء الممالك الزائلة: وهو تجربة إنسانية قل نظيرها في الأدب العربي لما اتصف به من حدة وحماسة، وجرأة في نقد المجتمع، ودعوة لاسترجاع ما ذهب.

    لقد رثى المشارقة المدن التي استبيح حماها، كما صنع ابن الرومي حين رثى مدينة البصرة عندما أغار عليها الزنج سنة 255هـ، لكن هذا اللون لم يظهر في الأدب المشرقي كما ظهر في الأدب الأندلسي فناً قائماً بذاته يسير في ثلاثة اتجاهات: الأول هو رثاء المدن التي كانت عامرة فخربت أو ضاعت، ويمثل لـه بشعر أبي إسحق الألبيري يصف إلبيرة Elvira وما أصابها من دمار وخراب. أما الثاني فرثاء الدويلات التي زالت في أثناء الحكم العربي في الأندلس وفيه يعدد الشعراء ما حل بأرباب نعمتهم من أسر أو قتل أو تشريد كما في رثاء ابن اللبانة (ت507هـ) دولة بني عباد، ورثاء ابن عبدون (ت527هـ) دولة بني الأفطس في قصيدته الرائية «البسّامة» وأما الاتجاه الثالث فهو الشعر الذي نظمه أصحابه في رثاء المدن الضائعة مما سقط في يد العدو كما في قصيدة أبي البقاء الرندي (ت684هـ) التي تتوزعها ثلاث فكر هي الاعتبار بزوال الدول، وتصوير سقوط المدن، ثم دعوة المسلمين إلى الجهاد.

    شعر الاستغاثة: ويقوم على استنهاض عزائم ملوك المغرب والمسلمين لنجدة إخوانهم في الأندلس أو التصدي للاجتياح الإسباني.

    وقد أورد المقّري في نفح الطيب قصيدة ابن الأبَّار (ت658هـ) التي استغاث فيها بسلطان تونس أبي زكريا الحفصي سنة 636هـ ومطلعها:

أدرك بخيلك خيــل الله أندلســـا             إن الســبيل إلى منجاتها درســا

   فاستوعبت معظم الاتجاهات والمعاني التي أتى بها شعراء الاستغاثة.

     الموشحات والأزجال:

    أحدث الأندلسيون فناً جديداً يتجاوب مع البيئة التي شاع فيها الغزل والشراب والغناء وهو الموشح الذي يعتمده أكثر من وزن وأكثر من قافية، فيعمد الوشاح فيه إلى ضرب من التنويع والافتنان العروضي.

    نشأ هذا الفن في القرن الثالث الهجري على يد رجلين من قرية قبرة cabra بالأندلس هما: محمد بن حمود الضرير، ومقدم بن معافى، كما قال ابن بسام وابن خلدون. وإن كان بعض الدارسين، ومنهم المستشرقان الإسبانيان خوليان ريبيرا Ribera وغارثيا غومث Garcia Gomez، يرون أن الموشح تقليد لشعر رومانسي كان الإسبان يتغنون به، وقد أبقوا منه الخرجة الأعجمية، فالموشح يتألف من مطلع ومجموعة أدوار وخرجة، فالمطلع هو القفل الأول، أما الدور فيتألف من مجموع القفل والغصن. ويأتي القفل على سمط أو اثنين أو أكثر، وكذلك الغصن، أما الخرجة فهي القفل الأخير من الموشحة.

    نظم الموشح في الأغراض المختلفة، وظهرت أسماء لامعة لوشاحين كان أغلبهم شعراء من أمثال أبي بكر عبادة بن ماء السماء (ت422هـ)، وعبادة القزاز (ت484هـ)، وابن اللبانة (ت507هـ)، والأعمى التُّطيلي (ت520هـ)، وابن بقي (ت540هـ)، وابن زهر الحفيد (ت595هـ)، وابن سهل الإشبيلي (ت659هـ)، وأبي الحسن الششتري (ت668هـ)، وأبي حيان الغرناطي (ت745هـ)، ولسان الدين بن الخطيب (ت776هـ)، وابن زمرك (ت797هـ)، وابن عاصم الغرناطي.

    ولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس، نسجت العامة على منواله بلغة غير معربة قريبة إلى اللغة التي يتكلم بها الناس في مخاطباتهم اليومية ما سموه بالزجل.

    وقد مرت الأزجال بأدوار متلاحقة أولها دور الأغنية الشعبية، ثم دور القصيدة الزجلية، واتسعت الأزجال لأغراض كثيرة كالمديح والغزل والتصوف والوصف.

    ومن أشهر الزجالين ابن قزمان (554هـ)، وله ديوان أزجال كبير ويخلف بن راشد، وكان إمام الزجل قبل ابن قزمان، ومدغلّيس (أحمد ابن الحاج) الذي كان شاعراً وشاحاً، والششتري وقد برع في القصيدة والموشح، وهو أول من استخدم الزجل في التصوف كما استخدم محيي الدين بن عربي التوشيح فيه.

    خصائص الشعر الأندلسي: مر الشعر الأندلسي بأطوار ثلاثة: فكان منذ الفتح حتى أوائل القرن الخامس الهجري يمثل شعر التقليد لأدب المشرق، ولم يكن التقليد عجزاً عن الابتكار، وإنما لشعور الانتماء إلى الأصل كشعر ابن عبد ربه، وابن هانئ وابن شهيد، وابن دراج القسطلي.

    وفي القرن الخامس الهجري جمع الشعراء بين التجديد والأخذ بشيء من التقليد، ويمثل هذا التطور شعر ابن زيدون، وابن عمار،والمعتمد بن عباد، وابن الحداد، والأعمى التطيلي.

    أما في القرن السادس الهجري وما بعده، فقد صور الشعراء بيئتهم، وبرزت العوامل الأندلسية الذاتية كما في شعر ابن حمديس، وابن عبدون، وابن خفاجة، وابن سهل، وأبي البقاء الرندي، وابن خاتمة الأنصاري، ولسان الدين بن الخطيب، وابن زمرك، ويوسف الثالث ملك غرناطة، وابن فركون، وعبد الكريم القيسي البسطي.

    لقد أولع الأندلسيون بكل ما هو شرقي، وفي هذا يقول ابن بسام (ت542هـ): «إن أهل هذا الأفق - يعني الأندلس - أبوا إلا متابعة أهل المشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعتادة رجوع الحديث إلى قتادة، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طن بأقصى الشام أو العراق ذباب. لجثوا على هذا صنماً، وتلوا ذلك كتاباً محكماً».

    وبسبب هذه المحاكاة للمشارقة في أساليبهم ومعانيهم قيل للرصافي ابن رومي الأندلس، ولابن دراج متنبي المغرب، ولابن هانئ متنبي الأندلس، ولابن زيدون بحتري المغرب والأندلس.

    وكانت ظاهرة الانتقاء من التراث من خصائص الأدب الأندلسي، فكانوا يضمنون قصائدهم أقوال السابقين وأشعارهم وأمثالهم وما صادف هوى في نفوسهم.

    كما لقي حب الجديد صدى مستحباً في نفوس الأندلسيين، فلم يتقيد أغلبهم بأساليب الأعراب ومعانيهم وأوصافهم، ولم تكن لغتهم محكمة كلغة المشارقة والأقدمين لبعد صقعهم عن البادية، ولوجود جيل لم يكن عربياً صرفاً، وقد نفروا من الألفاظ الوحشية إلى الألفاظ المأنوسة الرقيقة، وكانت القافية الواحدة، وأوزان العروض الستة عشر ومثلها أكثر المعاني والأساليب المتوارثة قوام الشعر التقليدي في الأندلس.

    أعلام الشعراء: لم يهتم الناس في عصر الولاة بصناعة الأدب لانشغالهم بالفتوح وإن لم يخل العصر ممن نظموا الشعر في بعض المناسبات.

    فقد حفظت المصادر اسم أبي الأجرب جعونة ابن الصمة، وأبي الخطار حسام بن ضرار الذي وفد على الأندلس والياً سنة 125هـ/742م.

    وفي عصر الإمارة نشط الشعر، وكان العدد الأكبر من الأمراء الأمويين في الأندلس شعراء منهم عبد الرحمن الداخل (113-172هـ) وتبدو في شعره رقة الشعر الأموي وجزالته، وقد طرق موضوعات عدة لكنه تعمق في الفخر والحنين.

    كما اشتهر من العامة يحيى بن حكم الغزال، وقد ترك شعراً يصنف في ثلاث مراحل: الأولى: مرحلة الشباب، وتغلب عليها موضوعات الغزل وما يتصل بذلك من دعابة ومجون، وقد سافر إلى بلاد النورمان أيام عبد الرحمن الأوسط فأعجب بملكتهم «تيودورا» وابنها فوصفها في شعره، والثانية هي مرحلة التعقل والأناة، وتغلب عليها موضوعات النقد الاجتماعي، ثم تأتي المرحلة الثالثة وهي مرحلة الزهد التي يذكّر فيها بالموت والفناء.

    وفي عصر الخلافة ظهر ابن عبد ربه الذي طرق الأغراض الشعرية المعروفة، ولما تناهت به السن نظم «الممحصات» وهي قصائد نقض فيها ما قاله في الصبا، فجاء بأشعار تغص بالمواعظ والزهد.

    أما جعفر بن عثمان المصحفي، وقد استخدمه الحكم المستنصر في الكتابة، فهو الحاجب الشاعر الذي فتن بالطبيعة فوصفها، وله أشعار يشكو فيها الزمان. وأما ابن فرج الجيَّاني فقد اشتهر بالكتابة والتأليف، وله أشعار غزلية تمثل الغزل العذري العفيف.

    وأما ابن هانئ، ويقال له الأندلسي تمييزاً له من ابن هانئ الحكمي (أبي نواس)، فقد نشأ بإشبيلية ثم غادرها إلى المغرب لتألب الناس عليه بسبب أفكاره الفلسفية، فلقي جوهراً قائد المعز لدين الله الفاطمي ومدحه، ثم اتصل بالمعز، وغادر معه إلى مصر بعد أن بنى جوهر القاهرة، ثم استأذن بالعودة إلى المغرب لاصطحاب أسرته، لكنه قتل في الطريق فقال المعز لما علم بنبأ قتله: «هذا الرجل كنا نرجو أن نفاخر به شعراء المشرق فلم يقدر لنا».

    وفي مرحلة الحجابة عرفت طائفة من الشعراء عاصر بعضهم المرحلة السابقة كالمصحفي، ولمع آخرون منهم المرواني الطليق (ت400هـ) وكان شاعراً مكثراً. قال عنه ابن حزم «إنه في بني أمية كابن المعتز في بني العباس».

    ومنهم يوسف بن هرون الرمادي (ت403هـ) اشتهر عند الأندلسيين بلقب (متنبي المغرب) لغوصه على المعاني، وفنون شعره هي المدح والوصف والغزل.

    ومنهم ابن دراج القسطلي (نسبة إلى قسطلة دراج من أعمال مدينة جيَّان) وهو يعد من أوفر الأندلسيين نتاجاً، وقد تقلب في ظلال نعمة المنصور بن أبي عامر، وخلد الكثير من غزواته.

    وفي عصر الفتنة كان الشعراء أقل عدداً من شعراء المراحل السابقة، وقد مزج بعضهم الشعر بكثير من النثر لأنهم عملوا في الدواوين، وكان بعض الخلفاء شعراء كالخليفة المستعين.

    من شعراء هذه المرحلة ابن شهيد، وابن حزم.

    شهد ابن شهيد (ت406هـ) عصر الفتنة الذي كان فاصلاً بين توحد الأندلس تحت ظل العامريين (حجّاب دولة بني أمية) وبين ظهور دول الطوائف، وقد ترك آثاراً نثرية وشعرية.

    أما ابن حزم (ت456هـ) فقد ولد بقرطبة سنة 384هـ ونهل من معين الثقافة مبكراً، وكان عالماً بالشعر، وصاحب مذهب حر في النقد، وكان في عصره صوتاً يغاير ما كان عليه جمهرة فقهاء الأندلس (كان المذهب السائد هو مذهب مالك) فقد تمذهب أول حياته بمذهب الشافعي، ثم مال إلى المذهب الظاهري، فاحتج له، وألف فيه، فأمر المعتمد بن عباد بحرق كتبه بتحريض الفقهاء.

    واجتهد ملوك الطوائف في رد قرطبة الغربية إلى المشرق فتشبهوا بخلفاء المشرق، وتباروا في اجتذاب العلماء والأدباء والشعراء.

     من شعراء هذه المرحلة أبو إسحاق الإلبيري وكان فقيهاً زاهداً له قصيدة حرض فيها صنهاجة (قبيلة باديس بن حبوس) على الوزير المتنفذ في غرناطة ابن النغريلة اليهودي، فكانت السبب في قتله. ومنهم ابن زيدون وكان متقدماً في علوم العربية وفي رواية الشعر. أدرك أواخر عهد الدولة المروانية، وخدم دولتي بني جهور في قرطبة، وبني عباد في إشبيلية. أحب ولادة ابنة المستكفي، وتغنى بحبها. ومن فنونه الشعرية الوصف والمدح والاستعطاف والشكوى، ومنهم ابن عمار (ت477هـ) الذي صحب المعتمد بن عباد منذ صباه ثم ساءت العلاقة بينهما، فلقي حتفه على يد المعتمد. له شعرفي الوصف والغزل والمدح والشكوى والاستعطاف.

    ومنهم ابن الحداد الوادي آشي (ت480هـ) صاحب إشبيلية، نفاه يوسف بن تاشفين إلى أغمات في المغرب بعد تغلبه على الأندلس. من فنونه الشعرية الغزل والوصف والشكوى.

    ومنهم ابن اللبانة (نسبة إلى أمه التي كانت تبيع اللبن) اختص بمدح عدد من ملوك الطوائف ومنهم المعتمد.

    من شعراء عصر المرابطين الأعمى التطيلي، وابن خفاجة، وابن الزقاق. نبغ الأعمى التطيلي في الشعر والموشحات، إلا أن شهرته في الموشحات أكثر منها في القصائد.

    أما ابن خفاجة (ت532هـ) فهو شاعر الوصف الأول في الأندلس، وقد لقب بالجنان، وبصنوبري الأندلس. وقد مدح شخصيات معاصرة له.

    وأما ابن الزقاق (ت529هـ) فقد نزع منزع خاله ابن خفاجة في الغزل ووصف الطبيعة، وله مدح ورثاء وهجاء.

    وفي عصر الموحدين سيطر على الناس حب الأدب، وقرض الشعر. فالرصافي البلنسي (ت572هـ) ولد في رصافة بلنسية، وبها قضى شطراً من حياته، ثم تحول إلى مالقة وترسم خطوات أستاذه ابن خفاجة في الوصف والمدح، وله شعر في الحنين.

    وابن مرج الكحل (ت634هـ) كان شاعراً مطبوعاً يغلب على شعره الوصف والغزل. وابن عربي، محيي الدين كان شاعراً ووشاحاً. من آثاره الشعرية ديوانه وترجمان الأشواق.

    وابن سهل الإشبيلي، إبراهيم كان والده يهودياً، وقد أسلم وحسن إسلامه. اشتهر بقوة الحافظة والقدرة على نظم الشعر، وقد ضم ديوانه قصائد في الغزل والوصف والزهد، واشتهر بموشحاته.

    وابن الأبار عرفت أشعاره في موضوعات الوصف والغزل والرثاء، وشعر الاستغاثة.

    ومنهم حازم القرطاجني الذي كان شاعراً ونحوياً وناقداً، وفنون شعره المدح والغزل والوصف. ومن شعراء بني الأحمر: أبو البقاء الرندي، واسمه صالح بن يزيد، اشتهر برثاء الأندلس، وله شعر في المدح والغزل. وابن جزي (ت758هـ) أبو عبد الله محمد بن محمد، وكان كاتباً بارعاً وشاعراً مشهوراً يغلب على شعره المدح، وهو الذي دون رحلة ابن بطوطة وصاغها بقلمه بأمر من أبي عنان المريني سلطان المغرب.

    وابن خاتمة الأنصاري اشتهر مؤلفاً مصنفاً، وشاعراً، وأبرز أغراضه الشعرية التأمل والنسيب والغزل والإخوانيات ووصف الطبيعة، وقد أكثر من التورية في شعره، وجمعها ابن زرقاله تلميذه في مصنف سماه «رائق التحلية في فائق التورية».

    ومنهم لسان الدين بن الخطيب، أبو عبد الله محمد بن عبد الله، ولسان الدين لقب عرف به، كما عرف بذي العمرين، وذي الميتتين، وذي الوزارتين. وقد ولد في لوشة Loja على مقربة من غرناطة - ترك أكثر من ستين مؤلفاً في الأدب والتاريخ والتصوف والطب والرحلات وديوان شعر عنوانه «الصَيِّب والجهام والماضي والكهام». وابن زمرك، وقد شارك في فنون أدبية مختلفة كالكتابة والشعر والموشحات، ويعرف بشاعر الحمراء لأن مقر الحمراء في غرناطة مزدان بشعره.

    ويوسف الثالث (ت820هـ) اشتهر أميراً ثم ملكاً شجاعاً، وشاعراً أصيلاً تبدو في أشعاره الحماسة العارمة والروح الدينية الوثابة. وابن فركون القيسي، وقد أدرك شطراً من القرن الثامن الهجري، وقدراً من القرن التاسع. ومن ممدوحيه يوسف الثالث، وجمع ما قيل فيه في كتاب سماه «مظهر النور الباصر في أمداح الملك الناصر». ترك ديوان شعر فيه المدح والغزل والوصف والإخوانيات والعتاب.

    وعبد الكريم القيسي البسطي من شعراء القرن التاسع الهجري، وكانت ثقافته شرعية وأدبية، ويصور شعره جوانب العصر (أيام الأندلس الخيرة) التاريخية والاجتماعية.

    النثر

    فنون النثر الأندلسي: تعددت فنون النثر العربي في الأندلس، فتناول الأندلسيون ما كان معروفاً في المشرق من خطب ورسائل ومناظرات ومقامات، وزادوا عليها بعض ما أملته ظروف حياتهم وبيئاتهم، وقد شاع فيهم تصنيف كتب برامج العلماء، التي تضمنت ذكر شيوخهم ومروياتهم وإجازاتهم. وكان للكتاب مزية الجمع بين الشعر والنثر والإجادة فيهما.

    الخطابة: كانت الخطابة وليدة الفتح، فقد استدعت الغزوات التي قام بها العرب المسلمون قيام الخطباء باستنهاض الهمم، وإذكاء روح الحماسة للجهاد في سبيل الله.

    ولما تمزقت البلاد، واستحالت إلى دويلات كثيرة، واستعان بعض أصحابها بالأعداء، كان الخطباء يقفون في المحافل العامة للدعوة إلى لم الشمل وترك التناحر.

    ومنذ عصر المرابطين، حتى آخر أيام المسلمين في الأندلس، ظهرت الخطب المنمقة، ومنها التي تتضمن التورية بأسماء القرآن الكريم كما في خطبة للقاضي عياض (544هـ) التي يقول فيها: «الحمد لله الذي افتتح بالحمد كلامه، وبين في سورة البقرة أحكامه، ومد في آل عمران والنساء مائدة الأنعام ليتم إنعامه...».

     الرسالة: كانت الرسالة في القرن الأول من الفتح ذات أغراض محددة أملتها ظروف العصر، وكان لا يلتزم فيها سجع ولا توشية. ثم حظيت كتابة الرسائل بكتاب معظمهم من فرسان الشعر استطاعوا بما أوتوا من موهبة شعرية وذوق أدبي أن يرتقوا بأساليب التعبير وأن يعالجوا شتى الموضوعات، فظهرت الرسائل المتنوعة ومنها الديوانية والإخوانية.

    فمن الرسائل الديوانية رسالة أبي حفص أحمد بن برد (ت428هـ) (المعروف بالأصغر تمييزاً له من جده الأكبر) من كتاب ديوان الإنشاء في دولة العامريين، وقد وجهها لقوم طلبوا الأمان من مولاه. واستخدم فيها الأسلوب الذي يخيف بالكلمة المشبعة بالوعيد.

    ومن الرسائل الإخوانية رسالتا ابن زيدون الهزلية والجدية، ورسالة لسان الدين بن الخطيب إلى صديقه ابن خلدون في الشوق إليه.

    وقد شاع استعمال لفظ «كتاب» عوضاً عن الرسالة، كما ورد في رسالة جوابية كتبها ابن عبد البر (ت458هـ) إلى أحد إخوانه يعبر فيها عن مدى إعجابه بأدبه.

    المناظرة: وهي فن يهدف الكاتب فيه إلى إظهار مقدرته البيانية وبراعته الأسلوبية، وهي نوعان خيالية وغير خيالية.

    فمن المناظرات الخيالية مناظرة بين السيف والقلم لابن برد الأصغر، وقد رمز بالسيف لرجال الجيش، وبالقلم لأرباب الفكر، ثم أجرى الحوار بينهما، وانتهى فيه إلى ضرورة العدل في المعاملة بين الطائفتين.

    ومن المناظرات غير الخيالية ما تجري فيه المناظرة بين مدن الأندلس ومدن المغرب كمفاخرات مالقة وسلا للسان الدين بن الخطيب، وكانت مالقة أيام الدولة الإسلامية من أعظم الثغور الأندلسية، أما سلا فهي مدينة رومانية قديمة في أقصى المغرب، وقد فضل الكاتب مالقة.

    المقامة: وهي نوع من النثر الفني نشأ في المشرق على يد بديع الزمان الهمذاني، ثم حذا حذوه الحريري. وفي الأندلس عارض أبو طاهر محمد التميمي السرقسطي (توفي بقرطبة سنة 538هـ) مقامات الحريري الخمسين بكتاب الخمسين مقامة اللزومية، وهي المعروفة بالمقامات السرقسطية، ولزم في نثرها المسجوع ما لا يلزم. كتب أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الأزدي (ت750هـ) «مقامة العيد» التي استكدى فيها أضحية العيد من حاكم مالقة الرئيس أبي سعيد فرج بن نصر.

    كما ألَّف لسان الدين بن الخطيب مقامات كثيرة منها مقامته في السياسة، وقد بناها على حوار بين بطلين هما الخليفة هارون الرشيد وحكيم فارسي الأصل عربي اللسان، وقد تضمّنت آراؤه وتجاربه الشخصية فيما ينبغي أن تكون عليه سياسة الحكم.

    كتب برامج العلماء: وتضم شيوخ مؤلفيها، وما أخذوه عنهم من الروايات، وما قرؤوه عليهم من الكتب، وما حصلوا عليه من الإجازات.

    واختلفت تسمية البرنامج بحسب المؤلِّفين، فيقال له المعجم، والمشيخة، والفهرس، والثبت، والسند والتقييد.

    ومن هذه الكتب فهرس ابن خير الإشبيلي (ت575هـ)، وبرنامج المجاري (ت862هـ)، وثبت البلوي الوادي آشي (ت938هـ).

    تطور النثر في مختلف أطوار العصر الأندلسي: عرفت في الصدر الأول من الفتح نماذج قليلة من النثر اقتضتها ظروف الفتح، كالخطابة التي تطلبتها مناسبات سياسية ودينية، والكتابة التي اقتضتها ظروف الحكم، وكتابة العهود والرسائل والتوقيعات. وهو نثر تغلب عليه المسحة المشرقية من حيث الميل إلى الجزالة وقوة العبارة وعدم اللجوء إلى المحسنات، ما عدا خطبة طارق بن زياد التي يدور الشك حول نسبتها إليه.

    وفي عهدي بني أمية والطوائف ظهر نوع من النثر المتأثر بنثر الجاحظ، وكان للحكام دور في تشجيع الأدباء على التأليف، وإسناد الوزارة إلى أصحاب الحذق والمهارة، فقد ألف ابن فرج الجيّاني كتاب «الحدائق» وقدمه للحكم المستنصر، وقد انتدب المعتضد العبادي الأديب الشاعر ابن زيدون لرئاسة الوزارة وإمارة الجيش فسمي بذي الوزارتين: وزارة السيف، ووزارة القلم.

    وفي عهدي المرابطين والموحدين ظهرت طائفة من الكتاب عنيت بالكتابة الإنشائية والتأليف في مختلف الأغراض، كما انتشرت في عهد الموحدين المكتبات التي تضم الكتب النفيسة. وعكفت طائفة من الكتّاب على  تأليف كتب جديدة منها «المطرب من أشعار أهل المغرب» لابن دحية (ت633هـ)، أو اختصار القديمة منها «اختصار الأغاني» للأمير أبي الربيع الموحدي (ت604هـ)، أو تدوين رسائل تشيد بما وصلت إليه الأندلس من تقدم ثقافي وازدهار علمي منها «رسالة في فضل الأندلس» للشقندي (ت629هـ).

    وفي عهد بني الأحمر اتسعت النماذج النثرية فصدر عن الكتاب النثر الديواني الذي يضم الرسائل، والكتابات على شواهد القبور، والعلامة السلطانية والنثر الإخواني بين الكتاب وذوي السلطة، أو بين الكتاب أنفسهم، والنثر الوصفي الذي يتناول وصف الشخصيات والاعلام، ووصف المدن والرحلات مثل رحلة البلوي خالد بن عيسى (ت768هـ) وعنوانها «تاج المفرق في تحلية علماء المشرق»، ورحلة القلصادي علي بن محمد (ت891هـ).

    وكثر التأليف في المقامات التي عنيت بتسجيل هموم الحياة، وخرجت عن الكدية والاستجداء إلا في القليل ومنها «مقامة العيد» التي استكدى فيها الأزدي خروف العيد ليرضي زوجته.

    خصائص النثر الأندلسي: على الرغم من تأثّر الكتّاب الأندلسيين بأساليب المشارقة، وطرائقهم الفنية، فقد كانت هناك خصائص امتاز بها نثرهم ولاسيما الترسل، فقد اتخذت رسائلهم في بنائها شكلاً فنياً يختلف في بعض جزئياته عن الرسائل المشرقية التي تبدأ في الغالب بالبسملة والتحميد والصلاة على الرسول الكريم، فصارت تخلو من الاستفتاح المعروف وتبدأ بالدعاء للمرسل إليه، وتعظيمه، أو بالمنظوم، أو بالدخول في الموضوع مباشرة.

    وتنوعت أساليب الإنشاء بتنوع الموضوعات، إلا أنَّ الكتاب حرصوا على الاقتباس من القرآن الكريم والحديث الشريف، وأكثروا من استعمال الجمل الدعائية والمعترضة، وبالغوا في إبراز الصور البيانية، واهتموا باستعمال المحسنات البديعية، وارتقوا بأسلوب التعبير حتى لتبدو بعض رسائلهم وكأنها شعر منثور كما في رسائل ابن زيدون.

    وفي العصور الأخيرة تنوعت أساليب الأداء الفني فاتخذت مستويين: أولهما مستوى الكاتب نفسه كما في نثر ابن الخطيب المُرْسَل، والمسجع، والثاني الاختلاف على مستوى الكتاب، وقد سار في اتجاهين يغلب على الأول الإفراط في الزخرفة اللفظية ورائده إسماعيل بن الأحمر (ت807هـ) في كتبه «نثير الجمان» و«نثير فرائد الجُمان» و«مستودع العلامة». ويغلب على الثاني الميل إلى الأسلوب المرسل، ويبدو في رسالة القاضي أبي الحسن النباهي التي يعدد فيها معايب لسان الدين بن الخطيب، وفي كتاب «الخيل» لعبد الله بن محمد بن جُزَيّ،وقد صدر الكتاب بنبذة عن تاريخ ثمانية من ملوك بني الأحمر، ثم تحدث عن صفات الخيل وأحوالها.

    أعلام الكتّاب في الأندلس: من أبرز أعلام الكتاب في الأندلس:

    ابن عبد ربه (ت328هـ): وكان شاعراً وكاتباً، وله في النثر كتاب «العقد الفريد» الذي قسمه إلى خمسة وعشرين باباً، وجعل لكل بابين منها اسم جوهرة لتقابلهما في العقد، وهو يجمع بين المختارات الشعرية والنثرية، ولأن أكثر مواده تتصل بالمشرق، فقد قال الصاحب بن عباد لما اطلع عليه: بضاعتنا ردت إلينا.

    ابن شهيد (ت426هـ): كان شاعراً وكاتباً. من آثاره النثرية «رسالته في الحلواء» ورسالته المسماة «حانوت عطار» و«رسالة التوابع والزوابع» وهي قصة خيالية يحكي فيها رحلته إلى عالم الجن واتصاله بشياطين الشعراء والكتاب، وقد عرض من خلالها آراءه في اللغة والأدب.

    ابن حزم (ت438هـ): اشتهر شاعراً وكاتباً، ومؤلفاته النثرية كثيرة تتناول شتى الموضوعات في الفقه والأدب والأنساب والتاريخ.

    ابن سيْدَة (ت458هـ): وكان أعلم الناس بغريب اللغة من أشهر مؤلفاته كتابي «المخصص» و«شرح مشكل أبيات المتنبي». وابن عبد البر وكان من أهل قرطبة، واشتهر برسائله التي يغلب عليها الاتجاه السياسي والحديث عن الصداقة والمودة، وقد وصف الشطرنج.

    ابن زيدون (463هـ): وقد افتنَّ برسائله، فكتب الهزلية على لسان ولادة إلى ابن عبدوس يسخر منه كما سخر الجاحظ في رسالة التربيع والتدوير من الكاتب أحمد بن عبد الوهاب وقد ساق ابن زيدون تهكمه في سيول من الأشعار والأمثال وأسماء الرجال، وحرص على تناسق الإيقاع، فكان السجع نائباً عن الأوزان والقوافي. كما كتب الرسالة الجدية يستعطف فيها قلب ابن جهور فيخرجه من السجن، وقد بدأها بالنثر وختمها بالشعر، وهي من حيث القيمة الفنية لا تقل عن الهزلية.

    تمام بن غالب بن عمر (ت436هـ): وهو من أعلام النحويين واللغويين ويعرف بابن التياني نسبة إلى التين وبيعه. من كتبه «الموعب في اللغة» و«تلقيح العين» وقد وجه صاحب دانية Denia، والجزائر الشرقية (جزائل البليار) الأمير أبو الجيش مجاهد العامري (ت436هـ)، وكان من أهل الأدب، إلى أبي غالب أيام غلبته على مرسية، وأبو غالب ساكن بها، ألف دينار أندلسية على أن يزيد في ترجمة كتاب ألفه تمام لأبي الجيش مجاهد فلم يفعل ورد الدنانير وقال: «ولله لو بذل لي ملء الدنيا ما فعلت ولا استجزت الكذب، لأني لم أجمعه له خاصة لكن لكل طالب».

    ومنهم أبو الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى (ت476هـ): المعروف بالأعلم لأنه كان مشقوق الشفة العليا، والشنتمري نسبة إلى شنتمرية من بلاد الأندلس وله شروح على الكتب المشرقية، وعلى دواوين بعض الشعراء الجاهليين.

    ومن كتّاب القرن الخامس الهجري ابن الدبّاغ الذي نشأ في سرقسطة وترعرع فيها، وقد أعلى المقتدر بن هود منزلته لفصاحته وبلاغته. له رسائل يغلب عليها الاتجاه الاجتماعي، وقد جاءت معظم رسائله مملوءة بالشكوى من الزمان.

    ومنهم ابن طاهر (ت507هـ): وقد تناول كثيراً من موضوعات أدب الرسائل وأغراضه بحكم إمارته لمرسية، فكتب في الجهاد والصراع مع الصليبيين وفي موضوعات الرسائل الإخوانية، وفي الفكاهة والهزل.

    ومنهم ابن أبي الخصال الغافقي (استشهد سنة 540هـ): وقد شغل مناصب إدارية في دولة المرابطين، وألف في المقامات، وشارك في نمط من الرسائل عرفت بالزرزوريات.

    ومنهم ابن بسام صاحب كتاب «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة»، وضمنه محاسن أدباء الأندلس من بُعيد الدولة المروانية إلى عصره.

    ومنهم محمد بن عبد الغفور الكلاعي (ت545هـ) وقد ألف كتاب «إحكام صنعة الكلام» في النثر وفنونه.

    ومنهم ابن طفيل (ت581هـ) وكان طبيباً وأديباً وفيلسوفاً اشتهر بقصته «حي بن يقظان» التي تعد من أعظم الأعمال القصصية الفكرية في العصور الوسطى، والهدف منها الوصول إلى معرفة الخالق والإيمان به.

    ومنهم أبو الحجاج بن محمد البلوي (ت604هـ) ويعرف بابن الشيخ، وكان موفور الحظ من علم اللغة والأدب، مشاركاً في النقد والأصول. من مؤلفاته كتاب «ألف باء» وهو أشبه بموسوعة جامعة لفنون الثقافة العامة صنّفه ليتأدب به ابنه عبد الرحيم (ت638هـ).

    ومنهم ابن جبير (ت614هـ) أبو الحسين محمد، وكان شاعراً وكاتباً له الرحلة المشهورة وقد دونها بأسلوب رصين جزل الألفاظ سهل التراكيب وهي من رحلاته المشرقية الثلاث.

    ومنهم محيي الدين بن عربي صاحب المؤلفات الصوفية ومنها «الفتوحات المكية» و«فصوص الحكم». وله «الوصايا».

   وابن الأبّار: ومؤلفاته تربو على خمسة وأربعين كتاباً وصلنا منها «تحفة القادم» و«التكملة» لصلة ابن بشكوال، و«المعجم» و«درر السمط في خبر السبط».

    ومنهم حازم القرطاجي: وكان شاعراً ونحوياً وناقداً، وأشهر كتبه «منهاج البلغاء وسراج الأدباء» الذي يمثل قمة من قمم النقد الأدبي.

    ومنهم أبو الطيب (أبو البقاء) الرندي: وكان أديباً شاعراً ناقداً. من كتبه «الوافي في نظم القوافي» وهو من كتب النقد والبلاغة.

    وابن سعيد (ت685هـ): الذي نظم الشعر وارتحل ودوّن مذكراته، وترك آثار أدبية تدل على ثراء في الموهبة، واستقامة في التعبير. ومن كتبه المطبوعة «المُغرب في حلى المَغرب» و«القدح المُعَلَّى». و«رايات المبرّزين وغايات المميّزين»، و«عنوان المُرقصات والمُطربات»، و«الغصون اليانعة في محاسن شعراء المئة السابعة»، وله «رسالة في فضل الأندلس».

    ومنهم ابن الجيّاب (ت749هـ) وقد تدرج في الخدمة في دواوين بني الأحمر حتى صار رئيس كتاب الأندلس، وتخرج على يديه عدد من أهل العلم والأدب.

    ومنهم لسان الدين بن الخطيب: من آثاره «الإحاطة في أخبار غرناطة» و«اللمحة البدرية في الدولة النصرية» و«نفاضة الجراب في علالة الاغتراب» و«خطرة الطيف ورحلة الشتاء والصيف» و«معيار الاختيار في أحوال المعاهد والديار»، وله رسائل كثيرة جمع قسماً منها في كتابه «ريحانة الكتّاب ونجعة المنتاب».

    أثر الأدب الأندلسي في آداب الغرب

    إن صنوف التأثير الأدبية هي بذور فنية تستنبت في آداب غير آدابها متى تهيأت لها الظروف والأسباب، وهذا ما حصل في اللقاح الفكري بين الأدبين العربي والإسباني الذي وصل إلى مدن فرنسة الجنوبية، ومدن اللورين الكائنة في الشرق عند حدود ألمانية، فوجد فيها تربة خصبة جرى نسغها إلى ألمانية وإنكلترة لتكون ركائز النهضة الأوربية.

    وقد كتب نائب الأسقف في هيتا El Arcipreste de Hita واسمه خوان رويث Juan Ruiz (ق14) «كتاب الحب الشريف» Libro Buen Amor متأثراً بكتاب ابن حزم «طوق الحمامة في الألفة والألاف» في المضمون، وفي طريقة التعبير والسرد، وفي تنويع الشخصيات.

وفي سنة 1919نشر المستشرق الإسباني ميجيل أسين بالاثيوس Miguel Asin Palacios في مدريد نظرية في كتابه «أصول إسلامية في الكوميديا الإلهية» La Escatalogea Musulmana en la Divina Comedia تقول إن الأديب الإيطالي دانتي Dante (1265-1331م) استوحى في ملهاته الأدب العربي، وحادثة الإسراء والمعراج، وكان ملك قشتالة ألفونسو العاشر Alfonso x الملقب بالعالم El Sabio (1253-1284م) قد أمر بنقل كتب العرب إلى القشتالية، فترجم معراج الرسول.

    كذلك غزت المقامات العربية قصص الشطار أو القصة الأوربية الساخرة Bicaresque بنواحيها الفنية وعناصرها الواقعية،وكان لقصة ابن طفيل «حي بن يقظان» أكبر الأثر في قصة «النقّادة» للكاتب الإسباني بلتسار غراثيان Baltasar Gracian (1601-1658م).

    وكان للموشحات والأزجال الأثر الأكبر في شعر «التروبادور» وهم شعراء العصور الوسطى الأوربية ظهروا في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي في جنوبي فرنسة ووسطها، وعاشوا في بلاط الملوك والأمراء يتغنون بالحب، وقد يكون بين شعراء التروبادور ملك أو أمير.

    لقد استقى التروبادور من الشعر الأندلسي نبعاً من الحقائق النفسية عملوا بها وطوروها. فقد صور ابن حزم حبّه الذي لم يكن وليد الساعة، وإنما سرى على مهل واستقر عماده، وبالمقابل فإن دوق أكيتانية غيوم  التاسع (ت1127م) وصف شعوره في حبه وطول انتظاره بقوله: «ليس على الأرض شيء يوازي هذا الطرب، ومن شاء أن يتغنى به كما يستأهل فلا بد أن تنقضي سنة كاملة قبل أن يحقق ما يريد».

    كذلك وجد التروبادور في الشعر العربي رقياً ونضجاً من حيث التنوع في الوزن والصقل والتعبير اللغوي، فحاولوا السير على منواله، ومن ذلك أن متوسط المقطوعات التي تتألف منها قصيدة التروبادور سبع وهو العدد الغالب على الموشح أو الزجل،وأن مجموع الغصن والقفل يسمى عند التروبادور بيتاً، وهو الاسم ذاته في الموشحات والأزجال.

    إن هذا التشابه من حيث البساطة في المعنى، والأوزان والقوافي في الأسلوب، يدل على تأثير التروبادور بالنماذج العروضية والعاطفية في الشعر العربي، وقد انتقل هذا التأثير إلى أوربة فكان للعرب اليد الطولى في إغناء الشعر الأوربي وإترافه برائع الصور والأساليب.

    المغرب والشمال الإفريقي العربي

    الحياة السياسية والاجتماعية في المغرب وشمالي إفريقية

قبل أن يظهر العرب المسلمون على مسرح التاريخ، كان البحرالمتوسط يسمى بحر الروم، وكان البربر في المغرب قوماً وثنيين ظلمهم الروم فثاروا عليهم، واتصل زعماؤهم بالعرب وفاوضوهم في مقاتلة الروم معهم، وقد استغرق الفتح الإسلامي للمغرب نحو سبعين عاماً بدأ ببعث استطلاعي قام به عقبة بن نافع الفهري (21هـ/642م) وانتهى بحملة موسى بن نصير التي أخضع فيها المغرب الأقصى سنة 90هـ/708م، وصارت بلاد المغرب تابعة للدولة الأموية، بل ولاية من ولايات الدولة إلى أن قوض بنو العباس صرح الدولة الأموية سنة 132هـ، فآل المغرب إلى ولاية عباسية.

    ثم قامت دويلات في المغرب الأقصى والأوسط والأدنى. ففي المغرب الأقصى قامت دولة الأدارسة واستمرت حتى القرن الرابع، ثم ظهر المرابطون في القرن الخامس، وبعدها سيطر الموحدون (المصامدة) على بلاد المغرب، ثم انقسمت إلى ثلاث دول: دولة بني مرين في المغرب الأقصى،ودولة بني عبد الوادي (بني زيّان) في المغرب الأوسط، ودولة بني حفص في المغرب الأدنى.

    وصارت القيروان، التي أسسها عقبة بن نافع معسكراً لجنوده، العاصمة الإسلامية الأولى للمغرب العربي، فيها ازدهرت الحضارة التي وضع أسسها وأحكم دعائمها أمراء الدولة الأغلبية، وقد آتت هذه الحضارة أكلها زمن الصنهاجيين في منتصف القرن الخامس الهجري زمن المعز بن باديس بن يوسف (ت453هـ)، وكان أديباً مثقفاً غصّ بلاطه بالأدباء والعلماء منهم ابن أبي الرجال الذي ألف كتاب «البارع في أحكام النجوم» وقد أمر ألفونسو العاشر ملك قشتالة بنقله إلى اللغة القشتالية.

    بعد أن خرّب الأعراب القيروان، لجأ المعز إلى المهدية، واتخذها عاصمة له، ثم ازدهرت مدن أخرى منها تلمسان وبجاية وصفاقس وفاس التي اجتمع فيها علم القيروان وعلم قرطبة، إذ كانت قرطبة حاضرة الأندلس، وكانت القيروان حاضرة المغرب، فلما اضطرب أمر القيروان بعبث الأعراب فيها، واضطربت قرطبة باختلاف بني أمية بعد موت المنصور محمد بن أبي عامر وابنه، رحل عن هذه وهذه من كان فيها من العلماء والفضلاء فنزلوا فاس وتلمسان، كما رحل بعضهم إلى مصر وأقطار أخرى.

    وقد اتخذ المرابطون والموحدون مدينة مراكش دار مملكة لقربها من جبال المصامدة وصحراء لمتونة، لا لأنها خير من فاس. ثم بنى الموحدون مدينة رباط الفتح، وبنوا فيها مسجداً عملوا له مئذنة على هيئة منارة الاسكندرية. وقد كانت مدن المغرب مراكز ثقافية وجسراً عبرت عليه تيارات الثقافة في طريقها من المشرق إلى إسبانية.

    الشعر

    فنونه وخصائصه: الحديث عن الشعر المغربي في عصوره وأقطاره يستنفد صفحات طوالاً، ذلك أنه من الناحية الزمنية يساير الأدب الأندلسي، ثم يستمر بعد سقوط الأندلس إلى العصور الحديثة، وهو من حيث أقطاره يستوعب النتاج الأدبي في المغرب الأدنى والأوسط والأقصى إلى مناطق أخرى مثل شنقيط (موريتانية) وغيرها.

    أصاب الكساد عالم الشعر والأدب في العصور الأولى وفي ظل المرابطين، لأن العصر كان عصر جهاد وكفاح وحرب، وليس عصر ترف ورفاهية، وفي عصر الموحدين كثر الشعراء تحت رعاية الخلفاء والأمراء، وتعددت أغراضهم وفنونهم، واتسعت مجالاتهم، وامتزج المديح بالشعر السياسي. فقد واكب الشعر التطورات العقائدية والاجتماعية التي طرأت على المجتمع في عهد الموحدين، وعبر الشعر عن دعوتهم وما يتعلق بها من مهدوية أو عصمة، وإمامة. وكان الخلفاء يطلبون إلى الشعراء أن ينظموا الشعر في مواضيع تخدم دعوتهم،فتخلصت قصيدة  المدح من  المقدمات التقليدية، وافتتحت بالحديث عن سيرة  المهدي بن تومرت وخليفته عبد المؤمن بن علي.وقد تستهل القصيدة بطريقة الكتابة الديوانية فيذكر فيها التحميد والتصلية على الرسول والترضية عن المعصوم المهدي كما في قصيدة أبي عمر بن حربون في الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن بعد انتصاره على المخالفين المرتدين بالمغرب سنة 563هـ.

    وتنوع الغزل في شعر المغاربة، فكان فيه العفيف والماجن، كما نشط شعر وصف الطبيعة. ولم يكتف الشعراء بجعله مطية لغرض آخر، ومتكأ له، وإنما أفردوا للطبيعة قصائد لوصفها، فصوروا مفاتنها، ووقفوا عند كل جزئية من جزئياتها. ووصفوا الخمر، وافتنّوا في وصف مجالس الشراب والندمان والسقاة، وعبّروا عن تعلّقهم الشديد بها.

    كما لقي فن الرثاء رواجاً لديهم ولاسيما رثاء المدن الأندلسية التي سقطت في أيدي النصارى، وفي رثاء مدنهم التي خربت (القيروان). وازدهر شعر الزهد والتصوف وشعر المدائح النبوية،وممن اشتهر به أبو العباس محمد ابن العزفي السبتي المغربي (ت633هـ).

    ونظم الشاعر المغربي الموشح، فابن غرله الذي اشتهر بعشقه رميلة أخت الخليفة الموحدي عبد المؤمن بن علي نظم الموشح والزجل والمرنم (الزجل الذي يدخله الإعراب)، ومن موشحاته الطنانة الموسومة بالعروس. كما عرف المغاربة «عروض البلد»، وقد ذكر ابن خلدون أن أول من استحدثه رجل من الأندلس نزل بفاس هو أبو بكر بن عمير، فنظم قطعة على طريقة الموشح، ولم يخرج فيها عن مذهب الإعراب إلا قليلاً، فاستحسنه أهل فارس، وولعوا به، ونظموا على طريقته.

    لقد شارك أدباء المغرب في فنون القول شعراً ونثراً، وحكم على التراث الأدبي في المغرب بأنه مطبوع بالطابع الأندلسي في شكله وموضوعه وكان لانتشار المذهب الفاطمي في المغرب أثر في وجود بعض المعاني الفلسفية والجدلية في الشعر كالذي ظهر في شعر ابن هانئ الأندلسي وكان من شعراء المعز لدين الله الفاطمي.

    وقد تخلف شعراء المغرب عن اللحاق بشعراء المشرق ثم الأندلس في قوة الأفكار وعمق المعاني (باستثناء شعراء العصر الفاطمي) لكن شعرهم لم يخل من جمال الصيغ اللفظية وأناقتها، وقد برعوا في الملاءمة بين مواضيع القصائد وأوزانها كما في قصيدة الحصري «يا ليل الصب»، وأكثروا من رثاء المدن المنكوبة، وفي هذا الباب تظهر قوة خاصة في الشعر المغربي وهي قوة التأثير العميق الصادق.

    أعلام الشعراء: من أبرز شعراء المغرب بكر بن حماد (200-296هـ): التاهرتي (نسبة إلى تاهرت بالجزائر)، فنون شعره المديح والهجاء والزهد والغزل والوصف، وقد رحل إلى المشرق وكان من العلماء والرواة.

    تميم بن المعز (337-374هـ): شاعر الدولة الفاطمية، ولد في المهدية بتونس، وتوفي بمصر، أبرز أغراضه الشعرية المديح والغزل والطرد، والرثاء والإخوانيات.

    ابن رشيق القيرواني (390-456هـ): ولد بالمسيلة (الجزائر) ورحل إلى القيروان، وأتم بقية حياته في صقلية، وتوفي بمازر. تعددت جوانبه العلمية والأدبية. له ديوان شعر، ومن مؤلفاته «أنموذج الزمان في شعراء القيروان».

    ابن شرف القيرواني (390-460هـ): الناقد الكاتب الشاعر، له ديوان شعر.

    علي بن عبد الغني الحصري (424-488هـ): يكنى أبا الحسن. برز في علوم القرآن، له الرائية المشهورة في القراءات، وله المعشرات وهي قصائد منظومة على حروف المعجم، كل قصيدة بها عشرة أبيات مبتدأة، ومقفاة بحرف من حروف الهجاء، وله ديوان شعر عنوانه «اقتراح القريح، واجتراح الجريح» وأغلبه في رثاء ابنه عبد الغني. ومن أشهر قصائده «يا ليل الصب متى غده؟» وهي طويلة تقع في تسعة وتسعين بيتاً، وقد عارضها كثيرون لإشراق معانيها وعذوبة ألفاظها.

    تميم بن المعز الصنهاجي (422-501هـ): كان رجل سياسة وعلم. كشفت أشعاره عن مقدرته الشعرية وغزارة إنتاجه الذي يدور أغلبه حول الغزل والوصف والزهد والحماسة.

الأمير أبو الربيع الموحدي (552-604هـ): أحد أمراء الدولة الموحدية جمع بين السياسة والأدب. ترك ديوان شعر عنوانه «نظم العقود ورقم البرود».

    مالك بن المرحَّل (604-699هـ): ولد بمالقة واكتسب شهرة في الأدب والشعر وبرع في علوم كثيرة. له منظومات في القراءات، والفرائض، والعروض، ومخمسات في مدح الرسول الكريم، وشعر في الاستنجاد. توفي في فاس.

    ابن خميس التلمساني (625-708هـ): شاعر عالم رحل إلى سبتة ثم إلى الأندلس، وفي غرناطة التحق بخدمة الوزير أبي عبد الله بن حكيم ثم قتل مع مخدومه.

    الشريف الغرناطي (697-760هـ): ولد بسبتة ونال فيها علماً كثيراً، وقدم إلى غرناطة واستقر بها، ولهذا اشتهر بالغرناطي، وله ديوان شعر.

    وابن زاكور (1075-1120هـ): كان كاتباً وشاعراً ولغوياً - من كتبه «شرح على لامية العرب» وله ديوان شعر مرتب على الأغراض، ونظم موشحات ذكر بعضها في «المنتخب من شعر ابن زاكور».

    ومن شعراء شنقيط أحمد بن محمد بن المختار اليعقوبي المعروف بأحمد بن الطلب، ينتهي نسبه إلى جعفر بن أبي طالب. لقب بيته بالطلب لأنهم أعلم أهل ناحيتهم، فكانت الناس ترحل إليهم في طلب العلم، وكان جيد الشعر.

    النثر

    فنونه وخصائصه

    الكتابة الرسمية: وهي تلك الكتابات الصادرة عن الخلفاء والأمراء والولاة والقادة، وعمودها الكتابة الديوانية التي تختص بالعلامة السلطانية التي يصدرها الخليفة إلى عماله وولاته وقضاته ورعيته، وموضوعاتها متنوعة تكاد تشمل مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والدينية والتاريخية. فمن الموضوعات الاجتماعية والسياسية محاربة الآفات الاجتماعية ومكافحة الظلم والدعوة إلى وحدة الصف وإطاعة أولي الأمر. ومن الموضوعات الدينية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، فقد كتب الفقيه المتصوف ابن عباد الرندي (792هـ) إمام جامع القرويين إلى أبي فارس عبد العزيز المريني مستنكراً تصرفات عماله مع المسلمين.

    ومن الموضوعات التاريخية سجلت الرسائل الرسمية الغزوات والفتوح والحملات العسكرية، وقد كتب المغاربة الرسالة الديوانية بإحكام وروية، واعتنوا بالعبارة واتكأت الرسالة في كثير من ملامحها على الرسالة الديوانية المشرقية، ثم بدأت في العصور المتأخرة تحاول أن ترسم لنفسها ملامح جديدة، فهي تفتتح بالمقام، ثم وصف عظمته، ثم يذكر المتن أو مضمون الرسالة، وقد غلب السجع عليها لتناسب فخامة المقام.

    الكتابة الوصفية: ويقصد بها الكتابات التي كانت تدور حول المناظرات والمفاخرات بين المدن، وبين الأزهار، وبين الأطيار، كما شملت أدب الرحلات (رحلة ابن بطوطة، ورحلة ابن رشيد، ورحلة ابن خلدون).

    واعتمد أغلب الكتاب أسلوب المقامة من حيث التوشية والزخرفة البديعية ومنها السجع، فقد أكد محمد بن عبد الغفور الكلاعي في كتاب «إحكام صنعة الكلام» ضرورة السجع للنثر، واستحسان الإتيان به مع مراعاة الابتعاد عن التكلف فيه حتى لا يثقل على الأذن، وينبو عنه الذوق السليم، كما كتب آخرون بالأسلوب المرسل: صنيع ابن خلدون.

    الكتابة الذاتية: ويدخل ضمنها الكتابة الإخوانية، ومنها الرسائل المتبادلة بين الكاتب وذوي السلطان، وبين الكاتب وإخوانه، كما تندرج فيها المدائح النبوية، والخواطر التأملية، ولاسيما في الرسائل النبوية. فابن خلدون يحدثنا عن سفر أبي القاسم البرجي إلى التربة المقدسة حاملاً رسالة من أبي عنان المريني إلى الضريح الكريم كتبها أبو عنان بخط يده.

    وحرص أغلب الكتاب على العناية بظاهرة الزينة اللفظية، وإن كان بعضهم قد تصدّوا لظاهرة سيطرة البديع على النثر، أو استقبحوا الإكثار منه كما فعل ابن خلدون، فحين تولى ديوان الإنشاء أيام أبي سالم المريني (ت762هـ) فضّل الكلام المرسل على انتحال الأسجاع في الكتابات الرسمية.

    أعلام الكتّاب: جمع المغاربة والأندلسيون بين مزيتي الشعر والنثر، وكان للتأليف شأن عظيم لديهم في شتى العلوم والآداب، ومن أعلام الكتاب:

    إبراهيم بن علي الحصري (ت453هـ): ويكنى بأبي إسحاق، شهر بالحصري نسبة إلى صناعة الحصر أو بيعها، أو نسبة إلى «الحصر» وهي قرية كانت قرب القيروان. نشأ في القيروان في أواخر عهد الفاطميين بإفريقية، وكان له ناد يقصده الأدباء والمتأدبون. من مؤلفاته «جمع الجواهر في الملح والنوادر» و«زهر الآداب» وهو كتاب ذو قيمة أدبية وتاريخية، يشبه «البيان والتبيين» للجاحظ في طريقته.

    علي بن عبد الغني الحصري (ت488هـ): وكان شاعراً وكاتباً وله رسائل أثبتها ابن بسام في «ذخيرته» كنماذج من نثره يخاطب بها أصدقاءه وأعداءه، وهي لا تخرج عن طريقة عصره في أسلوب التحرير المسجوع المرصع بألوان التورية والجناس.

    الشريف الإدريسي: ولد في سنة 493هـ، ودرس في قرطبة، ثم طوّف في البلاد، وانتهى به التجوال إلى صقلية، ونزل على صاحبها روجار الثاني وألف له كتاب «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق»، وفيه شرح لكرة الفضة التي أمر الملك بصنعها، توفي في صقلية سنة 560هـ.

    ابن رشيق القيرواني (ت463هـ): كان شاعراً وكاتباً. اتصل ببلاط المعز في القيروان وتعرف كاتبه أبا الحسن علي بن أبي الرجال فألحقه بديوان الإنشاء الذي كان رئيسه، وقد رفع إليه كتاب «العمدة في صناعة الشعر ونقده».

    ابن شرف القيرواني (ت460هـ): كان كاتباً وشاعراً. ألحقه المعز بديوان المراسلات وجعله من خاصته فانقطع إليه، ونافس ابن رشيق في الحظوة عنده، من مؤلفاته النثرية: رسائل الانتقاد، ورسائل المهاجاة، وابتكار الأفكار.

    أبو الفضل التيجاني (ت718هـ): صاحب الرحلة المشهورة، وكان أعلى الكتبة مرتبة وأسلمهم قافية. له رسالة مشهورة كتبها إلى ابن رشيد الفهري (ت721هـ) صديقه حين نزل بتونس في أثناء رحلته إلى الحج وعودته منه يقول فيها: «أقول والله المسعف المنان: اللهم بلغ صاحبنا وجميع المسلمين إلى أوطانهم وأماكنهم سالمين في النفس والأهل والمال. اللهم كن لهم في حلهم وترحالهم، وسلّمهم ولاتسلمهم..» والرسالة تسجيل لمخاطر الطرق إلى الحج والرحلة في ذلك الزمن.

    الشريف الغرناطي: تولى في الدولة النصرية عدة مناصب مثل كتابة الإنشاء وخطة القضاء والخطابة. ومن تآليفه المشهورة: «رفع الحجب المستورة عن محاسن المقصورة» وهو شرح على مقصورة حازم القرطاجني التي مدح فيها المستنصر الحفصي، وقد جاء الشرح بأسلوب مسجع تحس معه جلال الفكرة وتوقد الذهن.

    ابن خلدون، ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن: ولد بتونس سنة 730هـ، وتوفي في القاهرة سنة 808هـ، كان ينظم الشعر، لكن ملكته تخدشت من حفظ المتون المنظومة في الفقه والقراءات. اعتمد في نثره الأسلوب المرسل مخالفاً أسلوب العصر في الميل إلى السجع من آثاره: «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السطان الأكبر». ويقع في مقدمة وثلاثة كتب، وقد ارتقى بالتاريخ من السرد والقصص الساذج إلى درجة العلم المفلسف، وسجل سيرة حياته بقلمه في آخر جزء من العبر وطبع بعنوان: «التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً».

    الأدب العربي في صقلية:

    الحياة السياسية والاجتماعية:

    صقلية Sicilia جزيرة مقابل ساحل تونس، تبعد عن البر الإيطالي ثلاثة كيلومترات. ضبطها ياقوت في معجمه بثلاث كسرات وتشديد اللام والياء، ولكنه ذكر أن أكثر أهلها يفتحون الصاد، وضبطها ابن دحية بفتح الصاد والقاف، وقال النحوي ابن البر التميمي الصقلي: اسمها باللسان الرومي سَكَّةِ كِلّية وتفسيرها: تين وزيتون، وإلى هذا المعنى أشار ابن رشيق حين مدحها فقال:

أخــت المدينة في اســم لا يشــاركها
           

فيه ســواها من البلدان والتمـــس

وعظّـــم الله معنــــى لفظهـا قســــماً
   
   

قلّد إذا شــئت أهل العلم أو فقـــس
    فتح المسلمون صقلية سنة 212هـ/728م بقيادة الفقيه أسد بن الفرات (ت213هـ) الذي تولّى قضاء إفريقية في عهد الأغالبة، وكانت القيروان (تونس اليوم ) تابعة للخلافة العباسية في بغداد.

    ولما قامت الدولة المهدية في ظل الفاطميين، تأسست دولة الكلبيين في صقلية فبلغت الجزيرة عهدها الذهبي.

    احتلها النورمان بقيادة ملكهم روجار الأول، فهجرها أغلب سكانها إلى مصر والقيروان والأندلس، وكانت عادة الانتقال والارتحال بين الأقطار الإسلامية معروفة أيام المحن، فقد شتتت نكبة القيروان، بعد الخلاف بين الفاطميين والمعز ابن باديس، أهل القيروان وخرج الأدباء والعلماء منها إلى صقلية والأندلس ومصر، وها هنا التاريخ يعيد نفسه بخروج العرب من صقلية بعد انتهاء الحكم العربي فيها الذي استمر لغاية 450هـ.

    تعايش من بقي من المسلمين في صقلية مع النورمان مدة ثلاث وتسعين ومئة سنة، وظلت اللغة العربية إحدى اللغات التي أقرتها الدولة في سجلاتها إلى جانب اللاتينية واليونانية.

    وفي سنة 643هـ احتل الجرمان الجزيرة بقيادة فردريك الثاني الذي نكل بالمسلمين ليدفعهم إلى الجلاء سنة 647هـ/ 1249م، ثم قضى عليهم بتحريض الملك شارل دانجو عام 700هـ/1300م، لكن اللغة العربية لم تمح آثارها، فثمة أسماء كثيرة في صقلية لها أصول عربية.

    الشعر

    اعتمد الشعر الصقلي محاكاة المشارقة والمدرسة الإفريقية في القيروان، وكان تأثيره بالأندلس أقل من تأثيره بإفريقية والمشرق، وقد غذي بالدراسات الإسلامية، ولاسيما الفقه، واللغة، وامتلأ بالألغاز والتلاعب اللفظي بالأسماء، وكان هناك أخذ بأسباب الدين والزهد والتصوف إلى جانب التيار المعاكس المتمثل بالحديث عن الخمر، وبائعها، وشاربها، والتغني بذكر الصليب والزنار.

    وقد شارك بعض الأمراء الكلبيين في النشاط الأدبي ولاسيما الشعري.

    فنونه وخصائصه: في العصر الإسلامي، وصف الشعراء القصور، والمتنزهات، والخمر، وكثر التغزل بأسماء تقليدية مثل سلمى، وسعاد، وبثينة، كما كثرت الرسائل الشعرية نتيجة هجرة الناس من صقلية وإليها.

    أما في العصر النورماني، أو مرحلة التعايش بين العرب والصقليين فالشعر الباقي يمثل اتجاهين: أما الاتجاه الأول فهو الشعر الذي يتصل بالملك النورماني وبلاطه وأبنائه وحاشيته، ومنه قصيدة أبي الضوء سراج في رثاء ولد روجار.

    ويصوّر الاتجاه الثاني الشعر الذي يمثل حياة المسلمين وعلاقاتهم فيما بينهم، وقد انفرد محمد بن عيسى بذكر العيد وحال السرور والتحدث عن الملائكة. وكثيراً ما نفر الناس من الشعر ذي الاتجاه الأول، فقد كان ابن بشرون شاعراً فحلاً أحبه الناس، فأراد الملك روجار الأول أن يضفي على اغتصابه الجزيرة أسمال الشرعية موهماً الناس بقبوله من وجهائهم، فاستدعى ابن بشرون وطلب إليه أن ينشده مديحاً فلما ارتجل الشاعر أبياته ابتعد عنه الناس.

    ولما اطلع العماد الأصفهاني على كتاب ابن بشرون الذي خصص فيه فصلاً لشعراء صقلية قال بعد أن حذف الشعر الذي وجده في مديح الكفار: «واقتصرت من القصيدتين على ما أوردته لأنهما في مدح الكفار، فما أثبته».

    أعلام الشعراء: من شعراء القرنين الرابع والخامس: ابن الخياط الصقلي: أبو الحسن علي بن محمد، كان شاعراً نابهاً أيام حكم الكلبيين في صقلية. يكثر في شعره المدح والغزل ووصف الطبيعة.

أبو العرب مصعب بن محمد بن أبي الفرات القرشي: ولد في صقلية سنة 423هـ، ثم غادرها إلى الأندلس سنة 463هـ مع من هاجر منها إثر الاحتلال النورماني، فلحق بالمعتمد بن عباد، ثم بناصر الدولة صاحب جزيرة ميورقة بعد أن دالت دولة العباديين، وبقي هناك إلى وفاته سنة 506هـ. أهم أغراضه الشعرية المدح وجلّه في المعتمد كما دعا إلى التمتع بمباهج الحياة فقال:

متّع شـــبابك واســـتمتع بجدّتـــه             فهـــو الحبيـــب إذا مــا بان لـم يؤب

     ابن القطاع، أبوالقاسم علي بن جعفر بن علي السعدي: ولد سنة 433هـ بصقلية، ثم هاجر إلى مصر بعد اشتداد ضغط النورمان. كان شاعراً عالماً باللغة والأدب والتاريخ. من مؤلفاته «تاريخ صقلية» و«أبنية الأسماء والأفعال» و«البارع في العروض والقوافي» و«الدرة الخطيرة في المختار من شعراء الجزيرة» وقد اشتمل على مئة وسبعين شاعراً، وعشرين ألف بيت من الشعر. عالج في شعره مجالس الخمر بالوصف والإثارة، وأبدع في الغزل.

    ومن شعراء القرن السادس:

    البَلَّنوبي، أبو الحسن علي بن عبد الرحمن بن أبي البشر: ينسب إلى بَلَّنوبة وهي بُليدة بجزيرة صقلية ذكرها ياقوت تسمى اليوم فيلانوفا Villa Nova كان والده مؤدباً لأبي الطاهر التجيبي (ت445هـ).

    أقام أبو الحسن مدة في صقلية ثم غادرها إلى مصر مع جملة من المهاجرين، وهناك اتصل بعدد من رجال الدولة ومدحهم منهم بنو الموقفي، وابن المدبّر واليازوري (نسبة إلى يازور من قرى فلسطين). فنون شعره كثيرة.

    عبد الجبار بن أبي بكر بن حمديس: ولد في سرقوسة على الساحل الشرقي من صقلية وفيها قضى شطراً من حياته، ثم انتقل إلى تونس في طريقه إلى الأندلس بعد هجرة العلماء من بلده. قصد المعتمد بن عبَّاد واستمر في رعايته إلى أن دالت دولة العباديين، فارتحل إلى إفريقية، وبقي في رعاية بني حمَّاد في بجاية إلى أن توفي سنة 527هـ. اشتهر بشعر الحنين، ووصف الطبيعة.

    النثر

    فنونه وخصائصه: أنتجت صقلية نثراً خصباً يوازي نشاطها في الشعر، فقد نبغ فيها كتّاب، وسعوا أغراض النثر وفنونه، ووضع بعضهم مقامات كانت ذائعة مشهورة منها مقامات «الطوبي» التي بلغ فيها الغاية في الفصاحة.

    كما ألف بعضهم كتباً في تاريخ صقلية وأرخوا لرجال الفكر والعلم و الأدب.

    وظهر عدد من اللغويين والنحويين حاولوا الحفاظ على الفصحى، وتخليصها مما لحقها من تصحيف، ولاسيما في مرحلة التعايش بين العرب المسلمين والصقليين، فقد استمرت السيادة للغة العربية والثقافة العربية الإسلامية بعد أفول نجم السيادة العسكرية والسياسية نحو قرنين من الزمن.

    أعلام الكتّاب: أبو عبد الله محمد بن الحسن الطوبي كاتب الإنشاء: كان له شعر في الغزل والزهد، لكن النثر غلب عليه. وصفه العماد الأصبهاني بقوله: «إمام البلغاء في زمانه».

    أبو حفص عمر بن حسن النحوي: كان إماماً من أئمة النحو، استشهد به وبآرائه ابن منظور (ت711هـ) صاحب معجم لسان العرب.

    ابن البر، محمد بن علي بن الحسن التميمي: من أعلام القرن الخامس، ولد في صقلية، وارتحل في طلب العلم إلى المشرق فنزل مصر وأفاد من الهروي (ت433هـ) وابن بابشاذ النحوي (ت454هـ) وصار إماماً في علوم اللغة والآداب. لما عاد إلى صقلية، استقر بمازر، ثم في بالرمو.

    أبو حفص عمر بن خلف، ابن مكي الصقلي المتوفى سنة 501هـ: ولد في صقلية، ثم هاجر إلى تونس فولي القضاء بها سنة 460هـ. كان شاعراً مجوّداً نظم في أدب المجالس والصداقة، وتغلب على أشعاره معاني الوعظ والإرشاد والحكمة. وكان كاتباً بليغاً اشتهر بتبحره في اللغة، صنّف «تثقيف اللسان وتلقيح الجنان»، وجعله في خمسين باباً، جمع فيه ما يصحف الناس من ألفاظهم وما يغلط فيه أهل الفقه والحديث، وأضاف أبواباً مستطرفة، ونتفاً مستملحة، وقد نقد المغنين لأنهم كانوا يحرصون على أداء النغم ويحرفون النص. ومقصد الكتاب في أعماقه رد اللغة العربية إلى الفصحى. وعدم إقرار المحلية، وقد كانت صقلية ملتقى شعوب، وليست وطناً لشعب
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:35|
الهرمینوطیقا أو علم تأویل الخطابات



توطئة :
النص والخطاب مفهومان معقدان من حیث التأویل والتفسیر ، فسواء كان النص نصا دینیا أم تاریخیا علمانیا فانه یطرح جملة من الصعوبات الكبیرة التی عادة ما تواجه المفسرین أو النقاد كما تواجه طبیعة النص نفسه وعلاقته بالتراث والتقالید لذلك جاءت الهرمینوطیقا كمعرفة علمیة تتناول التفسیر والتأویل فی آن واحد . وقد جاءت بالتحدید فی ظل بؤرة مفهوم بدا یتشكل مع التطور الحضاری هو ما یسمى تحیز الإنسان المعاصر واسقاطاته فی الفهم المسبق. فنجدها تتحول مع مجموعة من العلماء والفلاسفة والمفسرین بعد أن وجدت لنفسها وضعا ابستیمولوجیا ، فبدأت تعنى بالفهم والإدراك . فهی على علاقة جدیدة بالنص من جهة المتلقی ولیس المبدع/ المؤلف.

إن تاریخ الهرمینوطیقا عریق جدا فی الثقافات الإنسانیة ، فقد تناسلت مناهجه وأسالیبه التی كانت تركز على البحث عن المعنى الأصلی إلى البحث عن اثر النص . ظهر التأویل مع سقراط الذی فسر أغانی سیمونیدیس ، تطور لیصبح نظریة لتأویل النصوص المقدسة حیث كان یشار به إلى مجموعة من القواعد والمعاییر التی یجب أن یتبعها المفسر لفهم النص الدینی – الكتاب المقدس- وإذا كان حضوره قویا فی الفكر الكنیسی الغربی ( اصبح نظریة للتفسیر منذ 1654م إلى هذا فی الأوساط البروتستانتیة ) فانه فی الفكر الدینی الإسلامی حضوره لافتا مع علماء المسلمین الذین سخروا علوم الآلة وعلوم العربیة نحوا ولغة ومعجما لخدمة النص الدینی وخاصة مع العلامة الزمخشری وابن كثیر وغیرهم.

بعد ذلك تطورت هذه النظریات لتصبح مع شیلینغ تعبیرا عن المدلولات الفنیة المتشكلة من جدید فی وعی القارئ، وبشكل اكثر دقة، فی نظریة عن الفهم والإدراك عند شلییرماخر خاصة ولاحقا عند دلتای وفی المجال النفسانی مع بوتیبنیا ومع الفلاسفة الوجودیین أضحى جوهرا خاصة مع هایدغر ، وقد اكتسبت قضایا التأویل أهمیة كبیرة فی أعمال ر.انفاردن ، والمدرسة السویسریة وعلى رأسها شتایغر.وقد ابعد البنیویون أمثال تزیفزتان تودوروف ورولان بارث وجاك دریدا وغیرهم هذا المفهوم لانهم تناولوا منهجیة فی التحلیل مشابهة له ( انظر ف.ی.خلیزبف ، التاوبل ، ترجمة عمر التنجی ، مجلة الفكر العربی المعاصر العدد 54-55 جویی-أوت 1988).

اتسع هذا المصطلح فی تطبیقاته، المذكورة أعلاه، وانتقل من مجال تأویل "المقدس" و"الأسطوری" إلى مجالات اجتماعیة وتاریخیة وأنثروبولوجیة وفلسفیة وفكریة وأدبیة وفنیة ، فهو علم قدیم وجدید فی الآن نفسه .

خطاب التأویل بین الفهم والحقیقة النصیة :

عندما نشر جادمیر فیلسوف التاویلیة كتابه "الحقیقة والمنهج" سنة 1960 أثار حوله زوبعة من الجدالات الواسعة التی غطت الساحة الفلسفیة الألمانیة حول التأویل وتأویل الفهم الذی لا یتطلب ،فی نظرهم، هذه المنجیة العلمیة الكبیرة وخاصة أن الفهم والتأویل یرتبطان بالتجربة الشاملة التی تحصل لدى الإنسان عن محیطه الوجودی والكونی . الرهان هنا سیتركز حول تحدید المفاهیم والمنطلقات بوصفها المدخل لفهم اكتساب المعارف والحقائق.سیستقر الحال فی تذویب مناهج العلوم فیما بینها للانصهار فی معنیی الحقیقة والمنهج فی آن. وبالتالی یصبح التأویل كعرفان فلسفی یقارب الحقیقة بطریقة مرنة فی مجال معقد كمجال علوم الروح على وجه الخصوص.( هانز .ج.غادامیر ، خطاب التأویل ، خطاب الحقیقة . ترجمة عمر مهیبل ، الفكر العربی المعاصر عددی 112-113 .صیف شتاء2000).

منطلقات نظریة الهرمینوطیقا هی الفهم النصی فی بعده الخفی والمتجلی والوجودی والعدمی وكل ما یشكل توترا بین العالم والأرض. إن معضلة الفهم حسب عالم الهیرمینوطیقا هی معضلة وجودیة .وتجنبا لسوء الفهم الذی یمكن أن نقع فیه فی تأویلنا للخطابات الدینیة والعلمانیة إنما یثیرها التباعد الحاصل بین الزمان والنص ونقطة البدء حسب جادامیر هو الاهتمام بما یحدث بالفعل فی العملیة بصرف النظر عما ننوی أو نقصد ( نصر حامد أبو زید ، إشكالیة القراءة وآلیات التأویل ، المركز الثقافی العربی ص 37). إنما العبرة من ذلك هو تجاوز إطار المنهج العلمی المنظم وذلك بالاستیعاض عنه بالبحث عن الحقیقة وهذا تجل فلسفی وتاریخی محض. ومفهوم تحلیل الحقیقة بدا یطفو من هذه الزاویة، وتأویل النص التاریخی والفنی أو حتى الفلسفی لا یراد منه المتعة الجمالیة والاستیتیقیة بل تعنی تجربة تلقی العمل بدون أن ننفصل عن وعینا العادی لندخل فی دائرة الوعی الفنی الذی نحتكم إلیه .هذا التلقی لیس متعة جمالیة إذن بل هی عملیة مشاركة وجودیة تقوم عل الجدل بین المتلقی والعمل الذی لا یبدو منفصلا عن عالمنا المعاش فلا ننفصل عن ذواتنا فی الفهم بل نقوی حضورنا فی النص من خلال ما فهمناه من تجربة فنستحضرها وهذا یشكل بدوره انصهارا وحاصلا جدیدا فی المعرفة التی ستساعدنا بشكل اعمق فی عملیة الفهم والتأویل ون هنا یتناسل الفهم فی التأویلات والتفسیرات (بصیغة الجمع).

مفهوم التأویل ، إذن ، هو باختصار " فن الفهم " ، فهم النصوص بصفة خاصة ، یوظف هذا الفهم جمیع مناهج العلوم الإنسانیة المساعدة فی التأویل من خلال ما اصطلح على تسمیته جادامیر " میلاد الشعور التاریخی " .

قدیما كان اثر النص المقدس ینتقل من نص إلى آخر والان للأثر الفنی والأدبی تناصا ثقافیا حاضرا بقوة فی ثقافة النص وتاریخه الاجتماعی والأنثروبولوجی فی المقدس نعطی علوم الروح أساسا تأدیبیا فإذا اطلعنا مثلا على القصص المقدسة وما ترسمه الذهنیة العربیة للنبی سلیمان سنجده فی أسفار العهد القدیم والتی توالدت فیما بعد مع مقدس دینی آخر شخصیة متعددة ولیس واحدا متنوعة الملامح وهذا ما یفسر بخصوبة الخیال الدینی الذی یقلل من شان المعرفة بالعقل الخالص. فما بین الحقیقة والمنهج تتم المساءلة اللامتناهیة فی نسل الدلالات اللغویة والجمالیة التی بدورها تصبح وسیلة أساسیة فی الفهم .

ستتطور نظریة الهرمینوطیقا لتصبح فی وضع نظریة جدیدة فی تفسیر النصوص الأدبیة ، فهی بقدر ما تلفت المتلقی فی فهم دور المفسر بقدر ما تجعل المتلقی فاعلا فی تفسیر العمل الأدبی /النصی . هذه الجدلیة ستكون هی نقطة البدأ الأصیلة للنظر فی علاقة المفسر بالنص لا فی علاقة النصوص الأدبیة، ونظریة الأدب ، وأیضا فی إعادة النظر فی تراثنا الدینی حول تفسیر القرآن ، لنرى كیف اختلفت الرؤى وتناسلت التاویلات التی حطت الرحال بما آل إلیه وضع النص الدینی أو حتى النصوص التراثیة الأخرى فی الوضع العربی الإسلامی الراهن.


+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:34|

الرمزیة

 

الرمزیة le symbolisme حركة أدبیة وفنیة تستقی جذورها البعیدة من الإبداعیة[ر](الرومانسیة) الألمانیة ومن فلسفة هیغل[ر] وشوبنهاور[ر] ومن الحركات الباطنیة التی انتشرت فی أوربا فی القرنین الثامن عشر والتاسع عشر. ظهرت بدایـاتها كحركـة أدبیـة متمیزة فی فرنسا وبلجیكا فی نهایـة القـرن التاسع عشر (1880-1895). وكانت رد فعل على النزعات الواقعیة[ر] والطبیعیة[ر] فی الأدب. فقد شاع لدى الجیل الشاب من الأدباء والفنانین الفرنسیین فی ذلك الوقت قلق روحی اتصف بالملل من الحیاة وبالتقزز من الحضارة المعاصرة. وتألفت إطارات ثقافیة تعبر عن هذا القلق، كعدد من المجلات مثل «الضفة الیسرى الجدیدة» La Nouvelle Rive gauche و«لوتیس» Lutèce، وعدد من الحلقات الأدبیة مثل: «الشُعث» Les Hirsutes، «المتداوون بالماء» Les Hydropathes، و«اللا أبالیون» Les Je-m en-foutistes مكوّنة بمجملها ما یدعى «ما قبل الرمزیة» أو مدرسة «الانحطاط» La Décadence، حیث لم یكن بین الرمزیین من لم یمر بمرحلة التأزم الروحی لهذه الحقبة. ومع حلول العام 1885 بدأ هذا التیار بالانحسار بتأثیر لقاءات «ثلاثاء مالارمیه»[ر] Mallarmé التی كان یجتمع فیها بالشعراء الانحطاطیین الشباب، لیبثهم أفكاره الثوریة فی الكتابة والنظم. وفی عام 1886 نشر أحد هؤلاء الشعراء وهو جان موریاس Jean Moréas فی الملحق الأدبی لصحیفة «الفیغارو» Le Figaro مقالة اعتبرت بمثابة البیان[ر] التأسیسی للرمزیة. وإن كانت المقالة لا تحمل عرضاً نظریاً لمبادئ الحركة فإن أهمیتها تأتی من كونها قد بلورت التیارات الشعریة القلقة الباحثة عن منارة تهتدی بها إلى مصطلح جامع أصبح مصطلح «الرمزیة».

 لم تكوّن الرمزیة مدرسة ذات مذهب واحد محدود، بل عبّرت عن وعی مشترك، ظهر فی مرحلة زمنیة قلقة لدى مجموعة من الشعراء الباحثین عن معنى جدید للحیاة. وقد تأثر الشعراء الرمزیون بشارل بودلیر[ر] وبشعریة إدغار آلَن بو[ر] وبكتابات الفیلسوف السویدی سویدنبورغ Swedenborg والشاعر الفرنسی نـرفـال[ر] Nerval. لكن ثمة قواسم مشتركة فی الرؤى الجمالیة لأولئك الشعراء یمكن عدّها بمثابة الخصائص الممیزة للحركة، مثل الاهتمام الزائد بالخصائص الموسیقیة للغة، وبالأفكار والأحلام على حساب المشاعر والواقع، والبحث عن الموسیقى الصافیة البعیدة عن الغنائیة، والمیل نحو الرموز التی تكوّن قیمة لا تظهر إلاّ لمن یعرف الكلمات معرفة العالم الواثق بعلمه، بحسب ما یرى مالارمیه فی مقدمة كتابه «مبحث الكلام» Traité du verbe عام (1886)، إذ یؤكد على أن المعنى لیس فی الشیء ذاته وإنما فی التأثیر الناجم عنه.

وینضوی تحت رایة الرمزیة شعراء مثل مالارمیه وڤیرلین[ر] Verlaine ورامبو[ر] ولافورغ[ر] Laforgue، ومسرحیون مثل فییه دی لیل آدم Villiers de l’Isle Adam ومتِرلِِنك[ر] Maeterlinck، وروائیون مثل ویسمانس[ر] Huysmans وإدوارد دوجاردان، وأدباء روس مثل ألكسندر بلوك[ر] A.Blok وڤلادیمیر سولوڤیوڤ V.Solovyov. وقد اجتمع هؤلاء على عدّ الرمز سر الشعر الأول، لكنهم اختلفوا حول معنى الرمز بحد ذاته، فمنهم من قال إنه كشفٌ للسر عبر الإیحاء، ومنهم من قال إنه التقابل أو التجانس، ومنهم من رأى فیه عودة إلى الرموز الأسطوریة. كذلك اختلفوا حول تقویم الشعر الحر وحول أصوله ووظیفته. وأدت هذه الخلافات إلى أول انشقاق فی الحركة على ید الناقد رینیه غیل René Ghil الذی ابتعد عن مالارمیه لیكوّن مدرسة شعریة خاصة عرفت باسم «الأدواتیة» instrumentalisme. دخلت الرمزیة بدءاً من عام 1889 مرحلة جدیدة اتسمت باتساع مدى تأثیرها لیغطی مجالات إبداعیة عدیدة. ففی مجال الفكر ظهرت كإمكانیة جدیدة لشرح العالم، تستخدم الشعر أداة للمعرفة كما یبیّن كتابان ظهرا فی السنة نفسها، ففی كتاب «الفن الرمزی» L’Art symboliste یربط جورج فانور Georges Vanor المفهومات الجمالیة التی یدافع عنها الرمزیون بنظرة دینیة باطنیة للكون. فالكون «رمز لعالم آخر»، والشاعر وحده قادر على كشف العلاقة بین العالمین والوصول بالتالی إلى معرفة سر هذا الكون. أما فی «أدب اللحظة القریبة» La Littérature de tout à l‘ heure یطرح شارل موریس Charles Morice صوفیة جدیدة فكرتها الأساسیة أن الفن كهنوت یقود الإنسان إلى الحق الأعلى عبر «الجمیل». ومال الرمزیون إلى الاستغراق فی الأفكار الحالمة لیعبروا عن هواجسهم العاطفیة كما فعل إفرام میخائیل Ephraïm Mikhaël أو عن هروبهم من الحیاة عبر الصیاغات الأسطوریة لدى غوستاف كان Gustave Kahn وآدولف ریتی Adolphe Retté، أو عن تغنیهم بالسعادة ومباهج الحیاة لدى فرنسیس ڤییلی غریفان Francis Viélé-Griffin.

وعلى الرغم من تنبؤ موریاس فی «البیان» بولادة أكیدة لروایة[ر] رمزیة تقوم على رؤیة ذاتیة للواقع، لم یكن تأثیر الرمزیة على النثر واسعاً. وتوجد أمثلة قریبة من أنموذج النثر الرمزی كما تصوره موریاس فی روایة «السكستین» La Sixtine التی كتبها ریمی دی غورمون Remy de Gourmont وكذلك فی بعض روایات موریس بارِس[ر] Maurice Barrès مثل «رجل حر» Un Homme libre و«حدیقة بیرینیس» Le Jardin de Bérénice، وفی روایات مارسیل بروست[ر] Proust.

أما فی المسرح فقد دافع الرمزیون عن نظریة «المسرح الشامل» Théâtre Total التی نادى بها الموسیقی الألمانی ریشارد فاغنر[ر] Wagner، ورأوا أن على الدراما أن تتوجه إلى عقل المشاهد ولیس فقط إلى نظره. وقاموا لتطبیق نظریتهم بتأسیس مسرحین فی باریس هما «مسرح الفن» و«مسرح العمل الفنی»، وقدموا عدداً من الأعمال التی تقترب من أنموذج المسرح الرمزی، مثل مسرحیة فییه دی لیل آدم «آكسِل» Axel، ومسرحیة إدوارد دوجاردان «أسطورة أنطونیا» La Légende d Antonia. ویعد المسرحی البلجیكی موریس متِرلِنك صاحب «الأمیرة مالین» La Princesse Maleine عام (1889)، و«الدخیلة» L’Intruse عام (1891) و«العمیان» Les Aveugles عام (1891) أشهر مسرحی رمزی، لكن یبقى بول كلودیل[ر] Paul Claudel الكاتب الذی أعطى الرمزیة بعدها الحقیقی فی مسرحیته «رأس من ذهب» Tête d’Or  عام (1890).

بدأت الحساسیة الشعریة تتحول فی نهایة القرن التاسع عشر مبتعدة أكثر فأكثر عن اهتمامات الحركة الرمزیة، واعتمد مؤرخو الأدب عام 1895 تاریخاً لخمود الحركة. لكن هذا لا یعنی أنها ماتت تماماً، لأن تعالیمها بقیت حیة فی أعمال بعض كبار الأدباء مثل بول ڤالیری[ر] Paul Valéry الذی أخذ منها استقلالیة الشعر وكمال الصنعة، وبول كلودیل الذی لقّح نظرته الدینیة المتشددة بعض الأفكار الأسطوریة التی كان یتبناها أستاذ الحركة الرمزیة الأول مالارمیه. وظهرت أصداؤها أیضاً فی كتابات إزرا باوند[ر] وتوماس إلیوت[ر] ووالِس ستیفنز[ر] وولیم بتلر ییتس[ر] وجیمس جویس[ر] وڤرجینیا وولف[ر] والأدیب الألمانی ریلكه[ر].

الرمزیة فی الفن

لم تكن الرمزیة یوماً حركة فنیة ثابتة الخصائص بل بدت على الدوام تیاراً متعدد المشارب والرؤى، لا یجمعه إطار محدود. وهذا ما أدى إلى الكثیر من الخلط فی تصنیف الفنانین ضمن تیارها. وكان من نتائج ذلك أن تخلى بعض مؤرخی الفن عن مصطلح الرمزیة واستعاض عنه باسم «ما بعد الانطباعیة» Poste-impressionnisme أو بأسماء بعض مدارسها الفرعیة الأكثر قابلیة للتعیین، مثل مدرسة «جسر آفین» Pont-Aven ومدرسة «النبییّن» Les nabis.

وتعود صعوبة تحدید معالم الحركة إلى سببین رئیسین. السبب الأول هو شدة التباین فی أسالیب عمل الفنانین الذین شكلوا النواة الأولى للحركـة (غوغـان Gauguin، بییـر بوفیس دی شافان Pierre Puvis de Chavannes، غوستاف مورو Gustave Moreau، أوجیـن كارییـر Eugène Carrière، أودیلـون ریدون Odilon Redon …)، إذ على الرغم من اجتماع هؤلاء على أولویة الفكرة على الشكل، ومع رفضهم لكل المدارس الفنیة ذات الخلفیة المادیة (واقعیة أو انطباعیة) لا یمكن استخلاص قواسم تقنیة مشتركة تجمع بین أعمالهم. والسبب الثانی یعود إلى هیمنة الأدباء على الحركة فی طور تكونها الأول، فقد كانت كل الكتابات النظریة الباحثة عن قواعد الرمزیة تعتمد الأدب موضوعاً مركزیاً لها مما لم یتح وضع أحكام معیاریة تفید فی تحدید خصائص الفن الرمزی.

تعود أولى إرهاصات الرمزیة فی الفن إلى عام 1889 حیث ائتلفت حول الفنان غوغان مجموعة من الفنانین الانطباعیین الباحثین عن روح تشكیلیة جدیدة تتجاوز ما آلت إلیه الانطباعیة. وبعد أقل من عام ظهرت فی مجلة «فـن ونقد» Art et critique مقالة للناقد والفنان موریس دینی Maurice Denis تتكلم للمرة الأولى عن الرمزیة فی الفن. ثم تبعتها فی عامی 1891 و1892 مقالات عدة للناقد ألبیر أورییه Albert Aurier فی مجلة «مركور فرنسا» Mercure de France وفی «المجلة الموسوعیة» La Revue encyclopédique، وفیها یحدد الكاتب ما یراه شروط العمل الفنی الرمزی، وهی:

1- أن یكون فكریا لأن هدفه الأسمى التعبیر عن فكرة.

2- أن یكون رمزیا یعبر عن تلك الفكرة بالشكل.

3- أن یكون تولیفیا لیقدم الفكرة بشكل یمكن للجمیع فهمه.

4- أن یكون ذاتیاً لأن موضوع العمل لم یعد موضوعا وإنما إشارة إلى الفكرة التی أدركها الفنان.

5- أن یكون زخرفیاً، وهذه نتیجة طبیعیة ما دامت الشروط السابقة هی نفسها شروط العمل الزخرفی. كما یعطی فی مقالة أخرى تعریفاً مختصراً للرمزیة فیقول: «الرموز هی الأفكار، أما الرمزیة فهی التعبیر عن الأفكار بواسطة الأشكال».

لقد نهضت الرمزیة على قاعدة رفض العالم القائم بكل نتاجاته الفلسفیة والعلمیة والفنیة. وثمة فی كتابات منظری الرمزیة انتقادات عنیفة للوضعیة وللتقدم الصناعی الذی یشوّه الكون وللمدارس الفنیة التی تنصّب الواقع مثالا للجمال، كالمدرستین الطبیعیة والانطباعیة. غیر أن هذا الموقف السلبی من العالم القائم لم یدفع الفنانین الرمزیین نحو القطیعة مع مرجعیاتهم الجمالیة التی تمتد من فنانی عصور قریبة مثل دورر[ر] Dürer وغویا[ر] Goya وواتو[ر] Watteau حتى فن عصر النهضة، ولاسیما فی القرن الخامس عشر. وكذلك لم یترك هذا الموقف السلبی الرمزیة فی وضع تشاؤمی محبط، لذا نرى بعض ممثلیها ینفتحون على الأفكار الاشتراكیة، بینما یمیل آخرون نحو المسیحیة.


+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:33|

السریالیة

 

لیست السریالیة Surréalisme جوهراً یعرّف بذاته، بل هی مجموعة الأفكار والإنتاجات والأفعال والمواقف الخاصة بالمشاركین فی الحركة التی أسسها أندریه بروتون André Breton فی باریس عام 1924 وجمعت نخبة من الكتاب والشعراء أمثال لوی أراغونLouis Aragon، وبول إیلوار Paul Éluard، وأنطونان آرتو Antonin Artaud، وبنجامان بیریه Benjamin Péret، وفیلیب سوبو Philippe Soupault، وروبیر دسنوس Robert Desnos وعرفت باسم الحركة السریالیة. شكّل بروتون محور الحركة والضامن لاستمرارها، فإن ضعفت المجموعة الملتئمة حول الشاعر المنظّر لسبب أو آخر، كما جرى بعید نهایة الحرب العالمیة الثانیة، كان بروتون یعید تشكیلها بمن بقی وفیاً لها، ولا یتردد فی إضافة أعضاء متحمسین جدد. ولم تنحصر السریالیة فی فرنسا بل امتد إشعاعها إلى عدد من الدول الأخرى فتشكلت مجموعات سریالیة وطنیة كان أشهرها المجموعة البلجیكیة التی عارض ناشطوها بروتون فی كثیر من مبادئه، من دون أن یدفع ذلك بسریالیی باریس إلى عدم الاعتراف بهم. كما امتد إشعاعها إلى العالم العربی حیث ظهر أول الأدباء المتحمسین لها فی مصر (ألبیر قصری وجویس منصور) قبل أن تنتقل إلى سوریة (أورخان میسّر) وغیرها من البلدان.

المجموعة السریالیة بریشة ماكس إرنست

1ـ رینیه كریفیل 2ـ فیلیب سوبو 3ـ هانس آرب 5ـ ماكس موریز 6ـ دستویفسكی

 7ـ رافائیل  8ـ تیودور فرنكل 9ـ بول إیلوار10ـ  جان بولان 11ـ بنجمان بیریه

12ـ لویس آراغون 13ـ أندریه بروتون 14ـ یوهانس تیودور بارغلید

15ـ غیورغو دی كیریكور 16ـ غالا إیلوار 17ـ روبیر دسنوس

یعد كتاب «البیان السریالی» (1924) Le Manifeste surréaliste البیان المؤسس للحركة، إلا أن السریالیة لم تولد معه بل تعود إرهاصاتها إلى الروایة السوداء Le Roman Noir فی إنكلترا وإلى الرومنسیة الألمانیة، وإلى المفكرین السباقین فی تحریر اللذة مثل فروید  Freudوالمركیز دی ساد de Sade. ویعترف السریالیون بتأثیر مجموعة من الشعراء فیهم، مثل رامبوRimbaud، ولوتریامون Lautréamont وجاری Jarry، وأبولینیر Apollinaire، إضافة إلى عدد من الفنانین مثل دی كیریكو de Chirico وبیكاسوPicasso.

لایجمع بین السریالیین الأوائل مبدأ شامل، ولا حالات انفعالیة متشابهة. غیر أن حریة الفكر، وما وضعته الحرب العالمیة الأولى من عوائق أمام ممارسة هذه الحریة، كانت هی الخلفیة التی انطلقوا منها كلاً بمفرده. لم یكن هاجسهم الكتابة عن الحرب وأثرها فی حریة الفكر، وإنما كان، منذ البدایة، البحث عن الطرق التی یمكن فیها للفكر ألا یتأثر بالأهوال التی تولّدها الحرب. وعلى هدى كتابات جاك فاشیه Jacques Vaché وقصائد أبولینیر وجدوا أن السخریة والشعر هما الشكلان الأمثلان للتعبیر عن حریة الفكر، بعیداً عن حتمیات الواقع. لكن السریالیة لم تقتصر على المعاییر الشكلانیة لتعبر عن هذه الحریة، بل وضعت أیضا تصوراً عاماً یتناول ذات الإنسان كما یتناول علاقاته مع المجتمع والعالم. وقد كان هذا التصور ناظماً لمجمل المواقف السیاسیة والأخلاقیة التی اتخذتها الحركة وزعیمها بروتون. فالإقصاءات الكثیرة التی تعرّض لها أعضاء كثیرون فی الحركة لا یمكن تفسیرها على أساس جمالی أو شخصی وإنما على أساس سیاسی وأخلاقی.

تتأكد حریة الفكر، فی نظر السریالیین، بمعارضة كل ما یعمل على تقییده وفق مسار محتوم. وهذا ما یعطی لأعمالهم صفة الثوریة والتمرد على كل نظام. ولم یحاول السریالیون التملّص من هاتین الصفتین بل سعوا إلى تعزیزهما من خلال رفضهم لفكرة الإله والوطن وسیادة القانون. ویعبر بروتون عن هذا الموقف فی البیان الثانی للسریالیة الذی نشره ضمن كتابه «الثورة السریالیة» (1929) La Révolution surréaliste حیث یقول: «علینا البدء من الصفر، وكل الأسالیب یجب أن تكون ناجعة لتقویض فكرة العائلة، وفكرة الوطن، وفكرة الدین»، وهذا ما دفع الكثیرین إلى ربط السریالیة ربطاً خاطئاً بالعدمیة Nihilisme والشیطانیة Satanisme.

السریالیة لیست حركة تشاؤمیة، إذ أن هناك أملاً یحفزها ویشجع معتنقیها على البحث عن «الحیاة الحقیقیة» التی وجدوا الإشارة إلى إمكانیتها فی قصائد رامبو. وضمن عملیة البحث هذه كان لا بد للسریالیة من القطع مع النظام الاجتماعی القائم، ففعلت ذلك بدایةً عبر سلسلة من الفضائح المفتعلة فی صیغة رسائل هجاء مثل رسالة بعنوان «جثة» Cadavre بمناسبة وفاة الكاتب أناتول فرانس Anatole France، أو «رسالة مفتوحة إلى كلودیل» Lettre ouverte à Claudel، وبقیت هذه المواقف بعیدة عن الالتزام السیاسی. لكن الأحداث التی كانت تمر بها فرنسا (الحرب فی الهند الصینیة، حرب الریف فی المغرب) دفعت بالسریالیین إلى إعادة النظر فی موقفهم من الفعل الثوری، مما دفع بأحد أعضاء الحركة وهو بییر نافیل Pierre Naville إلى وضع كتاب «الثورة والمفكرون» (1926) La Révolution et les intellectuels یهیب فیه برفاقه السریالیین أن یتجاوزوا الهم الأخلاقی الذی وضعوه أمام أعینهم والانتساب إلى الحزب الشیوعی الفرنسی. ومع أن بروتون كان قد وجّه انتقاداً شدیداً لسیاسة الحزب فی «دفاع مشروع» Légitime défense لم یرفض الفكرة فانتسب هو وأراغون وإیلوار وبیریه وبییر أونیك Pierre Unik إلى الحزب بعد أن كتبوا انتقاداً شدیداً لرفاقهم رافضی الانتساب مثل آرتو وسوبو. لكن اللقاء بین الحركة والحزب لم یعش طویلاً إذ كانت الحركة تصرّ على المحافظة على استقلالها فی حین كان الحزب یصر على رضوخها لأوامره. وغدا الفراق بینهما أكیداً إثر مؤتمر الأدباء عام 1935، وانسحاب أراغون من الحركة.

یُعرِّف بروتون السریالیة فی البیان السریالی بأنها: «الآلیة النفسیة الصرف التی نحاول بوساطتها التعبیر شفاهةً أو كتابةً أو بأی شكل آخر عن النشاط الحقیقی للفكر. هی إملاء فكری متحرر من كل رقابة یفرضها العقل، ومن كل هم جمالی أو أخلاقی»، ویضیف: «إن السریالیة تقوم على الإیمان بوجود حقیقة متعالیة مكونة من أشكال غیر معروفة من الارتباطات». ویظهر هذا التعریف مدى تأثر السریالیة بالتحلیل النفسی، فحسب فروید تكمن الحقیقة العمیقة للفكر الإنسانی فی لاوعیه. والسریالیون یریدون الكشف عن كل ما هو خفی لدى الإنسان. ولا بد لفعل ذلك من التحرر أولا من ضغوطات «الفكر المراقِب» وهذا ممكن لرواد الحركة باللجوء إلى طریقتین فی الكتابة: الكتابة الآلیة الصرف والكتابة الصُدفیة. وتشترك الكتابتان بالابتعاد عن كل بناء لغوی عقلانی. لكن الأولى تكون بإطلاق حریة التعبیر الآلی لما یعتمل فی النفس البشریة (بوساطة الكتابة الحلمیة مثلاً، وضحك المصابین عقلیاً، والهلوسة، وكلام الأطفال…) وتكون الثانیة بانتظار الكشف أو انبعاث الإشراقة المتولدة من التقاء بالمصادفة لم یكن لعقلنا أی دور فی تدبیره. وفی الحالة الأخیرة تتجلى حریة الفكر من خلال مقدرته على إكساب معنىً لأیة مصادفة. وهذا ما یشیر إلیه بروتون فی البیان السریالی بقوله: «من الممكن أن نطلق اسم قصیدة على ما نركّبه من رصف عشوائی لعناوین أو لمقاطع من عناوین جریدة یومیة».

هذا الكشف غیر المنتظر یحدد لدى السریالیین معنى الصورة الجمیلة التی یمكن تعریفها بأنها تقارب حقیقتین لا تجمع بینهما علاقة منطقیة. لكن لیس كل تقارب من هذا النوع منتجاً بالضرورة للجمیل، إذ ثمة عنصر آخر لا بد من توافره فی الجمیل وهو الحیاة. فالسریالیون یرفضون الجمال البارد، المعروض، ویطالبون بجمال مزعزِع، «مثیر للقشعریرة» حسب تعبیر بروتون. الجمال الوحید المقبول سریالیاً هو ذاك الذی «یجعل مشاهده كالمسمار مثبتاً إلى الأرض». لهذا السبب ینفصل الانفعال الشعری لدى السریالیین عن الانفعال الأدبی، ویتجاوزه، لیصبح أقرب إلى الانفعال الإیروسی الجامع بین الروحی والجسدی، الانفعال الذی لا یقبل بالاختزال إلى التعلق العاطفی ولا إلى الإحساس الشبقی.هذا الانفعال هو ما تقدمه صورة المرأة فی الكتابة السریالیة. فالمرأة، كما یقول بروتون فی كتاب «الحب المجنون» L’amour fou هی «انصهار الطبیعی وما فوق الطبیعی فی الموضوع ذاته، وهی تحتل فی كتابات السریالیین مكانة إلهیة یجعل التواجد فی حضرتها مولّدا لانفعال كلی وصاعق لا یعادله سوى الانفعال الذی یولده الجانب الشعوری من التجربة الصوفیة، لا الجانب الدینی الذی لم یقم السریالیون له أی اعتبار یذكر. لقد رفض السریالیون التخلی عن شهوات الإنسان لكن من دون أن یتخلوا، فی الوقت نفسه، عمّا تمثله التجربة الدینیة المستقلة عن أی إیمان بإله خالق ومدبّر، من إیجابیة لحیاة الإنسان، ومن دون أن یقعوا ضحیةً لأی وهم بمصالحة الفكر مع العالم.

غیر أن هذا كله لا یسمح باعتبار السریالیة فلسفةً. فباستثناء جیرار لوغران Gérard Legrand لم یكن أی من السریالیین فیلسوفاً، كما أن فكر السریالیین یغص بالتناقضات. فهم یشیدون بضرورة العمل السیاسی بالتوازی مع إشادتهم بالتجربة الداخلیة، ویجتمع عندهم الحب اللانفعی والمخلص مع السادیة الاستحواذیة والإباحیة، ویدافعون عن ممارسة السحر، فی حین یرفضون مبدأه، والیأس لدیهم منهل للأمل. وفی حین لم یجهد السریالیون لإیجاد حل لهذه التناقضات على صعید التصوّر قبلوا بعیشها، بكل توترها، على صعید الواقع، مقدمین بذلك شهادة على الشروط المتناقضة التی یتمیز بها الإنسان.

 

لیست السریالیة Surréalisme جوهراً یعرّف بذاته، بل هی مجموعة الأفكار والإنتاجات والأفعال والمواقف الخاصة بالمشاركین فی الحركة التی أسسها أندریه بروتون André Breton فی باریس عام 1924 وجمعت نخبة من الكتاب والشعراء أمثال لوی أراغونLouis Aragon، وبول إیلوار Paul Éluard، وأنطونان آرتو Antonin Artaud، وبنجامان بیریه Benjamin Péret، وفیلیب سوبو Philippe Soupault، وروبیر دسنوس Robert Desnos وعرفت باسم الحركة السریالیة. شكّل بروتون محور الحركة والضامن لاستمرارها، فإن ضعفت المجموعة الملتئمة حول الشاعر المنظّر لسبب أو آخر، كما جرى بعید نهایة الحرب العالمیة الثانیة، كان بروتون یعید تشكیلها بمن بقی وفیاً لها، ولا یتردد فی إضافة أعضاء متحمسین جدد. ولم تنحصر السریالیة فی فرنسا بل امتد إشعاعها إلى عدد من الدول الأخرى فتشكلت مجموعات سریالیة وطنیة كان أشهرها المجموعة البلجیكیة التی عارض ناشطوها بروتون فی كثیر من مبادئه، من دون أن یدفع ذلك بسریالیی باریس إلى عدم الاعتراف بهم. كما امتد إشعاعها إلى العالم العربی حیث ظهر أول الأدباء المتحمسین لها فی مصر (ألبیر قصری وجویس منصور) قبل أن تنتقل إلى سوریة (أورخان میسّر) وغیرها من البلدان.

المجموعة السریالیة بریشة ماكس إرنست

1ـ رینیه كریفیل 2ـ فیلیب سوبو 3ـ هانس آرب 5ـ ماكس موریز 6ـ دستویفسكی

 7ـ رافائیل  8ـ تیودور فرنكل 9ـ بول إیلوار10ـ  جان بولان 11ـ بنجمان بیریه

12ـ لویس آراغون 13ـ أندریه بروتون 14ـ یوهانس تیودور بارغلید

15ـ غیورغو دی كیریكور 16ـ غالا إیلوار 17ـ روبیر دسنوس

یعد كتاب «البیان السریالی» (1924) Le Manifeste surréaliste البیان المؤسس للحركة، إلا أن السریالیة لم تولد معه بل تعود إرهاصاتها إلى الروایة السوداء Le Roman Noir فی إنكلترا وإلى الرومنسیة الألمانیة، وإلى المفكرین السباقین فی تحریر اللذة مثل فروید  Freudوالمركیز دی ساد de Sade. ویعترف السریالیون بتأثیر مجموعة من الشعراء فیهم، مثل رامبوRimbaud، ولوتریامون Lautréamont وجاری Jarry، وأبولینیر Apollinaire، إضافة إلى عدد من الفنانین مثل دی كیریكو de Chirico وبیكاسوPicasso.

لایجمع بین السریالیین الأوائل مبدأ شامل، ولا حالات انفعالیة متشابهة. غیر أن حریة الفكر، وما وضعته الحرب العالمیة الأولى من عوائق أمام ممارسة هذه الحریة، كانت هی الخلفیة التی انطلقوا منها كلاً بمفرده. لم یكن هاجسهم الكتابة عن الحرب وأثرها فی حریة الفكر، وإنما كان، منذ البدایة، البحث عن الطرق التی یمكن فیها للفكر ألا یتأثر بالأهوال التی تولّدها الحرب. وعلى هدى كتابات جاك فاشیه Jacques Vaché وقصائد أبولینیر وجدوا أن السخریة والشعر هما الشكلان الأمثلان للتعبیر عن حریة الفكر، بعیداً عن حتمیات الواقع. لكن السریالیة لم تقتصر على المعاییر الشكلانیة لتعبر عن هذه الحریة، بل وضعت أیضا تصوراً عاماً یتناول ذات الإنسان كما یتناول علاقاته مع المجتمع والعالم. وقد كان هذا التصور ناظماً لمجمل المواقف السیاسیة والأخلاقیة التی اتخذتها الحركة وزعیمها بروتون. فالإقصاءات الكثیرة التی تعرّض لها أعضاء كثیرون فی الحركة لا یمكن تفسیرها على أساس جمالی أو شخصی وإنما على أساس سیاسی وأخلاقی.

تتأكد حریة الفكر، فی نظر السریالیین، بمعارضة كل ما یعمل على تقییده وفق مسار محتوم. وهذا ما یعطی لأعمالهم صفة الثوریة والتمرد على كل نظام. ولم یحاول السریالیون التملّص من هاتین الصفتین بل سعوا إلى تعزیزهما من خلال رفضهم لفكرة الإله والوطن وسیادة القانون. ویعبر بروتون عن هذا الموقف فی البیان الثانی للسریالیة الذی نشره ضمن كتابه «الثورة السریالیة» (1929) La Révolution surréaliste حیث یقول: «علینا البدء من الصفر، وكل الأسالیب یجب أن تكون ناجعة لتقویض فكرة العائلة، وفكرة الوطن، وفكرة الدین»، وهذا ما دفع الكثیرین إلى ربط السریالیة ربطاً خاطئاً بالعدمیة Nihilisme والشیطانیة Satanisme.

السریالیة لیست حركة تشاؤمیة، إذ أن هناك أملاً یحفزها ویشجع معتنقیها على البحث عن «الحیاة الحقیقیة» التی وجدوا الإشارة إلى إمكانیتها فی قصائد رامبو. وضمن عملیة البحث هذه كان لا بد للسریالیة من القطع مع النظام الاجتماعی القائم، ففعلت ذلك بدایةً عبر سلسلة من الفضائح المفتعلة فی صیغة رسائل هجاء مثل رسالة بعنوان «جثة» Cadavre بمناسبة وفاة الكاتب أناتول فرانس Anatole France، أو «رسالة مفتوحة إلى كلودیل» Lettre ouverte à Claudel، وبقیت هذه المواقف بعیدة عن الالتزام السیاسی. لكن الأحداث التی كانت تمر بها فرنسا (الحرب فی الهند الصینیة، حرب الریف فی المغرب) دفعت بالسریالیین إلى إعادة النظر فی موقفهم من الفعل الثوری، مما دفع بأحد أعضاء الحركة وهو بییر نافیل Pierre Naville إلى وضع كتاب «الثورة والمفكرون» (1926) La Révolution et les intellectuels یهیب فیه برفاقه السریالیین أن یتجاوزوا الهم الأخلاقی الذی وضعوه أمام أعینهم والانتساب إلى الحزب الشیوعی الفرنسی. ومع أن بروتون كان قد وجّه انتقاداً شدیداً لسیاسة الحزب فی «دفاع مشروع» Légitime défense لم یرفض الفكرة فانتسب هو وأراغون وإیلوار وبیریه وبییر أونیك Pierre Unik إلى الحزب بعد أن كتبوا انتقاداً شدیداً لرفاقهم رافضی الانتساب مثل آرتو وسوبو. لكن اللقاء بین الحركة والحزب لم یعش طویلاً إذ كانت الحركة تصرّ على المحافظة على استقلالها فی حین كان الحزب یصر على رضوخها لأوامره. وغدا الفراق بینهما أكیداً إثر مؤتمر الأدباء عام 1935، وانسحاب أراغون من الحركة.

یُعرِّف بروتون السریالیة فی البیان السریالی بأنها: «الآلیة النفسیة الصرف التی نحاول بوساطتها التعبیر شفاهةً أو كتابةً أو بأی شكل آخر عن النشاط الحقیقی للفكر. هی إملاء فكری متحرر من كل رقابة یفرضها العقل، ومن كل هم جمالی أو أخلاقی»، ویضیف: «إن السریالیة تقوم على الإیمان بوجود حقیقة متعالیة مكونة من أشكال غیر معروفة من الارتباطات». ویظهر هذا التعریف مدى تأثر السریالیة بالتحلیل النفسی، فحسب فروید تكمن الحقیقة العمیقة للفكر الإنسانی فی لاوعیه. والسریالیون یریدون الكشف عن كل ما هو خفی لدى الإنسان. ولا بد لفعل ذلك من التحرر أولا من ضغوطات «الفكر المراقِب» وهذا ممكن لرواد الحركة باللجوء إلى طریقتین فی الكتابة: الكتابة الآلیة الصرف والكتابة الصُدفیة. وتشترك الكتابتان بالابتعاد عن كل بناء لغوی عقلانی. لكن الأولى تكون بإطلاق حریة التعبیر الآلی لما یعتمل فی النفس البشریة (بوساطة الكتابة الحلمیة مثلاً، وضحك المصابین عقلیاً، والهلوسة، وكلام الأطفال…) وتكون الثانیة بانتظار الكشف أو انبعاث الإشراقة المتولدة من التقاء بالمصادفة لم یكن لعقلنا أی دور فی تدبیره. وفی الحالة الأخیرة تتجلى حریة الفكر من خلال مقدرته على إكساب معنىً لأیة مصادفة. وهذا ما یشیر إلیه بروتون فی البیان السریالی بقوله: «من الممكن أن نطلق اسم قصیدة على ما نركّبه من رصف عشوائی لعناوین أو لمقاطع من عناوین جریدة یومیة».

هذا الكشف غیر المنتظر یحدد لدى السریالیین معنى الصورة الجمیلة التی یمكن تعریفها بأنها تقارب حقیقتین لا تجمع بینهما علاقة منطقیة. لكن لیس كل تقارب من هذا النوع منتجاً بالضرورة للجمیل، إذ ثمة عنصر آخر لا بد من توافره فی الجمیل وهو الحیاة. فالسریالیون یرفضون الجمال البارد، المعروض، ویطالبون بجمال مزعزِع، «مثیر للقشعریرة» حسب تعبیر بروتون. الجمال الوحید المقبول سریالیاً هو ذاك الذی «یجعل مشاهده كالمسمار مثبتاً إلى الأرض». لهذا السبب ینفصل الانفعال الشعری لدى السریالیین عن الانفعال الأدبی، ویتجاوزه، لیصبح أقرب إلى الانفعال الإیروسی الجامع بین الروحی والجسدی، الانفعال الذی لا یقبل بالاختزال إلى التعلق العاطفی ولا إلى الإحساس الشبقی.هذا الانفعال هو ما تقدمه صورة المرأة فی الكتابة السریالیة. فالمرأة، كما یقول بروتون فی كتاب «الحب المجنون» L’amour fou هی «انصهار الطبیعی وما فوق الطبیعی فی الموضوع ذاته، وهی تحتل فی كتابات السریالیین مكانة إلهیة یجعل التواجد فی حضرتها مولّدا لانفعال كلی وصاعق لا یعادله سوى الانفعال الذی یولده الجانب الشعوری من التجربة الصوفیة، لا الجانب الدینی الذی لم یقم السریالیون له أی اعتبار یذكر. لقد رفض السریالیون التخلی عن شهوات الإنسان لكن من دون أن یتخلوا، فی الوقت نفسه، عمّا تمثله التجربة الدینیة المستقلة عن أی إیمان بإله خالق ومدبّر، من إیجابیة لحیاة الإنسان، ومن دون أن یقعوا ضحیةً لأی وهم بمصالحة الفكر مع العالم.

غیر أن هذا كله لا یسمح باعتبار السریالیة فلسفةً. فباستثناء جیرار لوغران Gérard Legrand لم یكن أی من السریالیین فیلسوفاً، كما أن فكر السریالیین یغص بالتناقضات. فهم یشیدون بضرورة العمل السیاسی بالتوازی مع إشادتهم بالتجربة الداخلیة، ویجتمع عندهم الحب اللانفعی والمخلص مع السادیة الاستحواذیة والإباحیة، ویدافعون عن ممارسة السحر، فی حین یرفضون مبدأه، والیأس لدیهم منهل للأمل. وفی حین لم یجهد السریالیون لإیجاد حل لهذه التناقضات على صعید التصوّر قبلوا بعیشها، بكل توترها، على صعید الواقع، مقدمین بذلك شهادة على الشروط المتناقضة التی یتمیز بها الإنسان.

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:32|
دیك الجنّ الحمصی
 - عَبْد السَّلام بنْ رَغبان

161 235ه

قراءة جدیدة فی شعره

عبد الإله النبهان

لیْس أصعب من الكلام فی موضوع تعاورته الأقلام وكثرت حوله الدراسات ومصادره واحدة وأخباره متحدة مع شح وقلة وغموض واضطراب، فاسمحوا لی أن أتجاوز حدود البحث التقلیدی المنسق إلى الاسترسال مع الخواطر والأخذ بأطراف الأحادیث، وأرجو أن یكون لكلامی شیء من حسن الواقع فی موضوع كتبه غیری من الباحثین على نحو آخر مغایر.

فی حمص یحبون دیك الجن، وبعضهم یفخر به، ولا فخر، ویعتز ولا اعتزاز. ولعله من الخیر لنا ولدیك الجن أن نراه من بعید... أن نتوهمه... نجماً لامعاً لا نعرف عن حقیقته شیئاً، أو نعرفه مقصفاً خالداً على ضفاف المیماس یفیض متعة ونشوة وحبوراً على توالی الأیام والأحقاب، إن التمتع بالجمیل وتملی الحسن والجمال فی الكائن یتم لنا من غیر تشریح، وماذا یبقى من الحسناء إن أعمل الجراحون مشارطهم فی كل بقعة منها؟ فلیبق دیك الجن دیوان شعر ولكن من غیر دراسة، وشاعراً ولكن من غیر تحلیل، وأسطورة زاهیة من غیر تاریخ... وإلیكم أفكاراً وخواطر لا بحثاً ومراجع فی صمیم دیك الجن وصمیم شعره... أوحتها أشعاره قبل أن توحی بها أقلام دارسیه.

ولعل فقر حمص القدیمة وخواءها من الأدب والأدباء جعل الأنظار تتجه دائماً فی كل مناسبة أو دراسة إلى دیك الجن الذی یعد أهم شاعر نبغ فی هذه المدینة فی تلك العصور، كانت حمص لا شأن لها أیام الدولة العباسیة(1)، وتكاد لا تذكر، باستثناء ذكرها فی عدد من الثورات، ویبدو أن تحول مراكز التجارة والثروة جعل منها ومن غیرها من مدن بلاد الشام آنئذٍ مدناً ثانویة، لذلك كان الشعراء النوابغ والرجال الطامحون یغادرونها إلى المدن المزدهرة فی العراق.

دیك الجن عبد السلام بن رغبان، كتبت عنه دراسات ومحاضرات وخاصة على أقلام أدباء حمص كتب عنه الأستاذ عبد العلیم صافی والأستاذ عبد المعین الملوحی والمرحوم محی الدین الدرویش، والأستاذ مظهر الحجی وضع كتاباً كبیراً عنه ولما ینشر بعد، وكتب غیرهم ممن ستطالع أسماءهم فی الملحق بهذه الدراسة، وآخر من كتب عن دیك الجن فیما أعلم الأستاذ أحمد الجندی، كتب عنه دراسة فی كتابه شعراء من بلاد الشام.

وكل ما كتب عنه حتى الآن مكرر، لأن شعره الذی بین أیدینا قلیل محدود، و المصدر الأساسی للحدیث عنه كتاب الأغانی. وقد وردت نصوص تدل على أن شعره كان مجموعاً حتى القرن السادس: ذكر الیافعی فی مرآة الجنان أن لابن الأثیر صاحب المثل السائر مجموعاً فیه شعر أبی تمام والبحتری ودیك الجن والمتنبی فی مجلد واحد كبیر(2)، وتدل كتب الاختیارات التی وصلتنا ككتاب الأنوار فی محاسن الأشعار (3)، وكتاب نهایة الارب أن دیوانه كان بین أیدیهم، كما تدل على ذلك كتب النقد وخاصة تلك التی أكثرت الاستشهاد بشعره لمقارنته بشعر غیره كالمنصف لابن وكیع (4)... ومع ذلك فإن شعره لم یعثر علیه كاملاً حتى الآن، وكل كتاب من كتب الأدب التراثیة یصدر حدیثاً قد یقدم لنا أبیاتاً لدیك الجن كانت غیر معروفة، وكل هذا یدل على أن دیوانه كان موجوداً وعلى أن الأدباء والنقاد قد اهتموا بشعره على نحو ما منذ القدیم.

لقد قالوا ما قالوه فی لقبه (دیك الجن)، لماذا لقب بهذا اللقب؟ أوردوا قصصاً لن تجد فیها مقنعاً ولا لها دلیلاً، قالوا: إن "دیك الجن"، اسم دویبة فی البساتین. وقد قلبت كتب الحیوان قدیمها وحدیثها وسألت أهل البساتین فی حمص إن كان فی إرثهم اللغوی اسم هذه الدویبة فلم أحظَّ بطائل. وقد أشرت إلى أن كتب التراث الصادرة حدیثاً لا تنی تقدم جدیداً فیما یتعلق بدیك الجن وبغیره. وهكذا كان عندما ظهر كتاب "سرور النفس بمدارك الحواس الخمس"(5). الأصل للتیفاشی والمختصر لابن منظور فقد ذكر دیك الجن وقال إنه لقب بذلك لأنه دعی إلى ولیمة قدم فیها دیك، فرثى الشاعر هذا الدیك فلقب بذلك، ولكن القصة وسأذكرها أن أفادت سبب تلقیبه بالدیك إلا أنها لا تقدم تسویغاً ولا دلیلاً یتعلق بإضافة الجن إلى الدیك. وإلیك القصة:(6).

وقال عبد السلام بن رغبان دیك الجن یرثی دیكاً لأبی عمرو وعمیر بن جعفر كان له عنده مدة فذبحه وعمل علیه دعوة، وبها لقب دیك الجن:

دعانا أبو عمرو عمیر بن عامر *** على لحم دیك دعوة بعد موعد

فقدم دیكاً عدملیاً ملدحاً *** مبرنس أثیاب مؤذن مسجد

یحدثنا عن قوم هود وصالح *** وأغرب من لاقاه عمرو بن مرثد

وقال: لقد سبَّحت دهراً مهللاً *** وأسهرت بالتأذین أعین هجَّد

أیذبح بین المسلمین مؤذن *** مقیم على دین النبی محمد

فقلت له: یا دیك، إنك صادق *** وإنك فیما قلت غیر مفنِّد

ولا ذنب للأضیاف إن نالك الردى *** فإن المنایا للدیوك بمرصد(7).

فإذا كانت هذه الأبیات وأضیف إلیها ما هجا به نفسه وقال أنه على صورة الجنی، استقام لنا تصور ما عن سبب تلقیبه، وإلیك قوله فی نفسه:

أیها السائل عنی *** لست بی أخبر منی

أنا إنسان برانی الله *** فی صورة جنی

بل أنا الأسمج فی العین *** فدع عنك التظنی

أنا لا أسلم من نفسی *** فمن یسلم منی(8).

وینضاف إلى ذلك إلى رثائه للدیك وهجائه لنفسه خروجه فی اللیالی وسكره بین البساتین، ورفع عقیرته بالغناء ومجونه... فربما رشحته هذه الأمور مجتمعة لأن یكون فی نظر أبناء عصره دیكاً من دیوك الجن.

شعره الجمیل، أو قل المتلبس بمسحة من مسحات الجمال، والمشهور... یدور حول حبه لفتاة مسیحیة اسمها (ورد)، وزواجه منها، ثم تلهبه بالغیرة علیها وقتلها، ثم یأتی الندم والرثاء الرقیق... وجمال قصة هذا الحب ونهایته لا یتجلى من سردها على وجه الحقیقة أو ما یقرب منها، ولا فائدة من إقحام المناقشات ذات الطابع الحقوقی فی سیرة شاعر تلبست حیاته بالأسطورة، بل استمدت جمالها وتأثیرها منها، بل إن أسطورة حیاته ربما كانت أدل على طبیعة مزاجه واتجاهات سلوكه والبواعث الدفینة لشعره من كثیر من الحقائق التی یفتش عنها الباحثون عادة. ماذا یفیدنا التحقق من كون زوجه ورد تخونه أو لا تخونه، وإذا كانت تخونه أمع غلامه أم مع شخص آخر... المهم أن مزاج دیك الجن الرجراج. وطبیعته العصبیة كانا مهیأین لارتكاب جریمة قتل، مهما كانت الأسباب والدوافع، كما أنهما مهیأین فی الوقت نفسه للندم والإفراط فیه، وربما من غیر موجب للندم أیضاً.

الذین كتبوا فی سیرته ورصعوها ودونوها بسبك قصصی مشوق جعلوه یحب غلاماً وفتاة فی وقت واحد، فجمعوا بذلك بین جنوح طبیعته إلى الشذوذ وجنوحها إلى الاستواء فی الوقت نفسه، ولكنه استواء یقرب من الشذوذ أو قل إنه متلبس به لا ینفصل عنه، وهو شذوذ یغذوه المجون واللا مبالاة والانحراف، یعضده فی ذلك ویمنحه الاستمراریة سكر دائم تحول إلى إدمان... وإن جملة الأخبار المرویة عنه تؤدی إلى هذا التصور... إلى تصور إنسان عصبی بل مفرط فی عصبیته، مدمن، محصور داخل ذاته، مغرق فی أنانیته، فی تدلیل نفسه وإیثارها بالملذات، وربما كان بعیداً كل البعد عن المشاعر الإنسانیة التی یمكن أن یشارك غیره فیها، أو ینفتح فیها على ذلك الغیر... حتى الندامى من الأصحاب والخلان لا نجدهم فی شعره ولا سیرته... تفكیره أصم مغلق متجه اتجاهاً حدیاً واحداً نحو نفسه ولذاته الحسیة المادیة: نحو الغلام وورد والخمر... ولم تستطع الخمر ولا الحب أن یرقیا به إلى أی مستوى روحی... بل كانا مجرد وسیلة للمتعة التی تساعد على الغرق فی الملذات وعلى الإغراق فی المجون.

إنه مقیم فی مدینة خاملة آنذاك... لم یفكر بالرحلة ولم یوسع آفاقه فی عصر كانت بغداد فیه تعج بالحیاة والازدهار والعلم والشعراء الكبار... وبكل ما تشتمل علیه حیاة فتیة وحضارة ناهضة... بل أقام فی بلده على فقره وحاجته، علل بعضهم ذلك بأنفته من المدیح، ولم یك أنوفاً ولا عزیزاً، إنه مدح بعض الأمراء التافهین جداً بمقاییس ذلك الزمان... إنهم لا یعنون شیئاً إذا قیسوا إلى أمراء بغداد فی ذلك الحین... بل إنهم شبه مسودات عنها... ومدیحه لهم وقبوله لأعطیاتهم أكبر دلیل على أنه كان یكفیه الفتات فی عصر الشعراء الكبار والأعطیات الهائلة والمكافآت الجزیلة.

وقالوا إنه مدحهم لأنه كان یحبهم لأنهم هاشمیون، وكان هو فیما یقال ذا نزعة شیعیة.... ولیس هذا بالتعلیل لأن العباسیین هاشمیون أیضاً، أما كونه ذا نزعة شیعیة فهذا أمر مشكوك فیه ولیس علیه من دلیل إلا مدحه لأولئك الأمراء... فإذا كان دیك الجن قد أخفق فی أن یكون مسلماً عادیاً فكیف یمكن أن یكون شیعیاً، والشیعیة إسلام مع زیادة علیه تتمثل فی الالتفات حول آل علی وحبهم والتشبه بهم و.... الخ، فإذا كان الرجل لا یشعر بأی حب للعرب، بل یصرح بحبه للفرس ویشید بنسبه المختلف فیه، وأصله الذی لا أصل له... وإذا كان یهزأ بمعتقدات المسلمین بما فیهم الشیعة ویعلن تكذیبها فی شعره، وفی سلوكه. فكیف یقال: إن لدیه نزعة شیعیة؟‍‍!...

عللوا ذلك بمراثیه للحسین بن علی و مدحه للهاشمیین، وأرى أن ذلك لیس دلیلاً لسبب بسیط: إن حب الحسین لا یمكن أن یقترن بالزندقة، لأن حب الحسین تشدد دینی إضافی ینبع من حب آل الرسول.... فإذا كان الأصل لدى دیك الجن معدوماً الإسلام وحب العرب فما الحاجة إلى الفراع؟ وتعلیل رثائه للحسین هو أنه كان یتقرب بتلك المراثی إلى أولئك الذین كانوا یقدمون له المال وعندئذٍ یكون السبب اقتصادیاً بحتاً. وقد یكون الرجل من الناقمین على السلطة العباسیة آنذاك وهو شعوبی صارم فلم یجد أمامه سبیلاً للمجاهرة بالعداء إلا رثاء الحسین ومدیح آل علی الذین كانوا قذى فی أجفان العباسیین وشوكة فی جنوبهم، فمدیحه ورثاؤه للإغاظة والاستجداء ولیس حباً ولا مروءة.

حاول أبو العلاء المعری أن یدافع عن عقیدة دیك الجن فی عبارات مقتضبة فحواها أن زندقة دیك الجن ربما كانت لغواً من اللغو، ومن قبل التكثر من الكلام الذی یوحی بالمجون دون أن یدل على الحقیقة المنعقدة فی القلب(9)، ولكننا نجد أبیاته الجمیلة المنسابة التی یعلن فیها عن نفسه وعن عقیدته أصدق دلالة على قلبه من أن تكون مجرد قول عابر:

هی الدنیا وقد نعموا بأخرى *** وتسویف النفوس من السوافی

فإن كذبوا آمنت وإن أصابوا *** فإن المبتلیك هو المعافی

وأصدق ما أبثك أن قلبی *** بتصدیق القیامة غیر صاف(10)

والطریف فی القصة أن تبرئة دیك الجن تكفل بها منام رآه أحدهم: رأى فیه دیك الجن فأخبره أنه كان یتلاعب بذلك ولم یكن یعتقده(11)....

وهذه محاولات باهتة وسخیفة أعنی دفاع المعری وقضیة المنام یدحضها عدد من الحقائق أبسطها: كون الشعر تعبیراً نقیاً عن نفس الشاعر لحظة الإبداع، فدیك الجن كان كما عبر عن نفسه فی أبیاته، على الأقل ساعة قوله هذه الأبیات. ثانیة تلك الحقائق أن دیك الجن لم یكن نسیج وحده فی ذلك الموقف آنذاك، بل إن الشك فی المعتقدات السائدة والأدیان كان منتشراً ومعروفاً، وكانت كتب الزندقة معروفة وشائعة.(12)، فصادفت تلك الدعوات من دیك الجن قلباً متلهفاً لها مشبعاً بحب الفرس والروم، مفعماً بكره العرب.

فتمكنت منه فكان حاله وحالها كما قال الشاعر:

أتانی هواها قبل أن أعرف الهوى *** فصادف قلباً خالیاً فتمكنا(13).

ثم إن دیك الجن عزف على هذا الوتر أكثر من مرة، وسواء أكانت الأبیات التالیه له أو منسوبة له فهی على كلا الوجهین ذات دلالة على أنه كان یلهج بهذا أو عرف عنه هذا اللهج فنسب إلیه ما یشاكله وما یماثله:

أَأَترك لذة الصهباء عمداً *** لما وعدوه من لبن وخمر

حیاة ثم موت ثم بعث *** حدیث خرافة یا أم عمرو(14).

ثالثة تلك الحقائق أن شعوبیة دیك الجن ترشحه لمثل هذا الشك، وأنا هنا لا أرید أن أجعل منه فیلسوفاً متنوراً، وإنما هی بدوات النفس وأفكار العصر وجدت فی نفس دیك الجن وفكره مرتعاً خصیباً وانسجمت مع سلوكه ورقة نسبه وإحساسه بالهوان فی مدینة تتعصب كلها لا للعرب فقط ولكن للیمنیة منهم على وجه الخصوص حتى قیل: أذل من قیسی فی حمص(15)، هذا الهوان الذی ولد فخراً أجوف لا یستند إلى أسس اجتماعیة... فلم یكن أبوه غالب ولا جده صعصعة فبمن یفخر بأبیه رغبان وأهون به أباً، أم بنسبه المنقطع بالولاء وأسقط به نسباً؟‍ لذلك لم یكن أمامه إلا الادعاء، ونموذج الادعاء حی ماثل، فلیس إلا أن یقتبس ویقلد، ویسیر على النهج اللاحب المطروق، فها هو بشار قبله عندما أعیاه الفخر بالآباء والأجداد، وفاته النسب الرفیع یمم وجهه شطر كسرى فجعله عماد فخره وقبلة اعتزازه، ولم یحمل أحد فخر بشار على محمل الجد، بل كان فخره بلیغاً فی دلالته على عقد النقص المستحكمة، وكما سمى بشار الفرس بنی الأحرار، وجعل نفسه ابنهم وسلیلهم كذلك فعل دیك الجن فجعل نفسه حراً لیس بالعربی، واستمع إلى بشار:

هل من رسول مخبر *** عنِّی جمیع العربِ

من كان حیاً منهم *** ومن ثوى فی الترب

بأننی ذو حسب *** عال على ذی الحسب

جدی الذی أسمو به *** كسرى وساسان أبی

وقیصر خالی إذا *** عددت یوماً نسبی

كم لی و كم لی من أب *** بتاجه متعصب

أنا ابن فرعی فارس *** عنها المحامی العصب

نحن ذوو التیجان وال *** ملك الأشم الأغلب(16).

وقارن ما قاله بشار بما قاله دیك الجن فإنك ستجده أی دیك الجن یسیر وراءه خطوة خطوة وعلى نهجه تماماً، حذوك القذة بالقذّة(17)، والنعل بالنعل(18)، وإذا كان بشار شیخاً من شیوخ الشعوبیة العتاد فدیك الجن تلمیذ شدید الإخلاص لمذهب شیخه:

إنی ببابك لاودی یقربنی *** ولا أبی شافع عندی ولا نسبی

إن كان عرفك مذخوراً لذی سبب *** فاضمم یدیك على حر أخی سبب

أو كنت وافقته یوماً على نسب *** فاضمم یدیك فإنی لست بالعربی

إنی امرؤٌ بازل فی ذروتی شرف *** لقیصر ولكسرى محتدی وأبی(19).

فهما فی زعمهما مشتركان فی نسب واحد عجیب، جمع بین الولاء لدولتین لم تتفقا یوماً فی تاریخهما، ولم تهدأ حروبهما، ولم تتهادنا إلا على دخن، ومع ذلك فقد جمع بینهما ووحد شملهما كراهیة بشار للعرب ثم كراهیة دیك الجن من بعده للعرب حتى جعل ولاءه ونسبه فی الدولتین اللتین لم یشبع العرب من الاعتزاز بإسقاطهما حتى یومنا هذا، فكأنه یجعل من نفسه رمزاً للتحدی وللبقاء والاستمرار... فلنصوّر الآن هذا الإنسان الذی یرثی الحسین بن علی سید العرب، ویتباكى علیه، ثم یصرح بصفاقة ما بعدها صفاقة وبرقاعة عجیبة بقوله: فإنی لست بالعربی... ولم یخسر العرب شیئاً ما بخروج دیك منهم، كما أن الفرس أو الروم لم یربحوا شیئاً ذا بال بانتسابه إلیهم.

والحق أن بشار أیضاً لم یكن مخترعاً أو مبتدئاً أو مجدداً بهذا الفخر بالفرس، إذ لاشك أنه أی الفخر بالفرس كان ظاهرة اجتماعیة عبر عنها بشار كما عبر عنها من قبله فی أیام هشام بن عبد الملك إسماعیل بن یسار فی قصیدتین على الأقل مما وصلنا من شعره مما رواه أبو الفرج، بل إن إسماعیل صرح بذلك أمام هشام بن عبد الملك:

إنی وجدِّك ما عودی بذی خور *** عند الحفاظ ولا حوضی بمهدوم

أصلی كریم ومجدی لا یقاس به *** ولی لسان كحد السیف مسموم

أحمی به مجد أقوام ذوو حسب *** من كل قرم بتاج الملك معموم

جحاجح سادة بلج مرزابة *** جرد عتاق مسامیح مطاعیم

من مثل كسرى وسابور الجنود معاً *** والهرمزان لفخر أو لتعظیم

أسد الكتائب یوم الروع إن زحفوا *** وهم أذلوا ملوك الترك والروم

یمشون فی حلق الماذی سابغة *** مشی الضراغمة الأسد اللهامیم

هناك إن تسألی تنبی بأن لنا *** جرثومة قهرت عزّ الجراثیم(20).

وقد غضب هشام علیه أیما غضب وأمر به فغط فی بركة ماء حتى كادت نفسه تخرج ثم أخرج ونفی... قال أبو الفرج: وكان مبتلى بالعصبیة للعجم والفخر بهم، فكان لا یزال مضروباً محروماً مطروداً (21)، وإذا كان فی الأبیات السابقة قد اقتصر على الفخر فإنه فی أبیات أخرى افتخر بالفرس ونال من العرب:

رب خال متوج لی وعم *** ماجد مجتدى كریم النصاب

إنما سمی الفوارس بالفر *** س مضاهاة رفعة الأنساب

فاتركی الفخر یا أُمام علینا *** واتركی الجور وانطقی بالصواب

واسألی إن جهلت عنا وعنكم *** كیف كنا فی سالف الأحقاب

إذ نربی بناتنا وتدس *** ون سفاهاً بناتكم فی التراب(22).

وقد استطردت قلیلاً حول فكرة قدم فخر شعراء الشعوبیة بالفرس وتصریحهم بذلك لتصحیح الفكرة التی ذكرها أحد الذین كتبوا عن دیك الجن وقد أعیاه البحث عن سبق یسجله للشاعر فجعل من هذا التصریح بشتم العرب سبقاً (23)، وكفى دیك الجن مفخرة بذلك.

فدیك الجن إذن بعد كل ما ذكرناه یبدو سائراً على طریق لاحبة عبدها له بشار وذللها ابن یسار، وغذاها حقد قدیم قدم القادسیة غذته على مر العصور والأحقاب، عناصر الصراع الاجتماعی المتنامیة، وشجعه روح الانفتاح الفكری الذی ساد ربوع الدولة آنذاك، والتسامح الذی نظرت من خلاله السلطة إلى مثل هذه النزاعات، زد على ذلك طموحات الفرس بعد أن أصبحت الوزارة حكراً علیهم فی الخلافة العباسیة لمدة مدیدة.

فإذا ما تركنا هذین المحورین اللذین شكلا دعامة هذا الشاعر وهما الشعوبیة والزندقة لننتقل إلى شعره الآخر أو إلى ما برع فیه من هذا الفن أو بالأحرى ما نسب إلى البراعة فیه فماذا تجد؟...

هنا، یجب أن نذكر على سبیل التذكیر أن دیك الجن توفی عام ستة وثلاثین ومائتین أی بعد أبی تمام، كما أنه كان معاصراً لأبی نواس وتوفی بعده، (24)، نذكر هذا لأن فنه الشعری یجب أن یقاس بالنماذج العلیا التی كان الفن الشعری قد بلغها آنذاك على أیدی سدنته الكبار فأین یقع فن دیك الجن قیاساً إلى نمو فن الشعر فی عصره؟...

إذا أخذنا بعین الاعتبار الحادثة الأساسیة فی حیاة دیك الجن والتی فجرت منابع الحزن والندم فی نفسه وهی قتله ل(ورد) فإننا نتوقع أن نجد شعراً حاراً مفعماً بالعواطف متسربلاً بالأحزان متشحاً بالزرقة، بالإضافة إلى صنعة شعریة حاذقة نسب إلیها، أو نسبت إلیه وصنف من أجلها فی المدرسة الشامیة(25)، كما یحلو لبعضهم أن یسمیها، فماذا نجد فی الشعر الذی كان صدى وثمرة لهذه الحادثة؟...

لن نجد فیما وصلنا من شعره قصیدة طویلة حول هذه الحادثة، وإنما هی مقطوعات ونفثات تطول وتقصر، ویمكن أن نمر ببعضها محاولین تقییم شاعریته اعتماداً على نصوصه، ولنأخذ أول مقطوعة تصادفنا فیما سمی بدیوانه:

لیتنی لم أكن لعطفك نلت *** وإلى ذلك الوصال وصلت

فالذی منی اشتملت علیه *** ألعارٍ ما قد علیه اشتملت

قال ذو الجهل: قد حلمت ولا *** أعلم أنی حلمت حتى جهلت

لائم لی بجهله ولماذا *** أنا وحدی أحببت ثم قتلت

سوف آسى طول الحیاة وأبكیك *** على ما فعلت لا ما فعلت(26).

ما أحوج هذا النص فی نظری إلى القول الشارح كما یقول المناطقة! وما أبعده عن عواطف الشعر! وما أشبهه بمعادلات المنطق العقلیة! وما أبعده عن روائع الصنعة وتجلیاتها وتداخل ألوانها وعمق ما اشتملت علیه لدى أبی تمام!...

إن عصبیة دیك الجن ومزاجه وطبیعة حیاته... هذه كلها أمور حریة أن تجعل شعره سمحاً متدفقاً ولاسیما والبواعث قویة ذاتیة، فما بالنا نصطدم بمثل النص السابق وكأنه قطع البازلت التی تملأ ربوع حمص بل ولنأخذ نصاً آخر مناسبته أن ورد زارته فی المنام بعد مقتلها فقال:

جاءت تزور فراشی بعدما قبرت *** فظلت ألثم نحراً زانه الجید

وقلت: قرة عینی قد بعثت لنا *** فكیف ذا وطریق القبر مسدود

قالت: هناك عظامی فیه مودعة *** تعیث فیها بنات الأرض والدود

وهذه الروح قد جاءتك زائرة *** هذی زیارة من فی القبر ملحود(27).

تأمل هذه العواطف المسطحة الخالیة من أی عمق یقابل بها طیف ورد، وانظر إلى تلك الخرقة البالیة التی رقع بها بیته الأخیر والتی تدل على ضیق عطنه بالتعبیر عن عواطفه وعلى سیطرة العقل لدیه سیطرة جافة على عملیة الشعر والإبداع... والنصَّان المتقدمان یخلوان من أی صورة تذكر بله الصورة الجمیلة المؤثرة.

على أن شعره لا یخلو من بعض مقطوعات تشی برقة العاطفة التی تظهر على استحیاء من خلال طبیعة یبدو أنها صلبة جافة متوحشة، لكن هذه المقطوعات لا تضعه إلى جانب الشعراء الكبار:

أشفقت أن یرد الزمان بغدره *** أو أبتلی بعد الوصال بهجره

قمر أنا استخرجته من دجنه *** لبلیتی وجلوته من خدره

فقتلته وله علی كرامة *** ملء الحشا وله الفؤاد بأسره

عهدی به میتاً كأحسن نائم *** والحزن یسفح عبرتی فی نحره

لو كان یدری المیت ماذا بعده *** بالحی حلَّ بكى له فی قبره

غصص تكاد تفیض منها نفسه *** وتكاد تخرج قلبه من صدره(28).

فلعل التأثیر العمیق الذی خلفته الحادثة فی نفسه كان أحیاناً ینفذ قاداً تلك الطبیعة الصلدة التی اتسم بها دیك الجن، مظهراً صورة الإنسان الذی ما عرف إلا مستكناً فی أردیة الصنعة وقد عریت من تلك الألبسة لتعبر عن حزنها بعفویة بعیدة نسبیاً عن قضایا المنطق، وبعیدة أیضاً عن محاولة اختراع الفكرة الجدیدة والتعبیر عنها كیفما اتفق وبعفویة محببة:

بأبی نبذتك بالعراء المقفر *** وسترت وجهك بالتراب الأعفر

بأبی بذلتك بعد صونك للبلى *** ورجعت عنك صبرت أم لم أصبر

لو كنت أقدر أن أرى أثر البلى *** لتركت وجهك ضاحیاً لم یقبر(29).

وفی مثل هذه المقطوعات وهی قلیلة فیما وصل إلینا من شعره یظهر الطبع الشعری لدى دیك الجن، وفیما عداها فالتكلف واضح. وقد علل أحد الدارسین المحدثین اضطراب استعمال دیك الجن للألفاظ وتعقید أسلوبه باضطراب أعصابه ومداومته على السكر، ثم عدم تنقیحه لقصائده (30)، ولا أظن هذه أسباباً مقنعة لأن شعر شعراء كثیرین غیر دیك الجن كان یجب أن یتسم بما اتسم به شعر دیك الجن لاتحاد السبب، فالأمر لا یعود لا إلى سكره، ولا إلى أعصابه، بل یعود فیما أقدر إلى أن طبیعة دیك الجن كانت غیر سمحة بالشعر، شحیحة به إلا فی أویقات ومقیطعات، وكان إذا هم بالشعر غالباً ما ینقلب إلى ناظم لفكرة یحاول ابتكارها أو صیاغتها من جدید فی بضعة أبیات على الأقل، فأنت حینئذٍ معه فی مقلع من مقالع الحجارة أو فی ساعة تدریب على نظم الأفكار فی أوزان، ورصف التشبیهات دون أن تحس وراءها بشیء... خذ هذه الأبیات مثلاً:

والخال فی الخد إذ أشبهه *** وردة مسك على ثرى تبر

وحاجب منك خطه قلم الحس *** ن بحجر البهاء لا الحبر

ما أصبر الشوق بی فأصبرنا *** من حسنت فیه قلة الصبر(31).

فمن ناحیة فنیة نرى أن عناصر الصور فی هذه الأبیات كلها معروفة ومعادة ومكررة، لم یأتِ بها دیك الجن فی صیاغة عاطفیة حمیمة تشعرك بأن فی نفسه شیئاً ما، وإنما هو النظم المحكم الجاف، وموضوعه لا یحتمل الجفاف، إنه الغزل والنسیب الذی یؤدی فیه التصویر الفنی وظیفة رفیعة وهی مساعدة اللغة لتعبر عن عواطف ومشاعر لا یمكن التعبیر عنها على نحو مباشر، وقد لا تنهض اللغة وحدها مجردة عن التصویر بعبء ذلك، وهنا دیك الجن فی تلك الأبیات لم یكتفِ بأن أتى بالصور القدیمة بل خلع علیها من جموده وبرودته، فأتت وكأنها المجسمات الاصطناعیة لیس لها إلا المنظر الخارجی. فإذا خطر له أن یصور انفعاله كما سیفعل فی هذه الأبیات التالیة فإنك لن تجد سوى ردود الفعل المتهافتة لدى هذا الشاعر:

لما نظرت إلی عن حدق المها *** وبسمت عن متفتح النوار

وعقدت بین قضیب بان أهیف *** وكثیب رمل عقدة الزنار

عفرت خدی فی الثرى لك طائعاً *** وعزمت فیك على دخول النار(32).

أظن أنه كان یكفیها منه أن یحبها، أما تعفیر خده دلیلاً على الطاعة والخضوع فهو من الأحادیث الرائجة على ألسن الظرفاء آنئذٍ(33)، ولكن ما علاقة حبها بدخوله النار هذا الدخول الفج، ولماذا لا یكون حبها هو الجنة له... أن الرابط جد ضعیف معنویاً بین صیغة الشرط وما ارتبط بها من جواب، وهذا عائد إما إلى شح عواطفه فلم یكن عنده ما یقوله سوى تردید العبارات التی أبلاها التكرار وأخلقت جدتها الأیام، وأما أنه كان ضیق العطن، ضیق الصدر، یبدأ ثم لا یعرف كیف ینتهی، وكأن ممارسته للشعر تكبت ماكان یعتلج فی نفسه، وتدفع به إلى الاجترار... وإذا أخذنا إحدى الصور التی أعجب بها بعضهم وقال عنها إنها جمیلة وتأملناها، وقارناها بغیرها مما قیل قبلها فإننا نجد أیضاً تخلفاً عن الشعراء الآخرین، وهذه الصورة وردت فی خمریاته، وقد قال الشاعر فی الخمر ما قال، وتعد الأبیات التالیة من أجود ما قاله فی الخمر:

بها غیر معذول فداو خمارها *** وصل بعشیات الغبوق ابتكارها

ونل من عظیم الردف كل عظیمة *** إذا ذكرت خاف الحفیظان نارها

وقم أنت فاحثث كأسها غیر صاغر *** ولا تسق إلا خمرها وعقارها

فقام تكاد الكأس تحرق كفه *** من الشمس أو من وجنتیه استعارها

ظللنا بأیدینا نتعتع روحها *** فتأخذ من أقدامنا الراح ثارها

موردة من كف ظبی كأنما *** تناولها من خده فأدارها(34).

إذا تأملنا البیت قبل الأخیر وهو من الأبیات المحسوبة لدیك الجن، وقارناها بالبیت الذی یقابله من المقطوعة التالیة التی نسبت فی بعض المصادر للمأمون، فإن الفرق سیغدو واضحاً فی طریقة التعبیر عن المعنى الواحد.

وصاحب وندیم ذی محافظة *** سبط الیدین بشرب الراح مفتون

نادمته ورواق اللیل منخرق *** تحت الصباح، دفیناً فی الریاحین

فقلت: خذ، قال: كفی لا تطاوعنی *** فقلت: قم، قال: رجلی لا تواتینی.

إنی غفلت عن الساقی فصیرنی *** كما ترانی سلیب العقل والدین(35).

فقارن بین قوله: ظللنا بأیدینا.... الخ...... وقول الآخر: فقلت: خذ.....الخ....، إنه الفرق بین مباشرة المعنى، ونظمه كما ینظم الشعر التعلیمی، وبین تأدیته على نحو غیر مباشر، یوحی بها إیحاءً ویومأ إلیه إیماء.

وأمر آخر یتعلق بهذه المقطوعة، وهو الخبر الذی نسب إلى أبی نواس قوله لدیك الجن: إنك فتنت أهل العراق بقولك:

موردة من كفِّ ظبی كأنما *** تناولها من خده فأدارها(36).

ولا أحسب أبا نواس إذا صح الخبر إلا مجاملاً لدیك الجن، لأن شعراء العراق ومن وافاهم آنذاك وعلى رأسهم أبو نواس لم یدعوا معنى طریفاً ولا صورة رائعة یمكن أن تخطر ببردها فی أیامهم إلا ألحوا علیها، وبلغ أبو نواس من البراعة فی ذلك مبلغاً عجیباً یخلف دیك الجن وعشرات مثل دیك الجن فی غباره، ففی خمریاته تختلط الأضواء وتتماوج الصور، ویغیب العقل ویثوب، وتصور أدق الحركات والانفعالات، بینما كانت الخمر عند دیك الجن مجرد تبرٍ قد عجن بماء لجین، أو هی زلال، أو هی مسك وعنبر، ولا تقع له على بیت واحد یسامق فیه أبا نواس وإلیك هذه الصور من شعر أبی نواس من غیر تدقیق فی الاختیار:

وصفراء قبل المزج بیضاء بعده *** كأن شعاع الشمس یلقاك دونها

ترى العین تستعفیك من لمعانها *** وتحسر حتى ما تقل جفونها

كأن یواقیتاً عواكف حولها *** وزرق سنانیرٍ تدیر عیونها(37).

أو هذه الصور:

إذا عب فیها شارب القوم خلته *** یقبِّل فی داج من اللیل كوكبا

ترى حیثما كانت من البیت مشرقاً *** ومالم نكن فیه من البیت مغربا(38).

إن ما أتصوره وأظنه أن دیك الجن لم یفتن أهل العراق بقوله، وإنما فتن أبا نواس بظبیه وهما أصحاب بلیة واحدة فمد هذا له شباكه وهو الخبیر، وجامله من حیث حسنت المجاملة، وتلقف الناس بعدهما هذا الخبر أو قل: تلك المجاملة، وذكروها على أنها اعتراف عظیم من أبی نواس بشاعریة دیك الجن، والشاعریة تفرض نفسها ولا یفرضها اعتراف... ومن هذا المنطلق لمع أبو نواس وخبا دیك الجن، لمع الأول لموهبته الفذة، وخبا الثانی لأن موهبته لم تكن متألقة وهاجة، فبعض المقطوعات الجمیلة التی قالها لا ترتفع به إلى مصاف الشعراء الكبار، ولم یكن منهم فی أی فن من فنون الشعر، لقد مدح فیما تعلق بأذیال أبی تمام، وتغزل، وبواعث حبه قویة فما أجاد، وكانت فی حیاته مأساة عمیقة قاتمة جدیرة أن توحی له بعقائل القصائد، ولكن كانت الحصیلة مقطوعات باهتة بالقیاس إلى هول المأساة، وقال فی الخمر ولیته ما قال، فالخمرة التی كانت تغدو رمزاً للروح والحیاة عند معاصریه، أو عند بعضهم بقیت لدیه مجرد شراب كالمسك والعنبر(39).

لقد عاش دیك الجن فی عصر جرت فیه أحداث كبرى جسام... حرب الأخوین: انتصار المعتصم فی عموریة... مروراً بعصر المأمون... وهذه الأحداث كلها لا تجد لها أی صدى فی شعره بینما تجد صدى حادثة فی منتهى التفاهة والسفاهة والخسة وهی قصة الاعتداء على أحد الغلمان فی عاصی المیماس (40)، وكان مهتماً جداً بذلك...."إن الله یحب معالی الأمور ویكره سفاسفها(41).. وكان دیك الجن متعلقاً بهذه السفاسف... مقصراً تجاه فنه وشعره ونفسه، فلا عجب بعد ذلك كله أن أهمل وذكر على الهامش، ولولا جمال الأسطورة التی جعلت تاریخاً له.. وهی قتله ل(ورد) ولغلامه ثم إحراقهما وشرب الخمر من كوزین صنعا من رماد عظامهما... وهذه قصة تلهب الخیال(42)... لما بقی من دیك الجن شیء جمیل یذكر...

لقد كان فی عصره شاعراً من شعراء السفح، أدنى السفح، لم یقترب من القمة ولم یسع إلیها، ولم یسامت أحداً من أصحاب القمم فی أی فن من فنون الشعر، لقد كان خلیقاً أن ینوح على ورد بشعر لم یقل أحد قبله مثله، ولكننا لم نجد شیئاً من ذلك، إنه یسیر فی الدروب المطروقة المذللة، وإذا حاول التجدید أتى بالویلات وقذف بنا فی مقالع الحجارة أو قل: قذفنا بالحجارة....

شیء واحد رائع وجمیل فی سیرة دیك الجن، هو أنه كان أستاذاً لأبی تمام، وربما أفاده بعض الإفادة (43)..؟ ولكن رب تلمیذ فاق أستاذه، وهكذا كان شأن أبی تمام الذی تجاوز دیك الجن وخلفه فی غباره... وتحولت شعوبیة دیك الجن الداكنة إلى عروبة ناصعة فی شعر أبی تمام.. ولعل قصة التلمذة هذه كلها ملفقة أو مموهة... وربما كان اللقاء بینهما لقاء شاعرین لا لقاء أستاذ شاعر وشاعر ناشئ... ومهما یكن من أمر فإن الطریقة الشعریة التی یسمونها المذهب الشامی قد أخذت أبعادها على ید أبی تمام وفی شعره، وتجاوز بها كل التكلف الذی ظهر فی شعر دیك الجن، وحولها من الجمود الصلب إلى الحركة الحیة(44).

قبل أن أختتم هذه الأسطورة لابد من أن أشیر إلى أن الأستاذین الكبیرین عبد المعین الملوحی والمرحوم محی الدین الدرویش قد ذهبا فی تقدیمهما لما جمعاه من شعر دیك الجن إلى أن هذا الشاعر ظلم ولم یعط حقه(45). وإلى أنه كبیر... وما إلى ذلك... وأنا أخشى أنهما كانا یكتبان ما یكتبان تحت وطأة حبهما للشاعر لمجرد كونه حمصیاً أو عاش فی حمص.. إن دیك الجن لم یظلم فقد كتب عنه أبو الفرج الأصفهانی وحسبك بالأغانی شهرة وإشهاراً، وكتبت عنه كتب الأدب المختلفة، ووضع حیث یحسن أن یوضع... فأین الظلم وأین سوء الحظ... لعل الأستاذین كانا یریدان لدیك الجن شهرة ومكانة تماثلان ما كان لأبی تمام أو المتنبی... وما صاحبهما كهذا ولا ذاك لقد قصر فقُصِّر به، ولكن أعطی حقه وفوق حقه... ولو أن شعر دیك الجن عثر علیه من أوله إلى آخره لما رفع من قیمة هذا الشاعر درجة واحدة.. لأن أجمل شعره قد تداولته كتب النقد والمختارات، وما تبقى فهو من سقط المتاع أو ما یوازی سقط المتاع، ولكن المجهول له بریق فلیحلم من یحلم بالعثور على الدیوان.. وقد یقال: أنى لك أن تحكم على أمر وهو فی ظهر الغیب؟ وأقول: إن خبرتنا بتراثنا وطبیعة كتبه تجعلنا نقیس المجهول على المعلوم، وتساعدنا على معرفة قیمة كثیر مما ضاع قیاساً على قلیل مما بقی... وأظن أن فی هذا ما یشجع على إطلاق بعض الأحكام.

هذه جولة حول دیك الجن وشعره، إنها جولة خواطر وتداعی أفكار، لم تقم على أسس البحث المدرسی، ولم تتبن تقسیماته بل ولجت حجرة دیك الجن، وحاولت ولوج نفسه، وحامت حول عصره، ولم تنظر إلیه بعین الحب و الإعجاب والرضا بدافع من عصبیة المدینة أو عصبیة الكتابة عنه، بل كانت قاسیة علیه، شدیدة القسوة، جردته من كثیر من الأقنعة التی أسبغتها علیه كثیر من الدراسات التی غرق أصحابها فی إعجاب مفتعل بكل ما لا یعجب ولا یروق وبعد:

فلیبق دیك الجن أسطورة، ولیبق مقصفاً، لیبق شعراً بلا دراسة، وشاعراً بلا تحلیل...

عبد الإله نبهان.

*حواشی:

(1) انظر تاریخ حمص، ص118، وما بعدها مؤلف الكتاب هو منیر الخوری عیسى أسعد نشرت الكتاب مطرانیة حمص الأرثوذكسیة 1984.

(2) مرآة الجنان 4: 99.

(3) كتاب الأنوار، نشر فی الكویت بتحقیق المرحوم محمد یوسف، فی مجلدین.

(4) نشر تاماً فی دار قتیبة بدمشق بتحقیق الدكتور رضوان الدایة، وینشر الآن منجماً فی الكویت، وظهر منه المجلد الأول بتحقیق الدكتور محمد یوسف نجم 1984.

(5) صدر هذا الكتاب عن المؤسسة العربیة للدراسات والنشر بتحقیق الدكتور إحسان عباس الطبعة الأولى 1980م.

(6) سرور النفس: 116 117.

(7) العدملی: القدیم المسن، الملدح عن اللدح وهو الضرب بالید، وعمرو بن مرثد بن سعد من قیس بن ثعلبة مشهور بكرم الأولاد والسادة الفرسان، معجم الشعراء: 13، بتحقیق عبد الستار فراج.

(8) دیوانه 110، والإحالات إلى الدیوان الذی حققه الأستاذان عبد المعین الملوحی ومحی الدین الدرویش.

(9) رسالة الغفران: 446، الطبعة الخامسة بتحقیق الدكتورة بنت الشاطئ، دار المعارف بمصر.

(10) دیوانه: 66، والأبیات فی دیوان المعانی للعسكری 2: 251. والأول منها فی رسالة الغفران.

(11) رسالة الغفران :446.

(12) انظر تاریخ الإلحاد فی الإسلام للدكتور عبد الرحمن بدوی وخاصة الصفحات المائتین الأولى.

(13) دیوان دیك الجن: 108، ونسب البیت فی روضة المحبین 151 إلى قیس بن الملوح.

(14) دیوانه 47، وذكر المحققان أن صاحب الوساطة رواهما لأبی نواس: وأنهما رویا لغیر هذین الشاعرین أیضاً.

(15) الدرة الفاخرة فی الأمثال السائرة: 1: 207، برقم 273، قال مؤلفه حمزة بن الحسن الأصفهانی المتوفى حوالی سنة 351ه، معلقاً على هذا المثل: فلأن حمص كلها للیمن، لیس بها من قیس إلا بیت واحد، فهم أذلاء. نشر الكتاب بدار المعارف بمصر بتحقیق عبد المجید قطامش. وانظر أیضاً مجمع الأمثال للمیدانی 1: 283. برقم 1496، والمستقصى للزمخشری 1/ 135، برقم 523.

(16) الأبیات مختارة من قصیدة فی دیوانه 1: 337 380، دیوانه بشرح محمد الطاهر بن عاشور نشرته لجنة التألیف والترجمة والنشر بالقاهرة 1950.

(17) قال أبو عبید القاسم بن سلام: "حذو القذة بالقذة"، وهو أن یقدر كل قذة. والقذة: الریشة من ریش السهام على صاحبها سواء. كتاب الأمثال: 149، رقم 424 تحقیق الدكتور عبد المجید قطامش. نشرته جامعة الملك عبد العزیز 1980، وانظر أیضاً المستقصى للزمخشری 2: 61، برقم 228 ومجمع الأمثال 1: 195 برقم 1030.

(18) انظر مجمع الأمثال 1: 195 برقم 1030.

(19) دیوانه: 25.

(20) كتاب الأغانی 4: 423 طبعة دار الكتب المصریة.

(21) الأغانی: 4: 424.

(22) الأغانی: 4: 411.

(23) شعراء من بلاد الشام، 9 أحمد الجندی دار طلاس.

(24) كانت وفاة أبی نواس فی العقد الأخیر من القرن الثانی للهجرة بین الأعوام 195ه أو 196 197 ه وتوفی أبو تمام حوالی سنة 232ه وفی سنة وفاته اختلاف أیضاً.

(25) عمر فروخ: أبو تمام ص 87 ومابعدها، وتجد ذكر دیك الجن فیه فی ص 91.

(26) دیوانه: 28.

(27) دیوانه: 36.

(28) دیوانه 40 41.

(29) دیوانه: 57.

(30) شعراء من بلاد الشام 104 أحمد الجندی.

(31) دیوانه: 48.

(32) دیوانه: 49.

(33) قال ابن أبی عتیق لعمر بن أبی ربیعة بعد أن سمع أبیاتاً منه: أنت لم تنسب بها، وإنما نسبت بنفسك، كان ینبغی أن تقول: قلت لها فقالت لی، فوضعت خدی فوطئت علیه. الأغانی1: 11.

(34) دیوانه: 38 39.

(35) البصائر والذخائر 2: 321، بتحقیق الدكتور إبراهیم الكیلانی دمشق وانظر الكشكول 1/ 266.

(36) مقدمة الدیوان ص 7، والقصة لم ترد فی الأغانی، ووجدتها فی كتاب حیاة الحیوان الكبرى للدمیری 1: 616 دار التحریر بمصر 1965، وفی المختار من حیاة الحیوان ذكرت القصة على أنها جرت بین دعبل ودیك الجن، وكان صاحب حیاة الحیوان قد ذكر المقابلة المزعومة بین دعبل ودیك الجن نقلاً عن ابن خلكان.

(37) دیوان أبی نواس: 20 22.

(38) دیوان أبی نواس: 20 22.

(39) دیوانه: 51.

(40) الأغانی 14: 61، ودیوانه: 58.

(41) قال أبو عبید فی كتاب الأمثال: 165: وروینا فی حدیث: "إن الله یحب الجود ومعالی الأمور ویبغض سفاسفها وانظر الجامع الصغیر 1/ 69 وفیض القدیر للمناوی 2/ 226: "عن إحالات المحقق الدكتور عبد المجید قطامش".

(42) الكشكول 1: 98، تحقیق طاهر أحمد الزاوی ط.مصر 1961.

(43) لم یشر أبو الفرج ولا الصولی إلى أی لقاء بین أبی تمام ودیك الجن وهذا أمر له شأن فی إنكار الحادثة من أساسها. وذكر لقاءهما ابن رشیق فی العمدة 1/ 101 طبعه عبد الحمید.

(44) انظر الدراسة القیمة والفریدة من نوعها التی عقدها الدكتور عبد الكریم الیافی لدراسة فن أبی تمام فی كتابه: "دراسات فنیة فی الأدب العربی".

(45) مقدمة الدیوان. والحق أن هذه النغمة أصبحت شائعة فی حیاتنا الأدبیة، حتى أن بعضهم یثبت على الغلاف فلان؟.. الشاعر المجهول. وقد یكون هذا الشاعر أشهر من نار على علم لدى دارسی الأدب. وأمامی الآن وأنا أثبت هذا التعلیق عنوان طریف هو: أبو الفرج الأصفهانی أدیب مشهور ومغمور فی مجلة عالم الفكر وما أدری كیف یكون مؤلف الأغانی الذی ألفت عنه عدة كتب مغموراً على أی وجه من الوجوه.

ملحق

دیك الجن وما كتب عنه

آ شعره:

1 دیوان دیك الجن الحمصی: جمعه وشرحه الأستاذان عبد المعین الملوحی ومحی الدین الدرویش، وقدما له بدراسة طبع فی مطابع الفجر بحمص 1960، ثم أعاد نشره الأستاذ أحمد الجندی فی دار طلاس 1984.

2 دیوان دیك الجن الحمصی: بتحقیق الأستاذین عبد الله الجبوری وأحمد مطلوب دار الثقافة بیروت 1964.

3 مستدرك على شعر دیك الجن: الأستاذ یحیى زین الدین. نشره فی مجلة مجمع اللغة العربیة بدمشق المجلد 51 ص 151.

4 المستدرك على دیوان دیك الجن: الأستاذ هلال ناجی. مجلة الكتاب العراقیة العدد: 5 السنة الخامسة أیار 1974.

5 دیوان دیك الجن: صنعة الأستاذ مظهر رشید الحجی، ما زال مخطوطاً لدیه وسینشر قریباً.

ب المصادر القدیمة:

1 التراجم:

 كتاب الأغانی لأبی الفرج الأصفهانی 356ه 966م.

 تاریخ دمشق ابن عساكر ت 571 ه 1175م.

 وفیات الأعیان: ابن خلكان ت 681 ه 1282م.

 سیر أعلام النبلاء: الحافظ الذهبی ت 748 ه 1347م.

 عیون التواریخ: ابن شاكر الكتبی ت 1362م.

2 بعض الكتب التی ذكر فیها:

 فی معجم الشعراء للمرزبانی 369 طبعه عبد الستار فراج ذكر المرزبانی محمد بن سلامة ابن أبی زرعة الدمشقی الكنانی، قال: شاعر محسن، وهو ودیك الجن شاعر الشام.

 فی العمدة لابن رشیق 1/ 64 طبعة 1925 وفی 1/ 101 طبعة محیی الدین عبد الحمید: ودیك الجن وهو شاعر الشام، لم یذكر مع أبی تمام إلا مجازاً، وهو أقدم منه، وقد كان أبو تمام أخذ عنه أمثلة من شعره یحتذی علیها فسرقها.

3 من الكتب التی اختارت له:

1 الأشباه والنظائر للخالدیین. نشر بتحقیق المرحوم السید محمد یوسف، القاهرة 1958 1965.

2 أنوار الربیع لابن معصوم طبعة حجریة سنة 1093ه ذكره الأستاذ هلال ناجی فی مستدركه.

3 الأنوار ومحاسن الأشعار للشمشاطی. نشر فی الكویت، بتحقیق المرحوم السید محمد یوسف 1977، وسمعت أنه نشر فی العراق بتحقیق صالح مهدی العزاوی ولم أقف علیه.

4 الحماسة البصریة: البصری؟ طبع فی الهند بتحقیق الدكتور مختار الدین أحمد، ثم صور فی بیروت.

5 دیوان المعانی لأبی هلال العسكری. طبعه القدسی فی مصر سنة 1352ه ثم صور عن هذه الطبعة.

6 الزهرة لأبی بكر الأصفهانی نشره الدكتور لویس نیكل البوهیمی بیروت 1932. ورأیت جزءاً ثانیاً منه صدر فی العراق.

7 سرور النفس فی مدارك الحواس الخمس. الأصل للتیفاشی والتهذیب لابن منظور. نشر بتحقیق الدكتور إحسان عباس. لبنان.

8 فصول التماثیل لابن المعتز، نقل عنه الأستاذ هلال ناجی فی مستدركه وذكر أنه مخطوط.

9 قطب السرور فی أوصاف الخمور للرقیق الندیم. نشره مجمع اللغة العربیة بدمشق، بتحقیق أحمد الجندی وعقب علیه بمقالة نقدیة هامة الأستاذ الشاعر رفیق فاخوری. انظر مجلة مجمع اللغة العربیة بدمشق المجلد 45، ص 181 وما یزال الكتاب بحاجة إلى نظر.

10 محاضرات الأدباء للراغب الأصفهانی طبع فی المطبعة الشرقیة سنة 1326ه.

11 كتاب المشموم للسری الرفاء "سیصدر قریباً بتحقیق المرحوم الأستاذ مصباح غلاونجی"، وقد نشرت مقدمته فی مجلة التراث العربی فی العدد المزدوج 15 16 سنة 1984.

12 المنصف لابن وكیع، نشره محققاً الدكتور محمد رضوان الدایة، بدمشق، وصدر الجزء الأول منه فی الكویت بتحقیق الدكتور محمد یوسف نجم.

13 المصون فی الأدب لأبی أحمد العسكری. نشره محققاً الأستاذ عبد السلام هارون فی الكویت عام 1960، وصدرت له طبعة ثانیة فی القاهرة والریاض سنة 1982 مصححة ومنقحة وفیها فهارس إضافیة. وانظر مقالة نقدیة لطبعته الأول فی مجلة مجمع اللغة العربیة بدمشق المجلد 55 الجزء الثانی.

14 معاهد التنصیص لعبد الرحیم العباسی. طبع فی القاهرة عام 1316 ه ثم نشره المرحوم محمد محیی الدین عبد الحمید.

15 نهایة الأرب للنویری. دار الكتب المصریة. وما زال یصدر تباعاً.

ج الكتب والدراسات المعاصرة.

1 الكتب:

1 دیك الجن الحمصی: البدوی الملثم "یعقوب العودات".

2 دیك الجن الحمصی: نسیب عریضة.

3 دیك الجن والحب المفترس: رئیف خوری منشورات دار المكشوف لبنان 1948 سلسلة أشهر العشاق.

4 دیك الجن الحمصی: دراسة فی شعره مظهر رشید الحجی "مازال مخطوطاً".

2 المقالات والبحوث:

1 أحمد الجندی: خص دیك الجن بدراسة ضمن كتابه "شعراء من بلاد الشام"، دار طلاس دمشق 1984.

2 خلیل مردم بك: خص دیك الجن بدراسة ضمن كتابه "شعراء الشام".

3 سمر الفیصل: مجلة البحث التاریخی حمص العدد الأول.

4 عبد العلیم صافی: مجلة الأمل: "وهی مجلة كان یصدرها المیتم الإسلامی بحمص"، السنة الثانیة الأعداد: 4 5 6 7.

5 عبد المعین الحمصی: محاضرات الموسم الثقافی 1961 1962 وزارة الثقافة دمشق.

6 عبد المعین الملوحی: مقدمة الدیوان بالاشتراك مع المرحوم محی الدین الدرویش.

7 محمد رجب البیومی: مجلة الأمل القاهرة السنة 14 العدد 70.

8 محمد النقدی: مجلة الحدیث حلب 24: 598، 603.

3 كتب التراجم المعاصرة:

1 أعلام الأدب والفن: المرحوم أدهم الجندی.

2 الأعلام "قاموس تراجم" المرحوم خیر الدین الزركلی.

3 أعیان الشیعة: المرحوم محسن الأمین "توفی 1952".

4 معجم المؤلفین: عمر رضا كحالة.           

 

مجلة التراث العربی-مجلة فصلیة تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 20 - السنة الخامسة - تموز "یولیو" 1985 - ذو القعدة 1405
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:31|

التناص

 

التناص inter-textualité مصطلح نقدی، عُرف بدایة فی اللغة الفرنسیة فی الستینات، على ید الناقدة الفرنسیة ـ البلغاریة الأصل ـ جولیا كریستیفا J.Kristeva (1941). ویدل المصطلح على ظاهرة تفاعل النصوص فیما بینها، وتأثیر هذا التفاعل فی إنتاج الدلالة التی یحملها النص الذی یحتوی عملیة التفاعل هذه.

عرف النقد المعاصر مصطلح «التناص»، ولكن التناص فی ذاته قدیم قدم الكتابة، وقد اختلط لدى بعض النقاد المعاصرین بمفهومات أخرى مثل: الاقتباس، التضمین، السرقات. إلا أن هذه المفهومات بعیدة فی جوهرها عن التناص الذی یقصد به أن الكتّاب حین ینشئون نصوصهم ینطلقون من النصوص التی سبق لهم أن تمثلوها التی تتجاور وتتفاعل فیما بینها، وقد ینفی بعض منها الآخر فی نصوصهم الجدیدة. وهذا ینفی فكرة النص المستقل المكتفی بذاته.

إن النصوص  لا تتفاعل بوصفها مجرد نصوص، إنما بوصفها ممارسات دلالیة متماسكة، بوصفها أنظمة علامات متماسكة، لكل منها دلالته الخاصة به، وهذه الأنظمة إذ تلتقی فی النص الجدید، تسهم متضافرة فی خلق نظام ترمیزی code جدید، یحمل على عاتقه عبء إنتاج المعنى أو الدلالة فی هذا النص. وللتناص درجات، هی:

1 ـ التطابق: إن المطابقة فی اللغة تعنی الموافقة والمساواة، والتطابق هو الاتفاق، واصطلاحیاً یعنی التطابق تساوی نصوصٍ ما فی الخصائص البنیویة، وفی النتائج الوظیفیة. ومثال ذلك التقارب الذی یصل إلى حد التطابق بین مسرحیة "القصة المزدوجة للدكتور بالمی» من تألیف الكاتب الإسبانی أنطونیو بویرو باییخو (1916-) ومسرحیة «الاغتصاب» للكاتب السوری سعد الله ونوس[ر] (1939-1996).

2 ـ التفاعل: إن أی نص هو نتیجة لتفاعله مع نصوص أخرى مختلفة عنه تُكیّف بحسب النص المنقولة إلیه مع مراعاة أهداف الكاتب ومقاصده. فقد یكون النص مقتبساً إلا أن غایة الكاتب تجعله یصیغ من تلك النصوص جمیعها نصاً واحداً له دلالاته ورسائله الخاصة به. ومثال ذلك التفاعل بین مسرحیة «الحیاة حلم» للكاتب الإسبانی كالدیرون دی لاباركا[ر] وحكایة «النائم والیقظان» فی «ألف لیلة ولیلة»، وكذلك ملحمة الكاتب الإنكلیزی تشوسر[ر] «مجلس الطیور» (1382) وتأثرها بملحمة «منطق الطیر» للكاتب الصوفی الفارسی فرید الدین العطار[ر] (1140-1230) الذی تأثر أیضاً بکتاب «رسالة الطیر» للكاتب العربی أبی حامد الغزالی[ر] (1058-1111).

3 ـ  التداخل: إذا لم یحقق التداخل والمداخلة الامتزاج أو التفاعل، فإنهما یبقیان دخیلین على النص الأصلی، وإن كانا شبیهین به، مما یخلق صلات محدودة فیما بینها. وهناك الكثیر من نصوص الثقافة العربیة القدیمة، وكذلك بعض النصوص المعاصرة التی فهمت التناص فهماً خاصاً، ضمن ما عُرف بـ «التداخل».

4 ـ التحاذی أو المجاورة: إذا لم توجد صلات وعلائق بین النصوص، فإن وجود بعضها إلى جانب بعض یصیر مجرد مجاورة وموازاة فی فضاء، مع محافظة كل نص على هویته وبنیته ووظیفته.

5 ـ التقاصی أو التباعد: ویقوم على التقابلات بین نصوص مختلفة بعضها عن بعض ولا تنتمی إلى النوع نفسه. ومع أن النقد لم یبت الموضوع فإنه یورد نص أبی العلاء المعری[ر] «رسالة الغفران» ونص دانتی[ر] «الكومیدیا الإلهیة» مثالاً على التقاصی والتفاعل المحتمل فی الوقت نفسه.

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 17:29|
الأسطورة وعلم الأساطير

 

الأسطورة لغة كل ما يسطر أو يكتب، والجمع أساطير. وفي المعجمات: «الأساطير: الأباطيل والأكاذيب، والأحاديث لا ناظم لها، ومنه قوله تعالى: )إن هذا إلا أساطير الأولين( (المؤمنون83)».

والأسطورة myth في مفهومها الحديث مصطلح جامع ذو دلالات خاصة يطلق على أنواع من القصص أو الحكايا المجهولة المنشأ ولها علاقة  بالتراث أو الدين أو الأحداث التاريخية، وتعد من المسلمات من غير محاولة إثبات، أو هي تصور متخيل عن نشأة أوائل المجتمعات والمعارف في صيغة قصصية شفاهية، وقد تكون الغاية من الأسطورة تفسير بعض العادات أو المعتقدات أو الظواهر الطبيعية، وخاصة ما يتصل منها بالشعائر والرموز الدينية والتقاليد في مجتمع ما.

والأساطير قصص خاصة تروى عن الآلهة أو عن كائنات بشرية متفوقة أو عن حوادث خارقة وخارجة عن المألوف في أزمان غابرة، وقد تتحدث عن تجارب متخيلة للإنسان  المعاصر بغض النظر عن إمكان حدوثها أو تسويغها بالبراهين. فالأسطورة تطرح نفسها على أنها جديرة بالثقة وأنها تسجيل لواقعة أو وقائع حدثت وإن شذت عن المألوف، أو أنها أمر واقع ولكنه خارج عن المنطق والمعقول القابلين للمناقشة والبرهان. وقد درج الناس عامة على أن الأسطورة تحكي أحداثاً خارقة يستحيل إثباتها، وجعلوها على هذا النحو مرادفة للخرافة والحكاية.

أما الميثولوجية mythology التي اصطلح على ترجمتها إلى «علم الأساطير» فمصطلح معرب عن اليونانية، ويطلق على العلم الذي يعنى بدراسة منشأ الأسطورة وتطورها، وبدراسة أساطير الشعوب والعلاقات المتبادلة بين هذه الأساطير، كما يطلق المصطلح على مجموعة الأساطير التي تختص بالتراث الديني فقط.

مكانة الأسطورة ومغزاها

تحتل الأسطورة حيزاً مهماً من تراث الإنسانية ومجتمعاتها كافة، ولا يخلو مجتمع أو حضارة من أساطير ترتبط بتراثهما جنباً إلى جنب مع الأشكال الأدبية والفنية الأولى التي تميز ثقافة ذلك المجتمع كالحكايا والخرافات وقصص التراث والسير الشعبية والموضوعات الفنية المختلفة. ولما كانت موضوعات الأساطير وشخصياتها وأساليب روايتها كثيرة ومتنوعة فمن الصعب إعطاء حكم عام عن طبيعتها. وتدل تفاصيل الأساطير عامة على الكيفية التي يصور فيها شعب ما ثقافته وحضارته. وتأتي دراسة الأساطير على هذا النحو في المرتبة الثانية من حيث الأهمية بعد دراسة اللغة والفنون والفلسفة والعلوم عند الشعوب.

ويختلف الفلاسفة، من جهة، والعلماء المعنيون بالتراث الشعبي، من جهة ثانية، في نظرتهم إلى عالم الأساطير. فالفلاسفة يؤكدون أن الأسطورة عامل مشترك في الفكر الإنساني، في حين يؤكد علماء التراث والاجتماع أن الأساطير تتنوع وتختلف من مجتمع إلى آخر. وبين الطرفين بون كبير ومجال واسع لمختلف التفسيرات. وقد بذلت جهود كثيرة لسبر أغوار المعاني الخفية التي تنطوي عليها الأساطير والغاية منها ومدى تأثيرها في المجتمعات، وما تزال الأساطير دعامة فكرية يستند إليها الدارسون عند بحثهم في شتى فروع المعرفة. وثمة باحثون كثر يرون أن الأسطورة تحكي تاريخاً مقدساً، أو أنها ظاهرة لا يمكن تفسيرها من دون ربط بمقولة الدين، أي لا يمكن تفسيرها حرفياً أو اجتماعياً أو نفسياً أو اقتصادياً فقط. ويقود هذا الاتجاه إلى التفريق الكامل بين الأسطورة وغيرها من الأنواع الأدبية التراثية والنصوص غير المقدسة. ويميل آخرون إلى التعامل مع الأسطورة على أساس النظرة العامة إلى الإنسان التي قد تكون بيولوجية أو نفسية أو غير ذلك. وهذا ما يضع الأسطورة في مرتبة واحدة مع الحكايا والقصص والروايات وغيرها. ومهما تكن النظرة التي يختارها المرء لرسم الأسطورة فإنه قد يفيد من الموازنة بينها وبين غيرها من أنواع التراث غير المكتوب.

يُفسر أكثر الأساطير على أنها من فعل قوى خارقة يلمح إليها تلميحاً من دون ذكرها صراحة، وهي تنسب الوقائع إلى أمور تخرج عن مألوف العالم الطبيعي؛ ولكنها ترتكز إليه في إطار متكامل يجمع بين الحقائق والأمور الخارقة فتبدو متسقة تمام الاتساق.

أما الإطار الزمني الذي تنسب إليه حوادث الأسطورة فمختلف  تماماً عن الزمن التاريخي للتجربة الإنسانية، ويعود في غالب الحالات إلى سالف العصر والأوان. وأما أبطال الأسطورة فمن الآلهة المزعومين أو الكائنات العليا الخارقة أو أوائل البشر والحيوانات والنباتات أو الرجال العظام المتميزين الذين أضفيت عليهم صفات استثنائية. وقد تشترك بعض الأجناس الأدبية الأخرى مع الأسطورة في أحد هذه الملامح أو في أكثر من ملمح ، ولكنها ليست من الأساطير، كالقصص والحكايات والخرافات وحكايا الجن والملاحم وقصص البطولة وغيرها.

الأسطورة والحكاية: الحكاية لغة نقل الحديث ووصف الخبر إطلاقاً من غير تحديد، والجمع حكايا وحكايات. ولكن الحكاية اكتسبت مع الزمن معنى خاصاً فصارت تعني قصة مسموعة أو مقروءة تروى في إطار محدد من الزمان والمكان بأسلوب يحاكي الأسطورة. وتتنوع الحكايات وتختلف باختلاف مغزاها وموضوعها وزمانها ومكانها ودورها في المجتمع الذي اختص بها. فحكايا العلة أو السبب etiolgical tales قريبة الشبه بالأسطورة، وهي حكايات تختص بتفسير الأسباب والعلل والبدايات فتشرح أصل عادة أو تقليد أو ظاهرة ما كأصل العالم أو بدايات البشر أو سبب انتشار الحكمة كما ترويه بعض الحكايا الإفريقية. ويرى كارل كيريني Carl Kerenyi من الاتباعيين أن القصد من مصطلح «العلة» المقابل لكلمة aitia اليونانية الأصل لا يقتصر على شرح السبب، بل يتعداه إلى إيضاح الأحوال الأولية التي أحاطت به. فالعلة في المفهوم الحديث تشرح البدايات، التي ينتج منها كل شيء، وقد يبدو استعمال هذا المصطلح غامضاً لكنه لايطمس الفارق بين حكاية العلة والأسطورة. فحكاية العلة تكون غالباً لتفسير بعض الغوامض أو لمجرد التسلية، وكثيراً ما تكون إضافة متأخرة إلى الأسطورة أو زيادة عليها، ولكنها ليست ملازمة لها بالضرورة. ففي الأساطير الهندية مثلاً حكاية تتحدث عن سبب تلون رقبة الإله «سيفا» باللون الأزرق، وهي توضح كيف يتم الانتقال من الأسطورة إلى حكاية العلة والفارق بينهما. والراجح أن الرواية الأولى لأسطورة «سيفا» كانت تتحدث عن بداية الخلق، وفيها يشرب سيفا السم القاتل من أجل إنقاذ العالم، وتأتي بعدها حكاية تلون عنق الإله بالزرقة نتيجة شربه السم متأخرة في الروايات اللاحقة. وحين يحدث هذا الانتقال في القصص الأسطورية فإنه يخضع لتبديل وتعديل كبيرين لميل حكايا العلة إلى الترفيه وإثارة الاهتمام، ومع ذلك تبقى حكايا العلة مَعْلماً من معالم الأسطورة أو جزءاً منها، ولكنها لا تنافسها في دعوى الحقيقة.

أما حكايا الجن fairy tales فتتحدث عن كائنات خارقة وحوادث غير مألوفة أبطالها كائنات من هذا القبيل. وهي تحاكي الأساطير من بعض الأوجه وتختلف عنها اختلافاً بيناً من أوجه أخرى. والزمن الذي تتحدث عنه هذه الحكايا هو زمن التجربة الإنسانية، وهي تستهل عادة بعبارة «كان ياما كان» أو «في أحد الأيام». وليس لحكايا الجن أثر تعليمي أو تربوي ولو اشتملت في بعض الأحيان على فوائد أخلاقية. ومثلها في ذلك الحكايا الشعبية التي تتحدث عن أشخاص أو حوادث  يشوبها بعض الحقائق، ولكنها تميز من الأسطورة بكونها تروى للتسلية والترفيه مع أنها قد  تشتمل على معجزات وكرامات وحوادث خارقة، أو تتحدث عن شخصيات حقيقية منحت صفات ورد ذكرها في التراث الأسطوري كالسحرة والعرَّافين والغيلان والمذؤوبين والعمالقة وغيرهم.

الأسطورة والخرافة: الخرافة لغة الحديث المستملح الكاذب، أو الحديث الباطل مطلقاً، وبها سمي «خرافة»، وهو رجل من بني عذرة استهوته الجن كما تزعم العرب، فلما رجع أخبر بما رأى منها فكذبوه، حتى قالوا لما لا يُصدّق «حديث خرافة»، وذهبت مثلا، فإذا أُضيفت الألف واللام إلى الاسم صارت مصدراً، وهي الحكاية التي لاصحة لها، وتقابلها كلمة «فابولا» fabula باللاتينية وكلمة «موثوس» muthos اليونانية ومعناها الأحدوثة أو الحكاية، ثم غدت تستعمل للإشارة إلى القصة المختلقة، وهي بعيدة عن الأسطورة التي تنطوي على حقائق لا يمكن إثبات صحتها.

الأسطورة والملحمة وسير الأبطال والقديسين وأصحاب الكرامات: الملاحم epics وقصص البطولة sagas وسير الأبطال legends حكايات تدعي الحقيقة وتروي أحداثها نثراً أو شعراً بأسلوب قصصي يصعب إسناده إلى مؤلف معين، وهي تشتمل على بعض الحقائق التاريخية وبعض الأمور الخارقة التي لم يألفها الناس مثل سير القديسين وسير عنترة والزير سالم وذات الهمة، وهي تبدو من هذه الناحية شديدة الشبه بالأسطورة إلا أن زمن الفعل فيها ومكانه محددان وليسا مطلقين كما في الخرافة وحكايا الجن. أما البطل في هذه القصص فمن الأجداد العظام أو الأولياء وأصحاب الكرامات والقديسين، أو من ذوي الحلم والشجاعة الذين يقومون بأعمال تفوق قدرة البشر العاديين، ويتحلون بأخلاق حميدة وخصال فريدة لا تتوافر لأكثر الناس. وقد يكون في هذا النوع من القصص دور لكائن خارق أو ملاك حارس يساعد البطل وينقذه في ساعة الشدة أو يهيء له سبل النجاح، كما في سيرة سيف بن ذي يزن. وربما كان ذلك الكائن شخصية أسطورية مشهورة يعرفها القارئ أو المستمع، فتختلط السيرة بالأسطورة وتنتحل صفتها وواقعيتها واعتراف المجتمع بها.

تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الأنواع الأدبية التي تحاكي الأسطورة أو تتلبس بها حددتها وجهات نظر علمية غربية ، وقد تخلو منها أو من بعضها أنواع التراث الأخرى عند الشعوب المختلفة، سواء كانت تلك الشعوب بدائية أو متقدمة في مدارج الحضارة. وفي التراث العربي تمييز  واضح بين الأسطورة والخرافة والحكاية والسيرة التي يتناقلها الرواة و«الحكواتية».

وظيفة الأسطورة

للأسطورة وظائف كثيرة ومتنوعة تحددها الغاية منها. وفي مقدمة هذه الوظائف الشرح والتفسير والإخبار؛ إذ تهدف أكثر الأساطير إلى تفسير الظاهرات الطبيعية والاجتماعية والثقافية والبيئية في مجتمع ما وخاصة المجتمعات البدائية. ولا يعني ذلك أن كل الأساطير تحاكي حكايا العلة ، ولكن هذه الوظيفة تحتل مكانة مهمة في التراث الإنساني لأنها تساعد على فهم الأسس التي قامت عليها الأسطورة.

ومن وظائف الأسطورة الأخرى التسويغ والبرهان، فهي تجيب عن الأسئلة التي لها علاقة بطبيعة شعيرة من الشعائر التي يمارسها المجتمع أو عادة من العادات التي تسود فيه. ففي جزيرة سيرام في إندونيسية أسطورة تتحدث عن الحياة والموت كما عرفهما الإنسان. وتزعم الأسطورة أن الإنسان لم يكن يعرف في البدء معنى الحياة والموت والجنس، ولم تكن حياته إنسانية على النحو المعروف، ولم تكن هناك حيوانات أو نباتات حتى ظهرت «هينويل» Hainowele، وهي فتاة جميلة تملك قدرات خارقة وتمنح الهبات لمن تشاء فقتلها الناس في نهاية احتفال مهيب، وكان من نتائج عملية القتل الأولى هذه أن عرف الناس معنى الموت ، وصار للحياة وجود. وتغلب سمة التفاؤل على الأسطورة عند تسويغ أحداثها فتجعلها حية معاشة، وتبدو الشعيرة أو التقليد إحياء لذكرى تلك الأحداث الأولى.

ويسعى علم الأساطير المقارن إلى إيجاد العلاقات التي تربط بين بعض العادات والتقاليد المتأصلة في أكثر المجتمعات، إذ يلاحظ مثلاً اشتراك المجتمعات الزراعية في تقديم الأضاحي والقرابين. أما أكثر الموضوعات التي تطرقها الأساطير شيوعا فهي تلك التي تسوغ شعائر تجدد الحياة والزمن والجنس والحياة بعد ا لموت، فالحبة تموت لتلد السنبلة، والعام الجديد يقوم على رفات العام الماضي، ولا تشذ احتفالات الميلاد عن تلك القاعدة. وقد وجدت الأسر الحاكمة في أكثر الحضارات القديمة مسوغ وجودها وموقعها من المجتمع في الأساطير التي حيكت حولها، وأكثر تلك الأسر يؤكد أن أصوله ترجع إلى عالم الآلهة أو إلى السماء العليا، أو أنها سليلة الشمس أو القمر، وهذا ما تتحدث عنه أساطير الصين واليابان والهند ومصر القديمة وبابل وسومر وشعوب الأنكا والمايا من الهنود الحمر. وقد يكون التركيب الطبقي كله عند بعض الشعوب قائماً على مثل هذه الأسس الأسطورية الموغلة في القدم، ولايوجد مجتمع واحد لاترجع فيه تقاليد الزواج والدفن إلى أصول تتصل بتراثه وأساطيره.

وللوصف في الأسطورة مكانة مميزة ترتبط بأسلوب طرحها الحقائق التي تسمو عن المشاهدة والملاحظة. فقد تصف بعض الأساطير أصل العالم ونهايته والحياة في الفردوس الأعلى بأسلوب لا يمكن للإنسان العادي تصوره أو تلمسه حقيقة، ولعل هذه الوظيفة هي التي تمنح الأسطورة قيمتها التربوية في المجتمعات التقليدية، وعلى هذا النحو تبدو الأساطير نماذج تعليمية نظرية وعملية ، وهي في المجتمعات البدائية الوسيلة الوحيدة لفهم التعاليم المتوارثة في غياب التعليل الفلسفي، وتعبير عن حاجة الإنسان إلى المعرفة. وهذا يعني أن الأسطورة ليست مجرد إرث من الماضي، ولا تنتهي بزوال الثقافات البدائية والحضارات القديمة . ففي كل تراث مجموعة أساطير تؤلف المحور الذي يرتكز إليه ذلك التراث، يضاف إليها مجموعة أساطير يتصل كل منها بقطاع معين من قطاعات المجتمع، أو يختص بوظيفة من وظائفه ويرتبط بالأسطورة الأصل، وغالباً ما تكون هذه الأسطورة الأصل معنية بنشأة الكون cosmogony أو الخلق creation الذي هو سبب الوجود، وكثيراً ما ترتبط حوادث الأسطورة التي يقوم عليها وجود الإنسان بنشأة العالم وأصله. ومن ذلك مثلاً احتفالات تنصيب الملوك في بعض الحضارات القديمة التي تستلهم طقوسها من قصة خلق العالم أو تجدده، ولبعض أساطير الخلق دور مميز في طقوس شفاء المرضى أو دفع الخطر، وما محاولات شفاء المرضى في ممارسات السحرة والأطباء الشعبيين بتلاوة الترانيم  أو التعاويذ التي تتحدث عن أصل الكون إلا جزءاً من هذه الطقوس. ومن ذلك أيضاً استلهام الشعر باسترجاع الأحداث الأسطورية والاستعانة بشيطان الشعر أو آلهة الفن والأدب. والوظيفة الشعرية والفنية للأساطير معروفة في التراث البدائي والقديم، وهي مصدر كل التعابير الأدبية في تلك الحضارات التي لم تكن تعرف التخصص والفصل التام بين الصيغ الفنية. ولاشك في أن للأساطير الجيدة الحبكة والأسلوب أثراً كبيراً في تطور الثقافة والفن في العالم أجمع.

تطور الأسطورة

كان الإنسان البدائي يعيش في مجتمع مؤلف من أقرب أقاربه، ولايعرف من العلاقات الاجتماعية سوى الأسرية منها، ولم يكن يرى فيما يحيط به إلا صورة تلك العلاقة، فالأرض والسماء والنباتات والحيوانات كلها في نظره مجتمع أسري تربطه روابط القربى، و كان يعتقد أن كل هذه الأشياء تفكر وتملك من الذكاء ما يملكه البشر. ويمكن للمرء تلمس هذه التصورات  معممة في أساطير أكثر الشعوب. كذلك كان الإنسان البدائي ينظر إلى الحِرَف كلها نظرته إلى كائن حي عاقل يدير أعمالها ويقوم بها ويعتقد أن لها حارساً يحميها، ومن هنا جاءت النماذج الأسطورية للآلهة الحرفيين والفلاحين والرعاة والمحاربين وغيرهم. فالإله فيليس (الشَعْر) عند السلافيين هو إله القطعان وحامي البيوت والثروة، ودامون عند الكلتيين هو إله المراعي والرعاة، ومثلهما الربة أثينة عند اليونان وإيريش عند الأبخاز، وكذلك آلهة الثمار والنبات والآلهة الحارسة عند شعوب الأزتيك وفي نيوزلندة وفي نيجيرية.

لم يتكون مفهوم الأسطورة عند الشعوب دفعة واحدة، فقد كانت الأسطورة في أنماطها الأولى تقوم على «البُدّية» fetishism وهي الاعتقاد بأن للأشياء أرواحاً تسكنها، أو الاعتقاد بوحدة الشيء والفكر في الشيء نفسه. ثم غلبت «الطوطمية» totemism وهي بدّية المجتمع أو القبيلة ممثلة في شخص مؤسس ذلك المجتمع أو القبيلة، ثم سادت بعد ذلك «الأرواحية» (الأحيائية) animism وهي درجة أعلى في تطور الفكر الإنساني، ومذهب يعتقد بحيوية المادة وأن لكل شيء في الكون،وللكون ذاته، روحاً ونفساً. ومنذ ذلك الحين بدأ الإنسان يميز الفكرة في الشيء من الشيء نفسه.

ومع تطور الفكر المعمم والمجرد ارتقت الأسطورة درجة أخرى في مضمار التطور، وصارت إلى الرمزية ثم إلى الاعتقاد بوجود أب واحد للبشر وللآلهة كلهم مع الاحتفاظ بقدر كبير من البديّة والأرواحية، فغدا زيوس Zeus الأولمبي اليوناني متفوقاً على أسلافه في العالم السفلي، وأصبحت الآلهة خاضعة له بصفتها من ذراريه. ويضفي هوميروس على زيوس الكثير من الملامح القديمة السابقة لعصر الأولمبياد فيبدو شخصية تاريخية معقدة ومتعددة الأشكال. ومثل زيوس في ذلك الآلهة الأعلون خالقو العالم عند شعوب بولينيزية وتاهيتي وشعب الياقوت وكثير من قبائل إفريقية وإن اختلفت أسماؤهم وصفاتهم ووظائفهم ودرجات ألوهيتهم كما تتحدث عنها الأساطير.

ومن الموازنة بين النماذج الأسطورية في العصور التاريخية المختلفة يتبين أن الأسطورة انتقلت تدريجياً من العشوائية إلى الترتيب المتناسق. فقد كانت النماذج الأسطورية في عصر الأمومة بعيدة كل البعد عن الانسجام التشكيلي المتأخر، ومصوغة صياغة خرقاء غير متقنة، إن لم تكن مشوهة، وتصادف فيها الهُولات والمسوخ برأسين أو بثلاثة رؤوس أو أكثر، كما تصادف فيها العجائز الشمطاوات والعمالقة والجبابرة وكل ما لا يخطر على البال من المخلوقات الشريرة والحاقدة. ومن أمثلة ذلك سيدة العالم عند البابليين «تيامات» الشبيهة بالهُولة، والروح القاتلة ذات الساق الواحدة عند شعوب أسترالية والرب أورو المتعطش للدماء في تاهيتي، والجبابرة السبعة أكلة البشر عند هنود أمريكة الشمالية وغيرهم.

وفي عصر الأبوة ظهرت تصورات مستجدة عن شخصيات بطلة تصارع قوى الطبيعة وتنتصر عليها بعد أن كانت لاتقهر، ويظهر الوعي الاجتماعي منظماً في خفايا الأساطير، فتبدو تلك الشخصيات حارسة للمجتمع من أعدائه سواء كان هؤلاء الأعداء من قوى الطبيعة أم من القبائل المجاورة. ومن ذلك مثلاً الإله مردوخ البابلي الذي يقتل الهولة تيامات ويصنع من جسدها السماء والأرض، وكذلك غلغامش البطل الذي قتل الثور المقدس بمعونة إنكيدو، وكانت عشتار قد بعثت بذلك الثور لتدمير أوروك. ومن ذلك أيضا «ميترا» عند الشعوب الإيرانية الذي يصارع الأرواح الشريرة وينتصر على الثور المخيف، و«رع» عند المصريين القدامى الذي يناضل الأفعى «أبوب»، وعند اليونان ينتصر زيوس على الجبابرة والعمالقة والتنين، وينفذ هرقل مآثره الاثنتي عشرة. وفي ألمانية وعند شعوب الشمال يصارع سيغفريد (سيغورد) التنين وينقذ العذراء منه، وفي روسية يصارع إيليا مورامتس الأفعى ويقتلها. ولكن معظم الأساطير المعروفة اليوم كثير التعقيد تراكمت معطياته على مر العصور. فقصة المينوطورMinotaur أو ثور مينوس (هولة نصفها ثور ونصفها إنسان ) في الأساطير اليونانية دليل على أنها نتاج عصور مختلفة، فرأس الهولة الذي يشبه رأس الثور يدل على أن أصل الأسطورة من عصر الأمومة الأول حين كان الإنسان لا يميز نفسه من الحيوان، أما تمثيل المينوطور في النجوم والفلك وكذلك مقتله على يد تيسوسTheseus فيتصلان على الأرجح بعصر الأبوة.

يتضح من دراسة الأساطير المختلفة أن الفكر الأسطوري توصل في مراحله الأولى إلى الربط بين الحوادث التاريخية والظواهر الكونية، ومع انتقال البشر إلى حياة الاستقرار تعزز ارتباطهم بالأرض وتعزز تصورهم لوحدة القبيلة والجنس، وظهرت إلى الوجود عبادة الأسلاف والأساطير التي تروي مآثرهم (الأساطير التاريخية)، ثم حلت محلها أساطير الآلهة والأرباب السابقين (نشأة الكون وأصل الآلهة)، وانتهت محاولات تحري المستقبل والحياة بعد الموت إلى ظهور أساطير «الأخرويات». ولما كانت الأسطورة معنية بالمجتمع فقد كانت لها وظيفة تعريف المجتمع البدائي بما يحيط به، وتفسير المسائل المعقدة التي تصادف البشر، كأن تفسر كيفية خلق الإنسان والكون وسر الحياة و الموت وغير ذلك.

وكانت المجتمعات البدائية في مرحلة تكون الأساطير تملك نوعاً من الإيمان الفطري ووحدة العقيدة، ومع تطور المجتمعات الحضارية القديمة في عهودها الأولى غدت الأسطورة تعبيراً مجازياً عن مختلف الأفكار الدينية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية والفلسفية، ودخلت الفن والأدب من أوسع الأبواب، وصارت لها استخدامات وأشكال متنوعة بحسب وجهات نظر الرواة والكتاب والفنانين وأرباب السياسة والفلسفة، وبحسب اختلاف عصورهم وأساليبهم وإسقاطاتهم، وهذا ما حفظ للأساطير بقاءها وتطورها. وماتزال النماذج الأسطورية إلى اليوم تخدم  آراء السياسيين والأدباء والفلاسفة والفنانين. ولما كانت الأسطورة وسيلة من وسائل فهم ظواهر الطبيعة والحياة الإنسانية على مر العصور، فإن العلم الحديث يرى فيها تاريخاً للصراع بين القديم والحديث، ورواية تحكي قصة الإنسانية وما مر بها من معاناة ومسرات.

علم الأساطير والدراسات المتصلة به

شهد عصر النهضة انطلاقة الدراسات العلمية للأسطورة، ولكن هذه الدراسات اقتصرت حتى القرن الثامن عشر على أساطير تلك العصور التي يدعوها علماء الغرب العصور الكلاسيكية، ويقصدون بها العصور اليونانية والرومانية. وقد ساد الاعتقاد زمناً في عصر النهضة أن الأساطير الدينية الوثنية تحريف للوحي التوراتي. وبعد أن اطلع الغربيون على حضارات مصر والشام والرافدين وبلاد الشرق وشعوب أمريكة وتعرفوا أساطيرها، توافرت لديهم إمكانات القيام بدراسات مقارنة بين مختلف الشعوب. وكان الفيلسوف الإيطالي جامباتستا فيكو (1668-1744م)Giambattista Vico  أول من أعطى الأسطورة مفهوماً تاريخياً، وبين دور مخيلة الإنسان المبدعة في تكوين الأسطورة على مراحل حضارية متتالية، ولكن آراءه لم تؤثر في عصره آنذاك. وفي عصر التنوير[ر] أنكر المفكرون الفرنسيون الدور التاريخي للأسطورة ورفضوا إعطاءها أي قيمة علمية، وعدّوها قصصا طفولية  ونتاج الجهل مثل الخرافة والخُزَعْبل، ومن هؤلاء فولتير وديدرو ومونتسكيو وفونتنيل. في حين وجد الشاعر الاسكتلندي جيمس ماكفرسون[ر] (1736-1796) J.Macpherson وكذلك الفيلسوف الألماني يوهان هيردر[ر] (J.G.von Herder  (1803-1744 في الأسطورة تعبيراً عن الحكمة الشعبية. ومع تغلب الإبداعية (الرومنسية) في مطلع القرن التاسع عشر  وتسليم علماء اللغات بالأصول السنسكريتية لأسرة اللغات الهندية الأوربية، وازدياد الاهتمام بالدراسات المقارنة عادت الأسطورة لتحتل حيزاً مهماً من تلك الدراسات، ونشطت عمليات جمع الأساطير والحكايات والقصص الشعبية والملاحم، وظهرت في ألمانية بدايات ما أصبح يعرف باسم «المدرسة الأسطورية» mythological school التي قادت اتجاها في الأدب يبرز مكانة الأسطورة والأدب الشعبي وأثرهما في هذا المضمار. وكان من رواد هذه المدرسة فريدريخ شلنغ (F.Schelling (1854-1775 وأوغست شليغل (A.Schlegel  (1845-1767 وشقيقه فريدريخ (1724-1829)، والأخوان ياكوب غريم (1785-1863) وفلهلم غريم (1786-1859) J.&V.Grimm. وقد طرحت هذه المدرسة مسألة شعبية الفن والأدب وأثر الأسطورة في ولادتهما، وكان لها أنصار في كل أوربة انقسموا فريقين استند أولهما في إعادة تركيب الفكر الأسطوري إلى علم التأصيل اللغوي etymology (الألمانيان أدلبرت كوهن A.Kuhn وماكس مولر M.Muller والفرنسي ميشيل بريال M.Breal والروسي فيودور بوسلايفF.I.Buslaev) ، واعتمد الفريق الثاني علم القياس analogy في الموازنة بين الأساطير المتشابهة (الألمانيان فلهلم شفارتز W.Schwarz وفلهلم مانهاردت W.Manhardt). وتفرعت عن هذه المدرسة نظريات عدة منها ما يرى في الأسطورة تفسيراً مجازياً للظواهر الفلكية والنوئية، ومنها ما يرى في الأسطورة مرآة للحياة العادية والأرواح الحارسة والشياطين، وهناك كذلك نظرية الأرواحية التي ألبس أنصارها الطبيعة مفهومهم عن الروح. ويأتي في مقدمة هؤلاء: البريطانيون إدوارد تايلور (E.Tylor (1917-1832 وهربرت سبنسر (H.Spencer  (1903-1820 وأندرو لانغ (A.Lang  (1912-1844 والألماني ليو فروبنيوس (Leo Frobenius  (1938-1873 .

كذلك نالت النظرية اللغوية التاريخية في القرن التاسع عشر شعبية واسعة، فقد عرض بوسلايف مبادئ الدراسة التأصيلية للأساطير في مؤلفه «الملامح التاريخية للأمثال والفنون الشعبية الروسية» (1861) كما عرض أناتولي أفاناسف مختلف النظريات التي طرحتها المدرسة الأسطورية في مؤلفه «نظرة السلاف الشاعرية إلى الطبيعة» (1866-1869)، وكان أثر هذه المدرسة كبيرا في توسيع مفهوم علم الأساطير وعنايتها بالتراث الشعبي والأساطير الهندية والإيرانية والألمانية والكلتية (السلتية) والسلافية القديمة، إضافة إلى الأساطير اليونانية والرومانية الكلاسيكية. كما طرحت مسألة شعبية الفن ووضعت أسس الدراسة المقارنة لعلم الأساطير والفنون الشعبية.

تقلص الاهتمام العلمي بالأساطير مع ازدهار نظرية النشوء والتطور في نهاية القرن التاسع عشر، ولكنه عاد إلى الأضواء مع مطلع القرن العشرين على يد علماء الأنتروبولوجية واللغات، وتبع ذلك دراسات نفسية معمقة وتطوير مناهج علم الاجتماع والأنتروبولوجية والدراسات الفلسفية والتاريخية. وأكدت الدراسات الدينية أنه لايمكن فهم «الإلياذة» على أفضل وجه إلا بالنظر إليها على أنها رواية لتاريخ مقدس، ولايمكن تفسيرها حرفياً. وكان للتفسير العقلاني rationalistic للأسطورة أنصاره منذ القدم وإن تنوعت أشكاله ومذاهبه، وهي تفترض جميعها وجود منظومة محددة للفكر الإنساني نتجت منها النصوص الأسطورية، وما التفسيرات المجازية والرمزية إلا أمثلة على ذلك، لأن المجاز قابل للتكيف تماماً بعد وضوح الفكرة، مع أن الأسطورة عادة لا تمثل الأفكار الحقيقية. وهناك باحثون كثر يعزون وجود الأسطورة إلى عامل الخوف، ومنهم دافيد هيوم D.Hume البريطاني، ويمكن أن يدخل هذا العامل في نطاق التفسير العقلاني إذا ما أقر أثر منظومة الوظائف النفسية في هذا المجال. ولكن الشاعر الإنكليزي وليم بليك W.Blake والفيلسوف الألماني جورج هامان G.Hamann يرفضان التركيب العقلاني لفكرة «الدين الطبيعي» أي الدين الذي يفترض أن يكون عاماً للبشر كافة، في حين يؤكد شلنغ في مؤلفه «مدخل إلى علم الأساطير» (1856) وجود «المطلق» في الأسطورة معبراً عنه  بوجه أو بآخر، بيد أن هذا التعبيريشتمل على بعض التناقضات، ومن واجب الفلسفة أن توفق بينها كي تعيد إلى «المطلق» وحدته التي تستعصي على الفهم. ويرى شلنغ أيضاً أن الأسطورة رواية شفوية يجب حل طلاسمها من أجل الوصول إلى مغزاها، وهو يربط الأسطورة باللغة والمجاز، ويرى أنها تترجم  الصلة بين التشخيص الفني في القصة والرغبة في التعبير عن شيء ما. وقد كان اهتمام شلنغ بما وراء الطبيعة مثار جدل كبير واكبته دراسات رومنسية كثيرة أكدت أثر العاطفة في إبداع الأسطورة ووجدت في الأسطورة تعبيراً عن التجربة الإنسانية مع الطبيعة.

احتلت الدراسات المقارنة منذ عصر الإبداعية مكانة مهمة في دراسة الأساطير مع أنها بدأت قبله بكثير، وفي القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين توصل الباحثون إلى إيجاد الكثير من السمات المشتركة بين أكثر من تراث، ووجد المتأخرون منهم  أنهم مضطرون إلى مراعاة أعمال من سبقهم في هذا المضمار، كما أن الدراسات الفلسفية التي تبحث في وظائف الأسطورة تفترض وجود عناصر قابلة للمقارنة في الأساطير المختلفة. فقد وجد مانهاردت في التراث الشعبي عامة منطلقاً لدراسة نشأة الأسطورة ووظائفها، وحاول في مؤلفه «الأسطورة الدنيا» Lower Mythology جمع أكثر المعطيات تجانساً في التراث الريفي الشعبي، تلك التي ظن أنها قد تكون أساسا لنشأة الأساطير. ويعد العالم البريطاني جيمس فريزر (J.Frazer  (1941-1854 والشقيقان غريم والأمريكي ستيث تومبسون Stith Thompson من أكثر جامعي التراث الشعبي شهرة في العالم.

أما عالم الاجتماع الفرنسي مارسيل موس M.Mauss فيرى أن للأسطورة وظيفة اجتماعية شاملة كما هو واضح من الرموز الدينية التي تشتمل عليها، وأنه لا يجوز الانتقاص من أثرها في المجتمع. في حين يؤكد عالم الأنتروبولوجية البريطاني برونيسلاف مالينوفسكي (1884-1942)Bronislaw Malinowski  ضرورة الأسطورة للمجتمع لأهمية الوظائف التي تؤديها فيه، وخاصة المجتمع البدائي، فهي تفسر العادات والأخلاق والذرائع في تلك المجتمعات ونظرتها الجمالية والدينية والمؤسسات التي قامت عليها. وقد اشتهرت هذه النظرية باسم «الوظيفية» Functionalism أو «النفعية» ومبدؤها أن لكل عادة أو تقليد أو شعيرة في المجتمع وظيفة حيوية أو نفعاً يجب إتمامه، وهي جزء من آلة المجتمع. ويعطي علماء الأنتروبولوجية في كل من بريطانية والولايات المتحدة الأمريكية وظيفة الأساطير أهمبة كبيرة، من حيث كونها مرآة تعكس العلاقات الاجتماعية لدى الشعوب.

كذلك كان للأسطورة مكانة خاصة عند علماء النفس، وقال سيغموند فرويد إن لها ارتباطاً وثيقاً باللاشعور، وإنها تعبير غريزي عن الرغبات المكبوتة، وهي تظهر إلى الوجود عندما تتاح لها الشروط المناسبة. ويعتقد فرويد أن الأسطورة ترتبط بالنفسية الطفولية للإنسان. ويخالف كارل يونغ أستاذه الرأي مع تأكيده رمزية الأسطورة وارتباطها باللاشعور، إلا أنها ترتبط باللاشعور الناضج في حياة الإنسان النفسية وباللاوعي الجماعي، فالأسطورة في رأي يونغ تتألف من صور أصيلة ترمز إلى الحكمة والنضج، وتنبع من دوافع نفسية ثابتة تتكرر في حياة الإنسان وتحضه على التفكير في الكائن الأعلى، وفي طبيعة الإنسان التي تنشد الخلود. وينطلق يونغ في رؤيته هذه من نفسية الجماعة، ومن كون الأسطورة وسيلة تعلم وتعليم في المجتمع تتناقلها الأجيال شفاهاً، وهو يؤكد في هذا المجال دور الأسطورة في الأدب والفن ويسلط الأضواء على العلاقة الوثيقة بين علم النفس والفن والأدب، ويرى أن لجوء الأديب والفنان إلى عالم الأساطير يمنح تجربتهما قوة التعبير، ويماثل الأساطير بالتاريخ الذي يستقي الكاتب منه شخصياته، كما أن الأنماط والصور الأسطورية نفسها ليست إلا نتاج خيال مبدع يحتاج إلى ترجمة لغوية. ويثير يونغ بذلك مسألة توسط اللغة بين الأدب والأسطورة، وكل ظاهرة أسطورية قي رأيه هي ظاهرة ثقافية تنحو نحو المثالية، ولايكون لها معنى إلا إذا كانت لها منفعة دينية.

  أما الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي لوسيان ليفي ـ برول Lucien Levy-Bruhl فيطرح في مؤلفه «العقلية البدائية» La mentalité primitive نظرية جديدة عن أصل الأسطورة، وهو يعزوها إلى التفكير البدائي السابق للمنطق، ويرى أن هذا التفكير يرتكز على ما يعرف من ظواهر لم يجد لها تفسيراً منطقياً. في حين يطرح جيمس فريزر نظرية أخرى هي نظرية التطور الثقافي التاريخي للأسطورة، ويوجز في كتابه «السحر والدين» تطور الشعوب نفسياً في ثلاث مراحل تقوم جميعها على الاعتقاد بقدرة الإنسان على التحكم بقوى الطبيعة، وأولى تلك المراحل السحر القائم على السببية الزائفة، ثم الدين ثم العلم القائم على السببية الحقيقية، وكل أسطورة ليست إلا ترجمة مبالغاً فيها لطقس من طقوس السحر القديم أو عبادة من نوع ما. وقد لاقت هذه النظرية قبولاً واسعاً من علماء الاجتماع والأنتروبولوجية وغيرهم، ومنهم مالينوفسكي صاحب نظرية الوظيفية ، وكذلك عالم الاجتماع الفرنسي جورج دوميزيل الذي طبق أسلوب المقارنة في إثبات العلاقة بين الأسطورة واللغة والتنظيم الاجتماعي. ويرى العالم الروماني مرسيا إلياد (Mircea Eliad  (1990-1907 أن الأسطورة حدث ديني يروي قصة مقدسة وأحداثاً جرت في الزمن الأول، وهي تصف مختلف الانحرافات الدرامية لكل ما هو مقدس في العالم. وينفي إلياد عن الأسطورة كل ما هو غير ديني، ويدعو إلى التفريق بين الروايات الصحيحة والروايات المغلوطة في المجتمعات التي ماتزال الأساطير حية عندها، لأن الروايات الصحيحة تحكي كل ما هو مقدس وخارق فعلاً، في حين تتحدث الروايات المغلوطة عن أشياء دنيوية وإن كانت شخصياتها مقدسة، أما الخرافات فتتحدث عن حوادث لم تستطع أن تبدل شيئاً من الطبيعة الإنسانية وإن كان لها تأثيرها في العالم.

يرى الناقد الكندي نورثروب فراي (Northrop Frye (1991-1912 أن الأدب انعكاس للأسطورة وأن الطبيعة منبتها، وهو يربط في كتابه «الأسطورة والمجتمع» (1976) بين الطبيعة والأسطورة والأدب وأثرها كلها في المجتمع، وقد أصبح لآرائه شأن بين الدارسين. فالأسطورة في رأيه محاولة لرؤية الطبيعة من منظور إنساني، والعلاقة بينهما تخضع لنظام محكم متكامل ونظرة شمولية إلى عالم تُمثِّل فيه الآلهةُ الطبيعةَ من منظور إنساني، ويصور فيه الإنسان وأصله وقدره وقدراته من منظور الطبيعة. وهذه المزاوجة بين الطبيعة والشكل الإنساني تصورها الأسطورة بالمقابلة والتشبيه، فهي توازن بينهما وتبرز أوجه الشبه بأسلوب جدلي. ويرى فراي أن الأساطير تختلط بالأدب في كل الحضارات المعروفة، والفرق بين الأسطورة والأدب هو فارق السياق الزمني وليس البنية، والعلاقة بينهما علاقة شكل لا مضمون، وأن النمط الأدبي لا يأتي من الحياة بل من التراث الذي كان أسطورة في الأصل. وهذا ما نادى به توماس ستيرنز إليوت[ر] أيضا في مقولته: «إن أدب عصر ما هو امتداد للتراث الذي يبدأ من هوميروس وينتهي عند ذلك العصر». غير أن فراي لم يقف عند العموميات التي استند إليها إليوت بل عمل على تحديد طبيعة الروابط بين التراث والأدب، وقال إنها تنشأ من المبادىء الأساسية لبنية الأسطورة، وهي التي تؤلف خلفية بنية الأدب، وتتحول من بنية بسيطة إلى كلام إبداعي مغلف بنسيج لغوي، ومع ذلك فإن الأسطورة تظل أوسع مدى من الأدب، وتشتمل على أشياء كثيرة إلى جانب البنية الأدبية، ويبدو أن فراي أراد من كلامه هذا سد ثغرة في نظريته، في الوقت الذي بدأت فيه البنيوية[ر] structuralism تتلمس طريقها في الخمسينات من القرن العشرين في مجالات الأدب واللغة، وسط تقاليد أدبية راسخة بنى عليها فراي آراءه التي أحلته مكانته بين معاصريه. ومع ذلك فقد كان موقف فراي على طرفي نقيض من أنصار البنيوية، وهي نظرية عامة تهدف إلى دراسة أي ظاهرة على أنها مركبة  من عناصر، وكل عنصر منها يحدد مكانة العناصر الأخرى ووظائفها، وتؤلف كل هذه العناصر في مجموعها تركيباً معقداً يسمى البنية. وقد احتلت هذه النظرية مكانة مرموقة في أكثر العلوم الإنسانية، وخاصة اللسانيات والنقد وعلوم النفس والاجتماع والأنتروبولوجية. ومن رواد هذا المذهب عالم الاجتماع الفرنسي كلود ليفي ـ شتراوس (Claude Lévi-Strauss  (...-1908 الذي بحث إمكانية تطبيق طرائق الدراسة البنيوية على الأساطير بالتفتيش عن أوجه الشبه بين أساطير مختلف شعوب العالم، ثم تحديد الروابط المنطقية التي تربط بعضها ببعض. ويزعم البنيويون أن الأسطورة حية في الأدب وتتمتع بأصالة أزلية وقدسية يتوق الإنسان إلى بلوغها وتمثلها ليسترجع أصالته من خلالها. ويرون أن الأسطورة كانت ميداناً لعمليات منطقية لا شعورية تؤكد النظرة الإجمالية للحياة الإنسانية ومظهرها العالمي، وأن اللغة هي المحور الذي تتمحور الأسطورة حوله، وأن وضع نموذج للأسطورة يؤدي إلى جمودها والحد من قدراتها. وهم يرفضون فكرة الاقتصار على ربط الأسطورة بالفكر البدائي(برول) وباللاوعي الجماعي (يونغ) وبالطبيعة (فراي) وبالدين (مرسيا إلياد) لاعتقادهم أن تحديد نشأة الأسطورة يضع حداً لحياتها. ويدحض شتراوس ما جاءت به المدارس المذكورة منطلقاً من مبدأين اثنين، أولهما: أن التسلسل الزمني لأحداث الأسطورة وشخصياتها غير المألوفة يتعارض مع مضمون الأسطورة وما تهدف إليه، إذ يمكن توقع حدوث كل شيء في الأسطورة، ولا يخضع تتابع الأحداث فيها لقاعدة من قواعد المنطق أو الاستمرار. ومع أن الأساطير تبدو عشوائية التركيب فإنها تتوالد بشخصياتها وتفصيلاتها في أماكن مختلفة من العالم. وأما المبدأ الثاني: فهو أن زمن الأحداث في الأسطورة موغل في القدم، ومع ذلك تتداخل هذه الأحداث فيما بينها وتبدو متصلة بالماضي والحاضر والمستقبل، وهذا يعني أن للأسطورة طبيعة تشبه طبيعة اللغة، وهو ما يفسر علاقة الأسطورة بالبنيوية. إذ لا يتضح مغزى الأسطورة من العناصر المفردة التي تتركب منها، بل من الصور المجملة لتلك العناصر، تماما كالبنية اللغوية. وأن ما يميز الأسطورة من غيرها كونها حكاية يمكن لمن يشاء أن يرويها وأن يوجزها أو يطيل فيها بعبارات مختلفة، إذ لا أهمية للشكل هنا مع ضرورة المحافظة على تسلسل الموضوعات الرئيسة فيها. كما أن ترجمة الأسطورة ونقلها من لغة إلى لغة لا يطرح أي مشكلة من المشاكل التي تعترض ترجمة نص أدبي، لأن أهمية الأسطورة لا تنبع من أسلوب النص أو طريقة السرد أو ضبط اللغة، بل من فحوى الحكاية التي ترويها ومغزاها، وهذا ما يحل ـ كما يزعم شتراوس ـ مشكلة النص الأصلي. كذلك فإن تحليل الأسطورة إلى عناصر وإعادة ترتيبها عمودياً وأفقياً وفق مخطط يجمع بين السمات المشتركة لتلك العناصر،

يفسرالكثيرمن غوامضها. وعلى هذا النحو فإن دراسة الأساطير وفق المنحى الجديد الذي تبنته البنيوية تعتمد على عاملين  أولهما: الشكل اللغوي للأسطورة، أي طريقة عرضها (رواية شفوية متناقلة، أو نص ديني مكتوب، أو نص أدبي أو شعر أو غير ذلك) وتفرعاتها (النسخ المختلفة للأسطورة الواحدة)، وثانيهما: الرمز أو المغزى الذي تهدف إليه الأسطورة، ولا يمكن إدراك ذلك إلا بالموازنة بين أساطير الحضارات المختلفة. فلكل أسطورة كيانها الخاص ولكل منها مغزاها الذي يتصل بمنبتها، ولا يمكن فهمها إلا عن طريق بنائها اللغوي، مع تأكيد نظرتها الإجمالية ومظهرها العالمي في الحياة الإنسانية.

دور الأسطورة في الثقافة الإنسانية

احتلت الأسطورة مكانة ذات شأن في جميع مجالات العلوم وكان لها أثر واضح في تطور بعضها وإغنائه، وخاصة العلوم الإنسانية والاجتماعية والتطبيقية.

الأسطورة و اللغة وعلم الاجتماع: للأسطورة صلة مباشرة بالمسائل المتعلقة باللغة لأنها مادة الاتصال الإنساني، كما أنها وثيقة الصلة بالحياة الاجتماعية والتراث. ومع ذلك لايوجد اتفاق بين الباحثين عامة حول طبيعة هذه الصلات، وليس من الصعب معرفة أسباب عدم الاتفاق هذا، وخاصة أن تصنيف اللغات وتفرعاتها والمجتمعات التي تقوم على أساس اللغة يبقى مسألة خلاف، ويتطلب دراسات أكثر تعمقاً مع أن طرائق البحث العلمي الحديث تسمح بإجراء مسح شامل لهذه المسألة.

يرى بعض علماء اللغة أن هناك حاجة إلى علم جامع يدرس الإشارات والرموز الأساسية في المجتمع، وإلى علم نفس جديد يبدأ بدراسة المشكلات التي تحدد طبيعة المعرفة الإنسانية ومعتقدات البشر، وأنه لا يمكن أن تستهل دراسة المجتمع واللغة إلا بما هو محدد في كلام البشر وعلاقاتهم الاجتماعية المثقلة بتراكمات التراث الإنساني، وهذا هو مجال علم الأساطير.

 يمكن هنا إيراد بعض الأمثلة التي تؤكد تنوع العلاقات والروابط بين الأساطير والمجتمعات وتبين مدى تعقيدها. ففي شمال غربي أوغندة والمناطق المتاخمة لها من الكونغو تعيش قبيلة لوغبارا Lugbara والتي تربط نظامها السياسي والاجتماعي ببطلين من الأجداد لهما علاقة بقصة خلق العالم. وتتحدث القصة عن تحدر القبيلة من أجداد أبطال على نحو ما يروى في قصص البطولة. ويلفت الانتباه هنا ربط الماضي الأسطوري والماضي الفعلي بمفهوم واحد ذي معايير غير تاريخية محددة زمنياً. كذلك تتحدث بعض المراجع الأدبية في الصين القديمة عن أشخاص وأحداث تبدو تاريخية في مظهرها؛ ولكنها في الواقع محاولة لوضع أساطير الأولين ضمن إطار تاريخي ينفي عنها صفة الأسطورة. ويلاحظ مثل هذه المحاولة في بعض كتب التاريخ الروماني التي تتحدث عن أصل رومة ومجتمعها وأنماط الحكم فيها، فتبدو وكأنها تأريخ للأساطير الأولى التي تتحدث عن الصلات الهندية الأوربية. ومن هذه الأمثلة أيضاً النظام الطبقي الهندي وأصوله الأسطورية، ومازالت لهذه المؤسسات قوتها المؤثرة في واقع المجتمع الهندي إلى اليوم. ومن هنا يكاد يستحيل التوصل إلى صيغة عامة مشتركة تفسر التأثيرات الأسطورية في مختلف المجتمعات لتنوعها الكبير، وإن كان يسهل فهم دور الأسطورة في كل محاولة لفهم العلاقات الاجتماعية بين الناس، ومن جهة أخرى يرى بعض العلماء أن بحوث التاريخ وثيقة الصلة في الدراسات الحديثة بالتراث الأسطوري عند الأمم والمجموعات البشرية.

الأسطورة وعلم النفس: تنحصر الدراسات التي قام بها فرويد في مجال الأسطورة في محاولته الفصل بين التاريخ الثقافي للمجتمع والمفاهيم القائمة فيه. وكانت الدراسات التي سبقت فرويد تفترض تحليلاً تاريخياً لفهم مراحل تطور الوعي الإنساني، أما فرويد فقد سعى إلى إثبات استقلال النفس الإنسانية عن التاريخ واعتمادها على المفهوم الحيوي (البيولوجي)، ولايبدل في الأمر شيئاً كونه استفاد من وجهات نظر أنتروبولوجية في هذا الصدد (كزعمه مثلاً أن تقديم الأضاحي مرتبط بأول عملية قتل كان الإنسان ضحيتها)، وكان يرى أن التعبير الرمزي عن الشعور بالذنب أو عن قضاء الرغبات لايتحدد بزمن تاريخي؛ ولكنه يحدث في الأساطير كما يحدث في الأحلام. وقد استند فرويد في رؤيته هذه، وبه اقتدى كارل يونغ، إلى نظرية لوسيان ليفي برول الذي ربط الأسطورة بالذكاء الفطري السابق للمنطق. ويرى فرويد أن الأسطورة نمط من التفكير كان شائعاً عند الإنسان القديم ومازال موجوداً لدى الشعوب البدائية التي تزعم وجود شراكة «روحية» مع الأشياء ولا تفصل بين الذات والشيء، ولكنه تعرض للنقد بسبب تفسيره الأساطير من وجهة نظر عقدة أوديب والكبت الجنسي والشعور بالذنب. أما كارل يونغ فيعتقد أن الصور الأسطورية ظاهرة إيجابية مبدعة مناقضاً تقويم فرويد السلبي لهذه الظاهرة، فالصور الأصلية الأولى عنده صور مميزة تنبع من الوعي الجماعي ومن أساس النفس الإنسانية، ولكنها تضع الأساطير خارج نطاق التاريخ. ويتردد ناقدو يونغ في تقبل رأيه حول كون الوعي الجماعي مصدراً أبدياً لفهم الأسطورة.

الأسطورة والعلوم البحتة: تنبه بعض الدارسين إلى أن الأسطورة تعكس أحياناً بعض التغيرات التي تحدث في الواقع، أو تفترض حدوثها. ومع أن الواقع يتبدل في التاريخ فإن ما يتصل بتغيرات هذا الواقع يثير اهتمام الفلاسفة ومؤرخي العلوم، لأن صورة الواقع أساس كل برهان علمي. ويثير الاهتمام هنا التشابه بين وظائف النماذج models في العلوم البحتة والطب وعلم الأحياء والنماذج التي تشتمل عليها الأسطورة أحياناً بوصفها صيغاً لعالم الإنسان. فإذا مثّل جسم الإنسان في الطب بالمكنة، ونُظر إلى الدماغ على أنه حاسوب متطور، فالأمر لا يعدو استعمال نماذج تسهل الفهم، فإذا حاز النموذج القبول غدا من الصعب إحلال شيء آخر محله، وهنا يكمن التشابه بين الأسطورة والعلم مع احتمال وجود خلاف كبير في تفسير القصد من ذلك النموذج. ففي القرن السابع عشر وبعد أن طرح ديكارت نظرياته غدا من السهل الافتراض أن يفسر الكون على أنه مؤلف من جسيمات دقيقة تتحرك وتتجاذب، كذلك فإن النزوع إلى المطلق في أكثر نماذج تاريخ العلوم قريب جدا من الأسطورة، ومع ذلك فثمة فروق كثيرة بين هذين المجالين، فمع أنه من الصعب تبديل النماذج في العلم فإن هذا التبديل ممكن الحدوث وقابل للتكرار، ويحذر العلماء كثيراً من وضع قيود مشددة على النماذج المطروحة في العلوم العصرية، أما الأسطورة فلا تقبل التبديل ليحل غيرها محلها في المجتمع الذي نشأت فيه وأثرت، وإن كان في وسع الغريب عن ذلك المجتمع إدخال بعض التغيير على الأسطورة نفسها أو تبني غيرها. والأكثر من ذلك أن أهمية نماذج العلوم تقتصر على المعنيين بها، وتقتصر وظيفتها على قطاع صغير من المجتمع، وإن تبدلت مكانتها من عصر إلى عصر، أما الأسطورة فيبقى تأثيرها أوسع نطاقاً بكثير. ومع بعد المسافة بين الأسطورة والعلم فقد بين تاريخ العلوم أن العلم الحديث لم يكن كله ثورة على الأسطورة، ولم تزلزل ولادته مكانتها أو تزاحمها. وقد تطرح نظرية في الطب على المستوى الأكاديمي في عصر ما، ثم تنحط مكانتها تدريجياً حتى مستوى الطب الشعبي في عصر آخر، وقد تعود تلك النظرية لتحتل مكانة مرموقة في عصر تال. وقد ظل علماء الطبيعة من اليونان القدماء يحتلون مكانة المؤسسين للعلوم أمداً طويلاً جداً، مع أن بعض وجهات النظر التي طرحوها كانت قريبة جداً من أساطير الخلق في زمانهم، كذلك انغمس رواد العلوم الحديثة من أمثال كبلر ونيوتن ولايبنتز في تتبع مسائل ما وراء الطبيعة التي لم تكن في الواقع إلا مسائل تراثية وأسطورية الطابع. ولعل أوضح مثال على ذلك ما يلمس في نظرية الطبيب الإنكليزي وليم هارفي الذي ربط الدورة الدموية بحركة الكواكب، وكذلك تشبيه داروين لدورة الطمث عند المرأة بالمد في المحيطات. ويرى كثير من المفكرين، وفيهم عالم اللاهوت بول تيليش P.Tilich والفيلسوف كارل جاسبرز K.Jaspers أن البعد الأسطوري أساس في كل علم، فالتفكير ينطلق من الأسطورة أو من عنصر من عناصرها، ويتدرج في تطوره حتى يبلغ درجة العلم والمبدأ. ويلاحظ ذلك بوضوح في علوم الفلك والأحياء والفيزياء وغيرها، ولاتخرج قصص الخيال العلمي التي غدت واقعاً علمياً عن هذا النطاق. وليس أدل على أثر الأسطورة في العلم الحديث من مئات المصطلحات العلمية التي تزخر بها أسرة اللغات الهندية الأوربية والتي اقتبست من مصطلحات أو تسميات أسطورية أغلبها من أصول يونانية أو اسكندنافية قديمة. وأقرب مثال عليها أسماء الكواكب المعروفة مثل: جوبيتير (المشتري) وميركوري (عطارد) وساتورن (زحل) وفينوس (الزهرة) وغيرها.

الأسطورة والدين: تختلف مكانة الأسطورة باختلاف أشكال التراث في المجتمع، ومع أنها قد تتعارض مع بعض التراث الديني إلا أنها تبقى لصيقة به في ذلك المجتمع. ويعتقد جيمس فريزر أنه لما كانت الأساطير علماً بدائياً وظيفته التفسير والتعليل فإن ثمة أساطير وجدت لتفسير بعض الشعائر والطقوس، ذلك أن كثيراً من القصص التي تدخل في نطاق «حكايا العلة» لاتخرج عن كونها نوعاً من الأساطير، وهي تصادف في تراث الشعوب المختلفة. ويرى كثير من مفكري القرن العشرين أن الأساطير في صيغها البدائية ليست أكثر من إعلام بما حدث فعلاً وبما هو مرغوب فيه. وهناك أساطير وجدت لتعليل شعائر محددة. وقد جرت على هذا الأساس دراسات عدة تؤكد الروابط بين الشعائر والأساطير المتصلة بها، ومنها محاولات للبرهان على أن الشعيرة سابقة للأسطورة، وأن الأسطورة وجدت لتفسيرها أو شرح مضمونها أو أنها النص الذي تشتمل عليه الشعيرة. وقد لقي هذا المنحى تأييداً كبيراً بين المفكرين وجرى تطبيقه أول الأمر على الأساطير اليونانية، ثم على عناصر الثقافة اليونانية القديمة كلها كالأدب والفن والفلسفة حتى وصل إلى الكتب المقدسة والملاحم والروايات والقصص الواقعية، واتسع نطاقه فيما بعد حتى شمل الثقافات الأخرى في مشارق الأرض ومغاربها. وسرعان ما انتشرت عدوى هذا التفكير وبولغ فيه حتى صار لكل شعيرة أو طقس أو تقليد أصل يفسره، ومن ذلك مثلاً طقوس الدفن وتلقين الميت وتقاليد الزواج وتقديم الأضاحي واحتفالات التعريف بالأسرار المقدسة في مختلف المجتمعات. بل إن أحد الباحثين الإنكليز حاول إرجاع جميع الوقائع المتصلة بتاريخ إنكلترة في العصور الوسطى إلى طقوس قديمة فيها. وقد ساعدت الدراسات والمعطيات الجديدة التي توصلت إليها علوم الأجناس والسلالات وأصل الإنسان وغيرها من العلوم الإنسانية في إنجاح نظرية الشعائر هذه، فأصبح ممكناً دائماً إيجاد صلة ما بموضوع الأسطورة المطلوب تفسيرها علميا والطقوس والشعائر التي يمارسها مجتمع ما.

إن وجود علاقة ما بين السلوك الشعائري والأساطير أمر يكاد يكون مؤكداً، إلا أن علماء الكتاب المقدس الغربيين يرون ضرورة النظر إلى المواقف الحياتية والتقاليد التي تمارس من زاوية أصولها ونشأتها، وهناك عدد كبير من الباحثين، وأكثرهم من بريطانية والبلاد الاسكندنافية يؤكدون أثر الأسطورة في الطقوس، ويطلق على هؤلاء عادة اسم «مدرسة الشعائر الأسطورية» وتتركز أعمالهم غالباً على دراسة أساطير الشرق القديم والأديان السماوية، ومن النظريات التي أثارت ضجة في هذا الصدد نظرية «البابلية» Babilionisme التي طرحها عدد من المهتمين بالأساطير. وتزعم هذه النظرية أن البابليين هم أصحاب الفضل في وضع علم أصل الكون cosmogony وعلم الفلك، وهم يعدون أساطير البابليين عن الفلك أساس أساطير العالم كله.

 وقد بينت دراسة أساطير الشعوب البدائية و ممارساتها الشعائرية أن المسألة أعقد بكثير مما تفترضه نظرية الشعائر في تفسير الأسطورة، وقد تم دحض الكثير من هذه التفسيرات. ومع ذلك فثمة أساطير كثيرة تفسر شعائر مختلفة وتصفها، ومثل ذلك أساطير كثيرة بعيدة عن الحقائق كل  البعد، وأساطير أخرى لاصلة لها بأي شعيرة أو طقس، والعكس صحيح أيضاً. فالصلة بين الشعائر والأساطير عرضية في غالب الأحيان، وإذا وجدت صلة مؤكدة فليس ثمة برهان على أن إحداهما سبقت الأخرى، وإذا ما أعطت الأسطورة الشعيرة معنى مقبولا فإن الغاية من الشعيرة وأصلها يبقيان لغزاً من الألغاز.

 وكان أصحاب نظرية التطور يرون أن سلوك الإنسان الأول كان غير عقلاني ثم أخذ يكتسب القدرة على التفكير تدريجياً، ورآى آخرون، تحت تأثير الفلسفة الوجودية، أن الأسطورة «حية» وتعيش بين الناس، أما وجهة النظر التي تبدو أقرب إلى الواقع فهي الإقرار بعدم وجود قانون ضابط للعلاقة بين الأسطورة والشعيرة، ومن العسير جداً إثبات أيهما أسبق، وإن محاولة معرفة  ذلك مسألة عقيمة. والأهم من ذلك كله أن مضمون بعض الأساطير التي لها شأن وتتحدث عن أصل العالم يعكس غلبة صيغة ثقافية لتراث ما، إذ يلاحظ أن أساطير مجتمعات الصيد تتحدث عن أصل الطرائد وتقاليد الصيد، في حين تميل المجتمعات الزراعية إلى منح الأولوية إلى الممارسات الزراعية، وتميل المجتمعات الرعوية إلى تفسير تقاليد حياة الرعي، وعلى هذا النحو تصادف في بعض أنواع التراث القديم أساطير تتحدث عن أصل الخليقة والختان وتقاليد المجتمع السرية واستعمال الأقنعة الاحتفالية وصيد الرؤوس وأكل لحوم البشر وجمع المحاصيل وبعض المهن الخاصة. والمقدسات موجودة في كل أنواع التراث الديني وفي كل المجتمعات، ومنها الصور والأيقونات والكتابات المقدسة والتماثيل، وكلها تحمل مسحة أسطورية لأنها تمثل حقائق أو شخصيات مقدسة بطريقة مرئية كما تمثلها الأسطورة بأسلوب الرواية. والرموز الدينية مرتبطة من هذه الناحية بالصيغة الأسطورية ارتباطاً مباشراً لأنها تحكي أشياء غير مألوفة، أما تمثيل الأشكال الإنسانية كما تبدو في الطبيعة فأمر نادر الحدوث، لأن الأشكال غير الطبيعية هي المفضلة دائماً في ممارسة الطقوس وتمثيل الموضوعات التي تتحدث عنها، والأمثلة على ذلك كثيرة في تاريخ الأديان. أما الشخصيات المقدسة الشهيرة عند الإغريق القدماء فاستثناء حتى في دياناتهم، ولكن الأقنعة تتمتع بميزة خاصة في الطقوس الهيلينية كما هو شأنها في تقاليد شعوب أسترالية البدائية وفي الأمريكتين وفي إفريقية وأوربة قبل التاريخ.

 أما النصوص المقدسة فتعتمد بطبيعة الحال على الديانة المعنية، وخاصة الأديان السماوية. ففي العهد القديم كثير من المواد الأسطورية، وتعتمد اليهودية على الأساطير من بعض الأوجه، ولكنها ترفض تمثيل الإله في صور، وكان للأساطير والخرافات اليهودية أثر مهم في تاريخ اليهود وثقافتهم. ويستحق بعضها الدرس والاهتمام لأنها تعد، مهما كان أصلها ومصدرها، جزءاً لايتجزأ من الكتاب المقدس الذي يغذي التراث الثقافي في العالم الغربي بفنونه وآدابه وأساليب تفكيره، ولأن اليهود أسهموا في العصور الوسطى بنقل أساطير الشرق القديم إلى الغرب. والأساطير التي تنسب إلى اليهود ليست كلها من أصل يهودي، بل إن أكثرها مقتبس عمن جاورهم من الشعوب الأخرى، ولكن ما يقتبسه اليهود كان يدمغ عادة بطابع اليهودية ويعدل لتأكيد وصايا ما يعتقدونه وما يريده أحبارهم. ويستعمل أكثر هذه المقتبسات من أجل تثقيف الأطفال دينياً وتربيتهم عليها منذ الصغر فيشبون وقد أشبعوا بها عقائدياً. ويمكن للدارس أن يتقصى المراحل التي مرت بها الأساطير الدينية اليهودية بسهولة بتلمس تأثيرات العصور المختلفة في الأدب اليهودي منذ السبي البابلي والحكم الفارسي الأخميني والعصر الهليني والعصر العربي الإسلامي وحتى العصور الوسطى في أوربة، كما يمكن تلمس التأثيرات الغربية عامة والألمانية خاصة منذ عصر النهضة إلى اليوم في القصص اليهودية المكتوبة بلغة اليديش (اللغة العبرية ـ الألمانية).

أخذت المسيحية عن اليهودية بعض مفاهيمها وتأثرت بها، كما تأثرت بالتراث الإغريقي وأساطيره مع ما أدخل عليها من تعديل وتشذيب، ولكن الكنيسة المسيحية في القرن التاسع عشر فسّرت الأسطورة على أنها استعراض لحقائق معبر عنها في صورة قصة يشوبها الخيال، واستمر أثر هذا التفسير في الأدب الشعبي المتداول حتى اليوم، ولعل هذا هو السبب الذي يدفع الكثيرين من مسيحيي القرن العشرين إلى رفض فكرة احتواء المسيحية على عناصر أسطورية في لاهوتها وممارساتها، وقد تم تحوير كثير من الموضوعات الأسطورية المقتبسة عن اليهودية والحضارة اليونانية بما يتفق والمفهوم المسيحي للتاريخ ومع تطور العقيدة المسيحية، ومن هذه الموضوعات أصل العالم وسقوط الإنسان، والإله في صورة البشر وغير ذلك.

هناك ثلاثة تفسيرات للأسطورة في المسيحية يراها علماء القرن العشرين أولها التفسير التاريخي للأديان، وثانيها التفسير النفسي التحليلي، وثالثها تفسير الخلق والوجود. يتناول التفسير الأول الأسطورة على أنها تاريخ مقدس، ويعد مرسيا إلياد من رواد من يتبنى هذا الرأي الذي يفسر «اختراقات» الكائن الأعلى (أي الرب) لهذا العالم في أشكال وأوجه مختلفة، كالعشاء الرباني والخميس المقدس، ويساعد هذا المؤمنين على فهم أصلهم ومكانتهم في هذا الكون. أما التفسير الثاني فيعرِّف الأسطورة بأنها وصف للأصول الرمزية والصور الناشئة عن اللاوعي التي تساعد الإنسان على تعرُّف أحواله وإدراك طبيعة معاشه. أما التفسير الوجودي الثالث فقد حاز قبولاً واسعاً من علماء الكنيسة. ويرى عالم اللاهوت الألماني رودلف بولتمان أن الأسطورة نوع من أنواع التعبير الذي يستطيع الإنسان فهمه، وإن الصور التي تتضمنها الأسطورة مأخوذة من هذا العالم الذي يختلف اختلافاً تاماً عن مملكة السماء.

أما الإسلام فيرفض الأسطورة رفضاً قاطعاً، ويؤكد سمو الله ووحدانيته ليقطع الطريق أمام أي زخرفات أسطورية، وإن بدرت من بعض المفسرين والدعاة والقصاص الشعبيين محاولات غير مقبولة لتفسير بعض قصص القرآن مستعينين بالمفاهيم والصور التي تتقبلها الأديان الأخرى أو بالتراث القديم وخاصة الإسرائيليات والتفسير التوراتي وبعض التقاليد المسيحية. وتزخر كتب التراث الإسلامي بمثل هذه المحاولات التي تبناها بعض الفقهاء. يضاف إلى ذلك القصص المتخيلة التي أضفيت إلى السيرة النبوية وسيرة آل البيت وكرامات الصحابة وبعض الأولياء الصالحين، وكانت كلها مصادر لحفز الوازع الديني وحض المسلمين على الاقتداء بالسلف الصالح، ويعمل علماء الدين الإسلامي اليوم على دراسة الوسائل التاريخية التي تهدف إلى تخليص التاريخ الإسلامي من الشوائب التي لحقته وتحرير الشخصيات الاسمية مما لحق بهم من أباطيل ونزع الصفة الأسطورية عن الإسلام.

الأسطورة والفن: لم تُعرف أساطير الحضارات القديمة إلا لأنها جزء من تراث مكتوب، وكل ما وصل إلى العصر الحاضر من أساطير اليونان والرومان معدود من التراث الأدبي، أما أقدم مصادر هذا التراث فهي ملحمة هوميروس [ر] الشعرية من القرن الثامن قبل الميلاد. ومع أنه من الصعب التحدث عن وظائف أكثر أساطير التراث الشفهي المتناقل، فقد غدا في وسع العلماء تلمس مكانة تلك الأساطير وأثرها في الأدب والفن، وما يزال العمل العلمي في هذا المجال بعيداً عن الكمال، كما في وسعهم استنباط الموضوعات الأسطورية من الملاحم واستنباط الوظائف الأسطورية للملحمة. فقد كانت ملحمة هوميروس الأساس الذي تقوم عليه التربية في اليونان، كما أن ملاحم الهند المعروفة (المهابهراتا والرامايانا) تقوم مقام الموسوعات الحديثة، وتقدم للدارسين نماذج مختلفة من الوجود الإنساني. وسواء استفاد الأدباء والفنانون من حوافز الأسطورة أم لم يستفيدوا فإن للكلمة المكتوبة والمصوغة صياغة مناسبة سحرها المماثل لسحر الأسطورة.

إن هذه العلاقة التي تربط الأسطورة بالأدب يمكن تلمسها بوضوح في أنواع الفنون الأخرى. ويمكن التأكيد هنا أن العمارة وفن النحت كانا سباقين إلى توثيق الأساطير قبل الأدب بزمن بعيد يصعب تصور بداياته. ويؤكد تاريخ المكتشفات الأثرية المعمارية أولية التثميل الأسطوري فيها، وتعد النصب المقامة من جلاميد الصخر ومنشآت الدفن من أقدم الأوابد المعمارية المعروفة للإنسان، وأشهرها على الإطلاق أهرام مصر ومدافن حكام الصين من أسرة شو (1122-221ق.م). ومع أنه قد يكون من المستحيل استرجاع كل التفاصيل الأسطورية التي أوحت بإقامة مثل هذه المنشآت فإن الثقافات القديمة غنية بالشواهد على التوجه الأسطوري الذي اتخذ الإنسان بمقتضاه مكانه في هذا الكون على أساس الجهات الأربع وقبة السماء والأرض من تحتها، فكانت منطلقه في نشاطه المعماري. ويلخص المعمار الروماني فتروفيوس Vitruvius قواعد البناء في العالم القديم ونظمه المختلفة مشيراً إلى شكل المعابد ووضعها والآلهة المميزين الذين كرست لهم تلك المعابد، ويَعُدّ فتروفيوس العمود الدعامة pillar عنصراً أساسياً فيها لأنه صورة أسطورية لما يربط عالم الإنسان بالسماء، وهذه الصورة موجودة في حضارات الصيد، وظلت حية في العصر الحجري الحديث وفي عصور ما قبل الميلاد. ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن الفصل التام بين العمارة الدينية والعمارة المدنية كما هو معروف في العصور الحديثة لم يكن معمولاً به في الحضارات القديمة، ولايطبق هذا الفصل كاملاً حتى في العصر الحديث، ويمكن أن يلمس بعض المظاهر الأسطورية العامة في المباني المدنية والدينية على حد سواء، كما في مباني البلديات وقصور العدل والمحاكم في أوربة وغيرها، وكما يشاهد في الكنائس وغيرها من دور العبادة أيضاً. وقد أنتجت الهند القديمة وفي العصور الوسطى مؤلفات كثيرة عن العمارة والفن اشتملت على تعليمات مختلفة عن بناء المعابد والمساكن وتخطيط المدن على أساس المفاهيم المتوارثة.

وتعد الأسطورة كذلك أحد الجذور الرئيسية لفن التمثيل، وهذا أمر واضح تماماً في الأدب الكلاسيكي اليوناني لغناه بالموضوعات الأسطورية والعروض المسرحية التي تقدم الأحداث والحقائق بأسلوب يحاكي الأسطورة. وكان المواطنون في مثل هذه المسرحيات يقومون مقام الجوقة. ويؤكد مؤرخ الديانات الأمريكي تيودور غاستر T.Gaster أن فن التمثيل (الدراما) كان في الشرق القديم وليد العلاقات المتبادلة بين الأسطورة والشعائر، وأكثر التمثيل المسرحي في العصور القديمة يرجع في جذوره إلى الأساطير (مسرحيات «نو» في اليابان ومسرحيات  الوايانغ في جاوة وغيرها)، وأن تمييز الغرب اليوم العروض الدينية من عروض المتعة لم يكن له قيمة تذكر في هذا المجال. وقد كان للرقص أولوية في أكثر الفنون التمثيلية التي لها صلة بالتجربة الأسطورية، وهو نوع عالمي من أنواع التعبير، ودوره في الأساطير واضح مع أنه من الصعب جداً فهمه اليوم لأن هذا العصر مطبوع بالعلمانية، وقد ابتعد الرقص كثيراً عن الأسطورة في الأزمنة الحاضرة مع أن الاهتمام بالباليه والرقص الشعبي مازال مستمراً.

ولما كانت الموسيقى مرتبطة بالرقص في وظيفتها الإيقاعية، فهي على علاقة وثيقة بالأسطورة، وكثيراً  ما ينظر إليها في التقاليد الموروثة على أنها إبداع في ملامح أسطورية مع أنها أقل اعتماداً على الأسطورة من بقية الفنون. وقد تستعمل الموسيقى أحياناً، كما هو شأن الأسطورة، في شفاء المرضى بهوس الرقص tarantism (وهو نوع من الهيستيريا ظهر في القرن الخامس عشر في إيطالية واستمر حتى القرن السابع عشر وقيل إنه يشفى بالرقص الجنوني)، ومع أن أكثر أغراض الرقص الديني المرتبط بالموسيقى في التاريخ الغربي الحديث قد تضاءل شأنه فإن الموضوعات الأسطورية في الموسيقى لم تختف بعد كما في الأوبرا والأوراتوريو (الإنشاد الديني).

بعض أنماط الأسطورة

إن تصنيف الأساطير في أنماط معينة على أساس المضمون والوظيفة والغاية صعب جداً، فالمشكلة الكبرى تنصب في تعريف الأسطورة وتأثير هذا التعريف في تصنيفها، والأهم من ذلك اختلاف الرأي حول عَدِّ الأسطورة بعداً دائماً في حياة الإنسانية كلها أو أنها مرحلة ماضية من مر احل تطور الوعي الإنساني. ومع أن أكثر الدارسين يميلون إلى هذا الرأي الأخير فإن الرأي الأول يسترعي الاهتمام في الوقت الحاضر، وإن علم الأنماط أو «النمذجة» typology الذي يبدأ بتعرُّف البعد الأسطوري الدائم في الوجود الإنساني يجنح إلى ترتيب الموضوعات الأسطورية في مراتب محددة وتحديد أولوياتها. ومن ذلك مثلاً تأكيد مرسيا إلياد أولوية حكايات النشأة والأصل، في حين يميل فريدريخ شلنغ إلى القول بأسبقية أساطير الآلهة والألوهية. وعلى هذا فإنه لا يمكن إيجاد معيار حاسم تحدد فيه أنماط الأساطير إلا إذا أمكنت دراسة كل  الأساطير دراسة معمقة، وما يزال الباب مفتوحاً أمام الدراسات اللاحقة في هذا الموضوع. كذلك قد يكون من الصعب وضع قائمة شاملة تضم الموضوعات الأسطورية الكثيرة التكرار، أو اعتماد قائمة بعينها. وفيما يلي بعض الأنماط الرئيسية للأساطير:

أساطير النشأة والأصل: وهي الأساطير التي تتحدث عن أصل الأشياء ونشأة الكون والخلق. وكثيراً ما يستعمل هذان المصطلحان على أنهما مترادفان مع الفارق الكبير بينهما. فنشأة الكون أو أصله أعم وأشمل لأنه يشير إلى أصل لا سابق له، في حين تتحدث أساطير الخلق عن خالق ومخلوق، ولا ينطبق ذلك على بعض أساطير النشأة كتلك التي تزعم أن أصل العالم فيض emanation أو انبثاق ذاتي، وليس من فعل act فاعل. ومع ذلك فإن مصطلح الأصل يستعمل بتحفظ شديد عند الإشارة إلى نشأة الأكوان لأن أصل العالم نادراً ما يحتل نقطة الارتكاز في الرواية الأسطورية، وكثيراً ما يقصد به الأساس أو الأرضية التي قام عليها هذا العالم. أما قصص الخلق في الحضارات البدائية والمتقدمة فتتحدث عن «فعل الخلق» على أنه تشكيل للأرض والعالم الموجودين قبل ذلك الفعل. فالأرض سابقة الوجود في أكثر أساطير «النشأة» البدائية وخاصة في إفريقية، أما الخلق من العدم أو من لاشيء فلا يمكن حدوثه إلا في أعراف الحضارات الأكثر تعمقاً في الفكر الفلسفي. والماء على أهميته لكل الأحياء يحتل مكانة معينة في أساطير آسيا وأمريكة، حيث يغوص الخالق في المحيط بحثاً عن الأرض، ويساعده في بحثه غواص آخر، وقد يتحول هذا الغواص المساعد إلى خصم أو عدو للخالق أو ما يحاكي الشيطان في الحضارات المتقدمة والديانات السماوية. ومن الأساطير ما يعتمد على المثنوية في الخلق أو يسعى إلى تفسير الصراع بين الخير والشر، وفيما إذا كان الشر متأصلاً في الكون من دون أن يكون الخالق مسؤولاً عنه. وثمة أساطير نشأة تتحدث عن «بيضة أصل الكون» cosmogony egg، وهي مألوفة في عالم المحيط الهادئ وبعض أنحاء أوروبة وجنوبي آسيا والهند، ومنها الأساطير التي تتحدث عن ولادة الكون من أبوين the world parents غالباً ما يكونان في صورة السماء والأرض، أو عن كلمة ينطقها الخالق فيخلق الكون كما في بولينيزية مثلاً.

إن «نشأة الكون» أو أصله في أكثر الموروثات الأسطورية هي أساس كل شيء، وبها ترتبط بقية الأساطير، وكل ما يروى عن نشأة الكون له معالم مشتركة عالمياً ويعد تعبيراً عن النزعة الأسطورية عند الإنسان مهما اختلفت القارات والأزمان، وفي كل أسطورة منها حديث عن الأضداد كالسماء والأرض والنور والظلام، وعن أشياء حدثت وتخرج عن نطاق الإدراك ولا يمكن تفسير سببها كالزمن السابق لانفصال الأرض عن السماء، والوقت الذي كان فيه النور والظلمة متداخلين، أي حين كانت الأجزاء الإنسانية التي تؤلف العالم الإنساني مفترضة سلفاً. ثم حدث أن تحققت أو توطدت على النحو المعلوم في الرواية. وقد يعاد تركيب الرواية مرات ومرات مع الارتقاء بها إلى حدود المفهوم والسبب الفعليين.

 ولأن الكون هو عالم الإنسان، فإن أصله مرتبط به، فالإنسان يسكن الأرض لأن الآلهة تريد له ذلك، وقد يرجع في أصله إلى السماء أحياناً. ومن الأساطير ما يعكس الوضع تماماً فيكون الإنسان محور الكون والمركز الذي يدور حوله كما في الفيثاغورية Pythagoreanism (حركة فلسفية صوفية يونانية) والأورفية Orphism (حركة دينية صوفية يونانية) والغنوصية Gnosticism (هرطقة مسيحية مثنوية مقصورة على الخاصة) و التنترية Tantrism (فلسفة هندوسية بوذية تأملية مقصورة على الخاصة). وقد يصعد الإنسان من أعماق الأرض كما في ديانة الزوني Zuni (من الهنود الحمر الأمريكيين)، أو يخرج من صخرة أو شجرة مقدسة، أو يتشكل من أديم الأرض كما في سفر التكوين (الكتاب الأول من العهد القديم) أو من مزيج التراب والدم كما في أسطورة الخلق البابلية.

أساطير الآخرة ونهاية العالم: تتحدث هذه الأساطير عن النهايات التي تقابل «الخلق» أو الابتداء، كما تتحدث عن أصل الموت المقابل للحياة. ومنها ما له صفة خاصة كالأساطير التي تتحدث عن «المخلص» و«المسيح الكذاب» و«الألفيات» (الاعتقاد بمجيء المخلص أو المختار في نهاية كل ألف من السنين). والأساطير التي تتحدث عن الموت وأصله واسعة الانتشار وتتنوع موضوعاتها، ويزعم أكثرها أن الموت لم يكن موجوداً في الأزمنة الأولى، وأنه حدث نتيجة خطأ أو عقاب، أو أنه حدث في مقابل الولادة، وهو أمر ضروري لاستمرار الوجود. ومن الأساطير ما يتحدث عن نهاية العالم نهاية صاعقة كالحريق الجائح الذي يلف العالم والصراع الحاسم مع الشر وهزيمة الآلهة، كما في الأسطورة الألمانية وأساطير نهاية العالم عند الغربيين وأكثر الديانات الشرقية، والتنبؤات كثيرة عن نهاية العالم التي تتحدث عنها حركات دينية مختلفة أو ورد ذكرها في بعض الحوادث التاريخية.

أساطير القضاء والقدر والعناية الإلهية: هناك حالات كثيرة يربط فيها الإنسان مصيره ومصير مجتمعه بظواهر كونية أو طبيعية، وثمة مجال واسع من الوقائع الأسطورية التي تربط بين الحسابات الفلكية (التنجيم) وخضوع الإنسان لقدره. ويؤكد غالب الأساطير سيطرة الآلهة على القدر، فمردوخ رب الأرباب في بابل يملك «حبوب القدر»، وزيوس هو الإله المسيطر عند هزيود Hesiod، ولكنه يصبح عديم القدرة في وجه القدر عند يوربيدس  الذي يستعمل مصطلح «قانون الطبيعة» في شرحه سبب نشوء العالم. وإن وجهات النظر الأسطورية فيما يتصل بالقضاء والقدر والمصير تلقي ظلالها على الموروثات الدينية والاجتماعية التي تتحدث عن العدالة والقانون الإلهي ومشكلة «الجبرية» determinism الفلسفية، والمسائل اللاهوتية المتعلقة بالعصمة الإلهية (براءة الرب من أعمال الشيطان الظاهرة) و«القدرية» predestination. وثمة فارق مهم في الحسابات الأسطورية بين العناية الإلهية في الديانات السماوية وتلك التي تعطي أهمية محدودة للظواهر الكونية كما في البوذية.

أساطير الزمن والأبدية: ترك انتظام الأجرام السماوية وحركتها انطباعاً عظيماً لدى بني البشر في كل العصور، فالسماء صورة مثلى للسمو، ودوران الشمس والقمر والنجوم دوراناً منتظماً يوحي بزمن هو «الأبدية»، يرتقي فيه الإنسان إلى ذلك العالم العلوي ويعيش فيه. والأساطير أو الصور الأسطورية التي تتحدث عن علاقة الأبدية بالزمن وارتباط مصير البشر بالأعداد كثيرة جداً ولعل العدد أربعة هو العدد الأكثر شيوعاً على مر العصور. ويقال في فارس القديمة إن العالم كله يدوم اثني عشر ألف سنة مقسمة على أربع فترات، ينتصر أهورامزدا (سيد الحكمة) في نهايتها على إهريمان (المخادع). وفي سفر دانيال (في العهد القديم) أربع ممالك هي على الترتيب الذهب والفضة والبرونز ومزيج الحديد والطين، وبعدها يقيم الرب مملكته الدائمة. وهذه العصور الأربعة المرتبطة بالمعادن موجودة في كتابات الأقدمين وتصورهم للزمن والتاريخ، وقد طورت اليهودية فكرة الألف سنة بين عصور العالم الأربعة والمملكة الدائمة، ومن هنا جاء مصطلح الألفية، وعبارة «تؤلف ولا تؤلفان». وفي المكسيك القديمة يسبق هذا العالم أربعة عوالم، كما توجد نصوص في الهندوسية والبوذية تتحدث عن منظومة متكاملة من العوالم التي وجدت وانتهت، وتتألف من أربعة عصور (يوغا) يتناقص طولها ويتفاقم الشر فيها. ومن الأعداد الأخرى ذات المغزى في موروثات البشر الثلاثة، والستة، والسبعة، والاثنا عشر، والاثنان والسبعون. وهناك كتابات كثيرة تتحدث عن أرقام كبيرة غالباً يعدها علماء الأنتروبولوجية والفلاسفة مغرقة في الخيال، ولكنها تعكس حسابات وأرصاداً فلكية قريبة من الصحة.

 وتتحدث بعض الأساطير، وخاصة أساطير شعوب «المايا»، عن علاقة الزمن بالفضاء (الكون)، ويدل التراث الأسطوري على أن تجدد العوالم بعد تدميرها ممكن الحدوث، ولا يقتصر ذلك على الهنود أو غيرهم من الشعوب القديمة بل يتعداهم إلى مذاهب أخرى كالأورفية والرواقية عند قدماء اليونان.

أساطير التقمص والتناسخ والتجدد: يتبنى أكثر الأساطير القديمة مفهوم الكون والطبيعة والإنسان وعلاقاتهم بالزمن ودوراته، ويعتقد أهالي أسترالية الأصليون أن الإنسان يتقمص من خلال أمه عند الولادة فيدخل الحياة الدنيوية والزمن المقدس، وفي أثناء جنازته يعود إلى حاله الروحية الأصلية. ويمكن أن ينطبق هذا القول على كثيرٍ من الشعوب البدائية لأن أساطيره تدخل في دورات الزمن، وهناك أساطير خاصة تروى عند التحضير لممارسة بعض الطقوس، وأكثر موضوعاتها تجدد الكون لدوران الزمن وتجدد الإنسان عن طريق الولادة، والتقمص.

وطقوس تحديد جنس المولود إضافة إلى التجدد الموسمي في المناسبات كالنوروز ورأس السنة وغيرها. ودورة الزمن هذه موجودة في كثيرٍ من الموروثات الدينية والفلسفية كالبراهمانية والبوذية والأفلاطونية وغيرها.

أساطير التذكر والنسيان: يزعم بعض الأطباء الشعبين في أمريكة الشمالية أنهم يتذكرون حياتهم السابقة قبل الولادة وهذا مايفتقده بطبيعة الحال أكثر الناس. وثمة أساطير تنحو هذا النحو وتتحدث عن التذكر والنسيان memory and forgetting المتوارثين عند أكثر المجتمعات القديمة. إذ إن معرفة العالم الحقيقي التي تتجاوز الإدراك العادي ليست في متناول كل فرد ولا يتساوى فيها اثنان، وقد تمثل أساطير «التذكر» صورة الحنين الجماعي إلى الماضي. فقبيلة يارورو Yaruros في جنوبي أمريكة تجهل كل شيء عن الزراعة والرعي، وهي واحدة من قبائل كثيرة تعيش في وسط الحضارة الغربية المعاصرة وقد تخلت عن النضال من أجل وجودها الاجتماعي والحضاري، ويبدي أفرادها حماساً للعودة إلى أحضان أمهم العظيمة التي تحكم أرض الأموات. وثمة أساطير تَذَكّر أقل مأساوية من تلك، ولكنها تحتل مكانة مهمة في تراث بعض الشعوب، ولها دلالة عظيمة في تقاليد من يؤمنون بالتقمص أو التناسخ أو التمثّل. فقد يزعم بعض الناس أنهم يتذكرون حياتهم السابقة، وقليل منهم يدعون تذكر البدايات الأولى وفيهم بوذا، أما احتجاب «مايا» (الخداع) في الأساطير الهندية فيمنع الإنسان من تذكر أصله الحقيقي. وتزعم أساطير اليونان أن منيموسين (الذاكرة) Mnemosyne والدة الموزيات Muses (آلهات الشعر والفن والعلم التسع) تعرف كل شيء عن الماضي والحاضر والمستقبل، وهي أساس الحياة كلها والإبداع كله، أما نسيان أصل الأشياء فيعادل الموت غالباً (كما هو شأن نهر الموت ليث Lethe الذي يدمر الذاكرة في الأسطورة اليونانية). كذلك فإن التذكر أو إحياء الذكرى commemoration أو الاسترجاع recollection أجزاء أساسية في بعض الطقوس المسيحية كالمشاركة في العشاء الرباني Communion، وآلام المسيح Passion.

أساطير الكائنات العلوية والآلهة: يشتمل أكثر الأساطير على كائنات علوية أو آلهة سماوية لها صفات ونوعيات وأشكال مختلفة مع تنوع كبير في خصائص تقديسها، والفارق كبير جداً بين الكائن العلوي في أكثر الموروثات القديمة والإله في الأديان السماوية الموحدة. ومع أنه قد تضفى على ذلك الكائن نعوت تجعله «كلي القدرة» أو «كلي العلم» فإن ذلك لا يعني بالضرورة عدم وجود كائنات أخرى متفوقة. و من ذلك مثلاً فيشنو Visnu وسيفا Siva أعظم إلَهين في التراث الهندي، إذ يوصف كل منهما بالتفوق ولكنه لا يحط من شأن الآخر. والسماء مقدسة في كل مكان، إلا أن الكائنات العليا في الأساطير أبعد ما تكون عن أنها ظاهرة سماوية فقط، فهي خالقة العالم وموجدة نظامه وحامية القانون ويُسبُّح بحمدها لأبديتها وألوهيتها. وقد لا يلقى هذا الكائن العلوي الرعاية المناسبة من المخلوقات (العبادة) أو أنه أعفاهم منها، إلا أنه يبقى الملاذ الأخير لها في الأزمات العظيمة. والآلهة العظيمة تُبجَّل لقدرتها الكلية وسلطتها على الحياة (كما في أساطير  الشرق الأدنى والهند القديمين)، وقد يتنازل الإله خالق السماوات عن بعض سلطاته أحياناً لإله آخر له خبرة وتجربة واقعية فيكون رب ظاهرة من ظواهر الكون كالعواصف والأمطار والرعود والبروق، وسلطة ممجدة عند الناس الطيبين.

أساطير المخلصين والقديسين والأبطال ومؤسسي الحضارات: تتناقل بعض المجتمعات أساطير عن شخصيات لم يكن لها يد في خلق العالم، لكنها أكملت بناءه وأحالته إلى وسط ملائم لحياة البشر، أو أنها أبدعت حضارته، أو جلبت إليه الرخاء أو منحته الصحة. ومن هؤلاء ماوي Maui في بولينيزية وبروميثيوس في الأساطير اليونانية وحورس ابن الإله أوزوريس في مصر القديمة. وتكثر كذلك الأساطير التي تتحدث عن المخلص Savior الذي يهتم بخلاص الروح والجسد، ويمنح الأمل بالآخرة والخلاص النهائي حين تنتصر قوى الخير على الشر كما هو الحال في الزرادشتية. ولمؤسسي الديانات أثر مهم في الأساطير الموروثة وأكثرهم أشخاص تاريخيون مثل زرادشت وكونفوشيوس وبوذا وماني وغيرهم. والروايات المتوارثة عن أمثال هؤلاء مملوءة عادة بمعلومات بطولية تحمل الكثير من الملامح الأسطورية مع أنها لا يمكن أن تخرج عن إطار الزمن التاريخي. وقد يقال الشيء نفسه عن كثير من الشخصيات الدينية الأخرى كالقديسين والأولياء الصالحين والكهنة البوذيين والهندوس وغيرهم. وتحتفظ كل الحضارات لذكرى مؤسسيها بشيء من القدسية بل ترفعهم أعلى من مستوى البشر وتحافظ بعناية على تراثهم الذي يشتمل على عناصر كثيرة لها وقع أسطوري، مع أنها تبدو واقعية أو أقرب إلى الواقع، كما يلاحظ من مراجعة نصوص البوذية وتعاليم زرادشت وغيرهما.

أساطير الملوك والنساك والزهاد: لاتوجد أساطير تتحدث عن عبقرية الملوك والحكام إلا في الحضارات التي عرفت نوعاً من الملكية المقدسة، كما هو الحال عند البابليين والآشوريين. وتشير سجلات المعابد عندهم إلى قرابين تقدم لملوكهم، وأناشيد تتحدث عن اتحاد الملك مع الآلهة في «زواج مقدس». وكان ملوك المصريين ينعتون بألقاب إلهية مقدسة، وهي نعوت تدل على ازدواجية منصب الملك الذي هو وسيط بين العالم الإلهي وعالم الإنسان. وهو يمثل كل عالم منهما عند العالم الآخر. والقربان الذي يقدم إلى الملك يكون نفسه تقدمة من الملك إلى الآلهة. وقد ظهرت الأساطير التي تتحدث عن تأثير الملوك في مرحلة متأخرة من تاريخ البشرية، وهي قريبة جداً من أساطير الأبطال مؤسسي الحضارات. ومن أكثر الأساطير إثارة في هذا المجال قصة الاسكندر الأكبر، ومثل ذلك ما يروى عن تمجيد الأباطرة الرومان الذين ادعوا الألوهية. وهناك أساطير كثيرة تراكمت حوادثها حول شخصيات الملوك وأعمالهم حتى صارت أقرب إلى حكايا الجن أو الخرافات مثل أسطورة سيف بن ذي يزن، أو الملك آشوكا في الهند، أو الملك آرثر في إنكلترة. وكذلك القصص التي حكيت عن الامبراطور فريدريك بربروسا ولويس التاسع وشارل الخامس وغيرهم.

أما الروايات التي تروى عن الزهاد والنساك فأقرب إلى قصص البطولة منها إلى الأساطير، ولكن بعضها يتلبس الصفة الأسطورية بخروجه عن المألوف والزمن. وقد يتخذ بعضها طابعاً عالمياً يصلح لكل زمان و مكان كما هو حال القديس فرانسوا في المسيحية.

أساطير التحول: هناك حكايات لا حصر لها تتحدث عن أصل بعض الجمادات أو ممالك الحيوان أو النبات أو النجوم أو غير ذلك من ظواهر الطبيعة، ومعظمها حكايات أو خرافات أكثر منها أساطير. ولكن عدداً غير قليل من الأساطير يتحدث كذلك عن تبدلات طرأت على الأكوان في نهاية الأزمنة البدائية. أو عن طقوس «الابتداء» initiation أو «العبور» passage التي لها صلة بتبدل الكائن البشري أو تحوله.

إن التحول الكوني قد يختص بالعالم الأصلي من دون أن يكون له صلة بالإنسان أو الموت. وأكثر هذه الأساطير متفرع عن أساطير النشأة، وهي تروي أحداثاً نجم عنها تحول في العالم لمصلحة الإنسان كاختراع الزراعة وتدجين الحيوان واستعمال النار. وهناك أساطير أخرى تتحدث عن الانتكاسات في الأزمنة البدائية، ومن ذلك بعض الأساطير التي تنسب عدم استواء الأرض أو تكون الجبال إلى كوارث أو حوادث مؤسفة أو قوى شريرة.

ومن طقوس التحول المتصلة بالأساطير أيضاً طقوس الولادة والأمومة والزواج والوفاة والتعميد والختان، وكلها تبين مدى تأثر الوجود الإنساني بهذه التحولات، فعن طريق الولادة يتحول الجنين إلى شخص ذي كيان، وعندما يبلغ الرشد يصبح عضواً فاعلاً في المجتمع أو محارباً. وفي بعض الحالات يكون التحول أو الانتقال من حال إلى حال كما هو في الأسطورة صعب المنال، فالشامان المكرّس (المؤهل) قادر على تجاوز الاختبارات التي لا يصمد لها الإنسان العادي، وأن يتغلب على عقبات قد تتسبب في موت الآخرين، ويعتقد الشامانيون أنهم يستطيعون العبور من خلال الموت ويهزمونه في طقوس التكريس.

إن ما ذكر من أنماط الأساطير بعيد جداً عن أن يكون شاملاً أو أنه التصنيف الوحيد الممكن. وهناك موضوعات كثيرة أغفلت أو أشير إليها عرضاً كالطوفان وأساطير الطوطمية والأرواح والملائكة الحارسة ومعايير السلوك وغيرها، وكل ذلك مرهون بتعريف الأسطورة وأثره في تحديد أنماطها.

الأسطورة في المجتمع الحديث

طغت في العصور الحديثة محاولات «علمنة» الأسطورة secularization of the myth أي إضفاء الصفة العلمانية عليها، ولكن المشكلة هنا تكمن في تعريف الأسطورة. فإذا كان الرأي أن الأسطورة ليست سوى نتاج ماض ولَّى وانتهى، فسوف يصطدم هذا الرأي بعقبة تحديد اللحظة الأخيرة التي انتهت فيها الأسطورة، وسيكون من المستحيل معرفة متى تحول موضوع أسطوري إلى مجرد موضوع أدبي أو متى توقف إنتاج الأساطير أصلاً. ولعله من الأجدى التفكير بأن الرموز والشعائر والأساطير كلها قابلة للتحويل والتغيير بمرور الزمن، وأن العلمنة ليست إجراء غير قابل للنقض، أو أنها تحدث مرة واحدة تاركة الأساطير خلواً من أي مغزى ديني، بل العلمنة إجراء كثير التكرار، وإن تناوب العلمنة والأسطرة mythification أو الترميز symbolization معلم مميز من معالم التاريخ في كل مراحله. وإذا كان الأدب الملحمي مثال على علمنة الأسطورة، فهو نفسه قد يقوم مقام الأسطورة في بعض وظائفها.

اكتست العلمنة في العصور الحديثة حلة جديدة شديدة التعقيد فرضتها حقائق كثيرة. إذ تمخضت الكشوفات العلمية، وخاصة الفلكية في أواخر العصور الوسطى وعصر النهضة عن تجدد الثقة بقوانين الطبيعة والكون، والاعتقاد المجرد بالإله، وفتحت الروايات الأوهيميرية، التي كانت مظهراً من مظاهر العلمنة، المجال واسعاً لظهور الكتابات التاريخية التي تركزت على الحقائق النفسية والاجتماعية والاقتصادية، كما تعارضت النزعة الطبيعية في الفلسفة مع عالم السماوات وما وراء الطبيعة الذي بنت عليه الثقافات السابقة معارفها، ولم يكن كل ذلك إلا جزءاً يسيراً من الحقائق التي أدت إلى علمنة العناصر الأسطورية في العصر الحديث. وكان أكثر التوجهات شيوعاً عدّ الشخصيات والحوادث التي اشتملت عليها الروايات الأسطورية غير حقيقية، أو أنها ليست على شيء من القدسية. ومع ذلك فقد ظلت الصفة الأسطورية غالبة على الكثير من المظاهر السائدة في المجتمعات الحديثة، مع عدم وجود اتفاق عام حولها. ومن الصعب اليوم تعريف الأساطير التي تؤثر في مجتمع ما في الوقت الحاضر، مع أن أساطير المراحل القديمة والسابقة سهلة التمييز. وليس ذلك بالمستغرب، فقوة الأسطورة تكمن في حضورها لا بإثبات وجودها، ولا تتعرض سلطتها للنقاش وتصبح موضع استفهام إلا إذا تغلبت عليها أسطورة أخرى أشد نفوذاً منها.

 وهنا يجب تمييز مصطلح العلمنة من مصطلح نزع الصفة الأسطورية demythologization. وإذا كان من المسلم به أن تمر كل أسطورة في مرحلة من مراحل العلمنة وتتكيف مع المجتمع الذي تسود فيه، فإن نزع الصفة الأسطورية مصطلح حديث ابتكره عالم اللاهوت الألماني رودلف بولتمن Rudolf Bultmann وعنى به الجهود التي بذلت وتبذل لتخليص الموروثات الدينية من الرواسب الأسطورية، وهي جهود واعية لها علاقة مباشرة بالحوار اللاهوتي والديني في مسيحية القرن العشرين وفي الديانات الأخرى. وقد استعمل عالم الانتروبولوجية البريطاني تايلور من القرن التاسع عشر كلمة «الباقيات» survivals للإشارة إلى ما بقي حياً من عادات ومعتقدات خلفتها المجتمعات القديمة التي كانت تدرك معناها ومغزاها. وقد أصبح هذا المصطلح يدل على أمور لا يستسيغها المجتمع الحاضر ويعدها من مخلفات الماضي الذي زال وانتهى. وثمة رواسب كثيرة مصدرها الأساطير القديمة كالبحث عن الفردوس المفقود والتَطَيُّر وحمل الأيقونات والتمائم وغيرها.

وعلى كل حال فإن الصيغ الأسطورية المقبولة عموماً في المجتمعات الحديثة لا تشتمل على كل عناصر المجتمع أو تلبي احتياجاته كافة، ولا يوجد مجتمع حديث واحد متجانس الأساطير، إذ تسود هذه المجتمعات عناصر أسطورية مستعارة من موروثات أعيد إحياؤها أو من مصادر أخرى. وهي تنفي الرمزية الكونية التي طبعت بطابعها التراث القديم كله، وتختلف توجهاتها الثقافية حيال العالم والكون. وتوفر المنجزات العلميةُ الحديثةُ المادة المناسبةَ للنهوض بأدب جديد يشبه الأساطير تحت غطاء الأخرويات هو أدب الخيال العلمي [ر].

وقد لوحظ في البلاد الغربية التي خبرت حركات العلمنة أن السياسة تقوم اليوم بدور الدين أو الأسطورة في الأزمنة السالفة، ولايعني هذا أن الأسطورة لم تكن سياسية أو اجتماعية في يوم من الأيام، فقد كانت الأسطورة تستعمل في كل الأزمان لمؤازرة الوحدة السياسية في مستوى العشيرة والقرية وفي مستوى الأمة على حد سواء، ولكن الناس في الوقت الحاضر تشغلهم العقائد الاجتماعية والسياسية وتأثيرها في المجتمع، وقد بذلت محاولات واعية للاستفادة من الأسطورة في أغراض السياسة والمجتمع، وأقرب مثال على ذلك محاولات النازية إحياء الأسطورة الجرمانية. كما أن الكثير من المصطلحات السياسية والاجتماعية المتداولة اليوم يحمل في طياته سمات أسطورية لها تاريخ فلسفي معقد كالحرية والمساواة والديمقراطية وغيرها، وهي كثيراً ما توظف لغايات تقارب ما تهدف إليه الأسطورة وتمارسه من تأثير.

محمد وليد الجلاد

 

الموضوعات ذات الصلة

 

الاجتماع (علم ـ) ـ الإنتروبولوجية ـ البنيوية ـ العقيدة (إيديولوجية) ـ اللسانيات.

 

مراجع للاستزادة

 

ـ مرسيا إلياد، مظاهر الأسطورة، ترجمة نهاد خياطة (دار كنعان للدراسات والنشر، بيروت 1991).

ـ ك.ك رانفين، الأسطورة، ترجمة جعفر صادق الخليلي (دار عويدات، بيروت 1981).

ـ إديت هاملتون، الميثولوجية، ترجمة حنا عبود (اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1990).       

ـ جيمس فريزير، أساطير في أصل النار، ترجمة يوسف شلب الشام (دار العلم، دمشق 1988).

ـ  نورثروب فراي، الماهية والخرافة، دراسات في الميثولوجية الشعرية، ترجمة هيفاء هاشم (وزارة الثقافة، دمشق 1992).

 - Roland Barthes, Mythologies, trans. A. Lavers, (New York. Hill and Wang 1972
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 16:56|
 دراسة ادبیة :* حول الشهید فی الأدب العربی.* ابتسام اغفیر.
إننا عندما نتحدث عن الشهید نلج إلی عوالم الجنة والفردوس العظیم ،فنرى الرایات هناك ترفرف خفاقة عالیة فی سماء ذلك الفردوس مضرجة بدماء الشهداء ،وتفوح منها ریاحین المسك والعنبر ،تلوح فی الأفق لتعلن لنا نحن الأحیاء بان الشهداء هم أیضا إحیاء لا یموتون.
* (( حدیث مترامی الأطراف ))
إن الحدیث عن الشهداء فی الأدب العربی حدیث مترامی الأطراف متباعدها ،یحتاج إلی جهد اطلاعی ومقرئ لاشعار وقصائد وقصص وروایات ...وغیرها من ألوان الأدب لنستطیع بعد ذلك لملمت شتات ذلك الكل المبعثر ،فبالبحث والذی حاولت إن یكون دؤوب لاحظت إن مكتبتنا ولنقل اللیبیة تفتقر إلى هذا النوع من الدراسات ، لذلك واجهت صعوبات لابأس بها عند القیام بهذه الدراسة التی أحاول من خلالها عرض مجهود أدبی مبسط یعرض لإسهامات وإبداعات أدباء مخضرمین اوهم غیر ذلك فی هذا المجال ، كما إننی ابذل قصارى جهدی فی إیصال الحلقات التاریخیة ببعضها والتی قد تكون منفصلة ، ولتكن البدایة بالشهید اسماً ولفظاً (( أنه ذلك الإنسان الذی قتل فی سبیل الله ، وسمی كذلك لان ملائكة الرحمة تشهده ، ولانه حی عند ربه حاضره)).
* (( أین الشهید)).
ومن هذا القول التعریفی للشهید نستدرك أن الشهید عرف بهذا المفهوم ،وعلا شأنه ،وارتقت مكانته فی عصر الإسلام وما بعده ونستشهد علی ذلك بقول الله العزیز الحكیم فی كتابه الكریم (( ولاتحسبن الذین قتلوا فی سبیل الله أمواتا بل أحیاء عند ربهم یرزقون )) سورة آل عمران ، وفی الحدیث الشریف عن ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ انه سئل عن قوله تعالى (( ولاتحسبن الذین قتلوا فی سبیل الله أمواتا بل أحیاء عند ربهم یرزقون ..)).فقال:ـ إما قد سألنا عن ذلك ، فاخبرنا إن أرواحهم فی طیر خضر ، تسرح فی الجنة حیث شاءت وتأوی إلی قنادیل معلقة بالعرش ، فاطلع إلیهم ربك اطلاعه ، فقال:ـ هل تستزیدون شیئیا فازیدكم ؟قالوا :ربنا ،وما نستزید ونحن نسرح فی الجنة حیث شئنا؟ ثم اطلع إلیهم الثانیة ، فقال: هل تستزیدون شیئاً فازیدكم ؟ فلما رأوا انهم لم یتركوا ،قالوا : تعید إلینا أرواحنا، حتى نرجع إلى الدنیا ، فنقتل فی سبیلك مرة أخرى)). حدیث حسن صحیح رواه الترمذى.
* (( الشهید فی الأدب العربی ))
لقد كرم الله الشهداء فجعلهم أحیاء عنده یرزقون ، وخّبر الرسول علیه الصلاة والسلام عن حالهم فی جنات الفردوس العظیم ، فبماذا نمجدهم نحن البشر الضئیلین المتواجدین فی دار الباطل وهم فی دار الحق مقیمین ؟ هل یكون غیر الأشعار التی تنظم ، والأقاصیص التی تحكى والروایات التی تروى ، والمقالات التی تنشر فی الصحف ، تحكى عن انتصاراتهم، وتروى بطولاتهم، وتصف صور استشهادهم ؟
فماذا عن الشهید وحقه فی الأدب العربی علی طول رحلته النضالیة تلك التی لم تنتهی ، وانّ لها أن تنتهی مادامت الأرض تستقبل الشهداء من فلسطین تلك البقعة المقدسة فی كل لحظة، وفی كل ثانیة ، إن الملهمة لم تنتهی فكیف یتوقف الإلهام .؟
ولنبداء بتلك الحقبة الزمنیة حقبة ما قبل الإسلام ,ولنقل الشهید ماذا كتب عنه فی عصر ما قبل الإسلام ، ؟هل كان یدعى الشهید ؟ أم كان یدعی القتیل ، الفقید ،الموتور؟
* (( مرثیتی الخنساء والمهلهل ))
لنجیب بالطبع لم یكن الشهید ولم ترد فی قصائد الرثاء التی قیلت ونظمت فی القتلى آنذاك كلمة الشهید، وانما جاء الرثاء حاراً بالغ الأثر والتأثیر ،فیستشعر القارئ وهو یقف أمام النص الشعری انه یعایش الحالة التی یقرأ عنها ،ومن اعظم تلك المرثیات وابلغها أثراً ــ تلك التی شهدها عصر ما قبل الإسلام ــ هی مرثیة الخنساء لأخیها صخراً ، ومرثیة المهلهل ابن ربیعه لأخیه كلیب , فكان من مرثیة الخنساء هذه الأبیات :
* قذى بعینیك أم بالعین عوار... أم أقفرت إذ خلت من أهلها الدار
* كأن عینی لذكراه إذا خطرت ... فیض یسیل علی الخدین مدرارا.
ومن جید شعرها أیضا :
* أعینی جودا ولاتجمدا ... ألا تبكیان لصخر الندى.
أیضا من رثائها:
* إذا قبح البكاء على قتیل... رأیت بكاءك الحسن الجمیلا.
ومن بدیع قولها كذلك:
* یذكرنی طلوع الشمس صخراً...واذكره لكل غروب شمس.
ومن رثاء المهلهل لأخیه كلیب شعر یقول فی مطلعة:
* اهاج قذاء عینی ألا دكار... هدوءاً فالدموع لها انهمار
* وصار اللیل مشتملاً علینا..... كأن اللیل لیس له نهار.
وتجود قریحة شاعرنا الذی أصابته الفجیعة فی أعماق قلبه بأبیات شعریة بدیعة التنسیق والتمازج لیقول محدثاً أخاه:
* دعوتك یا كلیب فلم تجبنی ...وكیف یجیب البلد القفار.
* أجبنی یا كلیب خلاك ذم... لقد فجعت بفارسها نزار.
لیكون ختام قصیدته بأبیات بمثابة عهد قطعه على نفسه للانتقام:ـ
* خذ العهد الأكید على عمری ... بتركی كل ما حوت الدیار.
* ولست بخالع درعی وسیفی ... إلی أن یخلع اللیل النهار.
* (( انطفأت أقلام الشعراء ))
غیر أن ذلك لا یعدو كونه رثاء یعتنقه بعض الشعراء وتطوقه الخصوصیة التی هی شعور الأخ نحو أخیه وما أكثرها عند عرب الجاهلیة ،ولیأتی عصر الإسلام الذی عظم الشهادة والشهداء مدعماً هذه المكانة بالآیات القرآنیة والأحادیث النبویة , ومع هذه المعجزة اللغویة الكبرى ـ معجزة القرآن الكریم ـ انطفأت أقلام الشعراء ، وخمدت قریحتهم ، لان هذه المعجزة هزتهم وشغلتهم كثیراً ،كما أن القرآن أمر بالإقلاع عن الأغراض الشعریة التی كان لها مكانة مرموقة فی الجاهلیة كالهجاء والغزل والرثاء والمدح والاقتصاد فیها، مما سبب ذلك فی خمود حركة الأدب بوجه عام على الرغم من حركات الجهاد التی شهدتها تلك الحقبة الزمنیة من فتوحات إسلامیة فی مختلف مناحی الكرة الأرضیة ، لننتقل بعد ذلك إلی حقبة العصریین الأموی والعباسی والتی بدأت الحركة الأدبیة الشعریة ــ خلالهما ـ تدب فی جسد الشعر لیعاود حیاته التی كان یفخر بها فی فترة ما قبل الإسلام فاقتصر الشعر وانتشر على نطاق المدح للملوك لنیل عطاءیهم ، والغزل الصریح والهجاء وما إلی ذلك من ألوان هذه الأشعار ومن الملاحظ إن هذه العصور لم تظهر فیه ملامح القصة والروایة ،بل انتشرت فیها الرسائل والمقامات والخطب الشفهیة والمكتوبة وبعض الكتابات التی تصف النوادر والطرائف التی انتشرت فی تلك الحقبات الزمنیة المتتابعة.
* (( إشعال نار الحماسة ))
إن الشهید لم یذكر اسمه صریحاً جلیاً وتحدثت عنه القصص والأشعار و الروایات ألا فی العهد الحدیث بعد اندلاع الحروب فی الوطن العربی ،والقیام بالثورات ، وتمرد الجماهیر الكادحة على مستعمری أراضیها ،فعظمت التضحیات بالدماء والأرواح فی سبیل الله والوطن ، وللحفاظ على العرض والشرف ،فلم یلقى الأدباء بدءً من المشاركة فی هذه الثورات والتضحیات ،إلا عن طریق إشعال نار الحماسة المتأججة فی صدور الثوار وتخلید الشهداء وسرد بطولاتهم لتكون خالدة عبر الزمن وتحفیزاً ورفعاً لهمم الأحیاء الثائرین فكان الأدب العربی ثرى وثری جداً بكتاباته عن الشهداء، الذین استعمروا طویلا ،وشردوا طویلاً،وسلبت منهم الأرض والعرض فكان لابد للثائر العربی من الدفاع عن وطنه ،فزخرت البلاد العربیة بالشهداء وزخر معها أدبها فنظمت الأشعار وصیغت الأقاصیص وحیكت الروایات ،فجاء أدبا ثوریاً متمازجاً ومتكاملاً فی إعطاء الشهداء حقهم من الذكر والتمجید.
* (( الشهداء ومكتبة الأدب العربی )).
لقد أثرى الشهداء مكتبة الأدب العربی من المحیط إلی الخلیج .نعم لقد كثرت التضحیات وكثرت معها الملاحم الأدبیة التی تعتز بالشهداء وتفخر بشعب آبی حارب الظلم ولازال یحارب.
ولعلنا ونحن هنا نحاول تفتیت وتحلیل الأدب العربی لكی نقف على نسیجه الفنی و معطیاته الإنسانیة عند تناوله للشهید ، نبحث فی أكوام من الاتساقات الفنیة التی یحاكى بها الأدیب العربی اللحظات الحساسة والتی تحدث التماس بین عوالمه الداخلیة التی تتحطم فی أطرها ماهیات الزمان والمكان وبین الواقع الخارج فی حدوده الموضوعیة ، إن لكل كلمة قیلت فی الشهید فی الأدب العربی لوناً وطعماً ورائحةً اكتسبهاـ عن وعى أو غیر وعی ـ من الأدیب العربی أثناء عملیة الإبداع وما هذا إلا خلیطاً من الاحساسات والتجارب الإنسانیة .
* (( إلیك هناك حیث تموت ))
ترى هل یستطیع أدیب ما أن یكتب عن معاناة لم یعشها أو یشعر بها لا أظن ذلك فكل أدیب هو إنسان عاش ماسأته وماسأة شعبه ولكنه یعبرعن هذه الماسأة وانجراحاته بها بوسائل تضفی علی المعانی ظلال وإیحاءات ،فیرسم بصور من خیال تعابیره واحساساته الحقیقیة , ومن ذلك ما نستفتح به دراساتنا هذه بقصیدة للشاعر الفلسطینی سمیح القاسم بعنوان (( إلیك هناك حیث تموت)) من دیوانه(( دمى على كتفی)).:
رسالتك التی اجتازت إلی اللیل والأسلاك
رسالتك التی حطت على بابی ..جناح ملاك.
أتعلم؟
حین فضتها یدای تنفضت أشواك.
على وجهی ..وفى قلبی..
أخی الغالی .
إلیك هناك .. حیث تموت.
كزنبقة بلا جذور.
كنهر ضیع المنبع.
كأغنیة بلا مطلع كعاصفة بلا عمر.
إلیك هناك حیث تموت كالشمس الخریفیة .
بأكفان حریریة.
إلیك هناك..یا جرحی و یا عاری.
یا ساكب ماء الوجه فی ناری.
إلیك من قلبی المقاوم جائعاً عاری.
تحیاتی وأشواقی.
ولعنة بیتك الباقی .
على الرغم من أن شاعرنا لم یذكر بصریح العبارة الشهادة ولكنه بنبرة خطابیة تعبیریة غیر مباشرة ، وفی حواره الدرامی ذاك یبین لنا إن هذه الأبیات التشبیهیة هی دعوة تحمل فی طیاتها اعمق سمات الصمود والتصدى والإكبار لأخ قابع هناك فی الأرض المحتلة .
* (( الأدب الفلسطینی ))
ویأخذنا بحر السطور لنجد أنفسنا فی مركب نسیر به نحو الأدب العربی الفلسطینی الذی ماكان لینشأ بهذه القوة لولا الاحتلال الصهیونی لفلسطین وقیامه بالمذابح والمقابر لابناء ذلك الصمود الآبی ،لنلتقی بالأدیب المناضل، الأدیب الشهید الذی یقدم رثاء لنفسه قبل أن یموت ، فهل كان یدرى شیئاً عن قدوم موته أم انه كان یعقل أن لامفر من موت مع وحوش غازیة ضاریة جائعة ومتعطشة للدماء العربیة ؟ ، انه كمال ناصر أحد الأدباء الفلسطینیین الذین سقطوا شهداء فی ساحة الورق والقلم ، فصار دمه حبراً ، وجسده ورقاً ، ومقتله إلهامًا، ففی دیوانه (( جراح تغنی )) خاطب أمه قائلاً:ـ بأنه سوف یعانق المنون ذات یوم وانه لامفر من هذا العناق مادام فی سبیل الوطن، فمرحباً به ، فنراه یعزیها ویصبرها ، فیقول :ـ
لاتطرقی ...!
فان جراح الحیاة بصدری.
تعذب صدری .
وان نداء القدر
یلون بالثأر عمری.
ویقذفنی للخطر
ویحیا على خاطری فی عذاب
وینسجنى فی الركاب
فامشى إلی مصرعی
ویمشى آبائی معی.
وتمشى بدربی جراح الشباب.
مصیری ..مصیرك بین الحراب .
وهذا الذهاب؟؟!
ثم ینتقل لیصف حالة مصرعه واستشهاده ، ذلك الثوری المناضل العاشق دوماً لارضه حتى استشهد لاجلها ..إذ انه یقول فی دیوانه السابق:ـ
إلى الذین برعموا فی مقلة الجراح .
واورقوا على رؤى النضال والكفاح.
وصلبوا مصیرهم فی خاطر السلاح.
واستشهدوا ،لیولدوا فی ثورة الصباح.
* ((شیخ الشهداء ))
ولنا بعد ذلك أن نختار أروع ما قاله احمد شوقی اشهر شعراء العربیة فی العصر الحدیث و أقدرهم على التصورات فی قصیدته المشهورة عن شیخ الشهداء عمر المختار والتی یقول فیها:ـ
یا أیها الشعب القریب آسامــع ... فأصوغ فی عمر الشهید رثاء.
أم ألجمت فاك الخطوب وحرقت ... أذنیك حیث تخاطب الإصغـاء.
ذهب الزعیم وأنت باق خالد ... فأنقذ رجالك واختر الزعماء.
أرح شیوخك فی تكالیف الوغى... واحمل على فتیانك الأعباء.
ها نحن نتحد فی الشعور والشعر كعرب فشهیدنا فی لیبیا یرثیه شاعر فی مصر بأروع المرثیات أرسخها فی عقول الناس التی ما انفكت ترددها كلما تر آت لها صورة الشهید عمر المختار ، انه بحبكة درامیة اقرب إلى الحواریة یخاطب الشعوب الحرة الأبیة بأنها یجب أن تنهض بأعباء رسالة الجهاد والاستشهاد بعد ان استشهد قائد هم ویجب على الشباب بعد ذلك أن یكون لهم هذا العلم عبرة.
* (( وامتدت الأرض حتى الجنوب ))
حین یزدان صدرك بالملصقات .
ویصبو إلی جرحك الماء طفلاً.
أخر أزهارك الشهداء
إلی القلب ..حقلاً.
ستكتب:
كان الذی سقط الیوم أصغرهم
ویخرج هذا النهار إلیك.
هذه القصیدة بعنوان الشهداء طالعنا بها الشاعر العربی إبراهیم نصر الله فی دیوانه المعنوّن ب(( وامتدت الأرض حتى الجنوب))، انه الوطن یحكى للعالم عن استشهاد أبناءه لاجله وان الذی سقط الیوم هو ، أصغرهم ،و أجملهم ،وأولهم ،ولكنك یاوطنى لذلك تبتسم سعید بحب أبناءك ، حزین لاجل فقدك لهم ،ولكن هم یحبونك وتحبهم، وهذا واجبهم نحو الأرض الحنون.
* (( من الشعر إلى القصة ))
إن اكثر نتاج العرب فی مجال الأدب كان الشعر فإذا ما رجعنا إلى تراثنا العربی القدیم نفتش فیه عن أرقی الآداب و أكثرها أصالة والتصاقاً بالناس نجده بالطبع الشعر، غیر انه وفی الفترة الأخیرة طغى الحر على الحیاة الحدیثة ما ذلك إلا نتاج الطبیعة الإنسانیة التی صارت تبحث عن أطراف التجربة التی تلقى الضوء على موقعها ، وبذلك صار الشعر ـ الشعر الحر ـ لایمكن أداءه بذلك القالب القدیم الذی تحكمه القافیة والتوازن فی الكلمات ، واستعمال الكلمات صعبة الفهم والتی تحتاج العودة للقوامیس والمعاجم التی تخص اللغة العربیة .. وعلیه فان هذا اللون من الشعر یطلق سراح الشعراء لتعبر قریحتهم عن تجاربهم المریرة بعیداً عن الموسیقى التقلیدیة للشعر.
* ((عائد إلى حیفا )).
ومن قالب الشعر ننتقل لنرى مكانة الشهید فی الأدب القصصی ..لتكون بدایتنا مع قصة (( عائد إلی حیفا)) للكاتب غسان كنفانی.. تلك القصة إلی یحدثنا فیها عن ماسأة شعب عانا من نیر الاستعمار والاحتلال الصهیونی.. قصة أب وأم تركا طفلهما لیس عن قصد ولكن بدافع الحرب والاحتلال المفاجئ لوطنهما..لقد دفعهم الجیش الغازی، و بحر الناس الذی غمرهما إلى الابتعاد عن المنزل الذی تركا فیه طفلهما فها هو یحدثنا ویصف لنا حالهما(( فمضت تشق طریقها بكل مافی ذراعیها من قوة وسط الغاب الذی كان یسد فی وجهها طریق العودة ، محاولة فی الوقت نفسه أن تضیع سعید ، الذی اخذ ـ دون ان یعی ــ ینادی صفیة تارة ، وینادی خلدون تارة أخرى)) .
ثم یسترسل الكاتب لیخبرنا عن عودة الأهل أی الوالدین بعد عشرین عاماً للبحث عن ولدهما المفقود لیجدا أن طفلهما قد تهود واصبح ضابط ببزته العسكریة فی الصفوف الیهودیة، فیعودا بخیبة أمل اكبر من سابقتها ،لتتداخل الأحداث والوقائع داخل وحدة نسیج القصة لنصل فی منتصف القصة ونقرأ (( وفی السادس من نیسان عام 1948 ف جئ ببدر إلى الدار محمولاً على أكتاف رفاقه كان مسدسه مازال فی وسطه أما بندقیته فقد تمزقت مع جسده بقذیفة تلقاها وهو على طریق تل الریش ،وشیعت العجمی جثمان بدر كما یتوجب على الرفاق أن یشیعوا الشهید)).
رغم أن كاتب القصة غسان كنفانی لم یذكر فی بدایة قصته شیئاً عن الشهادة والشهداء ألا إن هذه الفقرة كانت بمثابة رؤیة كاملة وموحدة لحال الفدائیین بفلسطین فی تلك الفترة وانه بسقوط هذا الشهید لم تنتهى أحداث القصة وانما استمرت فی سرد أحداثها التی تتسم بالمرارة ، وان فلسطین مازالت تستقبل الشهداء مادام الیهود على أرضها جاثمون.
* (( الرافضون یموتون وقوفا ))
وفی المجموعة القصصیة 14 قصة من مدینتی للكاتب والأدیب اللیبی كامل المقهور نختار(( قصة الرافضون یموتون وقوفاً)) . و یتحدث لنا كامل المقهور عن بطل قصته وشهیدها بأنه إنسان بسیط ملیئاً بالأمل والطموح یخطط للمستقبل بعین الشباب التی تحمل كل جمیل إلی إن جاء الغزو الإیطالی الفاشیست وحطم تلك الأحلام والآمال ..وبدافع حب الوطن یسقط عاشور بطل القصة شهیداً (( وكان ذلك فی أخر النهار والشمس تقطر بالدم ، وعاشور واقف فی أول الطابور وصدره للجنود ..وكان الضابط ینظر إلیه من فتحة خیمته و فی عینیه تشفّ وخوف ،والترجمان مختبئ وراء الخیمة وظله یرتعش على التراب ..وعندما انطلق الرصاص انكفأ وجه عاشور على الأرض وغاصت جبهته السمراء فی الأرض وصاحت مریم صیحة جریحة )).
لقد اتخذ صاحب القصة ، بطل القصة عاشور كرمز لعدید المناضلین والشهداء فی فترة الاحتلال الفاشستی آنذاك ،وان كل لیبی فی تلك الفترة إنما كان عاشور الرمز.
* ((بطولة شعب )).
إننا حین نسترسل فی الكتابة عن الشهید قد لانجد كتاباً تسعنا فصوله ، فأدبنا العربی ثری وزاخر فی أزمنته الأخیرة بالكتابة عن الشهید .. وكل الوطن العربی من محیطه إلی خلیجه كانت هذه الأحداث ملهمة أدبائه وكتّابه ..ففی قصة (( بطولة شعب)) لمحمود احمد النجار ومحمد رجب البیومى نقراء (( إن هذه القصة تتناول بالتصویر أحداث فترة من فترات هذا الكفاح العربی فی مصر للتخلص من قوى البغی : مظالم الممالیك واستعمار الأتراك ، واحتلال الفرنسیین ..إنها فی حقیقتها تصویر لمظالم مستعمرین وبطولة شعب لقی من عنت الممالیك والأتراك ، فقاوم ذلك بما طبع علیه من فطرة نقیة تنفر من الظلم وتقاومه ، ثم داهمه الاحتلال الفرنسی ، فكانت مقاومته لهذا الاحتلال عنیفة بقدر ماكان فی هذا الاحتلال من عنف ، مقاومة شملت الشعب من أقصاه إلى أقصاه على اختلاف طبقاته وجماعاته، فی كل قریة ومدینة ، فی كل حقل وشارع ، لقد كانت حرباً شاملة دلّت على مافی الشعب من روح أصیلة ، أفزعت المستعمر فلم یستقر به المقام طویلاً حتى حمل عصاه على كاهله ورحل.. إنها قصة تعتمد على وقائع ثابتة، مصدرها المراجع التاریخیة لهذه الفترة ،إنها صفحة فی تاریخ شعب حر،یكللها النصر،ویضیء جوانبها أصالة وعزة ومجد..)) لنقرأ ایضاً فی ختام القصة ..ما حدث به كاتباها عن الشهداء بالقول (( ولم یشأ خلیل إن یذهب إلی بیته قبل إن یتجه خاشعاً دامعاً إلی ضریح (عبد الستار) ..فوجده ینهض تحت شجرة جمیز تظلله بفروعها الممتدة ، وقد تناثرت علیها جماعات العصافیر تؤلف جوقة صادحة ترسل أعذب النغمات فقرأ الفاتحة مع القارئین وهو ینظر إلی الضریح فی إجلال ،ثم ألقى بسمعه إلی قروی یتمتع بروح الشاعر یقول فی تأكید : انظروا یا قوم إلی أعلى الشجرة -لیست هذه عصافیر تتناغم ولكنها أرواح الشهداء تحی روح (عبد الستار) )).
* (( الفدائیین الشباب )).
ومن أمثلة هذه القصص الثوریة كثیرة فی الأدب العربی ومنها قصة الفجر فی عیون الشهداء للمؤلف فوزی طاهر البشتى ، التی تتناول فی عرض قصصی قصیر أحداث نضال الفدائیین الشباب فی ساحات الوغى ضد الاحتلال الإیطالی.
* (( أبواب الموت السبعة ))
((غابت الشمس عن المكان ، غادرت إلی الشواطئ البعیدة حتى غطى جناح الظلام كل الزوایا، وصمتت الریح ثم تسللت إلی البعید عبر البحر الذی یهدر هناك على بعد كیلو متر من المعتقل الكبیر الشائك فی المقرون ، وصمت مهیب ولیل مبهم لا شئ سوی الأنین ، والاه العالیة ، هنا ..وهناك..وهنالك وأخبار تتری عن نهایة المقاومة فی الجبل الأخضر ، وصور إعدام عمر المختار معلقة فی كل مكان وبیانات عن انتصارات عسكریة لجیش أطلق العنان لشهوة القتل والتنكیل وإشباع رغبة رجل دموی یدعى غرسیانى )).
هذه المقتطفة من روایة أبواب الموت السبعة للقاص عبد الرسول العریبى وهى روایة تتحدث عن حالة الشعب العربی اللیبی أبان الاحتلال الإیطالی الفاسشتى وما تعرض له من تنكیل وتعذیب واستشهاد فی ظل أبواب الموت السبعة التی انفتحت علیه من شنق وقتل بالرصاص والمعتقلات والنفى إلی الأوطان المجهولة ، والجوع ، والجلد والظمأ ،فهل من قتل بألوان الموت تلك یعتبر شهید؟ ولما لا مادام العدو هو الذی فعل ذلك ! ومادام ذلك جهاداً فی سبیل الله والوطن.
* (( حتى فی الصحراء))

حتى فی الصحراء البعیدة الشاسعة ، وصل الاحتلال وواجهة أهلها بجسارة ،وقاوم ثائریه بشجاعة، واستشهد الكثیر من الثوار فی معارك المقاومة فكان الذی وصف فابدع ،وسرد فاتقن ، الكاتب الصحراوی و المبدع القصصی إبراهیم الكونی فی روایته الرباعیة(( الخسوف ))، إذ انه تناول فی جزئها الأول المعنوّن ((بالبئر)) بعد وصفه لحال الحرب والمعركة الضاریة الغیر متكافئة بین الفریقین الفرنسیین أهل الصحراء اللیبیین یخبرنا عن حال الشیخ غوما بطل روایته وقائد المعارك الصحراویة ((واستیقظ الشیخ غوما عند الفجر ، توضأ وصلى وانطلق إلی مقبرة الشهداء عند سفح الجبل الشمالی ، وقف أمام قبر الشیخ جبور طویلاً ثم جثا على ركبتیه وقرأ الفاتحة بصوت مسموع ، مكث هناك یسبح ویتمتم بآیات القرآن حتى ارتفعت الشمس ، كان یحجبها جبل الشمال ولكن أشعتها بدأت تداعب قمم جبال الجنوب.))
(( أحلام مستغانمی ))
هكذا هی منزلة الشهید فی الأدب العربی فی الأشعار القصص والروایات وما تحدثنا عنه هو غیض من فیض مما احتواه الأدب العربی من ملاحم تمجیدیة عن الشهید .
ولا ننسى ونحن نتناول الشهید هنا إن نذكر الشهید فی الجزائر فی ثورة الملیون شهید ، ونظراً لان مكتبتنا تفتقر إلی الإبداعات الجزائریة ، غیر إن اشهر ما كتب فی هذا المجال ــ وهو كلام منقول عن مصدر حی من الجزائر ــ كتابات أحلام مستغانمی فی روایتها ذاكرة الجسد ،حیث تحدثت هذه الروایة باستفاضة عن الجهاد الجزائری والشهداء الذین سقطوا فی ساحات معارك ذلك الجهاد ،أیضاً مجموعة قصصیة للطاهر وطار الروائی الجزائری معنوّنة (( الشهداء یعودون هذا الأسبوع)).
* (( جمیلة بوحیرد))
ولاتغیب عن ذاكرتنا فی هذه السطور المجاهدة جمیلة بوحیرد تلك المرأة التی ذاقت من ألوان التنكیل والعذاب مالم تذقه امرأة فی العالم وما ذلك إلا بإیعاز من ضمیرها فی سبیل وطنها.
* خلاصة.
ولنا إن نختم دراستنا هذه بالقول :ـ أن الأشیاء التی تسترعى الانتباه فی مختلف الصور الأدبیة التی تم عرضها هی إن الألفاظ والمعانی من الصور الأدبیة الفنیة الحزینة تصرخ بالمعنى المقصود ، وتتضح فی النبرات الخطابیة لمختلف النصوص الأدبیة الدرامیة .
أستطیع القول فی هذا المضمار إن أدبائنا وشعرائنا وكتّابنا وفقوا توفیقاً كبیراً فی اختیار هذه الصور التی یتصارع فیها الأمل مع الموت لیكبر الأمل وینبت أغنیة ترسلها أوتار قیثار الحیاة.
إن كل أدیب كتب عن ماسأته أو عبر عن ماسأة شعبه إنما كان یعمق ظلال الصور الفنیة الأدبیة فی نفوس وضمائر المتلقین باستخدام التعابیر التی تصور الحزن بأخیلة بالغة التأثیر والأثر.
إنما الشهید هو شئ أصیل فی تراثنا العربی القدیم وأكثره فی الحدیث ویعتبر رافداً مهماً من روافد الهام الأدباء والكتّاب والشعراء ، ولكن وجب علینا فتح عقولنا الثقافیة والفنیة ،وندعو للثورة فی فلسطین تلك الأرض المحتلة التی مازالت تستقبل أرضها یومیاً عشرات الشهداء ، الذین اثرّوا واثروا فی أفئدة الأدباء فكانت القصائد والقصص والروایات عن كل شهید ، صغیر وكبیر فى فلسطین ،ومنها ما قیل فی محمد جمال الدّرة ، ذلك الشهید الذی قتل خلف أباه فكانت النصوص الأدبیة فی تلك الفترة زاخرة بالعطاءات حوله ..وممن كتب حول ذلك الشاعر راشد الزبیر فی قصیدته (( مات الولد)):ـ
هذا الذی عشق الكرامة فاستعز به البلد.
هذا الذی كبرت به الآمال وانتفض الجسد.
وهوى علی ظهر الثرى مثل الشعاع قد اتقد.
من اجل إن یبقى لنا الأقصى وتؤنسنا صفد.
مات الولد
یایها الصقر المسافر كالشهاب وما ابتعـــــد.
افرد جناحی حائم انف السلاسل والوتـــــد.
واعصب جراحك إن من یرجو الشهادة قد حصد.
فاللیل مجبول على غدر وفجرك ماشـــــرد.
إن ماتم عرضه من نصوص أدبیة لا تعدو كونها حبة خردل فی فضاء فسیح من تلك النصوص التی نسجت على هذا المنوال ،و أن كل النبرات الخطابیة تتواءم وتتوافق فی العرض، ولنا إن یقول فی هذا المجال إن كل الأصوات تتشابه عندما تجابه بالقمع والاضطهاد، فما بالك بالقمع والجور والاستشهاد.
إن أدبائنا كتبوا فأبدعوا ،وسردوا فأتقنوا، وقولنا هذا لیس تشدقاً بأمجاد غابرة ، أو كما قالت : ـــــــ إحدى الكاتبات العربیات عندما ترید السخریة من الواقع العربی ..أمجاد یا عرب أمجاد.. لأننا هنا لسنا فی موضع سخریة ،وانما فی موضع تمجید لعطاءات كرّمت عطاءات .
ولا نملك فی ختام دراستنا هذه إلا القول إن العذاب فی أیامنا هذه یجب أن یمس الروح ویجرح الكبریاء ، حتى نستطیع صیاغة النصوص الأدبیة التی تعبر عن عمق الماسأة التی نعیشها بأخیلة شعریة كانت، أو قصصیة أو روائیة ، ولكن ألیس المهم أن نعبر ولا نحتكم للوجوم ولا نتقوقع داخل أنفسنا.؟
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 16:54|
الوصف فی شعر المتنبی
علاءعبدالخالق المندلاوی
كانت شخصیة المتنبی وأوجه شعره المختلفة من أهم عوامل شهرته . قد اتسعت الحركة المتنبئیة اتساعاً عظیماً فشملت العهد العباسی و عهد الانحطاط و عهد النهضة ، وذلك فی الشرق و فی الغرب ،توفر المتنبی على وصف الأخلاق ، وقد انصرف إلى وصف بعض المشاهد الطبیعیة و الحیوانات ، وأكثر من وصف المعارك ، وكان یحرص فی وصفه على التأثیر القوی . وحربیاته حافلة بالقوة تنطلق من كل بیت و لفظة و قافیة ،یقول الناقد أنیس مقدسی . إن المتنبی برغم بعض سقطاته شاعر عظیم. نعم إنه لم ینصرف خاصة إلى الوصف، ولكن شعره عموما وصف بلیغ لعواطفه ولمناقب ممدوحیه وأحوالهم. وهو یمتاز بدقة التعبیر عن الحركات والنزعات،الوصف نوعان حسی وخیالی - تقف إلى نهر فی واد كبیر وترى تدفق المیاه بین تلك الشواهق العظیمة فتأخذك روعة المنظر وتستفز فیك المیل إن كنت شاعرًا إلى وصف ما تراه من جمال وجلال. فإذا أنت تصف أسناد الوادی وما علیها من الأشجار والكروم. وتصف تلك الصخور القائمة وانقضاض الماء من بینها، وقد ترسم ما یتراءى لك فی ذلك الوادی من ألوان تلقیها علیه ظلال المساء أو أشعة الفجر. وربما تعدیت ذلك إلى ما تراه من حیوان هناك - قطعان البقر أو الغنم ترعى فی المروج أو الحقول - ولعلك ترى الفلاح یحرث الحقل، أو تنظر إلى السماء فترى قطع الغمام یسوقها راعی الریح، أو قوافل الضباب تنیخ فوق قمم الهضاب. یؤثر كل ذلك فیك فترسمه بألوان خلابة تستفز فی القارئ عواطف الطرب، وتحبب إلیه رؤیة تلك المشاهد، وهو ما نسمیه الوصف الحسی وهو أن تصور لسواك ما استفز فیك عوامل الاستحسان من المحسوسات على اختلاف أشكالها وألوانها ،أما الوصف الخیالی فنظر فنی إلى ما وراء المحسوسات، فإذا كان الشاعر واسع الخیال لا یقف عندما یقع تحت حسه فقط، بل یتعداه إلى مناطق یفتتحها أمامه الخیال، فیجعل المرئیات أساسا لغیر المرئیات، ویولد من المحسوسات صورا مجردة یرسمها للبشر تأملات وذكریات. یقف مثلا فی قلب الوادی فیسمع فیه نبضات الحیاة ویمر أمامه على صفحات الماء حوادث التاریخ فیذكر الأمم الغابرة والوقائع الماضیة، ویستخلص من ذلك عبر الأیام وعلاقتها بازدهار المدنیات واندثارها وما إلى ذلك مما یستخدم فیه الحس توصلا إلى صور الخیال البعیدة ،وإذا تأملت شعر المتنبی وجدته - كأكثر الشعر العربی - معنیا بالوصف الحسی دون الخیالی. ویتناول المناقب البشریة والمشاهد الطبیعیة والعمرانیة ووقائع الحرب والفروسیة ،المتنبی عبقری نادر ، برع فی رسم الصورة الخاطفة ، الجانبیة ، وتجافى عن التفصیل كما فعل ابن الرومی ، ودارت صوره فی فلك ذاته ، ومطامحه ، وإیثاره وحقده ، وأروع لوحاته تلك التی رسم فیها جریان الدم ، ورنین السیوف ، ولمعان الأسنّة ، وضبح الخیل ، ورهج الغبار ، فی جو من المبالغة یفوق جو الأسطورة الیونانیة فی معظم الأحوال،وهو عادة دقیق جید الدیباجة یثیر العاطفة ویبهجها. ولنر بعض من رسومه الشعریة:  1- المناقب البشریة، ویدخل فیها المدیح والغزل والفخر. أما المدیح (مدح الحی أو رثاء المیت) فمذهبه فی أكثر قصائده ولا یخرج فیه عما ذهب إلیه سواه من وصف مكارم الممدوح وذكر أعماله وصفاته، سداه ولحمته الإطناب والمبالغة، فالممدوح هو المثال الأعلى فی الشجاعة أو الكرم أو علو الهمة والإقدام على العظائم. ویصدق ذلك أیضا على وصفه الغزلی. فإن القطع الغزلیة التی یصوغها مقدمات لقصائده تدور على وصفه لشدة الوجد وأثره فی المحب من سقم وسهاد وعناء وألم. وله فی ذلك ما یعد فنیا من الطبقة الأولى  ، كقوله فی نظرة المحبوب : یا نظرة نفت الرقاد وغادرت                            فی حد قلبی  ما حییت فلولا
كانت من الكحلاء سؤلی إنما
أجلی تمثل فی فؤادی سولا (3)
ومن بدیع فنه أیضا :
بأبی الشموس الجانحات غواربا
اللابسات من الحریر جلاببا
المنهبات    عقولنا   وقلوبنا
وجناتهن   الناهبات   الناهبا
حاولن  تفدیتی وخفن مراقبًا
فوضعن  أیدیهن  فوق ترائبا
وبسمن عن برد خشیت أذیبه
من حر أنفاسی فكنت الذائبا
 وفی فخره وصف دقیق لعواطف نفسه ولتأثیر البیئة فیه، وقلما تجد شاعرًا ترتسم خوالجه فی شعره ارتسامها فی شعر المتنبی. وما دیوانه ولا سیما الفخر والحكم فیه إلا مرآة تعكس لنا نفسیة ذلك الشاعر الكبیر ویبرزها فی أجمل الألوان وأشدها تأثیرا فی النفس. ولا یدانیه فی ذلك إلا أبو تمام، ولكن المتنبی یفوقه فی جمال التعبیر وجلال المطلب ودقة النظر فی الحیاة. المشاهد الطبیعیة والعمرانیة، لیس للمتنبی فی هذا الباب ما لسواه من الوصافین. والغریب أنه اختبر حیاة البادیة والحضر فجاب السهول والجبال وتقلب فی شتى الأمصار، ومع ذلك لا نرى أن مناظر الطبیعة والعمران من أنهار وبحار وجبال وقفار وریاض وقصور وآثار قد أثارت قریحته ودفعته إلى التمتع بوصفها. فها هو مثلا یمر بلبنان ویرى ما فیه من شواهق ووهاد، وما وهبته الطبیعة من جمال یخلب الألباب فلا یذكره إلا عرضا إذ یقول للممدوح بینی  وبین  أبی  على  مثله
شم الجبال  ومثلهن  رجاء
وعقاب لبنان وكیف بقطعها
وهو الشتاء وصیفهن شتاء
لبس الثلوج بها على مسالكی
فكأنها   ببیاضها    سوداء
 والوصف هنا جمیل ولكنه غیر كاف للدلالة على میل خاص فی الشاعر إلى وصف الطبیعة وقد رأى العاصی والأردن وأقام على ضفافهما، وهبط مصروجاور النیل والأهرام، وعرف دجلة والفرات واتحادهما بشط العرب العظیم، ورأى إلى كل ذلك كثیرا من المناظر الخلابة، والمشاهد المثیرة للشعور، ولیس له مع كل ما عرف ورأى وصف یذكر إلا بضعة أبیات فی شعب بوان نظمها فی وصف طریقه إلى شیراز  فقال منها  . غدونا تنفض الأغصان فیها
على  أعرافها  مثل  الجمان
فسرت وقد حجبن الحر عنی
وجئن من الضیاء بما كفانی
وألقى الشرق  منها فی ثیابی
دنانیرا  تفر  من  البنــــــــان
لها   ثمر  تشیر   إلیك   منه
بأشربة    وقفن   بلا    أوان
وأمواه  تصل  بها  حصاها
صلیل الحلی فی أیدی الغوانی
3 - وقائع الحرب والفروسیة وهنا یبلغ شعره الوصفی أعلاه. فالمتنبی فارس، خاض غمرات الحروب وعرف وقائعها، فإذا وصف الكتائب وعراك الأبطال ساق الكلام على سجیته وجاء بالنظم الفائق. وهو یمتاز بتصویر الحركات وما یثیرها من نزعات، فإذا وصف معركة لم یكتف بذكر عظمة الجیوش ومعداتها الحربیة بل نظر نظرًا دقیقًا إلى حركات الفرسان ومضاء خیولهم  ، كقوله :
تبارى نجوم القذف فی كل لیلة
نجوم له منهن ورد وأدهم
یطأن من الأبطال من لا حملنه
ومن قصد المران ما لا یقوم
فهن مع السیدان فی البر عسل
وهم مع النینان فی البحر عوم
وهن مع الغزلان فی الواد كمن
وهن مع العقبان فی النیق حوم ویجری مجرى الوقائع الحربیة أعمال البأس فی الإنسان والحیوان. وفیها أیضا یظهر میل المتنبی إلى وصف الحركة والنزعات الداخلیة، وأهم ماله فی ذلك تصویر الأسد فی قصیدته لابن عمار وقد أصاب ابن الأثیر إذ فضله فی ذلك على البحتری فقال : ” إن معانی أبی الطیب أكثر عددا وأسد مقصدًا” وأساس هذا التفضیل أن المتنبی تفنن فی ذكر الأسد فوصف صورته وهیئته ووصف أحواله فی انفراده وفی هیئة مشیه واختیاله، ووصف خلقه (من بخل وشجاعة) وشبه الممدوح به فی الشجاعة وفضله علیه بالسخاء، ثم أنه عطف على ذكر الأنفة والحمیة التی بعثت
الأسد على قتل نفسه بلقاء الممدوح، وأخرج ذلك فی أحسن مخرج وأبرزه فی أشرف معنى،وإذا تأملت كلام ابن الأثیر فی المتنبی رأیته محمولا على ما ذكرناه لشاعرنا من وصف الحركات والأحوال والنفوذ إلى النزعات النفسیة العمیقة. فانظر كیف ینتقل من وصف هیبة الأسد ولونه وبأسه وعینیه ووحدته فی الغاب إلى وصف حركاته فیقول :
یطأ الثرى مترفقًا من تیهه
فكأنه آس یجس علیلا
ویرد  عفرته  إلى  یافوخه
حتى تكون لرأسه إكلیلا
اما وصف المرأة فی شعر أبی الطیب : أعتقد جازما بأن (المتنبی ) كان شغوفا بالمرأة، متیما فی هواها، یدل على ذلك مفتتح قصائده ومطالعها، التی ینشدها ساعة الاستقرار، فیها الصور الكثیرة فی الغزل بها والتشبیب بصفاتها، غیر أن حیاته التی اختارها ان تكون فی بلاط أبی العشائر، أو سیف الدولة أو كافور، أو غیرهم من الأمراء وعلیة القوم ، تكتم  علیه أن یكتم حبه وأن یلزم حیاة المجد لیصل إلى الهدفیقول الدكتور “سعد شلبی “. فان المتنفس الذی یفصح عن حبه المكتوم هو مطالع بعض قصائده ، ومن نماذج هذا الغزل الذی كان فیه ذ كر المحبوبة لأول مرة . وهی “جمل ” قوله فی قصیدة مدح فیها “شجاع بن محمد الطائی “:
جرى حبها مجرى دمی فی مفاصلی                
فأصبح لی عن كل شغل به شغل
ومن جسدی لحم یترك السقم شعرة
فما  فوقه  الا وفیها  له  فعــــــل
اذا  عذلـــوا  فیهــا  أجبت  بـــأنه
حبیبتا   قلبا   فؤادا   هیا   جمـل
كأن  رقیبا  منك سدى  مسامعی
عن  العذل حتى لیس یدخلها العذل
كأن  سهاد  اللیل  یعشق  مقلتی
فبینهما  فی  كل  هجر  لنا  وصل
أحب  التی  فی البدر منها مشابه
وأشكو  الى  من لا یصاب له شكل
 فهذا المطلع ینبض ببأساء الحب ، وشجن المحب المتهالك الذی أصبح عبرة للمحبین ، فقد أحب حتى ذهب عقله ، وجرى الحب فی عروقه ، فأذهله عن كل شیء ، وأصاب من جسمه كل شیء ، فلا مجال لرجعة عن حبه ، فلا یملك الا الأنین باسمها وصفاتها، وكأن جمالها قد صرفه عن كل عذل ، ذلك الجمال الذی أسهره لیله فلا یكاد ینام . ومطالع (أبی الطیب ) الغزلیة كثیرة ومتعددة. فله فی كل البیئات المكانیة التی قضى بها صفوة حیاته حب ، فالحب لم یفارقه ولم یتعد سنین عمره ، فقصائده التی كتبها فی الشام أو لسیف الدولة أو لكافور، أو التی صاغها وهو فی بغداد أو شیراز أو خراسان كلها تنبض بالحب والإحساس به ، فانظر وصفه للمرأة، فی مطلع قصیدته المدحیة لـ”علی بن منصور” التی یقول فیها :
بأبی الشموس الجانحات غواربا
اللابسات من الحریر جلاببا
المنهبـــات   قلوبنــا   وعقولنــا
وجناتهن  الناهبات  الناهبـــا
الناعمات   القاتلات   الممیتـات
المبدیات  من  الدلال  غرائبــا
حاولن   تفدیتی   وخفن   مراقبا
فوضعن   أیدیهن   فوق  ترائبا
وبسمن  عن  برد  خشیت  أذیبه
من  حر أنفاسی  فكنت  الذائبا (1)
فهذه الأبیات تمتلىء بمعانی الحب ومعرفة الغوانی وطبائعهن ، وما یحدثن من تأثیر. وظاهر تصویر المتنبی للمرأة :سوف أركز هنا على المظاهر الحسیة، والمظاهر الرمزیة لتصویر “المتنبی ” للمرأة مستلهما مطالع القصائد التی جاءت حاملة هذا الاطار .أولا : المظاهر الحسیة :حدد “المتنبی ” المظاهر الحسیة لصورة المرأة التی رسمها فی خیاله ، فطفق تغزلا بها واصفا وجهها ولونها، وشعرها، وقوامها، وعیونها، وغیر ذلك من الصفات . فهی فی لونها بیضاء مشرقة كأنها الدرر فی لمعانه : “لها بشر الدر الذی قلدت به أما وجهها فوصفه بأنه منیر، ساطع ، محیا، یزیل الظلمة فیعید النهار وسط دیاجیر الظلمة ، یقول المتنبی : ولدار بدر قبلها قلد الشهباء                           ووجه یعید الصبح واللیل مظلم
كما أنها كالشمس فی سطوعها، وجمال محیاها، وهی تنثر أشعتها، وضاءة، مشرقة :
كأنها الشمس یعیی كف قاصبة
شعاعها ویراه الطرف مقتربا
وشعرها طویل ، فاحم السواد، وهو جعد، فیه رائحة العنبر ممزوجة بماء الورد یصفه بقوله :
حالك كالغداف ، جثل فحوجی
أثیب جعد بلا تجعید
ذات فرع كأنما ضرب العنبر
فیه بماء ورد وعود
أما عینیها فقد أخذت النصیب الوافر من وصفه ، فقدم فیها أروع فنه الوصفی لأنها المعبرة عن خلجات نفسه الحبیبة، التی تزكیها صفات الجمال الحكلمی ، فاحتلت لذلك مساحة واسعة من غزله . ففی رأیه هناك ثلاثة أنواع من العیون ، أولها ، عیون قاتلة” تمثلها المتنبی فی وجه البدویات الحسان التی تنعم بالبساطة، ولا تعرف المكر والخداع ولكنها ترمی قلوب المحبین دون قصد ولا إدارة بلحاظها القاتلة :
الرامیات لنا ومن توافر
والخاتلات لنا وهن غوافل
 واذ ا جئنا للأوصاف الأخرى الحسیة نجدها تتمثل فی وصف قوام حبیبته فكما یصورها، فهی طویلة” رشیقة، ضامرة البطن ، دقیقة الخصر، ثقیلة الأرداف ، یتمثلها البیت التالی من قوله : وقابلنی رمانتا غصن بانه                        یمیل به بدر ویمسكه حقف اما الظواهر الفنیة فی وصف المتنبی للمرأة : لعل أهم ما سنركز علیه من ظواهر فنیة فی وصف المتنبی  للمرأة، هو عنصر اللغة، وما نجم عنها من استخدامات كثیرة تفرد بها وأصبحت تشكل ظواهر فنیة، فی شعره خاصة، ومن هذه الظواهر استخدام المحسنات البدیعیة  أو ظاهرة ا لأضداد . ولقد شاعت تلك الظاهرة فنیا فی العصر العباسی كما وصفه “شوقی ضیف ” فی كتابه “الفن ومذاهبه  إلا إن  المتنبی ” ألح علیه إلحاحا كبیرا، وأصبحت نتیجة ذلك ملفتة للنظر، فهو یعقبها، ویرصدها، ویحاول أن یمزجها فی مجموعة من الألوان التی یؤثرها فی وصفه . فهو عندما یعثر على البیاض فی إشراق وجه الحبیبة، والسواد فی شعرها الفاحم ، یفیض علیهما من حسه ما یجعلهما أكثر تعقیدا، وأعظم إثارة للنفس.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 16:53|